عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12-18-2013, 05:11 PM
ام زهرة غير متواجد حالياً
متميز وأصيل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: العراق
المشاركات: 6,886
افتراضي هل أعذب الشعر أكذبه؟


اللهم لك الحمد كله، ولك الشكر كله، ولك الثناء كله، حمداً وشكراً وثناءً يليق بجلالك، وتكتب لنا به رضاك، وتزيدنا به من فضلك، وصل اللهم وسلم على خير أنبيائك ورسلك، محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان من عبادك، أما بعد:


أهلاً بكم أيها الأحبة الكرام في هذه الجلسة الأدبية، نستجم فيها قليلاً، نناقش بعض مسائل الأدب، وندرس نتفاً من قضاياه، ونستنبط شيئاً من درره؛ كما قال أحد شيوخ الفقه الكبار: "اقرؤوا الأدب فإنه يثبت العلم "، وقال آخر: "لن تفهموا الفقه حتى تفهموا الأدب".


وسنناقش في هذه الجلسة مسألة من مسائل الأدب التي كثر فيها المقال، وتوسع فيها الخلاف والجدال، وهي مسألة: هل أعذب الشعر أكذبه؟.
وسنقسم الكلام في المسألة إلى ثلاثة مذاهب كما يلي:


المذهب الأول: مذهب المؤيدين لمقولة "أعذب الشعر أكذبه":

ويرى أصحاب هذا المذهب أن هذه المقولة قد أصابت المحز من الحقيقة، وأنها مقولة حق وصدق، وأن الشعر لا يبهر ويبهج إلا إذا ترصع بالكذب، وسافر مع الخيال، وأنه "كلما أوغل في المبالغة كلما كان أمتع وألذ" لهذا "قال بعض الحكماء: لم ير متدين صادق اللهجة مُفلق2 في شعره"3، وقال الرازي: "وكل شاعر ترك الكذب، والتزم الصدق؛ نزل شعره ولم يكن جيداً، ولذلك قيل: أحسن الشعر أكذبه.


المذهب الثاني: المعارضين لمقولة "أعذب الشعر أكذبه":
أما أصحاب هذا المذهب فيرون أن هذه المقولة أخطأت الصواب، ولم تصب الحقيقة ولا قاربت، بل عدوها دعوى فارغة من البينة، زائغة عن الصواب، ترى ذلك في مقولة عبدالرحمن الميداني: "أمّا دعوى "أعذب الشعر أكذبه" فهي دعوى لا أساس لها من الصحّة لدى التحليل والبحث عن العناصر الجماليّة في الأدب، إنّ الحقّ إذا لبس ثوباً أدبيّاً جميلاً كان أجمل من الباطل لا محالة، مهما لبس من أثواب جميلة مزخرفة، إنّ الحُلَّة والحِلْيَة الأدبيَّة اللَّتَيْن يرفل بهما قول الله - تعالى - في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول): {أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17)} للفكرة الحقِّ التي تبيّن واقع انتصار الحقّ والمحقِّين بعد أحداث الصِّراع بين الفريقين، أجمل من كل أدب يُزيِّن فكرة باطلة لتكون مقبولة محبَّبَة.
ربّما يكون تضخيم الحقّ وتجسيمه في الصورة الأدبيّة عملاً أدبيّاً جميلاً؛ لأنّ التضخيم والتجسيم في مفاهيم النّاس لون من ألوان البيان والشرح للحقيقة، وبعد الشرح ترجع الحقيقة في تَصَوُّرِ النّاس إلى حجمها الطبيعي.


إنّ الفكرة المشتملة على كذب سخيف ممجوج قد يستعذِبها الذهن لطرافتها، ولكن يمجّها الذَّوق والحسُّ المرهف العارف بألوان الجمال لسخافتها، ومجافاتها للحقيقة مجافاةً واسعة المسافة، في قول المتنبّي:
كفى بجسمي نحولاً أنّني رجل لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني
وفي قول الآخر:
ولوْ أنّ ما بي من جَوىً وصبابةٍ على جَمَلٍ لم يدخل النّار كافر
قد نلاحظ فكرة غريبة لا يتصيّدها إلاَّ شاعر ذَكِيّ فنُعْجَبُ بطرافتها، ولكنّنا مع ذلك نمُجُّها؛ لأنَّها تشتمل على دعوى كاذبة سخيفة؛ أمَّا حين تكون الفكرة مبتكرة حلوة، وتكون الدَّعوى صادقة في أصلها، مضخَّمة مجسَّمة مبالغاً بها في صورتها الأدبيّة؛ فإنّ الكلام يكون حينئذٍ أرفع أدباً، وأعلى كعباً، وأوقع في النّفس.
هَلُمَّ فَلْنَلْحظ اجتماع الصدق والأدب الرفيع في قول الله - تعالى - في سورة (ق/5 مصحف/34 نزول): {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30)}.
إنَّ في هذه الآية حلاوة فكرة السؤال والجواب، وحلاوة الجواب الذكي الذي لم يكن مباشرة بصيغة: (لم أمتلىء) أو بصيغة (لا) مع كثرة الذين أُلقوا فيها، إنّما جاء على صيغة سُؤال النَّهِم الشَّرِه طالب المزيد: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ}؟!.
وما دام باستطاعة الإِنسان أنْ ينتقي من الحقّ والصدق عناصر جماليّة لأدبه فما أوفر الحقّ والصدق في بيانات الإِسلام، أما الدّعاة إلى الله فما عليهم إلاَّ أنْ يغترفوا".

"والآمدي في (الموازنة) ينفي أن يكون مذهب العرب هو أن أعذبَ الشعر أكذبُه، ويقول: لا والله بل أعذبُ الشعر أصدقُه"، وقال ابن رشيق: "ومن الناس من يرى أن فضيلة الشاعر إنما هي في معرفته بوجوه الإغراق والغلو، ولا أرى ذلك إلا محال؛ لمخالفته الحقيقة، وخروجه عن الواجب والمتعارف، وقد قال الحذاق: خير الكلام الحقائق، فإن لم يكن فما قاربها وناسبها"


المذهب الثالث: المفصّلين في المسألة:
يؤثر أصحاب هذا المذهب أن يكونوا وسطاً بين طرفين، وحكماً بين خصمين؛ وهذه بعض أقوالهم التي تعبر عن مذهبهم هذا:



قال أحدهم: " وإذا كان النقاد قد انقسموا إلى فئتين: فئة تقول: أحسن الشعر أكذبه، وفئة تقول: أحسن الشعر أصدقه، فإن المرزوقي قد أضاف فئة ثالثة تقول: "أحسن الشعر أقصده"، ولعل هذا هو الرأي السليم، إذ لا تعارض بين الصدق من جهة، والغلوّ والمبالغة من جهة أخرى، بل أن الغلوّ في كثير من الأحيان أصدق من الواقعية النموذجية"، "إلا أن الشعر تميز بأن أساسه التأثير بواسطة التخييلات البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ونحو ذلك، ولما كان الخيال صورة من صور الكذب قيل: إن أعذب الشعر أكذبه، ولكن ليس ذلك على إطلاقه؛ فإن العمدة في حسن الشعر وجودته على صدق الشعور، وجمال التعبير، وكم من أبيات اعتبرت من عيون الشعر بينما هي لا تعتمد على أي صورة كاذبة، وإنما تتجلى بلاغتها في حسن إصابتها للمعنى الصحيح، وحسن صياغتها في تعبير جميل، ولعل حسان - رضي الله عنه - كان يعني هذا الميزان حينما قال:


وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقاً
إلا أن الذي غلب على الشعراء المبالغة في الصور البيانية إلى حد التخييل الكاذب الصريح، وخاصة في مقاصد الوصف والمدح والهجاء، فتسابقوا إلى الإغراب في ذلك، وإلى ابتداع المعاني الموغلة في الاستحالة، زاعمين أنه بذلك يحلو الشعر ويستعذب، فمن قائل:
بكت لؤلؤاً رطباً فسالت مدامعي عقيقاً فصار الكل في جيدها عقداً
وقائل:
فلولا الريح أسمع من بحجـر صليل البيض تقرع بالذكور
ولعمري لو كان هذا الميزان صحيحاً؛ إذاً لكان أكثر حسناً وعذوبة في الشعر قول أبي نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى أنه
لتخافك النطف التي لم تخلق"
المذهب الرابع: من أجاز العبارة ولكن مقيدة:
ومن أنصار هذا المذهب الخفاجي حيث يقول: "وأما المبالغة في المعنى والغلو: فإن الناس مختلفون في حمد الغلو وذمه، فمنهم من يختاره ويقول: "أحسن الشعر أكذبه"، ويستدل بقول النابغة وقد سئل من أشعر الناس؟ فقال: من استجيد كذبه، وأضحك رديئه، وهذا هو مذهب اليونانيين في شعرهم، ومنهم من يكره الغلو والمبالغة التي تخرج إلى الإحالة، ويختار ما قارب الحقيقة، ودانى الصحة، ويعيب قول أبي نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق
لما في ذلك من الغلو والإفراط الخارج عن الحقيقة، والذي أذهب إليه المذهب الأول في حمد المبالغة والغلو؛ لأن الشعر مبني على الجواز والتسمح، لكن أرى أن يستعمل في ذلك كاد وما جرى في معناها ليكون الكلام أقرب إلى حيز الصحة كما قال أبو عبادة:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقال أبو الطيب:
يطمع الطير فيهم طول أكلهم حتى تكاد على أحيائهم تقع

فهذان البيتان تضمنا غلواً لكن لما جاءت فيهما كاد قربتهما إلى الصحة".
وختاماً:

كانت هذه هي مذاهب الناس في مقولة: أعذب الشعر أكذبه، والذي يظهر ويترجح - والله أعلم - هو مذهب التفصيل؛ وذلك لحديث ورد عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام))
والحمد لله رب العالمين.

المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59