عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 01-29-2012, 11:51 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

المبحث الأول : حقوق الآخر باعتباره جزءاً من المجتمع المسلم
القاعدة الأولى في معاملة غير المسلمين في "دار الإسلام" أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، فإن الإسلام قد كفل لغير المسلم حقوقه التي لا يمكن أن يعيش شاعرا بالأمن والحرية والسلام إلا بها، وقد أجملنا هذه الحقوق في العناوين الآتية التي سوف نتكلم عنها تفصيلا :
أولا : حق الآخر في حرية الاعتقاد والعبادة.
ثانيا : حق الآخر في العمل وتكوين الثروة.
ثالثا : حق الآخر في الأمن والرعاية والحفاظ على الممتلكات ، ويندرج تحت هذا الحق ما يأتي :
(1) حق الآخر في الأمن من العدوان الخارجي.
(2) حق الآخر في الأمن داخل المجتمع.
(3) حق الآخر في عصمة دمه.
(4) حق الآخر في عصمة بدنه من الأذى.
(5) حق الآخر في عصمة ماله وممتلكاته الخاصة.
(6) حق الآخر في عصمة عرضه.
(7) حق الآخر في التأمين عند العجز والفقر وكبر السن.
أولا : حق الآخر في حرية الاعتقاد والعبادة :
وأول هذه الحقوق والحريات التي كفلها المنهج الإسلامي القويم هو حق الاعتقاد والتعبد، فالإسلام لا يأمر الناس بالدخول فيه بالقوة أو بالسيف بل بالاقتناع، ولذلك كفل حق غير المسلم في المجتمع المسلم في أن يعتقد ما يعتقد، وأن يتعبد بما يتعبد، طالما أنه لا يؤذي المسلمين ولا يظاهر عليهم، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام، وأساس هذا الحق قوله تعالى: ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [([1])، وقوله سبحانه : ]وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين [َ([2]).
قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى : أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكْرَه أحد على الدخول فيه.
وسبب نزول الآية كما ذكر المفسرون يبين جانبًا من إعجاز هذا الدين، فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة -قليلة النسل- فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّدَه (كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية)، فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤهم : لا ندع أبناءنا (يعنون : لا ندعهم يعتنقون اليهودية)، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [ ([3]). عزاه ابن كثير إلى ابن جرير، قال: "قد رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن حبان في " صحيحه "، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم، أنها نزلت في ذلك . . " ([4]).
وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى: ]أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواوَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُوَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُوَبِيَعٌوَصَلَوَاتٌوَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراًوَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ ([5]).
ولما توسعت رقعة الدولة الإسلامية زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كان هناك مجموعة كبيرة من القبائل المسيحية العربية، وبخاصة في نجران، فما كان منه صلى الله عليه وسلم، إلا أن أقام معهم المعاهدات التي تؤمن لهم حرية المعتقد، وممارسة الشعائر، وصون أماكن العبادة، إضافة إلى ضمان حرية الفكر والتعلم، فلقد جاء في معاهدة النبي لأهل نجران : " ولنجران وحاشيتهم جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملّتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وَبِيَعهم، وصلواتهم، لا يغيروا أسقفا عن أسقفيته ولا راهبا عن رهبانيته، ولا واقفا عن وقفانيته. إلى أن قال : " وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي أبدا حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا " ([6]).
فقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم.
وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم : "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتهم، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . ." ([7]).
وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم" ([8]).
على أن من فقهاء المسلمين مَن أجاز لغير المسلمين إنشاء الكنائس والبِيَع وغيرها من المعابد في الأمصار الإسلامية، وفي البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، أي أن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا لهم إلا بحد السيف، إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك، بناء على مصلحة رآها، ما دام الإسلام يقرهم على عقائدهم. وقد ذهب إلى ذلك الزيدية والإمام ابن القاسم من أصحاب مالك ([9]).
ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين، وذلك منذ عهد مبكر، فقد بُنِيت في مصر عدة كنائس في القرن الأول الهجري، مثل كنيسة "مار مرقص" بالإسكندرية ما بين عامي (39 - 56 هـ) .كما بُنِيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم، في ولاية مَسْلمة بن مَخْلَد على مصر بين عامي (47 - 68 هـ ) كما سمح عبد العزيز بن مروان حين أنشأ مدينة "حلوان" ببناء كنيسة فيها، وسمح كذلك لبعض الأساقفة ببناء ديرين([10]) .
وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها على الدين، وتم لهم به النصر والغلبة، أمر لم يُعهد في تاريخ الديانات، وهذا ما شهد به الغربيون أنفسهم.
يقول العلامة الفرنسي جوستاف لوبون : "رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفًا أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته". وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابين أو المؤمنين القليلين الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب، يقول ـ على سبيل المثال ـ روبرتسن في كتابه "تاريخ شارلكن" : "إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرًا لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحرارًا في التمسك بتعاليمهم الدينية"([11]).
وبهذا العرض الموجز تبرز قدرة النظام الإسلامي على حماية حق حرية الاعتقاد والتدين، لقد أبدع النظام الإسلامي هذا التسامح على غير مثال سابق، فلم تعرف البشرية قبل الإسلام هذا التسامح والتعايش بين الشعوب المتعددة الديانات.
وكما كفل الإسلام حق حرية الاعتقاد والعبادة لغير المسلمين، كفل كذلك لهم حق العمل في كل مهن ووظائف الدولة وفيما يلي توضيح لنزاهة الإسلام في كفالة هذا الحق.
&&&

ثانيا : حق الأخر في العمل وتكوين الثروة :
منح التشريع الإسلامي لغير المسلم في المجتمع الإسلامي حق العمل، والتكسب، وتكوين الثروة، فهو فلا يحدد ملكيتهم ولا يمنعهم من مزاولة أي الأعمال شاءوا، وهذا ما يتضح في المنهج العملي الذي شاهده العالم بأسره واقعا.
فلغير المسلمين حرية العمل والكسب، بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين.
وكادت بعض المهن تكون مقصورة عليهم كالصيرفة والصيدلة وغيرها . واستمر ذلك إلى وقت قريب في كثير من بلاد الإسلام . وقد جمعوا من وراء ذلك ثروات طائلة معفاة من الزكاة ومن كل ضريبة إلا الجزية، وهي ضريبة على الأشخاص القادرين على حمل السلاح، كما سيأتي، وهي مقدار جد زهيد.
قال آدم ميتز: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلاً يهودًا . على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى . وكان رئيس النصارى ببغداد طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده "([12]).
ولم يقتصر ضمان حق التكسب والعمل في المهن المختلفة لغير المسلمين في المجتمع المسلم على هذا الحد، بل إن غير المسلمين شغلوا المناصب الهامة في الدولة الإسلامية، ولم يكن هذا مخالفا للمنهج الإسلامي في تنظيره ولا في تطبيقه.
توليالمناصب الكبرى :
ولغير المسلمين الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين . إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات، ونحو ذلك.
فالإمامة أو الخلافة رئاسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز أن يخلف النبي في ذلك إلا مسلم، ولا يعقل أن ينفذ أحكام الإسلام ويرعاها إلا مسلم.
وقيادة الجيش ليست عملاً مدنيًا صرفًا، بل هي عمل من أعمال العبادة في الإسلام، إذ الجهاد في قمة العبادات الإسلامية.
والقضاء إنما هو حكم بالشريعة الإسلامية، ولا يطلب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به، ومثل ذلك الولاية على الصدقات ونحوها من الوظائف الدينية.
واقتصار هذه المناصب على الأكثرية هو ما تجده في كل المجتمعات غير الإسلامية أيضا، فما شهد التاريخ القديم أو الحديث بأن المسلم تولى رئاسة الدولة أو الحكومة أو القضاء أو وزارة المالية في دول غير إسلامية، ولذلك فاعتبار هذا اضطهاداً مسلك بعيد عن الإنصاف.
وما عدا ذلك من وظائف الدولة، يجوز إسناده إلى أهل الذمة إذا تحققت فيهم الشروط التي لا بد منها من الكفاءة والأمانة والإخلاص للدولة.
وقد بلغ التسامح بالمسلمين أن صرح فقهاء كبار - مثل الماوردي في "الأحكام السلطانية "بجواز تقليد غير المسلم "وزارة التنفيذ". ووزير التنفيذ هو الذي يبلغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها ويمضي ما يصدر عنه من أحكام.
وقد كان سرجون كاتبا لمعاوية بن أبي سفيان وصاحب أمره ، كما أصبح سرجون هذا من أهم مستشاري يزيد بن معاوية([13])، وقد تولى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة، منهم عيسى بن نسطورس سنة 380هـ، كما استُنيب منشا اليهودي بالشام([14]) .
وقد بلغ تسامح المسلمين في هذا الأمر أحيانًا إلى حد المبالغة والجور على حقوق المسلمين، مما جعل المسلمين في بعض العصور، يشكون من تسلط اليهود والنصارى عليهم بغير حق.
وقد قال المؤرخ الغربي آدم ميتز: "من الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال (الولاة وكبار الموظفين) والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية، فكأن النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام والشكوى من تحكيم أهل الذمة في أشعار المسلمين شكوى قديمة"([15]).
يقول أحد الشعراء المصريين
([16]) في يهود عصره وسيطرتهم على حكامه:
يهود هذا الزمان قد بلغــوا
0

غاية آمالهم وقد ملكـوا
0
المجد فيهم والمال عندهمــو
0

ومنهم المستشار و الملك
0
يا أهل مصر، إني نصحتُ لكم
0

تهودوا، قد تهود الفلك
0
ثالثا :حق الآخر في الأمن و الحماية :
إن المجتمع الإسلامي مجتمع الأمن والسلام، ولذلك فإن من يعيش بين المسلمين في هذا المجتمع كان من الضروري أن ينعم بهذا الأمان والسلام.
ولعل الإسلام هو الدين المنفرد الذي عُني عناية فائقة بالدعوة إلى السلام، وجعلها دعامته الأولى.. وقد تناول القرآن الكريم (السلم والسلام) في عشرات من آياته المحكمات. ليس ذلك فحسب، بل إن السلام اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته، قال سبحانه وتعالى : ] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون َ[ ([17])، وجعله تحيته إلى عباده، وأمرهم بأن يجعلوا السلام تحيتهم، يلقيها بعضهم على بعض، وشعارهم في جميع مجالات الحياة، في المسجد والمعهد والمصنع والمتجر..وسمّيت الجنّة دار السلام، فقد قال الله تعالى : ] لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْوَهُوَوَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون َ[ ([18])والآيات التي ورد فيها ذكر السلام كثيرة.
من هنا كان السلام شعار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها منذ ظهور الإسلام حتى الآن. وهو شعار يُلقيه المسلم على غيره كلما لقيه، وكلما انصرف عنه، فيقول له : " السلام عليكم ".
وأما عن كيفية إقرار الأمن والسلام في المجتمع الإسلامي.
ولقد قرر الإسلام حماية غير المسلمين من الظلم، فطوق حرماتهم بطوق الأمان فحمى أموالهم ودماءهم وأعراضهم، وحماهم من نوائب الزمن، لتحقيق الأمن والسلام المنشود.
ولكي نستوعب حق الآخر في الحماية من المجتمع الإسلامي لابد أن نتناول عناصر هذه الحماية، فهناك حماية من العدوان الخارجي، وهناك حماية من المجتمع الداخلي، وهناك حق للآخر في عصمة دمه وبدنه وماله وعرضه، ونبدأ الآن بأول هذه العناصر :
(1) حق الآخر في الأمن من العدوان الخارجي :
أما حماية غير المسلمين من الاعتداء الخارجي، فيجب لهم ما يجب للمسلمين، وعلى حاكم المسلمين ، بما له من سُلطة شرعية، وما لديه من قوة عسكرية، أن يوفر لهم هذه الحماية، كما نص على ذلك الفقهاء بقولهم : "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة ومنع مَن يؤذيهم، وفك أسرهم، ودفع مَن قصدهم بأذى إن لم يكونوا بدار حرب، بل كانوا بدارنا، ولو كانوا منفردين ببلد".
وعلل ذلك بأنهم : "جرت عليهم أحكام الإسلام وتأبد عقدهم، فلزمه ذلك كما يلزمه للمسلمين"([19]).
وينقل الإمام القرافي المالكي في كتابه قول الإمام الظاهري ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع"، وهو : "إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة"، وحكى في ذلك إجماع الأمة.
وعلق على ذلك القرافي بقوله: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال -صوناً لمقتضاه عن الضياع- إنه لعظيم"([20]).
(2) حق الآخر في الأمن والحماية داخل المجتمع :
للآخر الحق في العيش في أمان وسلام داخل وطن المسلمين فإن حماية الآخر من الظلم الداخلي، أمر يوجبه الإسلام ويشدد في وجوبه، ويحذر المسلمين أن يمدوا أيديهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان، فالله تعالى لا يحب الظالمين ولا يهديهم، بل يعاجلهم بعذابه في الدنيا، أو يؤخر لهم العقاب مضاعفاً في الآخرة.
وقد تكاثرت الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الظلم وتقبيحه، وبيان آثاره الوخيمة في الآخرة والأولى، وجاءت أحاديث خاصة تحذر من ظلم غير المسلمين من أهل العهد والذمة.
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
" من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة"([21]).
وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران أنه: "لا يؤخذ منهم رجل بظلمِ آخر"([22]).
ولهذا كله اشتدت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين، بدفع الظلم عن أهل الذمة، وكف الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبَلِهم.
كان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له : " ما نعلم إلا وفاءً "([23]) أي بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كلاً من الطرفين وفَّى بما عليه.
وعليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا"([24]).
وفقهاء المسلمين من جميع المذاهب الاجتهادية صرَّحوا وأكدوا بأن على المسلمين دفع الظلم عن غير المسلمين والمحافظة عليهم؛ لأن المسلمين حين أعطوهم العهد قد التزموا بدفع الظلم عنهم، وهم صاروا به من أهل دار الإسلام، بل صرَّح بعضهم بأن ظلم غير المسلم أشد من ظلم المسلم([25])، وهو مبني على أن الذمي في دار الإسلام أضعف شوكة عادة، وظلم القوي للضعيف أعظم في الإثم.
(3) حق الآخر في عصمة دمه :
إن من أهم واجبات المجتمع المسلم تجاه الآخر هو إقرار حقه في عصمة دمه، فحرص الإسلام على عصمة دماء غير المسلمين كحرصه على عصمة دماء المسلمين تماما ، وفي سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إبراز لهذا المعنى بما لا يحتمل التأويل.
فقد ثبت في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما"([26]).
فدماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع، ولهذا أجمع فقهاء الإسلام على أن قتل الذمي كبيرة من كبائر المحرمات لهذا الوعيد الذي جاء في الحديث.
حتى إن كثيرا من فقهاء الإسلام المعتد بهم في الشريعة ، قد أقروا بأن المسلم يقتل إذا قتل غير المسلم المعاهد، فقد قال مالك والليث : إذا قتل المسلم الذمي غيلة يُقتل به ([27]).
وهو الذي فعله أبَان بن عثمان حين كان أميرًا على المدينة، وقتل رجل مسلم رجلاً من القبط، قتله غيلة، فقتله به، وأبَان معدود من فقهاء المدينة([28]).
وذهب الشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وعثمان البتي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن المسلم يُقتل بغير المسلم المعاهد مطلقا ، لعموم النصوص الموجبة للقصاص من الكتاب والسنة، ولاستوائهما في عصمة الدم المؤبدة، ولما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلمًا بمعاهد. وقال: " أنا أكرم من وفَّى بذمته"([29]).
وما روي : " أن عليًّا أُتي برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، فقامت عليه البيِّنة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال : إني قد عفوت، قال: فلعلهم هددوك وفرقوك، قال: لا، ولكن قتله لا يرد علَيَّ أخي، وعوَّضوا لي ورضيتُ. قال : أنت أعلم؛ من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا "([30]).
وقد صح عن عمر بن عبد العزيز : " أنه كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قتل ذميًّا، فأمره أن يدفعه إلى وليه : فإن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه . . فدُفِعَ إليه فضرب عنقه"([31]).
وهذا هو المذهب الذي اعتمدته الخلافة العثمانية ونفذته في أقاليمها المختلفة منذ عدة قرون.
(4) حق الآخر في عصمة بدنه من الأذى :
وكما حمى الإسلام غير المسلمين من القتل، حمى أبدانهم من الضرب والتعذيب، فلا يجوز إلحاق الأذى بأجسامهم، ولو تأخروا أو امتنعوا عن أداء الواجبات المالية المقررة عليهم كالجزية والخراج، هذا في حين أن الإسلام تشدد كل التشدد مع المسلمين إذا منعوا الزكاة.
بل كان الإسلام يعتبر أن مجرد انتظار غير المسلم في الشمس تعذيبا له، ويتضح هذا المعنى جليا في قصة حكيم بن هشام أحد الصحابة الكرام رضي الله عنه عندما رأى رجلاً (وهو والٍ على حمص) يشمِّس ناسًا من النبط (أي يوقفهم تحت حر الشمس) في أداء الجزية، فقال : ما هذا! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول : " إن الله عز وجل يُعذِّب الذين يعذبون الناس في الدنيا"([32]).
وأشهر الأمثلة على ذلك قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر ؛ حيث ضرب ابن عمرو ابن القبطي بالسوط، وقال له: أنا ابن الأكرمين! فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المدينة وشكا إليه، فاستدعى الخليفة عمرو بن العاص وابنه، وأعطى السوط لابن القبطي، وقال له: اضرب ابن الأكرمين، فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر وقال له: أدرها على صلعة عمرو فإنما ضربك بسلطانه، فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني . ثم التفت عمر إلى عمرو وقال كلمته الشهيرة: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"؟
وما يستحق التسجيل في هذه القصة، هو أن الناس قد شعروا بكرامتهم وإنسانيتهم في ظل الإسلام، حتى إن لطمة يُلطَمها أحدهم بغير حق، يستنكرها ويستقبحها، وقد كانت تقع آلاف مثل هذه الحادثة وما هو أكبر منها في عهد الرومان وغيرهم، فلا يحرك بها أحد رأسًا، ولكن شعور الفرد بحقه وكرامته في كنف الدولة الإسلامية جعل المظلوم يركب المشاق، ويتجشم وعثاء السفر الطويل من مصر إلى المدينة المنوَّرة، واثقاً بأن حقه لن يضيع، وأن شكاته ستجد أذنًا صاغية.
وكتب عليٌّ رضي الله عنه إلى بعض ولاته على الخراج: " إذا قدمتَ عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاءً ولا صيفًا، ولا رزقًا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحدًا منهم سوطًا واحدًا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرضًا (متاعًا) في شيء من الخراج، فإنما أُمِرنا أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفتَ ما أمرتك به، يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك" . قال الوالي: إذن أرجع إليك كما خرجت من عندك! (يعني أن الناس لا يُدفعون إلا بالشدة) ، قال : وإن رجعتَ كما خرجتَ "([33]).

([1]) سورة البقرة الآية : 256.

([2]) سورة يونس الآية : 99.

([3]) سورة البقرة الآية : 256.

([4]) تفسير ابن كثير ج ـ 1 ص 310.

([5]) سورة الحج الآيتان : 39 – 40.

([6]) الطبقات الكبرى لابن سعد الجزء الأول صـ 287 طـ دار صادر.

([7]) كما رواه الطبري . (تاريخ الطبري ط . دار المعارف بمصر ج ـ 3 ص 609).

([8]) الخراج لأبي يوسف ص 146.

([9]) انظر: أحكام الذميين والمستأمنين ص 96 – 99.

([10]) وهناك أمثلة أخرى كثيرة، وقد ذكر المؤرخ المقريزي في كتابه "الخِطط" أمثلة عديدة، ثم ختم حديثه بقوله: وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدَثة في الإسلام بلا خلاف. انظر : الإسلام وأهل الذمة للدكتور علي حسني الخربوطلي صـ 139، وأيضاً: "الدعوة إلى الإسلام" تأليف توماس . و . أرنولد ص 84 - 86 ط . ثالثة . ترجمة د . حسن إبراهيم وزميليه..


([11])هامش من صفحة 128 من كتاب "حضارة العرب" لجوستاف لوبون.


([12])الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، " للأستاذ آدم ميتز أستاذ اللغات الشرقية بجامعة "بازل" بسويسرا ، ترجمة الأستاذ محمد عبدالهادي أبو ريدة، الطبعة الرابعة، فصل: "اليهود والنصارى"، (ج1 / ص86).

([13])تهذيب الكمال الجزء الثالث صـ 423، طبعة مؤسسة الرسالة، وتاريخ الطبري الجزء 3 صـ 464 طبعة دار الكتب العلمية.

([14])سير أعلام النبلاء الجزء 15 صـ 168، طبعة مؤسسة الرسالة.

([15]) في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" (الجزء الأول ص105)

([16])هو الحسن بن خاقان، كما في "حسن المحاضرة" للسيوطي 2 ص117، وانظر الحضارة الإسلامية لآدم ميتز ج1 ص 118

([17]) سورة الحشر الآية : 23.

([18]) سورة الأنعام الآية : 127.

([19]) مطالب أولي النهى ـ في الفقه الحنبلي ـ ج 2 ص 602 - 603.

([20])الفروق ج ـ 3 ص 14 - 15 - الفرق التاسع عشر والمائة.

([21])رواه أبو داود في سننه، الجزء الثالث، صـ 170 والبيهقي في السنن الكبرى، ج ـ 5 ص 205، وكذلك أخرجه الحافظ المنذري في الترهيب والترغيب، الجزء الرابع صـ7.

([22]) مرجع سابق، صـ 287 .

([23])تاريخ الطبري ج ـ 4 ص 218.

([24])المغني ج ـ 8 ص 445، والبدائع ج ـ 7 ص 111.

([25]) ذكر ذلك ابن عابدين في حاشيته، الجزء الرابع، صفحة 171 ، طبعة دار الفكر ، ما نصه : " وتحرم غيبته كالمسلم لأنه بعقد الذمة وجب له مالنا فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته بل قالوا إن ظلم الذمي أشد ".

([26]) أخرجه البخاري في صحيحه، الجزء السادس، صفحة 2533 بطبعة دار ابن كثير ، والترمذي في جامعه، الجزء الرابع، صـ 20 ،طبعة دار إحياء التراث العربي، والنسائي في سننه، الجزء الربع، صـ 221 ، طبعة دار الكتب العلمية. والمعاهد كما قال المناوي : أكثر ما يطلق على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب -فيض القدير ج ـ 6 ص 153.

([27]) نيل الأوطار ج ـ 7 ص 154.

([28]) انظر: الجوهر النقي مع السنن الكبرى ج ـ 8 ص 34.

([29])رواه البيقهي في السنن، ج ـ 8 ص 30، وانظر تعقيب ابن التركماني في "الجوهر النقي" حاشية السنن الكبرى"، ورواه عبد الرزاق في مصنفه، ج ـ 10 ص 101.

([30]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ج ـ 8 ص 34 ، وذكره محمد بن الحسن الشيباني في كتابه الحجة، ج 4 صـ 355 ، كما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتابه الأم ج 7 صـ 321.

([31]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ج ـ 10 ص 101، 102.

([32])أخرجه النسائي في سننه ج ـ 9 ص 205 ، وانظر الخراج لأبي يوسف ص 15 - 16.

([33]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ج ـ 10 ص 101، 102.




























يتبع ..........................
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59