عرض مشاركة واحدة
  #47  
قديم 03-12-2015, 08:42 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,184
ورقة خوارق العادة بين أهل السنة والماتريدية

خوارق العادة بين أهل السنة والماتريدية*
ــــــــــــــــــــ

21 / 5 / 1436 هــ
12 / 3 / 2015 م
ـــــــــــ



تكمن أهمية موضوع خوارق العادة بكونها مسألة عقدية، ولا بد فيها من بيان الفرق بين ما يقع على يد الأنبياء أو الأولياء أو *****ة والكهان، حيث يؤمن أهل السنة والجماعة بخرق الله تعالى لما اعتاده الناس من السنن الكونية، فإن وقعت على يد نبي سميت عند أهل السنة برهانا وبينة كما ورد في القرآن والسنة، ويسميها البعض "معجزة" وإن لم يرد هذا اللفظ في القرآن أو السنة.

وأما إذا وقعت خوارق العادة على يد ولي من أولياء الله فتسمى عند أهل السنة والجماعة آية أو برهانا أيضا، لأنها تحصل لهم بسبب اتباعهم الأنبياء، وتحصل لحكمة أو مصلحة تعود إلى الولي أو إلى غيره، ويسميها البعض "كرامة" ولا مشاحة في المصطلحات ما لم يترتب عليه محاذير.

وأما ما يقع على يد ساحر أو كاهن من خوارق العادة فيطلق عليه أهل السنة خوارق شيطانية.

وفي هذا التقرير سأحاول تسليط الضوء على أبرز النقاط التي خالف فيها جمهور الماتريدية مذهب أهل السنة والجماعة في موضوع خوارق العادة، كحصرهم طرق إثبات النبوة في المعجزة، إضافة لبعض الملاحظات على تعريفهم للمعجزة، ناهيك عن جعلهم خوارق العادة من جنس واحد، فكل ماجاز أن يكون لنبي جاز أن يكون لولي، لا فارق بينهما إلا التحدي، بينما يفرق أهل السنة بين براهين الأنبياء والأولياء سواء في الجنس أو المقدار.

طرق إثبات النبوة عند الماتريدية
-------------------

ذهب أبو منصور الماتريدي إمام المذهب إلى أن النبوة تثبت بطريقين هما:

الأول: النظر في صفات الأنبياء الخَلقية والخُلقية قبل الرسالة وبعدها، الثاني: تأييد الله تعالى لهم بالمعجزات والآيات والبراهين الدالة على صدقهم، وهو ما يتوافق مع مذهب أهل السنة والجماعة.

يقول أبو منصور الماتريدي: "ثم الأصل عندنا في إعلام الرسل وجهان: أحدهما: ظهور أحوالهم على جهة يدفع العقول عنهم الريبة، وتأبى فيهم توهم الظنة، بما صحبوهم في الصغر والكبر، فوجدوهم طاهرين أصفياء أتقياء، بين أظهر قوم ما احتمل التسوية بينهم على ذلك، ولا تربيتهم تبلغ ذلك، على ظهور أحوالهم لهم، وكونهم بينهم في القرار والانتشار، فيعلم بإحاطة أن ذلك حفظ من يعلم أنه يقيمهم مقاماً شريفاً، ويجعلهم أمناء على الغيوب والأسرار، وهذا مما يميل إلى قبوله الطبيعة ويستحسن جميع أمورهم العقل، فيكون الراد عليه يرد بعد المعرفة رد تعنت له، إما لإلف وعادة على خلاف ذلك، أو لشرف ونباهة في العاجل، أو لمطامع ومنال، وإلا فما من قلب إلا ويميل إلى من دون هذا رتبته ومحله، ولا قوة إلا بالله.

والثاني: مجيء الآيات الخارجة عن طبائع أهل البصر في ذلك النوع، الممتنعة عن أن يطمع في مثلها، أو يبلغ بكنهها التعلم، مع ما لو احتمل أن يبلغ أحد ذلك بالتعلم والإجتهاد، فإن الرسل بما نشأوا لا في ذلك، وربوا لا به، يظهر أنهم استفادوه بالله، أكرمهم بذلك، لما يجعلهم أمناء على وحيه. (1)

أما جمهور الماتريدية فاكتفوا بالطريق الثاني، وعدوه هو الدليل الوحيد على صدق النبي، بحجة أن المعجزة وحدها هي التي تفيد العلم اليقيني بثبوت نبوة النبي، وهو مذهب مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة.

قال أبو اليسر البزدوي: لا يتصور ثبوت الرسالة بلا دليل، فيكون الثبوت بالدلائل، وليست تلك الدلائل إلا المعجزات، فثبتت رسالة كل رسول بمعجزات ظهرت على يديه، فكانت معجزات موسى عليه السلام العصا، واليد البيضاء وغيرهما من المعجزات، ومعجزات عيسى عليه السلام إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، ومعجزات محمد عليه السلام القرآن، فإن العرب بأجمعهم مع فصاحتهم عجزوا عن الإتيان بمثله. (2)

وقال أبو المعين النسفي: إذا جاء واحد وادعى الرسالة في زمان جواز ورود الرسل... لا يجب قبول قوله بدون إقامة الدليل... لما أن تعين هذا المدعي للرسالة ليس في حيز الواجبات، لانعدام دلالة العقل على تعينه، فبقي في حيز الممكنات، وربما يكون كاذباً في دعواه، فكان القول بوجوب قبول قوله، قولاً بوجوب قبول قول من يكون قبول قوله كفراً، وهذا خُلْف من القول، وإذا لم يجب قبول قوله بدون الدليل، يطالب بالدليل وهو المعجزة. (3)

ومما سبق يتبين أن جمهور الماتريدية جعلوا المعجزة هي الطريق الوحيد لمعرفة الرسل، وإثبات النبوة، مخالفين بذلك إمامهم "أبو منصور الماتريدي" وأهل السنة والجماعة، وحجتهم في ذلك أمور منها:

1- أن أقوام الرسل طلبوا من رسلهم دلائل صدقهم، فدعى الأنبياء ربهم أن يعطيهم من الأدلة ما صدقهم به أقوامهم، فكانت المعجزات، فصارت هي دليل صدقهم من الله، والله لا يؤيد الكاذب.

2- أن المعجزة كما يقولون هي التي يميز بها بين الكاذب مدعي الرسالة، وبين الصادق.

قال التفتازاني:" لولا التأييد بالمعجزة، لما وجب قبول قوله، ولما بان الصادق في دعوى الرسالة عن الكاذب". (4)

3- أن المعجزة هي الموجبة لعلم اليقين، وتجعل العقل يزداد تأملاً.

4- أن النبوة موهبة ورحمة من الله، والدليل على صدق هذه الموهبة هي المعجزة.

وقد ناقش أهل السنة والجماعة هذا الرأي وردوه بما يلي:

1- معلوم أن مدعي الرسالة، إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم، وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم، بأنقص الخلق وأرذلهم.

2- صدق النبي يعرف بما يقترن به من القرائن، ولا يختص بالمعجزة، ولهذا استدلت خديجة رضي الله عنها، على صدق النبي صلى الله عليه وسلم بمكارم أخلاقه، ومحاسن شيمه.

وكذلك قصة هرقل، وسؤاله عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله، وقد كاد أن يعلن إيمانه لولا صدود قومه له.

3- صدق النبي لا يتوقف على المعجزة، فكم من نبي لم يظهر على يديه معجزة، مثل لوط ونوح عليهما السلام وغيرهما، وإنما حصلت المعجزة بإهلاك قومهما من غير أن يمهلوا حتى يروا ليصدقوا، بل كان هلاكهم بها.

المعجزة عند الماتريدية

التعريف: المعجزة عند الماتريدية هي: أمر خارق للعادة، يظهر على يد النبي في دار التكليف، مقرونا بالتحدي، مع عدم المعارضة بالمثل.

قال التفتازاني: (وأيدهم) أي الأنبياء، (بالمعجزات الناقضات للعادات) جمع معجزة، وهي أمر يظهر بخلاف العادة، على يدي مدعي النبوة، عند تحدي المنكرين، على وجه يعجز المنكرين عن الإتيان بمثله، وذلك لأنه لولا التأييد بالمعجزة، لما وجب قبول قوله، ولما بان الصادق في دعوى الرسالة عن الكاذب، وعند ظهور المعجزة يحصل الجزم بصدقه بطريق جرى العادة. (5)

واشترط الماتريدية للمعجزة من خلال التعريف سبعة شروط هي: أن يكون الأمر الخارق فعل الله تعالى وأن يكون خارقاً للعادة، إضافة لتعذر معارضته و مقرونا بالتحدي وموافقا للدعوى، وأن لا يكون من ادعاه وأظهره مكذباً له، وأن لا تكون المعجزة متقدمة على الدعوى بل مقارنة لها، أو متأخرة عنها، بزمن يسير يعتاد مثلها. (6)

ومما سبق من تعريف وشروط للمعجزة، يتبين أنها عند جمهور الماتريدية ليست عندهم نفس الإعجاز، بل صفة المعجزة أمر خارج عنها، فهو إضافي، وليس أمرا في ذاتها، فالمعجزة ليست إلا أن الله صرف الناس عنها، وتحداهم بها النبي ولم يعارضوها، وهذا هو الإعجاز عندهم، بدليل أنهم قالوا: كل ماجاز أن يكون لنبي جاز أن يكون لولي.

مناقشة أهل السنة لرأي الماتريدية
--------------------

أبدى أهل السنة والجماعة بعض الملاحظات على تعريف الماتريدية للمعجزة، واعتبروه مضطربا وغير منضبط لعدة أوجه منها:

1- أن ماذكر من أوصاف علق بها الحكم، كخرق العادة، ولفظ المعجزة، لم يرد في القرآن ولا السنة، بل الوارد هو تسميتها بالآيات والبراهين والبينات، وهي مختصة بالأنبياء ولا تحتاج لمزيد أوصاف.

2- منشأ الخطأ عند الماتريدية، اعتقادهم أن دلائل الأنبياء، وكرامات الأولياء، وخوارق *****ة والكهان، كلها من جنس واحد، ولهذا أنكرت المعتزلة كرامات الأولياء، وخوارق *****ة والكهان، حتى لا تلتبس بدلائل الأنبياء، بينما بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن جنس الأنبياء متميزون عن غيرهم بالآيات، والدلائل الدالة على صدقهم، التي يعلم العقلاء أنها لم توجد لغيرهم، فيعلمون أنها ليست لغيرهم لا عادةً ولا خرق عادة.

3- أن ما يظهر من خوارق العادة على يد الأنبياء، ليس من شرطه التحدي، أو عدم الإتيان بمثله، بل آيات الأنبياء دليل نبوتهم، وقد تخلوا من شرط التحدي، وعدم المعارضة، فتكثير الطعام والشراب مرات، ونبع الماء بين يدي أصابع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، كل هذا من دلائل النبوة، ولم يكن يظهرها النبي للاستدلال بها، ولا يتحدى بمثلها، بل لحاجة المسلمين إليها.

4- اشتراط أن تكون المعجزة مقارنة لدعوى النبوة، أو متأخرة عنها بزمن يسير، يخالف ما كان عليه الأنبياء، فإبراهيم عليه السلام ألقي في النار، وكان ذلك بعد نبوته، ودعوته لقومه بزمن طويل.

5- يلزم من قولهم بالمقارنة، أن ما ظهر على يد النبي محمد صلى الله عله وسلم في كل وقت من الأوقات، ليس دليلاً على نبوته؛ لأنه لم يكن كلما ظهر شيء من ذلك احتج به، وتحدى الناس بالإتيان بمثله، بل لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم التحدي إلا في القرآن خاصة بعد أن قال المشركون أنه "افتراه"، ولم ينقل التحدي عن غيره من الأنبياء، كموسى وعيسى وصالح عليهم السلام.

6- تقييد المعجزة بحياة النبي وزمن التكليف ليس بصحيح، فقد تكون المعجزة قبل ولادة النبي، وقد تكون بعد وفاته كأشراط الساعة التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم. (7)

كرمات الأولياء عند الماتريدية

أثبت الماتريدية كرامات الأولياء وأنها حق خلافاً للمعتزلة، مستدلين على ثبوتها بالكتاب والسنة، وقد عرفوا الكرامة بأنها: ظهور أمر خارق للعادة من قبله، غير مقارن لدعوى النبوة كما قال أبو المعين النسفي، والولي عندهم هو: العارف بالله تعالى، وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات، المجتنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات.

فمن لم يكن بهذه الصفات، وظهر على يده خوارق للعادة، فوافق مراده وغرضه، فإنه يكون استدراجا، وإن ظهر الخارق من قبل عوام المسلمين، تخليصاً لهم عن المحن والمكاره، فهذا يكون معونة. (8)

وقد حاول الماتريدية التفريق بين المعجزة والكرامة، خاصة أنها تندرج تحت مسمى خوارق العادة، ومن أهم الفروقات التي ذكروها:

1- أن المعجزة مقترنة بدعوى النبوة والتحدي، وأما الكرامة فخالية من الدعوى، ولو ادعى النبوة لسقط من رتبة الولاية، وصار فاسقا أو كافرا من ساعته، وهذا هو الفرق الرئيس بين المعجزة والكرامة عند الماتريدية، ولذا قال ملا علي قاري: كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي، جاز أن يكون كرامة لولي لا فارق بينهما إلا التحدي. (9)

2- أن المعجزة لابد فيها من علم النبي بكونه نبيا، وأما الولي فلايلزم علمه بكونه وليا.

3- أن المعجزة يقصد النبي إظهارها، والتحدي بها، والحكم قطعا بموجبها، وأما الولي فيجتهد في كتمانها، ويخشى أن تكون استدراجاً، ويخاف من الاغترار بها إذا اشتهرت.

4- أن الكرامة تكون مقارنة للعمل الصالح، والاعتقاد الصحيح، وتبعث على الجد والاجتهاد في العبادة، والاحتراز عن السيئات. (10)

وقد أبدى أهل السنة والجماعة خطأ الماتريدية في بعض الأمور التي حاولوا أن يفرقوا بها بين المعجزة و الكرامة، ومن ذلك:

1- أنهم جعلوا ما كان من معجزات للأنبياء كرامات للأولياء، ولا فرق بينهما إلا دعوى النبوة والتحدي بالمثل، ومما لاشك فيه أن معجزات الأنبياء التي دلت على نبوتهم، هي أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم. (11)

فانشقاق القمر، والإتيان بالقرآن، وانقلاب العصا حية، وخروج الدابة من الصخرة، لم يكن مثله للأولياء، فالآيات الكبرى مختصة بالأنبياء والرسل، وأما الآيات الصغرى فقد تكون للصالحين؛ مثل تكثير الطعام، فقد وجد لغير واحد من الصالحين، لكن لم يوجد كما وجد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه أطعم الجيش من شيء يسير.

فالأنبياء مختصون إما بجنس الآيات، فلا يكون لمثلهم كالإتيان بالقرآن، وانشقاق القمر، وإما بقدرها وكيفيتها، كنار الخليل عليه السلام، فإن أبا مسلم الخولاني وغيره صارت لهم النار بردا وسلاما، لكن لم تكن مثل نار إبراهيم عليه السلام في عظمها كما وصفوها.

2- قولهم أن المعجزة يظهرها النبي والكرامة يخفيها الولي، ليس على إطلاقه، فالكرامة تكون لنصرة الدين وإقامة السنة، ولذلك كان الولي يتحدى بكرامته في بعض الأحيان ولا يكتمها، مثل قصة خالد بن الوليد في شربه للسم أمام الأعداء ولم يضره.

3- تفريقهم بالاقتران بالتحدي ليس على إطلاقه أيضا، فإن بعض المعجزات كما سبق لم تكن مقرونة به، وبعض الكرامات التي وقعت للصحابة ومن بعدهم، كانت للتحدي كشرب خالد بن الوليد للسم كما مضى. (12)

إن الالتزام بالألفاظ المحدثة التي لم ترد في القرآن والسنة، كلفظ الخارق للعادة، ولفظ المعجزة والكرامة، وإهمال الألفاظ الشرعية التي جاء بها الوحي، هو الذي يوقع البعض في إشكالات وتناقضات، لمحاولة التوفيق بينها، مما يؤكد أن الالتزام بألفاظ الكتاب والسنة هو المنهج الأمثل لسلامة العقيدة، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة.

ـــــــ

الفهارس

(1) كتاب التوحيد، تحقيق د. فتح الله خليف ص188-189 و 202-210

(2) أصول الدين ص 97،98، نقلاً من كتاب الماتريدية دراسة وتقويما . أحمد بن عوض الحربي ص 380

(3) التمهيد لقواعد التوحيد، تحقيق ودراسة: حبيب الله حسن أحمد ص222

(4) شرح العقائد النسفية ص 136

(5) شرح العقائد النسفية ص136

(6) انظر حاشية شرح العقائد النسفية ص145

(7) النبوات، شيخ الإسلام ابن تيمية 160-178

(8) شرح العقائد النسفية 144

(9) منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر ص237

(10) شرح العقائد النسفية ص144

(11) النبوات ص169

(12) النبوات ص 196، 244
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*{التأصيل للدراسات}
ــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59