عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 01-29-2012, 11:53 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

الفصل الثاني
الآخر وحقوقه في الإسلام باعتباره كيانا منفصلا


تناولنا في الفصل السابق حقوق الآخر في الإسلام باعتباره جزءاً وفرداً ومواطناً في المجتمع المسلم، وفي هذا الفصل نتناول الآخر في الإسلام باعتباره جماعة، ودولة، وكيان منفصل للدولة الإسلامية، أي أننا سوف نتكلم عن الآخر بالشخصية الاعتبارية.
فلن نتكلم عن الآخر باعتباره شخصا يأكل ويشرب وينام، بل سنتكلم عن الآخر باعتباره دولة تعاهد وتحارب وتسالم، فهل شرع الإسلام وسن من القوانين الربانية نظاما يحكم علاقة الدولة الإسلامية بجيرانها، وغير جيرانها من الكيانات المنفصلة ؟ وهل للآخر باعتباره كيانا منفصلا، ودولة مستقلة عن الحكم الإسلامي حقوقاً كفلها الإسلام.
هذا ما سنعرفه في هذا الفصل على وجه من الإيجاز، من خلال تعرضنا للمفهوم الإسلامي في إقرار حقوق الآخر من الناحية النظرية، وكذلك لتطبيق هذا المفهوم من الناحية العملية.
لقد بقي العالم منقسماً إلى وحدات دولية على أساس ديني ، أوروبا المسيحية ، والشرق الأوسط الإسلامي ، والهند والصين وما جاورها هندوسية وبوذية وكونفشيوسية . ورغم وجود عدة دول ووحدات سياسية داخل الكيان الديني إلا أن لكن العامل الديني بقي مسيطرا على فكرة التقسيم الدولي.
وبدأ القانون الدولي يتطور حين أقر مبدأ الفصل بين العقائد الدينية وبين العلاقات الخارجية . وقد أدى هذا المبدأ إلى إعادة القضايا الدينية إلى إطارها الداخلي الوطني ، بالخلاف من العقيدة الإسلامية التي تعتبر المسلمين كياناً واحداً أو ما يعرف بالأمة الإسلامية ، رغم وجودهم في دول متعددة جغرافياً وسياسياً . ففي مطلع القرن السادس عشر كان العالم الإسلامي ينقسم إلى ثلاث وحدات سياسية مستقلة، هي الدولة العثمانية في تركيا، والدولة الصفوية في إيران، والدولة المغولية في الهند .
في حين أنه بدأ الاهتمام بالعلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم خارج الجزيرة العربية في المرحلة المكية ، عندما نصح الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعض أصحابه من المسلمين الأوائل بالهجرة إلى الحبشة للتخلص من ظلم قريش لهم.
وجاءت سورة الروم تتحدث عن حرب بين دولتين عظيمتين في المنطقة (الروم والفرس) ، وحدد القرآن الموقف الإسلامي من تلك الحرب التي انتصر فيها الفرس ، وبشر المسلمين بانتصار الروم بعد بضع سنين . وحالما استقرت دولة المدينة بادر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بإرسال رسائل إلى الدول الكبرى في المنطقة (بيزنطة وفارس ومصر واليمن والحبشة) يدعو زعماءها وشعوبها إلى الإسلام . وبعد ثمانين عاماً كانت الدولة الإسلامية أكبر إمبراطورية في المنطقة تمتد من الهند شرقاً إلى إسبانيا غرباً . فأصبحت لها حدود مشتركة وطويلة مع العديد من الدول والشعوب غير المسلمة . وكانت علاقات الدولة الإسلامية (الأموية والعباسية) متوترة مع جميع جيرانها عدا الحبشة . وبسبب الحروب والمعارك كانت هناك حاجة ماسة لتنظيم فترات الهدنة والصلح والجزية وتبادل الأسرى وإقرار السلم .
وبدأ الفقهاء المسلمون يتناولون قضايا القانون الدولي في كتب الفقه فيما يعرف بالسِّيَر (جمع سيرة)، والتي يقصد بها طريقة معاملة المسلمين لغير المسلمين خارج (دار الإسلام) . وتتضمن لفظة "السيرة" معنيين ، الأول : والذي كان المؤرخون وأصحاب السير يستعملونه ، يعني قصة أو سيرة حياة الإنسان . والثاني : وكان الفقهاء يستعملونه، ويعني تصرف الدولة في علاقاتها مع الشعوب الأخرى([1]).
يقول السرخسي في شرحه الوافي لكتاب (السير الكبير للشيباني) : اعلم أن السير جمع سيرة ، وبه سمي هذا الكتاب لأنه يبين فيه سيرة المسلمين في المعاملة مع المشركين من أهل الحرب ومع أهل العهد منهم من المستأمنين وأهل الذمة ومع المرتدين الذين هم أخبث من الكفار بالإنكار بعد الإقرار ، ومع أهل البغي الذين حالهم دون حال المشركين وإن كانوا جاهلين، وفي التأويل مبطلين([2]).
والحقيقة المقررة هي أن العلاقات الدولية في الإسلام، الأصل فيها "السلم" ، بل البر والإقساط والتعاون والرحمة، بالنسبة للأمم الأخرى، لقوله تعالى:‏ ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةًوَلاَتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ[([3]).
والأصل أيضاً في العلاقات الدولية في الإسلام تحريم البغي والعدوان، أو التعاون والتحالف على العمل على ارتكابه، لأنه تعاون على الإثم، وهذا محرم بالنص، لقوله تعال ى:‏ ]وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّوَالتَّقْوَىوَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِوَالْعُدْوَانِوَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ[([4]).
وقوله سبحانه تعالى : ]وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْوَلاَتَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ[([5]).
والبر كلمة جامعة يندرج في مفهومها الكلي، كافة ضروب "التعاون" في سبيل الخير الإنساني العام، وفي مقدمتها المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات بين الدول، في جميع مجالات الحياة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية والعلمية، شريطة ألا تصادم أمراً قاطعاً أو تمس العقيدة أو المقاصد الأساسية لهذا التشريع .
يتبين مما تقدم أن الدولة الإسلامية تحترم الكيان المادي والمركز السياسي للدول الأخرى، كما أنها تحترم مركزها الأدبي، وبالمقابل فإن من حقها أن تطالب الدول الأخرى بمثل هذا الاحترام.‏
هذا ومن مقتضى كون الأصل في العلاقات الدولية -في الإسلام- هو السلم، أن التضامن الدولي واجب، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بالتعارف خطاباً موجهاً للناس كافة، لا إلى المسلمين فحسب، بدليل قوله تعالى :‏ ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍوَأُنثَىوَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباًوَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [([6]).
هذا بقطع النظر عن اختلاف الأصل أو الدين، وليس المقصود بالتعارف إلا التعاون، وهذا هو التواصل الحضاري الذي يؤكد تحقيق مبدأ السلم العالمي.
وسوف نتناول فيما يلي واجبات الدولة الإسلامية تجاه الدول الأخرى.
واجبات الدولة الإسلامية تجاه الدول الأخرى :
إن الدول غير الإسلامية لن تنال حقوقها من الدولة الإسلامية في ضوء تعاليم الإسلام السمحة، إلا إذا قامت الدولة المسلمة بواجباتها، فالواجبات المطلوبة من الدولة الإسلامية هي الحقوق التي تنالها الدولة غير المسلمة منها، فلابد إذن أن نعرف ما هي واجبات الدولة الإسلامية تجاه الدول الأخرى ، ولذلك فيمكن القول بأن الواجبات القانونية للدولة الإسلامية تتلخص في عدة أمور :‏
الأول : مراعاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من النصوص القرآنية والسنة النبوية.‏
الثاني : احترام العهود التي ارتبطت بها وتنفيذ تعهداتها بحسن نية.‏
الثالث : احترام العرف الصحيح في نطاق العلاقات الدولية.‏
وبعد أن أجملنا هذه النقاط نشرع في تفصيلها على النحو التالي :
الأول : واجب مراعاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من القرآن والسنة :‏
اعتبر الإسلام الناس جميعاً أمة واحدة، تجمعها الإنسانية، وإذا كانت الإنسانية واحدة، واختلافها من اختلاف رغبات الناس بحكم الغرائز، والاستجابة لها، فإن الإسلام ينظم العلاقات على أساس من وحدتها الجامعة، لا من مظاهرها المفرقة، وعلى هذا الأساس، قامت النظم الدولية في الإسلام: فلا تفرقة بالعنصرية، ولا بالغنى والفقر، ولا بالعلم والجهل، بل على أساس الحكم العادل بين الناس على سواء، وكل تفرقة بغير الحق تكون باطلة، ولا تصلح لقيام علاقة إنسانية صالحة للبقاء، وإنما يصلح للبقاء ما يكون نابعاً من الوحدة الإنسانية، فهي أساس العلاقات الدولية في الإسلام، قال تعالى:‏ ]] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍوَأُنثَىوَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباًوَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[([7]) .
هذا النص القرآني الكريم هو أساس العلاقات الدولية كما نظمها القرآن وبينتها السنة، وقام عليها عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم من بعده في الحرب والسلم على السواء. وهذا النص يقيم العلاقة على التعاون، وينفي أن يكون اختلاف العِرق أو اللون دالاً على التباين في الحكم، فهم وإن اختلفوا، فإن الأصل واحد، والحقوق والواجبات توجب التعاون والتلاقي عندها، ولا يتحقق هذا التعاون إلا بتحقيق ما بينه الإسلام من مبادئ نسلط عليها بعض الضوء فيما يلي :
أولاً- مبدأ التعاون الإنساني :‏
التعاون في الإسلام مبدأ عام في كل الجماعات الإنسانية كما قرره القرآن، قال الله سبحانه تعالى :‏ ]وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّوَالتَّقْوَىوَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِوَالْعُدْوَانِوَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ[([8]).
والتعاون قوام الأسرة وقوام الأمة، وقد جاءت النصوص الدينية الإسلامية بتعميم التعاون في داخل الإقليم الواحد وفي نطاق الإنسانية.‏


ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يمد بالقوة كل من يعاون أخاه الإنسان في أي إقليم وفي أي موطن، فيقول عليه السلام :‏ "الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"‏([9]).
ثانياً- مبدأ الكرامة :‏
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ومعه الكرامة، بأصل الفطرة، ولا يمكن أن يتحقق التعارف الذي دعا إليه القرآن الكريم إلا إذا كان كلا المتعارفين كريماً غير مهين، وعزيزاً غير ذليل. ولقد أمر الله بتكريم الإنسان في أصل الخلق والتكوين، ولذلك أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم أبي الخليقة الإنسانية. قال تعالى :‏ ] وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىوَاسْتَكْبَرَوَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ[([10]).
] وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَوَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّوَالْبَحْرِوَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِوَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ً[ ([11]).. وإن هذه الكرامة يستحقها الإنسان لأنه إنسان، بقطع النظر عن أي اعتبار آخر.‏
ثالثاً- مبدأ التسامح :‏
دعا الإسلام إلى التسامح غير الذليل، فهو يبني العلاقات الإنسانية، سواء أكانت بين الآحاد أم كانت بين الجماعات، على التسامح من غير استسلام للشر أو تمكين للأشرار، قال تعالى :‏ ]وَلاَتَسْتَوِي الحَسَنَةُوَلاَالسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَوَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُوَلِيٌّ حَمِيمًٌ[ ([12])، وقوله تعالى: ]فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ[ ([13]).
والصفح الجميل أبرز ما يكون عند هزيمة الأعداء، فما كانت الحرب للثأر والانتقام بل لإعلاء كلمة الحق ودفع عدوان الباطل.‏
رابعاً- مبدأ الفضيلة :‏
إن التمسك بالفضيلة من أساس العلاقات الإنسانية في الإسلام، سواء أكانت بين الآحاد أم كانت بين الجماعات، وسواء أكانت العلاقة في حال الحرب أم في حال السلم، لأن قانون الأخلاق قانون عام، والفضيلة حق لكل إنسان، يستحقها بمقتضى إنسانيته، وقد تقرر ذلك في المبادئ الإسلامية التي تطبق على جميع أهل الأرض.‏
قال الله تعالى:‏ ] إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[([14]).
وأشد ما كان يدعو إليه القرآن في الأمر بالفضيلة هو ما يقترن بالجهاد، خشية أن تندفع النفوس في حال احتدام القتال إلى ما يخالف ذلك المبدأ العام، قال عز وجل:‏ ]الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِوَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْوَاتَّقُوا اللَّهَوَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ[([15]).
وإذا كان هذا النص القرآني قد أقرّ رد الاعتداء بمثله، إلا أنه أمر بالتقوى، وهي أن يجعل المؤمن بينه وبين غضب الله وقاية. فإذا انتهك العدو حرمات الفضيلة، فإن المؤمن لا ينتهك. وبعبارة عامة : لا يصح للمسلم أن يجاري الأعداء في مآثمهم، وما يرتكبونه في الحروب ضد الفضيلة الإنسانية العامة.‏
خامساً- مبدأ العدالة :‏
قامت كل علاقة إنسانية في الإسلام على العدالة، فهي الميزان المستقيم الذي يحدد العلاقات بين الناس في حال السلم، وحال الحرب على السواء ففي السلم يكون حسن الجوار قائماً على العدل، وفي الحرب يكون الباعث عليها هو العدل، والعدالة حق للأعداء كما هي حق للأولياء، قال الله تعالى:‏ ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِوَلاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىوَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[([16]).
وقد توعد النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم الظالمين بسوء المصير يوم القيامة فقد قال صلى الله عليه وسلم :‏" الظلم ظلمات يوم القيامة "([17]).
سادساً- مبدأ المعاملة بالمثل :‏
وهذا المبدأ شعبة من شعب العدالة، قال تعالى:‏ ]الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِوَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم ْ[([18]).
وطلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلم أن يحسن معاملة الناس، حتى تكتمل مروءته وتجب أخوته، وإلا فلا تجب أخوة من خالف هذا المنهج النبوي الكريم الذي قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :‏ " من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته"‏([19]).
وهذا المبدأ ينطبق على الدول كما ينطبق على الآحاد، وقد يقول قائل : إن المعاملة بالمثل تعارض التسامح والعفو، والجواب هو أن العفو حيث لا يمس العدالة، وغمط حقوق الناس، أو رضاء بالعدوان.‏
وموضوع العفو يكون بعد أن يتمكن صاحب الحق من حقه، فيعفو أو يأخذ، وإن العدالة لا تنافي الرحمة، بل إنها تلازمها، فحيث كانت العدالة كانت الرحمة، وهذا يفسر لنا قوله عليه السلام :‏ " أنا نبي المرحمة، وأنا نبي الملحمة "‏([20])، و الملحمة، وهي القتال، لا تكون في الإسلام إلا ببواعث من العدالة والرحمة بالناس.‏
سابعاً- مبدأ المودة :‏
يعتبر الإسلام الناس جميعاً أمة واحدة، ومن هنا فإن الأخوة الإنسانية ثابتة يجب وصلها، ولا يصح قطعها، وقد أمر الله تعالى بأن توصل القلوب بالمودة، والإسلام لا ينهى عن برّ كل من لا يعتدي على المسلمين. فالبر ثابت للمسلم وغير المسلم. قال الله تعالى:‏ ] لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِوَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْوَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ[([21]).
وإن المودة الموصلة لا يقطعها الحرب، ولا الاختلاف، ففي أثناء الحرب تنقطع العلاقات بين المسلمين والمحاربين بالفعل وحكامهم، أما رعايا الأعداء الذين لا يشتركون في القتال فإن مودتهم لا تنقطع، وكان النبي عليه السلام لا يقطع البر حتى عند الاختلاف، وفي الحرب، وعند الهدنة.‏

الثاني : واجب الوفاء بالعهد :‏
المعاهدة هي اتفاق بين طرفين أو أكثر ، تتضمن التزامات متبادلة بينهم ، وتنظيم العلاقة بين أطرافها . وتمثل المعاهدات ، بصورة عامة ، الأهداف والمصالح التي يجب بلوغها وحمايتها بواسطة الاتفاق أو العهد أو الامتياز . وتعكس المعاهدات بوضوح طبيعة الأفكار السائدة والأنظمة السياسية للدول في فترة تاريخية معينة . فالمعاهدات تمثل وثائق هامة تجسد المبادئ والقواعد التي كانت تحكم العلاقات الدولية بين الأمم والحكومات . وما تزال الاتفاقيات تمثل مصدراً رئيساً في القواعد القانونية الدولية ، وتلعب دوراً هاماً في العلاقات الدولية .
وعبر عصور طويلة ، مارست الدول الإسلامية توقيع الاتفاقيات والمعاهدات مع الدول غير الإسلامية . وتضمنت تلك الاتفاقيات التزامات وقواعد وشروطاً ومبادئ عديدة ، بشكل يمثل تطوراً في القانون الدولي الإسلامي . ومن خلال التركيز على معاهدات معينة ، يمكن اعتبارها خطوات متقدمة في تطوير القانون الدولي الإسلامي ، وقبول مفاهيم جديدة ، بشكل يجعل الباحث يتصور طبيعة الظروف التاريخية التي جعلت تلك الدول توقّع هذه المعاهدة أو تلك .
ولقد عرف الإسلام المعاهدات السلمية في السنوات الأولى من تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة ، إذ عقد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اتفاقيات سلمية مع الجماعات غير الإسلامية. وقد اعتبرت معاهدة الحديبية قدوة ومثالاً لدى الخلفاء والفقهاء عند عقد الاتفاقيات ، وإجراء المفاوضات ، ومدة المعاهدات السلمية مع غير المسلمين . عقدت معاهدة الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومشركي مكة ، قريش ، في عام (6 هـ /627 م) ، وكانت مواد المعاهدة تتضمن ضماناً من كلا الطرفين بعدم مهاجمة الطرف الآخر . فرسخت الأمن والسلام الذي كان الطرفان بحاجة إليه ، بعد أن شهدت الجزيرة العربية صراعاً عنيفاً وحروباً ومعارك ضارية بين المسلمين والمشركين .
وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد عقد معاهدات أخرى مع اليهود والمسيحيين ، سواء المقيمين داخل الجزيرة العربية أو خارجها ، وخارج حدود دولة المدينة . فقد عقد صلى الله عليه وآله وسلم) اتفاقية سلمية مع نصارى نجران عام (10 هـ/ 631م) ، ومع يهود فدك وأيْلة وتيماء ([22])، ومع بني صخر من كنانة([23]) .
وكانت تلك الاتفاقيات تضمن لهم حكماً إدارياً ذاتياً واستقلالا عن دولة المدينة . لقد كان بإمكانهم الاستمرار بتطبيق قوانينهم على أراضيهم . ولم تكن الجزية إلزامية في كل الاتفاقيات والمعاهدات مع أهل الكتاب ، ففي معاهدة المدينة بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويهود المدينة وأطرافها ، وهي أول معاهدة سلمية للدولة الإسلامية ، لم تتضمن دفع جزية ، بل يمكن اعتبارها «معاهدة صداقة» ، وبروتوكولاً ينظم العلاقة والصلاحيات والامتيازات الممنوحة لليهود داخل الدولة الإسلامية . وكان من شأنها ترسيخ الأمن والسلام ، إذ لم يسبقها عداء أو حرب مع اليهود ، لولا نكث اليهود لها فيما بعد ([24]).
كما أن المعاهدة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع بني ضمرة، لم تتضمن دفع جزية ، بل اقتصرت على نصرة الطرفين أحدهما للآخر ، وعدم مهاجمته([25])، وعقدت نفس المعاهدة مع بني غِفار ، وبالشروط نفسها([26]).
أما العلاقات السلمية مع الحبشة ، الدولة المسيحية ، فقد استمرت قروناً دون معاهدة مكتوبة . ففي العهد المبكر للإسلام ، هاجر إلى الحبشة حوالي 80 صحابياً هرباً من تعذيب قريش لهم، وبحثاً عن ملجأ آمن ، حيث أمضوا هناك سنوات . فكان موقف المسلمين هو الشكر والعرفان بالجميل ، حتى إنهم اعتبروا الحبشة مصونة عن الجهاد والفتوحات العسكرية ، فلم يتعرضوا لها ، حتى في أوج قوة الدولة الإسلامية في العصر العباسي، ويعود ذلك إلى موقف الطرفين السلمي ، ففي حين امتنع المسلمون عن مهاجمة الحبشة استجابة لحديث ينسب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مضمونه : " لا تهاجموا الحبشة ما دامت لم تهاجمكم ".
من ناحية أخرى ، اعتمدت الحبشة سياسة سلمية ، فلم تفكر بمهاجمة الدولة الإسلامية ، رغم أنها لديها خبرة في ذلك ، إذ كانت تحتل اليمن لقرون طويلة قبل الإسلام ، وأسست فيها حكومة حبشية مسيحية . وحاول أبرهة الحبشي مهاجمة مكة عام 570 م، سعياً لهدم الكعبة المقدسة . وبقيت تلك الحادثة التاريخية ماثلة في أذهان العرب، حتى سمي ذلك العام بعام الفيل.
وقد عقد الخلفاء المسلمون بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاهدات سلمية رغم أن القوة التي كان يتمتع بها المسلمون وقتها تسمح لهم باستمرار القتال . فقد عقد حاكم مصر ، عبدالله بن سعد بن أبى سرح ، في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، معاهدة سلمية مع أهل النوبة (السودان) تضمنت إقرار السلم بعد معركة طاحنة «فسألوه الصلح والموادعة ، فأجابهم إلى ذلك على غير جزية ، لكن على هدية ثلاثمائة رأس في كل سنة ، وعلى أن يهدي المسلمون إليهم طعاماً بقدر ذلك([27])، وبقيت تلك المعاهدة سارية المفعول ، يحترمها الطرفان ، لمدة 600 عام ، حتى وصول الحكم الفاطمي في مصر (969 ـ 1172 م). فإذا كان سبب قبولها عجز المسلمين عن فتح بلاد النوبة ، فإن استمرارها رغم وصول المسلمين إلى درجة القوة أكبر دليل على اعتقادهم بمشروعيتها ، وعلى أن السلام يمكن أن يقع بين المسلمين والكافرين بدون اشتراط الجزية، إذا التزم الكافرون بعدم الإعانة ضد المسلمين وبعدم التعرض للدعوة الإسلامية([28]).
وفي عام (28 هـ/ 648 م) عقد المسلمون معاهدة سلمية مع سكان جزيرة قبرص ، والذين لم يدفعوا الجزية ، ولم يعتبروا من أهل الذمة . فكانوا يؤدون خراجاً قدره 7200 دينار سنوياً ، ثم نقضوا العهد لمساعدتهم الروم ضد المسلمين ، فغزاهم معاوية عام (33 هـ/ 654 م) ففتح الجزيرة وأقرهم على الشروط السابقة . ولما تولى عبد الملك بن صالح ولاية قبرص ، قام بعض أهلها بالثورة عليه ، فاستشار عبد الملك الفقهاء في شأن إلغاء معاهدتهم لنكثهم العهد ، فأشار عليه أكثر الفقهاء ـ ومنهم الإمام مالك ـ بالإبقاء على العهد والكف عنهم . وعلل موسى بن عيين ذلك بأن أهل قبرص ليسوا أهل ذمة رغم أنهم كانوا يدفعون خراجاً إلى المسلمين . وهكذا بقيت قبرص على شروط الصلح رغم نقضها العهد ، ولم يلتزم أهلها بعقد الذمة وبدفع الجزية لمصلحة قدرها المسلمون ([29]).
وفي عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، عقد المسلمون معاهدة صلح مع الجراجمة ، وهم قوم غير مسلمين ، كانوا يسكنون جبل اللكام على الحدود بين بيزنطة والدولة الإسلامية . وكانوا يعيشون شبه مستقلين ، مع استعداد مسبق لخدمة الإمبراطورية البيزنطية . وقد نصت الاتفاقية المعقودة معهم «على أن يكونوا أعواناً للمسلمين ، وعيوناً (جواسيس) ومسالح (دوريات عسكرية) في جبل اللكام . وأن لا يؤخذوا بالجزية (لا يدفعوا الجزية) ، وأن ينفلوا (يُعطوا) أسلاب (غنائم) من يقتلون من عدو المسلمين ، إذا حضروا معهم حرباً في مغازيهم» ([30]).
لقد كان الجراجمة يمثلون خطراً جدياً دفع الخليفة الأموي الأول معاوية إلى دفع مقابل لهم لتفادي شرهم([31]).

([1]) مجيد خدوري (القانون الدولي الإسلامي) / ص 53.

([2]) المبسوط للسرخسي المجلد العاشر صـ 2.

([3]) سورة البقرة الآية :208.

([4]) سورة المائدة الآية : 2.

([5]) سورة البقرة الآية : 190‏.

([6]) سورة الحجرات الآية : 13‏.



([7])سورة الحجرات : جزء من الآية : 13.

([8]) سورة المائدة الآية : 2.

([9]) ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح ج 10 صـ 450، وذكره ابن قدامة في المغني ج 4 صـ207.

([10]) سورة البقرة الآية : 33.

([11]) سورة فصلت الآية : 34.

([12]) سورة الإسراء الآية : 70.

([13]) سورة الحجرة الآية : 85.

([14])سورة الحجرات : جزء من الآية : 13.

([15])سورة البقرة الآية : 194.

([16])سورة المائدة الآية : 8.

([17])أخرجه البخاري في صحيحه، ج 2 صـ 864 ، ومسلم في صحيحه ج 4 1996.

([18])سورة البقرة الآية : 194.

([19])مسند الشهاب ج 1 صـ 322، وذكره الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب ج 3 صـ 499.

([20])ذكره البيهقي في شعب الإيمان ج2 صـ 145 بلفظ : " أنا نبي التوبة وأنا نبي الملحمة "، وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول في أحاديث الرسول ج 3 صـ 152.

([21]) سورة الممتحنة الآية : 8.

([22]) حميد الله ،State", p. 266 of Conduct "Muslim.

([23])سيد قطب ، «في ظلال القرآن» / ج 10 / ص 123.

([24])ورغم أن الكتابات والدراسات تعتبرها مثالاً على الاتفاقيات الخارجية ، إلا أنها ليست كذلك، لأن اليهود لم يكونوا طرفاً دولياً بل هم مواطنون تابعون للدولة الإسلامية.

([25]) علي بن حسين علي الأحمدي ، «مكاتيب الرسول» / ص 385.

([26]) علي بن حسين علي الأحمدي ، «مكاتيب الرسول» / ص 353.

([27]) أبو الحسن البلاذري ، «فتوح البلدان» / ص 238.

([28]) فيصل المولوي ، «الأسس الشرعية للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين» / ص 86.

([29]) فيصل المولوي / مصدر سابق / ص 86 ـ 87 .

([30]) البلاذري ، «فتوح البلدان» / ص 164.

([31]) طلعت الغنيمي ،p. 44 Law", International of Conception "The Muslim.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59