عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 01-09-2012, 10:53 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

الفصل الثلاثون في أن الخط و الكتابة من عداد الصنائع الإنسانية
و هو رسوم و أشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس. فهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية و هو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميز بها عن الحيوان. و أيضاً فهي تطلع على ما في الضمائر و تتأدى بها الأغراض إلى البلاد البعيدة فتقضي الحاجات و قد دفعت مؤنة المباشرة لها و يطلع بها على العلوم و المعارف و صحف الأولين و ما كتبوه من علومهم و أخبارهم فهي شريفة بهذه الوجوه و المنافع. و خروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم و على قدر الاجتماع و العمران و التناغي في الكمالات و الطلب لذلك تكون جودة الخط في المدينة. إذ هو من جملة الصنائع. و قد قدمنا أن هذا شأنها و أنها تابعة للعمران و لهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون و لا يقرأون و من قرأ منهم أو كتب فيكون خطه قاصراً أو قراءته غير نافذة. و نجد تعليم الخط فى الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ و أحسن و أسهل طريقاً لاستحكام الصنعة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد و أن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين و أحكاماً في وضع كل حرف و يزيدون إلى ذلك المباشر بتعليم وضعه فتعتضد لديه رتبة العلم و الحس في التعليم و تأتي ملكته على أتم الوجوه. و إنما أتى هذا من كمال الصنائع و وفورها بكثرة العمران و انفساح الأعمال و قد كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الإحكام و الإتقان و الجودة في دولة التبابعة لما بلغت من الحضارة و الترف و هو المسمى بالخط الحميري. و انتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التبابعة في العصبية و المجددين لملك العرب بأرض العراق. و لم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة لقصور ما بين الدولتين. و كانت الحضارة و توابعها من الصنائع و غيرها قاصرة عن ذلك. و من الحيرة لقنه أهل الطائف و قريش فيما ذكر. و يقال إن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية و يقال حرب بن أمية و أخذها من أسلم بن سدرة. و هو قول ممكن و أقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم:
قوم لهم ساحة العراقإذا ساروا جميعاً و الخط و القلم
و هو قول بعيد لأن إياداً و إن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة. و الخط من الصنائع الحضرية. و إنما معنى قول الشاعر أنهم أقرب إلى الخط و القلم من غيرهم من العرب لقربهم من ساحة الأمصار و ضواحيها فالقول بأن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة و لقنها أهل الحيرة من التبابعة و حمير هو الأليق من الأقوال و رأيت في كتاب التكملة لابن الأبار عند التعريف بابن فروخ الفيرواني القاسي الأندلسي من أصحاب مالك رضي الله عنه و اسمه عبد الله بن فروخ بن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم. عن أبيه قال قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش، خبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم تجمعون منه ما أجتمع و تفرقون منه ما افترق مثل الألف و اللام و الميم و النون ؟ قال: نعم. قلت و ممن أخذتموه ؟ قال، من حرب بن أمية. قلت: و ممن أخذه حرب ؟ قال، من عبد الله بن جدعان. قلت: و ممن أخذه عبد الله بن جدعان ؟ قال من أهل الأنبار. قلت: و ممن أخذه أهل الأنبار ؟ قال: من طارئ طرأ عليه من أهل اليمن. قلت و ممن أخذه ذلك لطاريء ؟ قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي ليهود النبى عليه السلام. و هو الذي يقول:
أفي كل عام سنة تحدثونها و رأي على غير الطريق يعبر
و الموت خير من حياة تسبنا بها جرهم فيمن يسب و حمير
انتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التكملة. و زاد في آخره حدثني بذلك أبو بكر بن أبي حميره في كتابه عن أبي بحر بن العاص عن أبي الوليد الوقشي عن أبي عمر الطلعنكي بن أبي عبد الله بن مفرح. و من خطه نقلته عن أبي سعيد بن يونس عن محمد بن موسى بن النعمان عن يحيى بن محمد بن حشيش بن عمر بن أيوب المغافري التونسي عن بهلول بن عبيدة الحمي عن عبد الله بن فروخ. انتهى.
و كان لحمير كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة و كانوا يمنعون من تعلمها إلا بإذنهم. و من حمير تعلمت مصر الكتابة العربية إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو فلا تكون محكمة المذاهب و لا مائلة إلى الإتقان والتنميق لبون ما بين البدو و الصناعة و استغناء البدو عنها في الأكثر. و كانت كتابة العرب بدوية مثل كتابتهم أو قريباً من كتابتهم لهذا العهد أو نقول أن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة و مخالطة الأمصار و الدول. و أما مصر فكانوا أعرق في البدو و أبعد عن الحضر من أهل اليمن و أهل العراق و أهل الشام و مصر فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام و الإتقان و الإجادة و لا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة و التوحش و بعدهم عن الصنائع، و انظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم و كانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم و خير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله و كلامه. كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً و يتبع رسمه خطاً أو صواباً. و أين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه فاتبع ذلك و أثبت رسماً و نبه العلماء بالرسم على مواضعه. و لا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط و أن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل بل لكلها وجه. يقولون في مثل زيادة الألف في لا أذبحنه: إنه تنبيه على الذبح لم يقع و في زيادة الياء في بأييد إنه تنبيه على كمال القدرة الربانية و أمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض. و ما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهاً للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط. و حسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه و نسبوا إليهم الكمال بإجادته و طلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه و ذلك ليس بصحيح. و اعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر. و الكمال في الصنائع إضافي و ليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين و لا في الخلال و إنما يعود على أسباب المعا ش و بحسب العمران و التعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس. و قد كان صلى الله عليه و سلم أمياً و كان ذلك كمالاً في حقه و بالنسبة إلى مقامه لشرفه و تنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعا ش و العمران كلها. و ليست الأمية كمالاً في حقنا نحن إذ هو منقطع إلى ربه و نحن متعاونون على الحياة الدنيا شأن الصنائع كلها حتى العلوم الاصطلاحية فإن الكمال في حقه تنزهه عنها جملةً بخلافنا. ثم لما جاء الملك للعرب و فتحوا الأمصار و ملكوا الممالك و نزلوا البصرة و الكوفة و احتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط و طلبوا صناعته و تعلموه و تداولوه فترقت الإجادة فيه و استحكم و بلغ في الكوفة و البصرة رتبة من الإتقان إلا أنها كانت دون الغاية. و الخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد. ثم انتشر العرب في الأقطار و الممالك و افتتحوا أفريقية و الأندلس و اختط بنو العباس بغداد و ترقت الخطوط فيها إلى الغاية لما استبحرت في العمران و كانت دار الإسلام و مركز الدولة العربية و خالفت أوضاع الخط ببغداد أوضاعه بالكوفة. في الميل إلى إجادة الرسوم و جمال الرونق و حسن الرواء. و استحكمت هذه المخالفة في الأمصار إلى أن رفع رايتها ببغداد علي بن مقلة الوزير. ثم تلاه في ذلك علي بن هلال. الكاتب الشهير بابن البواب. و وقف سند تعليمها عليه في الماية الثالثة و ما بعدها.
و بعدت رسوم الخط البغدادي و أوضاعه عن الكوفة حتى انتهى إلى المباينة. ثم ازدادت المخالفة بعد تلك القصور بتفنن الجهابذة في إحكام رسومه و أوضاعه، حتى انتهت إلى المتأخرين مثل ياقوت و الولي علي العجمي. و وقف سند تعليم الخط عليهم و انتقل ذلك إلى مصر، و خالفت طريقة العراق بعض الشيء و لقنها العجم هنالك، و ظهرت مخالفة لخط أهل مصر أو مباينة.
و كان الخط البغدادي معروف الرسم و تبعه الإفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد. و يقرب من أوضاع الخط المشرقي و تحيز ملك الأندلس بالأمويين فتميزوا بأحوالهم من الحضارة و الصنائع و الخطوط فتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد. و طما بحر العمران و الحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر. و عظم الملك و نفقت أسواق العلوم و انتسخت الكتب و أجيد كتبها و تجليدها و ملئت بها القصور و الخزائن الملوكية بما لا كفاء له و تنافس أهل الأقطار في ذلك و تناغوا فيه. ثم لما انحل نظام الدولة الإسلامية و تناقص ذلك أجمع و درست معالم بغداد بدروس الخلافة فانتقل شأنها من الخط و الكتابة بل و العلم إلى مصر و القاهرة فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد و له بها معلمون يرسمون لتعليم الحروف بقوانين في وضعها و أشكالها متعارفة بينهم فلا يلبث المتعلم أن يحكم أشكال تلك الحروف على تلك الأوضاع و قد لقنها حسناً و حذق فيها دربةً و كتاباً و أخذها قوانين علمية فتجئ أحسن ما يكون. و أما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها و من خلفهم من البربر، و تغلبت عليهم أمم النصرانية فانتشروا في عدوة المغرب و أفريقية من لدن الدولة اللمتونية إلى هذا العهد. و شاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع و تعلقوا بأذيال الدولة فغلب خطهم على الخط الأفريقي و عفى عليه و نسي خط القيروان و المهدية بنسيان عوائدهما و صنائعهما. و صارت خطوط أهل أفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس و ما إليها لتوفر أهل الأندلس بها عند الحالية من شرق الأندلس. و بقي منه رسم ببلاد الجريد الذين لم يخالطوا كتاب الأندلس و لا تمرسوا بجوارهم. إنما كانوا يغدون على دار الملك بتونس فصار خط أهل أفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس حتى إذا تقلص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء و تراجع أمر الحضارة و الترف بتراجع العمران نقص حينئذ حال الخط و فسدت رسومه و جهل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة و تناقص العمران. و بقيت فيه آثار الخط الأندلسي تشهد بما كان لهم من ذلك لما قدمناه من أن الصنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها و حصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخط الأندلسي لقرب جرارهم و سقوط من خرج منهم إلى فاس قريباً و استعمالهم إياهم سائر الدولة. و نسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك و داره. كأنه لم يعرف. فصارت الخطوط بإفريقية و المغربيين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة و صارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها إلا العناء و المشقة لكثرة ما يقع فيها من الفساد و التصحيف و تغيير الأشكال الخطية عن الجودة حتى لا تكاد تقرأ إلا بعد عسر و وقع فيه ما وقع في سائر الصنائع بنقص الحضارة و فساد الدول و الله يحكم لا معقب لحكمه.
و للأستاذ أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي الشهير بابن البواب قصيدة من بحر البسيط على روي الراء يذكر فيها صناعة الخط و قوادها من أحسن ما كتب في ذلك. رأيت إثباتها في هذا الكتاب من هذا الباب لينتفع بها من يريد تعلم هذه الصناعة. و أولها:
يا من يريد إجادة التحرير و يروم حسن الخط و التصوير
إن كان عزمك في الكتابة صادقاً فارغب إلى مولاك في التيسير
أعدد من الأقلام كل مثقفصلب يصوغ صناعة التحبير
و إذا عمدت لبرية فتوخه عند القياس بأوسط التقدير
انظر إلى طرفيه فاجعل بريه من جانب التدقيق و التحضير
و اجعل لجلفته قواماً عادلاً خلواً عن التطويل و التقصير
و الشق وسطه ليبقى بريه من جانبيه مشاكل التقدير
حتى إذا أيقنت ذلك كله فالقط فيه جملة التدبير
لا تطمعن في أن أبوح بسره إني أضن بسره المستور
لكن جملة ما أقول بأنه ما بين تحريف إلى تدوير
و ألق دواتك بالدخان مدبراً بالخل أو بالحصرم المعصور
و أضف إليه قفرة قد صولت مع أصغر الزرنيخ و الكافور
حتى إذا ما خمرت فاعمد إلى الورق النقي الناعم المخبور
فاكسبه بعد القطع بالمعصابر كي ينأى عن التشعيث و التغيير
ثم اجعل التمثيل دأبك صابراً ما أدرك المأمول مثل صبور
إبدأ به في اللوح منتفياً له غرماً تجرده عن التشمير
لا تخجلن من الردى تختطه في أول التمثيل و الشطير
فالأمر يصعب ثم يرجع هيناً و لرب سهل جاء بعد عسير
حتى إذا أدركت ما أملته أضحيت رب مسرة و حبور
فاشكر الهك و اتبع رضوانه إن الإله يجيب كل شكور
و ارغب لكفك أن تخط بنانها خيراً يخلفه بدار غرور
فجميع فعل المرء يلقاه غداً عند الشقاء كتابه المنشور
و اعلم بأن الخط بيان عن القول و الكلام، كما أن القول و الكلام. بيان عما في النفس و الضمير من المعاني فلا بد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة.
قال الله تعالى: خلق الإنسان * علمه البيان و هو يشتمل. بيان الأدلة كلها. فالخط المجود كماله أن تكون دلالته واضحة، بإبانة حروفه المتواضعة و إجادة وضعها و رسمها كل واحد على حدة متميز عن الآخر. إلا ما اصطلح عليه الكتاب من إيصال حرف الكلمة الواحدة بعضها ببعض. سوى حروف اصطلحوا على قطعها، مثل الألف المتقدمة في الكلمة، و كذا الراء و الزاي و الدال و الذال و غيرها، بخلاف ما إذا كانت متأخرة. و هكذا إلى آخرها. ثم إن المتأخرين من الكتاب اصطلحوا على وصل كلمات، بعضها ببعض، و حذف حروف معروفة عندهم، لا يعرفها إلا أهل مصطلحهم فتستعجم على غيرهم و هؤلاء كتاب دواوين السلطان و سجلات القضاة، كأنهم انفردوا بهذا الإصطلاح عن غيرهم لكثرة موارد الكتابة عليهم، و شهرة كتابتهم و إحاطة كثير من دونهم بمصطلحهم فإن كتبوا ذلك لمن لا خبرة له بمصطلحهم فينبغي أن يعدلوا عن ذلك إلى البيان ما استطاعوه، و إلا كان بمثابة الخط الأعجمي، لأنهما بمنزلة واحدة من عدم التواضع عليه. و ليس بعذر في هذا القدر، إلا كتاب الأعمال السلطانية في الأموال و الجيوش، لأنهم مطلوبون بكتمان ذلك عن الناس فإنه من الأسرار السلطانية التي يجب إخفاؤها، فيبالغون في رسم اصطلاح خاص بهم. و يصير بمثابة المعمى. و هو الإصطلاح على العبارة عن الحروف بكلمات من أسماء الطيب و الفواكه و الطيور و الأزاهير، و وضع أشكال أخرى غير أشكال الحروف المتعارفة يصطلح عليها المتخاطبون لتأدية مافي ضمائرهم بالكتابة. و ربما وضع الكتاب للعثور على ذلك، و إن لم يضعوه أولاً، قوانين بمقاييس استخرجوها لذلك بمداركهم يسفونها فك المعمى. و للناس في ذلك دواوين مشهورة. و الله العليم الحكيم.

الفصل الحادي و الثلاثون في صناعة الوراقة
كانت العناية قديماً بالدواوين العلمية و السجلات في نسخها و تجليدها و تصحيحها بالرواية و الضبط. و كان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة و توابع الحضارة. و قد ذهب ذلك لهذا العهد بذهاب الدولة و تناقص العمران بعد أن كان منه في الملة الإسلامية بحر زاخر بالعراق و الأندلس إذ هو كله من توابع العمران و اتساع نطاق الدولة و نفاق أسواق ذلك لديهما. فكثرت التآليف العلمية و الدواوين و حرص الناس على تناقلهما في الآفاق و الأعصار فانتسخت و جلدت. و جاءت صناعة الوراقين المعانين للانتساخ و التصحيح و التجليد و سائر الأمور الكتبية. و الدواوين و اختصت بالأمصار العظيمة العمران. و كانت السجلات أولاً: لانتساخ العلوم و كتب الرسائل السلطانية و الإقطاعات، و الصكوك في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد لكثرة الرفه و قلة التآليف صدر الملة كما نذكره. و قلة الرسائل السلطانية و الصكوك مع ذلك فاقتصروا على الكتاب في الرق تشريفاً للمكتوبات و ميلاً بها إلى الصحة و الإتقان. ثم طما بحر التآليف و التدوين و كثر ترسيل السلطان و صكوكه و ضاق الرق عن ذلك. فأشار الفضل بن يحيى صناعة الكاغد و صنعه و كتب فبه رسائل السلطان و صكوكه. و اتخذه الناس من بعده صحفاً لمكتوباتهم السلطانية و العلمية. و بلغت الإجادة في صناعته ما شاءت. ثم وقفت عناية أهل العلوم و همم أهل الدول على ضبط الدواوين العلمية و تصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها و واضعيها لأنه الشأن الأهم من التصحيح و الضبط فبذلك تسند الأقوال إلى قائلها و الفتيا إلى الحاكم بها المجتهد في طريق استنباطها. و ما لم يكن تصحيح المتون بإسنادها إلى مدونها فلا يصح إسناد قول لهم و لا فتيا. و هكذا كان شأن أهل العلم و حملته في العصور و الأجيال و الآفاق.
حتى لقد قصرت فائدة الصناعة الحديثية في الرواية على هذه فقط إذ ثمرتها الكبرى من معرفة صحيح الأحاديث و حسنها و مسندها و مرسلها و مقطوعها و موقوفها من موضوعها قد ذهبت و تمخضت زبدةً في ذلك الأمهات المتلقاة بالقبول عند الأمة. و صار القصد إلى ذلك لغواً من العمل. و لم تبق ثمرة الرواية و الاشتغال بها إلا في تصحيح تلك الأمهات الحديثية و سواها من كتب الفقه للفتيا، و غير ذلك من الدواوين و التآلبف العلمية. و اتصال سندها بمؤلفيها ليصح النقل عنهم، و الإسناد إليهم. و كانت هذه الرسوم بالمشرق و الأندلس معبدة الطرق واضحة المسالك. و لهذا نجد الدواوين المنتسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الإتقان و الإحكام و الصحة. و منها لهذا العهد بأيدي الناس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك. و أهل الآفاق يتناقلونها إلى الآن و يشدون عليها يد الضنانة و لقد ذهبت هذه الرسوم لهذا العهد جملة بالمغرب و أهله لانقطاع صناعة الخط و الضبط و الرواية منه بانتقاص عمرانه و بداوة أهله و صارت الأمهات و الدواوين تنسخ بالخطوط اليدوية تنسخها طلبة البربر صحائف مستعجمة برداءة الخط و كثرة الفساد و التصحيف فتستغلق على متصفحها و لا يحصل منها فائدة إلا في الأمل النادر. و أيضاً فقد دخل الخلل من ذلك في الفتيا فإن غالب الأقوال المعزوة غير مروية عن أئمة المذهب و إنما تتلقى من تلك الدواوين على ما هي عليه. و تبع ذلك أيضاً ما يتصدى إليه بعض أئمتهم من التأليف لقلة بصرهم بصناعته و عدم الصنائع الوافية بمقاصده. و لم ينق من هذا الرسم بالأندلس إلا إثارة خفية بالإمحاء و هي الاضمحلال فقد كاد العلم ينقطع بالكلية من المغرب. و الله غالب على أمره. و يبلغنا لهذا العهد أن صناعة الرواية قائمة بالمشرق و تصحيح الدواوين لمن يرومه بذلك سهل على مبتغيه لنفاق أسواق العلوم و الصنائع كما نذكره بعد. إلا أن الخط الذي بقي من الإجادة في الانتساخ هنالك إنما هو للعجم و في خطوطهم. و أما النسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب و أشد. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل الثاني و الثلاثون في صناعة الغناء
هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقع كل صوت منها توقيعاً عند قطعه فيكون نغمة. ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب و ما يحدث عنه من الكيفيه في تلك الأصوات. و ذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب، فيكون صوت نصف صوت و ربع آخر و خمس آخر و جزء من أحد عشر من آخر و اختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع بخروجها من البساطة إلى التركيب و ليس كل تركيب منها ملذوذاً عند السماع بل للمنذور تراكيب خاصة و هي التي حصرها أهل علم الموسيقى و تكلموا عليها كما هو مذكور في موضعه و قد يساوق ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات إما بالقرع أو بالنفخ في الآلات تتخذ لذلك فترى لها لذة عند السماع. فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف منها المزمار و يسمونه الشبابة و هي قصبة جوفاء بأبخاش في جوانبها معدودة ينفخ فيها فتصوت. فيخرج الصوت من جوفها على سداده من تلك الأبخاش و يقطع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعاً على تلك الأبخاش وضعا متعارفاً حتى تحدث النسب بين الأصوات فيه و تتصل كذلك متناسبة فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي ذكرناه. و من جنس هذه الآلة المزمار الذي يسمى الزلامي و هو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها في قطعتين منفردتين كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النفخ بواسطتها إليها و تصوت بنغمة حادة يجرى فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبابة. و من أحسن آلات الزمر لهذا العهد البوق و هو بوق من نحاس أجوف في مقدار الذراع. يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكف في شكل بري القلم. و ينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدي الريح من الفم إليه فيخرج الصوت ثخيناً دوياً و فيه أبخاش أيضاً معدودة. و تقطع نغمة منها كذلك بالأصابع على التناسب فيكون ملذوذاً. و منها آلات الأوتار و هي جوفاء كلها إما على شكل قطعة من الكرة مثل المربط و الرباب أو على شكل مربع كالقانون توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دسر جائلة ليأتي شد الأوتار و رخوها عند الحاجة إليه بإدارتها. ثم تقرع الأوتار إما بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوس يمر عليها بعد أن يطلى بالشمع و الكندر. و يقطع الصوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو نقله من وتر إلى وتر. و اليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقع بأصابعها على أطراف الأوتار فيما يقرع أو يحك بالوتر فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة. و قد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض على توقيع مناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع. و لنبين لك السبب في اللذة الناشئة عن الغناء. و ذلك أن اللذة كما تقرر في موضعه هي إدراك الملائم و المحسوس إنما تدرك منه كيفية. فإذا كانت مناسبة للمدرك و ملائمة كانت ملذوذة، و إذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة. فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها و كذا الملائم من الملموسات و في الروائح ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري لأنه المدرك و إليه تؤديه الحاسة. و لهذا كانت الرياحين و الأزهار العطريات أحسن رائحة و أشد ملاءمة للروح لغلبة الحرارة فيها التي هي مزاج الروح القلبي. و أما المرئيات و المسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها و كيفياتها فهو أنسب عند النفس و أشد ملاءمة لها. فإذا كان المربي متناسباً في أشكاله و تخاطيطه التي له بحسب مادته بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة و الوضع و ذلك هو معنى الجمال و الحسن في كل مدرك. كان ذلك حينئذ مناسباً للنفس المدركة فتلتذ بإدراك ملائمها، و لهذا تجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم و عشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب. و في هذا سر تفهمه إن كنت من أهله و هو اتحاد المبدأ و إن كان ما سواك إذا نظرته و تأملته رأيت بينك و بينه اتحاداً في البداءة. يشهد لك به اتحاد كما في الكون و معناه من وجه آخر أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء. فتود أن يمتزج بمشاهدات فيه الكمال لتتحد به بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدإ و الكون. و لما كان أنسب الأشياء إلى الإنسان و أقربها إلى أن يدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني فكان إدراكه للجمال و الحسن في تخاطيطه و أصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كل إنسان بالحسن من المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة. و الحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. و ذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس و الجهر و الرخاوة و الشدة و القلقلة و الضغط و غير ذلك. و التناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن. فأولاً: أن لا يخرج من الصوت إلى مده دفعة بل بتدريج. ثم يرجع كذلك، و هكذا إلى المثل، بل لا بد من توسط المغاير بين الصوتين. و تأمل هذا من افتتاح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج فإنه من بابه. و ثانياً: تناسبها في الأجزاء كما مر أول الباب فيخرج من الصوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه، على حسب ما يكون التنقل متناسباً على ما حصره أهل الصناعة. فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيات كما ذكره أهل تلك الصناعة كانت ملائمة ملذوذة. و من هذا التناسب ما يكون بسيطاً و يكون الكثير من الناس مطبوعاً عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم و لا صناعة كما نجد المطبوعين على الموازين الشعرية و توقيع الرقص و أمثال ذلك. و تسمي العامة هذه القابلية بالمضمار. و كثير من القراء بهذه المثابة يقرأون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنها المزامير فيطربون بحسن مساقهم و تناسب نغماتهم. و من هذا التناسب ما يحدث بالتركيب و ليس كل الناس يستوي في معرفته و لا كل الطباع توافق صاحبها في العمل به إذا علم. و هذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى كما نشرحة بعد عند ذكر العلوم. و قد أنكر مالك رحمه الله تعالى القراءة بالتلحين و أجازها الشافعي رضي الله تعالى عنه. و ليس المراد تلحين الموسيقى الصناعي فإنه لا ينبغي أن يختلف في حظره إذ صناعة الغناء مباينة للقرآن بكل وجه لأن القراءة و الأداء تحتاج إلى مقدار من الصوت لتعين أداء الحروف لا من حيث اتباع الحركات في مواضعها و يقدار المد عند من يطلقه أو يقصره، و أمثال ذلك. و التلحين أيضاً يتعين له مقدار من الصوت لا تتم إلا به من أجل التناسب الذي قلناه في حقيقة التلحين و اعتبار أحدهما قد يخل بالآخر إذا تعارضا. و تقديم الرواية، متعين فراراً من تغيير الرواية المنقولة في القرآن، فلا يمكن اجتماع التلحين و الأداء المعتبر في القرآن بوجه و إنما مرادهم التلحين البسيط الذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدمناه فيردد أصواته ترديداً على نسب يدركها العالم بالغناء و غيره و لا ينبغي ذلك بوجه و إنما المراد من اختلافهم التلحين البسيط الذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدمناه، فيردد أصواته ترديداً على نسب يدركها العالم بالغناء و غيره، و لا ينبغي ذلك بوجه كما قاله مالك. هذا هو محل الخلاف. و الظاهر تنزيه القرآن عن هذا كله كما ذهب إليه الإمام رحمة الله تعالى لأن القرآن محل خشوع بذكر الموت و ما بعده و ليس مقام التذاذ بإدراك الحسن من الأصوات. و هكذا كانت قراءة الصحابة رضي الله عنهم كما في أخبارهم. و أما قوله صلى الله عليه و سلم: لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود فليس المراد به الترديد و التلحين إنما معناه حسن الصوت و أداء القراءة و الإبانة في مخارج الحروف و النطق بها. و إذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توفر و تجاوز حد الضروري إلى الحاجي، ثم إلى الكمالي، و تفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة، لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية و المهمة من المعاش و المنزل و غيره فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفنناً في مذاهب الملذوذات. و كان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم و مدنهم. و كان ملوكهم يتخذون ذلك و يولعون به، حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة، و لهم مكان في دولتهم، و كانوا يحضرون مشاهدهم و مجامعهم و يغنون فيها. و هذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم. و مملكة من ممالكهم. و أما العرب فكان لهم أولاً فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدة حروفها المتحركة و الساكنة. و يفصلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً يكون كل جزء منها مستقلاً بالإفادة، لا ينعطف على الآخر. و يسمونه البيت. فتلائم الطبع بالتجزئة أولاً ثم يتناسب الأجزاء في المقاطع و المبادئ، ثم بتأدية المعنى المقصود و تطبيق الكلام عليها. فلهجوا به فامتاز من بين كلامهم بخط من الشرف ليس لغيره لأجل اختصاصه. بهذا التناسب. و جعلوه ديواناً لأخبارهم و حكمهم و شرفهم و محكاً لقرائحهم في إصابة المعاني و إجادة الأساليب. و استمروا على ذلك. و هذا التناسب الذي من أجل الأجزاء و المتحرك و الساكن من الحروف قطرة من بحر من تناسب الأصوات كما هو معروف في كتب الموسيقى. إلا أنهم لم يشعروا بما سواه لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علماً و لا عرفوا صناعةً. و كانت البداوة أغلب نحلهم. ثم تغنى الحداة منهم في حداء إبلهم و الفتيان في فضاء خلواتهم فرجعوا الأصوات و ترنموا. و كانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء و إذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغييراً بالغين المعجمة و الباء الموحدة. و عللها أبو إسحاق الزجاج بأنها تذكر بالغابر و هو الباقي أي بأحوال الآخرة. و ربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة و غيره. و كانوا يسمونه السناد. و كان أكثر ما يكون منهم، في الخفيف الذي يرقص عليه و يمشى بالدف و المزمار فيضطرب و يستخف الحلوم. و كانوا يسمون هذا الهرج و هذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها و لا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم شأن البسائط كلها من الصنائع. و لم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم و جاهليتهم. فلما جاء الإسلام و استولوا على ممالك الدنيا و حازوا سلطان العجم و غلبوهم عليه و كانوا من البداوة و الغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين و شدته في ترك أحوال الفراغ و ما ليس بنافع في دين و لا معاش فهجروا ذلك شيئاً ما. و لم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة و الترنم بالشعر الذي هو ديدنهم و مذهبهم. فلما جاءهم الترف و غلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نصارة العيش و رقة الحاشية و استحلاء الفراغ. و افترق المغنون من الفرس و الروم فوقعوا إلى الحجاز و صاروا موالي للعرب و غنوا جميعاً بالعيدان و الطنابير و المعازف و المزامير و سمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم. و ظهر بالمدينة نشيط الفارسي و طويس و سائب بن جابر مولى عبيد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب و لحنوه و أجادوا فيه و طار لهم ذكر. ثم أخذ عنهم معبد و طبقته و ابن شربح و أنظاره. و ما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي و إبراهيم الموصلي و ابنه إسحاق و ابنه حماد. و كان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به و بمجالسه بهذا العهد و أمعنوا في اللهو و اللعب و اتخذت آلات الرقص في الملبس و القضبان و الأشعار التي يترنم بها عليه. و جعل صنفاً وحده و اتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج و هي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان و يحاكين بها امتطاء الخيل فيكرون و يفرون و يتثاقفون و أمثال ذلك من اللعب المعد للولائم و الأعراس و أيام الأعياد و مجالس الفراغ و اللهو. و كثر ذلك ببغداد و أمصار العراق و انتشر منها إلى غيرها. و كان للموصليين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس. فبالغ في تكرمته و ركب للقائه و أسنى له الجوائز و الإقطاعات و الجرايات و أحله من دولته و ندمائه بمكان. فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف. و طما منها بإشبيلية بحر زاخز و تناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية و المغرب. و انقسم على أمصارها و بها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها و تناقص دولها. و هذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ و الفرح. و هو أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله و تراجعه. و الله أعلم.

الفصل الثالث و الثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً و خصوصاً الكتابة و الحساب
قد ذكرنا في الكتاب أن النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة. و أن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم و الإدراكات عن المحسوسات أولاً، ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكاً بالفعل و عقلاً محضاً فتكون ذاتاً روحانيةً و يستكمل حينئذ وجودها. فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم و النظر يفيدها عقلاً فريداً و الصنائع أبداً يحصل عنها و عن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة. فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلاً و الحضارة الكاملة تفيد عقلاً لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل و معاشرة أبناء الجنس و تحصيل الآداب في مخالطتهم ثم القيام بأمور الدين و اعتبار آدابها و شرائطها. و هذه كلها قوانين تنتظم علوماً فيحصل منها زيادة عقل. و الكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك لأنها تشتمل على العلوم و الأنظار بخلاف الصنائع. و بيانه أن في الكتابة انتقالاً من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال و من الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل أبداً من دليل إلى دليل، ما دام ملتبساً بالكتابة و تتعود النفس ذلك دائماً. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات و هو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة فيكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل و يحصل به قوة فطنة و كيس في الأمور لما تعودوه من ذلك الانتقال. و لذلك قال كسرى في كتابه لما رآهم بتلك الفطنة و الكيس فقال: ديوانه أي شياطين و جنون. قالوا: و ذلك أصل اشتقاق الديوان لأهل الكتابة و يلحق بذلك الحساب فإن في صناعة الحساب نوع تصرف في المدد بالضم و التفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير فيبقى متعوداً للاستدلال و النظر و هو معنى العقل. و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة، قليلاً ما تشكرون.

الباب السادس من الكتاب الأول في العلوم و أصنافها و التعليم و طرقه و سائر وجوهه و ما يعرض في ذلك كله من الأحوال و فيه مقدمة و لواحق
فالمقدمة في الفكر الإنساني الذي تميز به البشر عن الحيوانات و اهتدى به لتحصيل معاشه و التعاون عليه بأبناء جنسه و النظر في معبوده. و ما جاءت به الرسل من عنده، فصار جميع الحيوانات في طاعته و ملك قدرته و فضله به على كثير خلقه.

الفصل الأول في أن العلم و التعليم طبيعي في العمران البشري
و ذلك أن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس و الحركة و الغذاء و الكن و غير ذلك. و إنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه و التعاون عليه بأبناء جنسه و الاجتماع المهيء لذلك التعاون و قبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى و العمل به و اتباع صلاح أخراه. فهو منكر في ذلك كله دائماً لا يفترعن الفكر فيه طرفة عين بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر. و عن هذا الفكر تنشأ العلوم و ما قدمناه من الصنائع. ثم لأجل هذا الفكر و ما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع فيكون الفكر راغباً في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يبلغونه لمن تلقاه فيلقن ذلك عنهم و يحرص على أخذه و علمه. ثم أن فكره و نظره يتوجه إلى واحد واحد من الحقائق و ينظر ما يعرض له لذاته واحداً بعد آخر و يتمرن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علماً مخصوصاً. و تتشوف نفوس أهل الجيل الناشىء إلى تحصيل ذلك فيفرغون إلى أهل معرفته و يجيء التعليم من هذا. فقد تبين بذلك أن العلم و التعليم طبيعي في البشر. و الله أعلم.

الفصل الثاني في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع
و ذلك أن الحذق في العلم و التفنن فيه و الاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه و قواعده و الوقوف على مسائله و استنباط فروعه من أصوله. و ما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً. و هذه الملكة هي في غير الفهم و الوعي. لأنا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد و وعيها مشتركاً بين من شدا في ذلك الفن و بين من هو مبتدئ فيه و بين العامي الذي لم يعرف علماً و بين العالم النحرير. و الملكة إنما هي للعالم أو الشادي في. الفنون دون من سواهما فدل على أن هذه الملكة غير الفهم و الوعي. و الملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ من الفكر و غيره كالحساب. و الجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم. و لهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلمين فيها معتبراً عند كل أهل أفق و جيل. و يدل أيضاً على أن تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه. فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم، و إذ لو كان من العلم لكان واحداً عند جميعهم. ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدمين و المتأخرين و كذا أصول الفقه و كذا العربية و كذا كل علم يتوجه إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدل على أنها صناعات في التعليم. و العلم واحد في نفسه. و إذا تقرر ذلك فاعلم أن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد ينقطع عمن أهل المغرب باختلال عمرانه و تناقص الدول فيه. و ما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع و فقدانها كما مر. و ذلك أن القيروان و قرطبة كانتا حاضرتي المغرب و الأندلس و استبحر عمرانهما و كان فيهما للعلوم و الصنائع أسواق نافقة و بحور زاخرة. و رسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما و ما كان فيهما من الحضارة. فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلاً كان في دولة الموحدين بمراكش مستفاداً منها. و لم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها و قرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل. و بعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من أفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم و لقن تعليمهم. و حذق في العقليات و النقليات و رجع إلى تونس بعلم كثير و تعليم حسن. و جاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدكالي. كان ارتحل إليه من المغرب فأخذ عن مشيخة مصر و رجع إلى تونس و استقر بها و كان تعليمه مفيداً فأخذ عنهما أهل تونس. و اتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلاً بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمد بن عبد السلام. شارح بن الحاجب و تلميذه و انتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام و تلميذه. فإنه قرأ مع ابن عبد السلام على مشيخة واحدة في مجالس بأعيانها و تلميذ ابن عبد السلام بتونس و ابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلا أنهم من القلة بحيث يخشى انقطاع سندهم. ثم ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أبو علي ناصر الدين المشدالي و أدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب و أخذ عنهم و لقن تعليمهم. و قرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة و حذق في العقليات و النقليات. و رجع إلى المغرب بعلم كثير و تعليم مفيد. و نزل ببجاية و اتصل سند تعليمه في طلبتها. و ربما انتقل إلى تلمسان عمران المشدالي من تلميذه و أوطنها و بث طريقته فيها. و تلميذه لهذا العهد ببجاية و تلمسان قليل أو أقل من القليل. و بقيت فاس و سائر أقطار المغرب خلواً من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة و القيروان و لم يتصل سند التعليم فيهم فعصر عليهم حصول الملكة و الحذق في العلوم. و أيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة و المناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها و يحصل مرامها. فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتاً لا ينطقون و لا يفاوضون و عنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم و التعليم ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم و ما أتاهم القصور إلا قبل التعليم و انقطاع سنده. و إلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به، و ظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية و ليس كذلك. و مما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة و هي بتونس خمس سنين. و هذه المدة بالمدارس على المتعارف هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدة لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك. و أما أهل الأندلس فذهب رسم التعليم من بينهم و ذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين. و لم يبق من رسم العلم فيهم إلا فن العربية و الأدب. اقتصروا عليه و الحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه. و أما الفقه بينهم فرسم خلو و أثر بعد عين. و أما العقليات فلا أثر و لا عين. و ما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران و تغلب العدو على عامتها إلا قليلاً بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها. و الله غالب على أمره. و أما المشرق فلم ينقطع سند التعليم فيه بل أسواقه نافقة و بحوره زاخرة لاتصال العمران الموفور و اتصال السند فيه. و إن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد و البصرة و الكوفة إلا أن الله تعالى قد أدال منها بأمصار أعظم من تلك. و انتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان، و ما وراء النهر من المشرق، ثم إلى القاهرة و ما إليها من المغرب، فلم تزل موفورة و عمرانها متصلاً و سند التعليم بها قائماً. فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم بل و في سائر الصنائع. حتى أنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب و أنهم أشد نباهة و أعظم كيساً بفطرتهم الأولى. و أن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب. و يعتقدون التفاوت بيننا و بينهم في حقيقة الإنسانية و يتشيعون لذلك و يولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم و الصنائع و ليس كذلك. و ليس بين قطر المشرق و المغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللهم إلا الأقاليم المنحرفة مثل الأول و السابع فإن الأمزجة فيها منحرفة و النفوس على نسبتها كما مر و إنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما تقدم في الصنائع، و نزيده الآن شرحاً و تحقيقاً. و ذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش و المسكن و البناء و أمور الدين و الدنيا و كذا سائر أعمالهم و عاداتهم. و معاملاتهم و جميع تصرفاتهم. فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه و يتلبسون به من أخذ و ترك حتى كأنها حدود لا تتعدى. و هي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم. و لا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلاً جديداً تستعد به لقبول صناعة أخرى و يتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف. و لقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنهم يعلمون الحمر الأنسية و الحيوانات العجم من الماشي، و الطائر مفردات من الكلام و الأفعال يستغرب ندورها و يعجز أهل المغرب عن فهمها فضلاً عن تعليمها و حسن الملكات في التعليم و الصنائع و سائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله و إضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس. إذ قدمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات. و ما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيساً لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية فيظنه العامي تفاوتاً في الحقيقة الإنسانية و ليس كذلك. ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضري متحلياً بالذكاء ممتلئاً من الكيس حتى أن البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيته و عقله و ليس كذلك. و ما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع و الآداب في العوائد و الأحوال الحضرية مالا يعرفه البدوي. فلما امتلأ الحضري من الصنائع و ملكاتها و حسن تعليمها ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله و أن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها و جبلتها عن فطرته و ليس كذلك. فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم و الكمال في عقله و فطرته إنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق الصنائع و التعليم فإن لهما آثاراً ترجع إلى النفس كما قدمناه. و كذا أهل المشرق لما كانوا في التعليم و الصنائع أرسخ رتبة و أعلى قدماً و كان أهل المغرب أقرب إلى البداوة لما قدمناه في الفصل قبل هذا ظن المغفلون في بادئ الرأي أنه لكمال في حقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب و ليس ذلك بصحيح فتفهمه و الله يزيد في الخلق ما يشاء و هو إله السموات و الأرض.

الفصل الثالث في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران و تعظم الحضارة
و السبب في ذلك أن تعليم العلم كما قدمناه من جملة الصنائع. و قد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار. و على نسبة عمرانها في الكثرة و القلة و الحضارة و الترف تكون نسبة الصنائع في الجودة و الكثرة لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان و هي العلوم و الصنائع. و من تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى و الأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو. كما قدمناه و لا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصنائع كلها. و اعتبر ما قررناه بحال بغداد و قرطبة و القيروان و البصرة و الكوفة لما كثر عمرانها صدر الإسلام و استوت فيها الحضارة. كيف زخرت فيها بحار العلم و تفننوا في اصطلاحات التعليم و أصناف العلوم و استنباط المسائل و الفنون حتى أربوا على المتقدمين و فاتوا المتأخرين. و لما تناقص عمرانها و ابذعر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، و فقد العلم بها و التعليم. و انتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. و نحن لهذا العهد نرى أن العلم و التعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر و حضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين، فاستحكمت فيها الصنائع و تفننت و من جملتها تعليم العلم. و أكد ذلك فيها و حفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب و هلم جرا. و ذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلفونه من ذريتهم لما له عليهم من الرق أو الولاء و لما يخشى من معاطب الملك و نكباته. فاستكثروا من بناء المدارس و الزوايا و الربط و وقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركاً لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالباً من الجنوح إلى الخير و التماس الأجور في المقاصد و الأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك و عظمت الغلات و الفوائد و كثر طالب العلم و معلمه بكثرة جرايتهم منها و ارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق و المغرب و نفقت بها أسواق العلوم و زخرت بحارها. و الله يخلق ما يشاء.

الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد
اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر و يتداولونها في الأمصار تحصيلاً و تعليماً هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، و صنف نقلي يأخذه عمن وضعه. و الأول هي العلوم الحكمية الفلسفية و هي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره و يهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها و مسائلها و أنحاء براهينها و وجوه تعليمها حتى يقفه نظره و يحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر. و الثاني هي العلوم النقلية الوضعية و هي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي. و لا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي. إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل و هو نقلي فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه. و أصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعيات من الكتاب و السنة التي هي مشروعة لنا من الله و رسوله و ما يتعلق بذلك من العلوم التي تهيئوها للإفادة. ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة و به نزل القرآن. و أصناف هذه العلوم النقلية كثيرة لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه و على أبناء جنسه و هي مأخوذة من الكتاب و السنه بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق فلا بد من النظر بالكتاب ببيان ألفاظه أولاً و هذا هو علم التفسير ثم بإسناد نقله و روايته إلى النبي صلى الله عليه و سلم الذي جاء به من عند الله و اختلاف روايات القراء في قراءته و هذا هو علم القراءات ثم بإسناد السنة إلى صاحبها و الكلام في الرواة الناقلين لها و معرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، و هذه هي علوم الحديث. ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط و هذا هو أصول الفقه. و بعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين و هذا هو الفقه. ثم أن التكاليف منها بدني، و منها قلبي، و هو المختص بالإيمان و ما يجب أن يعتقد مما لا يعتقد. و هذه هي العقائد الإيمانية في الذات و الصفات و أمور الحشر و النعيم و العذاب و القدر. و الحجاج عن هذه بالأدلة العقلية هو علم الكلام. ثم النظر في القرآن و الحديث لا بد أن تتقدمه العلوم اللسانية لأنه متوقف عليها و هي أصناف. فمنها علم اللغة و علم النحو و علم البيان و علم الآداب حسبما نتكلم عليها. و هذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية و أهلها و إن كانت كل ملة على الجملة لا بد فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها في الجنس البعيد من حيث أنها العلوم الشرعية المنزلة من عند الله تعالى على صاحب الشريعة المبلغ لها. و أما على الخصوص فمباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها. و كل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة و النظر فيها محظور. فقد نهى الشرع عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن. قال صلى الله عليه و سلم: لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم و قولوا آمنا بالذي
أنزل علينا و أنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد و رأى النبي صلى الله عليه و سلم في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال: ألم آتكم بها بيضاء نقية ؟ و الله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أتباعي. ثم إن هذه العلوم الشرعية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه و انتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها و هذبت الاصطلاحات و رتبت الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن و التنميق. و كان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه و أوضاع يستفاد منها التعليم. و اختص المشرق من ذلك و المغرب بما هو مشهور منها حسبما نذكره الآن عند تعديد هذه الفنون. و قد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه و انقطاع سند العلم و التعليم كما قدمناه في الفصل قبله. و ما أدري ما فعل الله بالمشرق و الظن به نفاق العلم فيه و اتصال التعليم في العلوم و في سائر الصنائع الضرورية و الكمالية لكثرة عمرانه و الحضارة و وجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم. و الله سبحانه و تعالى هو الفعال لما يريد و بيده التوفيق و الإعانة.
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59