عرض مشاركة واحدة
  #74  
قديم 11-28-2013, 08:24 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,192
ورقة

العلمانية في مصر
ــــــــــــــــــــــــــ

24 / 1 / 1435 هــ
28 / 11 / 2013 م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(د. محمد هشام راغب)
---------------

توفيق الحكيم .. صانع الأقنعة

- رأى توفيق الحكيم في طفولته الأسياد والعبيد .. ومع ذلك اختار أن يكون من العبيد الجنتلمان !

- العلامة محمود شاكر انتبه لخطورة "القاهرة الجديدة" التي أريد للمثقفين فيها أن يتبختروا في شوارعها خدما فارهين للسادة الأحرار الأوروبيين أبناء " الحرية والإخاء والمساواة".


... ولقد ذكر توفيق الحكيم لمحات من نشأته في مصر تعكس كراهية مفترضة لظلم الغرب وإذلاله للشعوب التي استعمرها، ولكنها تعكس أيضا بذور النشأة العلمانية. إن العبارات التي وصف بها تلك النشأة تتفق تماما مع نشأته لأب قاض وأم متفاخرة لأنها من أصل تركي وكانت تقيم العوائق بين توفيق الحكيم وأهله من الفلاحين فكانت تعزله عنهم وعن أترابه من الأطفال وتمنعهم من الوصول إليه، ولعل ذلك ما جعله يستدير إلى عالمه العقلي الداخلي (كما جاء في دراسة د. إسماعيل أدهم ود.إبراهيم ناجي عن توفيق الحكيم، والتي وافق الحكيم على نشرها). يقول الحكيم على لسان بطل روايته (نفسه):" نُشِّئ محسن على الكراهية.. كراهية الإنجليز.. أنه لن ينسى قط صورة أبيه الشاحبة حين دخل البيت – ذات مساء- مضطرباً، متأثراً...كان محسن يسمع المستشار من فتحة الباب يخاطب زوجه، ويقول : إما التخلي عن الوظيفة.. وإما التخلي عن ضميري كقاض.. إن أكل العيش أصبح مهدداً..كانت أم محسن عملية، متيقظة، فأحست بانتفاضة.. كانت طبيعتها متغيرة، متناقضة.. فهي شجاعة، ومع ذلك تراها خائفة.. وهي رحيمة وقاسية.. قوية وضعيفة.. وهي تحب العظمة إلى أبعد الحدود، ولكن العظمة التي لا تكلف صاحبها شيئاً كثيراً، والتي لا تتطلب التضحية، ولا التي تهدد الحياة، ولا حتى الأرزاق..


كانت تفهم معنى الكلمات الرنانة مثل: الضمير – الحكمة – الشجاعة...وحالما علمت أن ضمير زوجها القاضي، كان ألعوبة، لم تتردد في أن ترتفع بأفكارها .. ناسية في هذه اللحظة ما يترتب على فقدان المركز، فأعلنت رأيها لزوجها قائلة: إن ضمير القاضي وشرفه قبل كل شيء...لقد كانت تعلم كل ما يدور حول هذا الموضوع... والناس يتكلمون عن قضية في الاستئناف... والهمس يدور في كل مكان.. "إن القضية مؤامرة من مؤامرات الإنجليز" ضد مدير أحد أقاليم الدلتا الذي اتهموه بالكبرياء...وكان المدير ابناً لإحدى الأسر الغنية في الوجه القبلي، تلقى علومه في "أكسفورد"، وعاش مدة كبيرة في إنجلترا، وكان يحبها مثل ما يحب بلاده، بل كان يحب كل ما هو إنجليزي..


وجاء إلى بلده، فكان يرسل ملابسه مرتين في الشهر إلى إنجلترا لغسلها وكيّها... ثم عين يوماً مديراً لإحدى محافظات الوجه البحري.وهناك اكتشف لأول مرة وجه الانجليزي الحقيقي..لم يكن ذلك الجنتلمان الذي عرفه في إنجلترا "رجلاً محبوباً وشريفاً". لقد أصبح كائناً آخر، ذا خلق يتعارض مع مثيله الإنجليزي في بلاده.. إنه الحاكم الذي يفرض سلطانه، ويصدر أوامره على أكبر الشخصيات المصرية... إنه لأمر عادي أن يستقبل المدير – وهو موظف كبير- أي موظف إنجليزي صغير يمر بالمحافظة... وكان هذا المدير – صديق الإنجليز- غير جاهل هذا التقليد المهين، ولكن الشيء الذي كان يجهله أن ذاك الإنجليزي المحتل لا يقر صداقته للمصري... إن قاموسه لا يحوي غير كلمتي "سيد وعبد"...إن المدير، كان قد قرر الاستقالة، ولما علم الإنجليز بذلك لفقوا له تهمة.. فاتهموه ظلماً بأنه عذب بعض المتهمين في قضية للحصول على اعترافات منهم، وهذا عمل غير مشروع في قوانين الإنسانية، والقوانين المدنية!!...لقد كانت عمليات ظاهرها الرحمة، وباطنها الانتقام من شخص أرادوا إذلاله.. فباسم الإنسانية يهاجمون أعداءهم ويحاكمونهم... هذه كانت طريقة الإنجليز التي يتقنونها...".


وقد لاحظت أن توفيق الحكيم في أول معايشة له مع الغرب، أدرك الانحطاط الأخلاقي الذي يعيشونه، وعبر عنه وقتها في "عصفور من الشرق" أيضا في عدة مناسبات يجمع بينها تكرار وصفه للغربيين بأنهم عبيد في منظومة حضارتهم، وهذه أمثلة لتلك الأوصاف:
• الوقت عسير يا عزيزتي، والمصانع لا تريد أن تمنح أمثالنا القوت ، لأن لديها حاجتها من العمال.. من أولئك العمال المساكين الذين تسخرهم طول اليوم من أجل لقمة كالعبيد!..

• يا لها من وحشية!.. إن هذا لم يعد يسمى عملاً، إنما هو الاسترقاق... الرق لم يذهب من الوجود... لقد اتخذ شكلاً آخر يناسب القرن العشرين... ها هي ذي جيوش من العبيد يسخرها أفراد معدودون من السادة الرأسماليين!..

• لم يعد هنالك بيت واأسفاه! ولم تعد هنالك أسرة... الرجل والمرأة في المصنع طوال النهار!.. يا له من زمن عجيب!...

• قلت لكم هذا عصر العبيد قد عاد من جديد!..

• وانتبه محسن لهذه العبارة، فلمعت عيناه ببريق غريب، ثم لم يلبث أن استأذن من الحاضرين في الصعود إلى حجرته، فأذنوا له باسمين، فصعد وجلس إلى مكتبه في الظلام، وهو يهمس: نعم، لن يذهب الرق من الوجود.. لكل عصر رقه وعبيده!...


كانت ذكريات الحكيم عن نشأته كفيلة وحدها بأن ترده عن عشقه الأعمى لباريس وأهلها، كان يكفيه أن يتذكر ما كتبه عن ذلك المدير الضحية (وهناك اكتشف لأول مرة وجه الانجليزي الحقيقي..)، كما كانت انطباعاته الأولى في زهرة شبابه قوية وواضحة، لكنه لسبب غامض لم يفعل. إن أي محاولة لتفسير هذا التناقض الشديد لابد أن تقودنا إلى احتمالات ثلاثة:- إما أن الرجل كان يعبث بعقولنا فيعرض الآراء المتناقضة والمفاهيم المتضاربة وهو منعزل عنها لا يؤمن بأي منها .. وهذا بعيد.- أو أنه كان يخفي بهذه الأفكار عشقه الحقيقي للغرب ويبعد بهذه التقريرات التهمة عن نفسه ويحجب بتلك الهجمات المفتعلة القبلة التي يمم وجهه شطرها .. قِبلة الغرب، وهذا أقرب. - أو أنه قدر صعوبة – أو استحالة – ان يساهم في تحويل بلاده ونهضتها، فاختار أن يبقى من العبيد الجنتلمان الهائمين في أودية أوروبا.


وعودة إلى الحملة الفرنسية التي أثارت هذه الأفكار، وتأمل معي وقارن موقف الحكيم بموقف العلامة الأديب محمود محمد شاكر الذي يقول معلقا وملخصا رؤيته للحملة الفرنسية، فيقول:
"إن هجمة نابليون على مصر هي من أجل إجهاض ما كان يمكن أن يكون من نهضة لهذه الأمة .. وئدت اليقظة أو كادت، وخربت ديارها أو كادت، واستؤصلت شأفة أبنائها أو كادت، واقتطعت أسبابها بالسطو أو كادت،

والحمد لله على نعماء (الحملة الفرنسية) التي كان سفاحها نابليون ( المتحضر) ينوي أن ينشىء لبقايا السيف والتدبير من أبناء القاهرة العتيقة المهدمة (قاهرة جديدة) يستمتعون فيها بجمالها وفنونها، ومسارحها وملاهيها، وقصورها ومتنزهاتها، ويتبخترون في شوارعها خدما فارهين للسادة الأحرار أبناء " الحرية والإخاء والمساواة".


يتبع ...

د. محمد هشام راغب

----------------------------------
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59