عرض مشاركة واحدة
  #16  
قديم 01-09-2012, 10:53 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

الفصل الخامس في علوم القرآن من التفسير و القراءات
القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين دفتي المصحف. و هو متواتر بين الأمة إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم على طرق مختلفين في بعض ألفاظه و كيفيات الحروف في أدائها. و تنوقل ذلك و اشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة تواتر نقلها أيضاً بأدائها و اختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير فصارت هذه القراءات السبع أصولاً للقراءة. و ربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع إلا أنها عند أئمة القراءة لا تقوى قوتها في النقل. و هذه القراءات السبع معروفة في كتبها. و قد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء و هو غير منضبط. و ليس ذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن. و أباه الأكثر و قالوا بتواترها و قال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد و التسهيل لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع و هو الصحيح. و لم يزل القراء يتداولون هذه القراءات و روايتها إلى أن كتبت العلوم و دونت فكتبت فيما كتب من العلوم و صارت صناعة مخصوصة و علماً منفرداً و تناقله الناس بالمشرق و الأندلس في جيل بعد جيل. إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريين و كان معتنياً بهذا الفن من بين فنون القرآن لما أخذه به مولاه المنصور بن أبي العامر و اجتهد في تعليمه و عرضه على من كان من أئمة القراء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافراً. و اختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية و الجزائر الشرقية فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أئمتها و بما كان له من العناية بسائر العلوم عموماً و بالقراءات خصوصاً. فظهر لعهده أبو عمرو الداني و بلغ الغاية فيها و وقفت عليه معرفتها. و انتهت إلى روايته أسانيدها و تعددت تآليفه فيها. و عول الناس عليها و عدلوا عن غيرها و اعتمدوا من بينها كتاب التيسير له. ثم ظهر بعد ذلك فبما يليه من العصور و الأجيال أبو القاسم بن فيره من أهل شاطبة فعمد إلى تهذيب ما دونه أ بو عمرو و تلخيصه فنظم ذلك كله في قصيدة لغز فيها أسماء القراء بحروف ا ب ج د ترتيباً أحكمه ليتيسر عليه ما قصده من الاختصار و ليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها. فاستوعب فيها الفن استيعاباً حسناً و غني الناس بحفظها و تلقينها للولدان المتعلمين و جرى العمل على ذلك في أمصار المغرب و الأندلس. و ربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضاً و هي أوضاع حروف القرآن في المصحف و رسومه الخطية لأن فيه حروفاً كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط كزيادة الياء في بأييد و زيادة الألف في لا أذبحنه و لا أوضعوا و الواو في جزاؤ الظالمين و حذف الألفات في مواضع دون أخرى و ما رسم فيه من التاءات ممدوداً. و الأصل فيه مربوط على شكل الهاء و غير ذلك و قد مر تعليل هذا الرسم المصحفي عند الكلام في الخط. فلما جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخط و قانونه احتيج إلى حصرها، فكتب الناس فيها أيضاً عند كتبهم في العلوم. و انتهت بالمغرب إلى أبي عمر الداني المذكور فكتب فيها كتباً من أشهرها: كتاب المقنع و أخذ به الناس و عولوا عليه. و نظمه أبو القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روي الراء و ولع الناس بحفظها. ثم كثر الخلاف في الرسم في كلمات و حروف أخرى، ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالي مجاهد في كتبه و هو من تلاميذ أبي عمرو الداني و المشتهر بحمل علومه و رواية كتبه ثم نقل بعده خلاف آخر فنظم الرزاز من المتأخرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافاً كثيراً، و عزاه لناقليه. و اشتهرت بالمغرب، و اقتصر الناس على حفظها. و هجروا بها كتب أبي داود و أبي عمرو و الشاطبي في الرسم.
و أما التفسير: فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب و على أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه و يعلمون معانيه في مفرداته و تراكيبه. و كان ينزل جملاً جملاً و آيات آيات لبيان التوحيد و الفروض الدينية بحسب الوقائع. و منها ما هو في العقائد الإيمانية، و منها ما هو في أحكام الجوارح، و منها ما يتقدم و منها ما يتأخر و يكون ناسخاً له. و كان النبي صلى الله عليه و سلم هو المبين لذلك كما قال تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم فكان النبي صلى الله عليه و سلم يبين المجمل و يميز الناسخ من المنسوخ و يعرفه أصحابه فعرفوه و عرفوا سبب نزول الآيات و مقتضى الحال منها منقولاً عنه. كما علم من قوله تعالى: إذا جاء نصر الله و الفتح إنها نعي النبي صلى الله عليه و سلم و أمثال ذلك و نقل ذلك عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. و تداول ذلك التابعون من بعدهم و نقل ذلك عنهم. و لم يزل متناقلاً بين الصدر الأول و السلف حتى صارت المعارف علوماً و دونت الكتب فكتب الكثير من ذلك و نقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة و التابعين و انتهى ذلك إلى الطبري و الواقدي و الثعالبي و أمثال ذلك من المفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار. ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة و أحكام الإعراب و البلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل و لا كتاب فتنوسي ذلك و صارت تتلقى من كتب أهل اللسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب و على منهاج بلاغتهم. و صار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف و هي معرفة الناسخ و المنسوخ و أسباب النزول و مقاصد الآي. و كل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة. و التابعين. و قد جمع المتقدمون في ذلك و أوعوا، إلا أن كتبهم و منقولاتهم تشتمل على الغث و السمين و المقبول و المردود. و السبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب و لا علم و إنما غلبت عليهم البداوة و الأمية. و إذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات و بدء الخليقة و أسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم و يستفيدونه منهم و هم أهل التوراة من اليهود و من تبع دينهم من النصارى. و أهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم و لا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب و معظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة و ما يرجع إلى الحدثان و الملاحم و أمثال ذلك. و هؤلاء مثل كعب الأحبار و وهب بن منبه و عبد الله بن سلام و أمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم و ليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. و تساهل المفسرون في مثل ذلك و ملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات. و أصلها كما قلناه عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، و لا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم و عظمت أقدارهم. لما كانوا عليه من المقامات في الدين و الملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ. فلما رجع الناس إلى التحقيق و التمحيص و جاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب فلخص تلك التفاسير كلها و تحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها و وضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب و الأندلس حسن المنحى. و تبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج و احد في كتاب آخر مشهور بالمشرق.
و الصنف الآخر من التفسير و هو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة و الإعراب و البلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد و الأساليب. و هذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المقصود بالذات. و إنما جاء هذا بعد أن صار اللسان و علومه صناعة. نعم قد يكون في بعض التفاسير غالباً و من أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في آي القرآن من طرق البلاغة. فصار ذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه و تحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان و البلاغة و إذا كان الناظر فيه واقفاً مع ذلك على المذاهب السنية محسناً للحجاج عنها فلا جرم إنه مأمون من غوائله فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان. و لقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين و هو شرف الدين الطيببي من أهل توريز من عراق العجم شرح فيه كتاب الزمخشري هذا و تتبع ألفاظه و تعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها و يبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة و فوق كل ذي علم عليم.

الفصل السادس في علوم الحديث
و أما علوم الحديث فهي كثيرة و متنوعة لأن منها ما ينظر في ناسخه و منسوخه و ذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ و وقوعه لطفاً من الله بعباده و تخفيفاً عنهم باعتبار مصالحهم التي تكفل الله لهم بها. قال تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها و معرفة الناسخ و المنسوخ و إن كان عاقاً للقرآن و الحديث إلا إن الذي في القرآن منه اندرج في تفاسيره و بقي ما كان خاصاً بالحديث راجعاً إلى علومه. فإذا تعارض الخبران بالنفي و الإثبات و تعذر الجمع بينهما ببعض التأويل و علم تقدم أحدهما تعين إن المتأخر ناسخ. و معرفة الناسخ و المنسوخ من أهم علوم الحديث و أصعبها. قال الزهري: أعيا الفقهاء و أعجزهم إن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم من منسوخه. و كان للشافعي رضي الله عنه فيه قدم راسخة. و من علوم الأحاديث النظر في الأسانيد و معرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن و هو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة و الضبط. و إنما يثبت ذلك بالعقل عن أعلام الدين لتعديلهم و براءتهم من الجرح و الغفلة و يكون لنا ذلك دليلاً على القبول و الترك. و كذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة و التابعين و تفاوتهم في ذلك و تميزهم فيه واحداً واحداً. و كذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها و انقطاعها بأن يكون الراوي لم يلق الراوي الذي نقل عنه و بسلامتها من العلل الموهنة لها و تنتهي بالتفاوت إلى طرفين فحكم بقبول الأعلى و رد الأسفل. و يختلف في المتوسط بحسب المنقول عن أئمة الشأن. و لهم في ذلك، ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتبة. مثل الصحيح و الحسن و الضعيف و المرسل و المنقطع و المعضل و الشاذ و الغريب، و غير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم. و بوبوا على كل واحد منها و نقلوا ما فيه من الخلاف لأئمة اللسان أو الوفاق. ثم النظر في كيفية أخذ الرواية بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة و تفاوت رتبها و ما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول و الرد. ثم اتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مختلف و ما يناسب ذلك. هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث و غالبه و كانت أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة و التابعين معروفة عند أهل بلده فمنهم بالحجاز و منهم بالبصرة و الكوفة من العراق و منهم بالشام و مصر و الجميع معروفون مشهورون في أعصارهم و كانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممن سواهم و امتن في الصحة لاستبدادهم في شروط النقل من العدالة و الضبط و تجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك و سند الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المدينة رضي الله تعالى عنه ثم أصحابه مثل الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه، و ابن وهب و ابن بكير و القصنبي و محمد بن الحسن و من بعدهم الإمام أحمد بن حنبل و في آخرين من أمثا لهم. و كان علم الشريعة في مبدإ هذا الأمر نقلاً صرفاً شمر لها السلف و تحروا الصحيح حتى أكملوها. و كتب مالك رحمه الله كتاب الموطأ أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه و رتبه على أبواب الفقه. ثم عني الحافظ بمعرفة طرق الأحاديث و أسانيدها المختلفة. و ربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين و قد يقع الحديث أيضاً في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. و جاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين و العراقيين و الشاميين. و اعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه و كرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة آلاف حديث و مائتين. منها ثلاثة آلاف متكررة و فرق الطرق و الأسانيد عليها مختلفة في كل باب. ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله تعالى فألف مسنده الصحيح. حذا فيه حذو البخاري. في نقل المجمع عليه و حذف المتكرر منها و جمع الطرق و الأسانيد و بوبه على أبواب الفقه و تراجمه. و مع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله. و قد استدرك الناس عليهما في ذلك. ثم كتب أبو داود السجستاني و أبو عيسى الترمذي و أبو عبد الرحمن النسائي في السنن بأوسع من الصحيح و قصدوا ما توفرت فيه شروط العمل إما من الرتبة العالية في الأسانيد و هو الصحيح كما هو معرف و إما من الذي دونه من الحسن و غيره ليكون ذلك إماماً للسنة و العمل. و هذه هي المسانيد المشهورة في الملة و هي أمهات كتب الحديث في السنة فإنها و إن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب. و معرفة هذه الشروط و الاصطلاحات كلها هي علم الحديث و ربما يفرد عنها الناسخ و المنسوخ فيجعل فناً برأسه و كذا الغريب. و للناس فيه تآليف مشهورة ثم المؤتلف و المختلف. و قد ألف الناس في علوم الحديث و أكثروا. و من فحول علمائه و أئمتهم أبو عبد الله الحاكم و تآليفه فيه مشهورة و هو الذي هذبه و أظهر محاسنه. و أشهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح كان لعهد أوائل المائة السابعة و تلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك. و الفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما يحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة. و قد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث و استدراكها على المتقدمين إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة على تعددهم و تلاحق عصورهم و كفايتهم و اجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئاً من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المتأخر هذا بعيد عنهم و إنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى تصحيح الأمهات المكتوبة و ضبطها بالزواية عن مصنفيها و النظر في أسانيدها إلى مؤلفها و عرض ذلك على ما تقرر في علم الحديث من الشروط و الأحكام لتتصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها. و لم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمهات الخمس إلا في القليل. فأما البخاري و هو أعلاها رتبة فاستصعب الناس شرحه و استغلقوا منحاه من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة و رجالها من أهل الحجاز و الشام و العراق و معرفة أحوالهم و اختلاف الناس فيهم. و لذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه لأنه يترجم الترجمة و يورد فيها الحديث بسند أو طريق ثم يترجم أخرى و يورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب. و كذلك في ترجمة و ترجمة إلى أن يتكرر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه و اختلافها و من شرحه و لم يستوف هذا فيه فلم يوف حق الشرح كابن بطال و ابن المهلب و ابن التين و نحوهم. و لقد سمعت كثيراً من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة يعنون أن أحداً من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من الشرح بهذا الاعتبار. و أما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به و أكبوا عليه و أجمعوا على تفصيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه و أكثر ما وقع له في التراجم. و أملى الإمام المارزي من فقهاء المالكية عليه شرحاً و سماه المعلم بفوائد مسلم اشتمل على عيون من علم الحديث و فنون من الفقه ثم أكمله القاضي عياض من بعده و تممه و سماه إكمال المعلم و تلاهما محيي الدين النووي بشرع استوفى ما في الكتابين و زاد عليهما فجاء شرحاً وافياً. و أما كتب السنن الأخرى و فيها معظم مآخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلا ما يختص بعلم الحديث فكتب الناس عليها و استوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث و موضوعاتها و الأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها من السنة. و اعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح و حسن و ضعيف و معلول و غيرها تنزلها أئمة الحديث و جهابذته و عرفوها. و لم يغب طريق في تصحيح ما يصح من قبل. و لقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها و أسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده و طريقه يفطنون إلى أنه قلب عن وضعه و لقد وقع مثل ذلك للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد و قصد المحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قبلوا أسانيدها فقال: لا أعرف هذه و لكن حدثني فلان. ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح و رد كل متن إلى سنده و أقروا له بالإمامة. و اعلم أيضاً أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة و الإقلال فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقال بلغت روايته إلى سنة عشر حديثاً أو نحوها و مالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ و غايتها ثلثمائة حديثاً أو نحوها. و أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده خمسون ألف حديث و لكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك. و قد تقول بعض المبغضين المتعسفين إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث فلهذا قلت روايته. و لا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب و السنة. و من كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه و روايته و الجد و التشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول صحيحة و يتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. و إنما قلل منهم من قلل الرواية لأجل المطاعن التي تعترضه فيها و العلل التي تعرض في طرقها سيما و الجرح مقدم عند الأكثر فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث و طرق الأسانيد و يكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق. هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة و مأوى الصحابة و من انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر. و الإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية و التحمل و ضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي. و قلت من أجلها رواية فقل حديثه. لأنه ترك رواية الحديث متعمداً فحاشاه من ذلك. و يدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم و التعويل عليه و اعتباره رداً و قبولاً. و أما غيره من المحدثين و هم الجمهور فتوسعوا في الشروط و كثر حديثهم و الكل عن اجتهاد و قد توسع أصحابه من بعده في الشروط و كثرت روايتهم. و روى الطحطاوي فأكثر و كتب مسنده و هو جليل القدر إلا أنه لا يعدل الصحيحين لأن الشروط التي اعتمدها البخاري و مسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه. و شروط الطحطاوي غير متفق عليها كالرواية عن المستور الحال و غيره فلهذا قدم الصحيحان بل و كتب السنن المعروفة عليه لتأخر شروطه عن شروطهم. و من أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المتفق عليها. فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحق الناس بالفن الجميل بهم و التماس المخارج الصحيحة لهم. و الله سبحانه و تعالى أعلم بما في حقائق الأمور.

الفصل السابع في علم الفقه و ما يتبعه من الفرائض
الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب و الحذر و الندب و الكراهة و الإباحة و هي متلقاة من الكتاب و السنة و ما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه. و كان السلف يستخرجونها من تلك الأدلة على اختلاف فيما بينهم. و لا بد من وقوعه ضرورة. فإن الأدلة غالبها من النصوص و هي بلغة العرب و في اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها و خصوصاً الأحكام الشرعية اختلاف بينهم معروف. و أيضاً فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت و تتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى الترجيح و هو مختلف أيضاً. فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها و أيضاً فالوقائع المتجددة لا توفى بها النصوص. و ما كان منها غير ظاهر في النصوص فيحكم على المنصوص لمشابهة بينهما و هذه كلها إشارات للخلاف ضرورية الوقائع. و من هنا وقع الخلاف بين السلف و الأئمة من بعدهم. ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا و لا كان الدين يؤخذ عن جميعهم. و إنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه و منسوخه و متشابهه و محكمه و سائر دلالته بما تلقوه من النبي صلى الله عليه و سلم أو ممن سمعه منهم و من عليتهم. و كانوا يسمون لذلك القراء أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية. فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. و بقي الأمر كذلك صدر الملة. ثم عظمت أمصار الإسلام و ذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب و تمكن الاستنباط و كمل الفقه و أصبح صناعة و علماً فبدلوا باسم الفقهاء و العلماء من القراء. و انقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرأي و القياس و هم أهل العراق و طريقة أهل الحديث و هم أهل الحجاز. و كان الحديث قليلاً في أهل العراق لما قدمناه فاستكثروا من القياس و مهروا فيه فلذلك قيل أهل الرأي. و مقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه و في أصحابه أبو حنيفة و إمام أهل الحجاز مالك بن أنس و الشافعي من بعده. ثم أنكر القياس طائفة من العلماء و أبطلوا العمل به و هم الظاهرية. و جعلوا المدارك كلها منحصرة في النصوص و الإجماع و ردوا القياس الجلي و العلة المنصوصة إلى النص، لأن النص على العلة نص على الحكيم في جميع محالها. و كان إمام هذا المذهب داود بن علي و ابنه و أصحابهما. و كانت هذه المذاهب الثلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمة. و شذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها و فقه انفردوا به و بنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، و على قولهم بعصمة الأئمة و رفع الخلاف عن أقوالهم و هي كلها أصول واهية و شذ بمثل ذلك الخوارج و لم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعها جانب الإنكار و القدح. فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم و لا نروي كتبهم و لا أثر بشيء منها إلا في مواطنهم. فكتب الشيعة في بلادهم و حيث كانت دولتهم قائمة في المغرب و المشرق و اليمن و الخوارج كذلك. و لكل منهم كتب و تآليف و آراء في الفقه غريبة. ثم درس مذهب أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته و إنكار الجمهور على منتحله و لم يبق إلا الكتب المجلدة و ربما يعكف كثير من الطالبين ممن تكلف بانتحال مذهبهم على تلك الكتب يروم أخذ فقههم منها و مذهيهم فلا يخلو بطائل و يصير إلى مخالفة الجمهور و إنكارهم عليه و ربما عد بهذه النحلة من أهل البدع بنقله العلم من الكتب من غير مفتاح المعلمين. و قد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس على علو رتبته في حفظ الحديث و صار إلى مذهب أهل الظاهر و مهر فيه باجتهاد زعمه في أقوالهم. و خالف إمامهم داود و تعرض للكثير من الأئمة المسلمين فنقم الناس ذلك عليه و أوسعوا مذهبه استهجاناً و إنكاراً، و تلقوا كتبه بالإغفال و الترك حتى إنها ليحصر بيعها بالأسواق و ربما تمزق في بعض الأحيان. و لم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق و أهل الحديث من الحجاز. فأما أهل العراق فإمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت و مقامه في الفقه لا يلحق شهد له بذلك أهل جلده و خصوصاً مالك و الشافعي. و أما أهل الحجاز فكال إمامهم مالك ابن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى و اختص بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره و هو عمل أهل المدينة لأنه رأى أنهم فيما ينفسون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم و اقتدائهم. و هكذا إلى الجبل المباشرين لفعل النبي صلى الله عليه و سلم الآخذين ذلك عنه و صار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية. و ظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم بل هو شامل للأمة. و اعلم أن الإجماع إنما هو الإتفاق على الأمر الديني عن اجتهاد. و مالك رحمه الله تعالى لم يعتير عمل أهل المدينة من هذا المعنى و إنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله و سلامه عليه. و ضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعم الملة ذكرت في باب الإجماع و الأبواب بها من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها و بين الإجماع. إلا أن اتفاق أهل الإجماع عن نظر و اجتهاد في الأدلة و اتفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم. و لو ذكرت المسألة في باب فعل النبي صلى الله عليه و سلم و تقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي و شرع من قبلنا و الاستصحاب لكان أليق بها ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رحمهم االله تعالى. رحل إلى العراق من بعد مالك و له أصحاب الإمام أبي حنيفة و أخذ عنهم و مزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق و اختص بمذهب، و خالف مالكاً رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه. و جاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله. و كان من علية المحدثين و قرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصوا بمذهب آخر. و وقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة و درس المقلدون لمن سواهم. و سد الناس باب الخلاف و طرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم. و لما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد و لما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله و من لا يوثق برأيه و لا بدينه فصرحوا بالعجز و الإعواز و ردوا الناس إلى تقليد هؤلاء كل من اختص به من المقلدين. و حظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب و لم يبق إلا نقل مذاهبهم. و عمل كل فقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول و اتصال سندها بالرواية لا محصول اليوم للفقه غير هذا. و مدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده و قد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة. فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد و أصالته في معاضدة الرواية و للأخبار بعضها ببعض. و أكثرهم بالشام و العراق من بغداد و نواحيها و هم أكثر الناس حفظاً للسنة و رواية الحديث و ميلاً بالإستنباط إليه عن القياس ما أمكن. و كان لهم ببغداد صولة و كثرة حتى كانوا يتواقعون مع الشيعة في نواحيها. و عظمت الفتنة من أجل ذلك ثم انقطع ذلك عند استيلاء التتر عليها. و لم يراجع و صارت كثرتهم بالشام. و أما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق و مسلمة الهند و الصين و ما وراء النهر و بلاد العجم كلها.. و لما كان مذهبه أخص بالعراق و دار السلام و كان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العباس فكثرت تآليفه و مناظراتهم مع الشافعية و حسنت مباحثهم في الخلافيات. و جاءوا منها بعلم مستظرف و أنظار غريبة و هبى بين أيدي الناس. و بالمغرب منها شيء قليل نقله إليه القاضي بن العربي و أبو الوليد الباجي في رحلتهما. و أما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها و قد كان انتشر مذهبه بالعراق و خراسان و ما وراء النهر و قاسموا الحنفية في الفتوى و التدريس في جميع الأمصار. و عظمت مجالس المناظرات بينهم و شحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم. ثم درس ذلك كله بدروس المشرق و أقطاره. و كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي لما نزل على بني عبد الحكم بمصر أخذ عنه جماعة منهم. و كان من تلميذه بها: البويطي و المزني و غيرهم، و كان بها من المالكية جماعة من بني عبد الحكم و أشهب و ابن القاسم و ابن المواز و غيرهم ثم الحارس بن مسكين و بنوه ثم القاضي أبو إسحق بن شعبان و أو لاده. ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر بظهور دولة الرافضة و تداول بها فقه أهل البيت و تلاشى من سواهم و ارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد. آخر المائة الرابعة على ما أعلم، من الحاجة و التقليب في المعاش. فتأذن خلفاء العبيديين بإكرامه، و إظهار فضله نعياً على بني العباس في إطراح مثل هذا الإمام، و الإغتباط به. فنفقت سوق المالكية بمصر قليلاً، إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب فذهب منها فقه أهل البيت و عاد فقه الجماعة إلى الظهور بينهم و رجع إليهم فقه الشافعي و أصحابه من أهل العراق و الشام فعاد إلى أحسن ما كان و نفقت سوقه و اشتهر منهم محيي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام و عز الدين بن عبد السلام أيضاً. ثم ابن الرقعة بمصر و تقي الدين بن دقيق العيد ثم تقي الدين السبكي بعدهما إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد و هو سراج الدين البلقيني فهو اليوم أكبر الشافعية بمصر كبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر. و أما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب و الأندلس. و إن كان يوجد في غيرهم إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل لما أن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز و هو منتهى سفرهم. و المدينة يومئذ دار العلم و منها خرج إلى العراق و لم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة. و شيخهم يومئذ و إمامهم مالك و شيوخه من قبله و تلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب و الأندلس و قلدوه دون غير ممن لم تصل إليهم طريقته. و أيضاً فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب و الأندلس و لم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة، و لهذا لم يزل المذهب المالكي غضاً عندهم، و لم يأخذه تنقيح الحضارة و تهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب. و لما صار مذهب كل إمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه و لم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد و القياس فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الالحاق و تفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذاهب إمامهم. و صار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة و اتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا. و هذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد. و أهل المغرب جميعاً مقلدون لمالك رحمه الله. و قد كان تلاميذه افترقوا بمصر و العراق. فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل و طبقته مثل ابن خويز منداد و ابن اللبان و القاضي و أبي بكر الأبهري و القاضي أبي حسين بن القصار و القاضي عبد الوهاب و من بعدهم. و كان بمصر ابن القاسم و أشهب و ابن عبد الحكم و الحارث بن مسكين و طبقتهم و رحل من الأندلس يحيى بن يحيى الليثي، و لقي مالكاً. و روى عنه كتاب الموطأ، و كان من جملة أصحابه. و رحل بعده عبد الملك بن حبيب فأخذ عن ابن القاسم و طبقته و بث مذهب مالك في الأندلس و دون فيه كتاب الواضحة. ثم دون العتبي من تلامذته كتاب العتبية. و رحل من أفريقية أسد بن الفرات فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً. ثم انتقل إلى مذهب مالك. و كتب على ابن القاسم في سائر أبواب الفقه و جاء إلى القيروان بكتابه و سمي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد ثم ارتحل إلى المشرق و لقي ابن القاسم و أخذ عنه و عارضه بمسائل الأسدية فرجع عن كثير منها. و كتب سحنون مسائلها و دونها و أثبت ما رجع عنه منها و كتب لأسد و أن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك فترك الناس كتابه و اتبعوا مدونة سحنون على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمى المدونة و المختلطة. و عكف أهل القيروان على هذه المدونة و أهل الأندلس على الواضحة و العتبية. ثم اختصر ابن أبي زيد المدونة و المختلطة في كتابه المسمى بالمختصر و لخصه أيضاً أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب و اعتمده المشيخة من أهل أفريقية و أخذوا به و تركوا ما سواه. و كذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبية و هجروا الواضحة و ما سواها. و لم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح و الإيضاح و الجمع فكتب أهل أفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس و اللخمي و ابن محرز التونسي و ابن بشير و أمثالهم. و كتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن رشد و أمثاله. و جمع ابن أ بي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل و الخلاف و الأقوال في كتاب النوادر فاشتمل على جميع أقوال المذاهب و فرع الأمهات كلها في هذا الكتاب و نقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة و زخرت بحار المذهب المالكي في الأفقين إلى انقراض دولة قرطبة و القيروان. ثم تمسك بهما أهل المغرب بعد ذلك إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب لخص فيه طرق أهل المذهب في كل باب و تعديد أقوالهم في كل مسئلة فجاء كالبرنامج للمذهب. و كانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين و ابن المبشر و ابن اللهيث و ابن الرشيق و ابن شاس. و كانت بالإسكندرية في بني عوف و بني سند و ابن عطاء الله. و لم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب لكنه جاء بعد انقراض دولة العبيديين و ذهاب فقه أهل البيت و ظهور فقهاء السنة من الشافعية و المالكية و لما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة عكف عليه الكثير من طلبة المغرب و خصوصاً أهل بجاية لما كان كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي ***ه إلى المغرب. فإنه كان قرأ على أصحابه بمصر و نسخ مختصره ذلك فجاء به و انتشر بقطر بجاية في تلميذه، و منهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربية و طلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته و يتدارسونه لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه. و قد شرحه جماعة من شيوخهم: كابن عبد السلام و ابن رشد و أبي هارون و كلهم من مشيخة أهل تونس و سابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السلام و هم مع ذلك يتعاهدون كتاب التهذيب في دروسهم. و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الفصل الثامن في علم الفرائض
و هو معرفة فروض الوراثة و تصحيح سهام الفريضة مما تصح، باعتباره فروضها الأصول أو مناسختها. و ذلك إذا هلك أحد الورثة و انكسرت سهامه على فروض ورثته فإنه حينئذ يحتاج إلى حسب تصحيح الفريضة الأولى حتى يصل أهل الفروض جميعاً في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزئة. و قد تكون هذه المناسخات أكثر من واحد و اثنين و تتعدد لذلك بعدد أكثر. و يقدر ما تحتاج إلى الحسبان و كذلك إذا كانت فريضة ذات وجهين مثل أن يقر بعض الورثة بوارث و ينكره الآخر فتصحح على الوجهين حينئذ. و ينظر مبلغ السهام ثم تقسم التركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة. و كل ذلك يحتاج إلى الحسبان و كان غالباً فيه و جعلوه فناً مفرداً. و للناس فيه تآليف كثيرة أشهرها عند المالكية من متأخري الأندلس كتاب ابن ثابت و مختصر القاضي أبي القاسم الحوفي ثم الجعدي و من متأخري أفريقية ابن النمر الطرابلسي و أمثالهم. و أما الشافعية و الحنفية و الحنابلة فلهم فيه تآليف كثيرة و أعمال عظيمة صعبة شاهدة لهم باتساع الباع في الفقه و الحساب و خصوصاً أبا المعالي رضي الله تعالى عنه و أمثاله من أهل المذاهب و هو فن شريف لجمعه بين المعقول و المنقول و الوصول به إلى الحقوق في الوراثات بوجوه صحيحة يقينية عندما تجهل الحظوظ و تشكل على القاسمين. و للعلماء من أهل الأمصار بها عناية. و من المصنفين من يحتاج فيها إلى الغلو في الحساب و فرض المسائل التي تحتاج إلى استخراج المجهولات من فنون الحساب كالجبر و المقابلة و التصرف في الجذور و أمثال ذلك فيملأون بها تآليفهم. و هو و إن لم يكن متداولاً بين الناس و لا يفيد فيما يتداولونه من وراثتهم لغرابته و قلة وقوعه فهو يفيد المران و تحصيل الملكة في المتداول على أكمل الوجوه. و قد يحتج الأكثر من أهل هذا الفن على فضله بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الفرائض ثلث العلم و أنها أول ما ينسى و في رواية نصف العلم خرجه أبو نعيم الحافظ و احتج به أهل الفرائض بناء على أن المراد بالفرائض فروض الوراثة. و الذي يظهر أن هذا المحل بعيد و أن المراد بالفرائض إنما هي الفرائض التكليفية في العبادات و العادات و المواريث و غيرها و بهذا المعنى يصح فيها النصفية و الثلثية. و إما فروض الوراثة فهي أقل من ذلك كله بالنسبة إلى علم الشريعة كلها يعني هذا المراد أن حمل لفظ الفرائض على هذا الفن المخصوص أو تخصيصه بفروض الوراثة إنما هو اصطلاح ناشئ للفقهاء عند حدوث الفنون و الاصطلاحات. و لما يكن صدر الإسلام يطلق على هذا إلا على علومه مشتقاً من الفرض الذي هو لغة التقدير أو القطع. و ما كان المراد به في إطلاقه إلا جميع الفروض كما قلناه و هي حقيقته الشرعية فلا ينبغي. أن يحمل إلا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم منه. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل التاسع في أصول الفقه و ما يتعلق به من الجدل و الخلافيات
إعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية و أجلها قدراً و أكثرها فائدة و هو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام و التآليف. و أصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن ثم السنة المبينة له. فعلى عهد النبي صلى الله عليه و سلم كانت الأحكام تتلقى منه بما يوحى إليه من القرآن و بينه بقوله و فعله بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل و لا إلى نظر و قياس. و من بعده صلوات الله و سلامه عليه تعذر الخطاب الشفاهي و انحفظ القرآن بالتواتر. و أما السنة فأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها قولاً أو فعلاً بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه. و تعينت دلالة الشرع في الكتاب و السنة بهذا الإعتبار ثم ينزل الإجماع منزلتهما لإجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم. و لا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلاً ثابتاً في الشرعيات. ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة و السلف بالكتاب و السنة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما. و يناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم و تسليم بعضهم لبعض في ذلك. فإن كثيراً من الواقعات بعده صلوات الله و سلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت و ألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق. تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين. حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد و صار ذلك دليلاً شرعياً بإجماعهم عليه. و هو القياس و هو رابع الأدلة و اتفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة و إن خالف بعضهم في الإجماع و القياس إلا أنه شذوذ في و ألحق بعضهم بهذه الأدلة الأربعة أدلة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها. لضعف مداركها و شذوذ القول فيها. فكان من أول مباحث هذا الفن النظر في كون هذه أدلة. فأما الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه و التواتر في نقله. فلم يبق فيه مجال للاحتمال و أما السنة و ما نقل إلينا منها فالإجماع على وجوب العمل بما يصح منها كما قلناه. معتضداً بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله و سلمه عليه من إنفاذ الكتب و الرسل إلى النواحي بالأحكام و الشرائع آمراً و ناهياً. و أما الإجماع فلاتفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثابتة للأمة و أما القياس فبإجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه كما قدمناه. هذه أصول الأدلة ثم إن المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنظر في طرق النقل و عدالة الناقلين لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه الذي هو مناط وجوب العمل بالخير. و هذه أيضاً من قواعد الفن. و يلحق بذلك عند التعارض بين الخبرين و طلب المتقدم منهما معرفة الناسخ و المنسوخ و هي من فصوله أيضاً و أبوابه. ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالة الألفاظ و ذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة و مركبة. و القوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو و التصريف و البيان و حين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علوماً و لا قوانين و لم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنها جبلة و ملكة. فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح و مقاييس مستنبطة صحيحة و صارت علوماً يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام و هي استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة من تراكيب الكلام و هو الفقه. و لا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة و بها تستفاد الأحكام بحسب ما أصل أهل الشرع و جهابذة العلم من ذلك و جعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أن اللغة لا تثبت قياساً و المشترك لا يراد به معناه معاً و الواو لا تقتضي الترتيب و العام إذا أخرجت أفراد الخاص منة هل يبقى حجة فيما عداها و الأمر للوجوب أو الندب و للفور أو التراخي و النهي يقتضي الفساد أو الصحة و المطلق هل يحمل على المقيد و النص على العلة كاف في التعدد أم لا و أمثال هذه. فكانت كلها من قواعد هذا الفن. و لكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية. ثم إن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن لأن فيه تحقيق الأصل و الفرع فيما يقاس و يماثل من الأحكام و ينفتح الوصف الذي يغلب على الظن أن الحكم علق به في الأصل من تبين أوصاف ذلك المحل أو وجود ذلك الوصف في الفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابع ذلك كلها قواعد لهذا الفن. و اعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة و كان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. و أما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً فمنهم أخذ معظمها. و أما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة و خبرتهم بهم. فلما انقرض السلف و ذهب الصدر الأول و انقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل احتاج الفقهاء و المجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين و القواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه. و كان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي و البيان و الخبر و النسخ و حكم العلة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه و حققوا تلك القواعد و أوسعوا القول فيها. و كتب المتكلمون أيضا كذلك إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه و أليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها و الشواهد و بناء المسائل فيها على النكت الفقهية. و المتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه و يميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن لأنه غالب فنونهم و مقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية و التقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن. و جاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم و تمم الأبحاث و الشروط التي يحتاج إليها فيه و كملت صناعة أصول الفقه بكماله و تهذبت مسائله وتمهدت قواعده و عني الناس بطريقة المتكلمين فيه. و كان من أحسن ما كتب فيه التكلمون كتابه البرهان لأمام الحرمين و المستصفى للغزالي و هما من الأشعرية و كتاب العهد لعبد الجبار و شرحه المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة. و كانت الأربعة قواعد هذا الفن و أركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من التكلمين المتأخرين و هما الإمام فخز الدين بن الخطيب في كتاب المحصول و سيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام. و اختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق و الحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج و الآمدي مولع بتحقيق المذاهب و تفريع المسائل. و أما كتاب المحصول فاختصره تلميذ الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب التحصيل و تاج الدين الأرموي في كتاب الحاصل و اقتطف شهاب الدين القرافي منهما فقدمات و قواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات. و كذلك فعل البيضاوي في كتاب المنهاج. و عني المبتدئون يهذين الكتابين و شرحهما كثير من الناس. و أما كتاب الإحكام للآمدي و هو أكثر تحقيقا في المسائل فلخصة أبو عمر بن الحاجب في كتابي المعروف بالمختصر الكبير. ثم أختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم و عني أهل المشرق و المغرب به و بمطالعته و شرحه و حصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات. و أما طريقة الخنفية فكتبوا فيها كثيرا و كان من أحسن كتابة فيها. للمتقدمين تأليف أبي زيد الدبوسي و أحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم و هو مستوعب و جاء ابن الساعاتي من فقهاء الخنفية فجمع بين كتاب الإحكام و كتاب البزدوني في الطريقتين و سمي كتابه بالبدائع فجاء من أحسن الأوضاع و أبدعها و أئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة و بحثا. و أولع كثير من علماء العجم بشرحه. و الحال على ذلك لهذا العهد. هذه حقيقة هذا الفن و تعيين موضوعاته و تعديد التأليف المشهورة لهذا العهد فيه. و الله ينفعنا بالعلم و يجعلنا من أهله بمنه و كرمه إنه على كل شيء قدير.
و أما الخلافات فاعلم أن هذا الفقة المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين ياختلاف مداركهم و أنظارهم خلافا لا بد من وقوعه لما قدمناه. و اتسع ذلك في الملة اتساعا غظيما و كان للمقلدين أن يقلدوا من شاؤوا منهم ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار و كانوا بمكان من حسن الظن بهم اقتصر الناس على تقليدهم و منعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته و تشعب العلوم التي هي موادة باتصال الزمان و افتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة. فاقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة و أجري الخلاف بين المتمسكين بها و الآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية و الأصول الفقهية. و جرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة و طرائق قويمة يحتج بها كل على صحة مذهبه الذي قلده و تمسك به و أجريت في مسائل الشريعة كلها و في كل باب من أبواب الفقه فتارة يكون الخلاف بين الشافعي و مالك و أبو حنيفة يوافق أحدهما و تارة بين مالك و أبي حنيفة و الشافعي يوافق أحدهما و تارة بين الشافعي و أبي حنيفة و مالك يوافق أحدهما و كان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة و مثارات اختلافهم و مواقع اجتهادهم. كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات. و لابد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط و صاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته. و هو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة و أدلتهم و مران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الإستدلال عليه. وتآليف الحنفية و الشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النظر و البحث. و أما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم و ليسوا بأهل نظر و أ يضا فأكثرهم أهل الغرب و هم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل. و للغزالي رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ و لأبي بكر العربي من المالكية كتاب التلخيص ***ه من المشرق. و لأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة و لابن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدلة و قد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليها من الفقه الخلافي مدرجا، في كل مسألة ما ينبني عليها من الخلافيات.
و أما الجدال و هو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية و غيرهم فإنة لما كان باب المناظرة في الرد و القبول متسعا و كل واحد من المتناظرين في الاستدلال و الجواب يرسل عنانة في الاحتجاج. و منة ما يكون صوابا و منة ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا و أحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد و القبول و كيف يكون حال المستدل و المجيب و حيث يسوغ له أن يكون فستدلا و كيف يكون مخصوصا فنقطعا و محل اعتراضه أو معارضته و أين يجب عليه السكوت و لخصمه الكلام و الإستدلال. و لذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود و الآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي و هدمه سواء كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره. و هي طريقتان طريقة البزدوي و هي خاصة بالأدلة الشرعية من النص و الإجماع و الإستدلال و طريقة العميدي و هي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان و أكثره استدلال. و هو من المناحي الحسنة و المغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. و إذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي و السوفسطائي. إلا أن صور الأدلة و الأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. و هذا العميدي هو أول من كتب فيها و نسبت الطريقة إليه. وضع الكتاب المسمى يالإرشاد مختصرا و تبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي و غيره جاؤوا على أثره و سلكوا مسلكه و كثرت في الطريقة التآليف. و هي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم و التعليم في الأمصار الإسلامية. و هي مع ذلك كمالية و ليست ضرورية و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل العاشر: في علم الكلام
هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية و الرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف و أهل السنة. و سر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد. فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق و المآخذ ثم نرجع إلى تحقيق علمه و فيما ينظر و يشير إلى حدوثه في الملة و ما دعا إلى وضعه فنقول: إعلم أن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلابد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة و عنها يتم كونة. و كل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلابد له من أسباب أخرى و لا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب و موجدها و خالقها سبحانه لا إله إلا هو. و تلك الأسباب في ارتقائها تتفسح و تتضاعف طولا و عرضا و يحار العقل في إدراكها و تعديدها. فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط سيما الأفعال البشرية و الحيوانية فإن من جملة أسبابها في الشاهد القصود و الإرادات إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته و القصد إليه. و القصود و الإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة يتلو بعضها بعضا. و تلك التصورات هي أسباب قصد الفعل و قد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى و كل ما يقع في النفس من التصورات مجهول سببه. إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية و لا على ترتيبها. إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا و الإنسان عاجز عن معرفة مبادئها و غاياتها. و إنما يحيط علما في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة و يقع في مداركها على نظام و ترتيب لأن الطبيعة محصورة للنفس و تحت طورها. و أما التصورات فنطاقها أوسع من النفس لأنها للعقل الذي هو فوق طور النفس فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة. و تأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب و الوقوف معها فإنه واد يهيم فيه الفكر و لا يحلو منة يطائل و لا يظفز بحقيقة. قال الله: ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. و ربما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمة و أصبح من الضابين الهالكين نغوذ بالله من الحرمان و الخسران المبين. و لا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنة في قدرتك و اختيارك بل هو لون يحصل للنفس و صبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها. إذ لو علمناها لتحررنا منها. فلنتحرر من ذلك بقطع النظر عنها جملة. و أيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول لأنها إنما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشاهد يالاستناد إلى الظاهر. وحقيقة التأثير و كيفيته مجهولة. و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا. فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها و إلغائها جملة و التوجه إلى مسبب الأسباب كلها و فاعلها و موجدها لترسخ صفة التوحيد في النفس على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا و طرق سعادتنا لاطلاعه على ما وراء الحسن. قال صلى الله عليه و سلم: من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة. فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع و حقت عليه كلمة الكفر و أن سبح في بحر النظر و البحث عنها و عن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فإنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة. فيذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب و أمرنا بالتوجيد المطلق قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد و لم يولد * ولم يكن له كفوا أحد و لا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات و أسبابها و الوقوف على تفصيل الوجود كله و سفه رأيه في ذلك. و اعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها و الأمر في نفسه بخلاف ذلك و الحق من ورائه. ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع و المعقولات و يسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. و كذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات و لولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء و المشيخة من أهل عصرهم و الكافة لما أقروا به لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم و طبيعة إدراكهم و لو سئل الحيوان الأعجم و نطق لوجدناه منكرا للمعقولات و ساقطة لديه بالكلية فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة و خلق الله أكبر من خلق الناس. و الحصر مجهول و الوجود أوسع نطاقا من ذلك و الله من ورائهم محيط. فاتهم إدراكك و مدركاتك في الحصر و اتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك و عملك فهو أحرص على سعادتك و أعلم يما ينفغك لأنه من طور فوق إدراكك و من نطاق أوسع من نطاق عقلك و ليس ذلك بقادح في العقل و مداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد و الآخرة و حقيقة النبوة و حقائق الصفات الإلهية و كل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال. و مثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن يه الجبال و هذا لا يدرك. على أن الميزان في أحكامه غير صادق لكن العقل قد يقف عنده و لا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله و يصفاته فإنة ذرة من ذرات الوجود الحاصل منة. و تفطن في هذا الغلط و من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا و قصور فهمه و اضمحلال رأيه فقد تبين لك الحق من ذلك و إذ تبين ذلك فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الإرتقاء نطاق إدراكنا و وجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيداء الأوهام و يحار و ينقطع. فإذا التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب و كيفيات تأثيرها و تفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيرة و كلها ترتقي إليه و ترجع إلى قدرته و علمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنة لا غير و هذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين: العجز عن الإدراك إدراك. ثم إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي فإن ذلك من حديث النفس و إنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس كما أن المطلوب من الأعمال و العبادات أيضا حصول ملكة الطاعة و الانقياد و تفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتى ينقلب المريد السالك ربانيا. و الفرق بين الحال و العلم في العقائد فرق ما بين القول و الاتصاف. و شرحه أن كثيرا من الناس يعلم أن رحمة اليتيم و المسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها و يقول بذلك و يعترف به و يذكر مأخذه من الشريعة و هو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفرعنه و استنكف أن يباشره فضلا عن التمسح عليه للرحمة و ما بعد ذلك من مقامات العطف و الحنو و الصدقة. فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم و لم يحصل له مقام الحال و الاتصاف. ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم و الاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول و هو الاتصاف بالرحمة و حصول ملكتها. فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه و مسح عليه و التمس الثواب في الشفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك و لو دفع عنه. ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده و كذا علمك بالتوحيد مع اتصافك به و العلم حاصل عن الاتصاف ضرورة و هو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتصاف. و ليس الاتصاف بحاصل عن مجرد العلم حتى يقع العمل و يتكرر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة و يحصل الاتصاف و التحقيق و يجيء العلم الثاني النافع في الآخرة. فإن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى و النفع و هذا علم أكثر النظار و المطلوب إنما هو العلم الحالي الناشئ عن العادة. و اعلم أن الكمال عند الشارع في كل ما كلف به إنما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف و ما طلب عمله من العبادات فالكمال فيها في حصول الاتصاف و التحقق بها. ثم إن الإقبال على العبادات و المواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة. قال صلى الله عليه و سلم: في رأس العبادات جعلت قرة عيني في الصلاة فإن الصلاة صارت له صفة و حالا يجد فيها منتهى لذاته و قرة عينه و أين هذا من صلاة الناس و من لهم بها ؟ فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون اللهم وفقنا اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين فقد تبين لك من جميع ما قررناه أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس يحصل عنها علم اضطراري للنفس هو التوحيد و هو العقيدة الإيمانية و هو الذي تحصل به السعادة و أن ذلك سواء في التكاليف القلبية و البدنية. و يتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف و ينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب. أولها التصديق القلبي الموافق للسان و أعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي و ما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح. و تندرج في طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني. و هذا أرفع مراتب الإيمان و هو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة و لا كبيرة إذ حصول الملكة و رسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة غين قال صلى الله عليه و سلم: لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن و في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه و سلم و أحواله فقال في أصحابه: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قال: لا ! قال: و كذلك الإيمان حين تخالط بشاشتة القلوب. و معناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرت فإنها تحصل بمثابة الجبلة و الفطرة و هذه هي المرتبة العالية من الإيمان و هي في المرتبة الثانية من العصمة. لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوبا سابقا و هذه حاصلة للمؤمنية حصولا تابعا لأعمالهم و تصديقهم. و بهذه الملكة و رسوخها يقع التفاوت في الإيمان كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف. و في تراجم البخاري رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه. مثل أن الإيمان قول و عمل و يزيد و ينقص و أن الصلاة و الصيام من الإيمان و أن تطوع رمضان من الإيمان و الحياء من الإيمان. و المراد بهذا كله الإيمان الكامل الذي أشرنا إليه و إلى ملكته و هو فعلي. و أما التصديق الذي هو أول مراتبه فلا تفاوت فيه. فمن اعتبر أوائل الأسماء و حمله على التصديق منع من التفاوت كما قال أئمة المتكلمين و من اعتبر أواخر الأسماء و حمله على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له التفاوت. و ليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق إذ التصديق موجود في جميع رتبه لأنة أقل ما يطلق عليه اسم الإيمان و هو المخلص من عهدة الكفر و الفيصل بين الكافر و المسلم فلا يجزي أقل منه. و هو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت و إنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم. و اعلم أن الشارع وصف لنا هذاالإيمان الذي في المرتبة الأولى الذي هو تصديق و عين أمورا مخصوصة كلفنا التصديق بها بقلوبنا و اعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا و هي العقائد التي تقررت في الدين. قال صلى الله عليه و سلم حين سئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و تؤمن بالقدر خيره و شره و هذه هي العقائد الإيمانية المقررة في عليم الكلام. و لنشر إليها مجملة لتتبين في حقيقة هذا الفن و كيفية حدوثه فنقول. اعلم أن الشارع لقد أمرنا بالإيمان بهذا الخالق الذي رد الأفعال كلها إليه و أفرده به كما قدمناه و عرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود و هو إذ ذاك يتعذر على إدراكنا و من فوق طورنا. فكلنا أولا: اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة المخلوقين و إلا لما صح أنة خالق لهم لعدم الفارق على هذا التقدير ثم تنزيهه غن صفات النقص و إلا لشابة المخلوقين ثم توحيده با لاتحاد و إلا لم يتم الخلق للتمانع ثم اعتقاد أنه عالم قادر فبذلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الاتحاد و الخلق و مريد و إلا لم يخصص شيء من المخلوقات و مقدر لكل كائن و إلا فالإرادة حادثة. و أنة يعيدنا بعد الموت تكميلا لعنايته، بالإيجاد و لو كان لأمر فإن كان عبثا فهو للبقاء السرمدي بعد الموت. ثم اعتقاد بعثة الرسل للنجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحوله بالشقاء و السعادة و عدم معرفتنا بذلك و تمام لطفه بنا في الإيتاء بذلك و بيان الطريقين. و أن الجنة للنعيم و جهنم للعذاب. هذه أمهات العقائد الإيمانية معللة بأدلتها العقلية و أدلتها من الكتاب و السنة كثيرة. و عن تلك الأدلة أخذها السلف و أرشد إليها العلماء و حققها الأئمة إلا أنة عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام و التناظر و الاستدلال يالعقل و زيادة إلى النقل. فحدث بذلك علم الكلام. و لنبين لك تفصيل هذا المجمل. و ذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة و هي سلوب كلها و صريحة في بابها فوجب الإيمان بها. و وقع في كلام الشارع صلوات الله عليه و كلام الصحابة و التابعين تفسيرها على ظاهرها. ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه مرة في الذات و أخرى في الصفات. فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها و وضوح دلالتها، و علموا استحالة التشبيه. و قضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها و لم يتعرضوا لمعناها ببحث و لا تأويل. و هذا معنى قول الكثير منهم: إقرأوها كما جاءت أي آمنوا بأنها من عند الله. و لا تتعرضوا لتأويلها و لا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء. فيجب الوقف و الإذعان له. و شذ لعصرهم مبتدعة أتبعوا ما تشابه من الآيات و توغلوا في التشبيه. ففريق أشبهوا، في الذات باعتقاد اليد و القدم و الوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح و مخالفة آي التنزيه المطلق التس هي أكثر موارد و أوضح دلالة لأن معقولية الجسم تقتضي النقص و الافتقار. و تغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد و أوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية و جمع بين الدليلين بتأويلها ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. و ليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض و جمع بين نفي و إثبات إن كانا بالمعقولية واحدة من الجسم، و إن خالفوا بينهما و نفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه و لم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه. ويتوقف مثلة على الأذن. و فريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة و الاستواء و النزول و الصوت و الحرف و أمثال ذلك. و آل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا كالنزول يعنون من الأجسام. و اندفع ذلك بما اندفع به الأول، و لم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف و مذاهبهم و الإيمان بها كما هي لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن. و لهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لابن أبى زيد و كتاب المختصر له و في كتاب الحافظ ابن عبد البر و غيرهم فإنهم يحومون على هذا المعنى. و لا تغمض عينك عن القرائن الدالة على ذلك في غضون كلامهم. ثم لما كثرت العلوم و الصنائع و ولى الناس بالتدوين و البحث في سائر الأنحاء و ألف المتكلمون في التنزيه حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم و القدرة و الإرادة و الحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم و هو مردود بأن الصفات ليست عين الذات و لا غيرها و قضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأن معناه سبق الإرادة للكائنات و قضوا بنفي السمع و البصر لكونهما من عوارض الأجسام. و هو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ و إنما هو إدراك المسموع أو المبصر. و قضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع و البصر و لم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس فقضوا بأن القرآن مخلوق و ذلك بدعة صرح السلف بخلافها. و عظم ضرر هذه البدعة و لقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها و خالفهم أئمة السلف فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودماؤهم، و كان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع و قام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق و نفى التشبيه و أثبت الصفات المعنويه و قصر التنزيه على ما قصره عليه السلف. و شهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية و السمع و البصر و الكلام القائم بالنفس بطريق النقل و العقل. و رد على المبتدعة في ذلك كله و تكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح و الأصلح و التحسين و التقبيح و كمل العقائد في البعثة و أحوال المعاد و الجنة و النار و الثواب و العقاب. و ألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان و إنه يجب على النبي تعيينها و الخروج عن العهدة في ذلك لمن هي له، و كذلك على الأمة. و قصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية و لا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن و سموا مجموعة علم الكلام: إما لما فيه من المناظرة على البدع و هي كلام صرف و ليست براجعة إلى عمل، و إما لأن سبب وضعه و الخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي. و كثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري و اقتفى طريقتة من بعده تلميذه كابن مجاهد و غيره. و أخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم و هذبها و وضع المقدمات العقلية التى تتوقف عليها الأدلة و الأنظار و ذلك مثل إثبات الجوهر الفرد و الخلاء. و أن العرض لا يقوم بالعرض و أنه لا يبقى زمانين. و أمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. و جعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها و أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. و جملت هذه الطريقة و جاءت من أحسن الفنون النظرية و العلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان. على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم و لأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة و تعتبر بها الأقيسة و لم تكن حينئذ ظاهرة في المئلة، و لو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك. ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطريقة كتاب الشامل و أوسع القول فيه. ثم لخصه في كتاب الإرشاد و اتخذه الناس إماما لعقائدهم. ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة و قرأه الناس و فرقوا بينه و بين العلوم الفلسفية بأنة قانون و معيار للأدلة فقط يسبر به الأدلة منها كما تسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد و المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلت إلى ذلك و بما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات و الإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها و لم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى و تسمى طريقة المتأخرين و ربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية و جعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة و مذاهبهم. و أول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله و تبعه الإمام ابن الخطيب و جماعة قفوا أثرهم و اعتمدوا تقليدهم ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة و التبس عليهم شان الموضح في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما. و اعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات و أحوالها على وجود البارئ و صفاته و هو نوع استدلالهم غالبا. و الجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات و هو بعض من هذه الكائنات. إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم و هو ينظر في الجسم من حيث يتحرك و يسكن و المتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. و كذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق و ما يقتضيه لذاته و نظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد. و بالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن ستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع و تزول الشكوك و الشبيه عن تلك العقائد و إذا تأملت حال الفن قي حدوثه و كيف تدرج كلام الناس فيه صدرا بعد صدر و كلهم يفرض العقائد صحيحة و يستنهض الحجج و الأدلة علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن و أنه لا يعدوه. و لقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين و التبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر. و لا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع و من جاء بعدة من علماء العجم في جميع تآليفهم. إلا أن هذه الطريقة قد يعنى بها بعض طلبة العلم للاطلاع على المذاهب و الإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها. و أما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين و أصلها كتاب الإرشاد و ما حذا حذوة. و من أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزالي و الإمام ابن الخطيب فإنها و إن وقع فيها مخالفة للإصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل و الالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم و على الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة و المبتدعة قد انقرضوا و الأئمة. من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا و دونوا و الأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا و نصروا. و أما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير إيهاماته و إطلاقه و لقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مر بهم بعض المتكلمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء ؟ فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث و سمات النقص. فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب لكن فائدته في آحاد الناس و طلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها. و الله ولي المؤمنين.
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59