عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 02-19-2012, 11:24 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي


الفصل الرابع

دوره في الثورة العرابية
1879-1882



بقدر ما كانت الثورة العرابية ردّاً على التدخل الأجنبي في شؤون مصر، كانت ردّاً على التخلف الذي عاشته البلاد أيضاً تحت وطأة الاحتلال العثماني ورفضاً له، لذلك أقامت بينها وبين مشروع النهضة العربية أوثق الصلات وأمتنها، وسعت في تجديد حياة المصريين الأدبية والفكرية والاجتماعية وحثّت على بعث تراثنا الأصيل ونادت في نفس الوقت بالاستفادة من المناهج العلمية التي سادت أوربا.
والثورة العرابية ولدت في مناخ فكري ساد مصر منذ مغادرة الحملة الفرنسية شواطئ الإسكندرية، حيث تركت الناس في عجب عجيب مما شاهدوا وسمعوا، فتسارع المثقفون للانضمام إلى أحزاب وجمعيات اندمج فيها إلى جانبهم عسكريون وسياسيون أحسّوا بضرورة التغيير والانعتاق ليفصح الجميع عن إرادة وطنية واحدة، وقدّم هؤلاء أفكاراً لم تكن كلها غريبة عن التربة المصرية أو جديدة عليها استمدت من الدين الإسلامي وتراثه النضالي ومن مواقف رجاله الثورية بالإضافة إلى أفكار الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة، وقد لخّص هؤلاء المثقفون أفكارهم في أحزاب كان في مقدمتها الحزب الوطني الذي ارتكز على برنامج حمل وجهات نظرهم في السياسة الداخلية والخارجية على حدّ سواء.
ولدى العودة إلى الكتابات والتصريحات العرابية التي نجت من التلف والتزوير والإعدام والطمس، نجد أن هذه الثورة كانت على وعيّ تام ببرامجها وأهدافها وطموحاتها، كذلك نجدها قد كشفت عن زيف وادعاء كبار صناعييّ الغرب غير منخدعة بشعارات الحريّة والعدالة التي أخفوا تحتها طلائعهم العسكرية، والعرابيون درسوا مجتمعهم وعرفوا خصائصه التي تميّزه عن غيره من المجتمعات الأخرى، بل نراهم قد حددوا مفهوم الاستعمار الغربي والاحتلال التركي من جهة وقدّموا إرهاصات قومية وومضات طبقية ثوريّة وفهماً اجتماعياً مبكراً من جهة ثانية، ولعل أهمّ ما تميزت به هذه الثورة اعتمادها على أبناء العرب فكان الفلاحون من أبناء مادتها الأولى الذين أقامت الجسور بينها وبينهم حيث //ارتبطت بالطبقات الشعبيّة وعبّرت عن تطلعاتهم// (1)، وبذلك تكون قد عكست طبيعة الصراع الطبقي والحياة المادية السائدة في المجتمع المصري آنذاك، فكانت ركاماً من الآراء والأفكار والتيارات والمشارب قاد الإقطاعيون وكبار الملاكين فيها من مصريين وأتراك تيّاراً إصلاحياً يرى أصحابه أن التغيير لن يكون إلا في افتتاح المدارس ونشر التعليم وعدم المساس بالأسرة الحاكمة، وإلى جانب هذا التيّار الإصلاحي تجاور تيّار المثقفين الشعبيين وأمراء الجيش وأبناء المشايخ والفلاحين الذين قادوا تيّاراً ثوريّاً نشأ في خضمّ الأحداث وبدأ يجذب الثورة باتجاه طبقة الشعب الفقير، ورفع شعارات تجاوزت العصر كاستبدال حكم الخديوي بحكم جمهوري والوحدة مع أقطار عربية كالشام والحجاز، مؤمناً بالعنف الثوريّ كوسيلة للنهوض من قعر التخلف. لقد لعب هذا التيّار أدواراً غاية في الأهمية، ومثّل طموحات الطبقة المتوسطة الصاعدة والتي أخذت تتشكل في أرض مصر من أبنائها الذين اطلعوا على حضارة الغرب ومفاهيم الثورة الفرنسية وقد تميّز رجال هذا التيار بوعيّ ناضج وإخلاص صادق وفهم أعمق لمشاكل المجتمع المصري خاصة والشرق عامة، وقدّموا حلولاً ذات محتوى اجتماعي.
في هذه الثورة لعب النديم أزهى الأدوار وأكثرها نقاوة، وقام بأصعب المهام وأخطرها، وشارك فيها //مشاركة حميمة في مختلف مراحلها ومختلف أعبائها// (2) واندفع في صفوفها خطيباً مفوهاً وكاتباً لامعاً وصحفيّاً مناضلاً حريصاً على المثل الوطنية التي تبنتها الثورة، لذلك نجد في كتاباته عنفوانها وصلابتها ومأساة رجالها أيضاً.
لم يأت عام 1880 حتى أخذت الحركة الوطنية تجذب إلى صفوفها //العناصر الديمقراطية التي كانت مستاءة من التسلط الأجنبي// (3) وبرز أحمد عرابي من بين هؤلاء قائداً عسكرياً وواحداً من الأحرار العرب الذين أتيح لهم التعبير عن أنفسهم، وفي العام ذاته ارتبط النديم معه بصداقة وثق فيها كل منهما بالآخر وفهم صاحبه على أدقّ ما يكون الفهم.
وفي أولى مهامه التي انتدبته لها الحركة الوطنية المصرية، انطلق النديم إلى الريف المصري ليقيم جسوراً بين الثورة التي نضجت في المدن وبين الفلاحين الذين كانوا يعيشون حالة غليان وانتفاضات على حكم الأسرة المالكة، فوصل إلى القصي البعيد من البلاد وطاف الأرجاء والأصقاع يندد باستبداد الخديوي ورئيس وزرائه ويبيّن عيوب الحكّام ويدعو إلى إقامة حكومة دستورية يتساوى فيها المصريون والأتراك، وتتمكن البلاد بواسطتها من الوقوف في وجه المد الأجنبي، وفي الجولة ذاتها دعا إلى الالتفاف حول الجيش وتأييد ضبّاطه العرب لأنهم قد تبنوا بالفعل مطالب الشعب وإلغاء الضرائب عن كاهل الفلاح المصري، وعن هذه المهمة قال النديم في مذكراته السياسية: //أعلنت حب العسكر والتعويل عليهم وناديت بانضمام الجموع إليهم وأوغلت في البلاد ونددت بالاستبداد وتوسعت في البلاد وعنيت مثالم الحكّام الظّلام لا أعرّفهم إلا بالجهلة الأسافل ولا أبالي بهم وهم ملء المحافل//(4).
وفي الريف حظيت الثورة بتأييد شعبي عارم، وشقّت صفوفها في الطرقات والدروب الترابية التي تنساب بين أكواخ الطين، وانحدر الفلاحون إلى القاهرة //واكتظت الشوارع بهم حاملين إلى الخديوي الشكاوى من اضطهاد السلطات لهم على نحو لا يطاق//(5)، وكذلك في المدن عمّ الاستياء بين التّجار واشتدت المعارضة //لفرض الضرائب عليهم وعلى أصحاب الحرف رغم كساد التجارة وبوار الصناعة، وفي صفوف الموظفين وبين الفئات الحاكمة كان يسود عدم الرضى فقد أرهقت الديون الجميع، وهكذا عمّت مصر الاتجاهات المعارضة//(6).
وعندما اصطبغت الثورة بصبغة شعبية بعد تأييد الفلاحين الثابت لها بدأت تفلت من أيدي الإقطاعيين وكبار الملاكين ولم يعد في مقدور هؤلاء كبح جماح الفلاحين الذين //أخذوا يمارسون ثورتهم التي يحلمون بها مما سيجعل الملاكين يغتاظون من العنف الثوري واتساع صفوف الثورة والتأييد لها// (7)، وفي واقع الأمر كان ذلك مفاجأة لرجال التّيار الإصلاحي، فبرزت التناقضات واصطرعت التّيارات داخل الثورة.
ويذكر النديم أن صنع الثورة لم يكن أمراً سهلاً أو عفوياً أو طفرة نبتت فجأة، فقد سبقها ومهّد لها جدل وحوار تحددت بعده الأهداف والغايات ثم هرع الناس لينجرفوا في نهرها العظيم دون أن يكونوا على وعيّ متساو فيما بينهم باستثناء القلة القليلة من المثقفين الذين اتخذوا الخطابة وسيلة لجذب الجماهير وتهيئتها وتوحيد صفوفها، قال النديم //ودارت رحى الأفكار.. واتجهت إلى الغاية الأبصار.. وجرى خلفنا في هذا الطريق رجال اصطك ركابهم بركابنا في هذا المجال ولم يدر ما قصدنا إلا العقلاء.. وقليل ما هم.. ولكنهم جموع دعوناهم.. فنبهناهم.. بهم اتسع نطاق هذه العصابة.. وتعددت محافل الخطابة.. وكان العقلاء بإخوانهم نبّهوا وأيقظوا.. وحركوا الهمم الساكنة.. وبينوا الأسرار الباطنة.. وحثوا على الاتحاد.. وترك التضاغن وتوحيد الكلمة.. لإبادة
الظلمة// (8).

أحاطت الجموع بأحمد عرابي وأيده الفلاحون وبدا لهم سنداً قويّاً ورمزاً شامخاً عقدت عليه الآمال في المدن والأرياف لنيل مطالب الأمة، وبعث بإقدامه أهل القرى من مراقدهم //فإن عمله أوحى إليهم أنه من الممكن أن يخرج من بينهم من يشمخ بأنفه على أولئك الذين طالما استذلوا في مصر الرقاب//(9).
ينتمي أحمد عرابي إلى بيت مصري متوسط الحال، فقد ولد في قرية قرب بلدة الزقازيق سنة 1841، ومات والده ولمّا يكمل الثامنة من عمره، فتعهده شقيقه وأودعه في كتّاب القرية وفيه نال حظاً من التعليم لم يتسن لكثيرين غيره أيام زمانه، بعد ذلك سعى إلى الأزهر الشريف وهناك أمضى أربع سنوات استوعب خلالها الفقه والتفسير والنحو، ثم عاد إلى قريته بعد أن قطع دراسته خالط فيها الفلاحين وعايشهم، ويروى عنه أنه كان برماً متذمراً من أبناء الحكّام الذين كانوا يترفعون على أبناء الفلاحين ويحتقرونهم، وسوف يرافقه هذا الإحساس بعد أن كبر وكان أحد أهم دوافعه إلى الثورة التي ارتبطت باسمه.
وفي سن مبكرة التحق بالجيش المصري جندياً مغموراً من جنده الصغار لرغبة الخديوي سعيد كي يرفع مستوى الجيش حيث //أمر أن يكون في صفوفه أبناء المشايخ والأعيان كي لا يحتقر الجندي في نظر الناس إذ كانوا لا يرون إلا المستضعفين والفقراء ليكونوا في عسكره//(10)، وعندما أثبت جدارته واجتاز الامتحانات بتفوق ترقى إلى رتبة ضابط، وبذلك أصبح واحداً من أبناء العرب القلائل الذين نالوا هذه المكانة في الجيش.
كان عرابي مطلعاً على تاريخ العرب القديم والحديث، حافظاً القرآن الكريم منذ فتوته، مولعاً بسير الخلفاء الراشدين ملماً بأفكار الثورة الفرنسية معجباً بقادتها شغوفاً بسيرة نابليون، لذلك كان كثير القراءة لها.
لقد توفرت فيه كل صفات القائد الفلاح كما يصفه صديق الحركة الوطنية المصرية الإنكليزي.. الفرد بلنت.. الذي قابله وراسله وكتب عنه //كان طويلاً عريض المنكبين بطيء الحركة، ولكنه يبدو مقداماً، وكانت عيناه ذات نظرة حادة لكنها حالمة، ولم يكن الإنسان يكشف ذكاءه إلا عندما يتكلّم أو يبتسم، لقد لوحت شمس مصر وجهه، ولكن أهمّ ما يميز عرابي أنه فلاح.. واحد من طبقة الفلاحين.. واحد منهم وليس مجرد زعيم لهم.. قطعة منهم تتسم بنفس صفاتهم وكأنه ببشرته السمراء قطعة من طمي مصر//(11).
وفي القاهرة أصبح بيت عرابي ملاذ الأحرار ومركز تجمعهم، وإليه توجّه الفلاحون وبدوره كان يحتفي بهم ويستضيفهم فيه، وكان النديم يستقبل الوفود ويوضح لهم الأسباب التي قامت الثورة من أجلها، ويبيّن المغزى منها، وما تسعى إليه من إلغاء السخرة والقضاء على إقطاع الماء والوقوف في وجه المد الأجنبي، ثم إنها ستحمي الفلاحين من المرابين وستعمل على نشر التعليم ومجانيته //وستقيم انتخابات حرّة لبرلمان جديد//(12).
فوّض الضبّاط العرب أحمد عرابي، وكي يكون موقفهم أقوى كتبوا عريضة تفوضه بالمناداة بمطالب الأمة، وتوجهت الأنظار من جديد إلى الفلاحين في الريف، فأوفد النديم ليعرضها عليهم ويحصل على موافقتهم، وجاء في العريضة: إن حكومة رياض ستزيد من مصائب الأمة وستعرض الأرض لتصبح في حوزة الأجانب //إن سيطرة هؤلاء على وظائف الدولة وسكوتنا عن ذلك يعد من العجز والجبن.. فاعلموا يا معاشر الوطنيين أن أولادكم في سلك الجهادية قد عزموا على منع كل ما من حقه الإجحاف بشؤونكم، فالمطلوب منكم أن توقعّوا على الكتابة المرسلة إليكم وهي الكتابة المقصود منها أن أكون نائباً عنكم في كل ما يتعلّق بأحوال البلاد// (13).
ودون إبطاء انطلق النديم إلى الريف وفي يده العريضة، مشياً حيناً وراكباً في القطار حيناً آخر، وعرضها على المؤيدين والأنصار وقرأها على الناس في الشوارع والساحات وبدا الأمر كأنه يهيء لثورة عارمة ستقوم الساعة، ولم يعد إلى القاهرة إلا وقد حاز على عشرات الألوف من التواقيع. لقد حصل على أختام الجميع //ماعدا شخصاً واحداً هو عميد الإقطاعيين المصريين الذي أنبأ الخديوي بأمر العريضة// (14) وبذلك أصبحت حركة الضبّاط العرب لسانَ حال الأمة برمتها في تنفيذ إرادتها، والتقى العسكريون والمدنيون في شخص أحمد عرابي فتوحدت مطالبهم وصيغت أهدافهم واندمج الجميع في صف وطني عريض ساخط بدا فيه النديم زعيماً ورمزاً من الرموز الوطنية الهامة والرجل الثاني بعد عرابي.
وبتكليف من الحركة الوطنية زحف عرابي بالجيش إلى ميدان عابدين في التاسع من أيلول من عام 1881 ليعرض مطالب الأمة، وكي لا يثير حفيظة الدولة العثمانية ودول الغرب أحاط الخديوي علماً بذلك، ثم أنبأ قناصل الدول الأجنبية وأكّد لهم أن التجمع في ميدان عابدين أمر داخلي محض // لطلب أمور عادلة فليكونوا مطمئنين على أرواح رعاياهم وأموالهم وأعراضهم//
(15).

كان يوم عابدين يوماً مشهوداً في التاريخ العربي الحديث، عبّر فيه الشعب المصري عن غضبته، وثبت لدى الجميع أن في مقدور الحركة الوطنية عمل شيء ذي أهمية، زحف فيه عرابي ووراءه أربعة آلاف جندي يسير خلفهم بضعة آلاف من أبناء القاهرة المدنيين، ولمّا كان عرابي يخشى على المؤخرة من التلاشي والتراخي كلّف النديم بحمايتها، وفي وصف حيّ لهذا اليوم قال عرابي في مذكراته: // وجاء صديقي الأعز الهمام.. صاحب الغيرة والعزم القوي.. السيّد عبد الله النديم ينادي بين الصفوف: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فكان معي ثاني اثنين في حفظ القلوب من الزيغ والارتجاف وأخذ الكل يردد هذه الآية كأنهم لم يسمعوها إلا من فمه في تلك الساعة//(16) ولم يبرح الجيش ساحة عابدين حتى سقطت حكومة رياض وشكّل شريف باشا حكومة رضي عنها الوطنيون، ولكنه اشترط//وكي لا يكون مرشّح الجيش المتمرد//(17)، أن ينسحب عرابي وزملاؤه الضبّاط بعساكرهم خارج القاهرة، وبهذا تتسع الفجوة بين التيارين الإصلاحي والثوري.
وافق الوطنيون على مطلب شريف باشا واحتشدت الجماهير لوداع عبد العال حلمي الذي انتقل بلوائه إلى دمياط، ورافق النديم الجيش يخطب ويبيِّن المكتسبات التي حققتها الحركة الوطنية، ويدعو الشعب إلى دعم حكومة شريف باشا وضرورة ***** الوحدة الوطنية وقال: //إن جهاد أبناء مصر في سبيل الحريّة يدخل في صفحات التاريخ، فقد صانوا البلاد ووضعوا حدّاً للاستبداد فاجعلوا عروة الودّ وثيقة ولا تحلوا حبل الاتحاد فالأرض نبت زرعها لحياتنا بالاتحاد//(18) ولم يلبث عرابي أن انتقل هو الآخر إلى رأس الواد، ودخل محطة القطار ويده في يد النديم، وكعادته استعرض النديم تضحيات الحركة الوطنية، وقال: لقد عشنا مصائب الأمة// فوقفننا عند هذا الحد وسعينا في طريق الاتحاد وجمع القلوب، وما زلنا مجدين في هذا الطريق حتّى أعربت الجيوش عن ضمائرنا، ونال الجند المظفّر بحقوق الأمة، فنحن ننادي: يموت الاستبداد وتعيش الحرّية.. يعدم المستبد ويبقى جيش الحميّة//(19).
كانت خطابات النديم بيانات ثوريّة تدعو الجماهير إلى الالتفاف حول الجيش وقائده، حثّ فيها الفئات الفقيرة على صنع القرار السياسي وممارسة حقوقهم وواجباتهم والتمسك بأهداب التقدم ويدعوهم إلى الافتخار بالحريّة التي نالوها دون أن تراق الدماء، ثم قدّم عرابي على أنه حامي البلاد ومن الواجب حمايته وتأييده لأن في ذلك حماية الوحدة الوطنية// فكلكم وطنيّ وإن اختلفت المقاصد وتباينت الذوات//.
وكي يدير صحيفة التنكيت والتبكيت أقام النديم في القاهرة وفيها كتب عدداً من المقالات هاجم فيها الخديوي اسماعيل، كشفه وعرّى زيفه واعتبره مسؤولاً عن اندفاع الأوربيين إلى مصر واستباحتهم أرضها// بما يشبه زحف الفرنسيين على الجزائر يتدافعون على العظام التي تسقط على الأرض ويسرقون فتات الموائد//(20)، حتى أصبحوا أكثريّة في القاهرة والاسكندرية، وقال: لقد تمّ ذلك على مرأى من اسماعيل ومسمع منه بعد أن خدع الكثيرين بمشاريعه الأوروبية التي راح ضحيتها الفلاحون الذين التهمهم الفقر والوباء فقد سرق أموالهم وسرّبها إلى صناديق الأجانب وجيوبهم وبنوكهم، وبدوره حاز على الذهب وبنى القصور الشاهقة، إن الزجل العاميّ الذي كتبه النديم تبدو في ثناياه سخرية الواقع ومرارته، وعمق قعر الظلم الذي يفوق الوصف، قال النديم:
أهل البنوكا والأعيان



صاروا على الأعيان أعيان


وابن البلد ماشي عريان



ممعاه ولا حقّ الدخان


شرم برم حالي غلبان




بعنا العمايم بالطربوش



والعري بالثوب المنقوش


صبحت بلادنا للمغشوش



مورد وصانعها ظمآن


وشرم برم حالي غلبان




وفي مقال: تسمية البهيم بالمتوحش ظلم من الإنسان يرى النديم إسماعيل وحشاً يكمن في جلد الإنسانية ويقول: ثمة فرق بين الإنسان المتوحش والحيوان الوحشيّ، بل إن الإنسان هو البادئ بالتوحش فالمرء يرى ويسمع ولكن ماذا يكتب؟ والأيام تحمل كلّ غريب عجيب في هذا العهد وليس في مقدور أي إنسان أن يصدق. لقد انكفأ الحيوان في السهول والجبال ومع ذلك فقد ظلّ موضع الهجوم والقتل في أي مكان وجد، والإنسان باعتدائه على ذلك الحيوان اللطيف علّمه العدوان ويتساءل النديم أيهما المتوحش// هل ذلك الذي خاف على نفسه فسكن في البراري أو ذاك الذي لم تتسع له أرض ولم يعجبه خلق ولا يريح جنساً ولا يقنع بملك ولو كانت الكرة في قبضه
يده؟//(21)، ويضيف عندما نوازن بين الإنسان والحيوان نجد أن الإنسان أشدّ قسوة من الحيوان، لهذا // فما أحوج هذا الإنسان إلى مصلحين ومهذبين ليحيوا غيرته الأدبية /الأخلاقية/، وأماتته الأغراض والأهواء//(22).

إن قمة التوحش في نظر النديم هي مصادرة القلم وحرّية التعبير، وفي هذه النقطة كتب نصّاً رائعاً لم يسبقه إليه أحد في وصف المستبد ونفسيته، قال: إن الاستبداد داء عضال والمبتلي به// على شفا جرف من العدم، فالغبي وحده يدرك أن الأقلام تناله والمنفرد في حكمه يعتقد أن السهام موجهة إليه فيغضب والمعتلّ ينظر بما لا يناسب أخلاقه الفاسدة وهؤلاء لا يدعوهم إلى الحقد والغضب إلا جهلهم بالحقوق الإنسانية//(23)..
وفي نهاية المقال يقف أمام إسماعيل وجهاً لوجه فيرميه بدنس الطباع والجهل وعدم التبصر بعواقب مشاريعه المعروفة "بأوربة مصر"، ويتهمه بالوحشيّة لأنه جهل قدر أخيه الإنسان، ويقول لـه: //ألا ترى نفسك من المتوحشين المغتالين، قطّاع طرق التقدم معدم الحياة الأدبية / الأخلاقية/، فيا أيها المدعي الوطنية وهو يسعى إلى اضمحلال بلاده ويميل بجانبه إلى كل بعيد عنها ما أضرك على بلدك وإخوانك، فقد ***ت شرّاً بتهورك وعدم تبصرك بالعواقب، تموت في غرضك وأنت تحيي الكثير من غير أهلك، وتلتذ بشهواتك وأنت تنغّص حياة الألوف، ذهبت في طريق آمالك فبؤت بغضب الأمة وسخط البلاد فأصبحت وحشاً طبيعياً//(24).
في ظلّ وزارة شريف باشا تعاظم المد الوطني، وخرجت الجمعيات السياسية إلى العمل العلني، واحتفل الناس بالدستور الذي أعدّت مشروعه وزارة شريف، ورفع التيّار الثوري شعارات جريئة تبدو مبكرة في ذلك العصر متقدمة عليه، استمدها من تحالفه مع الفئات الشعبيّة، فالقائد أحمد عرابي ومعه جمع من الضبّاط// ينادون بخلع الخديوي// ويشهر سيفه في وجه عميد الإقطاعيين محمد سلطان، وفي مذكراته يقول// لو تمّ خلع الخديوي إسماعيل لكنّا تخلصنا من أسرة محمد علي بأسرها، ولكنا أعلنا الجمهورية، وجرى الباردوي في هذا السياق أيضاً//سنحاول أن نجعل مصر جمهوريّة قبل أن تموت//، ويضيف النديم إلى طموحات الثورة العرابية بالإضافة إلى حلم الجمهوريّة والتخلص من أسرة محمد علي الألبانية يضيف رغبته// بهدم عرش السلطان قبل أن يموت//(25)..
كان من الطبيعي أن ينفر التيار الإصلاحي والحالة هذه من الثورة ورجالها وأن يحذر منهم وأن يقيم تحالفاً مع الإنكليز والسلطان والخديوي ويتشكك بقدرة الجماهير غير واثق منها، ويرى أنها غير جديرة بحمل المسؤولية، وأخذ يتسرب رجالٌ أصحاب وزن في الثورة من أبرزهم الإمام المصلح محمد عبده الذي أفزعته تلك الشعارات الثوريّة، وفي واقع الأمر فقد عبّر هذا الرجل عن هلع الإصلاحيين جميعاً ممن راودهم الخوف من طموحات الثورة وما تسعى إليه، فكان أول المشككين بقدرة الشعب المصري على قلب الأوضاع وتبديل الحكومات، ورأى أن ذلك يقع على عاتق الصفوة المستنيرة من أبناء الأمة، ويجب ألا تعطى الرعية مالم تستعد لـه قبل تربيتها وتعليمها أصول الحكم، ومن المعروف أن هذه النقطة كانت سبب خلافه مع أستاذه الأفغاني الذي كان مؤمناً بالعنف الثوري، ثم اندار الإمام عبده وأخذ يحرّض كبار التّجار والملاكين والإقطاعيين ويطلب إليهم عدم المساواة مع الفقراء لأنه كما يقول: //لم يعهد في أمة من الأمم أن الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطلبون مساواة أنفسهم بسائر الناس وإزالة امتيازاتهم واستئثارهم بالحياة والوظائف بمشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك//، ويتساءل باستهجان وكأن الأمر أفلت من يد الإصلاحيين// فكيف حصل هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ هل تغيرت سنة الله في الخلق وانقلب سير المجتمع الإنساني أم بلغت فيكم الفضيلة حداً لم يبلغ إليه أحد من العالمين حتى رضيتم واخترتم أن تشاركوا سائر أمتكم في جاهكم ومجدكم وتساووا الصعاليك حباً بالعدالة والإنسانية أم تسيرون إلى حيث لا تدرون وتعملون بما لا تعلمون؟//(26)..
إن المؤرخين يحدثون بحزن عمّا وصل إليه هذا المصلح المستنير، فبعد أن كان واحداً من أكبر رجال الثورة العرابية الذين اشتركوا في التحضير لها، يحدثون بمرارة عن إغلاقه صحيفة الطائف لسان حال الثورة مدة شهر كامل في السابع عشر من أيار عام 1882، عندما //كان رقيباً للمطبوعات العربية والتركية//(27)، بل وذهب إلى أكبر من ذلك فسوف ينفر منها في أدقّ مراحلها ثم ينقلب عليها ساخطاً ويهاجمها في شعره.
تنازل النديم عن صحيفته للحركة الوطنية واستبدل اسمها بالطائف، وبذلك يكون قد بدأ بداية جديدة في الفكر والموضوع، فقد أصبح كاتباً سياسياً صرفاً ورأساً من رؤوس الوطنيين الثوريين الذين يقودون تياراً متطرفاً ذا صبغة اجتماعية، واقتنع أكثر من ذي قبل بالحسم العسكريّ لمواجهة مشاكل البلاد، واتخذ على عاتقه كما يقول: // الكشف عن معايب اللصوص ومفاسد الظلمة الذين ننعتهم جهلاً ولاة النظام//(28)، وتولّى الدفاع عن الحركة الوطنية وحمل على الامتيازات الأجنبية، ومرّة أخرى عاد وهاجم إسماعيل وانتقد سياسته بمقالات شعواء كأنها شواظ من الحمم حتّى أصبح // لسان الأمة بخطبه وقلمها بصحيفته//(29)، وكاتبها الشريف الذي دافع بصدق عن بقاء الفلاحين على وجه الأرض وعن أطفالهم الذين يحشرون مع ذويهم// في مخازن واسعة مكدّسة متراصين فيها أثناء أعمال السخرة في مشاريع الخديوي
وحقوله//(30).

شكّل البارودي وزارة جاء فيها أحمد عرابي وزيراً للحربية، وكانت وزارة الثورة كما يراها المؤرخون، فقد عبّرت عن إرادة الأمة في الحريّة والدستور، وأنجزت من المهام مايفوق طاقتها ويتجاوز الظروف المحيطة بها، مما يضعها في طليعة الثورات العربية التي جمعت في وقت مبكّر بين الإرهاصات القوميّة والنزعات الاجتماعية والمشاعر الوحدوية، وعلى الفور أطلقت الحريّات وألغت المراقبة المالية لمصر وأبطلت السخرة ومنعت استعمال الكرباج في تحصيل الضرائب ووقفت في وجه الأجانب الذين ينهبون الأموال وشرعت في إعداد قانون انتخابي، وأوفدت الخطباء لتحريض الشعب على مصادرة أراضي الملاكين، ثم شرعت بتحصين السواحل للدفاع عن هذه المكتسبات.
ثم التفت العرابيون إلى الوطن العربي وعبّروا عن أحلامهم في قيام دولة عربية تجمع مصر وسوريّة والحجاز، ومن أجل هذه الغاية أوفد العرابيون المبعوثين إلى العالمين العربي والإسلامي يشعلون الحماسة فيهما وخاصة في سوريّة// التي بدأ فيها استعداد للأخذ بمبادئ الحزب الوطنيّ، فسرت موجات البغض في البلاد العربية من الخليج إلى المحيط ضد الأوربيين//(31).
وفي الغرب لقيت وزارة الثورة أنصاراً ومؤيدين، كما لقيت أعداء ومناهضين، ففي إيطاليا يبرق رئيس جمعية العمّال إلى البارودي مهنئاً، ويتلقى عرابي برقيّة من المستر ماكدونالد بلوندره جاء فيها //خيّب الله آمال الظالمين المستبدين المختلسين للأموال وحفظ الله الأمة المصرية//(23)، هذا بالإضافة إلى برقيات أخرى أرسلتها أحزاب أوربية اشتراكية.
من جهة أخرى شنّ الخديوي والسلطان وأعوانهما حملات على الثورة ومؤيديها من فرنسيين فرّوا إلى مصر كما يزعمون وعملوا على إضلال عرابي الذي وضع نصب عينيه ماكان قد جرى في فرنسا أيام ثورتها، وهاهو كما يتهمه الباب العالي ينجّس صفوف عساكره بالاشتراكيين الفرنسيين الذين أحرقوا باريس عام 1871، إن هؤلاء الأشقياء بعد أن ضاقت بهم السبل// لم يروا وسيلة لإجراء مآربهم الإبليسية إلاّ الحكومة العرابية//..
نفر التيّار الإصلاحي من الثورة وقراراتها، وازداد التحالف بين السلطان والخديوي والإنكليز والإقطاعيين وكبار الملاكين لأن هؤلاء// يرون فريقاً من الفلاحين يتطلعون إلى ماليسوا أهلاً له//(33)، فانقسمت الصفوف من جديد، وراجت أفكار تدعو إلى عودة إسماعيل المخلوع، وطفا على سطح الأحداث التفكير بالتصفية الجسدية كان عرابي والنديم على رأس هذه القوائم.
استثير النديم وسرت النار في أعصابه، فعاد من جديد لمهاجمة الأسرة المالكة وصبّ سخطه على إسماعيل دون أن يترك في بنيانه حجراً على حجر، وكم كان كلفاً بكتابة سيرته مغرماً بها// لأن كتابتها ونشرها علاج له//(34)، وعلى صفحات الطائف أورد عدداً من الحقائق ليس في مقدور أحد أن يكذبها لأنه شهد الرغبات والشهوات قد أفلتت من عقالها دون أن تعرف حداً ونهاية. مما يستدعي المؤرخين إلى التأمل وإعادة النظر بما كتبوا عن هذا الأمير الشرقي العجيب الذي تربّى تربية عثمانية خالصة، وبما أتحفوا التاريخ عن نزعاته الأوربية المتمدنة المزعومة! والتي كتبوها تبريراً لمساوئه تحت ظلّ حكم أحفاده كذباً وزيفاً، وبدوافع الرغبات والأعطيات.
لقد آثر النديم على فقره أن يكون ذلك الصحفيّ الذي صدق أهله وكتب فصولاً للأجيال استنكر فيها ما أصاب الفلاحين على يد موظفي إسماعيل من كرب وذل، واعترض على التقدم المقنّع بالوحشيّة والاستبداد، وتقصّى بدقة تفوق الوصف ما أصاب المصريين في تلك الحقبة التي كان فيها إسماعيل كما يقول النديم: // غارقاً في لذاته سائراً في شهواته لا يرفع إلا الأراذل ولا يقرّب إلا الأسافل، لقد حمله جشعه على زيادة الطمع، فأرسل إلى الانحاء كلّ صخريّ الفؤاد وحشيّ الأخلاق، وفي الأصل ردئ وفي المنبت سيء التربية خبيث الطبع، لا يرعى حرمة للإنسانية ولاحقاً للدين ولا ذمة للأخلاق، أخذ في بناء السرايات وحشوها في المحسنات، واخترع من الأفلام ما لا تتصوره في الأوهام، وكانت ستة وسبعين جنساً تحتها أنواع كثيرة لم تدع صغيرة من المظالم ولا كبيرة//..
لم يستفد إسماعيل مما كان قد تعلمه في أوربا من أصول الحكم وكما يملي عليه الواجب، فأقبل على المدرسة التركيّة ومشى على أساليب العثمانيين التي يندى لها الجبين والتي يعرفها كل أبناء شعبنا في إدارة البلاد وحكمها، فكان كما يقول النديم// يبيع الرتب بيع القماش للأوغاد والأوباش، ويستعملهم في الأحكام وهم لا يعرفون ما خطّت الأقلام كل هذا ومعدة ظلمه تهضم الحديد وجهنم أطماعه تقول هل من مزيد، كانت طرق جمع الضرائب شيئاً تقشعر له الأبدان، قوامها الإذلال والإهانة والإيلام، فإذا هبط مأمور قرية للإشراف على تحصيل الضرائب طلب سكّانها واحداً بعد واحد، فمن دفع نجا من عذاب أليم، ولا يناله إلا بعض السياط ليشبع نهم المأمور للضرب، ومن قصرت يده ألقاه القوّاصة على الأرض وقطّعوا إهابه بالسياط فإذا نجا من الموت أودع السجن//(35).
ومن طريف مايذكر النديم أنه شاهد في أحد الشوارع جنازة لمواطن مصري على أكتاف المشيعين وقد اعترضها القوّاصون وأنزلوها على الأرض ومنعوا دفنها حتّى تدفع الضريبة المستحقة عليها وكانت ستة قروش. عند ذلك تقدّم أحد المحسنين ودفعها فصاح المشيعون// لعنة الله على الخديوي إسماعيل في كل كتاب.
ومن مشاهدات النديم التي كتبها أن إسماعيل كان يجمع الأهالي ليحفروا الترع ويسقوا مزارعه وبساتينه، وعندما يخرج القوّاصون لمراقبة العمل كان المشرفون يفزعون إلى الأشجار ليقتطعوا منها الأغصان الغليظة وينزلوا بها على جسوم الفَعَلة العارية، فلا تسمع إلا الأنّات والصراخ والنحيب ولا يظهر من هذه الأجسام الملوثة بالطين سوى مواضع السياط لقد أفزع ذلك النديم وراعه، ولم ير البلاد إلا سجناّ للمذنبين الذين تخلى عنهم أبناء جلدتهم من الحكّام، أو هي كما يقول شاهد العصر النديم // مجلس جزاء هي لأرباب الجرائم الخاطئين، ولو أن سائحاً جوّياً صعد في درجات الهواء إلى حد يرى ويسمع مَنْ تحته من أهالي الديار المصرية إذ ذاك لرأى أمة تتقلب على جمر العذاب على غاية من الاختلاط والاختباط تتحرّك تحرك الدود على غير نظام// (36).
تحشدّت بريطانيا وفرنسا قبالة ساحل الإسكندرية ثم طلبتا إسقاط حكومة البارودي وإبعاد عرابي، ومن جهته طلب عرابي من مجلس النّواب في جلسته المنعقدة في الثالث عشر من أيار لعام 1882، تنحية الخديوي توفيق، وانقسم النوّاب بين مؤيد ومعارض لطلبه هذا، ودون اتفاق مع الحركة الوطنية استقالت، حكومة البارودي..
اقتربت المواجهة، وأحسّ الناس نذر الخوف وبوادر العاصفة، ومن جديد التف الشعب حول رجاله المخلصين، وأوفد عرابي النديم إلى الاسكندرية ليهيء للثورة، وهناك جمع الناس وخطب فيهم، وحثّهم على الوحدة الوطنية واليقظة وعدم التورط في نفق الطائفية التي سيستثمرها الأعداء، وعن هذه المهمة قال: //لقد جمعت الناس ونبهتهم على لزوم السكون إذا كثرت الظنون والبعد عن مجالس الأجانب حتّى تنتهي المصائب وحرضتهم على لزوم الهدوء وعدم التدخل مع العدو، وبينت لهم أن عرابي أخذ عهدة الأمن على نفسه والخديوي يسعى في عكسه//(37)
وكما يروي الشيخ محمد عبده في مذكراته، فقد اعتقل النديم ثم أفرج عنه، ومن توه ذهب إلى القاهرة وفيها نظّم الصفوف خلف الحركة الوطنية، ودعا الناس إلى كتابة العرائض لمندوب السلطان الذي أوفد للتحقيق في حالة البلاد، واحتشد الوطنيون في تظاهرة كبرى حملت تسعين ألفاً من التواقيع ترفض التدخل البريطاني وتطلب حماية البلاد.
شكّل راغب باشا وزارة رضي عنها الوطنيون وضمنت حقوق الأجانب، ولخصت الحركة الوطنية أهدافها بنقاط ثلاث: الوقوف في وجه الإنكليز والتصدي للخديوي ثم الوقوف في وجه السلطان المتآمر، وعلى صفحات الطائف شنّ النديم هجوماً ضارياً على الدول الاستعمارية، وندد بحشودها العسكرية، ودعا الشعب للدفاع عن أرضه، ثم أتبعه بهجوم على الصحافة الشاميّة التي انحازت إلى جانب الخديوي وصبّ غضبه على الوطني السابق أديب اسحق(38) الذي ابتعد عن الثورة وأصبح// من أصحاب الدعوة إلى الاعتدال في طلب الحريّة. إن ذلك أسخط عليه رجال الثورة العرابية، وكان قد منع جريدته من أن تكون لسان حالها//(39).
في هجومه ذاك بيّن النديم دور الصحافة ومايجب أن تكون عليه من صدق وصراحة مع الجمهور وما يترتّب عليها من عدم استغلال ظروف البلاد وألا ترى فيها// فرصة تمكنها من إظهار مقاصدها.. إن الجرائد بالنسبة للأمة كالمرشد الأمين وعلى المحررين أن يدافعوا الرجعية بالأدلة والبراهين لتكون الأمة بعيدة عن التشيع وتفريق الكلمة//(40).
اكتمل حشد الأسطول الإنكليزي، ومن الطريف أن قائده طلب من عرابي وزير الحربية أن يكف عن ترميم الحصون الساحلية المصرية وأن يسلم مدافعه لأنها تهدد أسطوله، والأطرف من ذلك أن السلطان طلب من عرابي إيقاف التحصين أيضاً! وعندما رفض عرابي تلك المطالب بدأ القصف الإنكليزي لمدينة الاسكندرية، ويروي مؤرخ سيرته الدكتور علي الحديدي أن النديم سار في المدينة المنكوبة، وهناك تجوّل في شوارعها بين الأنقاض والركام، وفيما هو ينتقل من زاوية إلى زاوية التقى بالشاعر الوزير محمود سامي البارودي، فمشيا معاً في شوارعها حتّى المساء، ثم دلفا إلى منزل والد النديم وأمضيا الليل فيه، وفي الصباح الباكر التحق النديم بمعسكر عرابي في كفر الدوّار إلى الغرب من القاهرة.
لم تعرف الثورة العرابية رجلاً كالنديم في حماسه وإخلاصه، فقد نافح عن ثورة الفلاحين المصريين بكلتا يديه، وافتداها بكل ما استطاع واشترك في معاركها دون أن تفوته موقعة واحدة، وله فيها ثلاثة مواقف حفظها له التاريخ، قدّم فيها فهماً دقيقاً لروح الثورة وفحواها.
الموقف الأول:

لقد نظّم الدعاية في صفوف الناس، وخطب فيهم في كل مكان وحمل على الأعداء دون هوادة، وأوضح للمصريين أن حربهم مقدّسة وهي في سبيل العروبة والإسلام، فهم يحاربون// عدو العرب بل عدو الإسلام، ومصر هي حصن البلاد العربية من فتحها فقد أخذ بلاد المسلمين فهبّوا للدفاع عن وطنكم واحفظوا حصن البلاد الإسلامية.. إن الخديوي باع الأمة إرضاء للإنكليز وجعل بلاد الإسلام مقابل حمايتهم له ولا يواجه إلا بوحدة وطنية تجمع أبناء مصر دون تمييز بين دين ومذهب، وتجعل مصر للمصريين فيا أهل مصر إنما الإنكليز نجس فلا يقربوا البلاد بعد عملهم هذا، وإن خفتم ضعفاً فتآزروا وتعاونوا ينصركم الله عليهم//(41).
الموقف الثاني:

عندما احتدمت الثورة وانقض الإقطاعيون عليها متنكرين لمبادئهم متآزرين مع الخديوي والإنكليز والسلطان هاجمهم النديم فرداً فرداً وصبَّ غضبه على عميدهم محمد سلطان، وقال فيه شعراً يعرّيه ويكشف زيفه:
زعيم أصله هيّ بن بي



وضيع تناهى في الخساسة


جهول مظلم الأفكار فدم



تربى من صباه في النجاسة


أضاع الدين والدنيا جميعاً



بجهل عندما استلم الرياسة


وباع الناس للأعداء بنقد



وأذهب من بني مصر الحماسة


فمن يرجو صلاحاً في بلاد



بها الخنزير ينظر في السياسة.


الموقف الثالث:

عندما تصدعت صفوف الثورة وانهارت اجتمع المجلس الحربي الوطني وقرر أعضاؤه كتابة عريضة إلى الخديوي توفيق يعتذرون فيها عمّا بدر منهم ويطلبون منه إقناع الإنكليز بوقف القتال وعدم الدخول إلى القاهرة، وحده دون سواه اعترض النديم من بين أعضاء المجلس، وقال: لقد فعلنا ما وجب وكتب العريضة دون أن يعتذر أو يوجّه اللوم إلى عرابي..
وبمن فيهم عرابي رفض أعضاء المجلس الصيغة التي كتبها النديم، وكلّفوا بطرس غالي وزير العدل بالاعتذار لأنهم عصاة يطلبون العفو، ثم أرسلوها مع وفد إلى الاسكندرية عند ذلك توجّه النديم إلى عرابي يسأله بعتاب حزين: //كيف تكون عاصياً وقد قدت الأمة تطلب الحريّة.. لقد عينتك الأمة قائداً لجيوشها لتدافع عنها خطر المحتلّ وكان تعيينك شرعيّاً من السلطان والخديوي ومجلس النوّاب وإجماع الأمة..فكيف تكون عاصياً؟//(42).
وعندما اقتنع عرابي بضرورة حذف عبارات الاعتذار واللوم، كلّف النديم من جديد بصياغة العريضة وإيصالها، ثم أبرق إلى كفر الدوّار لإيقاف الوفد الذي كان قد أرسله، وعندما وصل النديم إلى كفر الدوّار علم أن الوفد قد غادر قبل أن تصل البرقيّة، وعلم أيضاً أن بعض أعضائه قد اعتقلوا، فقفل راجعاً إلى القاهرة، ووصلها فجر الخامس عشر من أيلول لعام 1882، ولم يلق أحداً بانتظاره، وما إن أشرقت الشمس حتّى علم أن عرابي وزملاءه قد سلموا أنفسهم كأسرى حرب للإنكليز، وبذلك يكون النديم آخر رجل انسحب من هذه المرحلة السياسية.
وعلى أرض المعركة كان الجندي الأخير الذي وقعت عليه أنظار العدو، وآخر رجل احتكّ كتفه بكتف أحمد عرابي وفي وصف مؤثر لغروب اليوم الأخير من أيام الثورة الوطنية المصرية قال النديم وفي نفسه شيء كثير: //لم أطرد جوادي مع عرابي باشا جبانة ولا فراراً من الأعداء والخونة. وإنما أردنا جمع العساكر في بلبيس، وإحضار عساكر العباسيّة لنعسكر فيها ونقطع سكّة الحديد إلى الزقازيق، ونكسر قناطر الخيرية على العدو للتضييق، فأدركنا على الروبي في الطريق، وقال: لا ينبغي أن نقاتل هذا الفريق بل نتوجّه إلى مصر ونشاور أهل البلاد لننظر ماعندهم من الاستعداد//(43).


¡¡¡





الفصل الخامس

بعد الثورة العرابية
1882-1896




من فوره انحدر النديم إلى بيته في القاهرة، فودّع والده ثم اندس في بيت صديق لـه مكث فيه أياماً أطال خلالها لحيته وشاربيه وغيّر شكله وثيابه، وانتحل صفة شيخ صوفيّ ثم طار إلى دمياط حيث كانت حاميتها بقيادة عبد العال حلمي لا زالت تقاوم، وفيما هو في الطريق إليها علم أن الحامية قد استسلمت هي الأخرى، فقرر أن يغادر البلاد إلى أوربا، وعندما لم يتمكن من ذلك قرر أن يعتصم في الريف.
لم يكن اعتصامه في الريف عملاً خارقاً من أعمال عفاريت الجنّ طريفاً مضحكاً كما يرى بعض مؤرخي سيرته، وكذلك لم يكن تنكره والأدوار التي قام بها شبيهة بالحيل التي قام بها أبو زيد السروجي بطل المقامات المعروف كما يذكر أولئك الذين كتبوا عنه في ظلّ حكم الأسرة الألبانيّة وبوحيّ منها، والذين حاولوا أن يقللوا من دوره في الثورة العرابية كي يخففوا من ذنب كان قد ارتكبه كما يرون ومن قيمة الثورة أيضاً(1).
كان اختيار النديم للريف امتحاناً للشعب المصري، وفخراً لأنه استطاع أن يحمي زعيماً هارباً من أكبر زعماء الثورة العرابية، ودلالة على أصالة أبناء الريف، ولم يحمه فقط بل آوه وغذّاه وزوجه ورعاه تسع سنوات ونيفاً، وبذلك يكون قد أبقى على وهج الثورة كامناً بين صفوفه متمثلة بالنديم الذي سوف يبعث من جديد ثورة 1919، والتي هي امتداد للثورة العرابية وانعطاف لها.
وفي الوقت ذاته كان اعتصامه بين أبناء الفلاحين فخراً للعرابي الثوري وامتحاناً لـه، لأنه وثق بهم واستودعهم على ثورتهم التي انحصرت فيه منذ الآن، وإن كانت مصر قد طعنت بمن استسلم من قادة الثورة فهي مرفوعة الجبين بهذا الصعلوك العرابي الذي أخفى الثورة وطوى علمها بين المصريين بثقة وعن سابق قصد ودراسة. لقد صدق ظنه عندما تمكّنت حكومة توفيق من القبض بوقت قصير على عرابيين فرّوا إلى أوربا أو إلى جزيرة كريت وإعادتهم إلى مصر لتطوّق أعناقهم بحبال المشانق، هذا في الوقت الذي لم تتمكن فيه من القبض على النديم بسهولة رغم يقينها أنه في الريف المصري لماذا كان الريف محطّ أنظار النديم في نشاطاته السياسية وفي فراره أيضاً
إن الحالة التي عاشها المجتمع المصري في عهد محمد علي تدعو إلى الدقة والتأمل، وبدون دراسة تفصيلية لتلك المرحلة لن يستطيع الباحث من تفسير الثورة العرابية وإدراك نزعاتها القوميّة والاجتماعية والأدوار الثورية التي لعبتها والتي قام بأدائها زعماء مختلفو الآراء والمشارب الثقافيّة، فقد بات من المؤكّد وكما تشير المصادر التاريخية وتنطق به كتابات عصر النهضة أن هذه الثورة كانت قد قامت على أكتاف أبناء الريف وقبل أن تصبح لسان حال المصريين بمدنهم وأريافهم، كانت قد وجدت لها إرهاصات ومقدمات في الريف، ومهدّت لها انتفاضات سبقتها وتمردات، اصطبغت جميعها بصبغة اجتماعية ونثرات قوميّة ونزعات وحدويّة، واضحة المعالم تتطلع إلى المحيط العربي والإسلامي حولها، سعت أن تقيم معهما جسوراً ولكم كانت تحمل توقاً إلى التخلص من الطغيان!..
إن هذه النزعات تفصح عن وعيّ حيناً وعن غير وعيّ حيناً آخر، ولكنه من الثابت عنها رفضها المطلق لنظام محمد علي الذي أوقع الريف المصري بأسوأ أنواع الطغيان الذي نال الجميع منه كؤوساً مترعة من الذل والهوان، ففي مقالته الهامة والتي سأعتمد عليها يستعرض الباحث أحمد صادق سعد دور القوى الشعبية في النضال المرير منذ بداية حكم محمد علي، ويذكر عدداً من الهبّات المسلحة المثيرة استقاها من مصادر عربية قدم عهدها ولم تطبع مرّة أخرى أو لم تترجم، يقول: (2) إن الصور العنيفة للتحرك الجماهيري والتي وجدناها في ظل الحملة الفرنسية تتكرر في عهد محمد علي، ففي دسوق وفي عام 1807 ذبح الجنود المجاورين في المسجد، وفي عام 1812 ثار الريف في وجه الجباة والعساكر فأحرقت الحكومة قرى عديدة وقتلت سكّانها، وفي عامي (1820-1821)، نجح رجل في محافظة قنا في تعبئة أربعين ألف رجل واجه بهم الحكومة وعيّن حكاماً من أتباعه وفرض ضرائب على المنطقة التي وقعت تحت سيطرته ولقد دامت ثورته نحو شهرين، وفي القاهرة نفسها أضربت الدكاكين عام 1823 احتجاجاً على ضريبة المنازل، وفي قرى المنوفية احتّج الناس على عمليات التجنيد الإجباري، غير أن مدفعية الميدان سحقت حركة الاحتجاج هذه بين عاميّ (1823-1824).
وفي عام 1824 تمرّد الناس ضدّ الجباة، وفي منفلوط وفي عام 1838 تمرّدت كتيبة الفرسان ورفضت محاربة متمردين على القرعة، وفي عامي
(1839 ـ1846) قام الأهالي بعدد من التمردات في أسيوط وفي منطقة الأرز شمال الدلتا الشرقيّة والمنيا.

كانت الانتفاضة المهدويّة أكبر حركة مسلّحة انطلقت من الصعيد وشملت مناطق عديدة منه وكان قد تزعمها رجل اسمه أحمد بن إدريس عام 1824، فقد صرخ يحتج على الظلم وجمع حوله مريدين وأنصاراً، والتف حوله ساخطون وغاضبون على القرعة العسكرية، ووصل عدد أتباعه إلى ثلاثين ألف رجل، وليس هذا فحسب فقد التحق بحركته سبع مائة جنديّ فرّوا من الجيش النظامي إلى جانب كتيبة في أسوان انضمت والتحقت بالثوّار مع كتائب أخرى استولت على مراكب من النيل قاتلت قوّات الحكومة وقُتل مائتان من الجند المتمردين، لقد سحقت قوّات تركية وبدوية هذه الثورة وذبحت آلافاً من الفلاحين، وأعدمت العشرات من صف الضبّاط والجنود الذين انضموا إلى الشعب كما أحرقت قرى عديدة.
إلى جانب هذه الانتفاضات كانت هناك عمليات تخريب عزيت جميعها إلى أسباب احتجاج على حكم محمد علي وامتد لهيبها إلى المدن والجيش والمصانع، وكما يذكر الأستاذ أحمد صادق سعد في المقالة ذاتها، فقد أشعل العمّال في أسيوط النار في مصنع النسيج، وفي عام 1824 شبّ حريق في مخزن البارود بالقلعة وصل عدد الضحايا فيه إلى المئات، وفي عام 1826 انفجر جزء من معمل البارود في الروضة، وفي السنة نفسها انهارت القناطر المحمودية وكان قد أشيع أن الفلاحين قد خربوها، وفي عامي (1829-1830)، حدث تخريب في ترسانة الاسكندرية بتحريض من عمّال أجانب، وفي عام 1834 احترقت الفرقاطة المصرية في ميناء الاسكندرية بدوافع تخريبية، هذا إلى جانب أعمال فردية أخرى من السطو وقطع الطرق في الريف والصحراء، والاعتداء على مخازن حكومية جوبهت جميعها بعقوبات قاسية طالت قرى بأكملها..
ثمة أشكال سلبية أخرى للنضال الاجتماعي، فقد تكررت حوادث الهروب من الأرض واتسع نطاقها، حيث أخذ الفلاحون يهربون إلى بلاد الشام وتركيا ومن الريف إلى المدينة، وبالإضافة إلى ذلك فقد كان أبناء الريف يعمدون إلى تشويه أيديهم وأرجلهم وخلع أسنانهم، ويتحدث صاحب المقال عن عمليات سمل عيون الأطفال واتخاذ أسماء نسائية للرجال، كما يروي حوادث هروب إلى المدافن والمستنقعات للإفلات من القرعة أو التعذيب، ومالنا نبتعد كثيراً، فالتاريخ يروي لنا أنه من أسباب حملة محمد علي على سوريا القبض على ستة آلاف فلاح مصري كانوا قد هربوا إلى بلاد الشام.
كان الظلم والجزع وعدم إشراك المصريين في إدارة البلاد دوافع أساسية لهذه الانتفاضات في وقت لم يكن فيه تأثير أوروبي أو قدوم الأفغاني وراء كل شيء في مصر كما يرى باحثون ومؤرخون يرغبون أن يروا كل شيء قادماً من الغرب أو وافداً من الخارج، وبذلك تكون التأثيرات الأوروبية قد لقيت مناخاً وقبولاً، ويكون الأفغاني أيضاً قد وجد أرضاً خصبة مهيأة لبذر بذوره الثورية، ومهما يكن من أمر فما أن جاء منتصف القرن التاسع عشر حتّى سيطرت على الأهالي رغبة عارمة في ضرورة الإصلاح والتغيير// على اختلاف الدواعي والبواعث كانت تدفع للبحث عن الوسيلة//(3).
إذن كانت مقاومة الطغيان عميقة الجذور في المجتمع المصري وفي الريف منه خاصة، وقد شكّلت هذه الانتفاضات خلفية ثورية للثورة العرابية ولأحزابها السياسية التي بدأت تعبّر عن نفسها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على خلاف ما ذكره لوتسكي الذي قرأ تاريخنا وغفل عن كثير من تفاصيله من أنه// لم يجرؤ الفلاحون عبر الأجيال على رفع أصواتهم ضد أسيادهم إلى أن جاء عرابي وحفزّهم على التمرد والمقاومة الأمر الذي لم يدر بخلد الفلاحين حتّى ذلك الحين//(4)..
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن المظاهرات العسكرية التي قادها أحمد عرابي ليست مقدمة الثورة العرابية، بل كانت نضالات الفلاحين تلك هي الروح التي بعثت الثورة وأحيتها وأضرمتها بعد أن كانت قد انصهرت فيها وأمدتها بمظاهر قوميّة وحدوية عبّر عنها الشعب المصري بسهولة قبوله واستعداده للخروج من التبعية التركية البغيضة في وقت كان فيه العالم الإسلامي يرى الخليفة العثماني أب المؤمنين وظل الله على الأرض، كما عبر الشعب المصري عن أصدق مشاعر الحب لتلك المظاهر الثورية بمؤازرته وولائه للعرابيين وحزنه العظيم يوم فشلهم المشؤوم واحتفاظه بالنديم حيّاً.
كان لابد من أن تستوعب الحركة الوطنية هذا الماضي العريق من النضال الفلاحي الثوري، وإن كانت لم تقبله بعفويته فقد نظرت إليه بثاقب البصر وأدقه وأمدته بنسغ جديد وفهم ربط بين الخاص والعام، وأقامت أوثق العلاقات بين الريف والمدينة، لعب النديم دوراً بارزاً في هذا كله، بل كان قد تفرّد في هذا الدور دون سائر العرابيين، وإن كنّا ندرك الآن سبب تأييد الفلاحين للثورة العرابية التي أصبحت لسان حال الأمة بمدنها وأريافها، فلابدّ لنا من أن نكون قد فهمنا المغزى من فرار النديم إلى الريف واعتصامه فيه، فهناك تصعلك وتشرّد وجاع وثرثر وتأمّل، وتعلم عشق الحريّة وتنسّم نسائمها بملء رئتيه من منابعها الأصلية منذ أن كان في سلك الأدباتية، لقد كان أكثر المصريين تجوالاً في ربوع الريف لصيقاً بآلامه تحسسها بعينيه ويديه وعايشها في القرى والطرق والمنعطفات دون أن يحدثه أحد عنها، ولم يكن كاتباً على صفحات الورق فحسب، بل كان فناناً يناقش كلّ شيء مع كل إنسان.. وحين تشحّ مياه النيل وينقلب الجوع وحشاً ضارياً يلتهم الفقراء حين ذاك تبدو له كل فنون الكلام سخيفة لا قيمة لها وينقلب إلى ثوريّ ذي رسالة اجتماعية مدرك أسباب الانتفاضات الضارية وأسرارها..
لن أتتبع المدن والقرى والأماكن التي اعتصم النديم فيها، ولن أصف الطرق التي تلوّن بها ولن أذكر الأسماء التي انتحلها، ففي ذلك إطالة.. وباقتضاب شديد.. فقد توجّه إلى بلده المنصورة وتجوّل في قراها متنكراً ثم ارتحل إلى العتوة القبلية، وقطن بين أفراد أسرة أحد الوطنيين، ومن بيت هذا العرابي أعاد اتصاله بالخواجا موريس..
كان موريس مثقفاً فرنسياً ارتبط مع النديم بصداقة في الاسكندرية منذ عام 1876، وكان يمتلك أرضاً زراعية في قرية قرب مخبأ النديم، وتوحي سيرة حياته أنه قد قدم إلى مصر ليرقب الأحداث كما كان شديد الاهتمام بحوادث الشرق منذ زمن بعيد، وتشير المصادر القليلة في هذا الصدد أن هذا الفرنسيّ كان ممن يعطفون على الحركة الوطنية المصرية وثورتها العرابية، وكان فوق هذا كله// واسع الأفق إنساني النزعة يحب أن يفتش في بلاد الشرق عن ثروات غير المال//(5)، تحاور النديم مع صديقه هذا واشتركا في التأليف وقدّم الفرنسيّ المراجع التي طلبها النديم ووفّر له حاجاته المعيشية.
دوهم مخبأ النديم، فساح على وجهه دون أن يعرف له مكان إقامة، وعاش أياماً صعبة كان العرابيون يضعون له الطعام خلالها في أماكن عرف أنه يمر فيها، وبعد ثلاثة اشهر من الطواف أمر بالذهاب إلى قرية الكوم الطويل فمكث فيها ثلاث سنوات أمر بعدها بالذهاب إلى المحلة الكبرى ثم إلى ميت الغرقى ثم إلى القرشيّة وهنا أقام في بيت أحد العرابيين خالط فيه العلماء والأدباء وشارك في الحياة الاجتماعية، وعندما ذاع صيته خشي العرابيون من افتضاح أمره فأوعزوا إليه بمغادرة المكان، فطاف عدداً من القرى والبلدات ثم كرّ راجعاً إلى بيت العرابي الكريم.
وفي قرية بريّة المندرة أعطي بيتاً منفرداً بين الحقول، وفي ذلك القفر الخالي عرف العوز والجوع وبدت له الدنيا كئيبة شاحبة اللون، وأخذته الوحدة من جميع أقطارها، وللمرة الأولى شعر بمرارة التخفي وقساوة الناس، وامتزجت نفسه بركام من الحزن والأمل والإباء فناجاها قائلاً: //جفّت أيدي الناس فهي لا ترشح.. وانقطع رشاء الأمل.. فبأية دلو أنضح.. كثرت الأراجيف فخافوا البأسوطال الزمن فداخلهم اليأس ومن الإخوان من لا يعلم بمكاني ولو اهتدى إليه لواساني أفتراني أسأل الأنذال ولو شربت الأجاج وطُعمت الرمال..//(6).
انتقل النديم إلى قرية الجميزة، وكتم عمدتها أمره، ولسعة اطلاعه وطلاوة حديثه التف الناس حوله مما أثار شكوك أحد رجال البوليس السابقين، وعندما أخبر السلطات زودته بصورة للنديم وصدق ظنه، فقد استقدم دوريّة ألقت القبض على العرابي الذكي الهارب في الثاني من تشرين الأول من عام 1891، واقتيد إلى أقرب مخفر حيث استجوبه في طنطا المصلح المعروف قاسم أمين، فأكرمه وطمأنه، ثم حكمت عليه المحكمة بالنفي إلى بلاد الشام فاختار يافا وغادر إليها في الخامس عشر من شهر تشرين الأول لعام 1891، بعد وداع مِنْ العلماء والأدباء، وظلّ في منفاه إلى أن توفي الخديوي توفيق فعفا عنه عبّاس الثاني وعاد إلى مصر في التاسع من أيار من عام 1893، بعد أن تعهد بعدم الكتابة والاقتراب من السياسة.
عانى النديم في منفاه من صعوبة العيش وشظفه، فعرف الجوع والحاجة والعري، واختبط في بحر من الرعب والخوف والشوق والحنين، وقف معه في هذا كله العرابيون الذين أشرفوا على إخفائه بصدق وذكاء مما يسجل لهذا الشعب مكرمة من أجل المكارم، فقد خططوا له وضللوا الحكومة عنه وصرفوا نظرها عن مخبئة وأشاعوا عنه أنه مات في أحد السجون أو أنه احتمى في إحدى الدول الأوروبية أو أنه في بلاد الشام، فأحاطته الإشاعات واكتنفته الأقاويل، غير أن ذلك لم يثن الحكومة عن عزمها في البحث عنه وملاحقته بجواسيسها ومخبريها، وقد خصصت مكافأة قدرها ألف جنيه لمن يقبض عليه.
وفي المنفى أطلع العرابيون النديم عما كان يجري في الخارج، فعرف الأحداث التي جرت بعد انهيار الثورة، والأجواء السياسية المحلية منها والدولية، وقرأ الكتب والصحف، وقد هزّت معرفته بما حلّ بالأصحاب الأحياء منهم والأموات كيانه بعد معرفته بهروب أسرته إلى الاسكندرية خوفاً من الانتقام، وازداد حزناً حين علم أن مؤلفاته قد ألقيت في النيل لازدحام الركّاب في قاطرة كان والده يستقلها.
رغم هذه الظروف لم ينسَ النديم قادة الثورة في منفاهم المرير، وعندما تمكّن من الكتابة إليهم كتب رسائل بأسماء مستعارة تعدّ آية من النضج الثوري في الفكر القومي العربي، ومن خلالها يدرك المرء أن النديم روح الثورة وفيلسوفها بل قطب الرحى فيها وليس خطيباً لها فحسب. إن رسائله إلى عرابي وإخوانه تسيل أخّوة وعذوبة ووطنيّة شامخة، يتألق فيها الإحساس بالمسؤولية والمواقف النادرة الفذة والتوصيات الذكية، وتنم عن فكر متيقّظ، ويبدو فيها محبّاً للثورة ترف عليه علائم الإخلاص رفيفاً عذباً رقيقاً، وترى فيها النديم الصلب العنيد صاحب الإرادة الصلبة هذا إلى جانب شفافيته وصراحته ومسؤوليته الثوريّة، ومن رسائله تنبعث روح مصر الزاخرة بالتجارب والدروس والعبر، ولعلنا لا نجد شيئاً يعبّر عن النديم كما تعبّر عنه رسائله إلى عرابي ورفاقه في المنفى..
تحتل رسائل النديم مكاناً لائقاً في ثقافتنا المعاصرة لما تحمله من معان نضالية وقيم مبدئية ووعيّ وطنيّ متفرّد في صدقه مما يجعلها تندرج في خط آداب الحريّة والنضال الوطني المشروع ويضعها قريبة من الفكر الثوري الذي يبحث عن الحريّة والمساواة.
في أولى رسائله إلى عرابي يصف لـه بصدق لحظة دخول الإنكليز وانتصار الخديوي، وكيف تطامن كثير من الوطنيين وأحنوا رؤوسهم أثناء مرور العاصفة، لقد كان ذلك امتحاناً للشرفاء قاسياً عليهم، ثقيل الوطء، على نفوسهم حين أخذ المحتلون ومؤيدوهم يبحثون عن العرابيين ويدفعون بهم إلى المنافي والسجون والموت دون تحقيق أو تدقيق// وقد وضعوا الرحمة تحت نعالهم وجعلوا القوّة أجمل فعالهم وداروا حول حزبنا في البلاد يتصيدونهم في الأصفاد ثم ساقوهم إلى السجون وموارد المنون، وقد خاطبوا العلماء خطاب الأسافل وأخرجوا الأشراف لكنس المزابل وأخذوا بالظن والتخمين وشنقوا الأبرياء من المواطنين وكل هذه الجرائم لم ترض رياضاً الغاشم، بل أراد أن يأخذك ومن سمع نداك ويقدّمك قرباناً لعداك واستحضر مقصلة لخرط الأعناق وعقد مجلساً ليثبت الحكم عليك ويسوق الحمام إليك وأخذوا يتشفون من بعض الأفراد ويتوعدونهم بالقتل والإبعاد وإني لآسف على يوسف أبي ديّم وما أحسن ما أبداه من الثبات وهو تحت حبل مشنقة الممات حيث قال إبراهيم أدهم: هل تريد شيئاً نحضره إليك قبل القضاء عليك..؟ فقال: أريد لمصر الاستقلال الذي كان معقد الآمال، وأي شيء بعد أن قطعتم آمالنا ولكن اليوم لكم وغداً لنا……………//(7).
ثم يخبره عن الحالة التي آلت إليها الأمور، ويفضح زيف المتآمرين ويقدّمهم إلى التاريخ على حقيقتهم، وليس كما ادعوا، ففي تلك الساعات العصيبة التي // تربّع فيها الطغيان في الديوان تجملوا بالثياب وبرموا الأشناب وتنهدوا فرحاً واختالوا مرحاً.. وقابلوا الإنكليز بالولائم وتقربوا إليهم بالجرائم وقدّم لهم المنافقون النفائس.//(8)، وبمرارة يكتب النديم إلى عرابي // صنعوا سيفاً لوسلي *وسيفاً لسيمور* وطبنجتين مرصعتين بالماس كتب عليهم مشير المنافقين محمد سلطان هديّة ومعرفة جميل من المصريين وقد دونوا بذلك تاريخ ذلّة بانتصارهم بعدو الملّة//(9)..
وفي رسالة أخرى إلى عرابي أيضاً يفلسف له الهزيمة ويشرحها ويدعوه فيها إلى النظر إليها على أنها تجربة تاريخيّة مليئة بالدروس والعبر تضيفها الأمة إلى تجاربها لتستفيد منها، لذلك ينبغي إمعان النظر بالأحداث، فالهزيمة لا تعني اليأس بقدر ما تعني الأمل في معاودة الكرّة من جديد، وكذلك الظفر فيما يعنيه إعداد الجماهير وتربيتها في مدارس الدهاء والحنكة والشدّة، من جهة وحسن اختيار الأنصار والحلفاء من جهة ثانية مشيراً بذلك إلى الأدوار التي لعبها الإقطاعيون وكبار الملاكين من عرب وأتراك في الثورة العرابية وما تسببوا به من عار الهزيمة الذي سيكتبه التاريخ عليهم دون أن ينال الشرفاء منه شيء، إنهم هم الذين ارتكبوا السيئات وأحاطت بهم الأخطاء وسيرون نتائج تحالفهم مع العدو، يقول النديم في رسالته // الغلبة ليست قاصرة على الظفر بالعدو بل قد تكون الهزيمة لتقوية العزيمة وزيادة الاستبصار في الأحزاب والأنصار وتربية الأفكار في مدرسة الإنكار كما كانت عليه الهيئة المصرية في الحرب العرابية وما علينا بهزيمتنا بفعل الخائنين عار بل من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة فأولئك هم أصحاب النار وسيريهم الإنكليز ضدّ ماكانوا يفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون//..
كان النديم دائم التفكير بالثورة وأحداثها، وكان دوماً يقلّب صفحاتها ويتحدّث عنها بفيض من الكلام، ويستخلص منها الدروس والعبر، ففي الرسالة ذاتها يرى أن هزيمة الثورة قد مهدّت للإنكليز وجعلتهم يبسطون أيديهم على البلاد وأن يستميلوا بعض قادتها بالمال، ومع هذا فهي تجربة وصفحة مشرقة في تاريخ مصر السياسي رغم ما شابها من أخطاء وما أحاطها من أعداء، ويعترف أن الثورة كانت ركاماً من الآراء والمشارب حددت بنية الوعي فيها ظروف العصر وملابساته، لذلك فقد تجاور فيها المخلصون والمترددون والمذبذبون والساذجون كما يقول إلى عرابي.
//أخي وصديقي.. قرأت تاريخ هذه الأمة وعرفت الأمور المدلهمة. فرأيت الأجنبيّ قد مدّ رجليه في الصدور واستمال القادة بالغرور فبسط يده على البلاد واسترقّ أحرار العباد فلزمتَ الأفكار وتركتَ الأوطار وبعتَ نفسك لا للمظهر ولا للجاه وقام معك الأمراء والقادة والعلماء والسادة وقام أخوك النديم ينادي بلسانك ويترجم عن جنانك فسرى صوتنا في البلاد وتنبّه الناس من الرقاد وتبعنا من الوطن أمشاج وتوارد علينا زمر وأفواج فكان لفيفنا العجيب على هذا الترتيب: مخلص أدرك قصدنا.. فقام يرصد ما رصدنا.. ومتردد حائر مع النوازل دائر ومذبذب إن دارت اللأواء لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. ومنافق ينقل عنّا وإلينا ويحمل معنا وعلينا وعدو ينسب إلينا البدعة.. وينصب لنا شرك الخدعة وساذج يتحرك إذا نبّه.. ويسكن إذا جبّه ولكل قسم نيّة.. ختم عليها الطويّة فالمخلصون أولئك الذين صدقوا وبالحق نطقوا وبالله استعانوا.. فما ضعفوا ولا استكانوا..//..
لم يذكر المؤرخون شيئاً مستفيضاً عن علاقة النديم بعرابي، ولم يتحدّث دارسو سيرتهما عن ذلك أيضاً، ولكن من المؤكّد أن الرجلين مثّلاً روح الحركة الوطنية أصدق تمثيل، ونطقا بما يعود على البلاد بالنفع والكرامة، وعملا بما سمحت به الظروف على إنقاذها من العبوديّة والاستبداد، وقد ارتبطا بعلاقة حبّ واحترام، وأخلص كل منهما للآخر، وكان عرابي قد اعتمد على النديم في جميع اتصالاته بالمدنيين إن كان في الريف أو المدن، وأوكل إليه تغطية الرأي العام وتهيئته بصحيفته وخطاباته، وكان في كل ذلك وجهاً آخر لعرابي الذي يميل إلى الصمت والتأمل..
من جهته كان النديم كبير الثقة بأحمد عرابي، رأى فيه قائداً مخلصاً وإن كان لا يعبّر عن وجهة نظر طبقيّة بنفس الوعي والتطرف اللذين كان يحسّ بهما النديم، وربما كان ذلك لاختلاف النشأة بينهما، ولكنه على أية حال أقرب الزعماء العسكريين إليه وأكثرهم تعبيراً عن معاناة الفلاحين وكرهاً للإنكليز، ومن هنا كانت نقطة اللقاء والاتفاق بين الرجلين، لذلك اقترب النديم من عرابي وفهمه وتمثلّه وترجم آراءه وأفكاره بحرارة وحماس، وطورها برفق وذكاء. لتحمل مفاهيم اجتماعيّة أكثر شموليّة مما كانت عليه حركة الضبّاط في بداية عهدها..
لقد ظلَّ النديم وفياً لعرابي، كبير الثقة فيه على الرغم من ملابسات هزيمته واستسلامه، لأنه لم يكن سبباً رئيسياً بهما، لذلك يدعوه في رسالة أخرى إلى مواصلة النضال الثوري الذي انتدب نفسه له، ولكنه يشترط عليه أن يقرأ سفر الثورة ويمحّص في أحداثها وأن يدرس أحوال مصر في المدرسة العرابية التي أسسها، فالتجربة الآن قد اكتملت والمجربون قد نضجوا فإن كما يقول النديم الذي كنّا فيه// مدرسة ابتدائية ونحن الآن في التجهيزيّة، وسوف يشتد ساعدنا وتترسخ تجربتنا حين ندخل المدرسة العليا، يوم تنادي لك الدنيا، أما ذلك اليوم الذي نعيد فيه الثقة إلى النفوس، فقد تطاولت إليه الأعناق.. بعظيم الاشتياق إلى ذلك الميقات//، بعد ذلك يخبره عن ثقة الناس، به وحبهم إليه، وإن كان هناك من استنكر الثورة العرابية فها هو الآن وبعد أن اتضحت له ممارسات الخديوي والإنكليز ينتظر عودة عرابي لمتابعة ما كان قد بدأه، وبدأ العرابيون يرفعون أعناقهم بشيء من الفخر والاعتزاز، يقول النديم//فإذا قيل هذا عرابي المشرب فرح كأنه قد فتح له مطلب، وألسنتهم رطبة بذكرك ومحافلهم ملأى بشكرك وأصبحوا أشدّ شوقاً إليك ممن كانوا يجتمعون إليك وإذا أتى منك صكّ كتاب دار به على الإخوان وهو فرحان، فأنت في مصر وإن كان جسمك في سيلان فذكرك على الألسن ورسمك في الأعين وبالجملة فقد جعلوك قطباً عليه سعودهم//..
وإلى المنفى حمل العرابيون خلافاتهم التي كانت قد بدأت بعد انهيار الثورة، فتبادلوا التهم والشتائم، وألقى كل منهم اللوم على الآخر في الوقت الذي يبرئ فيه نفسه، وتآكلت علاقات الود والاحترام فيما بينهم، لقد كان ذلك شديد الوقع على النديم أليماً، ورآه فشلاً ذريعاً، وخيبة ظن للأمة في أبطالها المأساويين الذين انتدبوا أنفسهم للتغيير، وهاهم الآن يخرجون طواعية من التاريخ، لقد كتب إليهم النديم عاتباً مرشداً كما يكتب الفيلسوف إلى تلاميذه يطلب منهم أن يكونوا على مستوى الشعارات التي رفعوها، وأن يدركوا جوهر الصراع الذي حاربوا من أجله، وكان يعيب عليهم خلافاتهم ويذكرهم بأسمائهم وألقابهم وبسمعتهم الطيبة، ويحثهم أن يكونوا فوق مستوى الأحداث، فما زالت الأنظار متوجهة إليهم، ومن واجبهم أن يتذكروا الظروف التي تحيط بهم، ثم يؤكّد لهم أنه مازال على سيرته ومذهبه الذي شبّ عليه من حبّ للثورة ووفاء لها
إخواني الوزراء وأحبابي الأمراء
//ذكركم بين الأحباب جميل وقدركم عند العقلاء جليل إن بعض الناس انحرف عنكم وظنّ أن القدر وقع منكم فلمّا انكشفت عن الحقيقة الستور.. وظهرت خفايا الأمور أشفق عليكم العدو قبل ****** وحنّ إليكم الوطنيّ والغريب وقد اشتغلت بعودتكم الأفكار.. وتوجّهت إليكم الأنظار. فإذا لم تكن عهودكم وثيقة ورابطة جمعكم أنيقة وعدتم إلى الديار على التباعد والنفار ساءت بكم الظنون ومالت عنكم القلوب والعيون وصرتم عرضة للدسائس.. ومرجعاً لأهل الخسائس وذكركم المؤرخون بالنقائص وجرّدوكم من الفضل والخصائص وأنكرت أوربا دعوتكم الوطنية.. وتبّجح عدوكم بنسبة الهمجيّة وأعيذكم وكل آية من وصولكم لهذه الغاية فأتلفوا قبل الإياب واقتلوا الضغائن بالعتاب.ولست ممن يرجون عودتكم لغاية يرجونها ودنيا يصيبونها كلا. فإنكم تعلمون ماكنت عليه.. ومذهبي الذي أميل إليه.. فقد كنت أدعو لكم بلا علّة وأنشر عنكم كلّ فضيلة وخلّة وأدعو لكم في الجرائد. وأحاطم عنكم الأجانب والمعارضين والأعداء وديني الذي فطرت عليه ومذهبي الذي أميل إليه هو تحرير البلاد وصلاح البلاد وكانت جريدتي تنشر بلا قيمة لتكون دعوتنا عميمة ثم إنّي الآن في حفظ ربي أتقلّب على فراش النعمة لا ينالني شيء من النقمة وكتبت كتباً عديدة ودوّنت أسفاراً عديدة، ولا أقول هذا منّاً عليكم ولا لنسبة التقصير إليكم بل لتتأكدوا صدق عزيمتي وتتحققوا بقائي على نيّتي وتعلموا أني أرجو عودتكم لكم وللبلاد.. فارجعوا إلى البلاد فارجعوا إلى الإخاء والحق والتزموا في العودة الصدق ولا تسوِّدوا وجوهنا بين أهل مصر ولا تخجلونا، فإني أنشر عنكم من الأخبار ما لا يؤثر عن الأخيار من ألفة أكيدة ورابطة شديدة وإخاء لا ينحّل ووفاء لا يختل، والمرجو من الحق تعالى تحقيق الأمل وحسن العمل فتردّون علينا مؤتلفين كما رحلتم متفقين//(10)
بعد عودته من المنفى تنقّل النديم بين الاسكندرية والقاهرة، وأخذ يدرس الأوضاع الجديدة والظروف المحيطة بالحركة الوطنية المصرية، ووجد أن اليأس قد سيطر على النفوس وأن المدّ الوطنيّ قد انحسر وتراجع، وقد أغرق الزيف والكذب والنفاق الوطنيين الصادقين، وكان في الساحة المصرية ثلاثة اتجاهات سياسية تصطرع فيما بينها، يحاذي أحدها الاحتلال ويؤيده ويدعو إليه، وقد مثلّت جريدة المقطّم وجهة نظر أصحابه، ويؤيد الثاني الحركة الوطنية دون أن يخفي مساندته للسياسة الفرنسية، يجاوره تيّار ثالث يؤيد الحركة الوطنية غير بعيد عن الدولة التركيّة، وكان النديم قريباً من هذا الاتجاه داعياً له، ومن فوره عاد ورفع شعار الثورة العرابية: مصر للمصريين لا لتركيا
ولا للأوربيين، ثم أخذ يبث الروح الوطنية دون أن يغفل الأخطاء التي وقعت بها الثورة العرابية، آخذاً بعين الاعتبار ظروف المرحلة الجديدة، فتوجّه إلى الشباب المصري المثّقف وأخذ يحثهم على الاتصال بالجماهير، ودعا العرابيين إلى الظهور وتأليف أحزاب سياسية، فالتف حوله الشباب ومنه عرفوا ظروف الثورة والأسباب التي أدّت إليها، وكان الزعيم الوطني الشاب مصطفى كامل من أبرز الشخصيات التي// ارتبطت مع النديم بصداقة متينة منذ عام 1892، فتعلّم منه الخطابة حتّى غدا أقرب روحيّاً إلى خطيب الثورة العرابية منه إلى الأفغانيّة//(11)..

حصل النديم على ترخيص لصحيفته الجديدة: الأستاذ، وفي العدد الأول منها دافع عن الشرق ضدّ مطامع الغرب وقد تجلى ذلك في مقالين بدا فيهما مثقفاً عنيفاً مفطوراً على الفهم مدركاً في وقت مبكّر وبعمق خلفية الاستعمار ودوافعه، ففي مقاله الأول: لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا، يكشف عن الأساليب المزيفة التي قدم فيها المستعمرون إلى الشرق، ويقول إنهم لاذوا بشعارات تخفي أغراضهم كالسياحة والتجارة، أما في حقيقة الأمر فهم// مراقبون متغلبون خدعوا الشرقيين بصحفهم ومقالاتهم ولعبوا بأفكارهم زاعمين أن الحضارة مقصورة على الغرب، فالغرب كما يقولون محل التشريع ومنبع العلم ومرجع الفضائل//(12)، ولا حياة للأمم إلا بما تأخذه عنه، ثم يكشف الطريقة التي تعامل بها الغرب مع الشعوب الشرقية على أنها شعوب متوحشة لا تفقه الحضارة أو التمدن، فإذا ما أراد الشرقيون كما يدعي الغرب التقدم فلابد لهم من عقد المعاهدات التجارية التي كانت إحدى القنوات الاستعمارية التي أوقع فيها المستعمرون الأوربيون أبناء الشرق، وبذلك كما يقول النديم قد تمكّن الرأسمالي الأوروبي من ثروة الشرق وخيراته وتحوّل الشرقيون إلى// أجراء يزرعون ويحصدون ويصنعون ليروجوا تجارة أوربا ويعظموا ثروتها ويؤيدوا قوتها كأنهم أمام أوربا جنس خلق لخدمتها//(13).
ويذكر النديم في وقت مبكر سابق لعصره أن الاستعمار قد أدخل في روع البلدان الشرقية عدم أهليتها للصناعة، سانده في هذه الدعوة الرأسماليون رغبة منهم ببقاء الشرقي في قبضة الغربي وبقاء البلاد ميدان سباق لرجال أوربا. فهؤلاء كما يقول لا يريدون مصنوعاً يعطل عليهم ولا معرضاً عن صناعتهم، وكي يحقق الاستعمار مآربه فقد قدم إلى مصر بدائل عن أخلاق أبناء البلاد الربا والمقامر والمواخير واستطاع أن يوقع بكثير منهم فضاع المجد والشرف وساءت الأخلاق وضعفت العقول وأقبل الناس على المرابي يقترضون ويصرفون في الملاهي حتّى أسكنوا الأوربي مكانهم وصاروا له خدماً، وبذلك توصّل الأوربي إلى مقاصده في الشرق.
وفي المقال ذاته يفنّد النديم مزاعم الاستعمار التي يقول فيها إن الشرق بحاجة إلى تدخل أوربا لإصلاح إدارته وماليته وتجارته وتهذيب أخلاقه وأممه بالتعاليم الأوربية، ثم أطبق على الشرق واحتل أجزاءً منه وضمّ أخرى بعد سابق اتفاق بين الدول الاستعمارية،، ثم تلوّى الأوربيون في الدخول إلى الأقطار الضعيفة// تلوي الأفعى وملكوا بعضه بالتجارة وبعضه بدعوى أنه من حق دولة أو إهانة بوّاب قنصل//(14)، وفي كل ذلك لا يلوم النديم ملوك أوربا طالما أن ملوك الشرق آنذاك أهدروا حقوق رعاياهم مما أوصلهم إلى الحالة التي يعيشونها الآن.
إن طبيعة العلاقة وارتباط المصالح بين الاستعمار من جهة وبين كبار الملاّكين والإقطاعيين من جهة أخرى سهّل على المستعمرين دخول بلدان الشرق، وعندما تمكنوا فيها كانوا يرفضون أبناءهم الوطنيين ويستبدلونهم خوفاً من ثورة بعملاء لهم ثم يعمدون إلى محاربة لغة أهل البلاد التي يموت بموتها كما يقول النديم الدين الذي هو حليف القومية والغيرة الوطنية، ويقدم شاهداً على ذلك ما قامت به بريطانيا في مصر حيث سلمت البلاد كما قال حرفياً إلى المصريين// من تتوافق مصالحهم مع مصالح الدول، وأبعدت الوطنيين عن إدارة البلاد وأصبحت تفعل وهم لا ينطقون وعندما أدرك هؤلاء الذين وثقوا بالإنكليز واعتمدوا على سياستهم أدركوا الحقائق في وقت لم ينفعهم الإدراك فيه، فأخذوا يذمونها ويرمونها بخلف الوعد وعدم الصدق وطول الباع في الخداع// (15)، ويتساءل: ماذا جنى المصريون من الاحتلال سوى الخراب والدمار..؟ فهاهم الآن قد أقاموا الاتفاقات التجارية والصناعية المزعومة والتي تنفق فيها الملايين ثم يكلّف الشعب المصري بسدادها دون أن يعلم مصير هذه الملايين من الدولارات.
غير أن هذه الاتفاقات لم تكن سوى واحدة من التدمير الداخلي الذي كان الإنكليز يمارسونه في البلاد، فقد أبعدوا المصريين عن الإدارة وحشروا الغرباء في المصالح التي تخدمهم حتّى أصبح ألوف المصريين لا يجدون القوت، وكذلك في الجانب التعليمي كلّف الإنكليز الأجانب بالتدريس إلى جانب القليل من المصريين// لإماتة اللغة الوطنية بغرض المكافآت لمن ينبغ بالإنكليزية لتنسى لغة القرآن//.
وإن كان كره الإنكليز قد وطّد في قلب النديم وسكن فيه، فالثورة العرابية درس لديه لم ينسَ، وعليها عقدت آمال طالما حلم بها وبشّ لها، لذلك لم يدع فرصة إلا وذكّر الشعب المصري بها ليستفيد من تجربة دفع ثمنها نهراً من الدماء، ويحذر شعبه كي لا ينجرف وراء محترفي السياسة من المصريين الإقطاعيين الذين استقبلوا الإنكليز بعد انهيار الثورة// بالأفراح والسرور وتقدّم شعراؤهم بقصائد المديح والثناء//، ووجهاً لوجه يقدّم للتاريخ صورة هزيلة لهؤلاء ويذكرهم والعهد قريب بدماء إخوانهم وأبناء بلادهم، وقال لهم //بذلتم أموالكم وأرواحكم في دخول الإنكليز البلاد وتخليتم لهم عمّا بأيديكم من الأعمال وركعتم أمامهم وبصقتم على وجوه إخوانكم ولبستم أجمل ثيابكم تنتظرون يوماً يقتل فيه مائة ألف جندي مصري//(16) لقد كان لذلك أخطر النتائج وأسوأ العواقب، وأي سوء يوازي وقوع البلاد تحت وطأة الاحتلال..؟، ألم ير الجميع كيف انقلبت الأحوال؟ إن من يقرأ العواقب عليه ألا يتعاون مع الإنكليز // وألا يلقي نفسه بين نيوب الصلّ مرّة أخرى//.
وفي نهاية المقال دعا إلى بناء الوحدة الوطنية وجمع صفوف الأمة// حرصاً على الجنسيّة /القوميّة/ والجامعة الوطنية ولتكن الجموع رجلاً واحداً يسعى خلف شيء واحد هو حفظ مصر للمصريين ثم إليهم يتوجّه// جاهدوا أنفسكم في توحيد كلمتكم وارجعوا بمحافلكم عن أبواب أوربا وفتنتها، فالمصريون لن يعدموا الحلفاء، فعليهم أن يوجهوا أبصارهم إلى أبناء الشام لأن المصير العربي واحد// فالشام ومصر توأمان أبوهما واحد يسوء الاثنين ماساء أحدهما، فلم تنافر أبناؤهما وانحاز السوريون إلى جانب بعيد عن المصريين.."فالمصلحة تقتضي جمع الكلمة وتوحيد الصف كي تنظر أوربا إلينا بعين الاحترام والإجلال//(17).
وفي مقال آخر.. بم تقدموا وتأخرنا والخلق واحد.. يواجه النديم المزاعم التي أطلقها مروجو الاستعمار والتي قالوا فيها إن للشرقيين طبيعة تجافي التقدم وتحاربه، ويحمّلون الإسلام مسؤولية ذلك، ويرد النديم بقوله: إن الشرق يمتلئ بأديان تغاير الدين الإسلامي، والآخذون بها أضعاف الآخذين بالدين الإسلامي، فلو كان الإسلام كما يقولون مانعاً للتقدم لرأينا// الهند والصين في تقدّم
أوربا//(18)، وفي أوربا ذاتها التي تدعي التقدم قامت حروب ومعارك طاحنة، وكلما ادعت دولة أوربية المدنيّة والتقدم// كثر تفننها في آلات التدمير والقتال، هذا في الوقت الذي كان فيه الشرقيون لا يتحركون إلا دفاعاً عن أوطانهم، فالشرقيون بعيدون عن التعصب الديني//.

لقد ميّز بين أوربا المتقدمة وأوربا الاستعمارية، واعترف بالفروق بينهما، فهذه حقيقة لم ينكرها، وعلى هذا دعا إلى أخذ العلوم ونبذ الجانب السياسي من أوربا القوية التي وحدّت السلطة في أيدي أبنائها// ولم تمكّن أجنبياً واحداً من التسلل إلى سدّة الحكم في الوقت الذي سلّم فيه الشرقيون أمور إدارتهم إلى الأجناس التي حكموها مما دعا حب الأثرة هؤلاء إلى نزع ما بيد مواليهم وسادتهم//(19).
وللكتّاب اهتمام خاص عند النديم، فهم بناة يهذبون الأمم وينقلونها من حضيض الجهل والخمول إلى ذروة العلم والتقدم شريطة أن تتاح لهم حريّة التعبير، وفي الوقت الذي أدرك فيه الأوربيون ذلك أخطأ الشرقيون في هذا الجانب، وخاف ملوكهم من الكتّاب والعقلاء// فضغطوا على أفكارهم حتّى أماتوها في أذهانهم//(20)، فعلى الشرق وكي يتقدّم أن يحترم حريّة التعبير من جهة وأن يتوسّع في التعليم من جهة ثانية أسوة بأوربا التي //عممت التعليم ووحدته وجعلته إجبارياً، فعلّمت الأمة التاريخ والجنسيّة /القوميّة/ واللغة والأخلاق والعادات والقانون المدني الجامع لوحدة الأمة وتاريخها وحقوقها وواجبات الدفاع عنها//(21).
وكي تبقى الأمة حيّة لابدّ من أن يحترم أبناؤها حريّة الناخبين التي عبّر عنها بالشورى كغيره من مثقفي عصر النهضة، ومرّة أخرى يقدّم أوربا دليلاً على اعتماد الحريّة والعزوف عن الأخذ بالرأي الفردي وما كان لذلك من أثر في تقدمها حيث //أحدثت مجالس الوزراء والشورى وألقت تبعة البلاد على كواهل أهاليها، فتنتخبهم لتتحد أفكارهم، وهكذا بقيت أوربا حيّة بحياة قواها العاملة، وصار للأمة الثقة بملوكها ووزرائها لعلمها أنهم لا يصرفون شيئاً ولا يحدثون عملاً ولا يبرمون أمراً إلا بمشورة نوّابها وتبادل الأفكار بين الوزراء والنوّاب//(22)، هذا في أوربا، فماذا حصل في الشرق..؟ يقول النديم لم يكن ثمة ثقة بين الملوك ونابغتهم لذلك نراهم// إذا نبغ فيهم أناس وضعوهم تحت التضييق حتّى يبغض الآخرون طريق العقلاء والنبهاء فراراً من الوقوع فيما وقعوا فيه من البلاء//، فعلى الشرق كي يتخلص من أمراضه هذه//أن ينشئ المجالس الفكرية والأدبية حتّى يسير في ركب التقدّم، وسوف تكون هذه المجالس وما يدور فيها من حوار روحاً ثانية في جسد الأمة المتحرّك بروح العمال والنّواب//.
في جانب آخر يدعو النديم إلى حماية المصنوعات الوطنية، وضرورة دعمها برؤوس أموال وطنيّة أيضاً، ويتحدث عن ثروة الشرق بمرارة ويقترح على الشرقيين إنشاء صناديق ماليّة لدعم صناعتهم وتجارتهم كما حصل في أوربا وبهذا //يرتفع الفقراء إلى مقام الأغنياء//، والأهم من هذا أن يقلع ملوك الشرق عن هدر الثروات وصرفها في الملاذ والشهوات كي لا تصبح الصناعة عرضة للضياع، ثم يطلب منهم في ذلك الزمن الموغل بالقدم أن يكفوا عن تحويل الثروة الوطنية إلى أوربا فقد أماتوا بهذا الصنعة والصنّاع// فترى الصانع الشرقيّ يئن من ألم الفقر وهو جار الغني ولكنه لا يشعر بأنينه لاشتغاله عنه بالملاذ والملاهي.
يقول النديم: هذه الأسباب التي جعلت من أوربا متقدمة والشرق متأخراً ولم يكن الدين واحداً من الأسباب، ومرّة أخرى يعود إلى القول: إذا رغب الشرقيون بالتقدم فلا بدّ لهم// من إطلاق حريّة الأفكار والمطبوعات وتعميم المعارف ومساعدة العلماء على طلب العلم واجتماع كلمة الملوك والوزراء والأمة//.
في أواخر القرن التاسع عشر رفع السلطان عبد الحميد شعار الجامعة الإسلامية ليواجه خطر الاستعمار الأوربي، ولكنّه كان قد استغل هذا الشعار واستثمره لجذب الأحرار من العالمين العربي والإسلامي إلى الأستانة ثم تطويقهم بسلاسل من الذهب والنعيم يخلدون بعدها إلى الراحة والخمول والعودة عن أفكارهم، وأصبحت الجامعة الإسلامية// سبيلاً لضرب الحركات السياسية والفكريّة والثورات المعادية للاستعمار//(23)، وكما أملت ظروف النضال في تلك الأيام وعلى الرغم من الشبهات التي أُلحقت ببناء الجامعة الإسلاميّة، فقد انضوى النديم تحت هذا الشعار وسجّل مواقف متميّزة ورفع شعارات متقدمة، فقد ذكّر الشرق بعظمة تاريخه ونصاعة حضارته وإنسانيتها، ودورها في حضارة العالم، وحثّ الشرقيين على الأخذ بالتقاليد العلمية لأنهم أهل لها ومارسوها منذ كان الإنسان، والشرق// كان قد أخذ دوره في هذا العلم الجليل، وقد ملأ علماؤه كتيّبات العالم أجمع بفوائدهم وفرائدهم العلمية ونشروها بين أفراد الأمم//(24)، وقال يجب أن نعترف بأن العلم الآن في أوربا ولا خلاص للشرقيين إلا بأخذ التقاليد العلمية والتي لن تكون غريبة عليهم// فلذلك لا عيب فيه، فما بالنا نتقاعد عن طريق أوربا//(25).
من جهة أخرى، وتحت إطار الجامعة الإسلاميّة دعا إلى التحالف القومي بين أبناء الشرق والالتفاف حول الخلافة العثمانية، دون أن ينسى دورها في الاحتلال الإنكليزي لمصر أو يغفر لها موقفها من الثورة العرابية، فجوهر الصراع يتطلب تأجيل الخلاف مع العثمانيين لأن الدول الاستعمارية أخذت تلتهم الأقطار الشرقية بما فيها العربية قطراً بعد الآخر، فالتناحر قاد إلى الضعف مما أغرى المستعمر// وفتح باب التغلب على الأمم الشرقية//(26)، لذلك يحذر النديم من الثغرات التي يستغلها المستعمرون وينفذون منها ويقول: //أيها الشرقيّ إذا رأيت مصريّاً أو سورياً أو تركياً أو هندياً أو فارسياً أو مغربيّاً يوقع النفرة بين جنس/ قوميّة/ شرقي فاعلم أنه أجير يشتغل
لغيره//(27)، وفي كلّ ذلك يولي المصريين أهمية بالغة، إدراكاً منه لدورهم الحضاري، قال: //فعلينا معاشر المصريين خصوصاً والشرقيين عموماً أن نبحث في طرق أحزاب أوربا وروابطهم وكيفية مسيرهم وموجب استمرارهم//(28).

ومن جديد نزل النديم إلى الصراع، فأسفر عن وجهه وزجّ نفسه بالسياسة التي كان قد تعهد بعدم الاقتراب منها أو الكتابة فيها، وأخذ يندد بأعداء البلاد الذين أخمدوا الثورة العرابية، وهاجم الاحتلال البريطاني ومن التف حوله وأيده، ولم ينس جريدة المقطّم التي كانت منبراً للاحتلال، فقد شنّ عليها حملة شعواء، ودعا المواطنين إلى الوقوف صفاً واحداً وأن يلعبوا الدور الخلاّق في الحياة السياسية والاجتماعية، وأن يطالبوا بحقوقهم المشروعة في تأليف الأحزاب.
ومن جديد انفجر الموقف بينه وبين الخديوي والإنكليز، وذكرّه رياض باشا رئيس الوزراء وخصمه القديم بحدود جريدته التي لا تتجاوز الكتابة بغير الآداب والعلوم، ولمّا لم ينثن النديم له أغلقت الحكومة جريدته الأستاذ ونفته من جديد إلى يافا في منتصف حزيران لعام 1893، ومن المنفى أخذ يشن الحملة تلو الأخرى على السطان نفسه، فأُبلغ بألا يقترب من أرض يخفق عليها علم تركيّ!.
تلقى النديم الأمر بمرارة، وضاقت به الأرض وكأنها لم تعد تتسع له، فانحدر إلى الإسكندرية وقابل ممثل السلطان وشرح له وضعه، ثم أبحر إلى الأستانة لمقابلة عبد الحميد بذاته.
كان عبد الحميد حاكماً مستبداً داهية عدواً لدوداً للأحرار، يزيّن لهم أنه حاميهم، وفي حقيقة الأمر كان يلاحقهم أينما كانوا أو يستدعيهم ويكرمهم ثم يحيطهم بالجواسيس والمخبرين ولا يرغب أن يتجهوا إلى أوربا كي لا يتجمعوا هناك، لذلك جمع حوله المعارضين ليمتّص نقمتهم عليه، وهناك في الأستانة دخل النديم فيما دخل فيه هؤلاء بعد أن كان الأفغاني قد سبقه إلى قفص الذهب هذا، وعيّن مديراً للمطبوعات براتب يتجاوز خمسة وأربعين جنيهاً، وكان له ما للأفغاني من حظوة وعيش رغد وخدم في قصر وحديقة غنّاء.
وفي إقامته الإجبارية تعطّلت مواهبه وتوقفت، وسكت فجأة عمّا كان يطالب به الأدباتّي الزجّال الغرّيد والمعارض، ووجد في الأفغاني عزاء له وسلوةً وفي الأمسيات كان الأستاذ والتلميذ يلتقيان تحت أشجار الحدائق التي خصصها عبد الحميد لهما، يتذكران أيّام النضال وأحداث الثورة العرابية، ويطوّفان على سيرة الرفاق في سيلان الذين قدم عهد المنفى بهم ويستعرضان دوحة الشباب وما كان فيها من وارف الأغصان، وعن طريق الأستاذ تعرّف على وزراء وأعيان... لكن النديم لم ينس مصر، وعندما زار الخديوي عبّاس الثاني الأستانة طلب منه العودة إليها فأجيب طلبه سنة 1895، وفعلاً قفز إلى الباخرة يغمر قلبه الحنين إلى وطنه، ولكن جواسيس عبد الحميد أبرقوا على الفور إليه، فأوقفت الباخرة وانتزع النديم منها وسيق إلى المنفى الذهبي من جديد... بعد أشهر مرض النديم وتراجعت صحته، ونهش السلّ الرئوي صدره وأحسّ بدنو أجله، فأخبر أمه وأخاه في مصر واستقدمهما، ولكن الموت جذبه إليه قبل أن يصلا، فتوفيّ وحيداً غريباً عام 1896 دون أن يترك زوجاً أو ولداً أو حطاماً، وكل ما تركه سيرة عطرة وحياة حافلة.


¡¡¡





¡ الحواشي:


الفصل الأول:

1- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- المؤسسة العربية- ط1- 1972- ص80.
2- المصدر السابق ص82.
3- المصدر السابق ص84.
4- المصدر السابق ص117.
5- المصدر السابق ص84.
6- محلة الطليعة المصرية- العدد9- السنة7- 1971- من مقال صلاح عيسى: الخريطة الفكرية للثورة العرابية- ص46.
7- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- ص141.
8- الطليعة المصرية- العدد9- السنة7- 1971- من مقال فتحي عبد الفتّاح: الثورة العرابية والملاّكون العقاريون- ص86.
9- ثورات مصر- عبد الهادي مسعود- مطبعة مخيمر- ص45.
10- أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه- محمود الخفيف- دار الوحدة- ط4- 1982- ص37.
11- الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده- جمع وتحقيق د. محمد عمارة- المؤسسة العربية- بيروت- ص369- 370.
12- تاريخ مصر السياسي- أمين سعيد- ص91.
13- المصدر السابق ص92.
14- أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه- محمود الخفيف- ص34.
15- المصدر السابق ص45.
16- مذكرات الإمام محمد عبده- كتاب الهلال- تحقيق طاهر الطناحي- ط1- ص69.
17- أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه- محمود الخفيف- ص47.
18- المصدر السابق ص65- 68- 69.
19- تاريخ مصر السياسي- أمين سعيد- ص100.
20- المصدر السابق ص100.
21- مذكرات الإمام محمد عبده- ص110.
22- أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه- أمين سعيد- ص98.
23- تاريخ مصر السياسي- أمين سعيد- ص105.
24- المصدر السابق ص107.
25- المصدر السابق ص109.
26- المصدر السابق ص110.
27- المصدر السابق ص209.
28- المصدر السابق ص307.
29- المصدر السابق ص308.
30- مذكرات الإمام محمد عبده- ص193.
31- المصدر السابق ص194.
32- تاريخ مصر السياسي- أمين سعيد- ص136.
33- المصدر السابق ص140.
34- أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه- محمود الخفيف- ص451.
35- المصدر السابق ص505.
36- تاريخ مصر السياسي- أمين سعيد- ص153.

الفصل الثاني:

1- العرب والعثمانيون- د. عبد الكريم رافق- مطابع ألف باء الأدباء- دمشق ط1- ص416.
2- مجلة دراسات عربية- العدد الثاني ك1- 1979- من مقال: مصر في ظل الحملة الفرنسية- أحمد صادق سعد ص43.
3- الفكر العربي الحديث في عصر النهضة- ألبرت حوراني- ترجمة كريم عزقول- ص70.
4- الأدب العربي الحديث- د. عمر الدسوقي- دار الكتاب العربي-ط1- ج1- ص32.
5- الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي- فهمي حجازي- الهيئة العامة للكتاب- ط1- 1972- - ص9- 10.
6- الأدب العربي المعاصر- د. شوقي ضيف- دار المعارف- مصر- ط5- 1957- ص12.
7- المصدر السابق ص12.
8- قصة الضمير المصري- صلاح عبد الصبور- ص20.
9- مجلة دراسات عربية- العدد/2/ السنة السادسة عشرة- ك1 1979- من مقال بعنوان: مصرفي ظل الحملة الفرنسية- أحمد صادق سعد. ص45.
10- تاريخ الأدب العربي في العصر الحاضر- د. إبراهيم أبو الخشب- الهيئة العامة للكتاب- ط1- 1976- ص63.
11- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- ص37 وما بعدها..
12- أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي- د. فهمي حجازي- ص9.
13- المصدر السابق ص13.
14- الأدب العربي الحديث- د. عمر الدسوقي-52.
15- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- ص151.
16- المصدر السابق ص151.
17- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- ص159.
18- الفكر العربي في عصر النهضة عند الطهطاوي- د. فهمي حجازي- ص31- 32.
19- المصدر السابق ص28.
20- الأدب العربي المعاصر- د. شوقي ضيف- ص42.
21- المصدر السابق ص32.
22- الأدب العربي الحديث- د. عمر الدسوقي- ص98.
23- المصدر السابق ص26.

الفصل الثالث:

1- سلافة النديم- الهيئة العامة لقصور الثقافة- مصر ص49- 50.
2- المصدر السابق ص103-104.
3- المصدر السابق ص71.
4- المصدر السابق ص93.
5- المصدر السابق ص94.
6- المصدر السابق ص41-42.
7- قصة الضمير المصري الحديث- صلاح عبد الصبور- ص76.
8- سلافة النديم- ص86.
9- المصدر السابق ص59.
10- المصدر السابق ص59.
11- المصدر السابق ص63.
12- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- ص197.
13- أدب المقالة الصحفية في مصر- د. عبد اللطيف حمزة ط2- 1958- ج2- ص392.
14- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- ص194.
15- بناة النهضة- جرجي زيدان- دار الهلال- ص153.
16- تاريخ آداب اللغة العربية- جرجي زيدان- دار الهلال- ج4- ص86.
17- عبد الله النديم- قراءات وأبحاث- من مقال خصائص عبد الله النديم الاتصالية- د. نعمات أحمد عثمان- ص90.
18- سلافة النديم- ص109.
19- المصدر السابق ص120.
20- المصدر السابق ص123.
21- المصدر السابق ص127.
22- المصدر السابق ص150.
23- المصدر السابق ص116.
24- المصدر السابق ص128.
25- المصدر السابق ص129.
26- المصدر السابق ص129.
27- المصدر السابق ص128.
28- المصدر السابق ص128.
29- المصدر السابق ص129.
30- المصدر السابق ص131.
31- المصدر السابق ص136.
32- المصدر السابق ص136.
33- المصدر السابق ص161.
34- المصدر السابق ص162.
35- المصدر السابق ص162.
36- المصدر السابق ص163.
37- المصدر السابق ص162.
38- المصدر السابق ص164.
39- نقلاً عن: قصة الضمير المصري الحديث- صلاح عبد الصبور- ص86.
40- نقلاً عن: المصدر السابق ص87.
41- المصدر السابق ص88.
42- سلافة النديم- ص159.

الفصل الرابع:

1- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- ص201.
2- مواقف نقدية من التراث- محمود أمين العالم- دار قضايا فكرية- ص206.
3- تاريخ الأقطار العربية الحديث- لوتسكيدار التقدم- موسكو- 1971- ص251.
4- عبد الله النديم خطيب الوطنية- د. علي الحديدي- ص131.
5- تاريخ الأقطار العربية الحديث- لوتسكي- دار التقدم- موسكو- 1971- ص240.
6- المصدر السابق ص240.
7- مجلة الطليعة المصرية- العدد الثالث- آذار 1969- من مقال رفعت السعيد: ثورة 1919 المقدمات والمواقف الطبقية المختلفة- ص19.
8- عبد الله النديم خطيب الوطنية- د. علي الحديدي ص132.
9- أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه- محمود الخفيف- ص69.
10- المصدر السابق ص18.
11- عن الطليعة المصرية- عدد9- 1971- من مقال رفعت السعيد بعنوان: الواقع الطبقي للثورة العرابية- ص43.
12- المصدر السابق ص48.
13- المصدر السابق ص45.
14- المصدر السابق ص45.
15- الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده- جمع وتحقيق د. محمد عمارة- ص556- 557.
16- نقلاً عن عبد الله النديم خطيب الوطنية- د. علي الحديدي- ص145.
17- تاريخ الأقطار العربية الحديث- لوتسكي- دار التقدم- موسكو- ص90.
18- عن عبد الله النديم خطيب الوطنية- د. علي الحديدي- ص149.
19- المصدر السابق ص152.
20- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- ص131.
21- سلافة النديم- ص155.
22- المصدر السابق ص156.
23- المصدر السابق ص156.
24- المصدر السابق ص158.
25- مجلة الطليعة المصرية- العدد9- 1971- من مقال رفعت سعيد بعنوان الثورة العرابية والواقع الطبقي- ص50.
26- الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده- تحقيق وجمع د. محمد عمارة-ج1- 1971- ص316- 317.
27- الثائر العظيم عبد الله النديم- نجيب توفيق- ص94.
28- الطليعة المصرية- عدد9- 1971- ص49.
29- أدب المقالة الصحفية في مصر- د. عبد اللطيف حمزة- ج2- ص319.
30- الثائر العظيم عبد الله النديم- نجيب توفيق- ص106.
31- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- نقلاً عن العروة الوثقى- ص203.
32- مجلة الطليعة المصرية- العدد9- 1971- ص46- 47.
33- أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه- محمود الخفيف- ص174.
34- أدب المقالة الصحفية في مصر- د. عبد اللطيف حمزة- ج2= ص389.
35- عبد الله النديم خطيب الوطنية- د. علي الحديدي- ص74.
36- المصدر السابق ص75.
37- المصدر السابق ص193.
38- انظر هجاء أديب اسحق للثورة العرابية في: أديب اسحق باعث النهضة القوميّة- عيسى فتّوح.
39- أدب المقالة الصحفية في مصر- د. عبد اللطيف حمزة- ج1- ص260.
40- عبد الله النديم خطيب الوطنية- د. علي الحديدي- ص 210.
41- المصدر السابق ص212-213.
42- المصدر السابق ص239.
43- المصدر السابق ص239.

الفصل الخامس:

1- لقد ذكر ذلك صديقه أحمد سمير على صفحات السلافة، وكان سمير هذا قد كتب سيرة النديم في فترة حكم عبّاس الثاني، وكتب الآراء ذاتها الدكتور عبد اللطيف حمزة في كتابه: المقالة الصحفية في مصر الذي كان قد ألفه في فترة حكم الملك فاروق، وكتب مثلها الدكتور الجليل أحمد أمين وغيره
2- مجلة دراسات عربية- العدد الثالث- السنة 17- ك2- 1981- مصر في ظل محمد علي- أحمد صادق سعد- ص147-148 وما بعدهما
3- تطور الفكرة العربية في مصر- د. ذوقان قرقوط- ص194.
4- تاريخ الأقطار العربية الحديث- لوتسكي- ص256.
5- مجلة الكاتب المصرية- السنة التاسعة- العدد 97- 1971- من مقال: الفقراء أصل كل شيء لعبد الجليل حسن- ص138.
6- عبد الله النديم خطيب الوطنية- د. علي الحديدي- ص292.
7- المصدر السابق ص272.
8- المصدر السابق ص270.
*ضابطان بريطانيان واجها عرابي في الحرب الوطنية المصرية.
9- عبد الله النديم خطيب الوطنية- د. علي الحديدي- ص 270.
10- المصدر السابق- الصفحات 308- 309- 310- 311.
11- المصدر السابق ص245- 146.
12- سلافة النديم- ص256.
13- المصدر السابق ص257.
14- المصدر السابق ص257.
15- المصدر السابق ص267.
16- المصدر السابق ص267.
17- المصدر السابق ص276.
18- المصدر السابق ص311.
19- المصدر السابق ص314-315.
20- المصدر السابق ص319.
21- المصدر السابق ص319.
22- المصدر السابق ص322-324.
23- الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني- تحقيق د. محمد عمارة- ص35.
24- سلافة النديم- ص208.
25- المصدر السابق ص310.
26- المصدر السابق ص209.
27- المصدر السابق ص322-323.
28- المصدر السابق ص331.



¡¡¡





المراجع


1- أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه. محمود الخفيف.
2- الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده. تحقيق د. محمد عمارة.
3- العرب والعثمانيون د. عبد الكريم رافق.
4- الأدب العربي الحديث د. عمر فرّوخ.
5- أصول الفكر الحديث عند الطهطاوي. فهمي حجازي.
6- الأدب العربي المعاصر د. شوقي ضيف.
7- الأدب العربي الحديث. د. عمر الدسوقي.
8- الفنون الأدبية وأعلامها في النهضة العربية الحديثة. أنيس المقدسي.
9- الثائر العظيم عبد الله لنديم. نجيب توفيق.
10- أدب المقالة الصحفية في مصر. د. عبد اللطيف حمزة.
11- أديب إسحق باعث النهضة القوميّة. عيسى فتّوح.
12- الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني تحقيق د. محمد عمارة.
13- بناة النهضة. جرجي زيدان.
14- تاريخ الأقطار العربية الحديث. لوتسكي.
15- تطور الفكرة العربية في مصر. د. ذوقان قرقوط.
16- تاريخ مصر السياسي. أمين سعيد.
17- تاريخ الأدب العربي في العصر الحاضر. د. إبراهيم أبو الخشب.
18- تاريخ آداب اللغة العربية. جرجي زيدان.
19- ثورات مصر. عبد الهادي مسعود.
20- جمال الدين الأفغاني باعث النهضة. عبد الرحمن الرافعي.
21- زعماء الإصلاح. د. أحمد أمين.
22- سلافة النديم. جمع أحمد سمير.
23- عبد الله النديم- قراءات وأبحاث. مجموعة من الباحثين.
24- عبد الله النديم خطيب الوطنية. د. علي الحديدي.
25- قصة الضمير المصري الحديث. صلاح عبد الصبور.
26- مذكرات الإمام محمد عبده. تحقيق طاهر الطناحي.
27- مواقف نقدية من التراث. د. محمود أمين العالم.
28- مجلة الطليعة المصرية العدد9/1971.
29- مجلة الطليعة المصرية العدد4/1969.
30- مجلة الطليعة المصرية العدد3/1969.
31- مجلة الطليعة المصرية العدد2/1979.
32- مجلة الطليعة المصرية العدد3/1981.
33- مجلة الكاتب المصري العدد97/1969.



¡¡¡





الفهـرس



المقدمة7
الإهـداء5
الفصل الأول :9
الحياة السياسية9
الفصل الثاني :27
الحياة الثقافية27
الفصل الثالث :43
نشأته وتكوينه 1843-1879. 43
الفصل الرابع. 61
دوره في الثورة العرابية 1879-1882. 61
الموقف الأول:74
الموقف الثاني:75
الموقف الثالث:75
الفصل الخامس.. 77
بعد الثورة العرابية 1882-1896. 77
¡ الحواشي:96
المراجع. 103

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59