عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-19-2012, 11:23 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,419
افتراضي


الفصل الثاني :

الحياة الثقافية



بدأت النهضة في أوربا ومنها انتشرت في أصقاع العالم على أيدي الطبقة المتوسطة بعد أن استكملت شروط نموها بعد الثورة الصناعية، وقد لعب الحرفيون فيها أدواراً بارزة، ودخلت هذه الطبقة في صراع مرير مع الأفكار الآسنة السائدة وعبّرت عن رغبتها في التغيير والانعتاق من الفكر الإقطاعي المحافظ وتناولت أقلام المفكرين مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وشتى الشؤون الأدبية والفنية ولم يدعوا شيئاً إلا وأشبعوه درساً وتحليلاً، لقد شهد القرن التاسع عشر قمة الصراع بين القديم والجديد في أوربا وبدا كأن بحراً ثقافياً تلاطم فيه الآراء وتصطخب ويحتدم الجدل في الحياة الروحية والمادية.
وتكونت في أوربا صناعة متطورة شقّت طريقها إلى جميع البلدان ورافقتها أفكار جديدة كانت تنسل وتدخل إلى البنى الزراعية والاجتماعية المتخلفة سرعان ما أصبحت مقياساً للتقدم.
وفي الشرق العربي ترتبط النهضة بفكرتين أساسيتين كونها عنهما المفكرون العرب في تلك الحقبة من الزمن، أولاهما ترى في هذه النهضة وجهاً استعمارياً بينما ترى الأخرى وجهاً علمياً فيها، ومهما يكن من أمر فما أن جاء النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى بدأ الإحساس بضرورة التغيير.
وفي حقيقة الأمر كان لهذه النهضة أسبابها التي تنبع من حاجة المجتمع العربي إلى التغيير وما كان لها أن تكون لولا الشعور بحاجتها فعلاً وبضرورتها وأهميتها فقد كان للمفكرين العرب دوافع داخلية استمدوها من التراث العربي الإسلامي. ومن قيمه ومثله الثورية التي تساعد على دفع مجتمعهم نحو الأمام وتؤدي إلى خلق ظروف جديدة وتكوين قوى تلبي حاجات التقدم والتي تأتي الحركات الدينية المتنورة في المقدمة من ذلك، ولكن الاحتكاك بالغرب كان قد أوقد الهشيم القابل للاشتعال، وتشكّل الثورة الفرنسية التي انفجرت عام 1789 أحد أهم الأسباب الخارجية التي حثّت الأمم والشعوب على الانقلاب الفكري وتبديل الأوضاع السائدة من اقتصادية واجتماعية وسياسية متخذة من الحملة الفرنسية التي قادها نابليون شرارة أشعلت كل شيء في مصر.
وعلى الرغم من أن هذه الحملة قد انطلقت من ذهنية استعمارية معروفة فستظل من أكبر الحملات الأوربية التي تحمل طموحات فكرية وعسكرية محددة واضحة سعت فرنسا من خلالها إلى امتلاك بلد زراعي غني خصب، ورمت إلى توسيع تجارتها منه وإيجاد سوق لبضائعها ومنتجاتها المكدّسة كما ستجد فيه المواد الخام التي يأتي القطن في مقدمتها.
وعشية إعداد الحملة كانت قد تشابكت مصالح البرجوازية الفرنسية بقيمها ومثلها الفكرية حيث توالت خطابات القنصل الفرنسي في مصر آنذاك تحث حكومته على احتلال بلاد النيل لأنها بلد زراعي خصب لا يملكه أحد كما تهيأ له وقال عنها: منها سوف تجني فرنسا أرباحاً طائلة، وكتب مفكرون فرنسيون عن ضرورة تحرير المصريين من المماليك إلى جانب تحريرهم من الجهل ثم إعادة النور إلى بلادهم.
في هذه الظروف وفي هذا المناخ الفكري استنبت الفرنسيون فكرة الحملة، فبالإضافة إلى القوّة العسكرية التي تجاوزت أربعين ألفاً من الجنود اصطحب نابليون معه علماء مؤهلين ومجهزين بكافة الاختصاصات الزراعية والأثرية والتاريخية والهندسية.. الخ اختمرت في رؤوسهم جميعاً أفكار الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة واحترام الفرد.
كان نابليون ضابطاً سياسياً لامعاً ومتنوراً واعياً مدركاً لمصالح فرنسا مخلصاً لطبقته المتوسطة ملماً بأهداف الحملة ومراميها الاستعمارية والعلمية أعد نفسه ليكون على خير ما يمكن أن يكون عليه القائد في بلد له خصوصية دينية واجتماعية ولغوية، لذلك.. ومنذ البدء قرأ كتباً تتحدث عن تاريخ العرب وعاداتهم الاجتماعية واطلع على مبادئ الدين الإسلامي وفي طريقه إلى مصر استحصل على نسخة من القرآن الكريم.
وعلى هذه الأسس الاستعمارية والثقافية أقلعت الحملة من ميناء مرسيليا لتحتل الإسكندرية في الثاني من تموز عام 1798 وبذلك //تنهي عزلة مصر وبلاد الشام عن العالم دامت ثلاثة قرون//(1) ثم شقّت الحملة طريقها إلى القاهرة فوصلتها بعد عشرين يوماً وبعد أن كانت المقاومة الشعبية قد اعترضت طريقها وكبدتها خسائر في معركة الأهرامات التي قادها المماليك.
وفور وصوله اعتمد نابليون في سياسته على التقرب من الشعب، فاتخذ من العلماء والمشايخ جسوراً تدنيه من الناس لأنهم بعيدون عن المظاهر العسكرية كما يقول، وارتدى اللباس المحلي وطبع أكثر من منشور على مطبعة /كان قد نهبها من روما/ (2) حثّ فيه الجنود على احترام الدين والتقاليد والنساء والملكية العامة والخاصة ثم أصدر عدة أوامر تتوعّد معاقبة الذين يخالفون، ثم دعا الناس إلى الهدوء والسكينة وأوضح لهم أنه لا فرق عنده بين فرد وآخر أمام القانون وقال/ إن الشيء الذي يفرق الأفراد عن بعضها هو العقل والفضائل والعلوم فقط/ (3) ودون إبطاء شكّل ديواناً من الهيئات الاجتماعية وعلى رأسهم العلماء يشرف على تنظيم الإدارة والحياة العامة ثم أطلق يد العلماء الفرنسيين لدراسة تاريخ البلاد الحضاري وافتتح عدداً من المدارس لأبناء جنوده وشجع رجال الحملة على الاختلاط بالحياة المصرية العامة، وعلى هذا اتخذ الفرنسيون بيوتاً لهم في الأحياء والحارات الشعبية، واختلطوا بالسكان ولبسوا أزياءهم وحضروا احتفالاتهم الدينية كعيد المولد النبوي الشريف، ومن جهتهم كان المصريون يرون النساء الفرنسيات /يلبسن الفساتين والمناديل الملونة/ (4) مما أثار الدهشة والاستغراب ودفعهن إلى التقليد، ومن طريف ما يذكر أن ابنة أحد كبار شيوخ الدين السيّد البكري كانت تخالط الفرنسيين/ وتلبس لباس السيدة الفرنسية لذلك أعدمت بعد عودة الأتراك إلى البلاد/(5).
وفي مجال الزراعة، فقد فكّر نابليون في ضبط مياه النيل وحاول أن ينشيء سدّين عند رأس الدلتا، كما درست البعثة العلمية التي رافقت الحملة مشروع حفر قناة تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط وبحثت إقامة مزارع تجريبية ومزارع لقصب السكر والقطن والبن وتربية دودة القز.
وفي مجال الصناعة أنشأت إدارة الحملة دوراً صناعية أنتجت أدوات ومواد فلكية وآلات للطباعة وصناعة البارود والكرتون والورق وسكّ النقود والسيوف والأقمشة الصوفية بالإضافة إلى بناء طواحين الهواء لإنتاج الدقيق كما أمرت إدارة الحملة ببناء المراصد الفلكية ودور أبحاث الرياضيات والنقش والتصوير وأقامت مراكز البريد لخدمة الأهالي وبتمديد خطوط التلغراف.
ولم يتوان الفرنسيون عن تأسيس مكتبة عامة جمعت كتبها من المساجد والمكتبات الخاصة وأضافوها إلى ما كان قد اصطحبوه معهم من كتب فرنسية وضعت جميعها تحت أيدي المصريين، كذلك أسس الفرنسيون مسرحاً مثلوا فيه رواية عربية بعنوان: عشر ليال، كما أصدروا جريدتين اثنتين.
كان تأسيس المجمع العلمي أهم إنجاز قدمته الحملة الفرنسية ومنذ الأيام الأولى من تأسيسه اضطلع بنشر المعارف والعلوم في مصر، وقام بدراسات تاريخية وطبيعية وصناعية وكانت هذه الأبحاث تنشر في مجلة المجمع العلمي نفسه.
لقد كان المجمع مؤلفاً من قسم للرياضيات وآخر للطبيعيات والاقتصاد السياسي وكذلك للآداب والفنون أشرف على كل قسم من هذه الأقسام اثنا عشر عضواً من خيرة الأساتذة المختصين، هذا وقد لعب المجمع دوراً كبيراً ورائداً في انفتاح المصريين على الثقافة الأوربية شجعهم في ذلك الفرنسيون بأساليبهم التي استهدفت الرقة والعذوبة وعملت على ترغيب أبناء البلاد في الحضارة حيث كانوا //يستدعون المصريين ويحسنون استقبالهم ليروا ما يجرون من تجارب علمية فيعجبون وينبهرون/(6).
لقد أوجز الفرنسيون نتائج حملتهم في كتاب معروف اسمه: وصف مصر جاء في تسعة مجلدات طبعت جميعها في فرنسا عامي 1805-1825 وهذا الكتاب هو أساس المعلومات/ التي عرفها الأوربيون عن مصر في العصر الحديث (7).
لقد وقف المصريون من الحملة مواقف متباينة، فالغالبية العظمى من الناس دهشت واستغربت وأصابها الذعر مما ترى وتسمع وتكاد لا تصدق، وتسوّر العامة منهم في عاداتهم وتقاليدهم مستسلمين للأقدار وكان على رأس هؤلاء غالبية العلماء والمشايخ وقد مثّل هذا الاتجاه خير تمثيل المؤرخ المصري المعروف عبد الرحمن الجبرتي 1754-1825 الذي كان قد عاصر الحملة ووصفها وصفاً مستفيضاً ودوّن ما رآه وما سمعه في كتابه الشهير: عجائب الآثار، وقد حوى هذا الكتاب ملاحظات طريفة ودقيقة عن رجال الحملة ولباسهم وطرق طعامهم وأعمالهم العلمية، وبذلك يكون الجبرتي قد سجّل دهشة جيل بأكمله.
أما القلة النادرة من أبناء البلاد والتي ستقع على عاتقها مهام التغيير فقد أخذت تقترب بعد أن هدأت الأحوال من رجال الحملة بحذر مشوب بالريبة والخوف، وكأنها قد شعرت واقتنعت بضرورة التغيير يدفعها هذا الهاجس حيناً وحب الفضول أحياناً أخرى وكان على رأس هذا الفريق الشيخ حسن العطار أستاذ الطهطاوي وشيخ الأزهر فيما بعد.
كان العطار هذا 1766-1835شيخاً أزهرياً نابهاً وعندما وصلت الحملة وعند قدومها ذعر وخاف ثم هرب إلى الشام مع من هرب من العلماء، وبعد أن هدأت الأحوال عاد إلى بلاده وأخذ يدنو من الفرنسيين ويختلط بهم، فتذوق معاشرتهم وأحب عاداتهم وسبل حياتهم واكتسب كثيراً من ألفاظهم، ثم بعد ذلك سرعان ما أصبح رائداً من رواد مجمعهم العلمي وليس هذا فحسب /فقد أصبح يتغزل بنسائهم السافرات/(8).
ومما يعرف عن هذا الشيخ اليقظ أنه كان يتنبأ بالتغيير ويدعو إليه، ولعله من الغرابة بمكان أنه لم يحاول أن يغير في الأزهر أو ينيره بالعلوم العصرية أو يحدث فيه شيئاً من هذا القبيل عما كان عليه الحال، ولكنه كان يغذي عقله دائماً وينيره بمعارف العصر وثقافته، ومن هنا فقد ترك أبلغ الأثر في تلميذه الطهطاوي وكان وراء إيفاده إلى فرنسا ثم في كتابة رحلته فيما بعد.
لم تتمكن الحملة الفرنسية من تغيير المجتمع المصري، ولم يكن ذاك من مهامها أصلاً ولا من أهدافها، فالمقاومة المصرية حالت بينها وبين الهدوء الذي يتطلبه التأثير في الشعب من جهة، ولأن الفرنسيين أخفوا أهدافهم الاستعمارية تحت غطاء نشر المعارف والعلوم من جهة ثانية لذلك ظلّوا غرباء في الزي واللغة وكانوا يقومون بأدوارهم تلك وأيديهم على مسدساتهم، والأهم من هذا وذاك أنهم لم يكترثوا ببناء قاعدة مادية تتمكن من قلب أوضاع البلاد، وبذلك تكون الطبقة المتوسطة التي تأخذ على عاتقها مهام التغيير غير موجودة، وإن وجدت إرهاصاتها فهي غير قادرة على فعل شيء يذكر وبذلك تكون الحملة الفرنسية /قطعة أوربية في وسط شرقي تركت تأثيراً على سطح القشرة الاجتماعية/(9).
عندما تمكن من الفوز بالسلطة بدأ محمد علي بتطبيق ما قد فهمه من دروس وعبر وعلى الرغم من عدم مقدرته على التكلم بالعربية وجهله بالقراءة والكتابة فقد وعى خصائص المرحلة وطبيعتها، واستوعب النتائج التي توصلت إليها الحملة الفرنسية، ومنذ البدء ثبت لديه أن الأوربيين مجتمع متقدم متطور نشيط يستخدم العقل في الإدارة والإنتاج للحصول على الموارد واستقرت في ذهنه أهمية قوة الدولة التي يلعب فيها الإنتاج دوراً بارزاً، وهذا ما دفعه إلى العمل السريع لبناء قاعدة مادية تكفل له غزارة الموارد والقوة العسكرية في آن واحد.
كان محمد علي عقلاً غريباً سخّر كل شيء في سبيل أغراضه العسكرية والسياسية، مستبداً أسرع في بناء نهضة ترضي طموحاته وتلبي أغراضه التي كانت دفينة في صدره حتى ذلك الحين، تحثه الرغبة في تطوير مصر لتصبح قوّة ضاربة، وكان يحلم أن يراها قطعة من أوربا، وإلى جانب ذلك كان عقلاً شغوفاً بالمعرفة تواقاً إليها، مهتماً بالكتب ويخصص لها وقتاً للسماع والمدارسة والمناقشة، وعرف عنه أنه كان يصغي لما يقرأ له بآذان مرهفة، ومن طريف ما يذكر عنه أنه كان يقرأ له معاونوه كتباً فرنسية عن سيرة نابليون وعن عظماء آخرين وكتّاب فرنسيين، كما كانت تترجم له كتب أوربية أخرى بناء على طلبه، ومعروف عنه أيضاً انه جيء إليه بمقدمة ابن خلدون فقرئت له وأعجب بها ووقف على آراء ذلك العبقري العربي في الدولة وتطورها، هذا بالإضافة إلى سماعه مؤلفات ميكافيلي في الإدارة والحكم، إن هذه السمات لحاكم مطلق الإرادة لا يحد من سلطته قانون ولا يقيدها دستور تبدو هامة جداً بل حاسمة بعيدة الأثر في بلاد يحكمها ومجتمع يقوده وما أن وطّد دعائم حكمه حتى بنى جيشاً تدرب على أيدي خبراء فرنسيين، وافتتح له مدارس حربية أحضر لها مدرسيين فرنسيين أيضاً، وفي عام 1826 أنشأ مدرسة الطب وإلى جانبها أقام مشفى واسعاً لمعالجة مرضى الحرب وجرحاها وللتدريب على التمريض وقد أشرك إلى جانب الأساتذة الفرنسيين أساتذة من العرب قاموا بالتدريس فيها، ونقل المترجمون الاصطلاحات العلمية الأوربية إلى اللغة العربية وخاصة عندما عكفوا على قراءة الطب العربي على اختلاف عصوره ومصادره مما كان له أكبر الأثر في بعث النهضة العربية.
إلى جانب ذلك أسس محمد علي المدارس الابتدائية والإعدادية وباشر بالمدارس العالية حيث افتتح مدرسة للصيدلة وأخرى للهندسة وثالثة للتمريض والولادة أدار هذه المدارس مدرسون قاموا بإيصال مختلف أنواع العلوم وأصنافها إلى الطلبة.
ويأتي الإيفاد والبعثات العلمية إلى أوربا في مقدمة الأعمال التي قام بها محمد علي وأكثرها تألقاً وعظمة والتي لم يعرف لها مثيل من قبل إن كان من حيث الحجم والتتالي أو الاهتمام والدعم المادي، فقد أوفد أربعة وأربعين طالباً إلى فرنسا تخصصوا بشتى أنواع المعارف والعلوم والفنون والحقوق والسياسة والهندسة الحربية إلى جانب الطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والكيمياء وفي كل ما يتعلق بالحضارة الحديثة.
ويذكر دارسو عصر النهضة ومؤرخوها أن المدرسين الإيطاليين كانوا قد أشرفوا على هذه البعثات لأن اللغة الإيطالية كانت سائدة آنذاك ولكن محمد علي ما لبث أن غيّر أسلوب الإشراف عندما أصبحت فرنسا هي الجهة التي أدار نظره إليها، فاستعان باللغة الفرنسية وأصبحت باريس محط أنظار دولته لذلك فلن نستغرب إذا انتشرت المعارف الفرنسية بعد ذلك في مصر وفي مقدمتها أفكار فولتير ومونتسكيو وروسو ثم سرعان ما دخلت مؤلفاتهم مكتبة المدارس المصرية منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر.
تتالت البعثات بعد ذلك وتتابعت، ففي عام 1832 أوفد محمد علي أبرز الطلاب النابهين من المدرسة الطبية ثم أوفد عدداً آخر من الطلاب عام 1844 من بينهم خمسة من أحفاده ومن أفراد الأسرة المالكة، وظلّت البعثات تتالى حتى عام 1847 قبل وفاته بسنتين.
ومن طريف ما يذكر عن محمد علي أنه كان يعتني بأعضاء البعثات شخصياً، وكان يستقصي أخبارهم ويراسلهم ويشرف على دراستهم باهتمام ويحثهم على الكّد والتحصيل ويلفت نظرهم إلى واجباتهم والأعباء الملقاة على عاتقهم، وما ذلك إلا لشدة حاجته إليهم لتنفيذ مشاريعه وتطوير أساليب إدارته بهم، لذلك كله ليس من المستغرب إذا أصبح كل واحد منهم /طاقة جبارة تهز البلاد للتطلع إلى وضع أحسن ومنزلة أمثل/(10) وعلى الرغم مما قاله بعض المؤرخين في هذه البعثات والحركة العلمية// من أنها محاولة لربط مصر بالفكر الغربي المناهض للعروبة//(11) فسوف يكون لها أكبر الأثر في تقدم مصر ونهضتها، كما كان لهؤلاء الطلاب أثر بالغ في إحياء اللغة العربية وإعادة نصاعتها وإشراقة عبارتها ولا عجب بعد ذلك أن تتكون طبقة مثقفة منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر كانت الأولى التي لعبت أدواراً سياسية وقيادية في الحياة العامة المصرية، وكان هؤلاء المثقفون يترجمون وينشرون الكتب بمختلف أنواعها وموضوعاتها كما كانوا يتعاونون تعاوناً وثيقاً مع أتباع الفيلسوف الفرنسي المعروف سان سيمون الذي كانت أفكاره قد تسربت إلى مصر فأعادوا تنظيم المدارس معاً وأشرفوا عليها وفي هذا المناخ برزت شخصيات هامة كان من أبرزها المفكر السياسي العظيم رفاعة رافع الطهطاوي 1801-1873 الذي يمثل نموذجاً للمثقف العربي في تعامله مع الثقافة الغربية وانفتاحه عليها بصفاء مستهدفاً من وراء ذلك التقدم والتحضر.
كان رفاعة طالباً نابهاً شغوفاً بالقراءة والكتب لصيقاً بها وكان قد نشأ في بيت فقير في إحدى قرى الصعيد، ومنذ صغره نال حظاً من التعليم في الكتاتيب ثم انتسب إلى الأزهر بعد أن ارتحل والده إلى القاهرة وشجعه أخواله على طلب العلم ومنذ شبابه المبكر كان يتحرق إلى مخالطة العلماء والمفكرين، وفي الأزهر التقى بالشيخ حسن العطار، وتبادل الشيخ المتنور والتلميذ النابغة احتراماً وصداقة.
تأثّر رفاعة بأفكار أستاذه ولاصقه كالظل /حتى أصبح العطار نافذته الوحيدة على الثقافة الأوربية/ (12) وكما ذكرت فقد كان هذا الشيخ الأزهري يدعو إلى ضرورة معرفة ما عند الفرنسيين لبناء مستقبل لائق، كما كان من المؤمنين بالتنوع الثقافي مع المحافظة على الأصالة، وظلّ يردد ذلك حتى تمثّل تلميذه هذه القناعة وبقي يعمل لها طوال حياته.
مكث الطهطاوي في الأزهر ثماني سنوات كان خلالها تلميذاً دؤوباً جلداً مجداً ثم مدرساً نال ثقة طلابه ومحبتهم، وعندما احتاج محمد علي واعظاً للجيش طلب من العطّار رجلاً يملأ هذا الفراغ فاقترح الشيخ العطّار اسم تلميذه، وعندما قرر محمد علي أن يرسل طلاباً إلى أوربا خشي عليهم من الضياع في متاهات باريس لذلك رغب أن يرافقهم واعظ ديني، ومرّة أخرى يقترح العطار اسم الطهطاوي، وهكذا /سافر رفاعة إلى باريس إماماً واعظاً للبعثة المصرية منفتح الذهن لمعرفة الحياة هناك/ (3) وبينما كان التلميذ وأستاذه الشيخ يلقي كل منهما نظرة وداع على الآخر أوصى العطار تلميذه بما يجب أن يكون عليه في فرنسا وهمس في أذنه بأن يكتب رحلته ومشاهداته هناك.
وفي فرنسا أقبل رفاعة على القراءة بنهم وشغف لا يعرفان الكلل، واستثمر وقته كما لم يستثره دارس آخر، فاطلع على الحياة الفرنسية خاصة والأوربية عامة بوجوهها السياسية والثقافية والاجتماعية، وحين عودته إلى مصر عام 1831 قدّم صورة عن الحياة هناك في كتابه العظيم: تخليص الإبريز في مشاهدات باريز.
لقد دلّ الطهطاوي في كتابه هذا على وعي علمي وثورة كامنة في صدره، وأثبت أنه راغب في بناء مصر الحديثة من خلال المقارنة بين أوضاعها وبين أوضاع فرنسا، وكان هذا الرجل الموسوعي يتنقل في مصر من معهد إلى معهد ومن مدرسة إلى أخرى مدرساً ثم مترجماً ثم رئيس تحرير لصحيفة أو جريدة مدركاً في كل ذلك ضرورة التغيير الاجتماعي والنهضة التعليمية والتربوية على الطرق الحديثة.
وفي دار الألسن يشهد له المؤرخون بأنه كان يعمل ليل نهار ليخرّج المترجمين الأكفاء وعلى يديه تخرّجت الدفعة الأولى منهم سنة 1841 وقام العاملون في هذه الدار بترجمة كتب علمية متخصصة من علوم ورياضيات وطبيعيات وطب وتاريخ وقصص وقوانين وجغرافيا وقد أراد الطهطاوي من وراء ذلك أن يطلع أبناء العرب على ما كان قد اطلع عليه في فرنسا وشاهده، ومن طريف ما يذكر في هذا المجال أن محمد علي باشا كان يأمر بحبس أعضاء البعثة لدى عودتهم في القلعة ولا يخرج واحد منهم إلا بعد أن يتم ترجمة كتاب في مجال اختصاصه.
لقد كان الطهطاوي جسراً بين الشرق والغرب عبرت عليه قاطرات من المعارف والعلوم، وكان بحق من الروّاد الذين سيرتكز عليهم أدباء النهضة ومصلحوها وفي مقدمتهم عبد الله النديم.
لم يكتف محمد علي بافتتاح دور الترجمة، بل أنشأ المطابع استجابة منه لمتطلبات العصر إذ أنه لم يعد من المجدي تكوين الرأي العام من خلال الطرق القديمة كالمآذن والمساجد والرسل، فالناس أصبحوا بحاجة إلى الاطلاع لمعرفة ما يحيط بهم ليتخذوا مواقفهم من كل أمر من الأمور، ولهذا السبب اصطحب نابليون مطبعة كانت سلاحاً من أهم أسلحة حملته الفرنسية.
ومن المعروف عن محمد علي أنه قد أنشأ مطبعة القلعة عام 1815 والتي اقتصر عملها على طباعة التعليمات الإدارية والعسكرية وبعض الكتب المحدودة، ثم بعد ذلك وفي عام 1832 أنشئت مطبعة بولاق الشهيرة والتي يرى بعضهم أنها الثانية بعد الحملة الفرنسية التي تطبع بالعربية، هذا وما تزال /أكبر مطبعة عربية في العالم/ (14).
لقد قامت مطبعة بولاق بطباعة كتب العلوم أيام محمد علي، وكتب الأدب أيام اسماعيل، مما كان له أكبر الأثر في دفع عملية النهوض والتقدم، وستعرف مصر منذ ذلك التاريخ الصحافة التي ارتبطت نشأتها بنشوء المطابع.
بعد هذا تعددت المطابع فكان منها مطبعة مدرسة الطب ومطبعة مدرسة المدفعية التي /اختصت بطباعة المؤلفات العسكرية والنصوص التشريعية/(15) ومطبعة ديوان الحربية لطباعة كتب بالتركية والفارسية إلى جانب العربية، كما كان إلى جانب هذه المطابع مطبعة مجلة أسبوعية صدرت بالعربية والإيطالية، هذا وإلى جانب مطبعة ديوان الخديوي ومطبعة رأس التين كان/هناك عدد غير قليل من المطابع الحجرية للإيفاء بحاجة الحكومة المتزايدة/(16).
كان محمد علي مقتنعاً بقيمة الصحافة وأثرها في كسب المؤيدين والأنصار اقتداء منه بالفرنسيين، فاستزاد منها وأسس عام 1812 جرنال الخديوي وهي صحيفة عربية تنقل أوامر الحكومة إلى الأقاليم وتستقبل التقارير من الولاة يخبرون فيها عن كميات الغلال والمحاصيل والمال الذي اجتبوه من الفلاحين، كما تتضمن تقاريرهم أحوال الموظفين ومدى نشاطهم كي يقف الوالي على أحوال البلاد، هذا بالإضافة إلى اهتمام هذه الصحيفة ببعض القصص وشيء من الأدب.
إن تاريخ الصحافة في مصر بل في الشرق أجمع يبدأ بجريدة الوقائع المصرية الرسمية التي افتتحها محمد علي عام 1822 وكانت حينذاك تكتب باللغتين التركية والعربية ثم أخذت تصدر باللغة العربية فقط وكان يشرف على تحريرها حسن العطار شيخ الأزهر آنذاك.
لقد كان للترجمة والطباعة والصحافة أكبر الأثر في حياة الشعب المصري وكانت أحد أهم العوامل التي أسهمت في إقامة دولة علمانية تأخذ بأهداب الحضارة ومقوماتها، وقد أيقظت العقل العربي في القرن التاسع عشر ووجهت الرأي العام إلى قيم /ومثل جديدة في اللغة والفكر/ (17)، وغدا الكتاب رخيصاً يتداولـه الجمهور بعد أن كان ينسخ باليد ويكلف ثمناً عالياً، وكذلك أصبحت آداب الأمة منتشرة بين أبنائها وفي متناول كل يد وتدور على كل لسان بعد أن كانت محدودة ضيقة النطاق، وبذلك /اتسع تناول الأفكار في العلوم والفنون وأصبحت حقاً مشاعاً للجميع/ (18).
لم يكن للنهضة الثقافية هذه شأن يذكر في عهدي عبّاس وسعيد، وليس ثمة ما يستحق الوقوف عنده، وكما ذكرت فقد كان عهد كل منهما ضحلاً توقف الدرس فيه والتحصيل عن النمو والازدهار، وحرص هذان الواليان على الحد من التقدم التعليمي ويناعته، وكما يذكر مؤرخو هذه الفترة كانت ردة ثقافية ورجعية في التفكير وعودة إلى الوراء، فعرفت البلاد إغلاق المدارس وتقليص العلوم والمنشآت الثقافية التي كان قد بدأها محمد علي وكان يتم ذلك بحجة الاقتصاد في النفقات وتوفيرها، ولعل نفي الطهطاوي على يد عبّاس الأول خير دليل على هذه الردة الثقافية، فقد جرّد من مناصبه وأبعد إلى السودان /للتخلص من دعاة الدولة الحديثة/(19).
لم يكن في مقدور عبّاس وسعيد أن يوقفا الأقنية الثقافية لأن رأياً عاماً كان قد بدأ يتشكّل في البلاد وأخذ يقترب من جماهير الفلاحين ويتحدّث عن مشاكلهم، وأخذ الجدل يتفاعل في صفوف أبناء الشعب وخاصة في فترة حكم اسماعيل الذي كان عهده عهد نهوض أدبي وبناء فكري كما يشهد بذلك مؤرخو عصر النهضة دون استثناء، ففي فترة حكمه ازدادت العلاقات رسوخاً مع أوربا وانفتحت مصر على مصراعيها في وجه تيارات الفكر والأدب كأن عاصفة تريد ألا تبقي على كل مخلفات الماضي، وتشكّلت في البلاد آراء وتيارات متصارعة تعاظمت قوتها واحتدم الجدل بينها، وأخذت البلاد تمور بالثقافة وتعج بالمثقفين والساسة والعلماء والفنانين، وأصبحت مصر قبلة الفارين والمهاجرين والملاحقين من كافة بلاد الشام وغيرها يجذبهم الأمن والجدل والنقاش، كل ذلك يحثهم على القدوم والإقامة في مصر لما أتيح لها من حرية في القول والعمل مستفيدين من الفرصة المتاحة لهم والتي كان ينعم بها أبناء البلاد.
وعلاوة على ما اقتضته الظروف العالمية والمحلية آنذاك، كان اسماعيل يرغب في ذلك المناخ ويعمل على تعميق تيارات الثقافة ويذكي أوارها بما له من مواهب خاصة به، كان الرجل فناناً موهوباً متحضراً ذكياً منفتحاً على الثقافة الفرنسية أمضى سني دراسته في باريس وكان يسعى إلى الاقتداء بخطوات جده محمد علي ويطمح إلى أن يجعل مصر قطعة من أوربا كما هو معروف عنه. لقد لعب هذا الوالي دوراً بارزاً في إحياء الثقافة على الرغم من مساوئه السياسية والإدارية.
فقد أعاد البعثات وتوسع فيها وأجرى الدماء في شرايين التعليم وافتتح المدارس العامة وزاد عليها مدرسة الحقوق التي أسهمت في نهضة مصر وازدهار الخطابة فيها، ونبغ منها رجال من الحقوقيين قادوا البلاد في ميادين السياسة فترة طويلة من الزمن.
بعد ذلك وفي عام 1871 افتتح مدرسة العلوم واختار طلابها من خيرة الدارسين في الأزهر وكان لهذه المدرسة أثر عظيم في اللغة وإحيائها حيث أحيت المفردات المهجورة وجددت في الأساليب اللغوية ونفضت التراب عن تراثنا المجيد وقدمته إلى الناس مستساغاً جذاباً كما عكف أساتذتها على تدريب الأقلام الصاعدة وتنمية الذوق السليم وقدّمت الرائع من الشعر والنثر.
وفي مجال التعليم أيضاً أنشأ اسماعيل مدرسة البنات عام 1873 وهي الأولى من نوعها في مصر ومن أهمها مدرسة السيوفية حيث كان يدرس فيها مائتا تلميذة، ثم بعد ذلك بثلاث أو أربع سنوات من افتتاحها وصل العدد إلى أربع مائة تلميذة يتعلمن بالمجان بما في ذلك مجانية المأكل والملبس.
إلى جانب هذه الكليات النظرية بنى اسماعيل عدداً من المدارس الصناعية وإلى جانبها مدارس المحاسبة والزراعة والمساحة بالإضافة إلى مدرسة للعميان والبكم.
لم يغفل اسماعيل عن المدارس الابتدائية بل زاد في عددها حتى بلغ أربعين مدرسة، كذلك توسع في بناء المدارس الثانوية ومن أشهرها مدرسة رأس التين التي أنشئت سنة 1862 والمدرسة الخديوية سنة 1868 وأشرف عليها ديوان المدارس الذي كان قد ألفه سعيد والذي سيصبح وزارة التربية فيما بعد.
لقد توسع جمهور المتعلمين وكثر رواد المدارس وطلابها وأساتذتها وزاد عدد القرّاء ووصلت الكتب إلى البلاد بسرعة مذهلة، فالتعليم في مصر قد أصبح غاية بذاته /ولم يعد يراد به الجيش إنما أصبح يراد به الشعب/(20).
وفي مجال آخر بنيت دور الكتب العامة التي ساهمت في بناء النهضة الأدبية وساعدت على نشر التعليم وسهّلت الاطلاع وكوّنت مناخاً للتأليف والنشر، وشجعت على نسخ الكتب النفيسة المبعثرة والتي جمعت من المساجد والمكتبات الخاصة وكثرت أماكن بيعها وعرضها، وفتحت دور الكتب هذه أبوابها أمام المتعلمين ليتناولوا ما لم يقدروا على شرائه منها، وكان علي مبارك أحد أكبر رواد التعليم في مصر قد أشرف على دار الكتب المصرية وزودها بالكتب التي تضم شتى أنواع العلوم والفنون من عربية وغربية وحدد لهذه الدار أوقاتاً يؤمها الرواد في الصباح والمساء/ ويغدو ويروح الشعب إليها للقراءة وللاطلاع/ (21) كما وضع نظاماً لاستعارة الكتب خارجها.
ولعل الجديد في عهد إسماعيل تشكيل الجمعيات الخاصة والتي لا علاقة للحكومة بها، مما يدل على أن ظروفاً كانت قد استجدت وتطلبت مثل هذه الحركة الثقافية التي لم تكن عبقرية إسماعيل وراء كل شيء فيها، فقد تأسست وبمبادرات شخصية من رجال عرفوا بميلهم إلى العلوم الجمعية العلمية، ثم سرعان ما تأسست جمعية المعارف عام 1868 وهي أول جمعية مصرية ظهرت لنشر الثقافة عن طريق التأليف، وقد اقتنت مطبعة قامت بطباعة طائفة من الكتب في التاريخ والأدب والفقه.
إلى جانب هاتين الجمعيتين تأسست الجمعية الجغرافية عام 1875 وقد كانت من أهم المنشآت العلمية في مصر وكما يعرف من اسمها فقد كانت تعنى بالأبحاث الجغرافية والعلمية، تدونها وتنشرها وأصدرت لذلك مجلة تنشر فيها أبحاثها.
ولعل الجمعية الخيرية الإصلاحية التي تأسست عام 1875 من أهم هذه الجمعيات على الإطلاق، فقد أنشئت في الإسكندرية بتكليف من أحزاب سياسية للوقوف في وجه طغيان إسماعيل واستبداده، إلى جانب وقوفها في وجه المد الأوربي وسيطرته على البلاد، لذلك كانت تعمل في السرّ مما دفع بإسماعيل للبحث عن أعضائها وملاحقتهم دون أن ينال منهم، وعندما تحوّل عمل هذه الجمعية إلى العلن افتتحت مدرسة تعلم فيها أبناء البلاد وكان عبد الله النديم مديراً لها، وقد حرصت الجمعية على تربية التلاميذ تربية صالحة/ وقد ظلّت هذه الجمعية والمدرسة تعملان على تنشئة الجيل حتى قامت الثورة العرابية فتفرق القائمون عليها/(22).
نشطت الصحافة في عهد إسماعيل وازداد عددها ولعبت أدواراً رائدة في نهضة القرن التاسع عشر وخاصة في الثلث الأخير منه، وعملت على إنهاض الشعب في حقلي الإصلاح السياسي والاجتماعي، وكوّنت رأياً عاماً في تلك الفترة من حياة البلاد وبذلك تكون قد رسمت معالم من التفكير وسبلاً في
التربية الوطنية.

ومن المعروف أن إسماعيل كان قد ورث صحيفة واحدة هي الوقائع المصرية، غير أنه أسس مجلة اليعسوب الطبية الشهرية والتي صدرت عام 1865 وكانت تنطق باسم البعثة العلمية التي أوفدها محمد علي، وتعتبر هذه المجلة الأولى من نوعها في الشرق، وفي عام 1870 أنشأ محمد مبارك مجلة روضة المدارس وكانت تشرف على إحياء التراث ونشر المعارف الحديثة، ثم أدارها رفاعة الطهطاوي وجعلها ميداناً لأبرز كتّاب تلك الفترة، وقد قدمت هذه المجلة أبحاثاً طريفة في العلوم والآداب والاجتماع والفلك والتاريخ والرياضيات، كما أنها مهّدت الطريق إلى الصحافة الحديثة.
وتعتبر جريدة أبي نظارة أولى الجرائد السياسية التي انتقدت سياسة إسماعيل وقد أدارها يعقوب صنوع الذي كان قد نفاه الخديوي وأغلق جريدته وطرده إلى باريس ومن هناك ظلّ صنوع يهاجم حكومة إسماعيل حتى توفي عام 1912.
لقد كثر عدد الصحف في تلك الفترة حتى وصل إلى العشرين، ساعدها في النمو والازدهار إقبال الناس عليها وما لاقت من حرية وأمان فسهل رواجها وكثر قراؤها والعاملون فيها ولاقت قبولاً من الكتّاب الذين لم يتوانوا عن مدّها بمقالاتهم وأبحاثهم التي تتناول هموم العصر ومشاكله.
من جهة أخرى اعتنت حكومة إسماعيل بمطبعة بولاق بشكل خاص وبالطباعة بشكل عام ومن أجل هذا تأسس معمل للورق عام 1871 مما شجع العاملين في ميدان الثقافة وحثهم على العمل والإنتاج المتواصل.
إلى جانب المطابع الحكومية أنشئت مطابع أهلية كان لها أكبر الأثر في نشر الكتب الحديثة وتيسير الاطلاع على الأدب والفنون والعلوم وعلى شتى أنواع المعارف الأخرى، كما قامت هذه المطابع بطبع نفائس الكتب التي أصبحت غذاء يتناوله الجميع.
فتحت مصر أبوابها أمام الثقافة الأوربية عامة والفرنسية خاصة، وازداد النفوذ الأجنبي في البلاد وكثر الوافدون تجاراً ومغامرين وخاصة في الفترة التي افتتحت فيها قناة السويس، ثم أن الثقافة الأوربية والفرنسية منها بشكل خاص كانتاً تثيران اهتمام إسماعيل، لذلك نشطت الترجمة في عهده ولعبت دار الألسن دوراً بارزاً في الثقافة والنهضة.
في الجانب الأدبي ترجمت قصص ومسرحيات غربية بلغت المئات، وبرز مترجمون من أشهرهم محمد عثمان الذي مثّل الروح المصرية أشّد تمثيل /وقد كان أديباً ثائراً على مدرسة التقليد/(23) وإلى جانب الترجمة خطا التأليف في عهد إسماعيل خطوات واسعة إن كان في القانون أوفي العلوم والمسرح.
لقد لعب المسرح في مصر دوراً بارزاً في التقدم والنهضة مما جعله يجذب إليه كبار المسرحيين في بلاد الشام، وقد لقي تشجيعاً من إسماعيل نفسه، فقد بنى دار الأوبرا وأنشئت فرق للتمثيل، وكان مارون النقاش من أوائل الذين تناولوا هذا الفن وأدركوا دوره الاجتماعي واستوعب المهام التي يستطيع فن التمثيل أن يقوم بها، كما اكتشف دوره في تنبيه العقول وتهذيب الأخلاق وقال: إن المسرح يكشف العيوب الاجتماعية ويدعو إلى التخلص منها.
كان النقّاش 1817-1855 مسرحيّاً عبقريّاً، كثير التطواف في أوربا، وقد عرف عنه أنه زار فرنسا وإيطاليا واطلع على المسرح في كل منهما، ثم التفت إلى التراث فأخذ منه وأسبغ على شخصيّاته سمات عربية.
ولكن المسرح المصري في تلك الفترة شقّ طريقه على يدي يعقوب صنوع 1839-1912 بخطوات واسعة، فقد كان صنوع على درجة من اليسار وكان كل ما حوله يفضي به إلى الثقافة وارتيادها حيث كان والده غنياً بحكم قربه من أحد أحفاد محمد علي مما هيّأ لابنه فرصة الاطلاع على ثقافة أوربية وافرة، لذلك أتقن صنوع عدداً من اللغات تمكن من بعضها وأتقنه، وعند عودته من أوربا انضم إلى التيارات السياسية التي تتبنى الإصلاح وتدعو إليه متأثراً بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
اقتنع صنوع بالمسرح على أنه أداة من أدوات التغيير والإصلاح والتبشير بالأفكار الجديدة وأنه فن قريب من سواد الأمة وكتلتها، لذلك عكف على كتابة المسرحيات ودرب الممثلين على أدوارهم السياسية والاجتماعية وأقنعهم بها، ثم أقنع الخديوي إسماعيل بجدوى المسرح وضرورة بناء دار الأوبرا في مصر، لقد طرح صنوع موضوعات جديدة في مصر ومجتمعها، فانتقد تعدد الزوجات وفساد الأخلاق كما هاجم سياسة إسماعيل واختلف معه ثم أخرج من البلاد.
لقد جذبت هذه النهضة العاملين في حقل الثقافة من أقطار أخرى وشجعتهم على القدوم إلى مصر حيث الحوار والأمن، ففي الربع الأخير من القرن التاسع عشر هاجر صفوة الأدباء من بلاد الشام بعد أن ضاقوا ذرعاً من اضطهاد العثمانيين ومن عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، آملين أن يجدوا في مصر الحياة الكريمة.
أسهم هؤلاء المهاجرون في النهضة الحديثة بما كان قد استوعبوه وحملوه معهم من الآداب الغربية واشتركوا في الحوار بحرية تامة وتناولوا مشاكل قديمة وجديدة بعيدة عن المحلية والإقليمية، وتبادل المصريون معهم المعارك الأدبية والفكرية الضارية التي تناولوا فيها كافة وجوه الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتي حثوا فيها مجتمعهم على التقدم وموازاة الشعوب الأخرى، وأعطوا الموضوع السياسي جلّ اهتمامهم، فارتطمت عقول وتلاقحت أفكار في معارك تطاير شررها إلى الأقطار الأخرى، فتجاوبت النداءات وانحاز كل إلى نظيره في الفكر والقناعات. إن كتب الأدب التي حبّرت في تلك الفترة تضم ذكريات نضالية عذبة بين هذا الفريق من أبناء الأمة الذين ابتغوا طواعية مصلحة شعبهم وتقدمه، وكان عبد الله النديم واحداً من هؤلاء.



¡¡¡





الفصل الثالث :

نشأته وتكوينه
1843-1879



حفلت سنوات النصف الثاني من القرن التاسع عشر بكل طريف وجديد، وحملت معها بذور التغيير في حياة مصر عامة وفي تطور مدينة الإسكندرية خاصة، فقد شهدت هذه المدينة بحكم موقعها المتميّز حركة اقتصادية تناولت الصناعة والتجارة والزراعة واحتضنت قاعدة مادية بدأها محمد علي وطوّرها إسماعيل واقتضتها ظروف العصر أيضاً.
ولم يأت عام 1850 حتى أصبحت مصر دولة ذات أهمية تجارية بالغة، برزت فيها مدينة الإسكندرية عاصمة تجارية متطورة متكاملة فقد أصلح فيها الميناء البحري وأدير بنظام صارم دقيق وإلى جانبه افتتحت مدرسة للبحرية عام 1825 وبنيت دار صناعة السفن عام 1829 طورّت النقل البحري وجعلت الطرق المائية القادمة من أفريقيا تلتقي مع الطرق البحرية القادمة من أوربا في مدينة الإسكندرية.
من جهة أخرى عرفت هذه المدينة منذ ذلك الحين اتصالات هاتفية وشبكة مياه نقية وخطوط ترام وسكك حديدية بالإضافة إلى شوارع عريضة ومستقيمة كان قد شقها وعبّدها سعيد باشا، وبذلك تغدو مدينة المال والثراء والجمال ترتبط بعواصم العالم من آسيا وأوربا وأفريقيا، ومنذ ذلك الحين أخذت تجذب الأوربيين على كافة اتجاهاتهم ومشاربهم ومآربهم، فاحتشد فيها أصحاب رؤوس الأموال والخبرات منهم والكفاءات، فافتتحت فيها المصارف والبنوك وتداول الناس العملات بأنواعها وجنسياتها المختلفة.
وفي مصر منحت الامتيازات للأجانب فارتفع عددهم وتضخم حتى أصبح سبعين ألفاً عام 1878 كانوا ينتمون إلى جنسيات متعددة فرنسية وإنكليزية وإيطالية ويونانية كانت الغالبية العظمى من هؤلاء أفاقين، انتهازيين من حثالة البحر الأبيض المتوسط ضاقت بهم بلادهم ولم يجدوا فيها فرصاً للكسب الشريف، فاندفعوا إلى مصر لجمع المال والثروة كما يحلو لهم وسلكوا من أجل هذا طرقاً غريبة عجيبة لم ينظروا فيها إلى شرف الوسيلة بمقدار نظرتهم إلى الهدف والغاية.
لم يقطع هؤلاء علاقتهم ببلادهم، بل عاشوا في المدن المصرية وخاصة في الإسكندرية بمن فيهم العثمانيون والأتراك طبقة متميزة عن أبناء البلاد منفصلة عنهم بلغتها وزيّها وعاداتها وسلوكها وفي مراكز سكناها التي احتلتها وحتى بأسلوب تفكيرها وبمستوياتها المادية العالية وأصبح لهؤلاء بما فيهم الألبان مصالح هامة يقفون عندها ويدافعون عنها، فلا عجب بعد هذا أن نراهم يتدخلون في سياسة البلاد حتى وصل الأمر بهم إلى تشكيل وزارة وإقالة حكومة، والأخطر من هذا جميعاً أنهم كانوا يشكلون إحدى الدعائم الهامة لأسرة محمد علي المالكة.
وكي يكمل مشاريعه الاقتصادية استقدم محمد علي شباباً من الريف ليسهموا في بناء القاعدة المادية، فأقبل هؤلاء طامعين في حياة أفضل وظروف أمثل وعيش أكثر ليونة مما كانوا يعيشون فيه تحت وطأة الفقر المدقع.
كان مصباح بن إبراهيم والد النديم واحداً ممن استقدموا من قرية الطيبة إحدى قرى مديرية الشرقية ليعمل في منشأة صناعية، ومنذ بداية إقامته في مدينة الإسكندرية عمل في مطبعة عاملاً بسيطاً ولما لم يرق له ذلك تركه والتحق بدار صناعة السفن في الميناء نجاراً بسيطاً أيضاً، وظلّ في عمله هذا إلى أن صدر مرسوم من السلطان عام 1841 يقضي بتخفيض عدد الجيش المصري وإلغاء عدد من منشآته الصناعية والتعليمية فسرّح عدد كبيرٌ من الموظفين والعمّال كان من بينهم مصباح بن إبراهيم.
لم يعد مصباح إلى قريته كما عاد غيره من العمال إلى الريف بل استطاب له المقام في المدينة واتخذ له فيها مخبزاً يصنع فيه الخبز ويبيعه إلى الغرباء من الأجانب في حي المنشية الشعبي، وبهذا استطاع أن يحصل على مورد رزق بسيط مكّنه من الزواج وبناء أسرة تقترب من اليسار حيناً وتبتعد عنه أحياناً أخرى، وفيما هو في السادسة والعشرين من عمره رزق بابنه عبد الله عام 1843 والذي سيعرف بالنديم فيما بعد.كان في حي المنشية صناعيون وتجار وأرباب مهن أرسلوا أولادهم إلى الكتاتيب كي يحصلوا على شيء من التعليم ليمكنهم من مزاولة مصالحهم، وأرسل مصباح ولده النديم إلى الكتّاب، ومنذ البدء بدأت على الطفل علائم الذكاء، فقد استوعب ما كلّفه به شيخه وفرضه مما شجع والده على إرساله إلى الجامع الأنور الذي كان يضاهي الأزهر، وفيه أمضى ست سنوات أتقن خلالها الحديث والفقه والصرف والنحو والمنطق والتفسير والبلاغة أشرف عليه مدرسون كان أحبهم وأقربهم إلى قلبه الشيخ محمد العشري.
اكتشف العشري النديم وعرف مواهبه وميوله، فاصطحبه إلى المجالس الأدبية وأخذ يطوّف به السهرات والندوات، ولتشابه في سلوكهما ارتبطا بصداقة ووداد حافظ النديم عليهما وذكرهما في رسائله إلى أستاذه فيما بعد قال له: /غذاء النفوس وبهجة المهجة سيدي ومجيري وعمدتي يخصك التحية غرس بستانك وزهر إحسانك، ربيت فأحسنت وغذيت فأسمنت وعلمت فأفهمت وأشرت فألهمت، وكيف لا يكون لساني قوس البديع وكلامي السهم السريع وأنت باريه وراعيه/(1).
وفيما يبدو لم ترق دروس المسجد الرتيبة للنديم، فهرب فجأة واندس في صفوف الأدباتية أولئك الشعراء الشعبيون الظرفاء، وهام مثلهم في كل طريق ومنعطف وانتقل معهم من بلدة إلى بلدة ينظم ويحاور ويقلد تسعفه في ذلك ذاكرة عجيبة، فساح في شوارع الإسكندرية والقاهرة والمنصورة وطنطا أولاً، ثم اتجه إلى الريف وضرب في عمقه وهناك خالط الفلاحين والتصق بهم وعاش كما يعيشون ووضع يده على مأساتهم الاجتماعية بكل أبعادها ولاحظ ذلك الانقسام بين المالك والمملوك والفقير والغني. إن هذا الوعي الاجتماعي سيبقى محوراً يرتكز عليه نضاله السياسي طيلة حياته.
ومع الجوالين الظرفاء أحب النديم الترحال وتذوق العيش معهم واستساغه، فأصبح صلب العود صعب المراس عميق الثقة بنفسه خصب التجربة، وقد أفصح عن ذلك إلى صديق لـه في رسالة يحدثه فيها عن عمق هذه التجربة وأثرها في نفسه قال: /وما تعهده في طبيعتي من الجبن كان قبل ركوب السفر ومعاناة الأمور ومعاداة الدهور، فإن من ألف الراحة وألف السياحة واقتصر على مصره ورجال عصره كان كطير القنص إذا وضع في القفص يفرح بمطعوم جنسه ومائه ويمرح بين أرض حبسه وسمائه، فإن غابت عنه الميرة أدركته الدهشة والحيرة يستغيث ولا يغاث حتى يصير كالبغاث، وأما من زاد التنقل واختار التغرب فهو كالكركي تارة شامي ومرّة تركي وآونة مصري وأخرى بصري لا يحرم من القفار نيلها ولا من الأنهار نيلها/(2).
وبعد أن عاد من تطوافه ارتحل إلى القاهرة وفيها تعلّم فن الإشارات البرقية وعيّن عامل مقسم بمدينة بنها في محطة السكك الحديدية بعيداً عن أصحابه الصعاليك الظرفاء، فتكدّر عيش الزجال الغريد، وشكا دهره ومعاكسته وتذمر من الظروف التي أحاطت به، ففي رسالة إلى صديق له يقول فيها /لو أن السيد يعلم ما أنا فيه من معاناة الأمور ومعاداة الدهور لالتمس عذراً لتأخيري وصفحاً عن تقصيري، فقد حررته ليلة نوبتي وبعد عشائي وقبل نومتي مع صفير الوابورات وجعجعة العربيات/(3).
وفي رسالة أخرى يحزن لافتقاد الأصدقاء وحرمانه جو الأدب الذي كان يعيش فيه وكيف جعلت منه الظروف طائراً في قفص قال /وانتظمت في سلك التلغراف وامتزجت بالأوباش بعد الأشراف فضعف يقيني ولم أجد من
يقيني/(4).

ولمّا كان عمّال المقاسم قلائل في تلك الأيام انتدب ليعمل في قصر الأميرة جوشيار خانم والدة الخديوي إسماعيل، وفي هذا القصر الفاخر غمره النعيم وأصابه وأصبح من موظفي القصر له ما لهم من طعام وكساء وإقامة.. وهناك وقعت عينه على كل غريب عجيب، فالأميرة الشرقية لم تدع شيئاً من ألوان الترف والرفاه، فرق موسيقية شرقية وغربية، فرق التمثيل والمغنيات، الأمراء والسادة المرصعون بالنياشين والقصب والفضة، الجواري والوصيفات اللواتي كن على جانب عظيم من الذوق والجمال والفطنة. لقد أحسّ النديم برغد العيش هذا فكتب إلى صديق له //أدركت برهة من الزمن لم أذق فيها سمّ الإحن وقتما كنت في القصر العالي بحر الجواهر واللآلي فقد استرحت هناك من الشياطين وانتظمت في خدمة السلاطين//(5).
في هذا المفصل من حياته اختلط النديم بالمثقفين والدارسين الذين كانت تعج بهم القاهرة، وتردد على المجالس الأدبية والصالونات الفكرية الرسمية منها والشعبية واشترك بالنقاش المحتدم والجدل الذي يختلط فيه الأدب بالسياسة غير بعيد عن ذكر أحوال البلاد وأوضاعها الراهنة، ووطّد العزم على متابعة الدراسة في الأزهر، فأخذ يطالع الدروس التي كان يتلقاها مع رفاقه وتلقن اللغة العربية على يد أستاذه اللامع حمزة فتح الله وارتبط معه بصداقة عامرة، وأخذ بيده أستاذه أحمد وهبي فعرفه على نوابغ العصر وأدبائه الذين كان النديم حفياً بهم فرحاً بمخالطتهم، لذلك ظلّ يذكرهم طوال حياته فرداً فرداً ويطريهم بأعذب الكلام طوال حياته //محمود صفوت الساعاتي الفصيح اللسان المشار إليه بالبنان، ومحمود سامي البارودي غيث الربيع الهامي، وعلي الزرقاني الفاضل الذي ألفته اللغة والمعاني، ومحمد سعيد الذي نظم من المباني أرقها ومن المعاني أدقها، وعبد الله فكري من ملأت من دنّه أقداح فكري// (6).
وكما ذكرت فقد كان النديم فرحاً بلقاء نوابغ العصر حفياً بهم فأكثر من ذكرهم بكل وقار، وبدا في حضرتهم مستمعاً مصغياً ومتحدثاً حاذقاً ومجادلاً بارعاً، وفي مجالسهم وجد أدباً متنوعاً جديداً وقديماً، وتعرّف على الروائع من القصائد والأشعار، واستمع إلى أحاديث متعددة الأساليب والفنون، ولهذا اشتدت أواصر الصداقة بينه وبين متنوري عصره وعلمائه //فارتوى من أدبهم ومحفوظهم وكان يجاريهم عندما تسنح الفرصة له// (7).
لخطأ في فكّ رموز برقية طرد النديم من القصر، فخرج غاضباً حاقداً لا يلوي على شيء ومن جديد انضم إلى الزجالين الظرفاء دون أن يغفل عن مجالس الأدباء وارتيادها، ومن مدينة المنصورة التي اتخذها منطلقاً كتب إلى صديقيه محمد كمال وأحمد علي يصف الحالة التي آل إليها أمره فهو كما يقول//جوّاب سائح قنّاص لكل سانح، زاده من مزوده وصرفه من كيسه ومأواه حجرات الأجر يقطف زهر كل فن.. ثم سأل عن أندية الآداب ليتعرّف بذوي الألباب، فدلّ على شرذمة قليلة سليلة جليلة، فهرول إليها هرولة طامع، وأبدى سن المبتسم وقال: حسبي هؤلاء من المدن والقرى//(8).
بعد ذلك ارتحل إلى مديرية الدقهلية وهناك اختير معلماً لأولاد العمدة، ولكن شجاراً على الأجر نشب بينه وبين صاحب البيت، فانصرف النديم دون أن ينال حقه فعاد إلى المنصورة واستضافه أحد الأغنياء فيها واشتركا في تجارة فشلت وتبدد الربحُ ورأس المال.
في هذه القرى التي طاف بها النديم خالط الفلاحين، والتصق بهم في حقولهم وأكواخهم وجلس على موائدهم، واندمج معهم وأصغى إلى أحاديثهم وطرفهم وقصصهم الشعبية، واختزن كل ذلك في ذاكرة لاقطة ناقدة، كما اطلع على جرائم الإقطاع وعرف نتائج الاستغلال والقهر، ثم أخذ يقارن بين هذا الواقع وبين ما كان قد رآه في قصر الأميرة من ثراء وليالي ألف ليلة وليلة، فازداد إحساسه الاجتماعي والإنساني بمأساة الريف المصري، واقتنع بأن الفقر وراء كل شيء، لذلك آمن بالحرية على أنها حلم الخلاص من عبودية الفقر والتبعية للأجانب، وراح يدافع عن الفلاحين بحسه المرهف ونقاوته الثورية وطهرها مما سيجعل أدبه يتسم بمسحة ثورية تنتمي إلى فصيل ثوري ناهض وقوى لها قدرة خارقة على صنع أحداث كان من أهمها الثورة العرابية.
وفي عام 1876 قادته قدماه إلى مدينة طنطا وفيها تعرّف على مفتش الوجه البحري وأحد مؤسسي الحزب الوطني ومناصري تياره في البلاد شاهين باشا كنج، فاستضافه الباشا واتخذه نديماً له وسميراً، وفي بيته تعرّف على أحد المتنفذين في القصر فجعله ****اً على أرزاقه، وبعد أن أزال هذا المتنفذ غضب القصر عن النديم بدأ الرجلان يتقابلان في القاهرة.
وفي القاهرة عرّج النديم على مقهى البوسطة حيث كان الأفغاني يقيم مجلسه، وفي هذه الحلقات من الدروس المفعمة بالثورية وقعت عيناه على مثقفين لم يعهد واحداً منهم من قبل، ولم يطل به البقاء بينهم حتى بدأ يلم بخيوط الصراع الخفية ويستشف مأساة الفلاح المصري الذي ينتمي إليه ولو من بعيد.
كان الأفغاني مثقفاً ثورياً ومحدثاً بارعاً مؤثراً لا يعرف الكلل ولا يدركه الملل، ولا ينضب كلامه ولا ينتهي، كما كان عبقرياً في تكوين الرأي العام حولـه، وكان قد اتخذ ندوته في مقهى البوسطة نهاراً، وفي بيته بخان الخليلي ليلاً، وفي حديثه كان يتناول شتّى شؤون الحياة، وعالجت موضوعاته النهضة الدينية والسياسية والأخلاقية في الشرق عامة وفي مصر خاصة، ودعا إلى الحد من سيطرة الغرب والوقوف في وجهه وعدم تمكينه من الشعوب الإسلامية ثم تناول موضوعات محلية عن الدستور والحرية والحكم النيابي وضرورة معرفة واجبات الحاكم وحقوق العامة، وحثّ الشباب المصري على ضرورة الانتساب إلى أحزاب سياسية، لذلك أسهم في تأسيس الحزب الوطني الحر في أواخر عهد اسماعيل، هذا الحزب الذي قاد ونظّم الثورة العرابية. لقد أدهش الأفغاني بموضوعاته هذه جيلاً من الشباب المصري المثقف وبهره!.
لقد كان لقاء الأفغاني حاسماً في حياة النديم، وانعطافاً حاداً في سيرته السياسية، فمنذ اللقاء الأول بين الرجلين اكتشف الأستاذ الأفغاني تلميذه العبقري، وعرف قدراته واستعداده للعمل الوطني، ورأى نفسه فيه عازفاً عن الدنيا منصرفاً عنها، وباديء ذي بدء اجتذبه من وسط الأدباتية وحياة السوقة والتشرد إلى مصافي المثقفين والشروع في التنظيم السياسي والعمل على الحسم العسكري، وبذلك يكون قد وجّهه الوجهة التي كان مستعداً لها ولكنه لم يدركها قبل لقائه الأستاذ العظيم.
من جهته واظب النديم على دروس أستاذه فانتفع بها واشتعلت أعصابه بكلمات ذلك الثوري العظيم، وسرت في دمائه وشرايينه، وأخذ عنه آراءه في نهضة الشرق.
انتسب النديم إلى الحزب الوطني وأخذ يتدرب بين يدي أستاذه على الخطابة وكيفية تكوين الرأي العام ولقاء الجماهير حتى غدا واحداً من أقطاب الخطابة الذين يعتز بهم التيار الوطني ومثقفاً كامل العدّة والاستعداد ليحرر في الصحف والجرائد، وبعد ذلك أوفد إلى الإسكندرية لينشر مبادئ الثورة بين الناس ويكتب في جريدتي مصر والتجارة اللتين كان يديرهما أديب اسحق وسليم النقّاش وهما شاميان من أعوان الأفغاني وتلاميذه.
ذات غروب شاحب من شتاء عام 1879 وصل النديم إلى الإسكندرية وله من العمر ستة وثلاثون عاماً، وهو على أشد ما يكون عليه من الفرح والشوق، ذلك لأن هذه المدينة كانت أثيرة لديه محببة إلى قلبه، وعن فرحته هذه كتب إلى صديقه أحمد وهبي يصف غبطته بلقائها وصفاً دقيقاً مؤثراً //ما إن أقبلت عليها حتى تنشقت الهواء العنبري من النسيم السكندري، فتحركت الأعضاء وأحسّت النفس بالسرور وطربت، وهكذا السرور إن زاد أبكى!، ومازلت أشرب السرور شيئاً فشيئاً حتى مزجت بالفرح وتناساني الترح، واقتصرت على التمتع بنورها الطبيعي، وتروّح الفكر بشكلها البديعي. إنها نزهة نفسي ومركز أنسي وأول أرض مسّ جسمي ترابها// (9).
لم تطل فرحته بلقاء الإسكندرية، فالمدينة كانت قد فقدت طابعها العربي البسيط، ولم يعد لها ذلك الطهر والنقاء اللذان كانت عليهما أيام طفولته، فأبناؤها الأصليون قد انحسروا إلى الريف أو قطنوا على جنباتها في أكواخ من طين وصفيح يسودها الإملاق والعوز، في الوقت الذي نبتت فيه مساكن الأجانب قصوراً مشيدة تشع منها الأنوار وتجوسها العربات الفارهة وكأن المدينة كما تراءى للنديم //قد زهدت بأهل العلم وكرهت لسان العرب وأصبح حظها موقوفاً على أهل العي والفجور، فتركها أبناؤها المتعلمون وانسلوا بالحريم والأولاد//
(10)، وفي الرسالة ذاتها يخاطب النديم المدينة الأثيرة لديه خطاباً شاعرياً شفافاً ويسألها بعتاب رقيق
لماذا أصبح أبناؤها غرباء على الرغم من أن خيرها// لم يكن مقصوراً على القريب بل هو متاع له وللغريب//، وصادف أن الأمطار الموسميّة قد بدأت تنهمر في لحظات اللقاء هذا فطارت روحه شعاعاً، وتراءى لـه أن المدينة آخذة بالانتحاب والنشيج وكأنها تستقبله بدموع مدرارة// سكبتها الأمطار الموسمية فقامت وحقدتْ وأبرقتْ وأرعدتْ وأرسلتْ السحب كالبحار وسوّتْ بين الليل والنهار ثم طلعت الشمس بعد أربعة
أيام// (11).

بحذر وأناة درس النديم أجواء المدينة وتفهّم تياراتها الثقافية منها والسياسية، وتأكد أن الجميع منهمك في مناقشة أحوال البلاد، ولاحظ أن ذلك كله قد سبك في تيار قومي عارم ينبض بالحياة والنشاط بوجهيه الأدبي الذي يرتكز على إحياء التراث والسياسي الذي يدعو إلى الثورة المسلحة، وأن الأهالي قد تجمعوا //حول أهداف محددة يعملون لها ويسعون إليها في السر والعلن// (12). كان كل شيء جديداً حقاً وكان هو الآخر يرى نفسه //وكأنه أعيد خلقه من جديد// (13).
في الإسكندرية انتسب النديم إلى جمعية مصر الفتاة وهي جمعية سياسية تداعى الضبّاط العرب لتأسيسها سنة 1879 //برئاسة الضابط علي الروبي وقد انضم إليها عرابي وأصبح عضواً بارزاً فيها لنشاطه وفصاحته// (14)، وقد حددت هذه الجمعية برنامجها بالقضاء على فردية اسماعيل واستبداده، والعمل على خلعه وإقامة حكم الشورى والدعوى إلى الإصلاح العام، بعد ذلك كشف النديم أوراقه لصديقين قديمين له هما محمد أمين نائب رئيس الجمعية ومحمود واصف أمين سرها //وتعرف على أعضاء الجمعية وشرع يبث أفكاره// (15) على صفحات جريدتي مصر والتجارة كمحرر مساعد، وبالإضافة إلى ذلك فقد انتسب النديم إلى جمعية المقاصد الخيرية، وبتكليف من مجلس إدارتها افتتح مدرسة للبنين وللبنات أمدّت أسراً فقيرة، وكانت تلقى فيها خطب //كان النديم من أشهر خطبائها// (16).
تولى الخديوي توفيق مقاليد الحكم، واتبع سياسة شقّ صفوف الوطنيين، وتعرضت الحركة الوطنية للضغط والقمع، ولوحق أعضاء الحزب الوطني، وأخرج جمال الدين الأفغاني من البلاد، وأعد مشروع نفي النديم إلى السودان، عند ذلك ظهرت أصوات تبرر سياسة توفيق وتراجع كثير عن آرائهم ومبادئهم، فانشقّت الصفوف ودمرت الأحزاب وتصدّعت واتجهت الأنظار إلى الجيش كأداة من أدوات التغيير، وكان النديم في طليعة المدنيين الذين ازداد إيمانهم بالحسم العسكري ودعوا إليه، وباقتراح من أنصار الخديوي طرد من الجمعية لمزاولته نشاطه الثوريّ مما دعاه إلى تأسيس جريدته الخاصة به: التنكيت والتبكيت.
كانت هذه الجريدة أهم مرحلة من مراحل تطور النديم الفكري وعملاً من أهم أعماله التي قام بها حتى الآن، بدا فيها صحفياً خبيراً متمرساً مدركاً لطبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد، وأصبحت جريدته منبراً وطنياً يجتمع حولها المثقفون ويكتبون فيها، وأقبل الناس على مقالاته يتحلّقون حولها ويسمعون، وعلى الرغم من بساطتها في الأسلوب والإخراج فقد تداولها العامة وتناقلوها وهم يعلمون //أن صاحبها قد نشأ في قاع المجتمع المصري// (17).
ومنذ العدد الأول الذي صدر في حزيران من عام 1881 توجّه النديم فيه إلى الناطقين بالضاد من أبناء اللغة العربية، وأنبأهم أن الصحيفة عربية المشرب تحمل هموم الأمة وشجونها، ويديرها قلم وطني يرجو العون والمؤازرة في مسعاه، ثم يحدد جماهيرها، بقوله إنها أدبية تهذيبية //لا يحتقرها العالم ولا يحتاج معها الجاهل إلى تفسير// (18).
كان النديم من أوائل المثقفين العرب الذين أدركوا عمق المأساة التي يعيشها العقل العربي في ظل الجهل المقنع بالخرافة والشعوذة، ووراء العيوب الاجتماعية والمعتقدات الفاسدة وسوء التربية يكمن إلغاء العقل، وأثناء تطوافه بالريف المصري الموغل في التأخر سمع ورأى أصنافاً من المظاهر المتخلفة وألواناً واستخلص أن ذلك يشكل موطئ قدم للاستعمار في بلاده ويمهد لاستنزاف خيراتها، لذلك دعا إلى احترام العقل والتفكير النيّر، واحترام الحقائق العلمية ونهى عن المساس بها لأنها جزء من إنسانية الإنسان وقال: ينبغي على المتعلمين احترام ذلك لأنهم أجدر الشرائح بصون العلم وتقدير أهله. والنديم مسكون بحب العلم، والعلم هاجسه الأول الذي لم يفارقه منذ يفاعته، وكان أكثر المثقفين تأييداً لـه ومؤازرة، لذلك اشترط على الأمة التي ترغب في التقدم أن تسعى حثيثة إلى تعليم أبنائها والدخول في سباق مع الأمم الأخرى كالغرب مثلاً، وفي قصصه كان يقتنص من المجتمع المصري صوراً مغرقة في التخلف ويعرضها متفكهاً ناقداً مما يجعلها تترك إحساساً صارخاً بلطخة العار دونما شماتة أو ازدراء، ويجعلنا نرى ذلك العيب غريباً عن جسم الأمة وافداً عليها طارئاً على أبنائها لأن تاريخها يشهد لها باحترام العلم والعقل معاً.
ففي قصته: الجنون فنون وفي المقهى تلتقط عيناه قارئاً محتالاً لسيرة عنترة وقد تحلق الرعاع حوله ممن أولعوا بسماع الأكاذيب والخرافات، وكان الراوي يتعمد الوقوف كل ليلة عند نقطة يقترب الخطر فيها من بطلهم المحبوب، وكي يظل ممسكاً بزبائنه في الليلة التالية توقف الراوي عندما وقع عنترة في الأسر.
لم يطق الفلاح الجاهل ذلك ولم تغمض عينه فدلف إلى غرفة ولده وأيقظه من نومه وشكا إليه الأمر باكياً وقال له: يا ولدي في هذه الليلة أخذوا عنترة أسيراً، فهات الكتاب وخلصه وإلا قتلت نفسي، وعندما رفض ولده انهال الأب عليه بالعصا شاتماً لاعناً، فخرج الولد //يسب الجهل وأهله// (19).
في كل قصة كتبها النديم كان يؤكد على أن الجهل أصل البلاء بل هو علة العلل والعيب الذي لا ينبغي التستر عليه أو السكوت عنه، وكان ينظر إليه برؤية المناضل الثوري المسؤول، والمثقف الذي يأسى لواقع مجتمعه ويحزن عليه، وكان الربا واحداً من تلك العيوب التي هاجمها وفضح أصحابها ورآه طريقة من الطرق التي استخدمها الأجانب لنهب الثروة الوطنية وانتزاع اللقمة من أفواه أبناء البلاد، فكشف عن زيف العلاقة التي ينسجها المرابون، ونبّه إلى الشرك الذي يضعونه للفلاح المصري البسيط، وأكد على أن المرجعية للعلم والمتعلمين فهم منجاة من الجهل وعلى أيديهم يعيد الوطن اعتباره والفلاح كرامته، ولقد كان الربا واحداً من الأساليب التي تفشت في مصر في تلك الأيام وانتشرت، ومكنت الأجانب من امتلاك الأحياء في المدن وحيازة الأرض الشاسعة في الريف.
في قصته: محتاج جاهل في يد محتال طامع، يدين هذا الأسلوب من الثراء ويعرّيه ويعتبره وسيلة مخزية أوقعت الفلاحين المصريين في بحر من العوز والفاقة، ويروي قصة ذلك الفلاح الذي يستدين من تاجر أجنبي مبلغاً من المال ويلبي هذا الأخير طلبه بشروط مجحفة، وفي نهاية الموسم قدم الفلاح محصوله إلى المرابي الذي أخذ يتلاعب بالأرقام كما أبقى الفلاح مديوناً لعام آخر، بعد سنوات تراكم الدين وكثر مما دفع بالفلاح إلى عرض أرضه وجاموسه على المرابي، وهنا يأتي دور النبيه المتعلم والذي رافق العلاقة بينهما من بدايتها ليحتج على المرابي ويذكره بضميره، عند ذلك يفصح التاجر عن سيرة الأجانب في مصر //ياخبيبي المزارع خمار ومن واجبي أن أصبح غنياً في خمس سنوات// (20).
وإن لم تكن قصص النديم ثورية بما تعني هذه الكلمة في عصرنا، فإنها أدب انتقادي من غير شك، فهي رافضة صور الجهل الذي كان الإقطاع وراءه، وفيها يضع يده الناقدة على مسائل اجتماعية خطيرة وقع فيها البسطاء حين كان العلم مقتصراً على القلة النادرة من الناس، فوقع الجهلة ضحية الشطار ولاعبي الخفة و*****ة الذين اتخذوا الشعوذة وسيلة لجمع المال وابتزاز الفقراء دون عناء أو جهد. لقد وضع النديم يده على هذا المرض الاجتماعي الخطير في وقت مبكر، وشنّ معركة سافرة عليه وجهاً لوجه بصدق ومرارة ورغبة في التقدم، وسعى إلى تمزيق سدف هذا الظلام الذي أحاط بأبناء الأمة منذ عهد المماليك والعثمانيين.
خذ من عبد الله واتكل على الله قصة عرض فيها غنياً سافر ولده وطالت غيبته، فذهب الوالد إلى الرمّال يطلب منه أن يكشف عن سرّ هذه الغيبة وبعد حديث طريف يطمئن الرمّال الأب قائلاً: //أنت طالعك سعود، وأيامك سعود، شوف النجم بيخبّر، إنك بتاكل وبتشرب وتقوم وتقعد وتفرح وتزعل وتمشي وتنام وتتيقظ وتكسب وتخسر فوقك سماء وتحتك أرض// (21)، فرح الجاهل بهذا الكلام، وعندما طلب تفسيراً لغيبة ابنه اعتذر الرمّال لأن النجم عليه سحاب كثير، فأخذ الوالد ينتحب لأن نجم الولد ساقط.. ثم آزرته الأم في البكاء وتحوّل البيت إلى مأتم.
قدم الولد من سفره مريضاً، فأسرع به والده إلى الرمّال مرّة أخرى دون أن يلتفت إلى استشارة طبيب عاد لتوه من أوربا يتبرّع لمعالجة المرضى، قال الوالد //إنني أفضل أن يبخّر ولدي بفضلات الحمير أو يموت ولا يقولوش أبو رنطوط دخل الحكيم داره//.
لم يرسم النديم صورة طبقية واعية ومتكاملة لمجتمعه المصري آنذاك، ولكنه في الوقت ذاته لم يبتعد عن هذا كثيراً، فقد حدد حوافّه بفقراء وأغنياء وأوضح أن بحراً من المال والاستغلال كان بينهما، وقال إن كان الفقر قد أفسد أصحاب الفئة الأولى، فالمال قد نخر الأغنياء وأبعدهم عمّا يجب أن يكون عليه توجيه المال واستهلاكه، وهناك من جمع المال وحاز عليه دون أن يكون لديه الفهم في حقيقة الحضارة والتمدن، فالتقليد مثلاً شكل من أشكال الانحطاط وقع فيه أبناء مصر عامة والأثرياء خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وغفلة التقليد قصة يعرض فيها غنياً من حمير المال كما يقول، بنى بيتاً شامخاً مزخرفاً ضمّ مكتبة عامرة، وفي احتفال أقامه صاحب البيت وقف مدعو متعلم أمام خزانة الكتب وسأل عمّا إذا كان الغني يعرف شيئاً من التاريخ أو يحب الشعر أو عمّا إذا كان قد اطلع على سير الأمم الغابرة، أجاب صاحب البيت لا أعرف شيئاً غير الذي تكلمني به أمي وأنا صغير //وقد دعاني لاقتناء الكتب الموضة في بناء البيوت ورتبت مضيفتي لأكون في صف
المتمدنين// (22).

وفي أوساط أبناء الفقراء يعرض النديم المشكلة ذاتها بمرارة، ولعل قصة عربي تفرنج.. من أكثر قصصه خفة ورشاقة ومن أشدّها لذعاً وتهكماً على المقلدين، تخفي بين سطورها دهشة مبطنة بالحزن من زعيط بن معيط.. الشاب الصعيدي الفقير الذي نشأ في بيت من الطين مسقوف بأغصان الشجر يشاركه في سكناه البهائم، تعلّم زعيط في مدرسة القرية وكان والده يعطيه كل يوم أربعة أمخاخ من البصل ولا يطعمه اللحم إلا في العيد يمتعه به مطبوخاً مع البصل أيضاً، أوفدت الحكومة الفتى الصعيدي الفقير، وفي باريس وقع في كل ما يقع فيه شاب سطحيّ وضاع في الدروب والمنعطفات وأخذ من الحضارة قشورها ولم ينل من العلم جوهره ومعناه، وحين عودته احتضنه والده وضمّه إليه وانهالت عليه أمه بالقبلات، ولكن الفتى الصعيدي نفر منهما لأن رائحتهما بصل وثوم وقال لوالده إن طريقة السلام هذه قبيحة ومتخلفة فأنتم يا أبناء العرب //زي البهائم//، في البيت واحتفاء به قدّمت لـه أمه البصل واللحم كعادتها حين كان طالباً، ولكن الفتى المتفرنج لم يعرف اسم البصل إذ كان قد نسيه وقال لها// قولي نونو اللي يبقى له رأس في الأرض ويدمع العينين//.
عندما شكا معيط ولده إلى أحد النبهاء قال النبيه: //إن ولدك لم يتهذب وهو صغير ولم يتعلم حقوق وطنه ولم يعرف حقّ لغته ولا قدّر شرف الأمة ولا مزية الأمة فهو كالغراب عندما قلّد الحجل عجز عن التقليد وفقد طبيعته الأولى// (23).
تكتسب قصص النديم أهمية كبيرة، فعلى الرغم من سذاجتها وعفويتها وعلى الرغم من أن المرء لا يستطيع أن يقول شيئاً هاماً في بنائها أو هيكلها، فهي تعرض عقلية الأمة وتعكس مفاهيمها في مرحلة من المراحل، وتبرهن على قدرة القصة القصيرة كفن يحمل الهمّ الوطني ويعالج مشاكله. إنها قصص متألقة حملت على أوضاع المجتمع المصري المتردية ودفعت به نحو الأمام، وحثّته نحو الانعتاق من خيوط التأخر والجهل، لهذا فهي كما نرى تندرج في آداب الحريّة والتحرر الاجتماعي والواقعية النقدية، عرض فيها النديم أشياء شاهدها وأشكالاً من الجهل عايشها وشخصيات اختلط معها وجعل من ذلك كلّه موضوعات اجتماعية تبرهن على أن حقيقة الحياة تكمن في العلم، كما يكمن الموت في الجهل، وعلى الرغم من وعظها المباشر المبتذل المألوف تظل قصصاً صادقة سليمة النية، أدرك كاتبها دور الأدب الاجتماعي الذي يرسم طريق الخلاص للأمة.
وقصص النديم أيضاً ترتبط بأوثق الصلات مع المجتمع المصري من الناحية الاجتماعية والسياسية، فقد انتقى شخصياتها واستقى مادتها من حياة التشرد التي كان قد لاصق فيها أبناء الريف فنقل أحزانهم وتحدث عن أوجاعهم بصدق ومثابرة، وكان ذلك النمط من الحياة مصدراً غزيراً لأدبه الذي طرح من خلاله أفكاره بوعي ونضج كواحد من أبناء الطبقة المتوسطة الذين تأثروا بجوها تأثراً شديداً، وتبنوا مواقفها الفكرية والاجتماعية حين رفعت شعار المواجهة مع التخلف.
لقد كانت قصص النديم تنساب هادئة بين شرائح المجتمع المصري وتجذب القرّاء وتحرص على إشراكهم بالمأساة وإقناعهم بضرورة التخلص منها وتوجّه الأنظار إلى أوضاع الفلاح المصري وتحث على تحقيق العدالة، وعلى هذا فقد شغف القرّاء بالنديم وأدبه وتسارعوا إلى صحيفته، يصغون إلى قرّائها في الشوارع والمنعطفات تجذبهم إلى ذلك الموضوعات التي اختارها والشخصيات التي انتقاها منهم، ووصفها أدقّ الوصف وأطرفه، وبذلك يدلل النديم على أنه كاتب المرحلة المقبلة ولسان حالها.
إلى جانب القصة كتب النديم المقالة السياسية والفكرية دافع فيها عن الهوية القومية ووجه الأمة الناصع، وقد بات من المعروف أنه عايش فكرة القومية منذ بداية إطلالتها على الشرق، ورأى بحق أن اللغة تمثّل إحدى أهمّ الروابط الاجتماعية لذلك تمسّك ببنيانها المرصوص، ورفض أن تكون رابطة ثانوية أو عابرة بل كان مدركاً أن مستقبل الأمة يتوقف على سلامتها وحسن استعمالها، فهي دافع التقدم الذاتي لأبناء الأمة وضرورة تفاعل بينهم وبين الأمم الأخرى.
في مقالته إضاعة اللغة تسليم للذات.. يتوجّه فيها إلى الناطقين بالضاد في وقت كثر فيه استخدام اللغات الأجنبية في مصر على حساب لغتهم العربية يدعوهم فيها إلى الحفاظ على اللغة الأم وعدم التفريط بها أو إهمالها، وينبه إلى خطر ضياعها //وما يحدثه ذلك على وحدة الهيئة الاجتماعية// (24)، فاللغة سرّ حياة الأمة //بها يترجم اللسان خواطر القلب ويجلو بنات الأفكار ويؤلف القلوب// (25) مما يجعل المجتمع متماسكاً يتعارف المواطن فيه مع أخيه ويفتح قلبه له، فاللغة هي الوطن والمواطن وبضياعها ضياعهما، فلا بديل عن اللغة القومية وليس في مقدور لغة أخرى أن تعيض عنها //لأنها مغايرة للجنسيّة/ القومية// (26).
في المقالة ذاتها يحذّر النديم من تداول اللغة الأجنبية دون الاضطرار إلى ذلك، فإن اقتضى الأمر //فلضرورة اقتضتها المنفعة// (27)، ويرى أن تشجيع اللغة الأجنبية على حساب اللغة القومية //يعزل المواطن عن تراثه ويصبح في يد الأجنبي// (28)، فالأندلس كما يقول التي كانت //روضة الآداب وبستان المعارف العربية ضاعت من أيدي العرب لأنهم استخدموا واستعانوا بلغة مغايرة للغتهم// (29)، وفي نهاية المقال يقترح النديم تدريس اللغة العربية في المدارس بطريقة لا يصعب الأخذ بها يتلقن الطلاب من خلالها دروس الوطنية والتهذيب والأخلاق، ثم يحذر من المعلمين الأجانب الذين يسعون إلى غرس حب بلادهم في طبيعة الأطفال الساذجة كما يقول، عند ذلك وحين تتحقق هذه المبادئ //تجتمع الكلمة ويتوّحد التعليم وتنتظم الهيئة الاجتماعية// (30).
وفي عودته إلى التاريخ يرى النديم وبوعيّ مبكر أن سرّ بقاء الأمة العربية حين مرّت بأدوار ضعف سياسي يعود إلى الحفاظ على لغتها //فلو تركت لغتها واستعملت غيرها لفقدت الجنسيّة// القومية / الأصلية وأخذت قومية اللغة التي استعملتها//(31)، ويذهب إلى أكثر من ذلك ويقول: لو فقدت أمة قدراتها الذاتية تظل الحياة كامنة في نفوس أبنائها ما دامت لغتهم بخير لأن //العصبية محفوظة مع ضعف القوى// (32)، أما الاندثار والنهاية فلن يكونا إلا بضياع اللغة وفقدانها، فاللغة سرّ الحياة كما يقول، وإن كانت أمة مستقلة وخطر لها أن تغيّر لغتها فسوف تفقد استقلالها، فالاستقلال مرهون بقوة اللغة وإحيائها، فإذا تمّ التغيير //فقد الاستقلال ووقع الخذلان لأن اللغة عنوان الأمة ولن يكون هناك رابط أقوى منها وأهم//.
كان النديم علماً من أعلام الحرية عمل لها ومات تحت لوائها دون أن تثنيه حكومات الخديوي توفيق المستبدة عن مواقفه، فهو المثقف العربي البارز الذي أدرك خطورة الاستبداد على أبناء الأمة ومستقبلهم، ولاحظ أنه ثمّة علاقة بين المستبد وبين الأقلام المزيفة والصحف المزورة التي تنبت في مثل مناخ الاستبداد هذا، وتقيم تحالفاً غير مقدّس يستنبت الرياء والنفاق ويلغي الحريّة، وفي إلغائها كما يرى مرض الأمة وانحطاطها ولن يكون ثمة إصلاح إلا بتغيير شكل الحكومة المستبدة ونظامها السياسي، لذلك اقترح العمل العسكريّ المسلّح الذي يفضي إلى برلمان حر يغذي شجراته نقد حر.
ففي مقالته الهامة.. حر الكلام كلام الحر.. يهاجم فيه الأقلام والصحف المأجورة التي وضعتْ نفسها في خدمة الخديوي ورئيس وزرائه والتي أخذت تبرر سياستهما، ويرى النديم أنها أقلام بعيدة عن الشرف ولا تنال ذرة من الحريّة، ثم إنها منحازة صودرت منها حريّة التعبير ولا تقدم للجماهير الحقيقة كما هي //لأن الكلام الحر ما كان غير مقيّد بمشرب مقتصراً على شرح الحقيقة بلا حشو ولا تنميق وكل قلم دعا إلى تأييد حاكم لا يشم رائحة الحريّة إذ القصد منه التزلف والتملق وجذب قلوب الأمم بألفاظ منمقة// (33). ويضيف //وإن بدت هذه الأقلام حرّة فحريتها مجردة من محتواها لأنها تحسّن عمل أمير وتؤيد ملكه وتمدح فئة وكذلك الجرائد السياسية على اختلاف مظاهرها وتباين أغراض محرريها كلها تدعو إلى ما تدعو إليه أقلام المحررين وتدخل فيما دخلت فيه، فلا علاقة لها بالحريّة ولا وصلة بينهما إلا في الألفاظ// (34)، فمن هو الحرّ كما يرى النديم؟ يقول //إن الحر من ملك أمره ولم تتقيّد أفكاره بغرض// (35)، ويعترف بأنه ربما كانت هناك أقوال أخرى في هذه النقطة، ولكن مهما كان شكل الحكومة وشعارها ونهج حكمها //فلن يكون هناك حريّة مع محكوم عليه/ ((36).
وفي المقالة نفسها يفسّر النديم الحريّة التي يفهمها تفسيراً طبقياً في زمن لم يسبقه فيه أحد إلى ذلك، وينظر إليها نظرة ثورية يعبّر فيها عن وعي وإدراك لطبيعة الصراع الذي تديره القوى السياسية آنذاك، ويعتبر الجماهير قوّة هامة في هذه المعركة الطبقية التي استشف ملامحها بثاقب بصره، ومن هنا جاءت دعوته إلى المجالس النيابية الحرّة التي تشكّل الجماهير الأكثرية فيها لأن كلّ حكومة //تصدر من القوانين ما يخدم أغراضها، فما دامت المجالس مقصورة على أرباب الثروة وأهل الكلام وليس كل الأمة// (37) فسوف تخدم تشريعاتها مصالح واضعيها مما سيتعارض مع مصالح الجماهير، إن انتخاب مثل هذه المجالس النيابية يتوقف على وعي المواطن الذي استضاء بنور العلم، فهو يدعم أسسها ويصوغ قانونها ويطبقه ثم سوف يسهم بإقامة حكومة وطنية تعتني //بتهذيب الناشئة وتربيتها على محاسن الأخلاق والشروع في محاربة الجهل وتعميم التعليم وتنوير الأفكار// (38) لأن العلم رديف الحريّة وحليفها كما يقول:
يتميّز النديم عن غيره من روّاد النهضة بأنه مثقف عميق الثقة بجماهير الأمة و فلاحيها خاصة، وفي وقت مبكر انحاز إلى جانب الفقراء واعتبر //أنهم أصل كل شيء// مرتكزاً في ذلك على الإسلام وتقاليده الثوريّة، وعلى النسمات التي كانت تهب على مصر من الغرب، وعلى ما كان قد سمعه واختزنه من أستاذه الأفغاني دون أن يغفل تجارب الشعوب الأخرى كالفرنسيين وثورتهم التي تناثرت شظاياها على كل أصقاع الأرض، وإن كان الأفغاني قد توجّه إلى النخبة المثقفة من أبناء العالم الإسلامي لمناجزة الاستبداد والإنكليز، فالنديم قد دعا المثقفين إلى قيادة الجماهير من أبناء الفقراء والأخذ بيدهم والوصول بهم إلى تمثيل الأمة لعروبتهم أولاً وأحقيتهم في ذلك ثانياً، ومن هنا جاء تأييده الصارم والمبدئي لأحمد عرابي في ثورته.
في عدد أيلول لعام 1881 من صحيفة التنكيت والتبكيت فنّد المزاعم التي روّجها محتكرو السياسة في مصر من كبار الملاكين والإقطاع ممن أنكروا أهلية الفقراء وأحقيتهم في قيادة الأمة وتمثيلها، في ذلك المفصل الحرج من تاريخ البلاد كتب يقول //إن كان الانتخاب مقصوراً على الأغنياء دون الأذكياء، كان مجلس النوّاب وبالاً على الشعب والوطن، فابن الغني مولع بالاستبداد والاستعباد لأنه يميل إلى استخدام الفقراء بلا مقابل وضرب الضعفاء من غير أن يعارض أو يحاكم// (39)، ولكن من أين استمدّ أبناء الأغنياء هذه القوّة وذلك التسلّط كلهُ ؟، أليس من الثروة التي أدركوها وأصابوها كما يقول //بنهب الفلاح وظلمه، فوجود مثلهم في مجالس النوّاب علّة لزيادة هلاك الشعب، فيشرعون من القوانين ما يضمن مصالحهم ليضعفوا بذلك حدّة أذهان الفقراء ويحبسوا الثروة لأنفسهم(40).
وبوعيّ ثوريّ مبكّر ربط النديم بين الإقطاع المصري والأتراك كطبقة حاكمة تحالفت مع الإنكليز وغضّت الطرف عن نهب ثروات البلاد وخيراتها لتجعل من الشعب ومجالسه النيابية التي تقيمها //رواية تياتريّة يشخصونها ليضحكوا على أهلها// (41)) ولم يأت عام إلا ويظهر صدق وعيّ النديم عندما تتحالف هذه القوى التي سبق ذكرها، وتلوي ذراع الثورة العرابية في يوم مشؤوم.
كان النديم واثقاً من قدرات الفقراء ووعيهم السياسي، ويرى أنهم جديرون بالحرية لا كما يدعي الخديوي وأنصاره من أنهم لا يستحقونها لقصور في فهمهم، فهم كما يقول النديم بإصرار //يحملونها ويحفظونها ويسيرون بها//، أما ما يدعيه الخديوي ورئيس وزرائه من الحريّة فلفظ لا مدلول له، محجور عليه لا يتلفّظ به إلا في سرداب ولا يكتب إلا في أوراق لا يعلم ظاهر الوجود صورتها//، فلن تكون هناك حريّة ما لم تتداول الجماهير آراءها وتتناقلها في كل مكان //على أعواد المنابر وألسنة المحابر// فالجرائد التي تدافع عن حريّة شوهاء في عهد توفيق إنما هي جرائد مأجورة تروّج لحريّة مزيفة كما يقول.
ويتساءل النديم هل في تداول الأحاديث بصوت الهمس في آخر الليل بعد أخذ المواثيق شيءٌ من الحريّة؟ //أليس هذا هو العدم بعينه أو دعوى التحلي بها عبث وهوس..؟// فالحريّة السياسية الحقّة كما يراها ويدعو إليها هي التي تكون موقوفة على //إباحة ذكرها في المحافل والمجامع والطرقات، ثم إنها تخويل الإنسان حركة لا يعارض فيها إلا إذا صادر غيره//، أما ذلك الذي يدعي وجود الحرية على طريقة توفيق وأعوانه //فهو لا يراها إلا إذا اختلى بنفسه وإن يرفض ما تطلب منه الحكومة المستبدة ويظهر العصيان فهو في قرارة نفسه عندما ينادي للتصديق أجاب بالسمع والطاعة والانقياد وأظهر الاستحسان//.
إن مقالات النديم تفصح عن وعي مبكر بانقسام المجتمع إلى فقراء وأغنياء وإلى ظالمين ومظلومين، فشحنه ذلك الواقع المصري بزخم ثوريّ لم نعرفه إلا في كتابات أستاذه الأفغاني الذي كان مرجلاً يفور أو برميلاً من البارود يتهيأ لينفجر في وجه طغاة الأرض آنذاك، فاستمد النديم من أستاذه طاقته الثوريّة وشنّ هجوماً ضارياً على الأغنياء من إقطاعيين وكبار ملاّكين استعرض فيه جرائمهم وقدّمهم إلى التاريخ خونة بحقّ شعبهم يستحقون اللعنة منه واعتبرهم//حزب الضلال تقوّى على حزب الكمال، وأغرقوا البلاد بالحشاشين واللصوص والنصّابين والغانيات والنشّالين فأحيط البلد باستحكامات القبائح، وهاهي مصر تقع على شاطئ بحر الجنيهات تحيطها العاهرات والمضللون والمخرفون وقد أطلق عقالها حمير المال الذين هم أشّد قسوة من الوحوش//.
وفي نداء يشوبه الحزن والمرارة يثوب فيه النديم إلى هدوئه يدعو أصحاب الأموال أن يعودوا إلى ضمائرهم، وألا يفرحوا بما ملكت أيديهم طالما أن في البلاد جوعاً وبؤساً، وإليهم قال: //فيا أيها الفرح بما ملكت يداه ما أحزنك لو تأملت المضطّر يتضوّر جوعاً والبائس ينتفض برداً والغريب لا مأوى له يستكن فيه واليتيم لا قيّم له يرشده ويعلمه والمريض المعدم لا مال يطيّب فيه نفسه ولا متاع يبيعه لينفعه في حفظ حياته //وفي زفرة تختزل شخصية النديم الحسّاسة المتوهجة بكل كرب الفقراء المصريين وبلواهم في عهد توفيق يقول لمن حجب الحياة عن أبناء شعبه //أفٍ لك ولمالك قلّ أو كثر فإنك تحجر على الإنسان قوته ومسكنه وملبسه بما تصنعه من اكتناز المال، وما ظهرت إلا لتخريب البلاد من حصر النقد عندك وعدم تمكن الأفراد مما يبتاعون// (42).
لقد لعبت أفكار النديم هذه وعلى ضوء ما قد أتيح لمجتمعه من التطور دوراً تقدمياً ثورياً في عصره، فقد قرن بين الحرية والعدل الاجتماعي ودعا إلى العنف الثوري وقاد التيار العربي المتطرف بعد طرد الأفغاني من مصر، وأعطى حركة المعارضة بعداً اجتماعياً مما جعله كاتباً ناضجاً من كتاب المقالة السياسية والاجتماعية، ورمزاً من رموز المعارضة له أتباعه ومريدوه من مثقفين شعبين شديدي الارتباط بجماهير الأمة لم ترد أسماؤهم في التاريخ، لذلك كله نظرت إليه الأبصار وتعلقت به القلوب ودخلت كلماته كل بيت وتخطّفت الجماهير صحيفته واحتفت به الشخصيات الهامة وفي مقدمتها أحمد عرابي.

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59