عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 04-10-2016, 07:39 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,207
ورقة التدين.. الظاهرة الإنسانية الأزلية (1/ 3)


التدين.. الظاهرة الإنسانية الأزلية (1/ 3)
ـــــــــــــــــــــ

(أنور قاسم الخضري)
ـــــــــــ

3 / 7 / 1437 هـ
10 / 4 / 2016 م
ــــــــــ

التدين.. الإنسانية 5c7e2a6e91ce4d519bcb1c409c1797bc.png






تحتل قضايا الدين جزءا كبيرا من مساحة الفكر والوجدان الإنساني عبر التاريخ، ذلك أن التدين أمر حاضر في أعماق الإنسان. ويكثر الجدل حول الظاهرتين في العصر الحديث بعد بروز الإلحاد كدين عالمي، والعلمانية كنهج سياسي. ومنشأ هذا الجدل أمران: تحول الدين من خلال التدين البشري المنحرف إلى عنصر انحطاط وتعنت يشق بالإنسان وسيره في الحياة. والإغراق في الشهوات المادية إلى حد الرغبة للتخلص من الدين، لإراحة الضمير وصراع النفس والقضاء على نوازع التدين. من هنا كان الحديث حول التدين في غاية الأهمية باعتباره حاضرا في العاملين كليهما. وهذا ما سوف نتطرق له في عدة مقالات –بإذن الله تعالى.

التدين والدين:
------

الدين في اللغة: مشتق من الفعل الثلاثي: (دان)، وهو تارة يتعدى بنفسه، وتارة باللام أو الباء، ويختلف المعنى باختلاف ما يتعدى به. فإذا تعدى بنفسه كان بمعنى: ملكه، ساسه، أو حاسبه وجازاه. وإذا تعدى باللام كان بمعنى خضع له وأطاعه. وإذا تعدى بالباء كان بمعنى اتخاذ الشيء ديناً ومذهباً، حتى يعتاده ويتخلق به.

فمدار الدين في اللغة: الطاعة والانقياد؛ فالملك والسياسة والحساب والجزاء، واتخاذ شيء عادة، والتزام شرعة أو قانون، مرتبطة بهذا المعنى. لذلك فالدين سلوك دال على الخضوع بالأساس، ولا ينشأ إلا عن إيمان وعقيدة توجبه أو تحث عليه، أو تحرمه أو تنفر عنه. وهذا السلوك يكون له حكم الدوام غالبا.
فالدين علاقة بين طرفين، يخضع بموجبها طرف لآخر، وينقاد له، إيمانا بخبره وتسليما لأمره.
ومن ثمَّ فالتدين هو حالة يعبر الخلق بها عن الدينونة لخالقهم، وهو الترجمة التطبيقية لأخباره وأوامره وفق فهمهم لها وقدرتهم على امتثالها. فإذا اعتبر (الدين) وضعا إلهيا فإن (التدين) جهد بشري؛ لذلك فإنَّ ملامح (التدين) تختلف وتتباين في أصحاب (الدين) الواحد، رغم وحدة نصوصه وتعاليمه.
التدين كغريزة بشرية:
خلق الإنسان مزودا بغريزة التدين، وهي غريزة أصيلة في وجوده وكيانه ووجدانه. وقد ركب الإنسان من مجموعة غرائز تدفعه للتحرك في تحقيقها وإشباعها، كغريزة الحياة والبقاء، وغريزة التمتع والتملك، وغريزة الاجتماع والتعاون.. وهكذا. والحاصل أن هذه الغرائز دافعة للإنسان للعمل والتحرك والاستجابة للمؤثرات حوله.
يقول المؤرخ (ول ديورانت) -في موسوعته (قصة الحضارة)- عن الإلحاد: إنها "حالات نادرة الوقوع، ولا يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقاداً سليماً، وهذا في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية"[1]. وقد اتفق علماء (الأنثروبولوجيا) على تأصل غريزة التدين عند الإنسان، رغم اختلافهم على تفسيرها وموقفهم منها. فهي قاسم مشترك بين جنس بني آدم، ولا أدل على ذلك على تعدد مظاهرها وأن اتفقت في المعنى؛ وقلمَّا يوجد الإلحاد في البشرية، وإن وجد فقلمَّا أن يدوم، كونه طارئا على غريزة التدين ومخالفا للفطرة.

ولأن أخطر ما في غريزة التدين أنها تهيمن بطبيعة دورها على مناحي شخصيته وكافة مناشط حياته، ومصيره بعد هذه الحياة، لم تترك دون مؤشر داخلي يوجهها ألا وهو الفطرة السليمة.
وغريزة التدين في الإنسان تدفعه لأمرين: الإيمان والتأله، والطاعة والانقياد. فإنَّه يخرج للعالم المادي جاهلا ضعيفا محدود القدرة، فيرى ويحس ويشعر بما لا يمكنه تفسيره ولا إدراك حقائقه ولا معرفة منتهاه؛ فيجد حاجة داخلية تدعوه للإيمان بذات أعظم منه علما وقدرة، لتكون مصدرا للعلم والمعرفة بهذا الوجود وأسراره وألغازه، وملتجأ لحاجته وضروراته.

يقول إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- وهو يحاجج قومه: ((ومَا لِيَ لَا أَعبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإِلَيهِ تُرجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدن الرَّحمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُم شَيئًا ولَا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُم فَاسمَعُونِ))، ياسين: 22- 25.

وإذا كان القرآن الكريم يؤكد لنا أن أصل الوجود البشري لم ينطلق من هذا العالم الأرضي "الدنيوي"، وإنما من عالم سماوي "علوي"، رابطا بينه وبين وجود الخالق الأعلى والمالك المطلق للوجود كله، فإنَّه يفسر منزع الإيمان البشري الموروث جيلا بعد جيل بما وراء المادة من خالق وعالم آخر، والإيمان بوجود اتصال بين الإنسان وخالقه وعالم علوي آخر يتطلع له.
وعلة النشأة هي إرادة الاستخلاف في الأرض: ((وإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً))، البقرة: 30. ورغم أنَّ أَوَّلَ أَمرٍ فَتَح الإنسانُ عينَه عليه هو العالم العلوي إلا أنَّ أصل خلقته كان "أرضيا"، كي يكون ذلك أدعى لأن يتلاءم هذا الـمُستَخلَف مع بيئة استخلافه: ((إِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ))، ص: 71.

هكذا ظهر آدم –عليه السلام- للوجود كأول نواة للجنس البشري في الوجود. وبعد أن حظي بالتعليم والتكريم الإلهي أسكن الجنة: ((وقُلنَا يَا آدَمُ اسكُن أَنتَ وزَوجُكَ الجَنَّةَ وكُلَا مِنهَا رَغَدًا حَيثُ شِئتُمَا))؛ وهذا التسكين كان المحطة الأولى للاختبار، فلم يؤذن لآدم التصرف بمطلق الحرية، بل بحدود: ((ولَا تَقرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فتَكُونَا مِن الظَّالِمِين))، البقرة: 33.

لقد كان الأمر صريحا والآمر معلوما لآدم، ومع ذلك طرأ عليه وعلى زوجه طارئ الغفلة والشهوة: ((فوَسوَسَ لَهُمَا الشَّيطَانُ لِيُبدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنهُمَا مِن سَوآتِهِمَا وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَن هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَينِ أَو تَكُونَا مِن الخَالِدِينَ * وقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَت لَهُمَا سَوآتُهُمَا وطَفِقَا يَخصِفَانِ عَلَيهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ ونَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنهَكُمَا عَن تِلكُمَا الشَّجَرَةِ وأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ))، الأعراف: 20- 22.
من هنا ظهرت المعصية، ومع ظهور المعصية الأولى جاء العتاب الرباني؛ وتحدد للإنسان طريق المعرفة وطريق الإيمان من التجربة الأولى، وتحركت نوازعه للتأله والطاعة: ((قَالَا رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وإِن لَّم تَغفِر لَنَا وتَرحَمنَا لَنَكُونَنَّ مِن الخَاسِرِينَ))، الأعراف: 23. وهكذا أهبط إلى الأرض بهذه الخبرة والتجربة.

التدين كظاهرة اجتماعية:
---------------

ظاهرة التدين ظاهرة اجتماعية منذ فجر التاريخ، فغالبا ما تتجلى في سلوك جمعي وشرعة يخضع لها أفراد المجتمع، فلم يكن التدين شأنا فرديا. بل كان المجتمعات تصوغ في ظل التدين العادات والتقاليد والأعراف وأنماط العيش وسلوك الحياة العامة. وكان التدين الحاضر الأقوى في العلاقات والمصالح، والتركيب المجتمعي، فيوزع أدوار مكوناته ويفرز طبقاته في ضوء هذه الأدوار.
ويقدم علم الآثار (أَركيُولُوجيا) اليوم صورة متكاملة عن أثر التدين في الألبسة والمأكولات والأدوات والتشييد والعمران عبر جغرافيا التاريخ وتاريخ الجغرافيا. فلا تخل المدن الأثرية القديمة –في معظم الحضارات- من هياكل تنصب فيها تماثيل ما يشار لها بأنها "آلهة"، ويرسم على جدرانها صورها وصور الطقوس المتعلقة بها؛ بالإضافة للمعابد والنصب وأماكن تقديم القرابين. ويشمل الأمر مناشط الصناعة والزراعة وآلات الحرب والفنون.

هذا غالبا يرتبط بالديانات الوضعية التي تجسد "الآلهة" في تماثيل وصور، وتعطي للهياكل والمعابد صفة قدسية مبالغ في تجميلها وتشييدها وحجم عمرانها، بما يزرع في نفوس الداخلين إليها الانبهار والدهشة ومن ثمَّ المهابة والجلال. أما الديانات السماوية الحقة فقد نظرت للإنسان والحياة باعتبار مآلاتهم، ولم تستهدف إرهاق كاهل الإنسان كمتدين، فكانت التكاليف تنصب غالبا على المعاني والحقائق وما يتبعها من الشكليات والمظاهر دون غلو. فورثت الديانات السماوية المعاني ********ة والأخلاق والركائز الفطرية والقيم والمبادئ التي حافظت بدورها على التدين في حدوده الصحيحة.

إنَّ علم التاريخ يؤكد على أنَّ ظاهرة التدين ظاهرة عامة مشتركة بين بني البشر، وعلى امتداد التاريخ، وحاضرة بقوة في المجتمعات ما بين بداوة وحضارة، وفي حال التخلف والرقي. بل إن ظاهرة التدين -من حيث هي- كانت دافعا وراء الخرافة والأساطير التي صاغها الإنسان في حين فترة من الرسل لإملاء تصوره عن ما وراء الكون، وخلق إجابة عما لا يمكنه تفسيره ولا معرفة حقائقه. حتى بعض صور الشعوذة و***** مورست من قبيل الإيمان بما وراء الطبيعة من وجود غير مرئي، وافتراض عالم خفي تتصارع فيه الأرواح الخيرة والشريرة، وإرادات الألهة!

كما أن لغة المجتمعات الإنسانية لا تخلو من أثر التدين في ألفاظها، وفي عباراتها، وأمثالها وقصصها. ولو استُقصِيت لغاتُ الأرض لكان التعبير عن الإله أو الآلهة، وعن ما يتصل بالغيبيات السماوية أو الأخروية، حاضرا بقوة. بل إن ملاحدة الفلاسفة الذين أنكروا الخالق دونوا في مؤلفاتهم جدلا كبيرا حول هذه الحقائق وهم يحاولون دفعها عن "البسطاء" و"السذج" في نظرهم.
هذه الحقيقة يؤكدها القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ((وإِن مِن أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ))، فاطر: 24. لأن هذه الغريزة لا يمكنها الوصول إلى حقائق الغيب ودقائقه، وتفاصيل الوجود وكلياته، والطريق الموصلة لإرضاء الإله المعبود، دون توجيه وإرشاد رباني. ومن ثمَّ كان ولابد من إرسال الرسل، وإقامة الحجة، كما قال تعالى: ((ولَو أَنَّا أَهلَكنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَولَا أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِن قَبلِ أَن نَذِلَّ وَنَخزَى))، طه: 134.

فالغرائز لا تمتلك خارطة الطريق، بل تحدد الاتجاه، فالجائع لا يعرف النافع من الضار لمجرد وجود غريزة البقاء والاستمتاع، بل يستند في ذلك للتجربة والخبرة؛ والتدين كذلك لابد فيه من توجيه وإرشاد، لأن التجربة والخبرة ليس محل المعرفة فيه.
بذلك ارتبطت ظاهرة التدين بمفهوم النبوة والرسالة، والاتصال القائم بين أفراد من الجنس البشري بالعالم العلوي. ولم يخل دين من هذه الدعوى أكان حقا أم باطلا. حتى الأديان الشركية التي أعطت لبعض بني البشر خصائص الربوبية والألوهية إنما أرادت من وراء ذلك تأكيد ذلك الاتصال بين عالمي الشهادة والغيب، والأرض والسماء.
--------------------------
[1] قصة الحضارة، ول ديورانت، دار الجيل، بيروت: ج1/99.


-------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59