عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 01-27-2012, 10:26 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

خبر عز علي مستمعه وأثر في قلبي موقعه خبر تستاء له المساميع وترتج منه الأضالع خبر يهد الرواسي ويفلق الحجر القاسي كادت له القلوب تطير والعقول تطيش والنفوس تطيح خبر يشيب ويذيب الحديد قد كاد من الحزن أن تنقبض الألسن عن هذا النعي الفادح وتخرس وتقصر الأيدي عن التعزية بهذا الرزء الفادح وتيبس.
"وكتب أيضاً في الأمر بالصبر على المصيبة"
ماذا نصنع والبلاء نازل والموت حكم شامل وإن لم نعتصم بحبل الصبر فقد اعترضنا على مالك الأمر عليك بعزيمة الصبر وصريمة الجلد فإنها في الدين حتم وفي الرأي حزم واعلم بأن الميت لا ترده نار تلهبها من الهم على كبدك ولا يرجعه انزعاج تسلطه بالحزن على جسدك فخير لك من ذلك أن تفعل ما يفعله الذاكرون وتقول: (إِنّا للّهِ وَإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ) [البقرة: 156].
"وكتب أبو الفضل بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398ه?"
إذا ما الدّهر جرّ على أناسٍ

مصائبهُ أناخَ بآخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

أحسن ما في الدهر عمومه بالنوائب وخصوصه بالرغائب فهو يدعو الجفلى ذا ساء ويخص بالنعمة إذا شاء فليفكر الشامت: فإن كان أفلت فله أن يشمت: ولينظر الإنسان في الدهر وصروفه والموت وصنوفه من فاتحة أمره إلى خاتمة عمره هل يجد لنفسه أثراً في نفسه أم لتدبيره عوناً على تصويره أم لعمله تقديماً لأمله أم لحيله تأخيراً لأجله كلا بل هو العبد لم يكن شيئاً مذكوراً خلق مقهوراً فهو يحيا جبراً ويهلك صبراً وليتأمل المرء كيف كان قبلاً فإن كان العدم أصلاً والوجود فضلاً فليعلم الموت عدلاً...

والموت أطال الله بقاء مولاي خطب فقد عظم حتى هان وأمر قد خشن حتى لان ولعل هذا السهم قد صار آخر ما في كنانتها وأزكى ما في خزانتها ونحن معاشر التبغ نتعلم الأدب من أقواله والجميل من أفعاله فلا نحثه على الجميل وهو الصبر ولا نرغبه في الجزيل وهو الأجر فبهما رأيه.
"وكتب أيضاً"

(1/91)
يا سيدي: المصاب لعمر الله كبير وأنت بالجزع جدير ولكنك بالصبر أجدر والعزاء عن الأعزة رشد كأنه ألغي وقد مات الميت فليحي الحي.
"وكتب فقيد اللغة الشيخ ابراهيم اليازجي المتوفي سنة 1906م"
أشباح تروح وتجي وآجال تمسي وتغتدي وأنفاس تتقطع من دونها حزناً وأسفاً وعبرات تتفطر وجداً ولهفاً وما عمدت الأقدار إلى استنزاف مدمع ولا أرادت الأيام إيلام موجع إنما هي سنة الخلق كون يليه زوال وعقد يسبقه انحلال وأن لكل شيء أجلاً موقوتاً وإن لكل أجل سبباً مقدوراً وأن الإنسان لفي كل ذلك شاهد يسمع لاهياً ويبصر ساهياً وليس في يده أن يسترد ماضياً ولا أن يرد آتياً ولقد وددت أن أعزيك لولا ما يغالبني على العزاء من كبد حرى ومقلة شكرى وزفرة تترى ثم وددت أن أستبكيك لولا أنيب بكيت حتى لم أدع في البكاء من واد وأحييت ليالي بالنوح حتى ما بالنجم سهاد ثم لم يزدني البكاء على سقم جسدي ولم يزدني النوح على صفر يدي إلا من كبدي وإن الأقدار سهام إذا انطلقت لم ترد وإن المتطلع إلى الفائت لطويل شقة الكمد وإن الخطوب لهي هي إنما تتفاوت عند الجلد.
وإن الحصى عند الجزوع ثقيلةٌ

وضخم الصّفا عند الصّبور خفيف
والله المسؤول في إطالة بقائك قرة للعيون وجبراً لخاطر المحزون بمنه وكرمه.
الفصل العاشر في رسائل الأجوبة
"كتب الوزير عبد الله باشا فكري المتوفي سنة 1307ه?"

(1/92)
سيدي سلمك الله وحياك وأسعدك برؤية محياك وزاد عزك وعلياك وحرس دينك ودنياك وجمعني على بساط المسرة وإياك ولا حرمني دوام لقياك ولا برح الدهر مبتسم الثغر بمحاسن معاليك مباهياً أعصار الأوائل بأيامك ولياليك محلياً أجياد المفاخر بزواهر لآليك: ورد علي كتابك الكريم مورد إعزاز وتكريم فبل بعض ما في الجوانح من الصدى وأنعشني ولا انتعاش الزهر بمباكرة الندى وجلا علي من البلاغة روضاً غضاً وأدار لدي صفواً من سلاف المحبة محضاً وهزني هزة النشوان شوقاً وطرباً واستفزني بمعجز آياته الحسان عجباً وعجباً ونثر علي من محاسن لفظك الحر وكلماتك الغر ما يخجل الدراري ويفضح الدر.
كلامٌ كستهُ بهجةُ الحسن رونقاً

هو ***** لا بل جلَّ قدراً عن السّحر
"وكتب أيضاً وهو بالآستانة العلية في يوم برد كثير الأمطار"

(1/93)
كتبت إليك والأمطار ساجمة بطلها ووبلها وعساكر البرد والبرد هاجمة بخيلها ورجلها والسماء متلفعة بأذيال السحاب وكأن الشمس خافت من الطل فتوارت الحجاب والجو مسكي الرداء عنبري الأرجاء كأنه وعليه ثوب الغيم مزرور قد وجل من صوله البرد فلبس فروة السمور والغمام على الأفق بكلاكله وهز من البرق بيض مناصله ونشر في الجو طرائق مطارفه وجاد على الأرض بتليده وطارفه وثقل على كاهل الهواء كالطير بل جناحه بالماء وقرب حتى كاد يمسك باليدين ويعتصر بالراحتين أو كأنه مرآة مذهبة تبدو وتخفى أو جذوة متلهبة توقد وتطفئ والرعد يهدد بزواجر زماجره السحائب فيبكيها والطير يتلو سطور الندى في طروس الثرى فيمليها ويطرب بأفنان الألحان أفنان البان فيعليها ويثنيها ويقرأ على رؤوس الأغصان أوراده الحسان فيقربها ويرقيها وقوس السماء يرمي بسهام وبله جنوب الشقائق فيصميها ويدميها والريح أخلاف الغمائم فتمر بها وترضع بدرها بنات النبات في حجور أراضيها فتربيها وتربيها وترصع بدرها تيجان القضبان وتارة تجعله عقوداً في تراقيها أو دموعاً في أماكقيها وكأن الحر خاف من بنادق البرد ومدافع الرعد ففر إلى مصر ونواحيها وأصبح نزيل من فيها لكرم أهليها وكأن غيرها بخلت عليه فلم تقبله عندها ضيفاً أو غلط الناس في حساب الفصول فظنوا شتاها صيفاً.
"وكتب المرحوم حفني بك ناصف إلى الشيخ علي الليثي المتوفي سنة 1313ه?"

(1/94)
وصل يا مولاي إلى هذا الطرف ما خصصت به العبد من الطرف "قفص" من عنب كاللؤلؤ في الصدف تتألق عناقيده كأنها من صناعة "النجف" ولعمر الحق أنها تحفة من أحلى التحف لا يعثر على مثلها إلا بطريق "الصدف" فقابلناه لثماً بالأفواه ورشفاً بالشفاه واحتفينا بقدومه كل الاحتفاء ولم نفرط في حبه عند اللقاء بل حللنا له الحبي وقلنا له أهلاً وسهلاً ومرحباً وأوسعناه عضاً ولثماً وتناولناه تجميشاً وضماً وحفظنا في صدورنا سره المكنون وطويناه في غضون البطون فطربت من تعاطيه الأرواح ولا غرو فهو أصل الراح وانتشينا ولم نحمل وزراً وثملنا ولم نذق طعماً مراً فهو كبيان مهدية سحر ولكنه حلال ولعب إلا أنه كمال فإن أكسبت الشمول شاربها قوة في الجنان ونفحت ذائقها طلاقة في اللسان فقد سرت في أجسامنا من حرارته شجاعة "ليثيه" ودبت في كلامنا من مذاقته فصاحة "علوية" وخلصت إلينا منه فوائد لا يحيط بها العلم ونجمت عنه منافع ليس يصحبها إثم، فإن زعم الأولون أن في الخمر معنى ليس في العنب فقد تغير الحال في هذه الهدية وانقلب وانكشف للمتأخرين حقيقة الأمر أن في العنب معنى ليس في الخمر.
وكان الأحرى بهذا العنب أن يناط بالنحور أو تزين به الصدور فما هو إلا اللؤلؤ لكنه سلم من سجن البحار وما هو إلا الدر لكن ليس فيه صغار.
.ومنْ كنتَ بحراً له يا علي=لا يلقطُ الدُّرّ إلاّ كباراً وما ضره أن ضمه القفص حصة من الحصص فإن كريم الطير يودع في الأقفاص والقلب ليس له من حنايا الضلوع خلاص فلا بدع أن تستقل في حباته حبات القلوب ويستملح في جنب حلاوته رضاب المحبوب وكأن الثريا لما أخذت شكله فغر الهلال فاه لعنقودها يريد أكله فهو يطاردها في السماء ويأخذ عليها الطريق من الوراء وهي تجري من الأمام مخافة الالتهام هذا لمجرد تشابه في الشكل فكيف بالثريا لو أشبهته حلاوة ورياً فلله تلك العناقيد ما اشد تألقها وأصفى ماءها وأحسن رونقها من كل عنقود تخاله عمود الصبح أحاطت به

(1/95)
الدراري أو غصن البان تعلقت به القماري.
فسقى الغيث أرضاً أنبتته ولاثل الدهر عروشاً حملته وأرضاً عرفتنا بأثمارها حلاوة الجنة وأبرزت لنا لمحة من محاسنها المستكنة وأنساناً عنبها ذكرى دمشق وأزمير وأنباناً غارسها مصر خير مستقر (وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر: 14] وعروساً كالعروس تتيه في الحلي والملبوس تحسدها المجرة في السماء وتود لو تكون لها هذه البهجة والرواء لازال مولاي يهدي ويهدي وصنائعه تعيد في ثنائه وتبدي
"وأجابه المرحوم الشيخ علي الليثي المتوفي سنة 1313ه?"
وبعد فقد وصل كتاب القاضي الفاضل وأرج الأرجاء بلطيف فواضله وشريف الفضائل وما كنت أظن أن يحصل من زبيبه خماره حتى رأيت الفاضل سبكه في قوالب شتى وصاغه وأتى بما أدهش اللب من أساليب البلاغة فتارة عقداً على النحور وتارة في ميادين الطلب تطارده البدور وآونة دراً مكبراً ومرة خمراً عنبراً وساعة دوالي "نجفة" وساعة غصناً تعلق به الهزار وألفه.
تكاثرتِ الظّباءُ على خراشِ

فما يدري خراشٌ ما يصيدُ
عجباً لك أيها الفاضل: هذا مع اشتغال بالك وإقبالك على ما لديك من مراعاة عدلك واعتدالك فكيف لو تفرغت لهذا الأمر ولإراحة النفس اعتصرت من العنقود قدحاً من خمر وامتطيت طرف اليراع منهجاً مناهج الطرس ودبجت بياض صفحاته بمحاسن حلى النفس فلله أنت من بليغ بلغ ما يريد وقلد فرائد آدابه كل جيد وأفاد ***** منثوراً في فواصله وأقام بعوامل أقلامه تثقيف عوامله وأوجب علينا الشهادة له بالسبق فأذعنا مسلمين والحق أحق: هذا ولولا أن يقاتل فلان جفا وما احتفل بكتاب أخيه ولا احتفى وإن كان شيبي يلزمني ذلك كما أن شباب (البيك) يسلك به أقوم المسالك لترلات عيي وما أشرت ورأيت طي خيراً لي مما نشرت وجعلت كتاب سيدي في عنقي تميمة ورؤحت النفس تيمناً بمس آياته الكريمة وقلت كفاني ما أحاط بالعنق من قلائده حيث العبد لا يبلغ في الفخامة كمال سيده.

(1/96)
وهبني قلتُ هذا الصُّبحُ ليلٌ

أيعمي العالمون عن الضّياء
لازالت برد الترسل بيننا مستمرة ومدد التوصل على جناح التقرب مستقرة ولا برح الجناب في كل بداية يترقى كما يحب من غاية إلى غاية والسلام.
الفصل الحادي عشر في رسائل الوصايا والشفاعات
"من كلام له عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب في غزوة الفرس"
إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة وهو دين الله الذي أظهره وجنده الذي أعده وأمده حتى بلغ وطلع حيثما طلع ونحن على موعود من الله والله منجز وعده وناصر جنده: ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً.
والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك.
إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا اصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكبلهم عليك وطعمهم فيك فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره: وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة.
ومن وصية له عليه الصلاة والسلام قالها بصفين

(1/97)
أما بعد فقد جعل الله عليكم حقاً بولاية أمركم ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف لا يجلاي لأحد إلا جرى عليه ولا يجري عليه الأجرى له ولو كان لأحد أن يجر ي له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه وتوسعاً بما هو من المزيد أهله ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً اقترضها لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافأ في وجوهها ويجب بعضها بعضاً ولا يستوجب بعضها إلا ببعض وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها سبحانه لكل على كل فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدجى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العجل وجرت على أذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء وإذا غلبت الرعية وإليها وأجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور وكثر الإدغال في الدين وتركت محاج السنن فعمل بالهوى وعطلت الأحكام وكثر علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل ولا لعظيم باطل فهل فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار وتعظم تبعات الله عند العباد فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه فليس أحد وإن اشتد على رضاء الله حرصه وطال في العمل اجتهاده لبالغ حقيقة ما الله أهله من الطاعة: ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم والتعاون على إقامة الحق بينهم وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته يفوق أن يعان على ما حمله الله من حقه ولا امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه.
(1/98)
فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته فقال عليه السلام إن من حق من عظم جلال الله في نفسه وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه وإن أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله ولطف إحسانه إليه فإنه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا ازداد حق الله عليه عظماً وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء ولست بحمد الله كذلك ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء: وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لابد من إمضائها فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست في نفسي يفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلني إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا ما لا نملك من أنفسنا وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا البصيرة بعد العمى.
ومن وصية له عليه السلام وصى بها جيشاً بعثه إلى العدو

(1/99)
فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبيل الأشراف وسفاح الجبال أو أثناء الأنهيار فيما يكون لكم رداء ودونكم مرداً ولتكن مقالتكم من وجه واحد أو اثنين واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن: واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم وعيون المقدمة طلائعهم وإياكم والتفرق فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة ولا تذوقوا النوم إلا غراراً أو مضمضة.
?"ومن وصية له عليه السلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات"

(1/100)
انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له ولا تروعن مسلماً ولا تجتازن عليه كارهاً ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ولا تخدج بالتحية لهم ثم تقول: عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل الله في أموالكم من حق فتأدوه إلى وليه فإن قال قائل لا فلا تراجعه: وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخفيه وتوعده أو تعسفه أو ترهقه فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه فإن أكثرها له فإذا أتيتها فلا تدخل عليها متسلط عليه ولا عنيف به ولا نتفرن بهيمة ولا تفرعنها ولا تسؤن صاحبها فيها واصدع المال صدعين ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره فلا تزال بذلك حتى يبقى ما فيه لحق الله في ماله فاقبض حق الله منه فإن استقالك فأقله ثم اخلطهما ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق الله في ماله ولا تأخذن عوداً ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة ولا ذات عوار ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه رافقاً بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم ولا توكل بها غلا ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً غير معنف ولا مجحف ولا مغلب ولا متعب ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك نصبره حيث أمر الله فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصليها ولا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها ولا يجدنها ركوباً وليعدل بين صواحبتها في ذلك وبينها: وليرفه على اللاغب وليستأن بالنقب والظالع وليوردها ما تمر به من الغدر ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق وليروحها في الساعات وليمهلها عند النطاف والأعشاب حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات غير متعبات ولا مجهودات لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه ( فإن ذلك أعظم
(1/101)
لأجرك وأقرب لرشدك إن شاء الله.

وقال عليه السلام وقد سمع رجلاً يذم الدنيا: أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها المخدوع بأبلطيلها ثم تذمها أتغتر بالدنيا ثم تذمها أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك متى استهوتك أم متى غرتك أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى كم عللت بكفيك وكم مرضت بيديك تبعي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء لم ينفع أحدهم إشفاقك ولم تسعف بطلبتك ولم تدفع عنه بقوتك وقد مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك: إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فيهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباء الله ومتجر أولياء اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة فمن ذا يذمها وقد آذنت بينها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها فمثلت للهم ببلائها البلاء وشوقتهم بسرورها إلى السرور راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيباً وترهيباً وتخويفاً وتحذيراً فذمها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون يوم القيامة ذكرتهم الدنيا فتذكروا وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا.
"عهد الإمام علي المتوفي سنة 401 ه? لمالك بن الحارث الأشتر النخعي"
"حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها وإصلاح أهلها وعمارة بلادها"

(1/102)
اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثلى ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك كما كنت تقول فيهم وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسنة عباده فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت: واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدى لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ولا تندمن على عفو ولا تبجحن بعقوبة ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة ولا تقولن إني مؤثر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرب من الغير وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ويكف عنك من غربك ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك وإياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته فإن الله يذل كل جبار ويهين كل محتال أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إن لم تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان الله حرباً حتى ينزع ويتوب وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع دعوة المظلومين وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضاء الرعية فإن سخط
(1/103)
العامة يجحف برضاء الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضاء العامة وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة في البلاء وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقل شكراً عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع وأخف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة: وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة فليكن صفوك لهم وميلك معهم: وليكن ابعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب سترة من رعيتك: أطلق عن الناس عقدة كل حقد واقطع عنك سبب كل وتر وتغاب عن كل ما لايصح لك ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين: ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك من الفقر ولا جباناً يضعفك عن الأمور ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله: إن شر وزارائك من كان قبلك للأشرار وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة وأنت واحد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممن لا يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثماً على إثمه أولئك أخف عليك مؤونة وأحسن لك معونة وأحنى عليك عطفاً وأقل لغيرك إلفاً فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك: ثم ليكن عندك أقولهم لك بمر الحق وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعاً ذلك من هواك حيث وقع: وألصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة: ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه: واعلم أنه
(1/104)
ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه للمؤونات عليهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم فليكن منك في ذلك أمر يجمع لك حسن الظن برعيتك فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً: وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنة تضر بشيء مما مضي من تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها: وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك: واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الأنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سمى الله سهمه ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه ( عهداً منه عندنا محفوظاً فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلا بهم ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله تعالى لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون من المقاعد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغ رفق غيرهم: ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم وفي الله لكل سعة: ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام
(1/105)
والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزومه الحق والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأطهرهم جيباً وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على كالأقوياء ممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فإنهم جماع من الكلام وشعب من العرف: ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من والدهما ولا يتفاقمن من نفسك شيء قويتهم به ولا تحفرن لطفاً تتعاهدهم به وإن قل فإنه داعية إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعاً به وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه: وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوق أهلهم حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك: وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية وأنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتههم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديل ما أبلى ذوو البلاء منهم فإن كثرة الذكر لحسن فعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله تعالى: ثم أعرف لكل امرئ منهم ما أبلى ولا تضيفن بلا ء امرئ إلى غيره ولا تقصرن به دون غاية بلائه ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً ولا ضعة امرئ أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً: واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله سبحانه لقوم أحب إرشادهم (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي
(1/106)
شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ) [النساء: 59] فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة: ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر عن الفيء إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستمليه إغراء وأولئك قليل: ثم أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيح غلته وتقل معه حاجته إلى الناس وأعطه من المنزلة لديك مالاً يطمع فيه
(1/107)
غيره من خاصتك لتأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيها بالهوى وتطلب به الدنيا ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولاهم محاباة وأثره فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام فإنهم أكرم أخلاقاً واصح أعراضاً وأقل في المطامع إشرافاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً: ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو خانوا أمانتك: ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية وتحفظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله: وليكن نظرك عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحاطة أرض اعتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم: ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلدك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك بى استفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم فربما حدث من الأمور ما إذا عول فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به
(1/108)
فإن العمران يحتمل ما حملته وإنما يأتي خراب الأرض من أعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف أو نفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم وأخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك وإصدار جواباتها على الصواب عنك فيما يأخذ لك ويعطى منك ولا يضعف عقداً اعتقده لك ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل: ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم في العامة أثراً وأعرفهم بالأمانة وجهاً فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره واجعل لرأس كل من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها ولا يتستت عليه صغيرها ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجربها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها فإنهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته: وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فإن رسول الله ( منع منه وليكن البيع سمحاً بموازين عدل واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب في غير إسراف: ثم الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة
(1/109)
لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لأحكامك الكثير المهم فلا تشخص همك عنهم خدك لهم وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحتقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم ثم أعمل فيهم بالأعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم: واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع فإني سمعت رسول الله ( يقول في غير موطن: "لقد تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع" ثم احتمل الخرق منهم والعي وسنح عنهم الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته وبوجب لك ثواب طاعته وأعط هنيئاً وامنع في إجمال وإعذار: ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك وامض لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه: واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله تعالى أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية: وليكن في خاصة ما تخلص لله به دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة فاعط فاعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ووف ما تقربت به إلى
(1/110)
الله سبحانه من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص بالغاً من بدنك ما بلغ وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً فإن فيلا الناس من به العلة ولا الحاجة وقد سألت رسول الله ( حين وجهني اليمن كيف اصلي بهم فقال: "صل بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيماً" وأنا بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور وليست على الحق سمات نعرف بها ضروب الصدق من الكذب وإنما أنت أحد رجلين إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه أو فعل كريم تسجيه أو مبتلى بالمنع: فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة، ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وخاصتك قطيعة ولا يطعمن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة: وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فإن مغبة ذلك محمودة وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك وأعدل عنك ظنونهم بأصحارك فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقاً برعيتك وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويم على الحق ولا تدفعن صلحاً دعاك ولله فيه رضا فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليغتفل فخذ بالحزم واتهم في ذلك
(1/111)
حسن الظن وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر فلا تغدرون بذمتك ولا تخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته وحريماً يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه كعهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك فيه من الله طلبة فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك، إياك والدماء وسفكها بغير حلها فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة زولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه يتولى الحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لأن كفيه قود البلدان وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإياك والمن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك فإن المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور الحق والخلق يوجب المقت عند الله والناس قال سبحانه وتعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن
(1/112)
تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [الصف: 3] وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التسقط فيها عند إمكانها أو اللجاجة فيها إذا تنكرت أو الوهن عنها إذا استوضحت فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه، وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون فإنه مأخوذة منك لاغيرك وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم: أملك حمية أنفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار وزلن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة أو سنة فاضلة أو اثر عن نبينا ( أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي دليلك لكيلا يكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه من حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة وإن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة (إِنّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ) [التوبة: 59] والسلام على رسول الله ( الطيبين الطاهرين.

"وكتب أبو بكر الصديق المتوفي 7 جمادى الثانية سنة 13ه? إلى بعض قواده"

(1/113)
إذا سرت فلا تعنف أصحابك في السير ولا تغضبهم وشاور ذوي الآراء منهم واستعمل العدل وباعد عنك الجور فإنه ما افلح قوم ظلموا ولا نصروا على عدوعم و (إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلّوهُمُ الأدْبَارَ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَىَ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ) [الأنفال: 15 16] وإذا نصرتم عليهم فلا تقتلوا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً ولا تحرقوا زرعاً ولا تقطعوا شجراً ولا تذبحوا بهيمة إلا ما يلزمكم للأكل ولا تغدروا إذا هادنتم ولا تنقضوا إذا صالحتم وستمرون على أقوام في الصوامع رهبان ترهبوا الله فدعوهم وما انفردوا إليه وارتضوه لأنفسهم فلا تهدموا صوامعهم ولا تقتلوهم والسلام.


__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59