عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 07-01-2012, 11:59 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي


الفصل العاشر-

حول (الهاء والذال)
في ضمائر الغائب وأسماء الإشارة




بعد أن استعرضنا خصائص (الكاف) ومعانيها في أسماء الكناية بقي علينا أن نلاحق (الهاء والذال) في الأسماء التي تشاركان في تراكيبها، مما له أهميته ودلالاته المميزة والكثير الاستعمال. ولكن يستحسن بنا أن نعود للحديث بإيجاز شديد عن دور حرفي (الهمزة والنون) في ضمائر المتكلم والمخاطب، للمقارنة بينه وبين دور (الهاء والذال) في ضمائر الغائب وأسماء الإشارة و ذلك للكشف عن بعض ملامح الأصالة والحداثة في هذا القطاع اللغوي البالغ الدقة والحساسية.
لقد سبق أن تحدثنا عن الأصل في إبداع ضمير المتكلم (أنا)، والمخاطب (أنت) وعرضنا في حينه أن العربي قد وضع (الهمزة) ذات الصوت الانفجاري في أولهما تعبيراً عن الظهور والبروز والفعالية والحضور، ثم أتبعها بـ (النون) تعبيراً عن الصميمية، إشارة إلى الذات- الإنسانية في المتكلم والمخاطب على حد سواء، وكان من أقطع الأدلة على الذاتية الإنسانية في (النون) استعمال (مَنْ) للعاقل و(ما) لغير العاقل.
ولكن العربي قد خصّ ضمير المتكلم بـ (الألف اللينة) في آخره. مما يوحي بالامتداد إلى الأعلى فصار (أنا). أمّا المخاطب فقد خصه بـ (التاء) الضعيفة الرقيقة في آخره فصار (أنت). وذلك إصراراً من العربي على وضع المخاطب إطلاقاً في موقع (صوتي اجتماعي لغوي) أقل شأناً من موقع المتكلم. فكان معنى (أنا) هو: (الذات الإنسانية الحاضرة بوضوح وتعال) وذلك في مواجهة المخاطب الحاضر الأخفض مقاماً منه، كما ألمحنا إلى هذه المقابلة بينهما أكثر من مرة.
أما (نحن)، فهي لجمع المتكلم: (النون) الأولى للصميمية تعبيراً عن الذات الإنسانية، كما في (أنا). أما (الحاء) فمن موحيات صوتها الجميل الحُبُّ والحنين والحرارة، ومن معانيها الإحاطة كما أسلفنا في (حتى). بما يتوافق مع خصوصية جمع المتكلم. و(النون) الثانية في نهاية (نحن) هي للكثرة قريباً من وظيفة (النون) في نهاية جمع المذكر السالم فكانت خصائص أحرف (نحن) تتوافق مع الصميمية الذاتية والعاطفة الإنسانية بكثير من الرقة والأناقة والجمال والإحاطة وليس ثمة لفظة عربية. هي أحوى منها للقيم الجمالية والإنسانية، مما يشير إلى تعظيم الإنسان العربي ومحبته للجماعة التي ينتمي إليها، أسرة كانت أو قبيلة أو أمة.
كما عرضنا في حينه أن العربي قد حرم ضمير الغائب من (الهمزة) للظهور والحضور والعيانية ومن (النون) للذات الإنسانية. فأبدع له كلمة (هو)، دون أن نعلل سبب ذلك لعدم المجال وقد صاحبت (الهاء) ضمائر الغائب جميعاً في أوائلها على مثال ما صاحبت (التاء) ضمائرَ المخاطب جميعاً في نهاياتها.
فلماذا تصدرت (الهاء) ضمائر الغائب:

لا بد لنا أولاً من الكشف عن خصائص (الهاء) الصوتية، وعن معانيها المعجمية، ثم عن استعمالاتها التراثية، وذلك لمعرفة السبب الحقيقي الذي جعل العربي يخص ضمائر الغائب بهذه (الهاء).
أولاً- حول خصائص (الهاء) الفطرية وموحياتها الصوتية:

تختلف خصائص (الهاء) وموحياتها الصوتية، وبالتالي معانيها، تبعاً لكيفية النطق بها. فإذا لفظ صوتها مشبعاً مشدداً على مخرجه، غير مخنخن به، أوحت اهتزازاته المتواترة بالاهتزاز والاضطراب والسحق والقطع والكسر والتخريب، وبما يماثلها من الأصوات الشديدة التواتر العالية النبرة.
وإذا لفظ صوتها باهتزازات رخوة مضطربة، دونما خنخنة، أوحى بمشاعر إنسانية من حزن ويأس وبما يحاكيها من الأصوات.
وإذا لفظ صوتها مخففاً مرققاً مطموس الاهتزازات، ولا سيما إذا وقعت ضميراً في نهاية الكلمات أوحى صوتها بأرق العواطف الإنسانية وأملكها للنفس. فصنفتها في فئة الأحرف (الشعورية للمعاني الجيدة) انظر (الإطلالة ص65-66).
أما إذا لفظ صوتها بطريقة تهكمية مخنخناً به فهو يصبح أوحى أصوات الدنيا باللاضطرابات النفسية وبما يدعو للسخرية من مظاهر الهبل والهتر والتشوهات والعيوب النفسية والعقلية والجسدية.
ثانياً- فماذا عن كل ذلك في معانيها المعجمية؟

باستعراض معاني المصادر الجذور التي تقع (الهاء) في أولها ووسطها وآخرها، وقد بلغت في المعجم الوسيط (574) مصدراً كان منها(350) مصدراً جذراً للمعاني الرديئة من (التشوهات والعيوب الجسدية والاضطرابات والعيوب النفسية والعقلية والأخلاقية والتخريب" بما نسبته (60%) مما يصح معها أن نطلق على (الهاء) المصحّ (العقلي) في اللغة العربية، قد فرد العربي فيه جناحاً خاصاً للتشوهات الجسدية، ولا يضير هذه التسمية أن نعثر على بضعة عشر كلمة للمعاني الجسدية كما في (هدى، هلَّ، هام..) على مثال ما نعثر في المصح على بضعة عشر طبيباً وممرضاً.
ثالثاً- حول معاني (الهاء) التراثية:

(الهاء) لدى الأنطاكي في محيطه على ثلاثة أوجه:
أ-أن تكون ضميراً للغائب، وتستعمل في موضعي الجر والنصب كقوله تعالى: "قال له صاحبه وهو يحاوره"
ب-أن تكون حرفاً للغيبة، وهي (الهاء) في (إياه).
ح-أن تكون للسكت. وهي حرف ساكن يلحق أواخر بعض الكلمات عند الوقف عليها، نحو:
(وازيداه). وربما وصلوها، كقول المتنبي:
"واَحرَّ قلباه مِمَّن قَلبُه شبِمُ..)
ولكن هذه المعاني الفقيرة لـ (الهاء) واستعمالاتها التراثية المحدودة، لا تكشف لنا عن السبب الحقيقي الذي جعل العربي يضعها في صدارة ضمائر الغائب.
فماذا عن (الهاء) في ضمائر الغائب؟
لقد وضع العربي (الهاء) في مقدمتها جميعاً، وذلك للإفادة من خاصية الاهتزاز في صوتها، إثارة لانتباه السامع إلى ما يقصده المتكلم ممن لا حضور له من إنسان أو حيوان أو جماد.
وقد أضاف (الواو) ذات الفعالية الصوتية إلى (الهاء) للغائب المفرد، دعماً لها في إثارة الانتباه. أما الغائبة فقد أضاف لها (الياء) غضاً للصوت عن الأنثى وتقليلاً من شأنها في مواجهة الغائب.
وذلك على مثال ما خص (تاء) المخاطبة في (أنتِ) بالكسرة.
ويبدو لي أن جمع الغائب (هم) وجمع المخاطب (أنتم) كانا أقدم في الزمن من مثناهما (هما- أنتما). وذلك أخذاً بنهج العربي في الانتقال بمفرداته من قليلات الحروف إلى كثيراتها، كما أسلفنا مراراً مما يشير إلى أن الأسر في المجتمع العربي (الزراعي) كانت موسعة من (الأجداد والأبناء والأحفاد..) ثم انتقل في مرحلة الرعي المشردة مضطراً إلى الأسر الضيقة من زوج وامرأته.. ومما يدعم هذا التعليل أن الأمم الأخرى التي لم تمارس حياة الرعي لم تبدع للمثنى مفردة خاصة به، فهو في لغاتها الراقيه من الجموع.
هذا مع الإشارة إلى أن وضع (الهاء) في مقدمة ضمائر الغائب لا يخلو من الغمز المبطن بمقامه الاجتماعي لا سيما وأنه يدل على (الإنسان والحيوان والجماد)، على العكس من ضمائر المتكلم والمخاطب المختصة أصلاً بالإنسان برعاية (النون) وحمايتها، وإن جاز مخاطبة الحيوان والجماد.
وما أحسب أن ثمة حقلاً تجريبياً هو أصلح من (أسماء الإشارة) لاختبار صلاحية (الهاء) في إثارة انتباه السامع، ولمعرفة مدى اعتماد هذه الخاصية في هذا المضمار دونما غمز مبطن أو غير مبطن.
4-الهاء والذال في أسماء الإشارة:

باستعراض أسماء الإشارة نلاحظ أن (الهاء والذال) تدخلان في تراكيب معظمها، مما يشير إلى أن ثمة علاقة معينة بين خصائصهما وبين معاني هذه الأسماء.
فما هو القاسم المشترك بين الخصائص الصوتية لهذين الحرفين:
لقد تحدثنا عن خصائص (الهاء) بما فيه الكفاية، وبقي أن نتحدث عن الذال الملثوغة:
أ ـ حول خصائص (الذال) ومعانيها:

يتشكل صوت (الذال) باحتكاك النفَس بين طرف اللسان والأسنان العليا بذبذبة صوتية أقل حِدّة من (الزاي)، وأعذب جرساً من صوتها.
وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرنا على (58) مصدراً جذراً تبدأ بالذال، وما أقلها، قد وزعت معانيها على الشكل التالي:
اًـ(18) مصدراً لمعاني الاهتزاز والاضطراب والتحرك السريع، بما يتوافق مع ظاهرة الاهتزاز في صوت (الذال) الملثوغة. كما في (ذأل (مشى مسرعاً) ذبّ ـ ذعذعه ـ ذحجته الريح.
2ًـ(11) مصدراً لمعاني البعثرة والانتشار، بما يتوافق مع بعثرة النفَس أثناء خروج صوتها، مثل: ذرّ.ذاع.
3ًـ(19) مصدراً لمعاني القطع والشدة والفعالية، بما يتوافق مع خاصية القوة والفعالية والاهتزاز في موحيات صوتها كما في: ذبح ـ ذحَّ ـ ذربَ ـ الذكورة ـ ذلِقَ. بما نسبها جميعاً(80%)..
وإذن فإن القاسم المشترك بين (الهاء، والذال)، هو خصائصهما الفطرية من الاهتزاز والذبذبة والتخريب في صوتيهما، مما يثير انتباه السامع واهتمامه. وذلك إمّا إلى غائب لا حضور له إلا في الذهن بفعل (الهاء) كما في (هو)، وإما إلى حاضر يعينه المتكلم بالإشارة إليه بفعل (الذال)، كما في (ذا)..
ب ـ في التطبيق على أسماء الإشارة:

إن اسم الإشارة، ((هو اسم يدل على معيّن مصحوباً لفظه بإشارة حسية باليد ونحوها، إن كان المشار إليه ذاتاً حاضرة نحو: خذْ هذا الكتاب، أو بإشارة معنوية إنْ كان المشار إليه معنى أو ذاتاً غير حاضرة: نحو: سِرْ هذه السيرة))..
أولاً ـ أسماء الإشارة التي تبدأ بالذال:

آ ـ للمفرد المذكر: (ذا) للقريب، (ذاك) للمتوسط البعد. قد أضيفت (الكاف) لإعطاء السامع فسحة معتدلة من الزمن تتوافق مع المسافة التي تفصل المتكلم عن الذات أو الأمر المعني بالإشارة. (ذلك) للبعيد، قد أضيفت (اللام والكاف) لإعطاء السامع فسحة أطول في الزمن بما يتوافق مع المسافات البعيدة.
وهكذا الأمر بمعرض إضافة (الكاف واللام) للمتوسط البعد فالبعيد في بقية أسماء الإشارة، سواء ما ابتدأ منها بـ(الهاء)، نحو (هناك هنالك) أو (التاء)، نحو (تيك تلك) أو (الذال) نحو (ذانك).
وهذا يثبت أن العربي كان يضيف بعض الحروف إلى جذور كثيرة من الكلمات لإعطاء السامع فسحة أطول في الزمن تتناسب مع الفسحة في المكان المقصود كما في (إلى) أو مع العدد المقصود كما في (هؤلاء) كما سيأتي وشيكاً وذلك: ((سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد))، كما قال (ابن جني).
لابل لو أمعنا النظر في دلالات مزيدات الفعل الثلاثي، لوجدنا أن العربي قد أضاف إلى الفعل المجرد حرفاً أو أكثر لمنح الحدث المقصود فسحة في الزمن تتناسب مع الوقت اللازم لإنجازه، ولإعطاء الذهن بالتالي فسحة مقابلة في الزمن لاستيعاب معناه الجديد. فوزن (استفعل) نحو: (استكتب) يحتاج وقوعه واستيعاب معناه إلى زمن أطول مما يحتاجه فعل (كتب)، وهكذا الأمر مع أوزان: فعَّل ومفعال للمبالغة وفاعل للمشاركة ـوانفعل وافتعل للمطاوعة، واستفعل للطلب أو للدخول في حالة (استحجر).
ب ـ للمثنى المذكر: ذان ـ ذين وذانّ ـ ذينّ (للقريب). ذانك (للبعيد)..
ح ـ للمفرد المؤنث: ذِهِ ـ ذِهْ. ولاشيء للجمع، مما يبدأ بالذال.
ومما سبق يتضح أن الفعالية في منح الأسماء أعلاه دلالة الإشارة تعود إلى خاصية الاهتزاز في صوت (الذال)، التي من شأنها إثارة انتباه السامع إلى الموضوع المشار إليه.
أما الأحرف الأخرى في أسماء الإشارة التي تتصدرها (الذال)، مثل (الكاف واللام)، فهي لمجرد وضع المشار إليه في إطاره المكاني: (قريباً، أو متوسط البعد، أو بعيداً)..
وأما (الهاء) في نهاية (ذِهْ ـ ذهِ) للمفرد المؤنث، فهي لمجرد التأنيث، لا شأن لها في إثارة الانتباه، لأن صوتها في هذا الموقع، يلفظ برقة لا يكاد السمع يلتقط اهتزازاته مراعاة للحشمة في الأنوثة.
ثانياً ـ أسماء الإشارة التي تبدأ بالهاء:

للمفرد المذكر: هذا.
للمثنى المذكر: هذان، هذين ـ هذانّ، هذينّ.
للمفرد المؤنث: هذهِ، هذهْ ـ هاتِهِ هاتِهْ.
للمثنى المؤنث: هاتان، هاتين ـ هاتانّ، هاتينّ.
لجمع المذكر والمؤنث: هؤلاء، هؤلى.
تحليل وتمحيص:

يلاحظ أن أسماء الإشارة التي تتصدرها (الهاء) للمفرد المذكر ومثناه (هذا ـ هذان)، قد أضيفت (الذال) إليها، فتآذرت بذلك اهتزازاتهما الصوتية في إثارة انتباه السامع، إلى أمر أو شيء معين، بمزيد من الشدة. فـ(الهاء) في مقدمة أسماء الإشارة تلفظ (ها) وهي حرف للتنبيه أصلاً.
أما (الهاء) في نهاية (هذهِ ـ هذهْ) للمفرد المؤنث، فهي كما أسلفنا في: ((ذِهْ ـ ذِهِ) لمجرد التأنيث بحشمة.
كما أن (تاء ) التأنيث في (هاتِهِ) وشقيقاتها قد جاء العربي بها للتطليف من إثارة الانتباه إلى ماهو معنيٌّ من الأشياء والأمور المؤنثة، غضَّاً للصوت، كغضِّ البصر عنهن في المجتمع الرعوي. فصوت (تاء) التأنيث، كصوت (الثاء) الأنثوية، إنما هو أكثر رقة وحشمة من صوت (الذال) الجهوري الذكوري.
أما (هؤلاء وهؤلى)، لجمع المذكر والمؤنث للعاقل وغير العاقل، فإن أصلها ((أولاء ـ أولى) قد أضيف حرف التنبيه (ها) إلى مقدمتهما، لتتضافر بذلك الاهتزازات الصوتية في (الهاء) مع الانفجار الصوتي في (الهمزة)، لإثارة انتباه السامع بمزيد من الشدة. وأما مقطعاً (لاء ـ لى)، في نهايتيهما فلإعطاء ذهن السامع فسحة في الزمن كيما يتصور المزيد مما أشير إليه بهما من جمع المذكر والمؤنث للعاقل وغير العاقل.
كما أن أسماء الإشارة للمكان: (هنا ـ ههنا ـ هناك ـ هنالك) لا تخرج أحكامها عما لحظناه في الأسماء السابقة، سواء من حيث خاصية (الهاء) في إثارة الانتباه، أو من حيث إضافة (الكاف، ثم اللام والكاف) للمسافات المناسبة. أما الزعم بأن (الكاف) هنا هي للخطاب كما جاء في المحيط، فذلك لمجرد التوافق بين (كاف) الخطاب في (كتابك)، وبين (الكاف) في (هناك) للمسافة فأسماء الإشارة جميعاً موجهة أصلاً إلى مخاطب مفترض، لا فرق في ذلك بين (هنا) و(هناك) ولا بين (ذا) و(ذاك) إلا مسألة البعد.
ولكن ماذا عن أسماء الإشارة التي تتصدرها (التاء)؟
لقد اقتصرت على المفرد والمثنى للمؤنث فقط، وهي:
1 ـ للمفرد المؤنث: تِه ، تِهِ ـ تيك ـ تلك.
2 ـ للمثنى المؤنث: تان، تين ـ تانّ ـ تينّ ـ تانكْ.
ولا شيء للمفرد المذكر ومثناه، ولا لجمع المؤنث أو المذكر.
ويبدو لي أن العربي قد أجاز لنفسه استخدام (التاء) للمؤنث في صدارة أسماء الإشارة آنفة الذكر لاعتبارات تتعلق بالخصائص الأنثوية في (التاء) من ضعف ورقة وحشمة. ولم يجز ذلك للمذكر لتعارضها مع الخصائص الذكورية الرعوية.
حول دلالات استعمالات الضمائر المنفصلة للغائب:

1 ـ هو: للمفرد المذكر. (الواو) في نهايته للفعالية، للعاقل وغير العاقل.
2 ـ هي: للمفرد المؤنث: (الياء) للاستكانة. وتستعمل (هي) أيضاً لجمع الغائب غير العاقل مذكراً كان أو مؤنثاً، استهانة واستخفافاً به.
3 ـ هم: لجمع المذكر العاقل. (الميم) في نهاية المصادر للجمع والضم. وتستعمل (هم) لجمع الخليط من الذكر والإناث، إلحاقاً للإناث بالذكور.
4 ـ هما: لمثنى المذكر والمؤنث. أصلها (هم)، قد أضيفت (الألف اللينة) للفصل بين الجمع والمثنى فتكون (هم) أسبق في تاريخنا اللغوي من (هما) كما أسلفنا.
5 ـ هنّ: لجمع المؤنث العاقل حصراً. (النون) للرقة والأناقة، وللذات الإنسانية أصلاً، بمقابل ما جعل (هي) للعاقل وغير العاقل. وذلك لأن (الياء)، وإن كانت للاستكانة بما يتوافق مع الخصائص الأنثوية إلا أنها لا تحمل الهوية الإنسانية على مثال ما تحملها (النون) في ضمائر المتكلم والمخاطب، وفي (مَنْ) للعاقل كما أسلفنا. وهكذا أجاز العربي استعمال (هي) للمؤنث غير العاقل)، على العكس من (هنّ) ـ لمؤنث العاقل حصراً. بفعل (النون).
تنويه لابد‍َّ منه:
لقد أشرنا في دراسة (الهاء) إلى أن العربي قد أكثر من استعمالها معجمياً للمعاني الرديئة، بما يتوافق مع طريقة النطق بصوتها (مهتزاً، مضطرباً، مخنخناً به). وأنه قد وضع (الهاء) في مقدمة ضمير الغائب غضاً ضمنياً بمقامه الاجتماعي بمواجهة المتكلم والمخاطب.
على أن العربي قد استعمل (الهاء) أحياناً قليلة للمعاني الجيدة بما يتوافق مع طريقة النطق بصوتها في أول الحلق (مخففاً، مرققاً، مطموس الاهتزازات) ليكون أوحى الأصوات بالخشوع والحنين. فاستعمل لفظة (ياهو) للتوسل بالذات العلية. وذلك على مثال ما استعمل (الخاء) المختصة أصلاً بالمعاني الرديئة ((للخير والخصب والخفر) وما إليها
وتعليق لابد منه:
ما أحسب أن ثمة قطاع لغوي هو الكشف عن المضامين الاجتماعية في اللغة العربية من قطاع حروف المعاني وأصول استعمالاتها، ولاسيما أسماء الإشارة والضمائر.
فلقد تخير الإنسان العربي الحروف والصيغ المناسبة للتعبير عن مقاصده ومعانيه بما يتوافق مع عاداته وتقاليده (الرعوية ـ الذكورية)، مما أتّاح لنا في جملة ما أتاح، إلقاء الأضواء على تاريخه المنسي، إن لم نقل المجهول، بصدد تطوره الاجتماعي في جزيرته العربية.

¡¡





الفصل الحادي عشر-

متفرقات ـ
(الهمزة ـ هَلْ ـ لَوْ)




لقد محصنا حتى الآن (63) حرفاً معنوياً و(7) من أسماء الكناية و(5) من ضمائر الغائب وأربعين مفردة من أسماء الإشارة بما مجموعه (119) حرفاً واسماً وكانت الخصائص الفطرية للحروف العربية التي شاركت في تراكيبها تتوافق مع معانيها واستعمالاتها، ما شذّ عن ذلك إلا قلة قليلة منها اعتبرناها مصطلحات على معان أو معاني شاذة لا يؤبه لها.
وعلى الرغم من ذلك رأيت أن أتحدث أيضاً وبشيء من التفصيل عن ثلاثة أخرى من حروف المعاني، هي: (-الهمزة هل-لو): وذلك ليس لإقناع القارئ، بصحة هذه العلاقة بين معانيها التراثية، وخصائص الأحرف ـ التي تشارك في تراكيبها، وإنما لكثرة استعمالاتها وتفرعات معانيها، مما لا غنى لأي كاتب أو مثقف عربي عن معرفة أصولها الفطرية كيما يحسن التعامل معها ويتقنه.
1 ـ الهمزة:

أولاً ـ حول خصائصها ومعانيها الفطرية:

باستعراض معاني المصادر الجذور التي تبدأ بـ(الهمزة) في المعجم الوسيط لم نلحظ أي تأثير يذكر لخصائصها الصوتية في معانيها، مما جعلنا نتوهم أنها من الأحرف الضعيفة الشخصية. على أنه كان لهذه الخصائص تأثيرها البالغ في القطاع الصرفي ـ النحوي، كما لحظنا ذلك في حروف المعاني وضمائر المتكلم والمخاطب التي تصدرتها (الهمزة)، فماذا عن خصائصها ومعانيها؟
إن (الهمزة) المزمارية المخرج ذات صوت انفجاري. وهو كأي صوت انفجاري في الطبيعة يوحي بالحضور والعيانية والوضوح، وذلك بما يثيره من الانتباه في سمع السامع وفي ذهنه. فكانت (الهمزة) في مقدمة ضمائر المتكلم والمخاطب: ((أنا ـ أنت..)). وفي مقدمة أربعة من أحرف النداء السبعة. كما كانت في مقدمة ستة أسماء من الألوان الطبيعية السبعة، هي: ((أبيض ـ أسود ـ أحمر ـ أخضر ـ أزرق ـ أصفر))، وذلك لخاصية الوضوح في صوت (الهمزة)، كما أسلفنا.
ولما كان صوتها يترافق خروجه مع انفراج الفكين عن بعضهما بعض في حركة إلى الأعلى، فإنه يشير إلى البروز ويوحي به، كمن يقف على تُكأة. وهذا الموقع الذي تتبوأه في السمع بموحياته البصرية، يمنحها فعالية خاصة يجعلها صالحة للتعالي على الآخرين في (افعل التفضيل)، نحو: ((زيد أكرم من عمرو))، وللاعتداء عليهم، فكانت من أحرف التعدية، كما في قوله تعالى: ((فأجاءها المخاض إلى جِذع النخلة)).
ثانياً ـ حول معانيها واستعمالاتها التراثية:

يسميها (ابن هشام) تارة (الهمزة)، وتارة أخرى: (الألف المفردة) وتأتي على وجهين:
أ ـ حرف ينادي به القريب: نحو ((أفاطم مهلاً)) وقد مرَّ ذكرها مع أحرف النداء.
ب ـ للاستفهام: وهو على وجهين اثنين:
1 ـ للاستفهام الحقيقي:وهو طلب الفهم، نحو ((أزيد قائم)). والهمزة هي أصل أدوات ـ الاستفهام، ولها أربعة أحكام:
أ ـ جواز حذفها إذا تقدمت على (أم) كقول مجنون ليلى.
((بدا ليَ منها مِعْصَم حينَ جَمَّرتْ



وكَفٌّ خَضيبٌ زُينَّتْ بِبَنانِ)).


((فو اللهِ ما أدري وإنْ كنتُ داريا



(بِسَبعٍ) رَميتُ الجَمْرَ أمْ بثمانِ)).


أرادَ (أبسبع)). كما يجوز حذفها وإن لم تتقدم على (أَمْ)، نحو:
((طرِبتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطربُ



ولا لَعِبَاً منّي (وذو) الشيبِ يلعبُ)).


أراد (أو ذو) الشيب يلعب؟
ب ـ إنها ترد بطلب التصور. وهو (السؤال عن شيء)، نحو: ((أزيد قائم)). والشيء هنا هو زيد). كما ترد لطلب التصديق، وهو (السؤال عن الحدث)، نحو: ((أقائم زيد)). فالحدث هن هو (القيام)، القابل للتصديق والتكذيب. على العكس من (الشيء) في (زيد) فهو من حيث ذاته ليس موضوعاً للتصديق والتكذيب، وإنما للتصور، فيما إذا كان ((قاعداً ـ قائماً ـ نائماً ـ محتبْياً..)). وإن باقي أدوات الاستفهام مختصة بطلب التصور باستثناء (هل) فهي مختصة بطلب التصديق حصراً.نحو: ((هل قام زيد)). ولا يقال: ((هل زيد قام))، كما سيأتي:
ج ـ تدخل على الإثبات، كقوله تعالى: ((أَلَمْ نشرح لك صدرك))
(94)؟ وعلى النفي، نحو: ((أقائم زيد أم لم يقم))؟..

د ـ يجب تصديرها على كل شيء، حتى على أحرف العطف، كقوله تعالى: ((أفلم يسيروا في الأرضِ..))(95).
2 ـ الاستفهام غير الحقيقي: وهي ترد على ثمانية معان، وهي:
أ ـ التسوية: كقوله تعالى: ((سواء عليهم (أستغفرت) لهم، أم لم تستغفر لهم))(96).
ب ـ الإنكار الإبطالي، كقوله تعالى: ((فاستفتهم (ألربك) البنات ولهم البنون)).(97).
ج ـ الإنكار التوبيخي، كقوله تعالى:((أتعبدون ما تنحتون))(98).
د ـ التقرير ـ ومعناه حملك المخاطب على الإقرار بما أنت عالم به، كقوله تعالى: ((أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم)).(99).
هـ ـ التهكم كقوله تعالى: ((أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا)).(100).
وـ الأمر، كقوله تعالى: ((أأسلمتم))، أي أسلموا.(101).
ز ـ التعجب، كقوله تعالى: ((ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل))(102).
ح ـ الاستبطاء، كقوله تعالى: ((ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشعَ قلوبهم لذكرِ الله)).(103).
في الخلاصة:

وهكذا فإن معاني (الهمزة) وضروب استعمالاتها التراثية تتوافق إلى حد بعيد مع خصائصها الصوتية في الانفجار، بما يثير انتباه السامع.
فاستعمالها للنداء القريب يعود إلى إثارة الانتباه بانفجار صوتها القصير. وإذا مُدَّ صوتها فصارت (آ) كانت للنداء البعيد كما أسلفنا.
أما اعتبارها أصل أدوات الاستفهام جميعاً، فقد تأتّى ذلك فيما نرى من أن الأصل في الاستفهام هو أن يبدأ المتكلم بإثارة انتباه المخاطب. وذلك إما بحركة جسمية يلفت بها نظر المخاطب. أو بحركة يدوية يضرب بها على أحد أعضائه. وإما بصوت انفجاري يضرب به على سمعه، مما يضاهي وقع الحركة الجسمية في نظره، أو وقع اليد على جسده.
لذلك كان لـ (الهمزة) الصدارة إطلاقاً، كما جاز استعمالها للاستفهام بلا قيد ولا شرط: ((للتصور والتصديق، للإثبات والنفي)).
كما أن استعمالاتها الثمانية للاستفهام غير الحقيقي بعضها يميل إلى الشدة بما يتناسب مع صوتها الانفجاري إذا ضُغط على مخرجه المزماري، وذلك في معاني: ((الإنكار الإبطالي، والتوبيخي والتهكم، والتقرير، والأمر)). وبعضها الآخر أقل شدة، بما يتناسب مع صوتها غير مضغوط على مخرجه كما في معاني: ((التسوية والتعجب والاستبطاء))..
ولو أن المتكلم رغب عن إثارة انتباه المخاطب بـ(الهمزة)، إلى إثارة انتباهه باليد مثلاً لكانت حركة يده في المعاني الأولى أشد وقعاً منها في المعاني الثانية.
وهكذا يتضح لنا أن العربي قد استخدم الحروف ذوات الخصائص الصوتية الانفجارية أو الاهتزازية بما يضاهي المعاني والمقاصد التي أراد التعبير عنها: ((حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث)).
كما قال ابن جني. سواء أكان ذلك في ضمائر المتكلم والمخاطب أو في أسماء الإشارة وأدوات الاستفهام، وكان هاديه في ذلك كله: سمع مرهف ونظر ثاقب، وشعور متأجج، وذوق أدبي فطري شعري النزعة مما لا مثيل له.
2 ـ هل:

أولاً ـ حول خصائص حرفيها ومعانيها الفطرية:

أ ـ(الهاء) ـ هي مخفف (ها) للتنبيه. فمن شأن صوتها المهتز أن يثير انتباه السامع إلى ما سيأتي بعدها.
ب ـ(اللام) ـ للإلصاق والإلزام.
ومحصلة خصائص حرفيها، تتوافق مع معانيها في الطلب. من عيانية ووضوح وإلزام.
ثانياً ـ حول معانيها واستعمالاتها التراثية:

هي على ثلاثة أوجه:
1 ـ حرف استفهام:

يقرر الأنطاكي في (محيطه)، آخذاً عن (ابن هشام)، إن (هل) حرف موضوع لطلب ـ التصديق كما أسلفنا في (الهمزة) الاستفهامية. وهو السؤال عن الحدث. أما طلب التصور وهو السؤال عن (الشيء) زماناً أو مكاناً أو ذاتاً، فليس من اختصاصها. وهي تختص بما يلي:
أ ـ طلب التصديق: وهو يتعلق بالسؤال عن الحدث حصراً. وذلك لأن وقوع الحدث هو أصلاً موضوع التصديق والتكذيب، فيقال: ((هل جاء زيد))، ولا يقال: ((هل زيد جاء)). وذلك لأن خاصية الإلصاق في (اللام) تستلزم التصاق (هل)مباشرة بالموضوع المستفهم عنه موضوع التصديق والتكذيب وهو (المجيء)، وليس (زيداً) موضوع التصور باعتباره ذاتاً. فهو من حيث ذاته لا يمكن أن يكون موضوع تصديق أو تكذيب، كما أسلفنا.
ب ـ الإيجاب: إن طلب التصديق هو بطبيعته إيجابي، فلا محل معه للسلبي لتعارضه أصلاً ـ وعقلاً مع طلب التصديق. فيقال: ((هل قام زيد))؟ ولا يقال: ((هل لم يقم زيد))؟ وهذا ناتج فيما نرى عن ضرورة إلتصاق (لام) الإلصاق والإلزام في (هل) بمتعلقها مباشرة. فكانت (هل) بذلك للإيجابي، لا للسلبي، وإن جاء الجواب (كلا) خلافاً لتوقع السائل. أمَّا (الهمزة) فهي للإثبات والنفي لانفرادها عن اللام اللاصقة.
ج ـ تخصيصها المضارع بالاستقبال: نحو: (هل تسافر))، أي في المستقبل.
د ـ لمعنى النفي أو الإنكار. الأول، كقوله تعالى: ((وهل جزاء الإحسان إلاَّ الإحسْان؟))(104).
والثاني، كقوله تعالى: ((فهل على الرسل إلاّ البلاغ المبين؟)).(105).
على أن خاصيّة الإلصاق في (هل) لا تزال على حالها من حيث المعنى العام، وإن جاءت بمعنى (النفي أو الإنكار)، وذلك بتقديري أقل بلاغة: (أنَّ جزاء الإحسان هو الإحسان مؤكداً))، و((على الرسل البلاغ المبين حتماً)).
2 ـ حرف تحقيق:

قال بعضهم بأنها تأتي بمعنى (قد)، بدليل قوله تعالى: ((هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً)).(106).
3 ـ حرف تمني:

وقد سبق الحديث عن هذا المعنى مع أحرف التمني، وعن دور (لام) الإلصاق في أداء هذا المعنى. وهكذا قد توقفت الخصائص الفطرية لحرفي (هل) مع معانيها واستعمالاتها التراثية. دليل آخر على أصالة اللغة العربية وعراقتها وفطرتها وبداءتها
4 ـ لو:

تمهيد:

على الرغم مما لاحظناه وعانيناه من التعقيد والتشابك في معاني بعض حروف المعاني واستعمالاتها التراثية، كما في ((لا ـ ما ـ اللام))، فإن (لو) تفوقها جميعاً تعقيداً وتشابك معان، مما أثار حولها كثيراً من الجدل والخلاف، ما جعلني أتردد طويلاً في إثباتها هنا تخفيفاً عن القارئ، لاسيّما غير المتخصص ولكنني عدلت عن حذفها لأن هذه المعجزة اللغوية الصغيرة في حجمها (لو)، الكبيرة في معانيها لم تخرج في استعمالاتها التراثية عن الخصائص الفطرية لحرفيها وذلك للبرهان على مصداقية العلاقة الفطرية بين خصائص حرفيها وبين معانيها في أعقد وجوهها وأقسامها واستعمالاتها التراثية فينسحب ذلك كله على فطرة اللغة العربية وبداءتها. فصبراً جميلاً عليها.
أولاً ـ حول خصائص حرفيها ومعانيهما الفطرية:

أ ـ (اللام) ـ للإلصاق والإلزام.
ب ـ (الواو) للعطف والجمع العشوائي، وذلك بحكم تدافع النفس أثناء خروج صوتها. فتكون محصلة المعاني الفطرية لحرفيها: ((الإلصاق والعطف والجمع)).
ثانياً ـ حول معانيها واستعمالاتها التراثية:

هي لدى (ابن هشام) على خمسة أوجه:
الوجه الأول: كما في قولنا: ((لو جاءني زيد لأكرمته)). (لو) هنا تفيد ثلاثة أمور:
الأمر الأول ـ الشرطية: ومعناها ربط السببية (المجيء) بالمسبّبية (الإكرام). وهذه الخاصية في الربط تتوافق مع خاصية الإلصاق في (اللام) في بداية (لو)، ومع خاصية العطف والجمع في (الواو) في آخرها.
وهكذا تتعاون (اللام والواو) في تحقيق المعنى التراثي لـ(لو) الشرطية. أما (اللام) في (لأكرمته)، فهي لربط الجملة الثانية جواب الشرط بالمسببية (المجيء). وبذلك تقوم (لام) ـ الإلصاق والإلزام و(واو) العطف والجمع بشد الجملتين إلى بعضهما البعض في رباط متين من (السببية والمسبّبية). لا يجاري (لو) في متانة هذا الربط أي حرف شرط آخر.
الأمر الثاني: تقيد الشرطية بالزمن الماضي: وذلك على العكس من (إن) الشرطية التي تقيد (السببية والمسبّبية) في المستقبل، نحو: ((إن جئتني غداً أكرمْك)).. ولا يقال: ((لو جئتني غداً أُكرمُك)). بل يقال: ((لو جئتني البارحة لأكرمتك)).
الأمر الثالث: الامتناع: وما أكثر تفرعاته واستعمالاته واختلاف النحاة حوله، فلهم في هذا الأمر المزيد من الأقوال والتفرعات والتعليلات والاستشهادات، وبلا طائل يذكر، وما كان (الأنطاكي) قد وفِّق في معالجة هذه المسألة الشديدة التعقيد، فقد اقتصرت على استعراض رأيه حولها بشيء من التوسع والتفصيل.
لقد عزا (الأنطاكي) اختلاف النحاة حول مسألة الامتناع في (لو) الشرطية إلى خلطهم بين أنواع الشرط. فهو لديه على خمسة أنواع:
النوع الأول: الشرط الاحتمالي:

وأدواته ((إن ـ إذما ـ إذا)). فهو شرط سببي يقوم على ربط حدثين برابطة (السببية) يكون فيه الحدث الأول (السبب) على وجهين اثنين، هما: احتمال الوجود واحتمال عدم الوجود: ((إن هطل المطر نبت الزرع)). فهطل المطر احتمالي قد يقع وقد لا يقع. وهو للمستقبل سواء جاء الحدث الأول بصيغة الماضي أو المستقبل.
النوع الثاني ـ الشرط الامتناعي:

وأداته الوحيدة (لو). هو كالشرط الاحتمالي بفارق وحيد بينهما. هو أن الحدث الأول (السبب)، ليس له إلاّ وجه واحد هو (الامتناع). نحو: ((لو جاء زيد لأكرمته)). فبامتناع مجيء زيد امتنع إكرامه. وهي هنا ((حرف شرط امتناع لامتناع)). خلافاً لرأي ابن هشام الذي أنكر عليها ذلك.
النوع الثالث ـ الشرط الوجودي:

وأداته الوحيدة (لمّا). هو شرط سببي أيضاً، يقوم على ربط ـ الشرط بالجواب برباط السببية. نحو ((لما علمت بنجاحك فرحت)) ولكنه على عكس الشرط الامتناعي فالسبب هنا متحقق على صورة الوجود لاعلى صورة الامتناع.
النوع الرابع: الشرط الامتناعي الوجودي؟

وأداتاه (لولا ـ لوما). كما في قولنا: ((لولا المطر لهلك الزرع)) و((لوما رحمة من ربك لهلك الناس)). فجملتا ((لولا المطر)) و(لوما رحمة من ربك))، كل منهما شرط سببي موجود قد سبب وجوده امتناع الجواب: وهو هنا: ((هلاك الزرع، وهلاك الناس)). فكان امتناع هلاك الزرع والناس لوجود المطر ورحمة الله.
النوع الخامس ـ الشرط اللا سببي: وأداتاه ((لو ـ إن)):

هذا الشرط يختلف عن بقية الأنواع. فهو لا يرمي إلى إقامة علاقة سببية بين الحدثين بل إلى نفي العلاقة السببية المتوهمة، فسمى ((الشرط اللاّسببي)).
ففي قولنا: ((ستموت ولو كنت حذراً)) نريد أن ننفي أي رابطة سببية بين الموت والحذر، فالموت واقع مع الحذر وبدونه.
وكثيراً ما يلتبس الشرط الامتناعي (الامتناع لامتناع) بالشرط (اللاسببي) ـ والقاعدة في التمييز بينهما، أن الشرط الامتناعي يصح أن يعقبه حرف الاستدراك ولكن داخلاً على فعل الشرط منفياً، نحو ((لو جئتني لأكرمتك، ولكنك لم تجيء)). والثاني يصح أن يعقبه اسم الاستفهام (كيف)، داخلاً على فعل الشرط منفياً، نحو: ((لو حلفت بالله ما صدقتك، فكيف إذا لم تحلف)).
وللشرط اللا سببي أداة أخرى هي: ((إن)) نحو ((يعمل زيد وإن كان متعباً)). فكيف إذا لم يكن متعباً؟..
ويرى (الأنطاكي) إن اضطراب قواعد النُّحاة واختلافهم في (لو) الشرطية يعود إلى عدم التفريق بين (الشرط الامتناعي) أي امتناع لامتناع، وأداته (لو) حصراً، وبين (الشرط اللا سببي)، وأداتا (لو +إن) (المحيط ج2
ص 52-68).

الوجه الثاني من أوجه (لو):

أن تكون حرف شرط في المستقبل، إلا أنها لا تجزم، كما في قول الشاعر مجنون ليلى:
لو تلتقي أصداؤنا بعدَ موتنا



ومِنْ دونِ رسمينا مِنَ الأرضِ سبسبُ))


لظلَّ صدى صوتي وإِنْ كنتُ رُمَة



لِصَوت صدى ليلى يَهَشُ ويطربُ)).


ولقد اختلف النحاة كثيراً حول هذا الوجه، مما لا مجال لسرده. وقد خلص (ابن هشام) إلى صحته.
الوجه الثالث:

أن تكون (لو) حرفاً مصدرياً بمنزلة (أن)، إلاّ أنها لا تنصب. وأكثر وقوعها بعد (ودّ يودّ) كقوله تعالى: نحو: ((ودوا لو تدهن فيدهنون)). وكقوله: ((يود أحدهم لو يعّمرُ ألفَ سنة)).
وقد تقع (لو) بدون (ودَّ ـ يودُّ ـ رغبَ ـ يرغبُ)، كقول الشاعر:
ما كان ضرَّكَ لو مننتَ ورُبَّما



منَّ الفتى وهو المَغيظُ المُحَنَّقُ)).


بتقدير: ((وددتُ لو مننت))..
الوجهان الرابع والخامس: أن تكون (لو)) للتمني والعرض. وقد سبق الحديث عن هذين المعنيين مع أحرف التمني والعرض. وخلصنا منه إلى توافقهما مع خصائص حرفي (اللام والواو) في الإلصاق والإلزام والعطف والجمع.
ولكن ما الأصل في استعمال (لو)؟

باستعراض أوجه استعمال (لو) وأنواعها، أجدني أميل إلى القول بأن أصل استعمالها وأقدم معانيها كان (للتمني). وذلك نظراً لبساطته وعفويته وكثرة الحاجة إليه بمعرض التعامل والتخاطب اليومي بين الناس. ويليه في ذلك معنى (العرض). فمعانيهما واستعمالاتهما التراثية تتوافق مع الخصائص الفطرية لحرفي (اللام والواو). أقول ذلك ولم يغب عن ذاكرتي أن هذا يخالف رأي النحويين ومنهم (ابن هشام والأنطاكي) بقولهما: ((أما أن تكون (لو) حرفاً قد وضع للتمني مثل (ليت) فممنوع)) فاستعمالات (لو) للشرط: لربط (السببية بالمسببية))، فيما أرى أو حرف (امتناع لامتناع)، أو للشرط (اللا سببي). أو بمنزلة (أن) المصدرية، وما استتبع ذلك من التفرعات والاستعمالات، فقد جاءت في زمن متطور من مراحل اللغة العربية، تلبية لحاجات فصحاء العرب وشعرائهم، ولكن بما يتوافق مع الخصائص الصوتية لحرفيها.
ويبدو لي أن العربي قد تناول هذه المادة الصوتية، من (اللام) اللينة المرنة و(الواو) الأشد ليونة ومرونة، فراح يروضها بذكاء وحساسية شديدين على تلبية معانيه المبتكرة، مع حفاظه على الخصائص ـ الفطرية لحرفيها. لا يحد له من قابليتهما للتكيف وجود حرف ثالث، أو خاصية صوتية في أحدهما من قساوة أو اهتزاز وشدة، وما إلى ذلك مما يحد من حريتهما وتحررهما، فتمادى العربي في استغلال هذه الخصائص فيهما إلى أبعد الحدود، في (حداثة) مغرقة في الزمن أصبحت تراثاً، على مثال ما لحظناه في حرفي (لا ـ ما).
الخاتمة:

لقد كانت مغامرة، إن لم أقل (مقامرة)، حتى حدود اللامعقول: هدراً للفكر، ومضيعة للعمر، أن أقحم نفسي في هذه المحاولة الفجرية (الفجة) للكشف عن معاني حروف المعاني وأصول استعمالاتها، بالرجوع إلى خصائص ومعاني الحروف العربية، وما من فقيه صرف أو نحو قام حتى الآن بمثابة هذه المحاولة بصدد أي مفردة من مفرداتها.
ولكن هل يستحق ما توصلت إليه من النتائج بمعرض الكشف عن أصالة الحرف العربي وحداثته في هذا القطاع (الصرفي ـ النحوي) كل ما عانيته من المتاعب، وما كرسته من ساهرات الليالي؟.
ولئن أجبت متحيزاً لدراستي بـ(نعم)، فهل وجد السيد القارئ الصبور إنها استحقت منه أيضاً كل مابذله فيها من جهد، وصرفه من وقت؟..
وما أحسب إلا أنه سيجيب أيضاً بـ(نعم).
فالبرهان على أصالة الحروف العربية وفطريتها، عودة بها إلى فجر فجرها في الطبيعة والتاريخ والحس والنفس والمجتمع، ومن ثم استعمال هذه الأصالة لمعرفة حقيقة معاني وأصول استعمالات كل مفردة عربية، سواء في القطاع (المعجمي)، أو القطاع ((الصرفي ـ النحوي)) من شأنه أن يشيع الحياة ـ والحيوية في تراثنا اللغوي في حداثة مستمرة لا نهاية لها تحفظ لنا أصالة (العربية والعروبة والإسلام) من كل غزو ثقافي مضاد.
فالانتقال بالعربية من مرحلة (كيف) التراثية التي دامت ألف عام ونيف، إلى مرحلة (لماذا) الحديثة، إنما هو مكسب (لغوي ـ إنساني)، بمقدار ماهو مكسب (لغوي ـ عربي)، وإنه ليستحق أن يكرس له جيل كامل من فقهاء العربية وعلمائها، وليس مجرد واحد من هواة الفكر الفلسفي قد سعى للكشف عن ظاهرة التوافق الفطري بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية في مقولة ((لا فن بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا فن)): مقولة فلسفية قد ساقتني قسراً على معظم علوم اللغة في دراساتي عن الحرف العربي طوال عشرين عاماً ونيف مما يثبت صدق ما قرره فلاسفة اللغة وعلماؤها من أنه لا غنى لعلوم اللغة عن الفلسفة، ولا للفلسفة عن علوم اللغة، على تآخ فطري بينهما مما يشير إلى وحدة الوعي في الوجود.

¡¡¡






مراجع الدراسة:



1-مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ـ الإمام عبد الله بن هشام الأنصاري. تحقيق وضبط محمد محي الدين عبدالحميد ـ القاهرة.
2-جامع الدروس العربية ـ الشيخ مصطفى الغلاييني طباعة/12/1993.
3-المحيط في الأصوات اللغوية لمحمد الأنطاكي ـ 1971.
4-الخصائص ـ أبوعثمان بن جني طباعة 1955.
5-المقرب-لابن عصفور.
6-الجني الداني-للمرادي.
7-معاني الحروف-للغنزوي.
8-معاني الأدوات والحروف ـ لابن قيِّم الجوزية.
9- تاريخ العرب المطول- فيليب حتي.
10-الحرف العربي والشخصية العربية- حسن عباس 1992.
11- خصائص الحروف العربية ومعانيها- حسن عباس 1998.


¡¡¡





الفهرس العام


المقدمـــــة5
القسم الأوَّل. 11
الفصل الأول-الأصالة والحداثة في الحرف العربي. 11
القسم الثاني. 21
حول معاني حروف المعاني وأصول استعمالاتها21
الفصل الأول- أحرف النداء21
الفصل الثاني-أحرف العطف.. 30
الفصل الثالث-حـــروف الجـــــر. 45
الفصل الرابع-الأحرف الجوازم82
الفصل الخامس-أحرف النصب. 89
الفصل السادس-الأحرف المشبهة بالفعل. 97
الفصل السابع -أحرف النفي. 109
الفصل الثامن -أحـــرف(التمني والعرض والتحضيض والتنديم والترجِّي)120
الفصل التاسع -أسماء الكناية127
الفصل العاشر-حول (الهاء والذال) في ضمائر الغائب وأسماء الإشارة135
الفصل الحادي عشر-متفرقات ـ (الهمزة ـ هَلْ ـ لَوْ)144
الفهرس العام157
الفهارس الملحقة158

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59