الموضوع: كينونة الفعل
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 01-29-2012, 08:25 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي كينونة الفعل


كينونة الفعل د . عبد الوهاب حسن حمد
وصف دال على ماهية الفعل ووقوعه وحصوله ووجوده ، وقد اشتق منه الفعل ( كان ) الأجوف الواوي ، وبني على فيعوله جرياً على ذوات الياء نحو : شيخوخة ، وصيرورة ونحوهما بعد تخفيف الياء كما خفف في ( فيعل ) الصفة المشبهة باسم الفاعل مثل ( ميّت ) و ( ميْت ) ، ليستوي فيه المذكور والمؤنث ، نحو قوله تعالى : ) لنحيي به بلدة ميْتاً ( ؛ لأن المشدد يفيد أنه لم يحث حقيقة أما المخفف فإنه يفيد الموت الحقيقي ، فلما أرادوا هذا المعنى بنوه على ( فيعل ) ، كما أن ( كان ) تفيد الدوام والثبوت ، نحو قوله تعالى : ) وكان الله غفوراً رحيماً (
و ) وكان الشيطان للإنسان خذولاً ( ...وهو كثير ولو كان على وزن (فعلولة ) لقالوا كونونة ، وليس في الأبنية الصحيحة على هذا الوزن ، والذي وجد هو
( فَعُولة ) مثل ( حَمُولة ) ، نحو قوله تعالى : ) ومن الأنعام حمولة ( .
وقول طرفة :ـ
على غير شيء قلته غير أنني

نشدت فلم أغفل حمولة معبد

وقول عنترة :ـ
ما راعني إلا حَمُولة أهلها

وسط الديار تسفّ حبّ الخمخم

وتعني الإبل الصالحة للحمل أو التي تطيق الحمل ، فقد حولت التاء القصيرة الوصف إلى معنى الفعل بدليل أن حذفها منه يكون دالاً على النسب أو معنى الاسمية .
وكذلك هنا ، فإن التاء حولت اسم المصدر إلى الوصف الدال على الفاعل على وجه الثبوت والدوام ، كما قالوا ديمومة ، وللمبالغة في الصيغة ( فيعول ) قالوا قيمومة ، كما جاء في قوله تعالى : ) الحيُّ القيّوم ( ، والذي يدل على مبالغة
( فيعول ) ما جاء في قوله تعالى : ) ديّاراً ( ، ولو كان على وزن ( فعّال ) لقال ( دوّار ) ، فجاء على ( فيعال ) ، والأصل ( ديوار ) فاجتمعت الواو والياء والسابق منهما ساكن فقلبت الواو ياءً وأدغمت الياء في الياء وكذلك كينونة ، فإن الأصل كيونونة فقلبت الواو ياءً ثم أدغمت ، وجرياً على ذوات الياء في التخفيف خففوا الياء ، فقالوا : كينونة .
ومما جاء من ذوات الواو على هذا الوزن قليل ، نحو : هيوعة وسيدودة وديمومة وقيدودة .
ومجيء الياء يقطع في كونها على وزن فيعولة ، لأن العين المضعفة أبدا من جنس العين ، نحو سبّوح وقدّوس وضرّاب وقتّال ...
إن مدلول الكلمة لا يخلو إما أن يكون ذاتاً أو اسماً للحدث ، وهو الاسم الدال على الثبوت ، وإما أن يكون حدثاً ، وهو المصدر أو العرض الصادر عن الذات ، وهو المعنى المنسوب إلى الذات ، وقد يكون الحدث مقيداً للذات ، فيخرج إلى الصفة ، وهي ذات نسبة ناقصة إذ لا تشكل مع منسوبها جملة تامة ، وقد يكون الحدث منسوباً إلى فاعله نسبة تامة وهو الفعل المنبئ عن حركة فاعله ، وإما أن يكون المدلول رابطاً للحدث بالذات ، وهو المعنى الذي يوجده الحرف النائب عن الفعل أو الصيغة ، وهي دوال على نسب تتفاوت بين التمام والنقصان .
الحدث يفيد الثبوت ، والوصف به يفيد المبالغة ، والحدوث يعني التجدد والتغير ، وهو دلالة الفعل .
إن دلالة الكلمة على الحدث والحدوث تقابل دلالتها على الذات ودلالتها الرابطة للحدث بالذات ، إماً صدوراً منها أو وقوعاً عليها في نسبة تامة ، كما في صيغ الافعال أو ناقصة كما في المصدر والمشتقات من خلال السياقات ، بعد استقراء آراء اللغويين والنحويين والأصوليين والمحدثين .
لذلك جاء البحث في ثلاثة مباحث ، تناول الأول الحدث ؛ لأنه مادة الفعل ، وهو الفعل الحقيقي الظاهر من حركة الفاعلين ، وعلاقته بالنسبة لاقتضائه لها ، ومراد المتكلم والكاتب من استعماله ، ودرس الثاني : الحدوث وهو الغاية من استخدام الصيغ الفعلية الصناعية الثلاث ، وارتباطها بالزمن الصرفي والنحوي ، وتضمن الثالث دراسة المبالغة في الحدث سواء أكان فعلاً أم وصفاً أم مصدراً ، لأنها جميعا تحتوي الحدث في مادتها .
وقد خرج بنتائج أرجو أن تكون نافعة في بابها .
والله الموفق ،، ،،
المبحث الأول :ـ
الحــــدث
من المسائل النحوية التي كثر الجدال فيها بين البصريين والكوفيين مسألة الأصل الاشتقاقي ، وقد حفلت كتب الخلاف بآراء البصريين الذين يرون أن المصدر وهو الحدث ، أصل المشتقات والفعل ، وهو الحديث فرع عليه .
والكوفيون يخالفونهم ، ويذهبون إلى أن الفعل هو الأصل ، والمصدر فرع عليه ، وقد احتج كل فريق بما لديه من أدلة على صحة ما ذهب إليه .
قال الزجاجي : « المصدر الحدث ؛ لأن الحدث الذي أحدثه زيد ، ثم حدث عنه والفعل حديث عنه ، والحدث سابق للحديث عنه » .
ومن البصريين من يرى أن المصدر أصل الفعل ، والفعل أصل الوصف .
وذهب محمد بن طلحة الاشبيلي إلى « أن كلاً من المصدر والفعل أصل برأسه وليس أحدهما مشتقاً من الآخر » .
والذي يقدّم من أدلة القائلين أن المصدر أصل أي أنه سابق في الزمان على الفعل ، وأن الفعل تولد منه تولد الفعل من أصله وإلى هذا المعنى يشير قول سيبويه « وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء » .
وغيرهم يعكس المسألة ، أو يجعلهما متساويين في المدة .
وقد أنكر أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني التقدم الزمني ، والاشتقاق المادي ، فقال أبو علي : « وإنما يعني القوم بقولهم : إن الاسم أسبق من الفعل أنه أقوى في النفس وأسبق في الاعتقاد من الفعل ، فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل ، ويجوز أن يكونوا قدموا الفعل في الوضع قبل الاسم » .
إن السبق في الاعتقاد دون الزمان يتعارض مع معنى الاشتقاق الذي هو : « اقتطاع فرع من أصل » « ونزع لفظ من آخر » ، كما أنه بعيد عن طبيعة الخلاف النحوي والتاريخ اللغوي للمفردات .
ولم يحزم ابن جني بالسبق الزمني للأسماء ، لأنه يمنع من ذلك أشياء « منها وجود أسماء ، مشتقة من الأفعال نحو قائم من قام ، ومنطلق من انطلق ألا تراه يصح لصحته ، ويعتل لاعتلاله ، نحو ضرب فهو ضارب ، وقام فهو قائم وناوم فهو مناوم ، فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقا من الفعل فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في الزمان » ، ثم يذكر أمثلة لاشتقاق المصادر من الجواهر ومن الحروف واشتقاق الأفعال والمصادر من الحروف ، وهذا يعني أن فكرة الأصل من الفرع والسبق الزمني أو الاعتقادي لا تقوم على سند تاريخي لغوي أو واقع لغوي يدعمها ، ولكنها فكرة متأثرة بالمنطق ، وكما أنكر ابن جني وأساتذة التقدم الزمني بين الفعل والمصدر أنكر غيره ممن تبع البصريين الاشتقاق المادي بين المصدر والفعل .
قال ابن القيم : « وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلاً وفرعاً ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر ، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة ، وهو قول سيبويه ، إن الفعل أمثلة أخذت من لفظ إحداث الأسماء ، هو بهذا الاعتبار ، لا أن العرب تكلموا بالأسماء أولاً ثم اشتقوا منها الأفعال ، فإن التخاطب بالأفعال ضروري كالتخاطب الأسماء لا فرق بينهما فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاق
مادي وإنما هو اشتقاق تلازم سمي المتضمـن بالكسر – مشتقاً ، والمتضمن بالفتح مشتقاً منه » .
إن التلازم الاتفاقي يتعارض مع ما ذهب إليه البصريون من أن المصدر أصل الاشتقاق والفعل فرع عليه ومادته موجودة في الأفعال والصفات أي أن الاشتقاق بينهما مادي لا تلازمي ، يقول الزجاج : « الدليل على أن المصدر أصل الفعل ، أنه يوجد لفظه وحروفه في جميع أنواع الفعل كيف حرف كقولنا خرج ، يخرج ، وأخرج واستخرج يخارج ، وقتل ويقتل وقاتل وتقتل واستتقل ، فلفظ المصدر الذي هو أصله موجود في جميع فنونه فعلمنا أنه أصله ومادته » .
إن التقدم الزمني في والاشتقاق المادي لم يسلما من الاعتراض مما يعني أن الدلالة لا تنتهي بإطلاقهما في أن المصدر أصل للفعل ، لانه قد يجوز العكس واشتقاق الفعل من المصدر تقوم على أن المصدر حين وضعه الواضع قصد به الدلالة على مطلق الحدث من غير نظر إلى ما يحتاج إليه في وجوده من زمان يحدد وقت حدوثه دون النظر إلى من وقع منه الحدث أو وقع عليه .
وحين عرضت له الحاجة إلى زمان وقوعه اشتقوا له من صيغته ثلاث صيغ هي (فعل) و ( يفعل ) و ( افعل ) لتؤدي كل منها زماناً بعينه ، وهذه الصيغة منه بدليل أنها تتكون إما يتغير في حركاته وسكناته أو بتغييرهما مع الحذف ، وحين قصد تخصيص الحدث ببيان من وقع منه جعلت صيغة الفعل بالبناء للمعلوم وحين قصد من وقع عليه جعلت الصيغة بالبناء للمجهول .
قال الرضي في المصدر : « وضعه الواضع لذلك الحدث مطلقاً من غير نظر إلى ما يحتاج إليه في وجوده ولا يلزم أن يكون وضع الواضع لكل لفظ على أن يلزمه في اللفظ ما يقتضي معنى ذلك اللفظ معناه .. فتقول إذا قصد تبيين زمان الحدث الذي هو أحد الأزمنة الثلاثة معينا مع ذكر بعض ما هو من لوازمه من محله الذي يقوم به أو زمانه الخاص غير الأزمنة الثلاثة أو مكانه أو ما وقع عليه صيغ من هذا المصدر الذي هو موضوع لساذج الحدث صيغة إما بمجرد تغيير حركاته وسكناته كيضرب في الضرب او بتغييرهما مع الحذف كاستخرج في الاستخراج أو بتغييرهما مع الزيادة كيضرب واضرب في الضرب بحيث تدل تلك الصيغة بنفسها على أحد الأزمنة الثلاثة معيناً ويقتضي وجوب ذكر ما قام به الحدث بعدها فتسمى تلك الصيغة فعلاً مبنياً للفاعل .. » .
وقد تأثر متأخر والأصوليين برأي من أنكر الاشتقاق فخرجوا بما يأتي :ـ
1ـ إن اسم المصدر هو أصل المشتقات ، لا المصدر ولا الفعل على أن اسم المصدر موضوع من ناحية لفظية يوضع واحد لمادته وصيغته ، ومن ناحية معنوية لمعنى واحد هو ( الحدث الساذج ) وهذان – اللفظ والمعنى – هما المادة السارية في سائر المشتقات بما فيها المصدر والفعل الدالان على الحدث وزيادة .
2ـ إن المادة اللغوية ( ض ر ب ) أي الحروف الأصول لضرب ، وضرب ، وضارب ، ومضروب ، وغيرها هي الأصل ، وأن كل مشتق من الأفعال والأسماء له صيغة خاصة عارضة على هذه المادة بصورة مستقلة عن الصيغ الأخرى ، ولا يمكن أن يكون بعض هذه الصيغ أصلاً والبعض الآخر فرعاً ، لعدم إمكان عروض الصيغة الجديدة على المادة المصوغة سابقاً .
أي أن المصدر من المشتقات كالفعل ، وهو ما يؤيده الواقع اللغوي ، فإن المادة المعجمية وهي المخزون اللغوي ، خالية من الهيأة وصالحة لعروضها بحسب مراد المتكلم ، كما أن سيبويه كان يسمي المصدر فعلاً وحدثاً وحدثاناً .
وابن جني ذكر « أن هذه اللغة وقعت طبقة واحدة كالرقم تضعه على المرقوم ... لا يحكم لشيء منه بتقدم في الزمان ، وإن اختلفت بما فيه من الضعة القوة والضعف في الأحوال » .
إن صيغة المصدر لها دلالة تختلف عن غيرها ، وتؤدي معنى لا تؤديه غيرها ، فهي تدل على الحدث ، وهو الأمر الواقع أو الصادر عن الذات وقد يلاحظ الحدث باعتبار وجوده دون ملاحظة صدوره وانتسابه للذات ، وهذا مفهوم اسم المصدر ، وقد يلاحظ صدوره كونه منتسباً للذات ، وهذا مفهوم المصدر ، وقد يلاحظ فيه نسبته التامة إلى الذات ، وهذا مفهوم الفعل ، وقد يلاحظ فيه باعتبار كونه قيداً للذات إذ تكون مقيدة به إمّا على الصدور عنها والوقوع عليها أو اتخاذه ظرفاً وآلة ، وهذا مفهوم الأسماء المشتقة ، كما أن اختلاف المصادر للمادة الواحدة يضعف كونه أصلاً للمشتقات ، لأنه يكون عندئذ كأسماء الأجناس ، قال ابن يعيش : « ويسميه – أي المصدر – سيبويه الحدث والحدثان وذلك لأنها أحداث الأسماء التي تحدثها والمراد بالأسماء أصحاب الأسماء وهم الفاعلون وربما سماه الفعل من حيث كان حركة الفاعل » ، أي لاحظ فيه انتسابه للذات ، لأنه لا بدّ له من فاعل يقوم به .
قال الرضي : « يعني بالحدث معنى قائماً بغيره سواء صدر عنه كالضرب أو المشي أو لم يصدر كالطول والقصر .. واعلم أن معنى المصدر عرض لا بد له في الوجود من محل يقوم به وزمان ومكان » ، ويعني بالمحل القائم به الفاعل ، وبذلك فالصيغة أفادت معنى منتسباً على الفاعل ، ولكن لا على سبيل المعالجة والازجاء ، وهو معنى الحدوث الذي تفيده الصيغة الفعلية ، وبالتالي تكون لصيغ المصادر والصفات والأفعال معان مختلفة وليست سارية في جميع المشتقات ، وإنما الحروف الأصول هي التي تكون أصلاً لجميع المشتقات ، لأنها المادة العارية عن كل صيغة والقابلة لكل صيغة ، أي معنى يراد بها يختلف بحسب مراد المتكلم ، لأن الفعل كالمصدر يطلب فاعلاً ومفعولاً وقد يسلك به مسلك الأفعال ، لهذا يمكن تقسيم المصدر من حيث دلالته إلى قسمين : قسم يدل على الحدث بدون ملاحظة النسبة ، وقسم يدل على الحدوث مع ملاحظة النسبة حين يستعمل استعمال الأفعال فيوصل بمتعلقاته ، والنحويون « لم يلحظوا الزمان في المصدر ذي المتعلقات ، لأنهم شغلوا عن ذلك بتطبيق نظرية العامل ، على هذا النوع من الاستعمالات ، ولهذا أفردوا له باباً كاملاً أسموه ( باب إعمال المصدر ) » .
ودلالة المصدر على الحدوث تتوقف على السياق والقرائن مع ملاحظة متعلقاته من فاعل ومفعول ، فالحدث هو المعنى القابل للإسناد بالنسبة وهو مدلول المادة اللغوية والصيغة هي المعنى الحرفي الذي يفيد النسبة ، لأنها كاشفة عن انتساب الحدث إلى ذات بنسبة مقيدة .
وقد رأى ابن جني المعنى المشترك بين الصيغ والمباني المشتقة من مادة لغوية واحدة ، فقال « كأن تأخذ أصلاً من الأصول فتتقداه وتجمع بين معانيه ، وإن اختلفت صيغة ومعانيه » ، كما لاحظ المعنى المشترك بين الهيئة اللفظية في تقليب المادة ، وقد أخذت الدراسات اللغوية الحديثة برأي ابن جني ، ورأت فيه حلاً لمشكلة الاشتقاق ، وترك ما قاله البصريون من أصالة المصدر ، وما قاله الكوفيون من أصالة الفعل ، والتأكيد على ما يراه اللغويون من أصالة المادة المعجمية ، أو الحروف الأصول ، وخرجت إلى القول « وبذلك نعتبر الأصول الثلاثة أصل الاشتقاق ، فالمصدر مشتق منها والفعل الماضي مشتق منها كذلك ، وبهذا لا نستطيع أن ننسب إلى هذه الأصول الثلاثة أي معنى معجمي على نحو ما صنع ابن جني ، وإنما نجعل لهذه الأصول معنى وظيفياً هو ما تؤديه من دور تلخيص العلاقة بين المفردات » .
والمعنى الوظيفي يلحظ من خلال ما في الصيغة من نسبة إلى ذات اولاً ، فإذا لوحظ الانتساب إلى فاعل أو مفعول كانت الفعلية غالبة على الصيغة ، وإذا لم يلحظ فيها كانت الاسمية غالبة على الصيغة ، والمصدر من هذه الناحية يكون مرة كالفعل في طلب الفاعل والمفعول ومرة كالاسم في دلالته على الحدث المجرد ، واسم المصدر يعني اللفظ الدال على ذات الحدث من دون نسبة والمصدر يعني اللفظ الدال على الحدث المنتسب نسبة ناقصة ، وبذلك يصح أن يقال : إن المصدر مشتق من اسم المصدر لكون مدلوله بعض مدلول المصدر ، ولا يعتبر في الاشتقاق اللفظي أكثر من كون اللفظ المشتق مشتملاً على مادة اللفظ المشتق منه ، ودالا على معناه وزيادة خصوصيته ، فيكون مدلول اسم المصدر جزءاً من مدلول المصدر ، والجزء متقدم على الكل ، وبذلك فإن اسم المصدر أصل جميع المشتقات ، وقد فرق النحويون بين المصدر واسمه ولم يسووا بينهما في اللفظ ، فجعلوا ما كان جارياً على فعله مصدراً وما لم يجيء اسماً للمصدر .
يقول ابن الناظم بعد أن قسم اسم المعنى إلى مصدر واسم المصدر « فإن كان أوله مبنياً فريده لغير مفاعلة كالمضرب والمحمدة أو كان لغير ثلاثي بوزن الثلاثي كالوضوء والغسل فهو اسم مصدر وإلا فهو مصدر » .
وذهب الرضي وابن هشام إلى ان اسم المصدر هو اسم الجنس المنقول عن موضعه إلى إفادة الحدث كالكلام فإنه في الأصل اسم للملفوظ من الكلمات ثم نقل إلى معنى التكليم والثواب ، فإنه في الأصل ، اسم لما يثاب به العمال ثم نقل إلى معنى الإثابة والعطاء اسم لما يعطي وإن كان اسم عين مستعملاً بمعنى المصدر أي الإعطاء .
فالذي جعل اسم المصدر علماً للجنس جرده من الحدث والنسبة ثم نقل إلى إفادة الحدث أي أنه في الأصل اسم لدلالته المجردة على مسماه ، لأنه لم يجر على فعله في إفادة الحدث ، وأما سيبويه فلم يفرق بين المصدر واسم لدلالته على الحدث ، وعقد بابا لما جاء المصدر فيه غير الفعل لأن المعنى واحد ، ودلالة اسم المصدر على الحدث جعلته عاملاً ، لأن الحدث قد ينسب إلى معموله فيقرب من الفعلية ، لأن النسبة ثابتة للفعل وضعا .
قال الرضي « إن المصدر موضوع لساذج الحدث وإن وضع الفعل على أن يكون مصدراً مسنداً إلى شيء مذكور » ، ودلالة المصدر على النسبة عند النحويين في حالة إعماله فقط « بشرط أن يقصد به قصد فعله من الحدوث والنسبة إلى مخبر عنه وعلامة ذلك صحة تقديره بالفعل مع الحرف المصدري ولو لم يصد تقدير المصدر بالفعل مع الحرف المصدري لم يسغ عمله » .
إن هذا الشرط يؤخذ به على أنه طريقة لمعرفة المصادر المشابهة للأفعال من غيرها ، لأن معنى المصدر الصريح يختلف عن المؤول ، فالصريح صيغة اسمية ، والمؤول تركيب يشتمل فعلا ، والفرق بينهما هو الفرق بين التعبير بالاسم وآخر بالفعل ، كما أن وظيفة الاسم في التراكيب تختلف عن وظيفة الفعل ودلالتها على الزمن مختلفة « أضف إلى ذلك أنك لو أخذت جملة نحو عجبت من ضربك زيداً ، فإن الضرب هنا لا يقوم قرينة في تحديد الزمان بخلاف ما إذا قلت عجبت من أن ضربت زيداً » ، والفرق بينهما هو الفرق بين الحدث والحدوث فالحدث دلالة المصدر في الغالب ، والحدوث دلالة الفعل ، لأن فيه معالجة وإزجاء وتجدد .
لو عمل المصدر عمل فعله يقربه من الفعل في الدلالة ، ولكن الدلالة مختلفة يدل على ذلك اختلاف صفتيهما ، والنسبة إلى الفاعل ليست متطابقة ، وكذلك الدلالة الزمنية ، فهي في المصدر أدوم بمعونة السياق والقرائن .
قال المبرد : « والفصل بين المصدر نحو : الضرب والقتل ، وبين ( أن يضرب ) و ( أن يقتل ) في المعنى ان الضرب اسم للفعل يقع على أحواله الثلاثة : الماضي والموجود والمنتظر ، وقولك أن تفعل ، لا يكون إلا لما يأتي فإن قلت : إن فعلت ، فلا يكون إلا للماضي » ، وقول المبرد فيه نظر : إذ فصل بين المصدرين خارج التراكيب ، ولو وازن بينهما داخل التركيب لكانت الموازنة دقيقة ، وذلك لأن المصدر يتعين بمتعلقاته وما يذكر معه من سوابق ولواحق ، كما يتعين من حركته ، فالنصب غير الرفع لأن النصب أصل فيه والرفع فرع عليه ، قال تعالى : ) هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلامٌ ( [ الذاريات 34-35 ] .
فقد فرق تعالى بين السلامية فجعل الأول بالنصب والثاني بالرفع ولم يسو بينهما ، وذلك لأن قوله ( سلاماً ) بتقدير فعل ، وقوله ( سلام ) بتقدير اسم ، والاسم أثبت وأدوم وأقوى من الفعل .
قال الرازي : « فذلك أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يرد عليهم بالأحسن فأتى بالجملة الاسمية ، فإنها أدل على الدوام والاستمرار ، فإن قولنا جلس زيد لا يبنى عنه لأن الفعل لا بد فيه من الإنباء عن التجدد والحدوث » ، وقد استغنى عن الفعل
( تسليم ) لدلالة قوله ( سلاما ) عليه ، لذلك فاختلاف النحويين في زمن المصدر قائم على دراسته خارج التركيب ليدللوا على أن المصدر أصل المشتقات ، فزعموا أنه يدل على الحدث ولا يدل على الزمان – قال ابن مالك :ـ
المصدر اسم ما سوى الزمان من

مدلولي الفعل كأمن من أمن

وقيل : « إن المصدر يدل على زمان مطلق ، والفعل يدل على زمان معين ، فكما أن المطلق أصل للمقيد ، فكذلك المصدر أصل للفعل » .
فقد أتوا بأدلة ذهنية تخدم المنطق ولا تخدم النحو لذلك « فالمنهج اللغوي الحديث لا يقبل أن تكون صيغة ما أصلا لصيغة أخرى بل هو لا يبحث في ذلك ، بل يرى أن الاشتقاق يقوم على وجود علاقة بين مجموعة من الكلمات هذه العلاقة هي اشتراكهما في شيء معين هو ما يعرف بالأصول أو المادة » ، وهي المادة المعجمية التي وضع لبناتها الأولى العالم اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي ، وقد بينه ابن جني إلى فكرة الاشتقاق بمعناها العلمي الحديث في باب الاشتقاق .
فقد نظر المحدثون إلى المسألة الخلافية نظراً جديداً يقوم على أصول المادة لاشتراك المصدر والفعل فيها رافضين فكرة السبق الزمني ، وداعين إلى « الوقوف على علاقة الأسماء الحسية بالمصادر والأفعال فمن المعلوم أن الأصول الحسية ( الجامدة ) أسبق في العربية من المصادر والأفعال ، وإن هذه الأخيرة تولدت من الأصول الجامدة الحسية وليس عسيراً علينا أن ندرك أن العلاقة بين ( العقل ) وهو المصدر المعنوي وبين ( العقال ) من أسماء الذوات ، وليس عسيراً علينا أن ندرك أن العلاقة بين الحكمة ( بفتحتين ) وهي جديدة توضع في فم الدابة تضبطها وتكبح جماحها وبين الحكمة المادة العقلية التي انصرفت في العربية إلى العلوم كافة » .

المبحث الثاني :ـ
الحـــدوث
وهو معنى الفعلية ، ويعني التغيير في الصفة والتجدد في الإنباء عن حركة المحدث وهو مدلول الفعل وغيره مما شابهه في دلالته ، واختلف عنه في الصيغة وقد لمح الفراء الفعلية في صيغة اسم الفاعل العامل واسم المفعول العامل ، كما لمح الفعلية في المصدر فقد ذكر « وأنت تقول في الأفعال فتوحد فعلهما بعدهما تقول : إقبالك وإدبارك يشق عليّ ولا تقول أخوك وأبوك يزورني » ، لأن الفعل لا يثنى ولا يجمع ويصلح للقليل والكثير والمصدر كذلك .
يقول اللغويون : إن الفعل يدل على التجدد والحدوث والاسم على الاستقرار والثبوت ، قال عبد القاهر الجرجاني : « إن موضوع الاسم على أن يثبت به المنى من غير ان يقتضي تجمده شيئاً بعد شيء ، وأما الفعل فموضوعه على أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد شيء ، فإذا قلت زيد منطق ، فقد أثبت الانطلاق فعلا له من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئاً فشيئاً بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك : زيد طويل وعمرو قصير ، فكما هاهنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدد ويحدث بل توجبهما وتثبتهما فقط وتقضي بوجودها على الإطلاق ، كذلك لا تتعرض في قولك : زيد منطلق ، لأكثر من إثباته لزيد ، وأما الفعل فإنه يقصد فيه إلى ذلك ، فإذا قلت : زيد هو ذا ينطلق ، فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً وجعلته يزاوله ويزجيه ... » .
فالحدوث تجدد الحدوث ، ووقوعه بفعل محدث يزاوله حيناً فحيناً ، أما الحدث الذي قد ثبت واستقر ولم يتغير فهو الأمر الذي لا يتجزأ .
إن الحدوث يقتضي حركة المحدث وصفة متغيرة وعمل في حالة الإزجاء والمزاولة وصياغة لفظية تنبئ عن ذلك ، ونسبة إلى محدث .
وقد قيل في تعليل معنى الحدوث « لأن الإخبار بالفعل مقتصر على الزمانيات وما يقدر فيه ذلك والإخبار بالاسم لا يقتضي ذلك » ، فالحدوث مرتبط بالفعل ، لاقتصار الفعل على الزمن والثبوت خلاف ذلك .
وقيل أيضاً : « وسر ذلك أن الفعل مقيد بالزمن ، فالفعل الماضي مقيد بالزمن الماضي والمضارع مقيد بزمن الحال أو الاستقبال في الغالب في حين أن الاسم غير مقيد بزمن من الأزمنة » .
وهذا القول فيه نظر من وجوه :ـ
1ـ أن الحدوث ليس مقتصراً على الفعل ، فالمصدر والصفات تدل عليه ، لأنها تقتضي محدثاً لتضمنها الحدث ، ونسبة الحدث إلى محدثه ربط لهما لتدل الصيغة على الحدوث الذي هو معنى الفعلية لا الفعل حصراً .
قال العسكري في الفرق بين الحدوث والأحداث « أن الأحداث والمحدث يقتضيان محدثاً من جهة اللفظ ، وليس كذلك الحدوث والحادث ، وليس الحدوث والأحداث شيئاً غير المحدث والحادث ، وإنما يقال ذلك على التقدير » .
فالحدوث إحداث الشيء ، والإحداث يقتضي محدثاً أي نسبة الحدث إلى فاعله فالنسبة تؤدي إلى الحدوث في زمن ما ، وليس الزمن هو الذي يؤدي الحدوث .
2ـ إن الزمن ظرف التعلق ، والنسبة إلى الفاعل ، وهذا لا يقتصر على الفعل .
3ـ إن الأفعال الإنشائية مسلوبة الزمن ، ولكنها تدل على نسبة ، أي فيها معنى الحدوث ، وإن لم ترتبط بزمن معين .
4ـ إن الفعل الماضي ليس مقيداً بالزمن الماضي ، وكذلك المضارع ، وإنما القرائن مع السياق هي التقيدات الزمنية ، وليست الصيغ .
5ـ إن الفعل كالمصدر والصفات يدل على الزمن المطلق الذي قد ينطبق على الماضي وقد ينطبق على الحاضر والمستقبل ، وسواء كان التعبير عنه بصيغة الفعل ، أم بصيغ المصدر واسم الفاعل واسم المفعول ، والذي يجعل أحد الأزمنة الثلاثة مدلولا معيناً للفعل ليس هو ( الدلالة الوضعية ) لصيغة ( فعل ) و ( يفعل ) بل هو دلالة الاستعمال ، والقرائن اللفظية أو الحالية عليه ، لذلك تجد ( فعل ، يفعل ) تدل كل منهما على الأزمنة الثلاثة حسب القرائن ، ولا يختص أحدهما بزمن دون الآخر .
6ـ إن الحدوث هو صدور الحركة عن الفاعل بظهور الانتساب إليه ، وهو ما يحدث بالمصدر واسم الفاعل والمفعول علاوة على الفعل ، إلا أنها في الفعل أتم وأظهر، لأن الفعل يكون مع فاعله كلاماً بخلاف المشتقات،قال الرضي: « إن وضع الفعل على أن يكون مصدره مسنداً إلى شيء مذكور بعده لفظاً بخلاف نفس المصدر فإنه ليس موضوعاً على أنه منسوب إلى شيء في اللفظ » .
إنه يرى أن الفعل دال بوضعه على أن الحدث الذي يتضمنه منسوب إلى فاعل بعده وأن الدال على هذه النسبة هو بناء الفعل نفسه ، الذي يأخذ في حالة نسبه الحدث إلى الفاعل ( صيغة ) غير الصيغة التي يأخذها في حالة النسبة إلى المفعول ، فالرابط بين طرفي الجملة الفعلية عنده ليس وضع الجملة كاملة ، كما ذهب الجمهور ، ولا حركة الرفع في المسند إليه التي جعلها بعض الدارسين علم الإسناد ، بل صيغة المسند نفسه .
7ـ إن إضافة المصدر إلى معموله كالنسبة في الفعل وهي دليل الحدوث .
قال عبد القاهر الجرجاني : « إن الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل، فكل حكم يجب في إضافة المصدر من حقيقة أو مجاز فهو واجب في إسناد الفعل، فانظر الآن إلى قولك أعجبني وشي الربيع الرياض ، وصوغه تبرها وحوكة ديباجها ، هل تعلم لك سبيلاً في هذه الإضافات إلى التعلق باللغة وأخذ الحكم عليهامنها أم نعلم امتناع ذلك عليك ، وكيف والإضافة لا تكون حتى تستقر اللغة ، ويستحيل أن يكون لك حكم في الإضافة ، ورسم حتى يعلم بها حق الاسم أن يضاف إلى هذا دون ذلك » .
إن النسبة هي إضافة شيء إلى آخر وربطه به ، لذلك فهي بحاجة إلى طرفين منسوب ومنسوب إليه ، وهي في الفعل مدلول صيغته ، وفي المصدر إضافته ، لأنه حدث ، لا بد له من محدث .
8ـ يذهب علم اللغة الحديث إلى أن صيغ الافعال والمشتقات هي دوال النسبة . يقول مندريس بعد أن فرق بين الجملتين الفعلية والاسمية بأن الأولى يعبّر بها عن حدث منسوب إلى فاعل وأن موضوعها « أن تأمر بحدث أو أن تقرر حدثاً ، أو أن تتخيل حدثاً ، والثانية يعبّر بها عن نسبة صفة إلى شيء » .
9ـ إن نصب المصدر دليل الحدوث ، لأنه يفيد معنى الفعلية .
قال الفراء في قراءة قوله تعالى : ) الحمد لله ( [ الفاتحة ] : « فأما من نصب فإنه يقول ( الحمد ) ليس باسم إنما هو مصدر يجوز لقائله أن يقول : أحمد الله ، فإذا صلح مكان المصدر ( فعل أو يفعل ) جاز فيه النصب » .
وقال الزمخشري : « إنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكراً وكفراً وعجباً وما أشبه ذلك ، ومنها سبحانك ومعاذ الله ينزلونها منزلة أفعالها ويسدون بها مسدها ، ولذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة ، على ثبات المعنى واستقراره » .
إن الأصل في المصدر النصب على معنى الفعلية ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته دون تجدده وحدوثه .
10ـ إن سيبويه في كثير من المواطن يسمي الفعل الماضي صيغة ( فعل ) والمضارع صيغة ( يفعل ) وهي تسمية علمية ، لأنها تبعد ارتباط الصيغة بالزمن .
ولعل الخليل بن أحمد أول من نبه إلى أن الزمن ليس وظيفة الصيغة منفردة ، بل هو أمر تحدده القرائن المتصلة بالأفعال ، فقد ورد عنه أن ( قد فعل ) كلام لقوم ، ينتظرون الخبر ، ومنه قول المؤذن : قد قامت الصلاة ، لأن الجماعة منتظرون لذلك ، وفي التنزيل : ) قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ( [ المجادلة : 1 ] ، لأنها كانت تتوقع إجابة الله عز وجل لدعائها .
إن الزمن لا يفهم من الصيغة ، وإنما يدرك من خارجها وهو السياق مع القرائن ، فالحدوث مدلول النسبة وليس الصيغة ، لأنها قد لا تفيد الحدوث ، كما في الأمثال وما دل على الغرائز والعادات والعبارات العلمية والتشريعية نحو قوله تعالى : ) وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ( [ البقرة : 74 ] ، و ) والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ( [ البقرة : 231 ] ، و ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء (
[ البقرة : 228 ] ، كما أن المضارع نسبة ليست قائمة على الزمن ، وفعل الأمر للإنشاء والزمن لا يقترن بالحدث إلا بعد وقوعه ، وهو لم يقع لذلك قال سيبويه « وأما بناء ما لم يقع فإنه قولك آمرا : اذهب واقتل واضرب » .
والفعل الماضي صيغة تفيد في سياق ما ، الزمن الماضي وفي سياق آخر الحال ، وفي سياق ثالث الاستقبال ، وقد تفيد في سياقات غير ما ذكر الماضي المتصل بالحال أو الاستقبال التجددي ، أو قد بتجرد كلية عن الحدث والزمن ، لذلك قال النحويين : « الفعل ما دلّ على اقتران حدث بزمان » ، يسوي بين الفل وشبهه في الحدوث كالمصدر واسم الفاعل والمفعول كما أنه لا يعطي إيضاحاً كافياً عن حدوث الزمن .
وسبب ذلك يقول الدكتور إبراهيم السامرائي : « اهتمامهم بالفعل من حيث كونه عاملاً بل أقوى العوامل يعمل ظاهراً ومقدراً متقدماً ومتأخراً ، ومن أجل ذلك لم يولوا مسألة الدلالة الزمانية حقها ، وكأنهم تخلصوا في دراستهم للفعل بالتعلق بالاشكال ، وذلك أن ما كان على ( فعل ) ونحوها دال على المضي ، وما كان على ( يفعل ) ونحوها دال على الحال والاستقبال ، ولم يقفوا وقفات طويلة على هذه الصيغ ليروا كيف تتصرف إلى حدود أخرى تعرب عن الخصوصيات الزمانية » وقد يتكرر الحدث فيمتد زمن الفعل ، فيكون صفة على صيغة اسم الفاعل ، ولكنه يفيد الحدوث كالفعل ، وإن طال زمنه بالقياس إلى غيره مما لم يجر على الفعل من الأسماء .
قال الزركشي : « وربما بولغ في الفعل فجاء تارة بالصيغة الاسمية كالمجاهدين والمهاجرين والمؤمنين ، لأنه للشأن والصفة » .
11ـ اسم الفاعل يدل على الحدوث ، لا على الثبوت وإن طال زمنه وامتد على زمن الفعل فالحدث فيه متغير وغير ثابت في نسبته لصاحبه ، كالفعل ويسميه الكوفيون الفعل الدائم . قال الفراء في قوله تعالى : ) بعد ذلك لميتون (
[ المؤمنون : 15 ] : « تقرأ ( لميتون ) و ( لمائتون ) ، وميتون أكثر ومائت ولا يقولون للميت الذي قد مات ، هذا مائت ، إنما يقال في الاستقبال ولا يجاوز به الاستقبال ، وكذلك يقال : هذا سيد قومه اليوم ، فإذا أخبرت أنه يكون سيدهم عن قليل قلت : هذا سائد قومه عن قليل وكذلك الطمع ، تقول : هو طامع فيما قبلك غدا ، فإذا وصفته بالطمع قلت : هو طمع ، وكذلك الشريف تقول : إنه لشريف قومه ، وهو شارف عن قليل » ، فالمائت تدل على الحدوث ، لأنها صفة حادثة وليست لازمة ، وكذلك السائد والطامع والشارف .
قال الزمخشري في قوله تعالى : ) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ( [ هود : 12 ] : « فإن قلت : لم عدل عن ( ضيق ) إلى ( ضائق ) ؟ قلت ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت ، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان أفسح الناس صدراً ومثله قولك زيد سيد وجواد تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين ، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد وجائد » .
والحدوث في اسم الفاعل يعني قيامه بالحدث مقيداً بالزمن ، لأنه فيه معنى الفعلية بسبب النسبة ، وقد شرح الجامي معنى الحدوث في اسم الفاعل بقوله : « يعني بالحدوث تجدد وجوده له وقيامه به مقيداً بأحد الأزمنة الثلاثة » ، وقد جاء الحدوث في اسم الفاعل مقابل الثبوت الذي تفيده الصفة المشبهة .
12ـ إن الأسماء مستقلة بمعانيها وألفاظها ، والحروف مستقلة بألفاظها لا بمعانيها ، والأفعال لا استقلال لها إلا بإسنادها إلى الفاعل وبتحليل الفعل نجده يتكون من مادة وصيغة والمادة لا معنى لها حقيقي واقع ، ولكن يمكن أن يكون لها معنى إذا عرضت على صيغة ما ، أما الصيغة فلا تدل إلا على نسبة المادة إلى محدثها وهذه النسبة معنى حرفي غير مستقل بالمفهومية ، وقد رأى النحويون أن مادة الفعل تدل على الحدث وهو معنى مستقل في نفسه أيضاً ، قال الرضي : « إن الحدث مدلول حروفه المرتبة – أي مثل ضرب – والإخبار عن حصول ذلك الحدث في الزمن الماضي مدلول وزنه الطارئ على حروفه والوزن جزء اللفظ ، إذ هو عبارة عن عدد الحروف مع مجموع الحركات والسكنات الموضوعة وضعاً معيناً والحركات مما يتلفظ به فهو إذن كلمة مركبة من جزأين يدل كل واحد منهما على جزء معناه » .
وقد غفل عن دلالة ثالثة للفعل ذكرها ابن جني في باب الدلالة اللفظية والصناعية والمعنوية فقال : « فمنه جميع الأفعال ففي كل واحد منها الأدلة الثلاثة ألا ترى أي ( قام ) ودلالة لفظه على مصدره ، ودلالة بنائه على زمانه ، ودلالة معناه على فاعله ، فهذه ثلاث دلائل على لفظه وصيغته ومعناه » .
وقد بين الجامي دلالة المعنى بقوله : « وثالثهما النسبة إلى فاعل ما ، ولا شك أن النسبة إلى فاعل ما معنى حرفي هو آلة لملاحظة طرفيها ، فلا تستقل بالمفهومة » ، فظهر أن الفعل بأجزائه الثلاث غير مستقل ، وفي هذه الحالة تشترك صيغة الفعل مع المصدر والمشتقات لأنها جليداً مأخوذة من مادة حرفية لا معنى لها إلا بعروضها في صيغة معينة ، وقد ينسب بها إلى منسوب معين ، فتفيد الحدوث ، وقد لا يراد بها نسبة معينة فتبتعد عن معنى الفعلية فلا تقيد الحدوث ولا تدل على زمن معين ، وهو ما يعود إلى المتكلم ومراده ، فإن أراد المعنى دون محدثه جاء بصيغة عامة خالية من النسبة وإن أراد تقييدها بمحدث عبّر عنها بصيغة ملائمة لمراده .


المبحث الثالث :
المبالغــة فـي الحـدث
إن حصول الملكات الراسخة القوية مرهون بالاجتهاد في العمل وتكراره ، لأن الفعل قليلاً كان أو كثيراً يؤثر في النفس إما سعادة وإما شقاء مصداق ذلك قوله تعالى : ) فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ( .
فإذا بذل المرء في الحدث أو الفعل جهده ووصل به إلى الغاية القصوى أو أمعن فيه تدقيقاً ومواصلة فقد بالغ فيه والمبالغة تكرار الحدث وكثرته والمغالبة فيه فجاء وزن
( فاعل ) للمبالغة لأن الفعل متى غولب فيه كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة ، والمتغالبان يبذل كل واحد منهما جهده ويبالغ فيه .
جاء في اللسان : « بالغ يبالغ مبالغة وبلاغاً إذا اجتهد في الأمر ... والمبالغة أن تبلغ في الأمر جهدك » .
وقد جاءت المبالغة في العربية في صور شتى ، تتبعت ذلك في كتب اللغة والنحو والتفسير فوجدت أن الحدث يأخذ هيئات ومواضع مختلفة حتى تصير الذات المتلبسة به كأنها هو وقد تجسمت منه لغلبته عليها كثرة ودواما .
يبالغ في الفعل وذلك بإخراجه في أوزان يكون الحدث فيه مبالغاً فيه إجادة ومغالبة وتكثيرا لأن مسمى الفعل هو المصدر أي الحدث وهو دلالة حروف الفعل على معنى المصدر وهي دلالة لفظية ولما كان الفعل هو « التأثير من جهة مؤثر وهو عام لما كان بإجادة أو غير إجادة ولما كان بعلم أو غير علم وقصد أو غير قصد ولما كان من الإنسان والحيوان والجمادات » .
فقد خص ما كان بإجادة وتراجعان ومغالبة وكثرة بأوزان معينة ولكل وزن معنى يختلف عن غيره .
لأن « الأصل في مباني الأفاعيل ملاحظة حفظ المعاني التي تتميز باختلاف الصيغ ».
فللفعل وظيفة لغوية تتمثل في إظهار المبالغة في الحدث ولا يقتصر أثره على رفع الفاعل ونصب المفعول ولا « النص على تجدد النسبة المستند إلى المسند إليه في فترة من فترات الزمان غالباً ولم يكن من وظيفته أن يرفع أو ينصب ، فينبغي ألا يوضع الفعل في الموضع الذي وضعه القدماء فيه » .
لأن الفعل قد يدل على ثبوت الصفة على موصوفها ، أو على حصول الحدث وانقطاعه ، كما في الأفعال الماضية .
قال الرازي : « الفعل كلمة دالة على ثبوت المصدر نشيء غير معين في زمان
معين » .
والحقيقة أن الفعل في المعنى وصف لفاعله بدليل أنه إذا بولغ به أصبح صفة في اللفظ.
قال الرضي : « جميع الأفعال في المعنى صفات لفاعلها » ولذلك إذا قصدت تكثير الحدث كما أو كيف تحول إلى صفة .
وقال الزركشي : « وربما بولغ في الفعل فجاء تارة بالصيغة الاسمية كالمجاهدين والمهاجرين والمؤمنين لأنه للشأن والصفة » .
وكذلك في التوحيد ، قال الفراء في قوله تعالى : ) ولا تكونوا أول كافرٍ به ( [ البقرة : 41 ] : « فوحد الكافر وقبله جمع وذلك من كلام العرب فصيح جيد في الاسم إذا كان مشتقاً من فعل مثل الفاعل والمفعول يراد به ولا تكونوا أول من يكفر فتحذف ( من ) ويقوم الفعل والاشتقاق مقامها فيؤدي الفعل عن مثل ما أدت من النسبة من التأنيث والجمع وهو في لفظ توحيد .
دليل ذلك مقاربة الصفة للفعل وجريها مجراه في العمل ، « لأن الصفة في افتقارها إلى تقدم الموصوف كالفعل في افتقاره إلى الفاعل والصفة مشتقة من المصدر كما أن الفعل كذلك فلما قاربت الصفة الفعل هذه المقاربة جرت مجراه » .
وكذلك في الجمع « وأما صفاتهم فإنها جارية مجرى الأفعال فزادوا عليها بعد تمامها على الجمع كما يفعل ذلك بالفعل في نحو يقومون ويضربون فكما جمعوا أفعالهم بالواو والنون كذلك جمعوا صفاتهم لأن الصفة تجري مجرى الفعل » .
والمبالغة تتم في صوغة على ( فَعُل ) وهذا البناء يدل على الطبائع والسجايا فهو وصف ثابت بدليل مجيء اسم الفاعل منه على ( فعيل ) ، وهذا البناء يدل على الثبوت لأنه من أوزان الصفة المشبهة .
وقد قرأ أبو حبوة شريح بن يزيد قوله تعالى : ) فبهت الذي كفر ( [ البقرة : 258 ] ، فأقوى معنى من ( بَهِتَ ) وذلك أن ( فَعُل ) تأتي للمبالغة كقولهم قضوُ الرجل إذا جاد قضاؤه وفقُه إذا قوي في فقهه وشعُر إذا جاد شعره ... وأن العرب تقول ضربت اليد إذا جاء ضربها وكذلك بهت إذا تناهى في الخرق والبرق والجيرة والدهشة .
فقد حولت الأفعال ( بهت ) ففي رفقه إلى باب ( فَعُل ) للمدح والذم والتعجب للدلالة على أنها صارت كالغريزة في أصحابها مع إظهار التعجب .


المبالغة بالتحويل والنقل والتغيير من حال إلى حال :ـ
« اعلم أنه يلحق بنعم وبئس كل ما هو ( فعل ) بضم العين بالأصالة نحو ظرف الرجل زيداً وبالتحويل إلى الضم من فعل أو فعل نحو رموت اليد يده وقضو الرجل زيد بشرط تضمينه معنى التعجب ولهذا كثر انجرار فاعل هذا الملحق بالباء وذلك لكونه بمعنى أفعل به نحو ظرف يزيد أي أظرف به ويكثر أيضاً استغناؤه عن الألف واللام كقوله تعالى : ) وحسن أولئك رفيقاً ( تمييز لإبهام أولئك وقيل حال » .
« ويضمر فاعل فعل المذكور كثيراً على وفق ما قبله نحو جاءني الزيدان وكرما أي ما أكرمهما ولم يجز ذلك في نعم وبئس وذلك لعدم عراقته في المدح والذم وكونه كفعل التعجب معنى » .
ومنها حبذا وفاعله ذا أصل حب حبب كظرف أي صار حبيباً فادغم كغيره وألزم منع التصرف لما ذكرنا في نعم وبئس .
حسن ذا ادبا ويروى أيضاً عظم البطن بطنك والتغيير في اللفظ دلالة على التغيير في المعنى إلى المدح أو التعجب وقد يجز فاعل حب بالباء مفرداً عن ذا تشبيها بفاعل أفعل تعجباً كما قال وحب بها مقتولة .
« وقال قوم لك أن تذهب بسائر الافعال إلى مذهب نعم وبئس فتحولها إلى ( فعل ) فتقول علم الرجل زيد وجاء الثوب ثوبه وطاب الطعام طعامه وإذا تعجبت فهو مثل نعم الرجم زيد تمدح وأنت متعجب وكلي عن الكسائي أنه كان يقول في هذا قضو الرجل ودعو الرجل إذا أجاد القضاء وأحسن الدعاء قال تعالى : ) كبرت كلمة تخرج من أفواههم ( ، وقال : ) وحسن أولئك رفيقاً ( وكل ما كان من ذلك بمعنى نعم وبئس يجوز نقل حركة وسطه إلى أوله وإن شئت تركت أوله على حاله وسكنت وسطه فتقول ظرف الرجل زيد وظرف الرجل زيد فمن قال ظرف فاصله ظرف فنقل الضمة إلى الظاء للإيذان بالمراد والأصل ومن قال ظرف بفتح الظاء لم ينقل وتركها على حالها ثقة بدليل الحال كما قال :ـ
فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها

وحُبَّ بها مقتولة حين تقتل
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59