عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 10-12-2014, 08:37 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,217
ورقة

فتح أزمير ذريعة لهدم الدين (3)
ـــــــــــــــــــ

النص المحقق من كتاب: "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"
---------------------------------


إذا كانت غاية القوانين وزْع الأمة أو الحكومة عن النزوع إلى أهوائها، فمُستبعد جدًّا ومُستغرَب وَزعُها بما تستقلُّ في سَنِّه وتبديله متى شاءت؛ فنحن ندَّعي أن كل إنسان يجب أن يكون تحت أمر القانون وحكمه، مع أن القوانين مِن موضوعات الإنسان، فأيهما يَحكم على الآخَر؟ وهل الذين يَضعون القوانين خارِجون مِن نوع الإنسان الذي حكمْنا بلزوم كونه تحت حكم القانون، حتى عندما يضع القوانين التي تُساس بها البلاد، فيلزم أن يكون لسنِّ القوانين حدود يُوقَف عندها، وبعبارة أخرى يلزم أن يوجد قوانين أساسية لا يَتخطَّاها نظام القوانين، ولا يسوغ لهم تبديلها؛ حتى تَنتهي القوانين الموضوعة فيها، ويستفيد قوة الوَزعِ منها، وتلك القوانين الأساسية أكملها ما كانت سماوية؛ لِمَا أن تَغييرها ليس في وسع البشر[1]، فهي أحرى أن تكون تُخوم الاستناد، وتتَّخذ آخر مفزع لإصلاح الفساد الناشئ مِن أنفسهم ومنهم نُظَّام القوانين، ويذكر الطبيعيُّون بدل القوانين السماوية القوانين الطبيعية، مع أن وازعيَّتها غير تامَّة؛ لخُلوِّها عن القوة التأييدية كالثواب والعقاب، وفي الدرجة الثالثة بعد القوانين السماوية والطبيعية قوانين أساسية موضوعة الأمم، ولياقتها للاستناد المبحوث عنه ولوَصفِ الأساسية بقدر اعتدادها مصونة مِن التبديل؛ حتى كأنهم لم يسنُّوها فلا يستطيعون تبديلها، لا كالذي جرى في بلادنا مِن تبديل القانون الأساسي في خمس عشرة سنة خمس عشرة مرة، والمصونية من التغيير كما يجب في القوانين الأساسية يستحبُّ في القوانين الفرعية أيضًا؛ ولهذا نرى أسعد البلاد إدارة، وأثبتها أمنًا، بلادًا تسنُّ فيها القوانين وتُصان من التلاعب بها بكل معنًى لكلمة التلاعب، وعكس ذلك ما يُرى في بلادنا مِن هرج ومرَج القوانين.

فقد علمت دعاوى الكماليِّين ودعاياتهم في إعزاز الأمة وترقية الإدارة، حتى ما اجتزؤوا بحرية الشعب؛ فترقَّوا إلى مملكتها، وبمشروطية الإدارة؛ فترقَّوا إلى جمهوريتها، ومع كل ذلك الذي يتعلق بدعوى الحرية والترقي إلى عليا درجاتها، سنُّوا قانون الخيانة الوطنية وأبطلوا به حرية الفكر والاجتهاد عن أصلها[2]، وقد قرأت قول واصف بك نائب (صاروخان) في المجلس الوطني الكبير والنائب العمومي لمَحكمة الاستقلال عند محاكمة لطفي فكري بك، مبيِّنًا للسبب الذي ساق المَجلس إلى نظم هذا القانون، ومجيبًا عن اعتراض لطفي فكري بأن معه القانون، إذا كان كما فهمه النائب العمومي، فأين تبقى حرية الفكر وحرية المناقشة وحرية الكلام؟ "إن كل مَن يَعيش في وطنِ الترك تحت حكم قوانينه، فلا يكون له حق الكلام في هذه المسألة، والحريات مقدَّسة بشرط ألا تتعارَضَ هي والقانون"، يعني ما دام هذا القانون يَمنع حرية الفكر والمناقشة والكلام، فلا يجوز البحث عنها في هذه البلاد، وعلى ما قاله النائب العمومي للمحكمَة الكماليَّة؛ فدعاوى الحرية السامية مبنيَّة على السقوط والحُبوط بعدما كان مِن حقِّ الحكومة أن تمنعَها متى شاءت بقانون تسنُّه، ومِن كلامه: "إن نُظَّام ذاك القانون رأوا ما أصيبت به البلاد (تركيا) تحت دعاوى الحرية من الحوادث والكوارث المسبقة"، ومَن سمع هذا الكلام يظنُّ أن قائله يُصوِّر أدوار الاتحاديين والكماليين؛ لأن تلك الحوادث والكوارث وليدة هذَين العهدَين، وفيهما أيضًا بولغ في دعوى الحرية ودعايتها، وإذا كانت الحرية أضرَّت بالبلاد على ما ادَّعاه حضرة النائب العمومي للحكومة الكمالية، فما الذي كان عيب الحكومة المُطلَقة وذنبها، ومِن أين لزوم تلك المحاكم الاستقلالية الموضوعة لإرهاب الناس على احتمال الرجوع إلى غير الحكومة الجمهورية، وما هذه السخرية والشعوَذة مِن إماتة الحرية لإحيائها وإعزازها، ورأس البليَّة، ومنبَع الخديعة تلبيسُ حرية الحكومة بحرية الأمة، وسلطنَة شركة اللصوص بسلطنة الأمة المسكينة وإراءتها بمرآهما.

وقد تبيَّن مِن تفصيل ما ذكرنا في هذا المقام غفلةُ أُناس يتبرَّمون بدِين الإسلام؛ لكونه مبنيًّا على قوانين ثابتة؛ كهاشم ناهيد بك، الذي ناظرتُه وجادلتُه على مبادئه ومذاهبه في كتابي المطبوع باسم "ديني مجددلر" - مجددو الدين - وتبرُّمُه بقوانين الإسلام الثابتة ناشئٌ مِن أنه يراها منافية لحرية الإنسان في وضع القوانين[3]، مع أن الإنسان إذا خُلِّي ونفسه الطاغية يضع بيده قانونًا يقضي على الحرية ويَجعلها كلُعبة لاعب ودعوة كاذب، فلا بد له مِن بعض قوانين ثابتة تكون أول حائل بينه وبين طغواه، وما يضادُّه مِن دعواه، هذا وإني جرَّبت اللادينيِّين، فوجدتهم كاذبين في دعوى الحرية، كما أنهم كاذبون في كل موعد لهم تَرتاح له نفوس الناس، وأهل الديانة أصدق في فُسحَة الحرية ومأزق القانون.
---------------------------------------

[1] حجَّة قوية مِن حُجَج الشيخ مصطفى التي يتحدى بها خصومه، لا سيما القائلين بأن "الحريات مقدَّسة ما دامت لا تتعارض مع القانون"، فيَسخَر سخرية لاذعة مِن هذا المبدأ المُصطنَع بقوله: "إذا تُرك الطاغية، فإنه يضع قانونًا يحكم به الحريات"! كذلك يتَّهم اللادينيِّين بأنهم كاذبون في دعوى الحرية؛ إذ يُضمرون الرغبة الأكيدة في كبتِ الحريات وفرض إرادتهم على الجماهير، ويرى أنه ما دام الأمر مَتروكًا للإنسان ليضع القوانين والتشريعات، فسينتهي الحال بأحد الطغاة إلى أن يضع بيده قانونًا يقضي على الحرية!
[2] لقد عانى المؤلف كثيرًا مِن تهمة الخيانة الوطنية، هذا السيف المُشهر في يدِ كل دكتاتور، لإسكات أصوات المعارضة وخَنقِ حرية الكلمة.
[3] يُقصَد بالقوانين الثابتة القوانين السماوية - أي: الشرع - لأن تغييرها ليس في وسع البشر.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59