عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 01-14-2013, 11:10 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

4. مفهوم الحرية الأقتصادية



بادئ ذي بدء يجدر بنا أن نشير إلى أن مفهوم الحرية الاقتصادية في الفكر الإسلامي كان مفهومأ عميقأ قد صنع رأيأ عامأ على كل مستويات الدراسات الشرعية سواء على مستوى التفسير، أو شراح الحديث ، أو منظري المدارس الفقهية لدرجة جعلت بعض الكتاب المسلمين يصلون إلى حد الإسراف والمبالغة في الدفاع عن الحرية الاقتصادية حتى بدا أن هذه الحرية باتت تهدد النظام الاقتصادي الإسلامي وتعصف به وذلك من خلال مواقف بعضهم القائلة بمنع المحتسب من التدخل في تحديد الأسعار حتى في الحالات الاحتكارية وأن للمالك الحق في التصرف في ملكه تصرفا مطلقا، وأنه لا معنى للملك التام سوى هذا.



والحقيقة فإنه قد عمد غير واحد من كتاب الفقه الإسلامي في تحليل مبدأ الحرية في الإسلام إلى بيان حرص الفقهاء على حرية الشخص الحقوقية للفرد الإنساني باعتبار أن الفرد وحدة مستقلة مرتبطة بالله ارتباطأ مباشرا، وباعتباره مخلوقا وعبدا له دون غيره، ومن هذا فإن أقوال الفقهاء كانت دائمأ تدور على حماية حرية الفرد الإنساني في الجانب الحقوقي، وحماية ملكيته وتصرفه بنفسه وبما يملك ، ومن ثم فإن الفرد في الإسلام هو المقصود بالرعاية والاهتمام وليس المجتمع ، ولا الجماعة ء ولا الأمة ، فليست أي جماعة ، أو أمة بمسؤولة أمام الله تعالى بصفتها الجماعية بل إن كل فرد مسؤول أمام الله بصفته الفردية وعلى هذه المسؤولية الفردية وحدها يتوقف فلاح الإنسان وقيمته.



وبنـاء على هذا فإن المجتمع في نهاية المطاف هو الذي يخدم الفرد، وليس الفرد هو الذي يخدم الجماعـة، فالمقصود الأصلـي من الحياة الاجتماعية ليـس المجتمع ورفاهيته وسعادته بـل المقصود الأساسي هو رفاهية الأفـراد وسعادتهم. فالمقياس الحقيقي لصلاحية نظام الجماعة واعتباره صالحاً أو غير صالح هو إلى أي حد يساعد أفراده وينمي مواهبهم، ويرتقي بكفاءتهم الذاتية ومستـوى إنجازهم ومن ثـم فـأن الاسلام لا يرسم صـورة للتنظيـم الاجتماعـي، أو مشروعـاً للفـلاح الاجتماعى وذلك من خـلال جعـل الفـرد مشـدوداً شـداً محكماً بنظام الجماعـة ليصبح الفرد فى النهاية مجرد رقم فى هذا التنظيم الاجتماعى، أو آلة صماء فى جيش المقهورين يحرك أزرارها الزعمـاء، ومن هنـا يصبح الإنسان ليس بحاجه ماسـه إلى الحريـه الاقتصادية أو بتعبيـر أخـر حريـة المعاش، لأن من لم يكن حرأ فى معاشه لا حرية له أصلاً، ويلعب نظام السوق وآليته الدور البارز و الأساس في الاقتصاد الإسلامى.



ولعـل هذا التحليل النظرى للحربه يجد أسسه في أن المسؤولية الفرديه مقرره فى الإسلام على نحو صريح وبآيات مكرره تحيط بأنواع المسؤولية من جميع الوجوه، فلا يحاسب إنسان بذنب إنسان ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ولا يحاسب الإنسان بغير عمله ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) وربما كانت هذه الآراء النظرية ترجع والى حد ما إلى تلك التقاليد الاجتماعية التي كانت تقدم ضمانات اجتماعية كبيرة لحريـة الافراد الاقصاديه حتى في الأوقات التى ضاقت فيها الحرية السياسية، وقـد كانت البحوث الفقهية المدرسية ضمانأ قانونيا لحريه الأفراد الاقتصادية ، وكذلك كان القضاء باعتبار أنه كان يعتمد والى حد ما على الفقه الإسلامي خصوصاً في مذاهبه المعروفة.



والواقع أن حق الحرية الاقتصادية للأفراد، وصيانه نشاطهم الاقتصادي قد تقرر في العديد من النصوص ولعـل فى مقدمتها حديـث النبى (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع والذى جـاء فيـه ( إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) ومن هنا ركز الإسلام في مراحله الأولى والمبكرة على حماية هذه الحرية وضمانها بكل تشريعاته التي أبقت هذه الحرية مصانة من العبث والتعدي، وذلك من خلال تحريم السرقة والاختلاس، والاعتداء على ملك الغير، وغصبه، أو إتلافه، وأوجبت في كل ذلك العقوبات في حال المسؤولية العمدية، وضمان المتلفات وتعويضها في حال المسؤولية التقصيرية، وربما كان في رفض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ان يسعر على الناس حوائجهم -عندما غلت الأسعار على عهده مبررا ذلك بعدم انسجام التسعيرة الجبرية مع مبدأ العدالة الذي يقضي بان يبيع البائع سلعته بالسعر الذي يصل إليه التعامل في السوق الحر- ما يؤكد مقدار اهتمام الإسلام بالحرية الاقتصادية، والحفاظ عليها، إذ ورد عن أنس أنه قال: غلا السعر على عهد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: يا رسول الله سعر لنا فقال: ( إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق واني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة ولا مال ) .



وهكذا تأسست الحرية الاقتصادية في الفكر الاقتصادي الإسلامي على تأريخ طويل وعبر قرون طويلة من الممارسة، وكانت مقوماتها الفكرية الأساسية مرتبطة بأصل العقيدة نفسها التي اعترفت بحرية التملك، وذلك في إطار نظرية الاستخلاف وبحق المالك في التصرف في ملكه والاحتفاظ به بحيث يتمكن من الانتفاع به بكل الطرق السائغة له شرعأ، وفي الحدود التي رسمها الشارع فـ((الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئأ منها بغير طيبة أنفسهم إلا في المواقع التي تلزمهم )).



والحقيقة فإنه مع إيماننا العميق بالحرية الاقتصادية وأنها ترتكز في مقوماتها الفكرية إلى أصل العقيدة الإسلامية فإننا لا نعتقد وليس بإمكاننا أن نعتقد سلامة التحليل الذي تبناه بعض الكتاب المسلمين في اعتبار الفرد هو الغاية نعم نعتقد أن الفرد غاية لا باعتبار فرديته لكنه غاية باعتباره لبنة في البناء التكويني الاجتماعي، ويشكل وحدة من عناصره الفعالة ، ومن ثم فليس المجتمع هو الذي ينبغي له في النهاية أن يكون خادمأ للفرد، أما الاحتجاج بمسئوليته باعتبار فرديته أمام الله فهو ما ينسجم مع قاعدة التكليف وهذا ما نقول به ونعمل بموجبه ولكن هذا لا يعفي الفرد من مسئوليته وممارسة نشاطه بما يخدم المجتمع ويحقق غاياته ، لأن من تمام المسؤولية الفردية، هو تكافل الأمة في المسؤولية العامة ، لأن الأمة قد تصاب جميعأ بضرر جناه عليها بعض أبناثها فمن واجب كل فرد أن يدفع الشر عن نفسه وعن غيره، ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة ) وعلى كـل فرد أن يبذل في دفع الشر جهد ما يستطيع ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) ولعـل في تقييد الحق الفردي عموما والحرية الاقتصادية واحدة منها بأن تعمل في إطار المشروعية وما رسمه الشارع له دلالة قوية في أن الشارع قد جعل هذا الحق خادما للمجتمع ويسعى إلى تحقيق غاياته، وفي حديث السفينة الذي ذكره النبي (صلى الله عليه وسلم) ما يؤكد هذه المسؤولية، وشركة الأمة العامة فيها والذي فيه ( مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاهـا فتـأذوا به، فأخـذ فأسـا فجعـل ينقر أسفل السفينـة فأتوه فقالوا: مالك؟.. قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه نجوا ونجوا أنفسهم وان تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم ) فواضح أن الذي أراد خرق السفينة إنما كان يتصرف في خالص حقه وملكه بدلالة قوله ( استهموا سفينة ) أي: اقترعوها فأخذ كل واحد منهم نصيبه من السفينة، وهكذا تحددت حرية الفود ضمن الإطار الذي يحقق مصلحة الجماعة، ويتطابق مع غاياتها وأهدافها.



ومن هنا فإن تعاريف الفقهاء للملك قد جاءت لتؤكد هذا المعنى وتدعمه، إذ جاء تعريفه عندهم بأنه تمكن الإنسان شرعا بنفسه، أو نيابة عنه من الانتفاع بالعين، ومن أخذ العوض، أو من تمكنه من الانتفاع خاصة، فهذا التعريف يبين أن الملك هو التمكن من الانتفاع وهذا إنما يتم بسلطان من الشارع، فالملك في حقيقته وجوهره هو منحة الشارع الذي أعطى الإنسان الملك بترتيبه على السبب الشرعي، فهو حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العوض عنه وتعريفات الفقهاء وان اختلفت في المبنى إلا إنها متحدة في المعنى وفي تأكيد أن الإنسان مستخلف فيما يملك وهذا يؤكد ما سبق وأن قررناه من أنه ليس هناك حق مطلق في الفقه الإسلامي بل ما من حق إلا وهو مقيد بأعباء وتكاليف وقيود ترد عليه لعل في مقدمتها أنه يجب أن يعمل ضمن الحدود المرسومة له شرعا، ومن هنا فإن عبارات الفقهاء ومنطقهم قد سار على وتيرة واحدة ومتصاعدة في أنه متى اصطدم الحق الفردي مع الخير العام أو الصالح العام فإنه يضحى بالمصلحة الفردية في مقابل الصالح العام، فجاءت القواعد الفقهية العامة بمثل قولهم: يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام والتي من فروعها قطع يد السارق لتأمين الناس على أموالهم، ويهدم الجدار الآيل للسقوط في الطريق العام، ويحجر على المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس ويباع مال المدين جبرا عنه إذا امتنع عن بيعه وأداء دينه، وتسعير أثمان الحاجيات إذا غلى أربابها في أثمانها، ويباع الطعام جبرا على مالكه إذا احتكر واحتاج الناس إليه وامتنع من بيعه، ويمنع اتخاذ حانوت حداد بين تجار الأقمشة بل إن الواجب الكفائي و إلزام الأمة مجتمعة بالقيام به على سبيل الإنابة. إنما المنظور فيه هو خدمة الأمة والمجموع والمجتمع، وهكذا فإن الناظر في كتب الفقه يجد أن بينها قاسما مشتركا يجمعها وهو الحفاظ على الحرية الاقتصادية ، والعمل على رعايتها، وتهيئة الظروف الملائمة لتعميقها، ومنع التجاوز في استعمالها، ومتابعة العناصر الاحتكارية في السوق..





والواقع فإني لست قادرا على تصور أسبقية الفرد على المجتمع بالنظر إليها من زاوية واحدة هي زاوية المسؤولية بل على العكس من ذلك نجد أن زاوية المسؤولية الفردية التي قررتها نصوص الشريعة كان الهدف الأساس منها هو رسم صورة واقعية للحق الفردي، ونطاقه، والمجال الذي يعمل فيه بما لا يصطدم وحق الجماعة أو المجتمع أو المجموع، ومن ثم فإنه ليس هناك مجال للقول بأسبقية الفرد على المجتمع وكذلك العكس، والذي يدفعني إلى هذا أن ما سبق وقررناه يأبى هذا ويرفضه، ذلك لأن فكرة الحق في الفكر الإسلامي قد قامت على أساس ثابت ومرسوم وهو أنه منحة الشارع، ومن ثم فإنه ليس الفرد خادما للمجتمع وليس المجتمع خادما للفرد بل الكل يعمل في إطار المشروعية، ويسعى إلى إقامة التوازن، ولعل هذا واحد من ميزات الفقه الإسلامي وحيويته، وهكذا يكون الفقه الإسلامي قد زاوج بين قاعدتين على غاية كبيرة من الأهمية بين قاعدة الفرد والاهتمام بمواهبه وخلق روح المبادأة عنده وتطوير كفاءاته وطاقاته، وتطوير أدائه، واعتماده كأساس للتنمية، وبين قاعدة مصالح الأمة، وتقرير حقها في كسب الفرد، ووجوب التكافل بين أفراد الأمة، وأن تكون غايات الفرد منسجمة مع الغايات التي رسمتها الشريعة الإسلامية، وبهذا يتحقق التوازن الفعال والمنضبط بين مختلف المصالح الاجتماعية والفردية.



ولما كان الحق الفردي والحرية الاقتصادية الفردية واحدة منها مقيدة بضوابط مرسومة شرعا وهي تسعى إلى تحقيق التوازن الاجتماعي فإن هذا يعطي للدولة باعتبارها ممثلة الأمة وراعية تطبيق الحكم الشرعي الحق في تحديد هذه المهمة تحصيلا وانفاقأ أي إنتاجا وإدارة توزيعا واستهلاكا وتأسيسا على كل ما قدمنا فإن القيود التي وردت على الحرية الاقتصادية كانت في حقيقتها وجوهرها تستهدف كفالة حق الدولة في التدخل.



إما لمراقبة النشاط الاقتصادي للأفراد، أو لتنظيمه ، أو لمباشرة بعض أوجه النشاط التي يعجز عنها الأفراد أو يسيئون استغلالها، ولعل مظاهر هذه الرقابة هي في آن الوقت تعد السند الشرعي لتدخل الدولة.





5. الرقابة على الانشطة الاقتصادية ومدى سلطان الدولة فيه



ان دور الدولة المباشر في السوق الاقتصادية، وذلك من خلال مشاريع القطاع العام الذي تتبناه الدولة سواء أكان ذلك على مستوى الصناعات الاستخراجية، أو على مستوى الزراعة، أو بتعبير أكثر دقة واجب الدولة في تنمية الموارد الاقتصادية زراعية كانت أو صناعية، واضح من خلال ملكيتها للمعادن الهامة والضرورية ومن خلال سيطرتها على القطاع العام الحمى واقطاعية الدولة واحياء الموات ومن خلال سلطتها في تأميم المرافق العامة عندما تقتضيه ضرورة او تستدعيه حاجة كما حدث على عهد عمر بن الخطاب عندما امتنع عن توزيع سواد العراق في واقعة تأميم مشهورة هذا ما يتعلق في دور الدولة في استثماراتها المباشرة وهناك دور مهم اخر يتمثل ذلك في استثمارات الافراد ودور الدولة في رقابته وأثر ذلك على فعالية السوق وآليته في التعامل، وهذا الجانب يتمثل فيما تقوم فيه الدولة من رقابة وإشراف على حركة السوق، والمعاملات، والنشاط الاقتصادي بوجه عام.



والحقيقة فان وظيفة الدولة الرقابية في الاقتصاد الإسلامي تجد مبررها في ذلك النوع من التوجيه الارادي لقوانين المعاملة الاقتصادية، ولقوانين النشاط الاقتصادي بمعنى أن الفكر الاقتصادي الإسلامي لا يفترض أن الوحدات الاقتصادية ستتوجه وبسذاجة وعفوية تدفعها في ذلك يد خفية نحو التوازن الاقتصادي، وتحقيق الأهداف دون توجيه إرادي مخطط ومرسوم ، وفي أن الوقت على غاية كبيرة من الدقة في الرقابة والإشراف، ذلك لأن هذه المصلحة من الصعوبة بمكان إثبات صدقها، أو البرهنة عليها، لأنها قد تأسست على مقدمات خاطئة وغير واقعية، لأنها تفترض عدم وجود التناقض بين مختلف الفعاليات الاقتصادية الفردية والجماعية أو بتعبير آخر تفترض عدم اختلاف الخاص والعام، وهو افتراض خاطئ بحد ذاته...



وهكذا تكون الرقابة بمفهومها العام هي عبارة عن عملية متابعة دائمة ومستمرة تقوم بها الإدارة بنفسها، أو بتكليف غيرها للتأكد من أن ما يجري عليه العمل داخل الوحدة الإدارية، أو الاقتصادية يتم وفقا للشريعة الإسلامية وقواعدها، ومطابقا للخطط الموضوعة، والسياسات المرسومة، والبرامج المعدة وضمن الحدود المعمول بها لتحقيق أهداف معينة أرادتها الشريعة وقصدتها لتحقيق مفهوم خلافة الإنسان في الأرض....



والرقابـة بهذا المفهوم عملية دائمة تبدأ مع كل عمل وتستمر معه لا تتوقف ولا تنتهي، فهـي ليسـت عمليـة متخصصة تقوم بها أجهـزة متفرقة لهـا وتنفرد بها فحسب بـل قد تكون داخليـة في نطاق السلطة التنفيذية نفسها المخولة بفرض التوجيه والإرشاد، وهي بهذا المفهوم عملية تقوم بها جميع المستويات الإداريـة، ولا تقتصر على الإدارة العليا تطبيقـاً لقوله (صلى الله عليه وسلم) ( كلكم رع وكلكم مسؤول عن رعيته ) وان كان جهاز الحسبة واحدا من المستويات الإدارية القوية الذي يلعب دورا مهما وبارزا على المستوى الاقتصادي باعتباره جهاز الرقابة المتخصص بمتابعة النشاط الاقتصادي، او إذا توخينا الدقة فإن وظيفته هي رقابة السوق.



وقد تكون الرقابة خارج نطاق السلطة التنفيذية فلا تقع في مستوى من مستويات الإدارة وهي بهذا المفهوم تكون نمطا من أغاط الرقابة الشعبية، أو شكـلاً من أشكالها وذلك عندما يقوم الفرد متطوعا بالحسبة باعتباره واحدا من أفراد الهيئة الاجتماعية المكلفة شرعا بتغيير المنكر، والملزمة شرعاً بالتعاون في أداء الواجب إلا أن هذه الرقابة الشعبية لا تمارس في رقابة الجهاز الإداري للدولة من القمة إلى القاعدة فحسب وانما تمارس الرقابة على النشاط الفردي الخاص في المعاملات الاقتصادية، ومقدار انسجامه في تحقيق التوازن الاجتماعي وتناغمه مع الأهداف المرسومة .



ومن هنا تكون الغايات التي تسعى إليها هذه الوظيفة هي تحسين مستوى الكفاءة في إنجاز الأهداف الاقتصادية للدولة، وفي آن الوقت تجد مبررها في أن التوازن المنضبط والفعال على المستوى الاجتماعي والسياسي من غير الممكن تحقيقه إلا إذا كان مستنداً إلى قاعدة اقتصادية قوية، لأن تحقيق الأهداف لا يتم إلا في مستوى عال من النشاط الاقتصادي.



ولما كانت قوانين النشاط الاقتصادي كثيرة، ومتداخلة في آن الوقت، إذ أنها تقع في مستوى من مستويات القوانين الاجتماعية، أو السياسية، أو الأخلاقية، أو القانونية، أو النفسية، أو الفكرية، لأن منها ما يتعلق بحرية التعبير أو الرأي، أو الحرية عموما على المستوى السياسي، ومنها ما يتعلق برئاسة الأسرة على المستوى الاجتماعي وبوجود الإنسان والغايات التي يسعى إليها على المستوى الفكري، وبالحلال والحرام في المعاملات على المستوى القانوني وبالأمانة والصدق والإخلاص على المستوى الأخلاقي وبالرغبة بالاستثمار والادخار على المستوى النفسي فإنه من غير الممكن أن نبحث هذه القوانين بأسرها لانها مجال بحوث ودراسات اخرى.



ثانياً: القوانين العاملة في النظرية العامة للاقتصاد الاسلامي



لما كان هدف هذا العنوان دراسة القوانين العاملة للاقتصاد الإسلامي المنظمة لعملية تدخل الدولة في هذا الاقتصاد حيث استطاعت هذه الدراسة أن تصل إلى عديد من النتائج ولما كان اكتشاف قوانين منظمة لتدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية هو الأكثر أهمية باعتباره هو المحدد لمجال هذه الوظيفة ونطاقها وحدودها، فإننا سنحيل في قراءة النتائج الفرعية إلى كتابنا الدولة ووضيفتها الاقتصادية في الفقه السياسي الاسلامي في كل موضوع من موضوعاته إذ أن لنا فيه نتائج مهمة وسنكتفي بالتركيز على ثلاثة قوانين عاملة استطاع هذا الكتاب اكتشافها وإثباتها مما يمكن القول معه أنه يشكل أساس بناء نظري كامل في هذا الإطار.





1. القانون الأول: التوجيه الإرادي



يفترض هذا القانون أن العمليات الاقتصادية من غير الممكن لها أن تسير بتلقائية ساذجة تدفعها إلى ذلك يد خفية أو يحكمها قانون طبيعي يشبه قوانين النظام البيولوجي الذي يتصف في العادة بالجبرية ومن ثم فإن النظام الاقتصادي الإسلامي لا يصور فيه الاقتصاد بصفته نظاما تعاونيا تؤدي فيه القوانين الاقتصادية مهمة تحويل سعي الأفراد إلى تحقيق مصالحهم بتلقائية غبية أو جبرية لها حكم الضرورة.



ومن ثم فإن العمليات الاقتصادية يجب أن تناط بجهة قادرة على توجيه هذه العمليات لتحقيق أهدافها الاجتماعية. ومن هنا غاير النظام الاقتصادي الإسلامي الرأسمالية التي تقول بالتلقائية وخالف النظريات الاجتماعية الذاهبة إلى جبرية قوانينها العاملة مثل قاعدة: التضامن الاجتماعي التي قال بها ( دوجي ) وقاعدة التركيب العضوي التي نادي بها كونت ولعل هذا القانون وجد أسسه المنشأة له من خلال موضوع الإنتاج وهدفه ومفهوم الحاجة ووسائل سدها والبلوغ بها إلى حد الكفاية وكذلك يجد أسسه في أن الحق وحق الملكية على وجه الخصوص منظور إليه أنه محمل بأعباء وتكاليف اجتماعية ومقيد بأن يتناغم وينسجم مع الغايات والأهداف التي تسعى إليها الشريعة الإسلامية.



وهذا التوجيه الإرادي نجده واضحا من خلال تدخل الدولة في فرض التسعيرة الجبرية عند الحاجة وفي مكافحة الاحتكار والأنشطة المعوقة لقوانين السوق.



ان هذه الازمة الاخيرة والتي كان واحداً من اسبابها الرئيسة المضاربات الوهمية والصورية وطرق الاحتيال والنصب قد اثبتت ان ما قدمته الشريعة الاسلامية من مبادئ متمثلة في تحريم النجش وبيع الانسان ما ليس عنده وبيع الغرر الذي تندرج تحته صور كثيرة مثل بيع المجهول وبيع ما لا يملك وبيع ما لا يقدر على تسليمه وغيره هو الضمان الحقيقي لعدم حدوث مثل هذه الكوارث والازمات ولعل ما ذهبت اليه الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية وهي اعلى هيئة رسمية في فرنسا منوط بها مراقبة نشاطات البنوك والذي يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية واشتراط التقابض في اجل محدد بثلاثة ايام لا اكثر من ابرام العقد يفصح عن قدرة الاقتصاد الاسلامي و واقعيته.





ويمكن القول بأن هذا القانون يتصف بالمرونة إذ هو يختلف ضيقا واتساعا مع طبيعة الظروف ونمو موارد المجتمع وتطورها وطبيعة الظروف المحيطة بالعمليات الاقتصادية . وفي كل هذا نحيل إلى كتابنا الدولة و وضيفتها الاقتصادية في الفقه السياسي الاسلامي.





2. القانون الثاني: الرسم المنهاجي



يمتاز الاقتصاد الإسلامي بأنه مرسوم منهاجياً بمعنى أن القوانين الاقتصادية فيه لا تسير بعفوية من حيث توزيع الموارد أو من حيث ممارسة الحقوق وبالتالي فإن حق الدولة ليس بأعلى من حق الفرد والعكس صحيح.



ولعل هذا القانون يتجلى بوضوح في أكثر من موقع في هذا الكتاب حين يناقش موضوع الحق من حيث مفهومه ونطاقه والمجال الذي يعمل فيه ومصدر الحق ومنشؤه وأنه منحة الحكم الشرعي يستوي في ذلك الفرد والأمة والدولة وأنه لا وجود لحق فردي مطلق . وكذلك حين يناقش مفهوم الدولة ووجود السلطة السياسية والطبيعة القانونية لعقد البيعة وأن ظهور سلطة سياسية إنما هو قائم ومؤسس على نظرية العقد السياسي وكذلك حين يناقش مقر السيادة وأن السيادة للشريعة الإسلامية في ظل مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي وأنها دولة قانونية أو حكومة قانونية نوموقراطية وان السلطة الحاكمة فيها مستمدة من الأمة فهو مستناب عنها في تنفيذ الحكم الشرعي.



ومن ثم فإن وظاثف الدولة والوظيفة الاقتصادية منها على وجه الخصوص مرسومة منهاجيا في الاقتصاد الإسلامي.



وكذلك حين يناقش وظيفة الدولة الزراعية من حيث إحياء الموات واشتراطه إذنية الدولة ومن حيث إقطاعية الدولة والحمى باعتباره يتمثل فيه دور الدولة في القطاع العام الزراعي وفي تنظيمه للموارد المائية من حيث عمارتها والإنفاق عليها.



وكذلك حين يناقش وظيفة الدولة في الصناعات الاستخراجية إذ يرسم وبصورة منهجية ملكية المعدن وطرق استثماره ويقيم لذلك معايير دقيقة



ويتجلى الرسم المنهاجي في تقييد المباح وذلك بمكافحة الوسيط الانتهازي وبرسم موضوع الإنتاج وترتيب الحاجات بطريقة معيارية ورسم مفهوم الكفاية ورسم وسائل سد الحاجة.



ان واحدة من اهم فصول هذه الازمة التي بينا اسبابها فيما تقدم هي قيام البنوك بتوريق الرهون العقارية وكل القروض المتعثرة حيث قامت البنوك بعرض بيع خداعي لهذه الرهون شبه الممتازة في صورة سندات الى مؤسسات مالية مثل ( فريدي ماك ) و ( فاني ماي ) ومن ثم قامت الاخيرة بوضعها في مجمعات من الرهون العقارية وبيعها الى صناديق استثمارية وكذلك الى عامة الجمهور معتبرة اياها استثمارات رفيعة الدرجة تتميز بحد ادنى من المخاطر وهذه هي الافة التي كانت سبباً في تفاقم الازمة الاخيرة اذ لم تكن الحركة النشطة للاقتصاد الامريكي في الفترة الاخيـرة الا سلسلـة من الديـون المتضخمة التي لم يكن لها اي ناتـج في الاقتصاد الفعلي حيث كانت عبارة عن اوراق من السنـدات والمشتقات والخيـارات يتـم تبادلهـا والمضاربـة عليهـا فـي السوق الثانويـة وهذه الانشطة تعـرف في الفقه الاسلامي ببيـع الديون وهـو ممنوع شرعاً الا بضوابط تمنـع الزيـادة الربويـة والعمليـات الصورية ويعرف اقتصادياً بالتوريـق ويقصد بـه تحويـل القـروض وادوات الديـون غيـر السائلـة الـى اوراق مالية قابلة للتـداول في اسواق المال وجميع هـذه الانشطـة المتقدمـة ممنوعـة شرعـاً وتأسيسـاً على هـذا يتبيـن لنـا ان الاقتصـاد الاسلامـي هـو الاقتصـاد الامثـل للبشرية لانـه يحـدد بعنايـة ودقـة الحـدود التـي يعمـل فيهـا الفـرد وبطريقـة مرسومـة منهاجيـاً.





3. القانون الثالث: التلقائية المستهدفة موضوعياً



يفترض هذا القانون أن هناك قوانين في السوق قادرة على قيادة العمليات الاقتصادية إذا ما توفرت لها شروط المنافسة المتكافئة، ومن ثم فإن تدخل الدولة ربما كان مفسدا لهذه القوانين أكثر مما يفيد العملية الاقتصادية.



وتأسيساً على هذا عمد الاقتصاد الإسلامي من خلال الدولة على تهيئة الظروف المناسبة للمنافسة المتكافئة، ومن ثم أراد لطرفي العملية الاقتصادية أن يتصرفا بعفوية دون تدخل من عوامل أخرى للتأثير على هذا الطرف أو ذاك.



ومن هنا أشر الفقه الإسلامي الحالات التي تعيق حرية التنافس وتمنع من التصرف بتلقائية بالتأثير على خيارات الفرد بالتغفيل والتدليس أو بالسمسرة والوساطة .



ويتجلى هـذا في حجب الوسيـط الانتهازي وتحريـم حجـب المعلومـات عـن أحـد طرفـي العمليـة الاقتصادية وإيجاب توفير الدولة للمعلومات التي تزيل الجهالة لذلك حرم تلقي السلع والنجش وأباح لمن تعاقد مع الجهالة حق فسخ العقد لعدم توفر المعلومات أو تزييفها فشرع خيار العيب وخيار الغبن وفي كل ذلك كان لنا نتائج مهمة.



وبالجملة فإننا نعتقد أن هذه القوانين الثلاثة توصل إلى نتيجة مفادها أننا لا نرى سببا واضحا يدعو الدولة إلى تبني سياسة تشتمل على القسم الأعظم من الحياة الاقتصادية للجماعة فلا مصلحة للدولة في أن تتكفل بسياسة واسعة على مستوى النشاط الاقتصادي ذلك لأن الدولة متى ما تمكنت من تحديد الحجم الإجمالي للموارد المخصصة لزيادة هذه الوسائل والمعدل الأصلي للمكافحة الممنوحة فإنها تكون قد قامت بكل ما هو ضروري.



وهكذا أثبتت هذا الدراسة من خلال قوانينها العاملة التي قررتها وبرهنت على صلاحيتها، أن الشريعة الإسلامية قد توصلت إلى نتائج من الكفاءة والقدرة ما جعلها تتميز على كل الأنظمة الاقتصادية إذ غاية ما وصل إليه الاقتصاد الحديث هو قوله بالتدخل المحدود للدولة وفق المعايير التي قدمناها.











ثالثاً: الاساس النظري للاستهلاك والادخار والاكتناز في الاقتصاد الاسلامي



إن أهم ما يميز الاقتصاد الاسلامي انه وضع معياراً على غاية من الدقة فيما يخص واحدا من أهم وأبرز الأنشطة الاقتصادية، وهو الاستهلاك، فإذا كان الاقتصاد التقليدي منذ آدم سميث وحتى وقت قريب ظل ينظر إلى أن التقتير الشديد ينمي الرأسمال، وأن الشخص المقتصد محسن عام، وأن تزايد الثروة متعلق بزيادة الإنتاج، وان الادخار يغني، والإنفاق يفقر الجماعة والفرد في نفس الوقت، وان الحب الفعلي للنقود هو على الصعيد الاقتصادي مصدر كل خير، فهو لا يغني المدخر فحسب، بل أيضا يرفع الأجور، ويؤمن العمل للعاطلين، ويسطر حسناته في كل مكان، وظل هذا الزعم يتجدد بحيث أصبح التشكيك فيه تدنيسا للحرمات، وانتهاكا للمقدسات، وقد قبل الفكر الاقتصادي هذا الزعم مضطراً بعد معارضة شديدة شنها مالتوس وغيره مدفوعين إلى ذلك بعدم قدرتهم على دحض نظرية صندوق الأجور، وان كانت هذه النظرية قد فقدت بريقها وحظوتها اليوم، فإن الاقتصاد الحديث يذهب إلى نقض هذه المبادئ، ويرى عدم صوابها من الناحية المطلقة، بـل وجـد أن اتجـاه المجتمعات المعاصـرة اتجاهـا دائماً نحو البطالـة يعـزى إلــى نقـص الاستهلاك أي: إلى عادات اجتماعية، والى توزيع للثروة يتجليان في ضعف الميل إلى الاستهلاك بل يجد جانب من الاقتصاد الحديث تفسيره للأزمات الدورية في النقص المتزايد في الاستهلاك(1).



وبيان ذلك أن هدف الإنتاج هو تقديم البضائع، والخدمات للمستهلكين، وأن العملية تنهج سيراً متصلا منذ البدء بتحويل المادة الأولية حتى استهلاكها، وبما أن منفعة الرأسمال الوحيدة هي إنتاج هذه البضائع والخدمات فإن كمية الرأسمال المستخدم الإجمالي تتحول بالضرورة بتحول الكمية الإجمالية للبضائع، والخدمات المستهلكة في كل وقت، ولكن الادخار يزيل كتلة الرأسمال الموجود في إنقاصه كمية البضائع والخدمات المستهلكة مما يؤدي لا محالة إلى تراكم أعظم من الكمية اللازم استخدامها، ويتجلى الفرق وبوضوح في الفيض العام للإنتاج، أو بتعبير أكثر دقة إلى ادخار كميات أعظم من قيمة الرأسمال المطلوب.



والواقع فإن النظر فيما قدمناه على كلا الاتجاهين ينطوي على قسط كبير من الحقيقة، ولكن من الواضح أنها صحيحة فقط ضمن بعض الحدود، ذلك لأن الادخار إذا بلغ غاية الإفراط يزيل الباعث على الإنتاج بالضرورة، كما أنه يعد من الحماقة بمكان أن نولي أهمية شديدة وكبيرة لنمو الاستهـلاك وذلك في عصـر لا يـزال المجتمع ينتظر فيـه الكثيـر من المنافـع الاجتماعية من زيـادة التوظيف والاستثمار بهـدف عمـارة الأرض وبنائها، والقيـام بواجـب الاستخلاف، والتناغـم مع قوانينه.





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

(1) عرف الفكر الاقتصادي نظريات عديدة في تفسير الدورة الاقتصادية منها:

1. نظرية التجديد: وترجع الدورة إلى تتابع التجديدات الغنية العامة في الاقتصاد مثل السكك الحديد والكهرباء والسيارات وهذا ما ذهب إليه جوزيف شوميتر، والفن هتنسين.

2. النظرية النقدية: وترجع الدورة إلى التوسع والتضييق في خلق النقود الكتابية ومنح الائتمان وهذا ما ذهب إليه هاوترى، وملتون فريدمان.

3. نظرية نقص الاستهلاك: وتذهب إلى أن جزء كبيرا من الدخل إنما يذهب إلى الطبقات الفتية في المجتمع التي تتميز بكبر ميلها الحدي إلى الادخار بالمقارنة بالطبقات الفقيرة التي يقل عندها هذا الميل، وهذا ما ذهب إليه مالتس وسيموندي، وهوبسون وسويزي.

4. نظرية زيادة الاستثمار:وترى سبب الكساد في زيادة الاستثمار، وليس في نقصه وهذا ما ذهب إليه، فون ميزس، وفون هايك. وهناك نظريات أخرى.

إن النقطتين المتطرفتين وهما اعتبار الادخار فضيلة، والأخرى التي تعتبر الاستهلاك ضرورة، وأن الادخار يزيل الباعث على الإنتاج هما واضحتان غاية في الوضوح، وهناك بالضرورة نقطة متوسطة حتى لو كانت وسائل الاقتصاد السياسي لا تسمح بتعيينها تلك النقطة الوسط هي ما جاء الاقتصاد الإسلامي بها، وهي ما عبر عنها القرآن الكريم بالوسطية في قوله تعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَا ) (1) وقد تقررت في جانبها الاقتصادي في العديد من النصوص مثل قوله تعالىَ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (2) وقوله تعالى: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (3) وقوله تعالى: ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) (4) وهكذا وجد الاقتصاد الإسلامي أن سياسة الاستهلاك، وسياسة الاستثمار لا تزيحان أبداً بعضهما بعضا، لأنه ليس هناك ما يمنع من زيادة الاستثمار بل هذا مطلوب على سبيل الوجوب بمقتضى الحكم الشرعي، وقوانين الاستخلاف، وفي آن الوقت يقنن الاستهلاك، ويعمل على ترشيده، بحيث يبقى في مستوى من مستويات الوسطية (5) المعبر عنه في الفقـه الإسلامي بمستوى التوسط، والقناعة كما عبر عنه الظاهرية، لأنهم يفترضون الوسطية في الإنفاق الحلال والمباح كما أنهم يفترضون هذا المستوى في الإنفاق الـذي هو قربـة يتقرب بها إلـى الله باعتباره طاعة، أو بمستوى أعلى من الوسـط فيما نعتقد عند جمهور الفقهاء، نظراً، لأن الإنفـاق فـي المباحات جائز عندهم دون تقيد بمستوى الوسطية، ودون النظر إلى تناسب الإنفاق مع مستـوى دخـل الفـرد وكونـه مما يليـق بحاله أم لا عند بعضهم، وكذلك لا يتقيد الإنفاق في القـرب والطاعـات بمستـوى التوسط والقناعـة، ومما لا شـك فيـه فـأن دائـرة المباحات، ودائـرة الطاعات دائـرة واسعـة يمكن من خلالها ملاحظة نسبة نمو أعلى من الوسط بكثيـر نحـو الميـل إلـى الاستهلاك.



على أننا نعتقد أنه من الناحية النظرية البحتة، أن الاقتصاد الإسلامي، والغايات التي يسعى إليها، وهي عمارة الأرض، والقيام بواجب الاستخلاف، سيؤدي بالضرورة إلى نمو مطرد في الاستهلاك، لكنه استهلاك من نمط أخر، إنه استهلاك لبناء استثمار جديد للموارد، واستغلال للطبيعة، بمعنى أنه ليس استهلاكا شخصيا مباشرا بل استهلاك داخل في استثمار جديد، ومن هنا نعتقد أن الاقتصاد الإسلامي قـد تجاوز فيضان الإنتاج بواسطة رفع الاستهلاك في نفس الوقت ليس فقط إلى المستوى



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

(1) سورة البقرة: 143.

(2) سورة الفرقان : 67، والمراد بالقتر والتقتير، والإقتار: التضييق الذي هو نقيض الإسراف ومجاوزة الحد في النفقة، والقوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما، ونظير القوام من القوامة الاستواء، وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الشيء بمعنى ما تقام به الشيء بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها، ولا ينقص.

(3) سورة الأعراف :31، والمراد بهذه الآية أن الله قد أحل الأكل والشرب في كافة الأحوال والأوقات إلا ما خصه الدليل ما لم يكن سرفا، أو نحيلة . أما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوع وأسكن الظمأ فمندوب إليه عقلا وشرعا، وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة فقيل حرام وقيل مكروه وصحح ابن العربي الأخير.

(4) سورة الإسراء: 29.

(5) يقـول الشنقيطي: في تعقيبه على قوله تعالى: (مما رزقناهم ينفقون) عبر في هذه الآية بمن التبعيضية الدالــة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لأكله، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه، ولكنـه يبين في مواضع أخرى إن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة، وسد الخلة التي لا بد منها وذلك لقوله تعالى: ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهـب الجمهور، وقال بعض العلماء: العفو نقيض الجهد وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع فقد نهى الله عن البخل بقوله ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) نهاه عن البخل، ويقول : ( ولا تبسطها كل البسط ) و نهاه عن الإسراف فتعين الوسط بين الأمرين كما بينه بقوله : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير، وبين البخل والاقتصاد، فالمنع في محل الإعطاء مذموم والإعطاء في محل المنع مذموم.

الذي يقابل الاستثمار المتزايد، بل أيضا إلى مستوى أعلى منه، وذلك من خلال نمط استهلاكي آخر تفرضه ضرورة الاستثمارات الجديدة وما يتطلبه من حاجة إلى سلع وخدمات متجددة.



وتأسيساً على ما تقدم فإننا لا نرى سبباً واضحاً يدعو الدولة إلى تبني سياسة تشتمل على القسم الأعظم من الحياة الاقتصادية للجماعة، فلا مصلحة للدولة في أن تتكفل بسياسة واسعة على مستوى الاستهلاك، ذلك لأن الدولة متى ما تمكنت من تحديد الحجم الإجمالي للموارد المخصصة لزيادة هذه الوسائل. والمعدل الأصلي للمكافحة الممنوحة فإنها تكون قد قامت بكل ما هو ضروري، وهكـذا فإن الاقتصاد الإسلامي لا يجد في الادخار أنه فضيلة مطلقة على المستوى الاقتصادي وهـذا يصدق على الادخار بمعناه البسيط وهو الادخار الذي يكون على شكل سائل نقدي، بل هذا الشكل من الادخار غير مرغوب فيه، ويصطدم مع المنهج الإسلامي أو هو ليس من باب الفضل على أقل تقدير كما يقتضيه قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَـزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِـزُونَ ) (1) بل نعتقد أن الادخار في هذا المعنى يفقد دافعه الموجد له ذلك لأن الاقتصاد الإسلامي يغاير الاقتصاد الحر من حيث تحريمه للفوائد الربوية، ومن ثم يكون الاكتناز بهذا المعنى إهدارا لقيمة الثروة بمرور الوقت ونقصاناً لقدرتها الشرائية من جهة، ومن جهة أخـرى فـأن رأس المـال المكتنز ستـرد عليه فرضية الزكـاة التي قــد تأتي على أصله مـا يجعل الشخص الذي يتخذ قراراً بالادخار يتخذ في نفس الوقت قرارا بالاستثمار، وهكذا فإن عملية اقتطاع جزء من الدخل وحجبه عن التداول سواء لوضعه في المصارف أو اكتنازه في أقبية القصور وذلك بانتظار المقترضيـن فـي الجانب الآخـر أمـر مذموم ورد النـص بالنهي عنه وهـو في هذا لا يستحق حرماناً من المكافأة باعتباره عنصراً من عناصر الإنتاج بل تقع عليه عقوبة في الاقتصاد الإسلامي وهي عقوبة ورود الزكاة عليه التي قد تأتي على أصل رأس المال ، ومرد هذا النظر هو أن المكتنز



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

( 1 ) سورة التوبة : 34 – 39، ويلاحظ أن ما أثبته في الأصل هو الحد والأدنى المتفق عليه عند جميع المفكرين الإسلاميين. وقد اختلفوا فيما وراء ذلك اختلافا واسعا، ومنذ فترة مبكرة ترجع إلى عصر الصحابة، إذ عرف الفكر الإسلامي اتجاهين في تحديد ماهية الاكتناز الحرام:

الاتجاه الأول :

ويذهب إلى حمل النصوص، والآية منها، على إطلاقها، فلا يرى ادخار شيء أصلا، ويعتقد أن كل مال مجموع يفضل عن القوت، وسداد العيش فهو كنز سواء أديت زكاته، أو لم تؤد، وأن أية الوعيد إنما نزلت في ذلك ، هذا ما ذهب إليه الأقلون من علماء الصحابة وعلى رأسهم أبو ذر كما وردت عنه أثار كثيرة تدل على ذلك . منها، ما أخرجه البخاري في صحيحة في كتاب الزكاة باب ما أدي زكاته فليس بكنز 7/ 15 2 ونصه : عن زيد بن وهب قال: مررت بالربدة قال فأذا أنا بأبي ذر - فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا ؟.. قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب، فقلت : نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك وكتب إلى عثمان يشكوني الخ...

ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما في رواية الأحنف بن قيس قال : جلست إلى ملا من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال : بشر الكانزين برضف يحمى عليهم في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نفض كتفه ويوضع على نفض كتفه حتى يخرج من ثديه تنزل، ثم ولى فجلس إلى سارية فتبعته وجلست إليه، وأنا لا ادري من هو؟ فقلت له : لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت. قال : أنهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي. قلت : ومن خليلك ؟.. قال النبي (صلى الله عليه وسلم): يا أبا ذر تبصر أحدا ؟.. قال : فنظرت إلى الشمس ما بقى من النهار، وأنا أرى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرسلني في حاجة له قلت : نعم ، قال : ما أحب أن لي مثل احد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاث دنانير. ان هؤلاء لا يعقلون أنما يجمعون الدنيا، ولا والله لا يسألهم دينا ولا استفتيهم عن دين حتى ألقى الله . صحيح البخاري، كتاب الزكاة باب ما أدي زكاته فليس بكنز وصحيح مسلم كتاب الزكاة باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة: ويؤيد ما تقدم ما روي عن الامام علي قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما كثر فهو كنز وان أديت زكاته. =

بسحبه للمال وحجبه عن التداول يكون قد تعسف في استعمال حقه وقد مارس نشاطا اقتصاديا فيه اعتداء على المجتمع وظلم له وذلك لما يشكله هذا النشاط من خطورة على الدورة الاقتصادية لأنه عطل النقود عن أداء دورها كوسيط في التبادل والتداول يقول الغزالي ((من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا أكمل الغرض المقصود به، وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة، ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي)).







ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

الاتجاه الثاني:

ويذهب إلى أن الكنز المذموم هو ما لم تؤد زكاته . أما ما أديت زكاته فليس بكنز مهما بلغ ، وهذا ما ذهب إليه الأكثرون من علماء الصحابة ، وما درج عليه التنظير الفقهي بعدهم ويشهد له ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، ومسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله، واللفظ للبخاري أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بشدقيه، ثم يقول : أنا مالك، أنا كنزك، صحيح البخاري كتابه التفسير باب الذين يكنزون الذهب والفضة : 8/ 243، وصحيح مسلم كتاب الزكاة باب أثم مانع الزكاة / 7/ 72، وموطأ مالك باب ما جاء في الكنز2/126. ويؤيده ما روي أن أعرابيا سئل عبد الله بن عمر عن قوله تعالى: (واللذين يكنزون الذهب والفضة) الآية. قال ابن عمر:من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له ، أنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهرة للأموال . صحيح البخاري باب ما جاء في الكنز/ 2/ 125. وكذلك يؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: ((ليس فيما دون خمسة أوراق صدقة ، ولا فيما دون خمسة ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أواق صدقة )) صحيح مسلم كتاب الزكاة :7/50. ووجه الاستدلال به إن الكنز المنفي هو المتوعد عليه الموجب لصاحبه النار، لا مطلق الكنز الذي هو اعظم من ذلك ، وإذا تقرر هذا فأن مفهوم الحديث إن ما زاد على خسة أوراق ففيه الصدقة ، ومقتضاه إن كل مال أخرجت منه الصدقة فلا وعيد على صاحبه ، فلا يسمى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزا ذلك ، لأن الله تعالى قد أوجب على لسان رسوله ربع العشر في كل خمسة أوراق ، وكذلك أوجب في كل عشرين مثقالا من الذهب ربع العشر، ولو كان فرضا إخراج جميع المال، وحرام اتخاذه لكانت زكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا الخروج بربع العشر، تماما كما هو الشأن في المال المغصوب الذي هو حرام على الغاضب إمساكه، وفرض عليه إخراجه من يده إلى يد صاحبه ، فالتطهير إنما يكون برده على صاحبه فلو كان ما زاد على أربعة آلاف درهم عند البعض ، أو ما فضل عن قدر حاجته عند البعض الآخر هو المراد بالكنز المحرم الذي ورد الوعيد به لم يكن اللازم لصاحبه هو ربع العشر، بل كان اللازم له هو الخروج من جميعه إلى أهله ، وصرفه فيما يجب عليه صرفه تماما كما هو الشأن في المال المغصوب.

يضاف إلى ما تقدم أنه كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام جمع كبير من الأغنياء، وكان يعدهم النبي من أكابر المؤمنين، وكذلك فقد ندب الشرع إلى إخراج الثلث، أو الأقل في المرض ولو كان جمع المال محرمـاً لكان قـد أمـر المريض أن يتصدق بكل مالـه. هذا وقد حـاول غير واحد من الشرعيين التوفيق بيـن كـلا الاتجاهيـن منهم صاحب الفتح الذي يذهب إلى أن الجمع بين كلام ابـن عمر، وحديث أبي ذر، أن يحمل حديث أبي ذر على مال تحـت يـد الشخص لغيره فلا يجب عليه أن يحبسه عنه، أو يكون لـه لكنه يرجى فضله، وتطلـب عائداتـه كالإمام الأعظم فلا يجب أن يدخر عن المحتاجين من رعيته شيئا، ويحمل حديث ابن عمر على مال يملكه وقد أدى زكاتـه فهو: يجب ان يكون عنده ليصل به قرايته ويستغني به عن مسألة الناس. وقد حاول القرطبي في تفسيره: أن يجمع بين الاتجاهين بقوله (( ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر هذا أن الآية قد نزلت في وقت شدة الحاجة ، وضعف المهاجرين ، وقصر يد الرسول عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم ، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم، منهى عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة ، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت )) وبمثل هذا أو قريب منه حاول غير واحد من المفسرين وشراح الحديث الجمع بين كلا الاتجاهين منهم النيسابوري في تفسيره ومنهم الرازي في تفسيره: والزمخشري في تفسيره. وثمة اختلاف أخر في المراد بمدلول الكنز وما يصدق عليه، فإذا كانت اللغة تفيد ان الكنز هو المال المجموع سواء كان فوق الأرض أو تحتها، لان مادة كنز تفيد مطلق الجمع عند الفقهاء من علماء اللغة. أساس البلاغة للزمخشري: ( كنز )، والقاموس المحيط للفيروز ابادي ( كنز )، والصحاح للجوهري ( كنز ) فأن الفقهاء قد اختلفوا في مدلوله الشرعي =

ويلاحظ أن الاقتصاد الإسلامي لا يفرق في حجب المال عن التداول بين اقتطاع جزء من المال سواء وضعه المقتطع في المصرف أو في أقبيته الخاصة فالكل مذموم ولا يكافأ على احتجازه وحجبه.



أما في حالة تعريف الادخار على أنه استثمار لاحق، وأن الاستثمار في حقيقته وجوهره ادخار لكنه نوع أخر فان الاقتصاد الإسلامي هو الذي أراد هذا وتبناه، وذلك إنما يتم باقتطاع جزء من رأس المال بهدف توظيفه في عملية استثمار جديدة، على أننا نسجل ملاحظة مهمة وهي أن النظر في قرارات الادخار ودوافعها النفسية أو الذاتية في الاقتصاد الحديث نجدها لا تتطابق مع البناء التكويني للفرد المسلم.



فإذا كان الاقتصاد التقليدي، قد نحا إلى تبسيط قرارات الادخار، والظروف المحيطة بها، فقام بتصويرها على أنها مجرد اختيار بين الاستهلاك الحاضر، والاستهلاك في المستقبل، ومن ثم أبرز فضائل الحرص على المال، فإن الاقتصاد الحديث قد *** معه جوا من الواقعية في دراسة هذه الظروف فقد اعتبر قرارات الاستهلاك أو الادخار أكثر بكثير من مجرد الاختيار بين الحاضر، والمستقبل ، فالفرد الذي يقرر أن يدخر غالبا ما يكون دافعه إلى ذلك شعور بالتكبر، أو شراهة إلى المال، أو أن يرغب المرء ان يكون له من الثروة ما يكفي لرفع رأسه عاليا، أو لمجرد إرضاء غرائز البخل الموجودة لديه، أو لتكوين احتياطي لمقابلة مصاعب غير منظورة مثل المرض والبطالـة، ومع ذلك فإن الاقتصاد الحديث يعتقد أنه لا يلزم أن تكون كـل هذه الدوافع الشخصية مـن



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

إلى سبعة أقوال هي:

1. أنه المجموع من المال على كل حال . ووجه هذا القول ما أخرجه البخاري في صحيحة في كتاب الزكاة باب إثم مانع الزكاة، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : يأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط فيها حقها تطؤه بأخفانها وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها تطئه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، قال : ومن حقها أن تحلب على الماء، قال : ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته فيها يعار، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت ، وبنحو هذا أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الزكاة باب إثم مانع الزكاة

2. انه المجموع من النقدين، ووجهه أن الكنز إنما يستعمل لغة في النقدين ويعرف تحريم غيره، بالقياس عليه.

3. أنه الجموع منهما ما لم يكن حلياً: ووجهه أن الحلي مأذون في جمعه واتخاذه زينة دون تعلق حق فيه.

4. أنه المجموع منهما دفينا، ووجه قوله عليه الصلاة والسلام في الإبل ومن دفن دينارا أو درهما أو تبرا، أو فضة لا يدفعها بعده لغريم، ولا ينفقها في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة.

أنه المجموع منهما ما لم يؤد زكاته: ووجهه ما أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الزكاة باب ما أدي زكاته فليس بكنز وذلك أن أعرابيا سأل ابن عمر عن قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) الاية، فقال من كمزها فلم يؤد زكاتها فويل له إنما كان هذا قبل ان تنزل الزكاة ، فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال.

5. أنه المجموع منهما ما لم تؤد منه الحقوق : ووجهه ما أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الزكاة باب إثم مانع الزكاة: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ما من صاحب ذهب ولا فضة يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صحائف من نار فاحمي عليها في نار جهنم فكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره كلما بردت أعيدت له يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله، إما الى الجنة، وإما إلى النار، وبنحو هذا قال النبي (عليه الصلاة والسلام) في الإبل، والبقر، والغنم، والكنز، وقد ورد في هذه الأحاديث أن النبي سئل عن حقها، فقال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحتها، وحليها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله .

6. أنه المجموع منهما ما لم ينفق ويهلك في سبيل الله ، ووجهه أن الحقوق أكثر من الأموال ، وليس الزكاة قادرة على الوفاء باحتياجات المساكين فكنز المال دون ذلك ذنب وأثم.

النوع الذي يؤدي إلى تقليل الاستهلاك، فمن الجائز جداً أن يؤدي بعضها إلى زيادة الاستهلاك فقد تدعو الرغبة في الطهور مثلا إلى زيادة في الإنفاق، ويلاحظ أن المنشآت أيضا لها دوافع مشابهة تدفعها إلى إنفاق القليل، أو الكثير.



والحق فإنه باستثناء دافع واحد وهو دافع تكوين احتياطي لسد حاجة، أو دفع ضرورة، فإن بقية الدوافع تفصح عن روح أنانية يرفضها الإسلام الذي طلب من معتنقيه أن يكونوا على درجة عالية من الإيثار ونقاء السريرة، وخلوص النية في العمل لغاية أخروية مبرئة من عوامل الأثرة، وتقديس الذات.







رابعاً: سعر الفائدة ( الربا )



ان فكرة سعر الفائدة مبنية على اساس نظرة كل نظام اقتصادي لعناصر الانتاج والتوزيع الوظيفي لهذه العناصر وقد اختلفت النظم الاقتصادية لتعريفها وتقسيمها لعناصر الانتاج وما اصطلحوا عليه بالتوزيع الوضيفي او مكافئة عناصر الانتاج ذلك ان النظم الاقتصادية لا تسير على نسق واحد في نظرها الى هذا الموضوع.



1. فعناصر الإنتاج في الاقتصاد الرأسمالي أربعة هي العمل وعائده الأجر والطبيعة وعائدها الريع ورأس المال وعائده الفائدة والمنظم وعائده الربح ويتحدد وفق قانون العرض والطلب.



2. أما في الاقتصاد الاشتراكي فإن عنصر الإنتاج الأساسي هو العمل وعائده الأجر أو الراتب الذي تحدده السلطات الرسمية بقرار أداري فهي وان كانت تعتمد معيار العرض والطلب في تحديده ألا أنها لا تتقيد بهذا القانون بل هي تتحدد بخطة التنمية الاقتصادية المعتمدة . أما بقية عناصر الإنتاج فهي وان كانت موجودة في العملية الإنتاجية إلا أن عوائدها تنتقل إلى الدولة تتصرف فيها حسب خطة التنمية المعتمدة.



أما عناصر الإنتاج في الفقه الاقتصادي الإسلامي فإن نظرته المذهبية لهذه العناصر تختلف عن نظرة الاقتصاد السياسي التقليدي اختلافا جذريا وأساسيا وذلك على الرغم من ذلك التشابه الظاهري بين بعض العناصر التي يتركب منها الإنتاج في كل من الاقتصاديين الإسلامي والغربي وقد عرف الفقه الاقتصادي الإسلامي الحديث ثلاث اتجاهات رئيسية في تحديد وتعريف عناصر الإنتاج.



الاتجاه الأول: ويذهب إلى تصنيف عناصر الإنتاج بنفس الطريقة التي نجدها في أي كتاب غربي يبحث في اقتصاديات الوحدات الصغيرة فيقسمها على أنها الطبيعة الأرض والعمل المنظم ورأس المال ويلاحظ أن عنصر رأس المال له مفهوم خاص يختلف عن مفهومه في الاقتصاد الغربي وكذلك تختلف النتائج المترتبة عليه كما أن عنصر العمل في النظرة الإسلامية يتسم بخضوعه لتنظيم معين. ويلاحظ أن التقسيم الكلاسيكي لعوامل الإنتاج قد أثار انتقادات عديدة على مستوى الاقتصاد الحديث لعل في أولها هو اننا إذا حاولنا تحديد ذلك بالبحث في المصدر النهائي لكل جزء من العوامل الإنتاجية فإننا سنثير مسائل تاريخية يصعب معها أن نقرر أي العوامل الإنتاجية كان من صنع الإنسان وأيها لم يكن كذلك كما حو الشأن في الأرض الزراعية الصالحة للزراعة.

وثمة نقطة أخرى وهي أن هذا التقسيم قد جمع في مجموعة واحدة مفردات غير متجانسة فالطبيعة على حسب هذا التقسيم تشمل الأرض وما عليها من موارد الثروة وهذا ما حدا ببعض الاقتصاديين المحدثين إلى دمج الأرض ضمن نطاق رأس المال وربما دمجوا التنظيم في العمل.



الاتجاه الثاني: ويذهب إلى عدم اعتبار رأس المال عنصراً من عناصر الإنتاج ومرد هذا الاستبعاد يرجع إلى سبب فني من وجهة نظرهم وهو أن رأس المال يعتبر في حقيقته مالا منتجا أي مالا تم إنتاجه من قبل وليس عنصراً أصيلاً من العناصر التي يتركب منها الإنتاج وربما كانت دوافع بعضهم في إنكار دور رأس المال في عملية الإنتاج هو خوفهم من أن يعتبر عائده هو الربا المحرم.



وفي الحقيقة لا يصح أن يحمل تحريم الربا ( الفائدة ) في الإسلام على أنه يستدعي إنكار كون رأس المال عنصرا من عناصر الإنتاج ذلك لأن رأس المال وان كان لا يعد عنصرا أو حداً. من عناصر الإنتاج إلا أنه يعتبر واحدا من أكثر الضرورات الفنية في الاقتصاد الحديث وهي ضرورات اقتضتها ظروف التقدم العلمي في ميادين الإنتاج فرأس المال أن كان في حقيقته عملا سابقا أي مال تم إنجازه خلال فترة سابقة إلا أنه من ناحية أخرى مال مكرس من جديد في الاستخدام لتكوين أموال أخرى ومن هنا يمكن القول إن رأس المال هو عمل متراكم مخزون متضمن في سلعة تستخدم في معرض إنتاج سلعة أخرى.



يضاف إلى هذا أن علم الاقتصاد الحديث نفسه يفرض علينا أن نميز بين رأس المال وبين القرض ومن ثم التمييز بين المكافأة التي تستحق لكل منهما ما يقتضيه مفهوم الفائدة عند الكثير من الاقتصاديين مثل ( فيشر ) و ( باتكسن ) و ( هانسن ) إذ أنها معرفة عندهم على أنها النسبة المئوية للفرق في الأسعار الحقيقية للنقود ما بين نقطتين من الزمن أو كما هو معرف عند ( كينز ) بأنه عكس النسبة القائمة بين مبلغ من العملة وما يمكن الحصول عليه إذا تركنا لفترة معينة حرية التصرف بهذا المبلغ لقاء ذمة ومن ثم يكون سعر الفائدة هو السعر الذي تتفق عنده الرغبة في إبقاء الثروة في شكل سائل نقدي.



وهكذا فإن مفهوم الفائدة المتقدم ليس له أية علاقة بالالات والمباني أو بالسلع الإنتاجية. فإذا كانت الفائدة هي مكافأة القرض فلا يمكن ان تكون هي نفسها مكافأة رأس المال بل إن حق رأس المال هو حق شخصي على صاحب المادة المصنعة ولا توجد علاقة بين هذه المكافأة وبين الفائدة بل ولا يوجد أي نوع من التشابه بينهما.



الاتجاه الثالث: ويذهب إلى أن عناصر الإنتاج اثنان هو العمل ورأس المال ويلاحظ أن هذا الاتجاه على الرغم من ذهابه إلى ثنائية عناصر الإنتاج إلا أنه يجعل من مفهوم رأس المال مفهوماً شاملاً لمعناه المصطلح عليه عند الاقتصاديين وللمورد الطبيعي وهي الثروات التي ليس للإنسان دخل في وجودها كالأرض والحيوان والماء والمعادن والمناجم.



والحقيقة فانه على الرغم من اتفاقنا مع هذا الاتجاه بالجملة لأنه أكثر الآراء دقة وأقربها إلى الفقه الإسلامي إلا أننا نختلف معه في ملاحظته أن رأس المال وحده لا يكون له عائد ألا إذا ساهم مع العمل في الغرم. ومرد هذا الاختلاف أن هذا الاتجاه قد استند في تقسيمه إلى إجماع الفقهاء على توزيع الريع وهو الإنتاج بين العمل ورأس المال كما هو في صورة الشركة، ومعلوم أن الشريك يتحمل الغرم حسب نسبته المئوية المتفق عليها بإرادة الشركاء إلا أننا نختلف مع هذا الاتجاه في أنه جعل من حالة واحدة وهي حالة الشركة قاعدة فذهب إلى أن رأس المال لا عائد له إلا إذا تحمل الغرم مع أننا نلحظ أن هناك احوالا عديدة لا يتحمل فيها رأس المال كما هو مفهومه عندهم غرما ولا أي نوع من مخاطر المشروع على الرغم من استفادة صاحب رأس المال من حصيلة الإنتاج، يدل على ذلك ما سطره الفقهاء من أراء في طرق الاستثمار والتوظيف كما هو الشأن في التوظيف عن طريق إقطاعية الدولة وكما هو الحال في إجارة المورد نفسه والحق فان تصور الاقتصاد الإسلامي لعوامل الإنتاج ومردود هذه العناصر من العوائد وبالتالي نظرية القيمة يعد واحداً من أبرز واهم الخصائص التي تميز الاقتصاد الإسلامي عن كلا الاقتصادين الرأسمالي والماركسي الكلاسيكي.



ان النظرية الغربية سواءً اكانت اشتراكية ام رأسمالية تذهب الى ان الفائدة هي عائد رأس المال ومكافأته وبالتالي فهي تعتقد ان الكفاية الحدية لانتاج رأس المال النقدي هو الفائدة والذي يعتبر في الاقتصاد الغربي هو المحرك او الداينمو لنظامه الاقتصادي ولعل الاساس النظري الذي استندت اليه انه لما كان رأس المال النقدي متناهي ومحدود فهو لا يشبه السلع الحرة كالماء والهواء فانه لا يمكن له ان يتراكم وينمو الا من خلال مكافأته بالفائدة وفي حالة عدم وجود الفائدة فأننا سنصل الى المعادلة الصفرية بتأكل رأس المال النقدي.



ان الاقتصاد الاسلامي لا يذهب في ذات الاتجاه الذي ذهبت اليه النظرية الغربية وذلك لانه يرى ان مقولة ان الكفاية الحدية لانتاج رأس المال النقدي تتطابق دائما وابداً مع سعر الفائدة مقولة تتسم باللا يقينية ولا يدعمها الواقع اذ اننا نرى انه في كثير من الاستثمارات ربما كانت الارباح المعبر عنها بالكفاية الحدية لانتاج رأس المال النقدي اكبر بكثير من معدلات سعر الفائدة كما انه ربما في مشاريع اخرى تكون الارباح اقل من معدلات سعر الفائدة مما يعني ان تطابق سعر الفائدة مع الكفاية الحدية لانتاج رأس المال يتسم بالايقينية.



ومع ان الاقتصاد الاسلامي يتفق مع النظرية الغربية في ان رأس المال النقدي متناهي ومحدود الا انه لا يتفق معها في النتائج التي توصلت اليها.. صحيح ان رأس المال النقدي متناهي ومحدود ولا يشبه السلع الحرة مثل الماء والهواء لكننا في الاقتصاد الاسلامي لن نصل الى المعادلة الصفرية لان عائد رأس المال هو الربح وبالتالي فأن تراكم رأس المال سيتم من خلال ما يحققه من ارباح مشروطاً بأن يدخله العمل وهكذا يكون الربح هو الكفاية الحدية لانتاج رأس المال لانه هو المعادل الموضوعي الذي يتسم باليقينية.



ويلاحظ ان هناك تشابهاً ظاهرياً وشكلياً بين الربا والربح باعتبار ان كلا منهما زيادة على رأس المال ولكن على الرغم من هذا التشابه الظاهري بينهما فانه يختلف كل منهما عن الاخر لكون كل واحد منهما ناشئ عن معاملة مالية مختلفة قابلة لان تنتج بطبيعتها وخصائصها ربحاً حلالاً مثل البيع والشركة والاجارة او رباً محرماً مثل اخذ الفائدة في حالة الاقراض والاقتراض.



ويتفق الفقهاء على ان الربا هي كل زيادة مشروطة على رأس مال الدين دون عوض يقابلها سوى الاجل وهي محرمة بنصوص القرأن الكريم كما في قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) البقرة 275.



ومثل قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) فهذه الايات تربط وبوضوح بين الربا والدين وتبين ان الربا هو زيادة على رأس مال الدين.

ان العبرة هي بتوفر خصائص وطبيعة المركز القانوني والشرعي في كل من طرفي العلاقة المالية في الواقع العملي من حيث كونها علاقة دائنية او مديونية ومن هنا يكون الضابط في التفريق بين الربا والربح هو ان أي معاملة كانت اذا نتج عنها وجود مبلغ مالي ثابتاً في ذمة الطرفين ومظمون الرد بمثله مؤجل السداد كان هذا المال ديناً وكان صاحبه دائناً والطرف الاخر مديناً واي زيادة على رأس المال تعد من الربا المحرم اما ان كانت المعاملة لا تشتمل على وجود مبلغ مالي مؤجل السداد وكان الطرف المسؤول عن رد المال اميناً على مال صاحبه من غير ضمان له اذا هلك او خسر وتقاسماً معاً الربح قل او كثر كان صاحب المال شريكاً وكانت العملية شركةً مشروعة وزيادة رأس المال ربحاً حلالاً.



لقد اكدت الدراسات الاقتصادية الموضوعية والمحايدة ان نظام الفائدة التي هي سمة الاقتصاد العالمي الان والتي تشكل البنوك عاموده الاساس والفقري تحتوي على مضار رهيبة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً كما انهم يجمعون بأن الفائدة لا تختلف عن الربا لكنه ربا في ابسط مظاهره وصوره ولكن في نفس الوقت مع ايمانهم بمظارها الا انهم يعتقدون انه لا مناص من اللجوء اليها لادارة السياسة المالية للدولة خصوصاً في السياسات النقدية لانها تعد واحدة من الادوات النوعية في رسم السياسات وصنع التوازن بين حالتي الانكماش والتضخم واختلال التوازنات في كمية النقود بين العرض والطلب وتأسيساً على ما تقدم ذهب كثير من الاقتصاديين الغربيين وعلى رأسهم الاقتصادي الكبير (كينز) الى ان الفائدة تعوق النمو الاقتصادي وتعطل حركة الاموال وان التنمية لا تتحقق الا اذا كان سعر الفائدة صفراً او ما يقرب منه مما يعني الغاء الفائدة ولعل هذا هو ما يحققه الفقه الاسلامي ويسعى اليه.







خامساً: ازمة الائتمان العالمية والبنوك الاسلامية



لقد ساد تصور عام في النظرية الغربية انه لا اقتصاد بلا بنوك ولا بنوك بلا فائدة وكثير ما قدم النظام الغربي البنوك والبورصات وشركات التأميم وغيرها من المؤسسات العملاقة على انها الانموذج الذي يجب ان يحتذى في جميع انحاء العالم على مختلف ايدلوجياته.



ان المتأمل في هذه الازمة يجد ان بداياتها هي في الاقراض والاقتراض بالربا واثقال كاهل الناس بقروض ربوية ذهبت الى سد احتياجات اساسية كالمنازل او غيرها من الكماليات وهكذا كانت سعادة مجلس الاحتياطي الفدرالي والسماسرة وبيوت المال كبيرة لهذه التسهيلات الربوية و وجد الاقتصاد الامريكي فيها محركاً اساسياً لاستمرار النمو لكن جاءت رياح الاعصار بما لا تشتهي سفن الادارة المالية الامريكية وحتى نضع القارئ في صورة ما حدث ويحدث نقول ان عملية الاتجار بالائتمان تتم على مرحلتين:



المرحلة الاولى: جمع الاموال من المدخرين بفائدة وتسمى الايداع او الودائع وهذه التسمية غير حقيقية لان هذه الاموال تسجل لدى البنك على انها ايرادات دائنه العميل فيها دائن والبنك فيها مدين فهذه الايرادات تدخل ذمة البنك المدينة ويتملكها ملكية كاملة ويستثمرها البنك لحساب نفسه وربحها او خسارتها له او عليه وحده وليس للعميل الدائن الا رأس ماله وفائدته .





المرحلة الثانية: هي توزيع الاموال على المحتاجين من اصحاب الاعمال او المستهلكين لبعض السلع فقط وتتم عن طريق الاقراض بفائدة ويلاحظ انها ايضاً عملية مداينة البنك فيها دائن واصحاب الاعمال فيها مدينون وليس للبنك فيه الا رأس مال القرض وفائدته سواءاً ربح صاحب المشروع او خسر ويكسب البنك الفرق بين فائدتي الايداع والاقراض وقد دلت بعض الدراسات لميزانيات البنوك ان معدل ما بين 70 الى 80 بالمائة تتم عن طريق اقراض المال للمحتاجين.



ويقوم نظام البنوك على ان سداد المدين لجزء من دينه يخصم اولاً من الفوائد المتراكمة وقد جرت العادة ان المدينين لا يستطيعون الوفاء بديونهم كاملة ويفاجأ المدين انه قد اوفى البنك قيمة الدين كاملاً ولكن الدين باقي على حاله كاملاً بالاضافة الى جزء من الفوائد وهكذا تتحول ذمة المقترض الى مديونية دائمة تمتص جهده وعرقه وتؤدي بمشروعه في النهاية الى كارثة اقتصادية.



ان الاقتصاديين يجمعون على ان الوجه الاكمل الذي يحقق افضل النتائج لا بد ان تتم بالتعاون والتوازن بين عنصري الانتاج وهما رأس المال والعمل وفي عالم الاقتصاد اليوم لا يوجد الا نظامين اثنين لادارة العلاقة بينهما.



ان يكون صاحب رأس المال دائناً مقابل فائدة ثابته ولا يشارك في ربج او خسارة والمستثمر مديناً وضامناً لارأس المال وهذا النظام لا يحقق العدالة ولا يحقق التوازن بين عنصري التنمية الاقتصادية لانه يحابي رأس المال الذي يزيد دائماً بنسبة مئوية على حساب العمل الذي يربح ويخسر وله مضار فادحة اجتماعياً واقتصادياً واخلاقياً.



النظام الثاني ان يكون صاحب المال شريكاً للمستثمر في الربح والخسارة وليس ديناً في ذمته فلا يضمنه الا بتعدً او تقصير وهو نظام المشاركة بكل صورها سواء منها ما يمثل الاستثمارات المباشرة او غير المباشرة مثل التمويل بالمشاركة او مشاركة كاملة او ناقصة او شركات اموال او شركات اشخاص وهذا ما يحقق التوازن بين عنصري رأس المال والعمل ولا يحابي احداً من الاطراف على حساب الاخر ويدفع بالتنمية الى الامام ولا يسمح بظهور جيل من السماسرة والمقامرين والوسطاء الانتهازيون وحاملي الوثائق والرأسماليون بلا مهنة وهذا ما جاء به الاسلام.



ان واحدة من اسباب الازمة الحالية هو الاتجار بالائتمان وبيع الديون ان النظام المصرفي التقليدي يحتاج الى حلول جذرية عميقة على حد تعبير الباحثة الايطالية ( لووريتا نابليوني ) ومن هنا تأتي اهمية البنوك الاسلامية باعتبارها بديلاً ممكناً عن النظام المصرفي الغربي فقد اثبت النظام المصرفي الاسلامي قدرة عالية على استخدام كافة وسائل الحداثة صحيح ان بعض ادوات هذه المصارف كانت تشوبها بعض السلبيات وما تزال قاصرة عن بلوغ الاهداف المثالية للنظام الاسلامي.



ان فكرة البنوك الاسلامية لا تختلف كثيراً عن البنوك التقليدية باعتبارها وسيطاً بين طرفي المعادلة الاقتصادية وهما وحدة الفائض النقدي التي يمثلها المدخرون ووحدة العجز النقدي التي يمثلها المستثمرون لكنها تختلف مع البنوك التقليدية في الاساس النظري في فلسفتها لرأس المال النقدي وفي نظرتها للنقود فهي تتفق مع النظرية الغريبة في ان النقود وسيلة للتبادل ووعاء للقيمة لكنها تختلف معها في اعتبار النقود اداة او وسيلة يمكن التوصل بها الى عائد مالي بانفرادها بل لا بد ان يدخلها العمل حتى يمكن لها ان تحقق عوائد مالية وتأسيساً على هذا قد جاء تحريم الاتجار بالائتمان.

النتائج





ساحاول ان اسوق نتائج ما توصل اليه هذا البحث وبايجاز شديد وذلك كالاتي:



أولاً: لقد وقع كثير من المحللين في خطأ التسطيح والتبسيط لهذه الازمة حين يقدمونها على انها ازمة مالية فقط. ان توخي الدقة يجعلنا نقرر اننا بأزاء مشكلة اقتصادية حقيقية اطلت بوجهها المالي فقط الا ان لها وجوها اخرى وعلى اي محلل اقتصادي ان لا ينظر بعدسة واحدة او ان يكون حبيس صورة واحدة بل عليه ان يرى بأكثر من عدسة ومن خلال اكثر من صورة عندها سيتوصل الى نتيجة مفادها ان هناك اختلالات بنيوية وهيكلية في النظرية الرأسمالية.



ان الازمة معقدة ومركبة قد ادت الى نتيجة مهمة وهي اختلال الدوال الاربعة ( دالة الاستهلاك، دالة الانتاج، دالة الادخار، دالة الاستثمار ) وان هناك علاقات وظيفية جدلية بين محاور اربعة وهي كمية النقود + علاقتها بالدوال الاربعة + التشغيل ( الاستخدام الناقص والاستخدام التام للعمالة ) + الطاقة.



ان المعادلة المتقدمة تؤشر لنا حجم المشكلة وتعقيداتها فشحة السيولة أدت وبالضرورة الى تراجع الطلب الكلي على الاستهلاك، وتراجع الطلب على الاستهلاك يؤدي الى انخفاض الانتاج، وانخفاض الانتاج يؤدي الى قلة الطلب على الطاقة اولاً والاستغناء عن العمالة الزائدة ثانياً وكل هذا الذي تقدم يؤدي في دورة جديدة الى تراجع الطلب على الاستهلاك الكلي وبمعدلات اكبر لانخفاض عائدات المؤسسات والافراد والشركات وهكذا دخل الاقتصاد العالمي مرحلة الركود أو في طريقه وبالتالي لم تعد شحة السيولة بانفرادها هي السبب.



ثانياً: لقد قلنا ان هذه الازمة ستؤثر على كل الاقتصادات بمستويات مختلفة لانه في ضل اقتصاد معولم لن يكون هناك احد بمنأ عن التأثير ومع ذلك فأننا نعتقد ان اقتصادات الدول العربية والاسلامية وخاصة النفطية منها، اقتصادات جيدة قادرة على مواجهة الازمة اذا لم تركض لاهثة وراء المعالجات الامريكية وهذا هو الخطأ الكبير والفادح التي وقعت فيه دول الخليج خصوصاً لانها تصورت ان افضل وسيلة لمعالجة الازمة هو من خلال ضخ السيولة وبالتالي اعتمدت ذات الادوات والوسائل التي اعتمدتها الادارة الامريكية علماً ان البيئة والمناخ مختلفتين في كلا الاقتصادين.



ان دراسة متأنية لحجم الخسائر في الاسواق المالية في منطقة الخليج لوحدها نجدها قد زادت على مئتي مليار دولار وان معدلات خسائر هذه الاسواق قد بلغ في دبي 45 % وفي كل من الدوحة ومسقط والمنامة قد تراوحت بين 22 و 25 % في حين زادت معدلات الخسائر في السعودية والكويت على 16 % . ان نظرة موضوعية لهذه الارقام ترشدنا الى خلل منهجي على مستوى الادارة المالية في هذه الاقتصادات.



ان ضخ السيولة على مستوى الدول العربية والاسلامية المنتجة للنفط خطأ بالمطلق لان الاقتصادات الكبرى العالمية قد دخلت مرحلة الركود او في طريقها الى ذلك وتأسيساً على ما تقدم فان احتفاظ هذه الدول بالكتلة النقدية الموجودة لديها هو سبيلها الوحيد لان تربح او تحافظ على اقتصادها على اقل تقدير في المرحلة القادمة بدل ان تصل بعض الدول الى مرحلة العجز باعتباره ناتجاً موضوعياً لعجز المؤسسات المالية خصوصاً وان كل شيء يسير نحو الهبوط في المستقبل القريب وبمعدلات كبيرة وبالتالي فأن من يمتلك السائل النقدي من الدول يكون هو الاكثر قدرة على تنفيذ برامجه وخططه القومية والاكثر ربحاً وان الاستثمار والتوظيف في هذه البلدان هو السبيل الامثل باعتباره بديلاً موضوعياً عن ضخ السيولة وانقاذ افلاس المؤسسات المالية. خصوصاً وان هذه الازمة سببها مجموعة من المقامرين الذين لا يستحقون مكافأتهم بتوسيع دائرة الثروة مرة اخرى عن حساب القوى العاملة المنتجة والداعمة للناتج القومي لاي دولة.



ويلاحظ ان اسعار النفط ستصل الى ادنى مستوياتها في الستة اشهر المقبلة لان الطلب الكلي لاستهلاك الطاقة سينخفض وبمعدلات كبيرة وستقل اسعار النفط الى مستوى يترواح بين 30 الى 40 دولار .



ثالثاً: نعتقد وبيقين ضرورة اللجوء الى غلق الاسواق المالية في الدول العربية والى اشعار اخر وهذا الاجراء هو افضل بكثير من ضخ السيولة لان موضوع هذا الضخ سيشكل للدول خسارتين الاولى خسارة الكتلة النقدية والثانية خسارة قيمة الاسهم المتداولة والافضل عندما تخير الدول بين خسارتين او خسارة واحدة ان تختار اقلهما ضرراً في معيار الربح والخسارة.



وتأسيساً على كل ما تقدم فأننا نعتقد ان نظرية البديل الثالث القائمة على اسس ( المذهب الاجتماعي المتساوق مع الحل الاسلامي ) وفي هذا التوقيت بالذات هي النظرية الاكثر ملائمة وجدوى على المستوى الاقتصادي لانها قادرة من خلال قوانينها العاملة على توجيه الموارد على مختلف القطاعات المستهدفة موضوعياً ضمن فلسفة الدولة في قيادة المجتمع لان اقتصادات السوق قد اثبتت فشلها وفي اكثر من مرة.












شبكة المنصور

الاحد / ١١ ذو القعدة ١٤٢٩ هـ


***


الموافق ٠٩ / تشرين الثاني / ٢٠٠٨ م
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59