د . أحمد صبرة
أستاذ النقد الأدبي المساعد
كلية الآداب – جامعة الإسكندرية
قصيدة النثر : قصيدة بلا متلق (1)
يثير الجدل حول قصيدة النثر دهشة كثير ممن يهتمون بأمر الشعر العربي ، فما يزال هذا الجدل ساخنا ، على الرغم من مرور وقت طويل على الظهور الأول لهذا المصطلح المشكل ، والمفترض – حسب طبائع الأشياء – أن تبرد حرارة النقاش بمرور الوقت ، لا أن تزداد سخونة ، حتى وإن وصلت إلى درجة الغليان ، لكن ما نراه أن النقاش حول قصيدة النثر بدأ عند درجة الغليان ، واستمر كذلك حتى الآن ، وهذا له سببه أو أسبابه ، كما أعطى هذا الجدل انطباعا بأن قضية الشعر قد اختزلت في الصراع حول قصيدة النثر ، على الرغم من أن المشكلات التي تواجه الشعر أكثر تعقيدا مما يظن كثير ممن يهمهم أمر هذا الشعر ، وأولها – وربما أهمها – هو قدرة الشعر كنوع أدبي على الاستمرار في ظل تحديات كثيرة ، ومواجهات خرج في بعض منها مثخنا بالجراح تاركا الساحة لأنواع أدبية أخرى . وأزمة الشعر هنا ليست خاصة بالشعر العربي ، فالشعر في أوربا يعاني من أزمة شبيهة ، وربما تكون أشد استحكاما مما يواجهه الشعر هنا ، لذلك يبدو جدل قصيدة النثر نوعا من الترف الفكري نمارسه بعد أن فرغنا من قضايا الشعر الكبرى .
وقصيدة النثر منذ نشأتها الأولى المختلف عليها حتى الآن ظلت تيارا هامشيا في مسيرة الأدب العربي ، وستظل كذلك لأسباب تخصها كنوع أدبي هجين ، وهذا الحكم المسبق بالقيمة يحاول أن يضع إشكاليتها في حجمها المناسب ، كما يحاول – وهذا هو المهم – أن يبحث عن أسباب هامشيتها التي يبدو أنها سمة قدرية لها .
إن البحث حول قصيدة النثر يجب أن يبدأ بالإجابة عن السؤال المهم حول الكيفية التي تظهر بها الأنواع الأدبية وتختفي ، كما يبحث عن الخصائص الكامنة في النوع الأدبي التي تجعل هذا النوع صامدا أمام التغيرات الدرامية التي يواجهها عبر التاريخ ، وربما تبدو هذه البداية شديدة العمومية ، كما تبدو كذلك نقطة متعالية على موضوع قصيدة النثر ، لكنها مدخل قد يساعد على إيضاح بعض الالتباسات المرتبطة بهذه القصيدة ، ولا يمكن الحديث هنا عن أسباب عامة لظهور الأنواع الأدبية ، ولا الحديث كذلك عن خصائص كامنة قد تصدق على أي نوع ، فهذا عمل لا يمكن إنجازه إلا بعد استقراء واسع للأنواع الأدبية التي ظهرت في الأدب العربي ، لكن حصر النقاش حول قصيدة النثر كنوع أدبي ظهر في منتصف الخمسينيات تقريبا ، واستمر بحضوره الطاغي المثير للجدل قد يخدم هذه البداية .
لماذا ظهرت قصيدة النثر ؟ هل ظهرت لأن الشكل الشعري السابق عليها استنفد كل أغراضه بحيث أصبح عاجزا عن التعبير عن الحاجات المتجددة للمجتمع ، وأصبحت هناك حاجة ماسة لنوع أدبي جديد يفي بهذه الحاجات ؟ أم ظهرت كنتيجة طبيعية لتطور الأنواع الأدبية التي تبحث في كل وقت عن ضروب جديدة ، وأشكال تزيدها غناء ، وهذه لا يرتبط بعجز الأشكال السابقة عليها أو قدرتها على التعبير ؟ والذي يتأمل الطريقة التي ظهرت بها قصيدة النثر في منتصف الخمسينيات تقريبا ، يكتشف أن هناك عقلا واعيا ، خطط لها ، ورسم ملامحها ، وحاول تكريسها في الواقع الأدبي ، وهو عقل لم يستنبطها ، أو يستقرؤها من التاريخ الأدبي العربي السابق عليها ، وإن ادعوا ذلك في بعض الأحيان ، وتلمسوا أصولا لها في كتابات السابقين عليهم ، أو في الكتابات التراثية ، بل هو عقل ناقل لها من بيئتها الغربية – الفرنسية تحديدا – يحاول أن يزرعها في تربة لا يدري معها قدرتها على التكيف والاحتضان والاستنبات ، والنوع الأدبي قد يكون ملاكا في بيئته الأصلية ، لكنه قد يتحول إلى شيطان حين ينقل إلى بيئة غريبة عليه .