و الشاهد السادس هو أن الذين زوّروا الكتاب على الخليفة و كاتبه كانوا يخدمون مصالحهم أولا وأخيرا ، لكن ليس لعثمان و مروان مصلحة في كتابة الصحيفة و إرسالها إلى والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، لأن فعلهما هذا يجدد الفتنة و لا يقضي عليها . و بناء على ذلك فإن التزوير الذي حدث لا يخدم إلا مصالح رؤوس الفتنة الذين أخفقوا في تحقيق غايتهم بعدما عاد أتباعهم إلى بلدانهم ، مما دفعهم إلى ضرورة التحرك و التخطيط و السعي لإعادتهم إلى المدينة و إشعال الفتنة من جديد .
و الشاهد السابع هو أن الروايات التي تناولت قضية الكتاب المزوّر على عثمان- رضي الله عنه- قد تعرضت –ككثير من الروايات- للتلاعبات و التحريفات ،و احتوت على أباطيل و معلومات خاطئة ، بفعل الجهل و الكذب المتعمد ، الأمر الذي يحتم علينا نقدها و تمحيصها قبل الأخذ بها .
فمن ذلك أنني في بحثي هذا لم أعثر على أية رواية تناولت قضية الكتاب المزوّر على عثمان و لها إسناد صحصح . و في بعضها أخطاء مكشوفة ، كالتي ذكرت أن الوفود لما قدمت على عثمان بعث إليها عمرو بن العاص-رضي الله عنه- ، فذهب إليهم و تواطأ معهم على عثمان ، فلما سمع به و وّبخه ، طلّق عمرو زوجته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ،و هي أخت عثمان لأمه ،و التحق بفلسطين[1] . و هذا خبر مكذوب مفضوح ، لأن عمرو بن العاص تزوّج أم كلثوم بعدما توفى عنها زوجها عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه- الذي توفي سنة 32هجرية ، فمكثت عنده- أي عند عمرو- شهرا ثم ماتت[2] .
و منها أيضا أن نفس الرواية السابقة ذكرت أن الوفود التي جاءت إلى الخليفة عثمان (سنة 35ه) تشتكي إليه ولاّته ، ذكرت منهم أمير الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، من أنه يشرب الخمر و يخرج إلى الناس مخمورا [3] . و الخطأ هنا هو ذكر الوليد بن عقبة في هذه الحادثة و في هذه السنة بالذات-أي 35هجرية- ، لأن هذا الرجل كان عثمان بن عفان –رضي الله عنه- قد عزله عن إمارة الكوفة سنة 30ه و عوّضه بسعيد بن العاص[4].
و منها أيضا أن رواية زعمت أن المصريين لما رجعوا بالكتاب إلى الخليفة عثمان كان معهم محمد بن أبي حذيفة و هو من بين الذين شاركوا في قتل عثمان[5] . و هذا كذب مفضوح و خطأ بيّن ، إذ من الثابت تاريخيا أن محمدا هذا بقي بمصر لما خرج وفدها إلى المدينة ، و تمكّن من التغلب عليها-أي مصر- لما غادرها أميرها عبد الله بن سعد بن أبي سرح[6] .
و أشير هنا إلى أنه إذا كان كثيرا من العلماء قد صدّقوا البغاة في اتهامهم لمروان بتزوير الكتاب ، فإن بعضهم لم يُسلّم بذلك و اتهم هؤلاء البغاة بالتزوير . فالمؤرخ عبد الرحمن بن خلدون قال عنهم : إنهم رجعوا إلى المدينة و (( قد لبسوا بكتاب مدلس يزعمون أنهم لقوه في يد حامله إلى عامل مصر ))[7] .و برّأ الباحث محب الدين الخطيب مروان من تهمة التزوير و حمّل دعاة الفتنة ، كالأشتر النخعي و حكيم بن جبلة ، مسؤولية تزوير الكتاب[8] .
و عدّ الباحث محمد الصادق عرجون قصة الكتاب بتفاصيلها أسطورة للتسلية افتراها السبئيون ، و هي لا تخرج عن فرضين ، الأول أنها حكاية مختلقة من أساسها افتعلها الثوار بالمدينة ثم تصايحوا بها .و الثاني أن الكتاب الذي وُجد مع الغلام هو من فعل الثائرين الذين زوّروا و سرقوا جملا من إبل الصدقة ،و أغروا غلاما لعثمان أو لمروان ،و أرسلوه ليقطع طريق وفد مصر[9].
و ختاما لما ذكرناه في هذا المبحث، يتبين لنا أن الشواهد و المعطيات السبعة التي أوردناها سردا ،و تحليلا ،و مناقشة ، قد كشفت بالأدلة المتنوعة القوية ، أن الكتاب لم يكتبه الخليفة عثمان ،و لم يزوّره كاتبه مروان ، و إنما هو من فعل رؤوس الفتنة الأشرار الثائرين على الخليفة الشهيد عثمان بن عفان .
[1] ابن عساكر : تاريخ دمشق ، ج39 ص: 423 .
[2] ابن عبد البر : المصدر السابق ، ج4 ص: 1954 . المزي : المصدر السابق /، ج35 ص: 382 .و ابن حجر : تهذيب التهذيب ، ط1 بيروت ، دار الفكر ، 1984 ، ج2 ص: 627 .و ابن سعد : المصدر السابق ، ج8 ص: 230 .و ابن الجوزي : صفة الصفوة ، ج23 ص : 55 .
[3] ابن عساكر : المصدر السابق ج 39 ص: 423 .
[4] الطبري : المصدر السابق ، ج2 ص: 608 .
[5] اليعقوبي : المصدر السابق ، ج2 ص: 175-176 .
[6] ابن كثير : المصدر السابق ، ج7 ص: 351 .و الذهبي : سير أعلام النبلاء ، ج3 ص: 33 .و الخلفاء الراشدون ، ص: 318 .و الطبري : المصدر السابق ، ج2 ص: 657-658 .
[7] ابن خلدون : المصدر السابق ، ص : 216 .
[8] ابن العربي : المصدر السابق ، ص: 96 .
[9] محمد الصادق عرجون : عثمان بن عفان ، ط2 الرياض ، الدار السعودية ، 1988 ، ص: 122 ، 125 ، 126 .