عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 01-30-2012, 12:19 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

رابعا : قضية انحراف الفلاسفة المسلمين و قتل بعضهم :
لهذا المبحث جانبان ، هما : انحراف السلوك ،و القتل ، فبخصوص انحراف الفلاسفة المسلمين ، فإن انحرافهم لم يكن في درجة واحدة ، فهو بحسب بعدهم عن الدين و قربهم منه . مع أنه ليس كل من درس الفلسفة اليونانية هو منحرف عن الدين ، و إنما المنحرف هو من آمن بأفكارها و انتسب إليها ،و انسلخ عن دين الإسلام ؛ لذا وجدنا طائفة من أهل العلم اشتغلوا بتلك الفلسفة و لم تنحرف سلوكياتهم ، و كانوا صالحين متدينين ، كالوزير الفقيه محمد بن المظفر المروزي [ت530 هجرية ]،و القاضي أحمد بن عبد الله البهوتي (ت 544ه) ،و و القاضي الطبيب الشمس بن الخليل الجواب (ت 637ه)[1] ،و شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ،و تلميذه النجيب ابن قيم الجوزية .

و لا يغيب عن بالنا أن انتقادات علماء أهل السنة للفلاسفة المسلمين لم تكن قائمة على الهوى و الظن و الكذب عليهم ، و إنما كانت قائمة على أساس شرعي عقلي علمي ،و قد سبق أن أثبتنا ذلك في الفصول السابقة . و قد كانت نظرتهم لهم و لفلسفتهم موضوعية إلى حد كبير ، جعلت بعضهم يعترف ما لهؤلاء من محاسن و قدرات عقلية ،و صواب يُنتفع به ، إتباعا لقوله تعالى : (( و لا تبخسوا الناس أشياءهم )) -سورة الشعراء /183 .
فالمحدث الأديب ابن قتيبة الدينوري (ت 276 ه) ، استعان بالفلسفة و رجالها عندما رد على المتكلمين من المعتزلة و الجهمية ، في ردهم لحديث صحيح ،و هو حديث الذباب ، و فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فاغمسوه فإن في أحد جناحيه سما و في الآخر شفاء )) ، فقال إننا إذا رجعنا إلى الفلسفة وجدنا أن الذباب بمنزلة الحية ،و قد قال عنها الأطباء أن لحمها شفاء من سمها ، و قالوا : إن الذباب الذي إذا خلّط بالأثمد كحل و سُحق معه ، ثم اكتحل به زاد ذلك في نور البصر ،و شدّ مراكز الشعر من الأجفان و حافات الجفون .و قد حكى أرسطو عن قوم أنهم كانوا يأكلون الذباب فلا يرمدون [2] .

و عندما ترجم الحافظ شمس الدين الذهبي للطبيب علي بن رضوان المصري (ت450ه) ، سماه : الفيلسوف الباهر ، و قال عنه : كان مسلما موحدا [3] . و قال عن الفخر الرازي : العلامة الفيلسوف ، كان يتوقد ذكاء[4] . و أما ابن تيمية فقد اعترف بأن في الفلسفة اليونانية ما هو صحيح معروف بالمشاهدة و الحساب الصحيح من أحوال الفك ، و هو علم صحيح لا يُدفع ، كاستدارة الفلك ، فهي مستديرة و ليست مضلعة على حد قول بعض المتكلمين . ثم قال : إن من بدع بعض المتكلمين أنهم يردون ما قاله الفلاسفة من علم صحيح معقول موافق للشرع . ثم أكد على أنه يجب قبول الحق الذي مع الفلاسفة و عدم رده ما دام يوافق الكتاب و السنة . و قال أيضا أن في فلسفة اليونان حق و باطل ، كما هو الحال عند غيرهم من الشعوب[5] .

و عندما قارن ابن تيمية بين المتكلمين و الفلاسفة ، قال : إن كلام المتكلمة في الإلهيات فيه الصواب و الخطأ ، لكنهم أعلم بها و أكثر صوابا و أسد قولا من المتفلسفة ، الذين هم بدورهم أحذق في الطبيعيات و الرياضيات ممن لم يعرفها كمعرفتهم ، مع ما فيها من الخطأ[6] .
و في مسألة الصفات قسّم ابن تيمية الفلاسفة المسلمين إلى طائفتين ، الأولى منحرفة ، على رأسها الفارابي و ابن سينا ،و قولهما هو النفي المحض لصفات الله تعالى ،و هو قول جهم بن صفوان . و الطائفة الثانية مقتصدة ، كأبي البركات البغدادي (ت ق: 6ه) ،و ابن رشد الحفيد ، في قولهما من الإثبات ما هو خير من قول جهم بن صفوان ، فالمشهور عنهما إثبات الصفات الحسنى و أحكامها ؛ تأثرا بأهل السنة و علماء الحديث ، فجاء كلامهما أقرب إلى صريح المعقول و صحيح المنقول ، من كلام ابن سينا المتأثر بالمعتزلة و الشيعة . و الميزان في قرب هؤلاء من الحق و بعدهم عنه ، هو بحسب قربهم من دين الإسلام و بعدهم عنه[7] .

و هو أي ابن تيمية رغم انتقاده لكبار الفلاسفة المسلمين ، فإنه قد اعترف ما لبعضهم من فضل و صواب ، كأبي البركات البغدادي و ابن رشد ،و السيف الآمدي ، فالأول مدحه كثيرا ،و وصفه بأنه أوحد زمانه و من أعظم الفلاسفة المتأخرين قدرا ، و هو أقربهم إلى الحق في مجال الإلهيات ؛ فلم يقلدهم و استنار بأنوار النبوة ، فأثبت صفات الله و أفعاله الاختيارية و علمه بالجزئيات ،و رد على المشائين ردا جيدا دون تعصب ،و كان يقول : قصدنا الحق و ليس التعصب لقول فلان أو لقول معين . فهو عكس ابن رشد الذي كان يتعصب للفلاسفة و يغلوا في تعظيم أرسطو و شيعته[8] .
و أما ابن رشد فقال عنه أي ابن تيمية -: إن كلامه في الصفات أحسن من منحرفة الفلاسفة النافين لها كلية .و نوّه بموقفه في إثبات صفة علو الله و علمه بالجزئيات ، و قال أنه أقرب إلى الإسلام من ابن سينا[9] .
لكنني أُشير هنا إلى أن ابن رشد كان مزدوج الشخصية ، فقد أظهر إثبات بعض الصفات الإلهية في كتبه الكلامية ، كالكشف عن مناهج الأدلة ؛ لكنه نفاها في كتبه الفلسفية ، قال فيها برأي أرسطو و المشائين من بعده[10] .

و قال عن السبف الآمدي (ت 631 ه) ، أنه كان أحسن المتكلمين و المتفلسفة إسلاما ،و أمثلهم اعتقادا ،و أكثرهم تبحرا في العلوم الكلامية و الفلسفية في زمانه[11] .
و أما ابن قيم الجوزية فهو -أيضا -رغم ذمه للفلسفة و رجالها ، فقد استعان بأقوال الفلاسفة المتقدمين في إثباتهم صفة علو الله و فوقيته على خلقه ، أثناء رده على الفرق الإسلامية المنكرة لذلك .و نوّه بموقف الفيلسوف أبي البركات البغدادي في إثباته للصفات الإلهية ،و قوله بحدوث العالم و رده على أرسطو في هذه القضية . و وصفه بأنه فيلسوف الإسلام في زمانه ،و أنه أفضل الفلاسفة المتأخرين[12] . و مدح ابن رشد لإثباته صفة الجهة لله تعالى في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة ،و رده على منكريها من المعتزلة و متأخري الأشعرية[13] .
و آخرهم الحافظ جلال الدين السيوطي (ت 911ه) ، قال عن علوم الأوائل : فيها الحق كالحساب و الهندسة و الطب ،و فيها أيضا الباطل كالطبيعي و كثير من الإلهي و أحكام النجوم.و عندما شرح حديث : (( ألا و أن في الجسد مضغة . )) ،و قرر أن إصلاح القلب هو إصلاح للجسم ، قال : (( و هذا صحيح يؤمن به حتى من لم يؤمن بالشرع ، و قد نصّ عليه الفلاسفة و الأطباء ))[14] .

و أما فيما يخص قتل بعض الفلاسفة المسلمين ، فأقول : أولا إن الذين قتلوا من الفلاسفة كان عددهم قليلا ذكرنا منهم خمسة- بالمقارنة إلى كثرة عددهم و إلى امتداد الزمان و المكان في طول العالم الإسلامي و عرضه ، و من المعروف أن كبار الفلاسفة المسلمين المعروفين ، كالكندي و الفارابي و ابن سينا و ابن رشد ، لم يُقتل و لا واحد منهم .
و ثانيا إن الذين قُتلوا من الفلاسفة لم يُقتلوا لأنهم فلاسفة ، و إنما قُتلوا لأنهم اتهموا بالانحراف في العقيدة و السلوك ، مع العلم أن معظمهم قتلوا لأسباب سياسية و شخصية بالدرجة الأولى ، ثم أضيف إليها عامل الانحراف العقدي و السلوكي .

و ثالثا إن القتل لم يكن خاصا بالفلاسفة دون غيرهم من طوائف العلماء ، فالتاريخ الإسلامي شاهد على قتل كثير من أهل العلم من الصوفية و المتكلمين و المحدثين و الأدباء ، قتلوا لأسباب كثيرة ، منهم: الأديب عبد الله بن المقفع (ت 144ه) ،و خالد بن سلمة بن العاص (ق: 2ه) ،و الصوفي أبو الحسين الحلاج الصوفي البغدادي(ت 309ه)[15] .
و رابعا إن هؤلاء الفلاسفة الذين قتلوا اظهروا من الطامات و الانحرافات العقائدية و السلوكية ما يستحقون به القتل شرعا و عقلا ، فأما شرعا فواضح ، وذلك أن انحرافاتهم العقائدية و السلوكية هي طعن في دين الإسلام و حرب عليه و انتهاك له ، و هي اخطر عليه من قطاع الطرق الذين أمر الشرع بقطع أطرافهم .

و أما عقلا فهؤلاء المنحرفون لم يحترموا عقولهم و لا فلسفتهم و لا مجتمعهم ،و داسوا على مقدسات المسلمين ، فكان القتل جزاءهم . و هذا أمر معروف فأي إنسان يدوس على مقدسات مجتمع ما ،و لا يحترم مشاعرهم و عقائدهم ، فسيكون القتل مصيره ، من ذلك : ماذا ينتظر إنسان ما يدوس على العلم الأمريكي أمام مرأى و مسمع من الأمريكيين ؟ ! . فكان على هؤلاء الفلاسفة المنحرفين أن يحترموا مجتمعهم ، فإن حريتهم تنتهي عند بداية حرية غيرهم ، فكما هو له الحق في التعبير عن آرائه و أفكاره ، فكذلك معارضوه لهم الحق أيضا في الدفاع عن أفكارهم التي هاجمها الطرف الأول . لذا كان أمامهم ثلاثة خيارات ، أولها الاحتفاظ بانحرافاتهم دون إظهارها ،و ثانيها الهجرة إلى مجتمع آخر يسمح لهم بإظهارها ،و ثالثها إظهارها في مجتمعهم و تحمل تبعاتها .
خامسا : هل كان الفلاسفة المسلمون سلبيين تجاه الفلسفة اليونانية ؟ :
تبين لي مما ذكرناه عن الفلاسفة المسلمين أن معظمهم كانوا سلبيين انهزاميين تجاه الفلسفة اليونانية ،و على رأسهم كبار الفلاسفة المشائين ،و هم : يعقوب الكندي،و أبو نصر الفارابي ،و أبو علي بن سينا ،و ابن رشد الحفيد ،و يؤيد ذلك الشواهد الآتية ، أولها إن معظم مصنفات كبار الفلاسفة المسلمين ، كانت تصب في تيار خدمة الفلسفة اليونانية شرحا و تلخيصا ، دعوة و دفاعا ،و قد ذكرنا ذلك بشيء من التفصيل في الفصل الأول.
و ثانيها إنني لم أعثر لكبار الفلاسفة المشائين على مصنفات نقدية هدمية عميقة شاملة و متخصصة ، في نقد الفلسفة اليونانية من حيث طبيعياتها و إلهياتها و منطقها ؛ في حين وجدتُ لهم عشرات المصنفات و ربما مئات- في شرحها و الدفاع عنها و التعصب لها .

و ثالثها إنهم أهملوا الوحي- القرآن الكريم و السنة النبوية و العقل الصريح في معظم مصنفاتهم ،و اكتفوا في غالب الأحيان بالشرح و التلخيص ،و التقليد و التعصب لأرسطو و فلسفته و شيعته ،و قد ضربنا على ذلك عشرات الأمثلة في الفصل الثاني .
و رابعها إن هناك أقوالا لعلماء سنيين تؤيد ما قلته عن سلبية هؤلاء و إنهزاميتهم و تبعيتهم لفلسفة اليونان ، من خلال أعمالهم الفكرية ، فمن ذلك ما ذكره ابن تيمية ، من أن عمل المسلمين في المنطق اليوناني تركّز أساسا في تهذيبه و تنقيحه و توضيحه و تتميمه[16] . و قال تاج الدين السبكي (ت ق: 8ه) أن أكثر فلاسفة المسلمين كانوا على رأي أرسطو[17] ، و نحن نعلم أن معظم أفكاره في الإلهيات باطلة شرعا و عقلا ، فهم تابعوه في ضلالاته . و قال عبد الرحمن بن خلدون : إن الفلاسفة المسلمين اتبعوا أرسطو في رأيه (( حذو النعل بالنعل ، إلا في القليل ))[18] .
و أما ما يُذكر لكبار الفلاسفة المسلمين من انتقادات للفلسفة اليونانية ، فهي قليلة جدا بالمقارنة إلى ما كتبوه في شرحها و الدعوة إليها و الدفاع عنها و التعصب لها و الانتماء إليها . وقد قال عنهم ابن خلدون أنهم اتبعوا أرسطو (( حذو النعل بالنعل إلا في القليل )) ،و أشار ابن تيمية إلى أن ابن رشد خالف أرسطو و ابن سينا و لم يقل بقولهما في نفي علم الله تعالى بالجزئيات[19] . لكن لا ننس أن ابن رشد قال ذلك في كتبه الكلامية الموجهة لجمهور المسلمين ،و قال بخلافه في كتبه الفلسفية ، فنفى صفة العلم و غيرها من الصفات ، و هذا أمر سبق أن تناولناه . و لعل الشيخ ابن تيمية لم يطلع على كتبه الفلسفية ، لأنها ربما لم تصله . و الشيخ نفسه قد ذكر أن ابن رشد كان من الباطنية ، و يُظهر خلاف ما يُبطن بسبب تعصبه لأرسطو و شيعته ، و هذا أمر سبق أن ذكرناه .

و ذكر صديق القنوجي أن ابن سينا جمع في كتابه الشفاء علوم الفلسفة السبعة ، لكنه في كتابه الإشارة خالف أرسطو في كثير من المسائل ، قال فيها برأيه[20] . لكن انتقادات هؤلاء للفلسفة اليونانية هي انتقادات جزئية لا تُخرجهم عن أصول الفلسفة المشائية ، فهي اجتهادات داخل المذهب لخدمته لا للانتقاده و تقويضه ، و لا تجعل منهم فلاسفة أحرارا مجددين مبدعين ، فلو كانوا كذلك ما انتسبوا لتلك الفلسفة ، و لأسسوا لأنفسهم مذاهب فلسفية جديدة ،ولثاروا على فلسفة اليونان الوهمية البالية ، و لرفعوا من شأن دينهم و لا خالفوه فكرا و سلوكا .

و أما بالنسبة لأسباب سلبية هؤلاء و انهزاميتهم تجاه فلسفة اليونان ، فهي كثيرة و متداخلة ، يبدو لي أن أهمها ثلاثة أسباب ، أولها ضعف إيمانهم بدين الإسلام ، أوجد فيهم فراغا روحيا و انهزامية نفسية ، ملأتهما فلسفة اليونان . و ثانيها ضعف احتكامهم للكتاب و السنة حرمهم من الانتفاع بنورهما و علمهما ،و أوقعهم في الاعتماد على عقولهم القاصرة و حواسهم الناقصة ،و على ظنونهم و أهوائهم من جهة ،و على أوهام فلاسفة اليونان و ضلالاتهم من جهة أخرى .
و ثالثها تقليدهم و تعصبهم لفلاسفة اليونان عامة و لأرسطو و شيعته خاصة ، فحرمهم ذلك استقلالية الفكر ، و أبعدهم عن النقل الصحيح و العقل الصريح ، و العلم الصحيح ،و أضعف فيهم الشجاعة الأدبية و الروح العلمية النقدية الهدمية المبدعة ، و أغرقهم في المتناقضات و الانحرافات الفكرية و السلوكية .
سادسا : هل توجد فلسفة إسلامية ؟ :
أطلق كثير من أهل العلم اسم : الفلسفة الإسلامية ،و الفلسفة العربية الإسلامية ،و الفلسفة الإسلامية العربية ، على التراث الفكري الذي أنتجه الفلاسفة المسلمون خلال العصر الإسلامي . فهل حقا توجد فلسفة إسلامية ؟ . لقد تبين لي مما ذكرناه في هذا البحث عن الفلسفة اليونانية ، أن القول بوجود فلسفة إسلامية أنشأها الفلاسفة المسلمون ، هو قول غير صحيح ،و في غاية التضليل و التمويه ، و التدليس و التحريف و التغليط ،و أدلتي على ذلك كثيرة أذكر منها خمسة فقط ، أولها إن الفلسفة التي كانت سائدة بين المسلمين هي الفلسفة اليونانية عامة و المشائية خاصة ،و هذه الفلسفة إلهياتها و روحها تتناقض تماما مع الإسلام أصولا و فروعا ، كالقول بقدم العالم ،و جحود النبوات و الكتب المنزلة ،و إنكار علم الله بالجزئيات ، أفليس من الجهل المركب و الكذب المفضوح أن يُسمى هذا التراث بأنه فلسفة إسلامية ؟ ! .
و ثانيها أنه من الثابت تاريخيا أن الفلسفة التي كانت عند الفلاسفة المسلمين هي في معظمها تراث يوناني مُترجم إلى اللغة العربية ، ثم ضخمه الفلاسفة المسلمون بالشروحات و التلخيصات و التهذيبات و التعقيبات ، لكنه ظل في أساسه يونانيا في أصوله و تفاصيله ، لأن تلك الأعمال كانت أساسا في خدمة تلك الفلسفة و الانتصار لها،و لم تكن أعمالا علمية حرة موضوعية موجهة لنقدها على ضوء النقل الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . فهل يصح بعد هذا أن نسميه فلسفة إسلامية ؟ ! .
و ثالثها أنه لو كانت تلك الفلسفة إسلامية ، ما قاومها علماء أهل السنة في رجالها و أفكارها و تراثها ، فمقاومتهم لها دليل على أنها ليست إسلامية و أنها خطر علي الدين و الأمة معا . و هم غير متهمين ، فهم من أحرص المسلمين دفاعا عن الدين و تطبيقا له و غيرة عليه .
و رابعها إن معظم رجالات الفلسفة المسلمين كانوا منحرفين عن الإسلام عقيديا و سلوكيا بسبب الفلسفة اليونانية ، و هذا يعني أنهم كانوا يمثلون تلك الفلسفة لا الإسلام ، لذا فإنه من الخطأ الفادح أن ننسب هؤلاء و تراثهم لدين الإسلام .
و خامسها إن أي علم لكي يكون إسلاميا لا بد أن تكون أصوله و فروعه و مقاصده إسلامية قلبا و قالبا ، فهل يتوفر هذا في فلسفة اليونان المعرّبة التي كانت عند رجالات الفلسفة المسلمين ؟ لا شك أنها لا تتوفر على ذلك قطعا ، فهي فلسفة وثنية صابئية شركية ، بعيدة عن الإسلام و مناقضة له ، و ما أضافه إليها الفلاسفة المسلمون من مصطلحات و شروحات لم يُغير من حقيقتها شيئا .
و قد يُقال لماذا سميَّ فلاسفة العصر الإسلامي بالفلاسفة المسلمين و لم تسم فلسفتهم إسلامية ؟ و الجواب هو أن هناك فرق كبير بين النسبة للمسلمين و النسبة للإسلام ، فليس كل ما فعله المسلمون هو إسلامي بالضرورة ،و ليس كل ما هو إسلامي بالضرورة أن المسلمين قد التزموا به و فعلوه . كما أن اسم : المسلمون ، هو اسم عام يشمل كل أهل القبلة ، و فيهم المنافق و الزنديق و الضال ،و قد كان المنافقون زمن الرسول عليه الصلاة و السلام يُحسبون من المسلمين و هم في الدرك الأسفل من أهل النار . لذا فإن تسميتهم بالفلاسفة المسلمين لا تعني بالضرورة أن فلسفتهم إسلامية .
و قد يتساءل بعض الناس فيقول : ألم يُطلق على فلاسفة المسلمين اسم : فلاسفة الإسلام ؟ ،و و ما هو الاسم الذي يصح أن نطلقه على تراث الفلاسفة المسلمين ؟ ،و هل يمكن أن توجد حكمة و فلسفة إسلامية ؟ . ففيما يخص التساؤل الأول ، فقد أطلق المتأخرون اسم فلاسفة الإسلام على الفلاسفة المسلمين[21] . و أطلقه الشيخ ابن تيمية على يعقوب الكندي ، لكنه حدد معناه بقوله : (( أعني الفيلسوف الذي في الإسلام ، و إلا ليس الفلاسفة من المسلمين ، كما قالوا لبعض أعيان القضاة في زماننا : ابن سينا من فلاسفة الإسلام ، فقال ليس للإسلام فلاسفة ))[22] . فالمقصود من مصطلح : فلاسفة الإسلام ، هو فلاسفة عصر الإسلام ، أو فلاسفة العصر الإسلامي ، أي الفلاسفة الذين ظهروا في تاريخ الإسلام ،و ليس المقصود به : فلاسفة دين الإسلام ، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون هؤلاء فلاسفة دين الإسلام ؛ و قد سبق و أن ذكرنا ضلالاتهم و شركياتهم و انحرافاتهم و أقوال العلماء في تضليلهم .

[1] الذهبي: السير، ج23 ص: 65 . و السمعاني : التحبير، ج 2 ص: 288، 445 .

[2] ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث ، ص: 228، 230 .

[3] السيّر ، ج 17 ص: 35 .

[4] نفس المصدر ، ج 22 ص: 29، 29 .

[5] الرد على المنطقيين ، ص: 260 .و منهاج السنة النبوية ، ج 1 ص: 357 .و درء التعارض ، ج 7 ص: 334 .

[6] منهاج السنة ، ج1 ص: 359 .

[7] مجموع الفتاوى ، ج 12 ص: 205-206 .و درء التعارض ، ج6 ص: 247 .و منهاج السنة ، ج1 ص: 354 .

[8] مجموع الفتاوى ، ج 3ص: 227 ج 9 ص: 195، ج16 ص: 383 . و درء التعارض ، ج 9 ص: 143، ج 10 ص: 434 . و بيان تلبيس الجهمية ، ج 1 ص: 304 .

[9] مجموع الفتاوى ، ج 12 ص: 205 .و درء التعارض ، ج 6 ص: 254 ، ج 9 ص: 401-402 . و منهاج السنة ، ج 1ص: 356 .

[10] للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد .

[11] مجموع الفتاوى ، ج 9 ص: 7 .

[12] ابن القيم: اجتماع الجيوش الإسلامية ، ط1 بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1984 ، ص: 207 و ما بعدها . و مفتاح دار السعادة ، ج 2 ص: 166 .و إغاثة اللهفان، ج 2 ص: 258، 259 .

[13] الصواعق المرسلة، ج 2 ص: 404 .

[14] تدريب الراوي ، ج2 ص: 370 .و شرح السيوطي لسنن النسائي ، حققه عبد الفتاح أبو غدة، حلب مكتبة المطبوعات الإسلامية، 1986 ، ج 7 ص: 242 .

[15] انظر مثلا : ابن حجر : اللسان ، ج 2 ص: 69 ، ج 3 صك 170 ن 366 .و الذهبي: الميزان ، ج 2 ص: 412 .

[16] الرد على المنطقيين ، ص: 240 .

[17] طبقات الشافعية الكبرى، ج 4 ص: 67 .

[18] المقدمة ، ص: 515 .

[19] درء التعارض ، ج 9 ص: 401-402 .

[20] القنوجي: أبجد العلوم ، ج 2 ص: 367 .

[21] انظر : الشهرستاني : الملل و النحل ، ج 2 ص: 61، 135، 138 .و ابن خلدون : المقدمة ، ص: 491 .

[22] مجموع الفتاوى، ج 9 ص: 186 .
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59