عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 01-09-2012, 01:50 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

القسم الثالث من تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا
و في الجزء السادس من هذا الإقليم في جنوبه و غربه بلاد ارمينية متصلة إلى أن يتجاوز وسط الجزء إلى جانب الشرق و فيها بلدان أردن في الجنوب و الغرب و في شمالها تفليس و دبيل و في شرق أردن مدينة خلاط ثم بردعة في جنوبها بانحراف إلى الشرق مدينة أرمينية و من هنالك مخرج بلاد أرمينية إلى الإقليم الرابع و فيها هنالك بلد المراغة في شرقي جبل الأكراد المسمى بأرمى و قد مر ذكره في الجزء السادس منه و يتاخم بلاد أرمينية في هذا الجزء و في الإقليم الرابع قبله من جهة الشرق فيها بلاد أذربيجان و آخرها في هذا الجزء شرقاً بلاد اردبيل على قطعة من بحر طبرستان دخلت في الناحية الشرقية من الجزء السابع و يسمى بحر طبرسان و عليه من شماله في هذا الجزء قطعة من بلاد الخزر و هم التركمان و يبدأ من عند آخر هذه القطعة البحرية في الشمال جبال يتصل بعضها ببعض على سمت الغرب إلى الجزء الخاص فتمر فيه منعطفة و محيطة ببلد ميافارقين و يخرج إلى الإقليم الرابع عند آمد و يتصل بجبل السلسلة في أسافل الشام و من هنالك يتصل بجبل اللكام كما مر و بين هذه الجبال الشمالية في هذا الجزء ثنايا كالأبواب تفضي من الجانبين ففي جنوبيها بلاد الأبواب متصلة في الشرق إلى بحر طبرستان و عليه من هذه البلاد مدينة باب الأبواب و تتصل بلاد الأبواب في الغرب من ناحية جنوبيها ببلد أرمينية و بينهما في الشرق و بين بلاد أذربيجان الجنوبية بلاد الزاب متصلة إلى بحر طبرستان و في شمال هذه الجبال قطعة من هذا الجزء في غربها مملكة السرير في الزاوية الغربية الشمالية منها و في زاوية الجزء كله قطعة أيضاً من بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطينية و قد مر ذكره و يخف بهذه القطعة من نيطش بلاد السرير وعليها منها بلد أطرابزيدة و تتصل بلاد السرير بين جبل الأبواب و الجهة الشمالية من الجزء إلى أن ينتهي شرقاً إلى جبل حاجز بينها و بين أرض الخزر و عند آخرها مدينة صول و وراء هذا الجبل الحاجز قطعة من أرض الخزر تنتهي إلى الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء من بحر طبرستان و آخر الجزء شمالاً. و الجزء السابع من هذا الإقليم غربيه كله مغمور ببحر طبرستان و خرج من جنوبه في الإقليم الرابع القطعة التي ذكرنا هنالك أن عليها بلاد طبرستان و جبال الديلم إلى قزوين و في غربي تلك القطعة متصلة بها القطعة التي في الجزء السادس من الإقليم الرابع و يتصل بها من شمالها القطعة التي في الجزء السادس من شرقه أيضاً و ينكشف من هذا الجزء قطعة عند زاويته الشمالية الغربية يصب فيها نهر أثل في هذا البحر و يبقى من هذا الجزء في ناحية المشرق قطعة منكشفة من البحر هي مجالات للغز من أمم الترك يحيط بها جبل من جهة الجنوب داخل في الجزء الثامن و يذهب في الغرب إلى ما دون وسطه فينعطف إلى الشمال إلى أن يلاقي بحر طبرستان فيحتف به ذاهباً معه إلى بقيته في الإقليم السادس ثم ينعطف مع طرفه و يفارقه و يسمى هنالك جبل سياه و يذهب مغرباً إلى الجزء السادس من الإقليم السادس ثم يرجع جنوباً إلى الجزء السادس من الإقليم الخامس و هذا الطرف منه و هو الذي اعترض في هذا الجزء بين أرض السرير و أرض الخزر و اتصلت بأرض الخزر في الجزء السادس و السابع حافات هذا الجبل المسمى جبل سياه كما سيأتي. و الجزء الثامن من هذا الإقليم الخامس كله مجالات للغز من أمم الترك و في الجهة الجنوبية الغربية. منه بحيرة خوارزم التي يصب فيها نهر جيحون دورها ثلاثمائة ميل و يصب فيها أنهار كثيرة من أرض هذه المجالات و في الجهة الشمالية الشرقية منه بحيرة عرعون دورها أربعمائة ميل و ماؤها حلو و في الناحية الشمالية من هذا الجزء جبل مرغار و معناه جبل الثلج لأنه لا يذوب فيه و هو متصل بآخر الجزء و في الجنوب عن بحيرة عرعون جبل من الحجر الصلد لا ينبت شيئاً يسمى عرعون و به سميت البحيرة و ين*** منه و من جبل مرغار شمالي البحيرة أنهار لا تنحصر عدتها فتصب فيها من الجانبين. و في الجزء التاسع من هذا الإقليم بلاد أركس من أمم الترك في غرب بلاد الغز و شرق بلاد الكيماكية و يحف به من جهة الشرق آخر الجزء جبل قوقيا المحيط بيأجوج و مأجوج يعترض هنالك من الجنوب إلى الشمال حتى ينعطف أول دخوله من الجزء العاشر و قد كان دخل إليه من آخر الجزء العاشر من الإقليم الرابع قبله و احتف هنالك بالبحر المحيط إلى آخر الجزء في الشمال ثم انعطف مغرباً في الجزء العاشر من الإقليم الرابع إلى ما دون نصفه و أحاط من أوله إلى هنا ببلاد الكيماكية ثم خرج إلى الجزء العاشر من الإقليم الخامس فذهب فيه مغرباً إلى آخره و بقيت في جنوبه من هذا الجزء قطعة مستطيلة إلى الغرب قبل آخر بلاد الكيماكية ثم خرج إلى الجزء التاسع في شرقيه و في الأعلى منه و انعطف قريباً إلى الشمال و ذهب على سمته إلى الجزء التاسع من الإقليم السادس و فيه السد هنالك كما نذكره و بقيت منه القطعة التي أحاط بها جبل قوقيا عند الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء مستطيلة إلى الجنوب و هي من بلاد يأجوج و مأجوج و في الجزء العاشر من هذا الإقليم أرض يأجوج و مأجوج فتصله في كله إلا قطعةً من البحر غمرت طرفاً في شرقيه من جنوبه إلى شماله إلا القطعة التي يفصلها إلى جهة الجنوب و الغرب جبل قوقيا حين مر فيه و ما سوى ذلك فأرض يأجوج و مأخوج و الله سبحانه و تعالى أعلم.
الإقليم السادس. فالجزء الأول منه غمر البحر أكثر من نصفه و استدار شرقاً مع الناحية الشمالية ثم ذهب مع الناحية الشرقية إلى الجنوب و انتهى قريباً من الناحية الجنوبية فانكشف قطعة من هذه الأرض في هذا الجزء داخلة بين الطرفين و في الزاوية الجنوبية الشرقية من البحر المحيط كالجون فيه و ينفسح طولاً و عرضاً و هي كلها أرض بريطانية و في بابها بين الطرفين و في الزاوية الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بلاد صاقس متصلة ببلاد بنطو التي مر ذكرها في الجزء الأول و الثاني من الإقليم الخامس. و الجزء الثاني من هذا الإقليم دخل البحر المحيط من غربه و شماله فمن غربه قطعة مستطيلة أكبر من نصفه الشمالي من شرق أرض بريطانية في الجزء الأول و اتصلت بها القطعة الأخرى في الشمال من غربه إلى شرقه و انفسحت في النصف الغربي منه بعض الشيء و فيه هنالك قطعة من جزيرة أنكلترا و هي جزيرة عظيمة مشتملة على مدن و بها ملك ضخم و بقيتها في الإقليم السابع و في جنوب هذه القطعة و جزيرتها في النصف الغربي من هذا الجزء بلاد أرمندية و بلاد أفلادش متصلين بها ثم بلاد إفرنسية جنوباً و غرباً من هذا الجزء و بلاد برغونية شرقاً عنها و كلها لأمم الإفرنجة و بلاد اللمانيين في النصف الشرقي من الجزء فجنوبه بلاد أنكلاية ثم بلاد برغونية شمالاً ثم أرض لهويكة و شطونية و على قطعة البحر المحيط في الزاوية الشمالية الشرقية أرض أفريرة و كلها لأمم اللمانيين. و في الجزء الثالث من هذا الإقليم في الناحية الغربية بلاد مراتية في الجنوب و بلاد شطونية في الشمال و في الناحية الشرقية بلاد أنكوية في الجنوب و بلاد بلونية في الشمال يعترض بينهما جبل بلواط داخلاً من الجزء الرابع و يمر مغرباً بانحراف إلى الشمال إلى أن يقف في بلاد شطونية آخر النصف الغربي. و في الجزء الرابع في ناحية الجنوب أرض جثولية و تحتها في الشمال بلاد الروسية و يفصل بينهما جبل بلواط من أول الجزء غرباً إلى أن يقف في النصف الشرقي و في شرق أرض جثولية بلاد جرمانية و في الزاوية الجنوبية الشرقية أرض القسطنطينية و مدينتها عند آخر الخليج الخارج من البحر الرومي و عند مدفعه في بحر نيطش فيقع قطيعة من بحر نيطش في أعالي الناحية الشرقية من هذا الجزء و يمدها الخليج و بينهما في الزاوية بلد مسيناه. و في الجزء الخامس من الإقليم السادس ثم في الناحية الجنوبية عند بحر نيطش يتصل من الخليج في آخر الجزء الرابع و يخرج من سمته مشرقاً فيمر في هذا الجزء كله و في بعض السادس على طول ألف و ثلاثمائة ميل من مبدإه في عرض ستمائة ميل و يبقى وراء هذا البحر في الناحية الجنوبية من هذا الجزء في غربها إلى شرقها بر مستطيل في غربه هرقلية على ساحل بحر نيطش متصلة بأرض البيلقان من الإقليم الخامس و في شرقه بلاد اللانية و قاعدتها سوتلي على بحر نيطش و في شمال بحر نيطش في هذا الجزء غرباً أرض ترخان و شرقاً بلاد الروسية و كلها على ساحل هذا البحر و بلاد الروسية محيطة ببلاد ترخان من شرقها في هذا الجزء من شمالها في الجزء الخامس من الإقليم السابع و من غربها في الجزء الرابع من هذا الإقليم. و في الجزء السادس في غربيه بقية بحر نيطش و ينحرف قليلا إلى الشمال و يبقى بينه هنالك و بين آخر الجزء شمالاً بلاد قمانية و في جنوبه منفسحاً إلى الشمال بما انحرف هو كذلك بقية بلاد اللانية التي كانت آخر جنوبه في الجزء الخامس و في الناحية الشرقية من هذا الجزء متصل أرض الخزر و في شرقها أرض برطاس و في الزاوية الشرقية الشمالية أرض بلغار و في الزاوية الشرقية الجنوبية أرض بلجر يجوزها هناك قطعة من جبل سياكوه المنعطف مع بحر الخزر في الجزء السابع بعده و يذهب بعد مفارقته مغرباً فيجوز في هذه القطعة و يدخل إلى الجزء السادس من الإقليم الخامس فيتصل هنالك بجبل الأبواب و عليه من هنالك ناحية بلاد الخزر. و في الجزء السابع من هذا الإقليم في الناحية الجنوبية ما جازه جبل سياه بعد مفارقته بحر طبرستان و هو قطعة من أرض الخزر إلى آخر الجزء غرباً و في شرقها القطعة من بحر طبرستان التي يجوزها هذا الجبل من شرقها و شمالها و وراء جبل سياه في الناحية الغربية الشمالية أرض برطاس و في الناحية الشرقية من الجزء أرض شحرب و يخناك و هم أمم الترك. و في الجزء الثامن و الناحية الجنوبية منة كلها أرض الجولخ من الترك في الناحية الشمالية غربا و الأرض المنتنة و شرق الأرض التي يقال إن يأجوج و مأجوج خرباها قبل بناء السد و في هذه الأرض المنتنة مبدأ نهر الأثل من أعظم أنهار العالم و ممره في بلاد الترك و مصبه في بحر طبرستان في الإقليم الخامس في الجزء السابع منه و هو كثير الانعطاف يخرج من جبل من الأرض المنتنة من ثلاثة ينابيع تجتمع في نهر واحد و يمر على سمت الغرب إلى آخر السابع من هذا الإقليم فينعطف شمالاً إلى الجزء السابع من الإقليم السابع فيمر في طرفه بين الجنوب و المغرب فيخرج في الجزء السادس من السابع و يذهب مغرباً غير بعيد ثم ينعطف ثانية إلى الجنوب و يرجع إلى الجزء السادس من الإقليم السادس و يخرج منه جدول يذهب مغرباً و يصب في بحر نيطش في ذلك الجزء و يمر هو في قطعة بين الشمال و الشرق في بلاد بلغار فيخرج في الجزء السابع من الإقليم السادس ثم ينعطف ثالثةً إلى الجنوب و ينفذ في جبل سياه و يمر في بلاد الخزر و يخرج إلى الإقليم الخامس في الجزء السابع منه فيصب هنالك في بحر طبرستان في القطعة التي انكشفت من الجزء عند الزاوية الغربية الجنوبية. والجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ من الترك و هم قفجاق و بلاد الشركس منهم أيضاً و في الشرق منه بلاد يأجوج يفصل بينهما جبل قوقيا المحيط و قد مر ذكره يبدأ من البحر المحيط في شرق الإقليم الرابع و يذهب معه إلى آخر الإقليم في الشمال و يفارقه مغرباً و بانحراف إلى الشمال حتى يدخل في الجزء التاسع من الإقليم الخامس فيرجع إلى سمته الأول حتى يدخل في هذا الجزء التاسع من الإقليم من جنوبه إلى شماله بانحراف إلى المغرب و في وسطه ههنا السد الذي بناه الإسكندر ثم يخرج على سمته إلى الإقليم السابع و في الجزء التاسع منه فيمر فيه إلى الجنوب إلى أن يلقى البحر المحيط في شماله ثم ينعطف معه من هنالك مغرباً إلى الإقليم السابع إلى الجزء الخامس منه فيتصل هنالك بقطعة من البحر المحيط في غربيه و في وسط هذا الجزء التاسع هو السد الذي بناه الإسكندر كما قلناه و الصحيح من خبره في القرآن و قد ذكر عبد الله بن خرداذبة في كتابه في الجغرافيا أن الواثق رأى في منامه كأن السد انفتح فانتبه فزعاً و بعث سلاما الترجمان فوقف عليه و جاء بخبره وصفه في حكاية طويلة ليست من مقاصد كتابنا هذا و في الجزء العاشر من هذا الإقليم بلاد مأجوج متصلة فيه إلى آخره على قطعة من هنالك من البحر المحيط أحاطت به من شرقه و شماله مستطيلة في الشمال و عريضة بعض الشيء في الشرق.
الإقليم السابع: و البحر المحيط قد غمر عامته من جهة الشمال إلى وسط الجزء الخامس حيث يتصل بجبل قوقيا المحيط بيأجوج و مأجوج. فالجزء الأول و الثاني مغموران بالماء إلا ما انكشف من جزيرة أنكلترا التي معظمها في الثاني و في الأول منها طرف انعطف بانحراف إلى الشمال و بقيتها مع قطعة من البحر مستديرة عليه في الجزء الثاني من الإقليم السادس و هي مذكورة هناك والمجاز منها إلى البر في هذه القطعة سعة اثني عشر ميلاً و وراء هذه الجزيرة في شمال الجزء الثاني جزيرة رسلاندة مستطيلةً من الغرب إلى الشرق. و الجزء الثالث من هذا الإقليم مغمور أكثره بالبحر إلا قطعة مستطيلة في جنوبه و تتسع في شرقها و فيها هنالك متصل أرض فلونية التي مر ذكرها في الثالث من الإقليم السادس و أنها في شماله و في القطعة من البحر التي تغمر هذا الجزء ثم في الجانب الغربي منها مستديرةً فسيحةً و تتصل بالبر من باب في جنوبها يفضي إلى بلاد فلونية و في شمالها. جزيرة برقاعة و في نسخة بوقاعة مستطيلة مع الشمال من المغرب إلى المشرق. و الجزء الرابع من هذا الإقليم شماله كله مغمور بالبحر المحيط من المغرب إلى المشرق و جنوبه منكشف و في غربه أرض قيمازك من الترك و في شرقها بلاد طست ثم أرض رسلان إلى آخر الجزء شرقاً وهي دائمة الثلوج و عمرانها قليل و يتصل ببلاد الروسية في الإقليم السادس و في الجزء الرابع و الخامس منه و في الجزء الخامس من هذا الإقليم في الناحية الغربية منه بلاد الروسية و ينتهي في الشمال إلى قطعة من البحر المحيط التي يتصل بها جبل قوقيا كما ذكرناه من قبل و في الناحية الشرقية منه متصل أرض القمانية التي على قطعة بحر نيطش من الجزء السادس من الإقليم السادس و ينتهي إلى بحيرة طرمى من هذا الجزء و هي عذبة تن*** إليها أنهار كثيرة من الجبال عن الجنوب و الشمال و في شمال الناحية الشرقية من هذا الجزء أرض التتارية من الترك و في نسخة التركمان إلى آخره و في الجزء السادس من الناحية الغربية الجنوبية متصل بلاد القمانية و في وسط الناحية بحيرة عثور عذبةً تن*** إليها الأنهار من الجبال في النواحي الشرقية و هي جامدة دائماً لشدة البرد إلا قليلاً في زمن الصيف و في شرق بلاد القمانية بلاد الروسية التي كان مبدؤها في الإقليم السادس في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء الخامس منه و في الزاوية الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بقية أرض بلغار التي كان مبدؤها في الإقليم السادس و في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء السادس منه و في وسط هذه القطعة من أرض بلغار منعطف نهر أثل القطعة الأولى إلى الجنوب كما مر و في آخر هذا الجزء السادس من شماله جبل قوقيا متصل من غربه إلى شرقه و في الجزء السابع من هذا الإقليم في غربه بقية أرض يخناك من أمم الترك و كان من مبدؤها من الناحية الشمالية الشرقية من الجزء السادس قبله و في الناحية الجنوبية الغربية من هذا الجزء و يخرج إلى الإقليم السادس من فوقه و في الناحية الشرقية بقية أرض سحرب ثم بقية الأرض المنتنة إلى آخر الجزء شرقاً و في آخر الجزء من جهة الشمال جبل قوقيا المحيط متصلا من غربه إلى شرقه. و في الجزء الثامن من هذا الإقليم في الجنوبية الغربية منه متصل الأرض المنتنة و في شرقها الأرض المحفورة و هي من العجائب خرق عظيم في الأرض بعيد المهوى فسيح الأقطار ممتنع الوصول إلى قعره يستدل على عمرانه بالدخان في النهار و النيران في الليل تضيء و تخفى و ربما رئي فيها نهر يشقها من الجنوب إلى الشمال و في الناحية الشرقية من هذا الجزء البلاد الخراب المتاخمة للسد و في آخر الشمال منه جبل قوقيا متصلاً من الشرق إلى الغرب و في الجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ و هم قفجق يجوزها جبل قوقيا حين ينعطف من شماله عند البحر المحيط و يذهب في وسطه إلى الجنوب بانحراف إلى الشرق فيخرج في الجزء التاسع من الإقليم السادس و يمر معترضاً فيه و في وسطه هنالك سد. يأجوج و مأجوج و قد ذكرناه و في الناحية الشرقية من هذا الجزء أرض يأجوج وراء جبل قوقيا على البحر قليلة العرض مستطيلةً أحاطت به من شرقه و شماله. و الجزء العاشر غمر البحر جميعه. هذا آخر الكلام على الجغرافيا و أقاليمها السبعة و في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات للعالمين.
المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم و المنحرف و تأثير الهواء في ألوان البشر و الكثير في أحوالهم
قد بينا أن المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه و البرد في الشمال. و لما كان الجانبان من الشمال و الجنوب متضادين من الحر و البرد وجب أن تندرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلاً فالإقليم الرابع أعدل العمران و الذي حافاته من الثالث و الخامس أقرب إلى الاعتدال و الذي يليهما و الثاني و السادس بعيدان من الاعتدال و الأول و السابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم و الصنائع و المباني و الملابس و الأقوات و الفواكه بل و الحيوانات و جميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال و سكانها من البشر أعدل أجساماً و ألواناً و أخلاقاً و أدياناً حتى النبؤات فإنما توجد في الأكثر فيها و لم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية و لا الشمالية و ذلك أن الأنبياء و الرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم و أخلاقهم قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس و ذلك ليتم القبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله و أهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم فتجده على غاية من التوسط في مساكنهم و ملابسهم و أقواتهم و صنائعهم يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة و يتناغون في استجادة الآلات والمواعين ويذهبون في ذلك إلى الغاية وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب و الفضة و الحديد و النحاس و الرصاص و القصدير و يتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين و يبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم و هؤلاء أهل المغرب و الشام و الحجاز و اليمن و العراقين و الهند و السند و الصين و كذلك الأندلس و من قرب منها من الفرنجة و الجلالقة و الروم و اليونانيين و من كان مع هؤلاء أو قريباً منهم في هذه الأقاليم المعتدلة و لهذا كان العراق و الشام أعدل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات. و أما الأقاليم البعيدة من الاعتدال مثل الأول و الثاني و السادس و السابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم فبناؤهم بالطين و القصب و أقواتهم من الذرة و العشب و ملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم أو الجلود و أكثرهم عرايا من اللباس و فواكه بلادهم و أدمها غريبة التكوين مائلة إلى الانحراف و معاملاتهم بغير الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات و أخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم حتى لينقل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأول أنهم يسكنون الكهوف و الغياض و يأكلون العشب و أنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضاً و كذا الصقالبة و السبب في ذلك أنهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم و أخلاقهم من عرض الحيوانات العجم و يبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك و كذلك أحوالهم في الديانة أيضاً فلا يعرفون نبؤةً و لا يدينون بشريعة إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال و هو في الأقل النادر مثل الحبشة المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام و ما بعده لهذا العهد و مثل أهل مالي و كوكو و التكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام لهذا العهد يقال أنهم دانوا به في المائة السابعة و مثل من دان بالنصرانية من أمم الصقالبة و الإفرنجة و الترك من الشمال و من سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوباً و شمالاً فالدين مجهول عندهم و العلم مفقود بينهم و جميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم و يخلق ما لا تعلمون و لا يعترض على هذا القول بوجود اليمن و حضرموت و الأحقاف و بلاد الحجاز و اليمامة و ما يليها من جزيرة العرب في الإقليم الأول و الثاني فأن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث كما ذكرنا فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها فنقص ذلك من اليبس و الانحراف الذي يقتضيه الحر و صار فيها بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر. و قد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه بطبائع الكائنات أن السودان هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه و فيما جعل الله من الرق في عقبه و ينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص و دعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة و ليس فيه ذكر السواد و إنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيداً لولد إخوته لا غير و في القول بنسبة السواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحر و البرد و أثرهما في الهواء و فيما يتكون فيه من الحيوانات و ذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول و الثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب فأن الشمس تسامت رؤوسهم مرتين في كل سنة قريبة إحداهما من الأخرى فتطول المسامتة عامة الفصول فيكثر الضوء لأجلها و يلح القيظ الشديد عليهم و تسود جلودهم لإفراط الحر ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس شمل سكانهما أيضاً البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشمال إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرأى العين أو ما قرب منها و لا ترتفع إلى المسامتة و لا ما قرب منها فيضعف الحر فيها و يشتد البرد عامة الفصول فتبيض ألوان أهلها و تنتهي إلى الزعورة و يتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون و برش الجلود و صهوبة الشعور و توسطت بينهما الأقاليم الثلاثة الخامس و الرابع و الثالث فكان لها في الاعتدال الذي هو مزاج المتوسط حظ وافر و الرابع أبلغها في الاعتدال غاية لنهايته في التوسط كما قدمناه فكان لأهله من الاعتدال في خلقهم و خلقهم ما اقتضاه مزاج أهويتهم و تبعه من جانبيه الثالث و الخامس و أن لم يبلغا غاية التوسط لميل هذا قليلا إلى الجنوب الحار و هذا قليلا إلى الشمال البارد إلا أنهما لم ينتهيا إلى الانحراف و كانت الأقاليم الأربعة منحرفة و أهلها كذلك في خلقهم و خلقهم فالأول و الثاني للحر و السواد و السابع للبرد و البياض و يسمى سكان الجنوب من الإقليمين الأول والثاني باسم الحبشة و الزنج و السودان أسماء مترادفة على الأمم المتغيرة بالسواد و إن كان اسم الحبشة مختصاً منهم بمن تجاه مكة و اليمن و الزنج بمن تجاه بحر الهند و ليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدمي أسود لا حام و لا غيره و قد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الربع المعتدل أو السابع المنحرف إلى البياض فتبيض ألوان أعقابهم على التدريج مع الأيام و بالعكس فيمن يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب فتسود ألوان أعقابهم و في ذلك دليل على أن اللون تابع لمزاج الهواء قال ابن سينا في أرجوزته في الطب
بالزنج حر غير الأجساداحتى كسا جلودها سوادا
و الصقلب اكتسبت البياضاحتى غدت جلودها بضاضا
و أما أهل الشمال فلم يسموا باعتبار ألوانهم لأن البياض كان لوناً لأهل تلك اللغة الواضعة للأسماء فلم يكن فيه غرابة تحمل على اعتباره في التسمية لموافقته و اعتياده و وجدنا سكانه من الترك و الصقالبة و الطغرغر و الخزر و اللان و الكثير من الإفرنجة و يأجوج و مأجوج أسماءً متفرفةً و أجيالاً متعددة مسمين بأسماء متنوعة و أما أهل الأقاليم الثلاثة المتوسطة أهل الاعتدال في خلقهم و سيرهم و كافة الأحوال الطبيعية للاعتمار لديهم من المعاش و المساكن و الصنائع و العلوم و الرئاسات و الملك فكانت فيهم النبؤات و الملك و الدول و الشرائع و العلوم و البلدان و الأمصار و المباني و الفراسة و الصنائع الفائقة و سائر الأحوال المعتدلة و أهل هذه الأقاليم التي وقفنا على أخبارهم مثل العرب و الروم و فارس و بنى إسرائيل و اليونان و أهل السند و الهند و الصين. و لما رأى النسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها و شعارها حسبوا ذلك لأجل الأنساب فجعلوا أهل الجنوب كلهم السودان من ولد حام و ارتابوا في ألوانهم فتكلفوا نقل تلك الحكاية الواهية و جعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد يافث و أكثر الأمم المعتدلة و أهل الوسط المنتحلين للعلوم و الصنائع و الملل و الشرائع و السياسة و الملك من ولد سام و هذا الزعم إن صادف الحق في انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطرد إنما هو إخبار عن الواقع لا أن تسمية أهل الجنوب بالسودان و الحبشان من أجل انتسابهم إلى حام الأسود. و ما أداهم إلى هذا الغلط إلا اعتقادهم أن التمييز بين الأمم إنما يقع بالأنساب فقط و ليس كذلك فإن التمييز للجيل أو الأمة يكون بالنسب في بعضهم كما للعرب و بني إسرائيل و الفرس و يكون بالجهة و السمة كما للزنج و الحبشة و الصقالبة و السودان و يكون بالعوائد و الشعار و النسب كما للعرب. و يكون بغير ذلك من أحوال الأمم و خواصهم و مميزاتهم فتعميم القول في أهل جهة معينة من جنوب أو شمال بأنهم من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان و الجهات أن هذه كلها تتبدل في الأعقاب و لا يجب استمرارها سنة الله في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلاً و الله و رسوله أعلم بغيبه و أحكم و هو المولى المنعم الرؤوف الرحيم.
المقدمة الرابعة في أثر الهواء في أخلاق البشر
قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة و الطيش و كثرة الطرب فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع موصوفين بالحمق في كل قطر و السبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح و السرور هي انتشار الروح الحيواني و تفشيه و طبيعة الحزن بالعكس و هو انقباضه و تكاثفه. و تقرر أن الحرارة مفشية للهواء و البخار مخلخلة له زائدة في كميته و لهذا يجد المنتشي من الفرح و السرور مالا يعبر عنه و ذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة العزيزية التي تبعثها سورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى الروح و تجيء طبيعة الفرح و كذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها و اتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت لذلك حدث لهم فرح و ربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشئ عن السرور. و لما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار و استولى الحر على أمزجتهم و في أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم و إقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً و سروراً و أكثر انبساطاً و يجيء الطيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلا أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر و أشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح و الخفة موجودة أكثر من بلاد التلول و الجبال الباردة و قد نجد يسيراً من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها و في هوائها لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف و التلول و اعتبر ذلك أيضاً بأهل مصر فإنها مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريباً منها كيف غلب الفرح عليهم و الخفة و الغفلة عن العواقب حتى أنهم لا يدخرون أقوات سنتهم و لا شهرهم و عامةً مأكلهم من أسواقهم. و لما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن و كيف أفرطوا في نظر العواقب حتى أن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة و يباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره وتتبع ذلك في الأقاليم و البلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء و الله الخلاق العليم و قد تعرض المسعودي للبحث عن السبب في خفة السودان و طيشهم و كثرة الطرب فيهم و حاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنه نقل عن جالينوس و يعقوب بن إسحاق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم و ما نشأ عنه من ضعف عقولهم و هذا كلام لا محصل له و لا برهان فيه و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
المقدمة الخامسة في اختلاف أحوال العمران في الخصب و الجوع و ما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر و أخلاقهم
إعلم أن هذه الأقاليم المعتدلة ليس كلها يوجد بها الخصب و لا كل سكانها في رغد من العيش بل فيها ما يوجد لأهله خصب العيش من الحبوب و الأدم و الحنطة و الفواكه. لزكاء المنابت و اعتدال الطينة و وفور العمران و فيها الأرض الحرة الترب لا تنبت زرعاً و لا عشباً بالجملة فسكانها في شظف من العيش مثل أهل الحجاز و جنوب اليمن و مثل الملثمين من صنبهاجة الساكنين بصحراء المغرب و أطراف الرمال فيما بين البربر و السودان فإن هؤلاء يفقدون الحبوب و الأدم جملةً و إنما أغذيتهم و أقواتهم الألبان و اللحوم و مثل العرب أيضاً الجائلين في القفار فإنهم و إن كانوا يأخذون الحبوب و الأدم من التلول إلا أن ذلك في الأحايين و تحت ربقة من حاميتها و على الإقلال لقلة وجدهم فلا يتوصلون منه إلى سد الخلة أو دونها فضلاً عن الرغد و الخصب و تجدهم يقتصرون في غالب أحوالهم على الألبان و تعوضهم من الحنطة أحسن معاض و تجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب و الأدم من أهل القفار أحسن حالاً في جسومهم و أخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش فألوانهم أصفى و أبدانهم أنقى و أشكالهم أتم و أحسن و أخلاقهم أبعد من الانحراف و أذهانهم اثقب في المعارف و الإدراكات هذا أمر تشهد له التجربة في كل جيل منهم فكثير ما بين العرب و البربر فيما وصفناه و بين الملثمين و أهل التلول يعرف ذلك من خبره و السبب في ذلك و الله أعلم أن كثرة الأغذية و كثرة الأخلاط الفاسدة العفنة و رطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئةً تنشأ عنها بعد افظارها في غير نسبة و يتبع ذلك انكساف الألوان و قبح الأشكال من كثرة اللحم كما قلناه و تغطي الرطوبات على الأذهان و الأفكار بما يصعد إلى الدماغ من أبخرتها الردية فتجيء البلادة و الغفلة و الانحراف عن الاعتدال بالجملة و اعتبر ذلك في حيوان القفر و مواطن الجدب من الغزال و النعام و المها و الزرافة و الحمر الوحشية و البقر مع أمثالها من حيوان التلول و الأرياف و المراعي الخصبة كيف تجد بينها بوناً بعيداً في صفاء أديمها و حسن رونقها و أشكالها و تناسب أعضائها و حدة مداركها فالغزال أخو المعز و الزرافة أخو البعير و الحمار و البقر أخو الحمار و البقر و البون بينها ما رأيت و ما ذاك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أ بدان هذه من الفضلات الردية و الأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره و الجوع لحيوان القفر حسن في خلقها و أشكالها ما شاء و اعتبر ذلك في الآدميين أيضاً فإنا نجد أهل الأقاليم المخصبة العيش الكثيرة الزرع و الضرع و الأدم و الفواكه يتصف أهلها غالباً بالبلادة في أذهانهم و الخشونة في أجسامهم و هذا شان البربر المنغمسين في الأدم و الحنطة مع المتقشفين في عيشهم المقتصرين على الشعير أو الذرة مثل المصامدة منهم و أهل غمارة و السوس فتجد هؤلاء أحسن حالاً في عقولهم و جسومهم و كذا أهل بلاد المغرب على الجملة المنغمسين في الأدم و البر مع أهل الأندلس المفقود بأرضهم السمن حملةً و غالب عيشهم الذرة فتجد لأهل الأندلس من ذكاء العقول و خفة الأجسام و قبول التعليم مالا يوجد لغيرهم و كذا أهل الضواحي من المغرب بالجملة مع أهل الحضر و الأمصار فأن الأمصار و إن كانوا مكثرين مثلهم من الأدم ومخصبين في العيش إلا أن استعمالهم إياها بعد العلاج بالطبخ و التلطيف بما يخلطون معها فيذهب لذلك غلظها و يرق قوامها و عامة مآكلهم لحوم الضأن و الدجاج و لا يغبطون السمن من بين الأدم لتفاهته فتقل الرطوبات لذلك في أغذيتهم و يخف ما تؤديه إلى أجسامهم من الفضلات الردية فلذلك تجد جسوم أهل الأمصار ألطف من جسوم البادية المخشنين في العيش و كذلك تجد المعودين بالجوع من أهل البادية لا فضلات في جسومهم غليظةً و لا لطيفةً. و اعلم أن أثر هذا الخصب في البدن و أحواله يظهر حتى في حال الدين و العبادة فنجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة ممن يأخذ نفسه بالجوع و التجافي عن الملاذ أحسن ديناً و إقبالاً على العبادة من أهل الترف و الخصب بل نجد أهل الدين قليلين في المدن و الأمصار لما يعمها من القساوة و الغفلة المتصلة بالإكثار من اللحمان و الأدم و لباب البر و يختص وجود العباد و الزهاد لذلك بالمتقشفين في غذائهم من أهل البوادي و كذلك نجد هؤلاء المخصبين في العيش المنغمسين في طيباته من أهل البادية و من أهل الحواضر و الأمصار إذا نزلت بهم السنون و أخذتهم المجاعات يسرع إليهم الهلاك أكثر من غيرهم مثل برابرة المغرب و أهل مدينة فاس و مصر فيما يبلغنا لا مثل العرب أهل القفر و الصحراء و لا مثل أهل بلاد النخل الذين غالب عيشهم التمر و لا مثل أهل أفريقية لهذا العهد الذين غالب عيشهم الشعير و الزيت و أهل الأندلس الذين غالب عيشيم الذرة و الزيت فإن هؤلاء و أن أخذتهم السنون و المجاعات فلا تنال منهم ما تنال من أولئك و لا يكثر فيهما الهلاك بالجوع بل و لا يندر و السبب في ذلك و الله أعلم أن المنغمسين في الخصب المتعودين للأدم و السمن خصوصاً تكتسب من ذلك أمعائهم رطوبة فوق رطوبتها الأصلية المزاجية حتى تجاوز حدها فإذا خولف بها العادة بقلة الأقوات و فقدان الأدم و استعمال الخشن غير المألوف من الغذاء أسرع إلى المعا اليبس و الانكماش و هو ضعيف في الغاية في فيسرع إليه المرض و يهلك صاحبه دفعةً لأنه من المقاتل فالهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا الجوع الحادث اللاحق. و أما المتعودون لقلة الأدم و السمن فلا تزال رطوبتهم الأصلية واقفةً عند حدها من غير زيادة و هي قابلة لجميع الأغذية الطبيعة فلا يقع في معاهم بتبدل الأغذية يبس و لا انحراف فيسلمون في الغالب من الهلاك الذي يعرض لغيرهم بالخصب و كثرة الأدم في المآكل و أصل هذا كله أن تعلم أن الأغذية و ائتلافها أو تركها إنما هو بالعادة فمن عود نفسه غذاء و لاءمه تناوله كان له مألوفاً و صار الخروج عنه و التبدل به داءً ما لم يخرج عن غرض الغذاء بالجملة كالسموم و اليتوع و ما أفرط في الانحراف فأما ما وجد فيه التغذي و الملاءمة فيصير غذاء مألوفاً بالعادة فإذا أخذ الانسان نفسه باستعمال اللبن و البقل عوضاً عن الحنطة حتى صار له ديدناً فقد حصل له ذلك غذاء و استغنى به عن الحنطة و الحبوب من غير شك و كذا من عود نفسه الصبر على الجوع و الاستغناء عن الطعام كما ينقل عن أهل الرياضيات فإنا نسمع عنهم في ذلك أخباراً غريبة يكاد ينكرها من لا يعرفها و السبب في ذلك العادة فإن النفس إذا ألفت شيئاً صار من جبلتها و طبيعتها لأنها كثيرة التلون فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتدريج و الرياضة فقد حصل ذلك عادةً طبيعيةً لها و ما يتوهمه الأطباء من أن الجوع مهلك فليس على ما يتوهمونه إلا إذا حملت النفس عليه دفعة و قطع عنها الغذاء بالكلية فإنه حينئذ ينحسم المعاء و يناله المرض الذي يخشى معه الهلاك و أما إذا كان ذلك القدر تدريجاً و رياضةً بإقلال الغذاء شيئاً فشيئاً كما يفعله المتصوفة فهو بمعزل عن الهلاك و هذا التدريج ضروري حتى في الرجوع عن هذه الرياضة فإنه إذا رجع به إلى الغذاء الأول دفعةً خيف عليه الهلاك و إنما يرجع به كما بدأ في الرياضة بالتدريج و لقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوماً و صالاً و أكثر. و حضر أشياخناً بمجلس السلطان أبى الحسن و قد رفع إليه امرأتان من أهل الجزيرة الخضراء و رندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين و شاع أمرهما و وقع اختبارهما فصح شأنهما و اتصل على ذلك حالهما إلى أن ماتتا و رأينا كثيراً من أصحابنا أيضاً من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم ثديها في بعض النهار أو عند الإفطار و يكون ذلك غذاءه و استدام على ذلك خمس عشرة سنةً و غيرهم كثيرون و لا يستنكر ذلك. و اعلم أن الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية بكل وجه لمن قدر عليه أو على الإقلال منها أو على الإقلال منها و إن له أثراً في الأجسام و العقول في صفاتها و صلاحها كما قلناه و اعتبر ذلك بآثار الأغذية التي تحصل عنها في الجسوم فقد رأينا المتغذين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك و هذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة و كذا المتغذون بألبان الإبل و لحومها أيضاً مع ما يؤثر في أخلاقهم من الصبر و الاحتمال و القدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل و تنشأ أمعاؤهم أيضاً على نسبة أمعاء الإبل في الصحة و الغلظ فلا يطرقها الوهن و لا ينالها من مدار الأغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتوعات لاستطلاق بطونهم غير محجوبة كالحنظل قبل طبخه و الدرياس و القربيون و لا ينال أمعاءهم منها ضرر و هي لو تناولها أهل الحضر الرقيقة أمعاؤهم بما نشأت عليه من لطيف الأغذية لكان الهلاك أسرع إليهم من طرفة العين لما فيها من السمية و من تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة و شاهده أهل التجربة أن الدجاج إذا غذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الإبل و اتخذ بيضها ثم حضنت عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون و قد يستغنون عن تغذيتها و طبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المحضن فيجيء دجاجها في غاية العظم و أمثال ذلك كثيرة فإذا رأينا هذه الآثار من الأغذية في الأبدان فلا شك أن للجوع أيضاً آثارا في الأبدان لأن الضدين على نسبة واحدة في الـتأثير و عدمه فيكون تأثير الجوع في نقاء الأبدان من الزيادات الفاسدة و الرطوبات المختلطة المخلة بالجسم والعقل كما كان الغذاء مؤثراً في وجود ذلك الجسم و الله محيط بعلمه.
المقدمة السادسة في أصناف المدركين من البشر بالفطرة أو الرياضة و يتقدمه الكلام في الوحي و الرؤيا
إعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصاً فضلهم بخطابه و فطرهم على معرفته و جعلهم وسائل بينهم و بين عباده يعرفونهم بمصالحهم و يحرضونهم على هدايتهم و يأخذون بحجزاتهم عن النار و يدلونهم على طريق النجاة و كان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق و الأخبار الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم و لا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم قال صلى الله عليه وسلم ألا و أني لا أعلم إلا ما علمني الله و اعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته و ضرورته الصدق لما يتبين لك عند بيان لك عند بيان حقيقة النبؤة و علامة هذا الصنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين و ليست منهما في شيء و إنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك ******** بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية ثم يتنزل إلى المدارك البشرية إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله ثم تنجلي عنه تلك الحال و قد وعى ما القي إليه قال صلى الله عليه و سلم: و قد سئل عن الوحي أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشده علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحياناً يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول و يدركه أثناء ذلك من الشدة و الغط مالا يعبر عنه ففي الحديث كان مما يعالج من التنزيل شدة و قالت عائشة كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إن جبينه ليتفصد عرقاً و قال تعالى: إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً و لأجل هذه الغاية في تنزل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون و يقولون له رئي أو تابع من الجن و إنما لبس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال و من يضلل الله فما له من هاد. و من علاماتهم أيضاً أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير و الزكاء و مجانبة المذمومات و الرجس أجمع و هذا هو معنى العصمة و كأنه مفطور على التنزه عن المذمومات و المنافرة لها و كأنها منافية لجبلته و في الصحيح أنه حمل الحجارة و هو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشياً عليه حتى استتر بإزاره و دعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس و لعب فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس و لم يحضر شيئاً من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى إنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة فقد كان صلى الله عليه و سلم لا يقرب البصل و الثوم فقيل له في ذلك فقال إني أناجي من لا تناجون و انظر لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته و أرادت اختباره فقالت اجعلني بينك و بين ثوبك فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت إنه ملك و ليس بشيطان و معناه أنه لا يقرب النساء و كذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض و الخضرة فقالت إنه الملك يعني أن البياض و الخضرة من ألوان الخير و الملائكة و السواد من ألوان الشر و الشياطين و أمثال ذلك. و من علاماتهم أيضاً دعاؤهم إلى الدين و العبادة من الصلاة و الصدقة و العفاف و قد استدلت خديجة على صدقه صلى الله عليه و سلم بذلك و كذلك أبو بكر و لم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله و خلقه و في الصحيح أن هرقل حين جاءه كتاب النبي صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده من قريش و فيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان فيما سأل أن قال بما يأمركم فقال أبو سفيان بالصلاة و الزكاة و الصلة و العفاف إلى آخر ما سأل فأجابه فقال إن يكن ما تقول حقاً فهو نبي و سيملك ما تحت قدمي هاتين و العفاف الذي أشار إليه هرقل هو العصمة فانظر كيف أخذ من العصمة و الدعاء إلى الدين والعبادة دليلاً على صحة نبؤته و لم يحتج إلى معجزة فدل على أن ذلك من علامات النبؤة. و من علاماتهم أيضاً أن يكونوا ذوي حسب في قومهم و في الصحيح ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه و في رواية أخرى في ثروة من قومه استدركه الحاكم على الصحيحين و في مسئلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال كيف هو فيكم فقال أبو سفيان هو فينا ذو حسب فقال هرقل والرسل تبعث في أحساب قومها و معناه أن تكون له عصبة و شوكة تمنعه عي أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه و يتم مراد الله من إكمال دينه و ملته. و من علاماتهم أيضاً وقوع الخوارق لهم شاهدةً بصدقهم و هي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزةً و ليست من جنس مقدور العباد و إنما تقع في غير محل قدرتهم و للناس في كيفية وقوعها و دلالتها على تصديق الأنبياء خلاف فالمتكلمون بناء على القول بالفاعل المختار قائلون بأنها و اقعة بقدرة الله لا بفعل النبي و إن كانت أفعال العباد عند المعتزلة صادرة عنهم إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم و ليس للنبي فيها عند سائر المتكلمين إلا التحدي بها بأذن الله و هو أن يستدل بها النبي صلى الله عليه و سلم قبل وقوعها على صدقه في مدعاه فإذا وقعت تنزلت منزلة القول الصريح من الله بأنه صادق و تكون دلالتها حينئذ على الصدق قطعية فالمعجزة الدالة بمجموع الخارق و التحدي و لذلك كان التحدي جزء منها و عبارة المتكلمين صفة نفسها و هو واحد لأنه معنى الذاتي عندهم و التحدي هو الفارق بينها و بين الكرامة و ***** إذ لا حاجة فيهما إلى التصديق فلا وجود للتحدي إلا إن وجد اتفاقاً و إن وقع التحدي في الكرامة عند من يجيزها و كانت لها دلالة فإنما هي على الولاية و هي غير النبؤة و من هنا منع الأستاذ أبو إسحق و غيره وقوع الخوارق كرامة فراراً من الالتباس بالنبؤة عند التحدي بالولاية و قد أريناك المغايرة بينهما و إنه يتحدى بغير ما يتحدى به النبي فلا لبس على أن النقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحاً و ربما حمل على إنكار لأن تقع خوارق الأنبياء لهم بناء على اختصاص كل من الفريقين بخوارقه. و أما المعتزلة فالمانع من وقوع الكرامة عندهم أن الخوارق ليست من أفعال العباد و أفعالهم معتادة فلا فرق و أما وقوعها على يد الكاذب تلبيساً فهو محال أما عند الأشعرية فلأن صفة نفس المعجزة التصديق و الهداية فلو وقعت بخلاف ذلك انقلب الدليل شبهةً و الهداية ضلالةً و التصديق كذباً و استحالت الحقائق و انقلبت صفات النفس و ما يلزم من فرض وقوعه المحال لا يكون ممكناً و أما عند المعتزلة فلأن وقوع الدليل شبهة و الهداية ضلالة قبيح فلا يقع من الله. و أما الحكماء فالخارق عندهم من فعل النبي و لو كان في غير محل القدرة بناء على مذهبهم في الإيجاب الذاتي و وقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقف عن الأسباب و الشروط الحادثة مستندة أخيراً إلى الواجب الفاعل بالذات لا بالاختيار و أن النفس النبوية عندهم لها خواص ذاتية منها صدور هذه الخوارق بقدرته و طاعة العناصر له في التكوين و النبي عندهم مجبول على التصريف في الأكوان مهما توجه إليها و استجمع لها بما جعل الله له من ذلك و الخارق عندهم يقع للنبي سواء كان للتحدي أم لم يكن و هو شاهد بصدقه من حيث دلالته على تصرف النبي في الأكوان الذي هو من خواص النفس النبوية لا بأنه يتنزل منزلة القول الصريح بالتصديق فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعيةً كما هي عند المتكلمين و لا يكون التحدي جزأ من المعجزة و لم يصح فارقاً لها عن ***** و الكرامة و فارقها عندهم عن ***** أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر فلا يلم الشر بخوارقه و الساحر على الضد فأفعاله كلها شر و في مقاصد الشر و فارقها عن الكرامة أن خوارق النبي مخصوصة كالصعود إلى السماء و النفوذ في الأجسام الكثيفة و إحياء الموتى و تكليم الملائكة و الطيران في الهواء و خوارق الولي دون ذلك كتكثير القليل و الحديث عن بعض المستقبل و أمثاله مما هو قاصر عن تصريف الأنبياء و يأتي النبي بجميع خوارقه و لا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء و قد قرر ذلك المتصوفة فيما كتبوه في طريقتهم و لقنوه عمن أخبرهم و إذا تقرر ذلك فاعلم أن أعظهم المعجزات و أشرفها و أوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرةً للوحي الذي يتلقاه النبي و يأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه و القرآن هو بنفسه الوحي المدعى و هو الخارق المعجز فشاهده في عينه و لا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل و المدلول فيه وهذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم ما من نبي من الأنبياء إلا و أتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر و إنما كان الذي أوتيته و حياً أوحى إلي فأنا أرجو أن أكون تابعاً يوم القيامة يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح و قوة الدلالة و هو كونها نفس الوحي كان الصدق لها أكثر لوضوحها فكثر المصدق المؤمن و هو التابع و الأمة.
و لنذكر الآن تفسير حقيقة النبؤة على ما شرحه كثير من المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شان العرافين و غير ذلك من مدارك الغيب فنقول
إعلم. أرشدنا الله و إياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب و الإحكام و ربط الأسباب بالمسببات و اتصال الأكوان بالأكوان و استحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك و لا تنتهي غاياته و أبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني و أولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض و كل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعداً و هابطاً و يستحيل بعض الأوقات و الصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك و هو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط و بها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها و أوضاعها و ما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش و ما لا بذر له و آخر أفق النبات مثل النخل و الكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون و الصدف و لم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط و معنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده و اتسع عالم الحيوان و تعددت أنواعه و انتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر و الروية ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس و الإدراك و لم ينته إلى الروية و الفكر بالفعل و كان ذلك أول أفق من الإنسان بعده و هذا غاية شهودنا ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثاراً متنوعةً ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك و العناصر و في عالم التكوين آثار من حركة النمو و الإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثراً مبايناً للأجسام فهو روحاني و يتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في و جودها و لذلك هو النفس المدركة و المحركة و لا بد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك و الحركة و يتصل بها أيضاً و يكون ذاته إدراكا صرفاً و تعقلاً محضاً و هو عالم الملائكة فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية ليصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات و ذلك بعد أن تكمل ذاتها ********ة بالفعل كما نذكره بعد و يكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه فلها في الاتصال جهتا العلو و السفل و هي متصلة بالبدن من أسعف منها و تكتسب به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصو ل على التعقل بالفعل و متصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة و مكتسبة به المدارك العلمية و الغيبية فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان و هذا على ما قدمناه من الترتيب المحكم في الوجود باتصال ذواته و قواه بعضها ببعض ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان و آثارها ظاهرة في البدن فكأنه و جميع أجزائه مجتمعةً و مفترقةً آلات للنفس و لقواها أما الفاعلية فالبطش باليد و المشي بالرجل و الكلام باللسان و الحركة الكلية بالبدن متدافعاً و أما المدركة و إن كانت قوى الإدراك مرتبة و مرتقيةً إلى القوة العليا منها و من المفكرة التي يعبر عنها بالناطقة فقوى الحس الظاهرة بآلاته من السمع و البصر و سائرها يرتقي إلى الباطن و أوله الحس المشترك و هو قوة تدرك المحسوسات مبصرةً و مسموعةً وملموسةً و غيرها في حالة واحدة و بذلك فارقت قوة الحس الظاهر لأن المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال و هي قوة تمثل الشي المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط و آلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأول من الدماغ مقدمه للأولى و مؤخرة للثانية ثم يرتقي الخيال إلى الواهمة و الحافظة فالواهمة لإدراك المعاني المتعلقة بالشخصيات كعداوة زيد و صداقة عمرو و رحمة الأب و افتراس الذئب و الحافظة لإبداع المدركات كلها متخيلةً و هي لها كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها و آلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخر من الدماغ أوله للأولى و مؤخره للأخرى ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر و آلته البطن الأوسط من الدماغ و هي القوة التي يقع بها حركة الرؤية و التوجه نحو التعقل فتحرك النفس بها دائماً لما ركب فيها من النزوع للتخلص من درك القوة و الاستعداد الذي للبشرية و تخرج إلى الفعل في تعقلها متشبهةً بالملإ الأعلى ******** و تصير في أول مراتب ********ات في إدراكها بغير الآلات الجسمانية فهي متحركة دائماً و متوجهة نحو ذلك و قد تنسلخ بالكلية من البشرية و روحانيتها إلى الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب بل بما جعل الله فيها من الجبلة و الفطرة الأولى في ذلك.
أصناف النفوس البشرية
إن النفوس البشرية على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطبع عن الوصول فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية و الخيالية و تركيب المعاني من الحافظة و الواهمة على قوانين محصورة و ترتيب خاص يستفيدون به العلو م التصورية و التصديقية التي للفكر في البدن و كلها خيالي منحصر نطاقه إذ هو من جهة مبدإه ينتهي إلى الأوليات و لا يتجاوزها و إن فسد فسد ما بعدها و هذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري في الجسماني و إليه تنتهي مدارك العلماء و فيه ترسخ أقدامهم. و صنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو العقل ******** و الإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشر في و يسرح في فضاء المشاهدات الباطنية و هي وجدان كلها نطاق من مبدإها و لا من منتهاها و هذه مدارك العلماء الأولياء أهل العلوم الدينية و المعارف الربانية و هي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ.
الوحي
و صنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها و روحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل و يحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم و سماع الكلام النفساني و الخطاب الإلهي في تلك اللمحة و هؤلاء الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة و هي حالة الوحي فطره فطرهم الله عليها و جبلة صورهم فيها و نزههم عن موانع البدن و عوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من القصد و الاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة وركز في طبائعهم رغبةً في العبادة تكشف بتلك الوجهة و تسيغ نحوها فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب و لا صناعة فلذا توجهوا و انسلخوا عن بشريتهم و تلقوا في ذلك الملإ الأعلى ما يتلقونه، و عاجوا به على المدارك البشرية منزلاً في قواها لحكمة التبليغ للعباد فتارةً يسمع أحدهم دوياً كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا و قد وعاه و فهمه و تارةً يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلاً فيكلمه و يعي ما يقوله و التلقى من الملك و الرجوع إلى المدارك البشرية و فهمه ما ألقي عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنه ليس في زمان بل كلما تقع جميعاً فيظهر كأنها سريعة و لذلك سميت وحياً لأن الوحي في اللغة الإسراع و اعلم أن الأولى و هي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حققوه و الثانية و هي حالة تمثل الملك رجلاً يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين و لذلك كانت أكمل من الأولى و هذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه و سلم الوحي لما سأله الحارث بن هشام و قال: كيف يأتيك الوحي ؟ فقال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشده علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحياناً يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول و إنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتصال من القوة إلى الفعل فيعسر بعض العسر و لذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية اختصت بالسمع و صعب ما سواه و عندما يتكرر الوحي و يكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعندما يعرج إلى المدارك البشرية يأتي على جميعها و خصوصاً الأوضح منها و هو إدراك البصر و في العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي و في الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة و هي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي فمثل الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المتعارف غير كلام و أخبر أن الفهم و الوعي يتبعه غب انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه و انفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء و الانقطاع و مثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب و يتكلم و الكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد. واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبةً على الجملة و شدة قد أشار إليها القرآن قال تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا و قالت عائشة: كان مما يعاني من التنزيل شدة و قالت: كان عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و أن جبينه ليتفصد عرقاً. و لذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة و الغطيط ما هو معروف و سبب ذلك أن الوحي كما قررنا مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية و تلقي كلام النفس فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها و انسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر و هذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدإ الوحي في قوله فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما إنا بقارئ و كذا ثانية و ثالثة. كما في الحديث و قد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئاً فشيئاً إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله و لذلك كان تنزل نجوم القرآن و سوره و آيه حين كان بمكة أقصر منها و هو بالمدينة و انظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك و أنها نزلت كلها أو أكثرها عليه و هو يسير على ناقته بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت و ينزل الباقي في حين آخر و كذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين و هي ما هي في الطول بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن و الذاريات و المدثر و الضحى و الفلق و أمثالها. و اعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي و المدني من السور و الآيات و الله المرشد إلى الصواب. هذا محصل أمر النبؤة.
الكهانة
و أما الكهانة فهي أيضاً من خواص النفس الإنسانية و ذلك أنه قد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى ********ة التي فوقها و أنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك و تقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب و لا استعانة بشيء من المدارك و لا من التصورات و لا من الأفعال البدنية كلاماً أو حركةً و لا بأمر من الأمور إنما هو انسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر و إذا كان كذلك و كان ذلك الاستعداد موجوداً في الطبيعة البشرية فيعطى التقسيم العقلي و إن هنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه و شتان ما بينهما فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفاً آخر من البشر مفطوراً على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عندما يبعثها النزوع لذلك و هي ناقصة عنه بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة و عظام الحيوانات و سجع الكلام و ما سنح من طير أو حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده و يكون كالمشيع له و هذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة و لكون هذه النفوس مفطورةً على النقص و القصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات و لذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذاً تاماً في نوم أو يقظة و تكون عندها حاضرةً عتيدةً تحضرها المخيلة و تكون لها كالمرآة تنظر فيها دائما و لا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان و أرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع و الموازنة ليشتغل به عن الحواس و يقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة و الذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه فربما صدق و وافق الحق و بما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة و مباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق و الكذب جميعاً و لا يكون موثوقاً به و ربما يفزع إلى الظنون و التخمينات حرصا على الظفر بالإدراك بزعمه و تمويهاً على السائلين و أصحاب هذا السجع هم المخصوصون باسم الكهان لأنهم أرفع سائر أصنافهم و قد قال صلى الله عليه و سلم في مثله هذا من سجع الكهان فجعل السجع مختصاً بهم بمقتضى الإضافة و قد قال لابن صياد حين سأله كاشفاً عن حاله بالأخبار كيف يأتيك هذا الأمر ؟ قال: يأتيني صادقاً و كاذباً فقال: خلط عليك الأمر يعنى أن النبؤة خاصتها الصدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنها اتصال من ذات النبي بالملإ الأعلى من غير مشيع و لا استعانة بأجنبي و الكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى الاستعانة بالتصورات الأجنبية كانت داخلة في إدراكه و التبست بالإدراك الذي توجه إليه فصار مختلطاً بها و طرقه الكذب من هذه الجهة فامتنع أن تكون نبؤة و إنما قلنا إن أرفع مراتب الكهانة حالة السجع لأن معنى السجع أخفه من سائر المغيبات من المرئيات و المسموعات و تدل خفة المعنى على قرب ذلك الاتصال و الإدراك و البعد فيه عن العجز بعض الشيء و قد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبؤة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة و أن ذلك كان لمنعهم من خبر السماء كما وقع في القرآن و الكهان إنما يتعرفون أخبار السماء من الشياطين فبطلت الكهانة من يومئذ و لا يقوم من ذلك دليل لأن علوم الكهان كما تكون من الشياطين تكون من نفوسهم أيضاً كما قررناه و أيضاً فالآية إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء و هو ما يتعلق بخبر البعثة و لم يمنعوا مما سوى ذلك. و أيضاً فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبؤة فقط و لعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه و هذا هو الظاهر لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبؤة كما تخمد الكواكب و السرج عند وجود الشمس لأن النبؤة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور و يذهب.
و قد زعم بعض الحكماء أنها إنما توجد بين يدي النبؤة ثم تنقطع و هكذا كل نبؤة وقعت لأن وجود النبوة لا بد له من وضع فلكي يقتضيه و في تمام ذلك الوضع تمام تلك النبؤة التي تدل عليها و نقص ذلك الوضع عن التمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النوع الذي يقتضيه ناقصة و هو معنى الكاهن على ما قررناه فقبل أن يتم ذلك الوضع الكامل يقع الوضع الناقص و يقتضي وجود الكاهن إما واحداً أو متعدداً فإذا تم ذلك الوضع تم وجود النبي بكماله و انقضت الأوضاع الدالة على مثل تلك الطبيعة فلا يوجد منها شيء بعد و هذا بناء على أن بعض الوضع الفلكي يقتضي بعض أثره و هو غير مسلم. فلعل الوضع إنما يقتضي ذلك الأثر بهيئته الخالصة و لو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئاً، لا إنه يقتضي ذلك الأثر ناقصاً كما قالوه. ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبؤة فإنهم عارفون بصدق النبي و دلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبؤة كما لكل إنسان من أمر اليوم و معقوبية تلك النسبة موجودة للكاهن بأشد مما للنائم و لا يصدهم عن ذلك و يوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبؤة لهم فيقعون في العناد كما وقع لأمية بن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يتنبأ و كذا وقع لابن صياد و لمسيلمة و غيرهم فإذا غلب الإيمان و انقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي و سواد بن قارب و كان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار الشاهدة بحسن الإيمان.
الرؤيا
و أما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناطقة في ذاتها ********ة لمحة من صور الواقعات فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات ********ة كلها و تصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية و المدارك البدنية و قد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم كما نذكر فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلة و تعود به إلى مداركها فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً و غير جلي بالمحاكاة و المثال في الخيالي لتخلصه فيحتاج. من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير و قد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال و الخيال و السبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات روحانية بالقوة مستكملة بالبدني و مداركه حتى تصير ذاتها تعقلاً محضاً و يكمل وجودها بالفعل فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية إلا أن نوعها في ********ة دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن و لا غيره فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن و منه خاص كالذي للأولياء و منه عام للبشر على العموم و هو أمر الرؤيا. و أما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي، أعلى ********ات و يخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي و هو عندما يعرج على المدارك البدنية و يقع فيها ما يقع من الإدراك يكون شبيهاً بحال النوم شبهاً بيناً و إن كان حال النوم أدون منه بكثير فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة و أربعين جزاً من النبؤة و في رواية ثلاثة و أربعين و في رواية سبعين و ليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات و إنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه و هو للتكثير عند العرب و ما ذهب إليه بعضهم في رواية ستين و أربعين من أن الوحي كان في مبدإه بالرؤيا ستة أشهر و هي نصف سنة و مدة النبوة كلها بمكة و المدينة ثلاث و عشرين سنة فنصف السنة منها جزء من ستة و أربعين فكلام بعيد من التحقيق لأنة إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم و من أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبؤة و لا يعطي حقيقتها من حقيقة النبؤة و إذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم صلوات الله عليهم إذ هو الاستعداد البعيد و إن كان عاماً في البشر و معه عوائق و موانع كثيرة من حصوله بالفعل و من أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم الذي هو جبلي لهم فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب و لذلك جعلها الشارع من المبشرات فقال لم يبق من النبؤة إلا المبشرات قالوا و ما المبشرات يا ر سول الله قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له و أما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم فعلى ما أصفه لك و ذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها و أفعالها بالروح الحيواني الجسماني و هو بخار لطيف مركزه بالتجويف الأيسر من القلب على ما في كتب التشريح لجالينوس و غيره و ينبعث مع الدم في الشريانات و العروق فيعطي الحس و الحركة، و سائر الأفعال البدنية و يرتفع لطيفه إلى الدماغ فيعدل من برده و تتم أفعال القوى التي في بطونه فالنفس الناطقة إنما تدرك و تعقل بهذا الروح البخاري و هي متعلقة به لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف و لما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية صار محلاً لآثار الذات المباينة له في جسمانيته وهي النفس الناطقة و صارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته و قد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين إدراك بالظاهر و هو الحواس الخمس و إدراك بالباطن و هو القوى الدماغية و أن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها ********ة التي هي مستعدة له بالفطرة و لما كانت الحواس الظاهرة جسمانية كانت معرضةً للوسن و الفشل بما يدركها من التعب و الكلال و تغشى الروح بكثرة التصرف فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة و إنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها و رجوعه إلى الحس الباطن و يعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل فتطلب الحرارة الغزيرة أعماق البدن و تذهب من ظاهره إلى باطنه فتكون مشيعة مركبها و هو الروح الحيواني إلى الباطن و لذلك كال النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة و رجع إلى القوى الباطنة و خفت عن النفس شواغل الحس و موانعه و رجعت إلى الصورة التي في الحافظة تمثل منها بالتركيب و التحليل صور خيالية و أكثر ما تكون معتادة لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً ثم ينزلها الحس المشترك الذي هو جامع الحواس الظاهرة فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة و ربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها ********ة مع منازعتها القوى الباطنية فتدرك بإدراكها ******** لأنها مفطورة عليه و تقيس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة و المحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير و تصرفها بالتركيب و التحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام. و في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: الرؤيا ثلاث رؤيا من الله و رؤيا من الملك و رؤيا من الشيطان و هذا التفصيل مطابق لما ذكرناه فالجلي من الله و المحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك و أضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كلها باطل و الشيطان ينبوع الباطل هذه حقيقة الرؤيا و ما يسببها و يشيعها من النوم و هي خواص للنفس الإنسانية موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم بل كل واحد من الإنساني رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة و حصل له على القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم و لا بد و إذا جاز في ذلك في عالم النوم فلا يمتنع في غير من الأحوال لأن الذات المدركة واحدة و خواصها عامة في كل حال و الله الهادي إلى الحق بمنه و فصله.
فصل: و وقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه و إنما تكون النفس متشوقة لذلك الشيء فيقع بتلك اللمحة في النوم لأنها تقصد إلى ذلك فتراه و قد وقع في كتاب الغاية و غير من كتب أهل الرياضيات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه و يسمونها الحالومية و ذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سماها حالومة الطباع التام و هو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر و صحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية و هي تماغس بعد أن يسواد و غداس نوفنا غادس و يذكر حاجته فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم. و حكى أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله و ذكره فتمثل له شخص يقول له إن طباعك التام فسأله و أخبره عما كان يتشوف إليه و قد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة و اطلعت بها على أمور كنت أتشوف عليها من أحوالي و ليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها و إنما هذه الحالومات تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا فإذا قوي الاستعداد كال أقرب إلى حصول ما يستعد له و للشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب و لا يكون دليلاً على إيقاع المستمد له فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء فاعلم ذلك و تدبره فيما تجد من أمثاله و الله الحكيم الخبير.
فصل: ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس و لا يرجعون في ذلك إلى صناعة و لا يستدلون عليه بأثر من النجوم و لا من غيرها إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرته التي فطروا عليها و ذلك مثل العرافين و الناظرين في الأجسام الشفافين كالمرايا و طساس الماء و الناظرين في قلوب الحيوانات و أكبادها و عظامها و أهل الزجر في الطير و السباع و أهل الطرق بالحصى و الحبوب من الحنطة و النوى و هذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها و لا إنكارها و كذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها و كذلك النائم و الميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب و كذلك أهل الرياضيات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة. و نحن الآن نتكلم عن هذه الإدراكات كلها و نبتدئ منها بالكهانة ثم نأتي عليها واحدةً واحدةً إلى آخرها و نقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الأنسانية كيف تستعد لإدراك الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها و ذلك أنها ذات روحانية موجودة بالقوة إلى الفعل بالبدن و أحواله و هذا أمر مدرك لكل أحد و كل ما بالقوة فله مادة و صورة و صورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك و التعقل فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك و التعقل فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك و قبول الصور الكلية و الجزئية ثم يتم نشؤها و وجودها بالفعل بمصاحبة البدن و ما يعودها بورود مدركاتها المحسوسة عليها و ما تنتزع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور مرة بعد أخرى حتى يحصل لها الإدراك و التعقل بالفعل فتتم ذاتها و تبقى النفس كالهيولى و الصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة و لذلك نجد الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم و لا بكشف و لا بغيرهما و ذلك أن صورتها التي هي عين ذاتها و هي الإدراك و التعقل لم تتم بعد بل لم يتم لها انتزاع الكليات ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها المدارك البدنية و إدراك بذاتها من غير واسطة و هي محجوبة عنه بالانغماس في البدن و الحواس و بشواغلها لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه أولاً من الإدراك الجسماني و ربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظةً إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة و الطرق أو بالرياضة مثل أهل الكشف من الصوفية فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ لما بين أفقها و أفقهم من الاتصال في الوجود كما قررنا قبل و تلك الذوات روحانية و هي إدراك محض و عقول بالفعل و فيها صور الموجودات و حقائقها كما مر فيتجلى فيها شيء من تلك الصور و تقتبس منها علوماً و ربما دفعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفه في القوالب المعتادة ثم يراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النفس لهذا الإدراك الغيبي. و لنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه. فأما الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا و طساس المياه و قلوب الحيوان و أكبادها و عظامها و أهل الطرق بالحصى و النوى فكلهم من قبيل الكهان إلا أنهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير معاناة و هؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها في نوع واحد منها و أشرفها البصر فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه و ربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة و ليس كذلك بل لا يزالون ينفرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر و يبدو فيما بينهم و بين سطح المرآة حجاب كأنة غمام يتمثل فيه صور هي مداركهم فيشيرون إليه بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو إثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه و أما المرآة و ما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال و إنما ينشأ لهم بها هذا النوع الآخر من الإدراك و هو نفساني ليس من إدراك البصر بل يتشكل به المدرك النفساني للحس كما هو معروف و مثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات و أكبادها و لناظرين في الماء و الطساس و أمثال ذلك. و قد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد ثم يخبر كما أدرك و يزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثالي و الإشارة وغيبة هؤلاء عن الحس أخف من الأولين و العالم أبو الغرائب. و أما الزجر و هو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان و الفكر فيه بعد مغيبه و هي قوة في النفس تبعث على الحرص و الفكر فيما زجر فيه من مرئي أو مسموع و تكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية فيبعثها في البحث مستعيناً بما رآه أو سمعه فيؤديه ذلك إلى إدراك ما، كما تفعله القوة المتخيلة في النوم و عند ركود الحواس تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته و تجمعه مع ما عقلته فيكون عنها الرؤيا. و أما المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن لفساد أمزجتهم غالباً و ضعف الروح الحيواني فيها فتكون نفسه غير مستغرقة في الحواس و لا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص و مرضه و ربما زاحمها على التعلق به روحانية أخرى شيطانية تتشبث به و تضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التخبط فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه غاب عن حسه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه و الطبع فيها بعض الصور و صرفها الخيال و ربما نطق عن لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق وإدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل لأنة لا يحصل لهم الاتصال و إن فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه و من ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك و أما العرافون فهم المتعلقون بهذا الإدراك و ليس لهم ذلك الاتصال فيسلطون الفكر على الأمر الذي يتوجهون إليه و يأخذون فيه بالفن و التخمين بناء على ما يتوهمونه من مبادىء ذلك الاتصال و الإدراك و يدعون بذلك معرفة الغيب و ليس منه على الحقيقة هذا تحصيل هذه الأمور و قد تكلم عليها المسعودي في مروج الذهب فما صادف تحقيقاً و لا إصابة و يظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله و من غير أهله و هذه الإدراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر فقد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث و يتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم و في كتب أهل الأدب كثير من ذلك و اشتهر منهم في الجاهلية شق بن أنمار بن نزار و سطيح بن مازن بن غسان و كان يدرج كما يدرج الثوب و لا عظم فيه إلا الجمجمة و من مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعه بن مضر و ما أخبراه به ملك الحبشة لليمن و ملك مضر من بعدهم و لظهور النبؤة المحمدية في قريش و رؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فاخبره بشأن النبؤة و خراب ملك فارس و هذه كلها مشهورة و كذلك العرافون كان في العرب منهم كثير و ذكروهم في أشعارهم قال
فقلت لعراف اليمامة داوني فإنك إن داويتني لطبيب
و قال الآخر
جعلت لعراف اليمامة حكمه و عراف نجد إن هما شفياني
فقالا شفاك الله و الله مالنا بما حملت منك الضلوع يدان
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59