عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 02-11-2016, 08:54 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,159
ورقة التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي: موسى بن ميمون (5)

التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي: موسى بن ميمون (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــ


(نبيل محمد سعيد عبدالعزيز)
ـــــــــــــ

2 / 5 / 1437 هــ
11 / 2 / 2016 م
ـــــــــ







بدأ موسى بن ميمون في تأليف كتابه "دلالة الحائرين" سنة 1186م وانتهى منه سنة 1190م، واشتمل على كثير من الآراء الدينية والفلسفية التي حصلها من الموروثات الدينية والفلسفية والأدبية اليهودية، كما استفاد من آراء متكلمي المسلمين وفلاسفتهم وأدبائهم، واكتسب من المسلمين أيضاً فلسفة أرسطو، وما وُضع عليها من شروح، وعرف كذلك من كتابات أرسطو المترجمة للعربية آراء الفلاسفة السابقين عليه أمثال بطليموس (87 - 150م) وجالينوس (129 - 200م). وبالجملة فقد حصل موسى بن ميمون كل المعارف الواردة في كتابه الدلالة - وغيره من مؤلفاته - من مخالطته لعلماء الأندلس وتودده إليهم.(1)
ووضع ابن ميمون كتابه "دلالة الحائرين" باللغة العربية بحروف عبرية، ويذهب الشيخ محمد زاهد الكوثري في مقدمته لكتاب "المقدمات الخمس والعشرون في إثبات وجود الله ووحدانيته وتنزهه من أن يكون جسماً أو قوة في جسم من دلالة الحائرين" إلى أن السبب في ذلك يعود إلى أن ابن ميمون كان بتأليفه هذا يتوجس خيفة من اليهود والمسلمين في آن واحد لأنه ألف كتابه هذا مناوئاً لكثير من الآراء المتوارثة بين اليهود جاعلاً دين اليهود خاضعاً لمبادئ أرسطو، ومبادئ فلاسفة الإسلام التي تلقاها من أمثال ابن طفيل وابن رشد الحفيد وارتضاها لنفسه، مع حملات قاسية وجهها إلى فرق المتكلمين من أشاعرة ومعتزلة حسبما استلهمه من يهوديته، فجعل كتابه هذا عربي اللغة، عبري الخط، ليكون اطلاع من لا يأمن جانبهم عليه ببطء، لأنه قل بين اليهود من يعرف العربية في زمنه إلا وهو من مريديه فيستسيغ آراءه، وقل أيضاً بين علماء المسلمين من يلم بالخط العبري في بلاده إلا وله سهم في الفلسفة فيتسع صدره لشتى الآراء، فلا تكون ثورة من يثور عليه من الطائفتين باندفاع بل على تمهل، لكن الغريب أنه لقي مناوأة شديدة من أهل دينه في حين أن علماء المسلمين لم يهتموا بالرد على كتابه مع أن حملاته في كتابه على فرق المسلمين كانت شديدة، ولعل ذلك التساهل معه أتي من جهة سعيه الحثيث في انتشال اليهود من ورطة التجسيم المتوارث بينهم فوجدوا في عمله هذا تخفيف الشر من جانب اليهود، فكان هذا شفيعاً له عندهم وتعرضه لفرق المسلمين لم يبالوا به لكون سهل الرد.(2)
وكان ابن ميمون يهدف في "دلالة الحائرين" إلى توضيح كل ما يتعلق بأمور الشريعة اليهودية وإظهار ما كان خافياً فيها عن فهم الجماهير من بواطن الأمور، بمعنى أنه لم يهدف إلى مجرد تفسير وشرح قوانين الشريعة فقط، وإنما هدف إلى الجمع بين الأمور الدينية الظاهرة والفلسفية الخافية في آن واحد وهو ينبه على ذلك بقوله: "وإنما قصدت بهذه المقالة أن أبين مشكلة الشريعة، وأظهر حقائق بواطنها التي هي أعلى من أفهام الجمهور، فلذلك لا ينبغي لك إذا رأيتني أتكلم في إثبات العقول المفارقة، وفي عددها أو في عدد الأفلاك... فلا تظن أو يخطر ببالك أني إنما قصدت لتحقيق ذلك المعنى الفلسفي فقط، بل إنما أقصد لذكر ما يبين مشكلة من مشكلات الشريعة فأفهما وأحل عقداً كثيرة بمعرفة ذلك المعنى الذي ألخصه".(3)
فسعى ابن ميمون إلى التوفيق بين الشريعة اليهودية والفلسفة، حيث أورد بعض الحجج الفلسفية ليؤكد على بعض الآراء الدينية، فما ورد من فلسفات في "دلالة الحائرين" ليست الموضوع الرئيسي له بل الموضوع الرئيسي هو الشريعة اليهودية التي أراد البرهنة عليها بالطرق الفلسفية، حتى ينقذ هؤلاء الذين اضطربوا وحاروا في بحار الفلسفة الموغلة في العمق. وبسبب تلك المحاولة في التوفيق بين الفلسفة والدين اليهودي أصبح كتاب "دلالة الحائرين" مملوءاً بالتناقضات المحيرة، ولذلك رأى بعض الباحثين أن ابن ميمون نفسه يعد في هذا العمل أول الحائرين الذين غاصوا في بحور الفلسفة.(4)
جديرٌ بالذكر أن موسى بن ميمون رفض في "دلالة الحائرين" التفسير الحرفي لنصوص التوراة لذلك نجده يؤول النصوص الدينية المتعلقة بذات الله سبحانه، ومعرفته، وتعريف توحيده، عن طريق المنطق والعقل، معتمداً في تأويله هذا على فلسفة أرسطو وعلى غيره من فلاسفة المسلمين، غير مبال أن يكون تأويله بعيداً عن لغة التخاطب، ما دام موافقاً للمبادئ الفلسفية عنده، مع إظهار ما له من الملاحظات، والانتقادات، ووجوه الفرق في نظره بين العقلية اليونانية، والإسلامية، واليهودية. وبهذا اعتبر اليهود موسى بن ميمون واضع أساس التفسير العقلي لليهودية، واعتُبر كتابه الدلالة بالنسبة للفلسفة اليهودية في مكانة التلمود بالنسبة للديانة اليهودية.(5)
وقسم ابن ميمون كتابه "دلالة الحائرين" إلى ثلاثة أجزاء، تناول في الجزء الأول ذات الله سبحانه، وصفاته، ومعرفته، وتوحيده. ونجد أن ابن ميمون قد تبنى آراء ابن طفيل عند مقارنته بين صفات الإله وصفات الموجودات، فعنده كل كمال وفضيلة وبهاء للموجودات إنما هي فيض من الإله تعالى الذي هو أعظم منها وأكمل وأتم وأحسن وأبهى وأدوم، ما يستتبعه أن أفعاله - تعالى - كاملة وتامة وحسنة، لا لعب ولا عبث ولا باطل فيها.(6) وأشار ابن ميمون إلى أن الوجود وجودان، ما لوجوده سبب وما ليس لوجوده سبب، والنوع الأول من الوجود وجوده عارض له، ووجوده معنى زائد على ماهيته. أما النوع الثاني من الوجود - أعني ما ليس لوجوده سبب - فهو وحدَه كذلك، ووجوده هو ذاته وحقيقته وماهيته، إنه الإله تعالى، وهو تعالى قادر لا بقدرة، وحي لا بحياة، وموجود لا بوجود، ووجوده تعالى خاص به لا نعرف ماهيته، وهذا ما أشار إليه الفارابي وابن سينا وتبناه موسى بن ميمون من بعدهما. ونلاحظ تأثر ابن ميمون بآراء ابن رشد في رفضه أن تكون الصفات زائدة عن الذات.(7) كما تأثر به أيضاً في ما ذهب إليه من سلب الصفات عن الذات لإثبات الكمال.(8) حيث ادعى ابن ميمون أن وصف الله تعالى بالسوالب والتنزيهات هو الوصف الصحيح الذي لا يلحقه شيء من التسامح في نظره، ويقول إن وصفه – تعالى - بالإيجابيات فيه خطر جسيم، قد يؤدي إلى التجسيم.(9) ونرى أن ابن ميمون هنا متأثراً أيضاً بفكر المعتزلة والظاهرية الذين يرفضون فكرة التجسيم، وقد تقبل كثير من المفسرين اليهود قبله هذا الفكر، وربما يكون قد وصله عن طريق سعديا الفيومي إن لم يكن قد اطلع عليه مباشرة من مؤلفات المعتزلة والظاهرية. وهو في ذلك كله يسير بالقارئ سيراً منطقياً مستخدماً أساليب الفلسفتين اليونانية والإسلامية رافضاً الأفكار البدائية التي تقوم على استخدام التعاويذ والتمائم، كما أغفل بعض ما ورد في التلمود من قواعد خاصة بألفاظ الطِّيرة والتمائم والتنجيم، فكان بذلك من بين مفكري العصور الوسطى القلائل الذين لم يؤمنوا بالتنجيم. وفي الجزء الثاني من دلالة الحائرين تحدث بن ميمون عن مسألة إثبات الذات الإلهية وقِدم العالم أو حدوثه وهي من المسائل التي كثر فيها حديث الفلاسفة والمتكلمين المسلمين، كما يبحث أيضاً في النبوة والمؤمنين بها مقسماً إياهم إلى طبقات ثلاث. أما الجزء الثالث فيبحث فيه عن رؤيا حزقيال مقارناً إياها برؤيا النبي إشعياء، ثم يعرج بعد ذلك إلى بعض الوصايا والقوانين الواردة في التوارة محاولاً إيجاد تعليل فلسفي لها. كل ذلك بأسلوب عربي نجده يتردد كثيراً في كتابات علماء الملسمين وفلاسفتهم مع تأثره تأثراً واضحاً بالبيئات المختلفة التي عاش فيها سواء في الأندلس أو المغرب أو مصر.(10)
----------------------------------
(1) حسن حسن كامل إبراهيم (د)، الآراء الكلامية لموسى بن ميمون والأثر الإسلامي فيها، مركز الدراسات الشرقية، سلسلة فضل الإسلام على اليهودية، العدد 7، 1424 ه - 2003م، ص 44 - 45.
(2) أبو عمران موسى بن ميمون، المقدمات الخمس والعشرون في إثبات وجود الله ووحدانيته وتنزهه من أن يكون جسماً أو قوة في جسم من دلالة الحائرين، تصحيح وتقديم: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، 1413 ه - 1993م، ص 17 - 18.
(3) عبد الرازق أحمد قنديل (د)، الأثر الإسلامي في الفكر الديني اليهودي، مركز بحوث الشرق الأوسط، جامعة عين شمس، 1984م - 1404 هـ، ص 256 - 257.
(4) حسن حسن كامل إبراهيم (د)، مرجع سابق، ص 50.
(5) المرجع نفسه، ص 52 - 53.
وانظر: أبو عمران موسى بن ميمون، مرجع سابق، ص 18.
(6) حسن حسن كامل إبراهيم (د)، مرجع سابق، ص 68.
(7) المرجع نفسه، ص 80 - 81.
(8) المرجع نفسه، ص 84.
(9) أبو عمران موسى بن ميمون، مرجع سابق، ص 18.
(10) عبد الرازق أحمد قنديل (د)، مرجع سابق ، ص 258 - 259.
وانظر: موسى بن ميمون القرطبي الأندلسي، دلالة الحائرين، عارضه بأصوله العربية والعبرية: حسين آتاي (د)، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، د. ت.


----------------------------
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59