عرض مشاركة واحدة
  #58  
قديم 04-19-2016, 07:15 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,207
ورقة الأشاعرة والصوفية.. ارتباط قديم غريب!

الأشاعرة والصوفية.. ارتباط قديم غريب!*
ـــــــــــــــــــــ

12 / 7 / 1437 هــ
19 / 4 / 2016 م
ــــــــــ







من أعجب العلاقات والتلازمات الفكرية على مستوى الفكر الإسلامي أن نجد ارتباطا غريبا بين غالبية أصحاب المذهب الأشعري الذي يعارض النقلَ بالعقلِ بل ويعطي العقلَ مكانةً أكبرَ أمامَ النصِّ أن نجدهم مرتبطين بالأفكار الصوفية التي تحقِّرُ العقلَ والنقل معا وتغيّبهما أمام الخرافاتِ والأوهامِ والمناماتِ, فلا تدري بأي عقل ومنطق يمكن لرجل واحد أن يجمع بين الفكرتين معا؟! ويدافع عنهما دفاع المستميت؟! وكيف أصبح المنهجان المتعارضان يبدوان وكأنهما مذهبا واحدا؟! فيقال عن أحدهم أنه اشعري العقيدة صوفي السلوك, فصار هذا الاندماج قويا جداً، وملفتا للنظر!
كيف يمكن الجمع بين من يجيب على سؤال: أين الله؟ فيقول الصوفي: في كل مكان، وفي كل شيء! بينما سيستنكر الأشعري السؤال أصلا، كما قال بذلك أبو إسحاق الشيرازي صاحب الإشارة إلى مذهب أهل الحق!
ولم يكن التصوف مرحلة انحراف يمر بها أبناء المذهب الأشعري، بل إن التلازم بينهما ظهر منذ عهد بعيد منذ بدايات ظهور المذهب الأشعري في العقيدة الإسلامية، أي منذ أبي الحسن الأشعري -رحمه الله؛ في الفترة التي كان يقول بآرائه التي عاد عنها في المرحلة التي لا يعترف بها الأشاعرة والصوفية معا.
وجمع الفقيه الصوفي عبدالواحد بن عاشر[1]، في مقدمة أرجوزته الشهيرة بين عقيدة الأشاعرة وفقه المالكية وصوفية الجنيد, فقال:
وبعد.. فالعــــــون من الله المجيـد في نظم أبيات للأمي تفيـد
في عَقْدِ الأشعري وفقه مالك وفي طَـــريقَةِ الجُنَيدِ السَّالِـكِ[2].
فلم يكن هذا الدمج والارتباط وهما أو افتراء, بل نشأ عليه الكثيرون من صوفية المشرق والمغرب بأشعرية العقيدة. فيقول الدكتور عبدالرحمن المحمود -في معرض كلامه عن الغزالي، تحت عنوان (تصوف الغزالي وفلسفته): "بقدر اشتهار الغزالي بأشعريته، اشتهر بتصوفه، ولذلك فهو يمثل مرحلة خطيرة من مراحل امتزاج التصوف بالمذهب الأشعري، حتى كاد أن يكون جزءاً منه"[3]. ويقول فضيلته عن علم آخر من أعلام الصوفية، وأسلاف الأشاعرة، وهو الحارث المحاسبي، فيقول -تحت عنوان (التصوف عند المحاسبي): "أما الجانب الأول فقد كان المحاسبي أحد رواده الكبار، الذين كونوا مدرسة كبرى ربطت بين الكلام والتصوف فيما بعد, وهذا من أبرز ما طرأ على المذهب الأشعري من تطور"[4].
وهذا يؤكد مدى التناقض عند الأشاعرة المتصوفة، حيث يجمعون بين علم الكلام الفلسفي والتصوف, فهم يعولون على العقل في كثير من مباحث أصول الدين، حتى أنهم يقدمونه على النصوص، ثم في الوقت نفسه يعولون على الكشوفات والمشاهدات الصوفية عندهم أو عند أشياخهم.
وبداية هذا الارتباط بين الأشاعرة والصوفية تظهر عند شيخ المذهب أبي الحسن الأشعري في المرحلة التي سبقت توبته ورجوعه إلى مذهب السلف؛ وهي المرحلة التي لا يعترف الأشاعرة بسواها، ولا يقتدون به في غيرها؛ فكان فيها أبو الحسن مريدًا من مريدي الصوفية متتلمذًا على الجنيد.
ويؤكد ذلك ما جاء في نونية ابن السبكي صاحب (الطبقات)، وهو أشعري فبدأها:
وأتى أبو الحسن الإمام الأشعري مبينًا للحق أي بيان
ومناضلًا عمَّا عليه أولئك الأ..... سلاف بالتحرير والإتقان
يقفو طرائقهم ويتبع حارثًا أعني محاسب نفسه بوزان[5]
فلقد تلقى حسن منهجه عن الأ.... شياخ أهل الدين والعرفان
فلذاك تلقاه لأهل الله ينـصر قولهم بمهندٍ وسنان
وبعد أن ذكر عددا كبيرا من رموز الصوفية ثم قال:
وكذاك أصحاب الطريقة بعده ضبطوا عقائده بكل عنان
وتتلمذ الشبلي بين يديه وابـن خفيف والثقفي والكتاني
وخلائق كثروا فلا أحصيهم وربوا على الياقوت والمرجان
الكل معتقدون أن إلهنا متوحد فرد قديم داني
حيٌ عليمٌ قادرٌ متكلمٌ عالٍ ولا نعني علو مكان!
ثم استمر السبكي في ذكر ما يدين به الأشاعرة من عقيدة، ليؤكد أنها كانت عقيدة هؤلاء جميعا، وأن الصلة بين التصوف والأشاعرة[6].
المرحلة الثانية من الارتباط كانت على عهد التلميذ الأكبر لأبي الحسن الأشعري، وهو أبو الحسن الباهلي، الذي قام هو وأبو عبدالله بن مجاهد بالجهد الأكبر في نشر المذهب الأشعري. فكان للباهلي أحوال صوفية عجيبة وغريبة، لا تستقيم مع أشعريته التي يقدم فيها العقل. فذكر ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري على الإمام الأشعري)، وذكره ابن السبكي كذلك عن أحوال الباهلي، أنه كان يتحجب عن الرجال، وحتى عن نساء بيته، وتظهر عليه خبالات الصوفية!
يقول عنه تلميذه القاضي أبو بكر الباقلاني: "كنت أنا وأبو إسحاق الإسفرائيني وابن فورك معًا في درس الشيخ الباهلي، وكان يدرس لنا في كل جمعة مرةً واحدةً، وكان منا في حجاب يرخي الستر بيننا وبينه، كي لا نراه، وكان من شدة اشتغاله بالله مثل والهٍ أو مجنون! لم يكن يعرف مبلغ درسنا حتى نذكره ذلك". وقال أبو الفضل محمد بن علي الصعلكي: "كان الباهلي يُسأل عن سبب النقاب، إرساله الحجاب بينه وبين هؤلاء الثلاثة، كاحتجابه عن الكل، فإنه كان يحتجب عن كل واحد؟ فأجاب: إنهم يرون السوقة وهم أهل الغفلة، فيروني بالعين التي يرون أولئك بها"!, قال: "وكانت له أيضًا جارية تخدمه، فكان حالها أيضًا معه كحال غيرها من الحجاب، إرخاء الستر بينه وبينها"[7].
فهذا هو شيخ الأشاعرة الثاني الذي نشر المذهب وفلسفته, فهذا كان حاله مع الناس من وضع النقاب على وجهه، وكيف تبريره له رغم أنه يعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم، وأصحابه –رضوان الله عليهم، كانوا يرون الكفار ويتعاملون معهم بيعا وشراء وجوارا ودعوة إلى الإسلام, بل كانوا يرون الأصنام بأعينهم؟!
أسس المرحلة الثالثة أبو علي الدقاق, الذي أخذ الأشعرية عن الباهلي، وابن مجاهد، وتتلمذ في صوفيته على يد الصوفي المشهور أبو القاسم القشيري، صاحب المصنفات الصوفية المشهورة؛ وتتلمذ أيضا على يد أبي عبدالرحمن السلمي الذي نقض شيخ الإسلام كتابه (الرسالة) بكتاب (الاستقامة).
وقد دافع الصوفية عن الأشاعرة حينما تعرض الأشاعرة للعن من فوق المنابر أيام حكم السلاجقة، مثلهم مثل سائر المبتدعة[8]. فكتب القشيري الصوفي رسالة (شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة). وهي رسالة لها قدرها عند الأشاعرة الغابرين والمعاصرين[9]؛ وأصبح أبو نصر ابن الصوفي القشيري زعيما للأشاعرة في عصره، وهو صاحب الفتنة التاريخية المشهورة بفتنة ابن القشيري، بين الأشاعرة وأهل السنة[10].
أما المرحلة الأهم في ارتباط الصوفية بالأشاعرة فكانت على يد أبي حامد الغزالي
فقد أوجد أبو حامد الغزالي -الذي لا يشك في انتمائه الأشعريٌّ والصوفيٌّ- اتجاها جديدا خلط فيه الصوفية بعلم الكلام؛ فجاء خليطا من التجهم والباطنية والتصوف والكلام، وامتلأ كتابه (الإحياء) بكلمات من سبقه من الصوفية؛ مثل المحاسبي، وأبي طالب المكي، والسلمي، والقشيري، وغيرهم؛ وامتلاء تفسير الرازي بشطحات صوفية (الإحياء) مع غلو في الكلام والعقليات, وكما قال الكوثري: إنه "على يد الغزالي انتشر المذهب الأشعري انتشارًا كبيرًا"[11].
وفي (الإحياء) كتب أبو حامد "قواعد العقائد" على المنهج الأشعري، ووقف عند قضية ما يؤوّل وما لا يؤوّل، وحقيقة ظواهر النصوص وبواطنها، والمعيار الفاصل في هذه الأمور الشائكة.
فلا عجب حينئذ أن يختلط الماء بالزيت، وأن يتمازجا كما امتزج المنهج الأشعري بالصوفي, رغم اختلافهما تماما في أسسهما الفكرية؛ ولكن عند كل المخالفين والمبتدعين لا ضير أن تجتمع النقائض والمتضادات، وأن يلتقوا في مكان بعيد عن المنهج الصحيح!
----------------------------------
[1] الفقيه الصوفي عبدالواحد بن عاشر صاحب الأرجوزة في الفقه والعقائد، والتصرف "المرشد المعين"، انتشرت أرجوزته في الشرق والغرب في العالم الإسلامي، وأقبل عليها الناس حفظا وشرحا ودراسة.
[2] مقدمة متن: المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، لعبدالـواحد بن عاشـر.
[3] كتاب: موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبدالرحمن المحمود: ج2/635.
[4] المصدر نفسه: ج1/456.
[5] ويقصد به الحارث المحاسبي الذي أمر الإمام أحمد بهجره فمات مهجورًا.
[6] طبقات الشافعية: ج3/380- 381.
[7] طبقات الشافعية: ج3/369، وابن عساكر: ص187.
[8] انظر حول هذه القضية: تبيين كذب المفتري: ص332، والتسعينية: ص278، وطبقات الشافعية: ج3/389.
[9] ذكرها صاحب (الطبقات) كاملة: ج3/399، وكذا جامع الرسائل القشيرية.
[10] انظر: المنتظم، لابن الجوزي: 8/305؛ و9/3، 220؛ وتبيين كذب المفتري: ص310.
[11] مقدمة الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، للكوثري : ص11.









ـــــــــــــــــــــــ
*{مركز التأصيل للدراسات والبحوث}
ــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59