عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-17-2012, 06:24 PM
الصورة الرمزية يقيني بالله يقيني
يقيني بالله يقيني غير متواجد حالياً
متميز وأصيل
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: جمهورية مصر العربية
المشاركات: 4,854
افتراضي

بلا شك أن هذا التعامل مع الضيف ليس من آداب الضيافة فكان أبو الفتح يتصبّر لعل هذا التاجر يكف عن هذا الكلام الذي لم يُبقي ولم يذر و يتابع أبو الفتح الاسكندري رواية القصة مع هذا التاجر المهذار قائلاً : (( .. ثم قرع الباب ودخلنا الدهليز(23) وقال : عَمَّركِ الله يا دار ولا خربك يا جدار فما أمتن حيطانك وأوثق بُنيانك وأقوى أساسك تأمل بالله معارجها(24) وتبيَّن دواخلها وخوارجها وسلني : كيف حصَّلتها ؟ وكم من حيلةٍ احتلتها حتى عقدتها ؟ .. كان لي جار يُكنى أبا سليمان يسكن هذه المحلَّة وله من المال مالا يسعه الخزن ومن الصامت(25) مالا يحصرهُ الوزن مات وخلف خلفاً أتلفه ..)) .

لم يعلم أبى الفتح أن التاجر قد أشترى هذا البيت بعد قصة طويلة كان في غنى عن سماعها وأولها إتلاف مال الورث من أبن صاحب المنزل الأصلي أبى سليمان في المنكرات والمحرمات ثم الحيلة عليه في شراء الدار منه و يُتابع فيقول : (( .. وأشفقت أن يسوقه قائد الاضطرار إلى بيع الدار فيبيعها في أثناء الضجر أو يجعلها عرضةً للخطر ثم أراها وقد فاتني شراها فأتقطعُ عليها حسرات إلى يوم الممات فعمدتُ إلى أثواب لا تنضُّ تجارتها فحملتها إليه وعرضتها عليه وساومتهُ على أن يشتريها نسيَّةً(26) والمدبرة يحسبُ النَّسيَّة عطية والمختلف(27) يعتدها هدية وسألته وثيقة بأصل المال ففعل وعقدها لي ثم تغافلت عن اقتضائهِ حتى كادت حاشيةُ حاله ترق فأتيتهُ فاقتضيتهُ واستمهلني فأنظرتهُ والتمس غيرها من الثياب فأحضرتهُ وسألته أن يجعل دارهُ رهينة لدي ووثيقةً في يديَّ ففعل ثم درجتهُ بالمعاملات إلى بيعها حتى حصلت لي بجدٍّ صاعدٍ(28) وبخت مساعدٍ وقوة ساعدٍ ورب ساعٍ لقاعدٍ وأنا بحمد الله مجدودٌ وفي مثل هذه الأحوال محمود وحسبك يا مولاي أني كنت منذ ليالٍ نائماً في البيت مع من فيه إذ قُرع علينا الباب فقلت : من الطارق المنتاب ؟ فإذا امرأة معها عقد لآلٍ في جلد ماءٍ ورقة آلٍ(29) تعرضهُ للبيع فأخذتهُ منها إخذة خلسٍ واشتريته بثمنٍ بخسٍ وسيكون له نفع ظاهر وربح وافر بعون الله تعالى وإنما حدثتك بهذا الحديث لتعلم سعادة جدِّي في التجارة والسعادة تنبط الماء من الحجارة الله أكبر ..لا ينبئك أصدق من نفسك ولا أقرب من أمسك اشتريت هذا الحصير من المنادات(30) وقد أخرج من دور آل الفرات وقت المصادرات وزمن الغارات وكنت أطلب مثلهُ منذ زمن الأطولِ فلا أجد والدهر حبلى ليس يدري ما يلد ثم اتفق أني حضرت باب الطاق وهذا يعرض في الأسواق فوزنت فيه كذا وكذا ديناراً تأمل بالله دقته ولينه ولونه فهو عظيم القدر لا يقع مثلهُ إلا في الندر وإن كنت سمعت بأبي عمران الحصري فهو عملهُ وله ابن يخلفهُ الآن في حانوته لا يوجد أعلاق الحصر إلا عنده فبحياتي(31) لا اشتريت الحصر إلا من دكانه فالمؤمن ناصح لإخوانه لاسيما من تحرَّم بخوانه(32) .. ونعود إلى حديث المضيرة فقد حان وقت الظهيرة يا غلام الطست والماء , فقلت : الله أكبر ربما قرب الفرج وسهل المخرج .. وتقدم الغلام فقال : ترى هذا الغلام ؟ إنه رومي الأصل عراقي النشء تقدم يا غلام واحسر عن رأسك وشمر عن ساقك وانض(33) عن ذراعك وفتر عن أسنانك وأقبل وأدبر ففعل الغلام ذلك وقال التاجر : بالله من اشتراه ؟ اشتره والله أبو العباس من النخاس(34) ضع الطست وهات الإبريق .. فوضعه الغلام وأخذه التاجر وقلبهُ وأدار فيه النظر ثم نقرهُ , فقال : إلى هذا الشَّبهِ كأنه جذوة اللهب أو قطعة من الذهب(35) شبه الشام وصنعة العراق ليس من خلقان الأعلاق(36) قد عرف الملوك ودارها تأمل حسنه وسلني متى اشتريتهُ ؟ .. )) .

كان أبو الفتح متضجراً من كلامه فكيف يسأله وهو يريد الخلاص منه ؟! ولكن هذا التاجر يفتح الأبواب ويخترع السؤال والجواب ثم يتابع فيقول : (( .. اشتريته والله عام المجاعة وادخرته لهذه الساعة يا غلام الإبريق .. فقدمه وأخذه التاجر فقلبه ثم قال : أنبوبه(37) منه لا يصلح هذا الإبريق إلا لهذا الطست ولا يصلح هذا الطست إلا مع هذا الدست(38) ولا يحسن هذا الدست إلاَّ في هذا البيت ولا يجمل هذا البيت إلا مع هذا الضيف أرسل الماء يا غلام فقد حان وقت الطعام . بالله ترى هذا الماء ما أصفاهُ أزرق كعين السنور(39) وصافٍ كقضيب البلور؟(40) .. استقي من الفرات واستعمل بعد البيات(41) فجاء كلسان الشمعة في صفاء الدمعة وليس الشَّانُ في الإناء لا يدلك على نظافة أسبابه أصدق من نظافة شرابه وهذا المنديل سلني عن قصته فهو نسيج جرجان وعمل أرجان(42) وقع إلىَّ فاشتريته ..)) .

لقد عرَّف هذا التاجر جميع ما في بيته لأبي الفتح مبتدأً بقصة شرائه للمنزل إلى المنديل الذي يُتخذ في تنشيف الأيدي بعد الغسل ! حتى أصبحت هذه المضيرة بغيضة لأبي الفتح بسبب ما يعانيه من هذا التاجر الذي تبين لاحقاً أن لديه الكثير من الكلام في وصف متاعه وحاجياته وأنه لا يمل ولا يكل من هذه الرعونة في التعامل مع الضيف ثم يُكمل فيقول : (( .. يا غلام الخوان فقد طال الزمان و القصاع فقد طال المصاع(43) والطعام فقد كثر الكلام .. فأتى الغلام بالخوان وقلبه التاجر على المكان ونقره بالبنان وعجمه بالأسنان , وقال : عَمَّرَ الله بغداد فما أجود متاعها وأظرف صُنَّاعها تأمل بالله هذا الخوان وانظر إلى عرض متنه وخفة وزنه وصلابة عوده وحسن شكله , فقلت : هذا الشكل فمتى الأكل ؟! فقال : الآن عَجِّل يا غلام الطعام .. لكن الخوان قوائمه منه , قال أبو الفتح الإسكندري : فجاشت نفسي(44) وقلت : قد بقي الخبز وآلاتهُ والخبز وصفاته والحنطة من أين أُشتريت أصلاً وكيف اكترى لها حملاً وفي أي رحى طحن وإجَّانةٍ(45) عُجن وأي تنور سُجر وخبازٍ استأجر وبقي الحطب من أين أحتُطب ومتى جُلب وكيف صُفف حتى جُفف وحُبس حتى يبس وبقي الخباز ووصفه والتلميذ ونعتهُ والدقيق ومدحه والخمير وشرحه والملح وملاحته وبقيت السكرجات(46) من أتخذها وكيف انتقذها ومن استعملها ومن عملها والخل وكيف انتقي عنبه أو اشتري رطبه وكيف صهرجت معصرته واستخلص لبه وكيف قير حبه وكم يُساوي دنه(47) وبقي البقال كيف احتيل له حتى قطف وفي أي مبقلة رصف وكيف تؤنق حتى نظف وبقيت المضيرة كيف اشتري لحمها ووفي شحمها ونصبت قدرها وأُججت نارها ودقت أزارها حتى أُجيد طبخها وعقد مرقها !! وهذا خطب يطم(48) وأمرٌ لا يتم فقمت , فقال : أين تريدُ ؟ فقلت : حاجةً أقضيها فقال : يا مولاي تريد كنيفاً(49) يزري بربيعي الأمير وخريفي(50) الوزير قد جصص أعلاه وصهرج أسفله وسطح سقفه وفرشت بالمرمر أرضه يزل عن حائطه الذر فلا يعلق ويمشي على أرضه الذباب فيزلق عليه باب غيرانه(51) من خليط ساج وعاج مزدوجين أحسن ازدواجٍ يتمنى الضيف أن يأكل فيه ؟! فقلت : كُل أنت من هذا الجراب لم يكن الكنيف في الحساب .. وخرجت نحو الباب وأسرعتُ في الذهاب وجعلت أعدو وهو يتبعني ويصيح : يا أبا الفتح المضيرة .. وظن الصبيان أن المضيرة لقب لي ! فصاحوا صياحه فرميت أحداهم بحجر من فرط الضجر فلقي رجل الحجر بعمامته فغاص في هامته فأخذت من النعال بما قدم وحدث ومن الصفع بما طاب وخبث وحشرت إلى الحبس فأقمتُ عامين في ذلك النحس فنذرتُ أن لا آكل مضيرة ما عشت فهل أنا في ذا يالهمذان ظالم ؟ قال عيسى بن هشام : فقبلنا عذره ونذرنا نذره وقلنا قديماً جنت المضيرة على الأحرار وقدمت الأراذل على الأخيار ))(52) .

__________________


رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59