عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-11-2015, 08:59 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,217
ورقة براءة الإسلام من (التوحّش)

براءة الإسلام من (التوحّش)
ـــــــــــــ

(د. محمد عياش الكبيسي)
ــــــــــــ

22 / 4 / 1436 هــ
11 / 2 / 2015 م
ــــــــــ






صُدم العالم بالصور التي بثها التنظيم المعروف باسم (داعش) عن الأسير الأردني الطيار وهم يقومون بحرقه حيّا بعد أن كبّلوه ووضعوه داخل قفص حديدي.

الصورة على بشاعتها قد لا تختلف كثيرا عن صور الحروب المعاصرة وحملات التطهير الديني والعرقي في أكثر من بلد، مما تمثل بمجموعها انتكاسة تاريخية لا مثيل لها لسكّان الأرض، حتى بالنسبة لسكّان الغابات من الوحوش البرّية التي يقتات بعضها على لحوم بعض.

إن التنظيم يعلم أنه لن يكون نشازا في هذا الظاهرة الإجرامية الممتدّة من سجن أبي غريب وسجون المالكي السرّية ثم مجازر النظام السوري، والبشاعات المقززة التي ترتكبها العصابات البوذية في بورما، ولذلك رأى أن يضيف بصماته الخاصّة ل*** الأنظار وتهييج المجتمع البشري عامة، وهذه البصمات هي:

أولا: تبنّيه للجريمة بشكل معلن ورسمي، بينما يحرص الآخرون على ارتكاب جرائمهم خفية في السجون السرّية ونحوها، وحينما تتسرّب بعض الصور، يتنصّلون عنها، ويقدّمون (المجرمين) للمحاكمة (العادلة)!

ثانيا: الجرائم الوحشيّة العلنيّة في العالم ترتكب في الغالب أثناء (الجهد العسكري) أي في حالة الاشتباك، وهنا لا يتوقّع من الطرفين إلا استخدام أقصى ما لديهم من أسلحة، وهذا في العرف العالمي مبرر إلى حد كبير، فإذا أصابوا أهدافا مدنيّة قالوا: إنها أخطاء معهودة ومتوقّعة في حالة الاشتباك والدفاع عن النفس، أما (داعش) فإنّها تجهد نفسها لتقديم أبشع ما لديها من صور ليس في ميادين الاشتباك بل مع الأسرى والمسجونين، بحيث لا يبقى عذر لمعتذر إلا شهوة الانتقام والتشفي بالضعفاء، وهنا تظهر المقارنة العكسيّة، فبينما تحرص كل دول العالم على إظهار تعاملها الحضاري مع الأسرى ولو بالكذب والخداع الإعلامي، تحرص داعش على تقديم الصورة المعكوسة، وأذكر بهذا الصدد كيف كانت الإذاعة الإيرانيّة تقدم الأسرى العراقيين تحت اسم (ضيوف الجمهورية الإسلامية)، ولكن حينما وصل إلينا هؤلاء الضيوف بصفقات تبادل الأسرى حكوا لنا ما تشيب له الولدان.

ثالثا: أن كل دول العالم تحاول أن تعزل جرائمها حتى لو اعترفت بها عن دينها وثقافتها، وتعزوها إلى الأخطاء البشريّة أو الضرورات العسكريّة، إلا تنظيم داعش فهو حريص في كل صورة مقززة وبشعة أن يقرنها بآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومأثورات السلف!

إن حروب العالم كلها تقوم على جانبين؛ إثخان في العدوّ، ومحاولة كسب للرأي العام ولو بطريق الخداع والكذب، أما هؤلاء فلهم استراتيجيّة أخرى، تعتمد على صناعة الأعداء وتكثيرهم ودفعهم للتحالف حتى لو كانوا مختلفين فيما بينهم، وهذه الاستراتيجية النشاز غير مفهومة إلا إذا كانت جزءا من دور وظيفي أكبر بكثير من شعارات هؤلاء وهتافاتهم وأمنيات الحالمين وراءهم.

لا زلت أذكر كيف أن الأنبار وهي المحافظة الأكبر في العراق كانت كلها تتبرك بآثار المجاهدين، ويبالغون في نقل أخبارهم وكراماتهم، حتى إذا تمكّن هؤلاء (المجاهدون) صُدم الأنباريون بهم من كل فئات المجتمع، ودارت بين الفريقين الحرب الضروس، وكان الأميركان والإيرانيون يتفرّجون على هذا المشهد الدراماتيكي، ويتدخلون في الوقت المناسب والطريقة المناسبة لاستثمار الأحداث وتوجيهها.

لقد رأيت بنفسي تسجيلا مصوّرا لقاضي (الدولة) آنذاك أبي سليمان العتيبي الثبيتي، وهو يأتي بثلاثة شباب (أسرى) من عشيرة سنّية مكبّلين فيصب عليهم البنزين ثم يدفعهم إلى أخدود ملتهب بالنيران وهم أحياء، وهو يتلو آيات القرآن وكلمات التوحيد والإيمان، دون محاكمة ولا ذكر للجريمة التي اقترفوها! وهو مشهد أكثر بشاعة من مشهد الطيّار الأردني -رحمه الله- والأغرب من هذا أن هذا القاضي قد هرب من الدولة لأنه رأى من قياداتها اعتداءات و(تجاوزات شرعية) لا يمكن السكوت عليها بحسب رسالته إلى قياداته العليا!

إن الجهد الإعلامي لهؤلاء والجهد المساند لهم من بعض المتعاطفين والمغرورين، قد اعتمد سياسة التسقيط والتشويه لكل من يخالف هذا الشذوذ ولو بكلمة، فأهل الأنبار بعلمائهم وعشائرهم وفصائلهم المقاومة أصبحوا كلهم في نظر هؤلاء (صحوات)، حتى أولئك الذين خرجوا بمآت الالاف لسنة كاملة احتجاجا على سياسات المالكي وجرائمه في المحافظات الست هم صحوات أيضا، لأنهم لم ينخرطوا تحت هذه الراية! والحالة السورية لا تختلف عن الحالة العراقية، فعلماء سوريا كلهم دون استثناء والجيش الحر والفصائل الإسلامية حتى النصرة التي هي بنت الدولة أو توأمها، كل هؤلاء (صحوات) أيضا! وللتذكير أيضا فإن الجهاد الأفغاني الذي انطلق بأسماء وفصائل معروفة قد أصبحوا كلّهم اليوم تحت هذا الوصف! أما لماذا؟ فليس هناك جواب عندهم سوى الاتهام بالنفاق والركون إلى الدنيا!

في كتاب (إدارة التوحّش) وهو أشبه بالدستور العملي لهذا النوع من (الجهاد) يتحدّث بصراحة عن استراتيجية التوحش، وأنها لا تصلح مع وجود دولة منظّمة ومؤسسات قوية وفاعلة، فالبيئة الأصلح والتوقيت الأفضل للدخول إنما يكون في أوج الفوضى وانهيار النظام ومؤسساته لأي سبب كان، بغزو خارجي أو احتراب داخلي، وكل ما على صانع (الفوضى) ومهندسها أن يُطيل أمد الحرب حتى يكلّ الطرفان ويشعران بالإرهاق، آنذاك يأتي (التوحّش) ليكمّل المرحلة الثانية وهي مرحلة ما بعد الفوضى! أما المرحلة الثالثة فأظنّها ستنهي دور (الفوضويين) و (المتوحشين) ليطلّ علينا وجه آخر لا يعلم حقيقته إلا الله وبعض الراسخين في العلم!

إن هاتين المرحلتين قد أصابتا الأمة بحالة من الإرتباك والحيرة والشعور باللاجدوى، وجعلت خيارهم لا يفكّر إلا باعتزال (الفتنة) والانتظار، وربما تجرّأ بعض أهل العلم لا ليكون لهم موقف مؤثّر في الأحداث، بل ليحافظوا على صفاء الإسلام ونقاء جوهره من هذا الدرن والشذوذ، وهذا هو الذي يفسّر نشاطهم إزاء كل حدث يمسّ سمعة هذا الدين وصورة النبيّ الكريم في أذهان الناس، كأنّهم يقولون للناس: لم يعد لنا شأن بحروبكم ومشاريعكم ولا مطمع بنصحكم أو تغيير سلوككم، فكلكم سواء، الذين على اليمين والذين على الشمال، إلا ما رحم ربّك، تبادلوا أدواركم ومواقعكم، وتقاسموا غنائمكم وأرزاقكم، واتركوا لنا ديننا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59