عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 07-07-2012, 08:29 PM
الصورة الرمزية يقيني بالله يقيني
يقيني بالله يقيني غير متواجد حالياً
متميز وأصيل
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: جمهورية مصر العربية
المشاركات: 4,854
افتراضي

المسألة الثامنة عشرة : التفريق بين تقنين أحكام الشريعة وتدوينها ، وأثر كل واحد منهما في الفقه الشرعي.

يرى بعض الباحثين أن التقنين والتدوين بمعنى ، والذي يظهر أن بينهما اختلاف في المعنى ، فالتدوين هو صياغة الأحكام بطريقة معيّنة ، فإذا حصل الإلزام من السلطة بحيث تصبح هذه الأحكام التي دوّنت نظاماً أو قانوناً صار التقنين ، والخلاصة أن التقنين تدوينٌ ومعه إلزامٌ بما دُوّن.

والتدوين من دون إلزام لا يرى فيه علماء الشريعة بأساً ، وليس محلاً للتجاذب والنقاش ، وعلى هذا اتفقوا من وقت تدوين السنة والفقه ، وبناءً عليه لو حصل تدوين للأحكام الشرعية من أجل تقريب الفقه وإرشاد القضاة مثلاً دون إلزامهم به لا بأس به اتفاقاً وفي جميع الأحكام الشرعيّة.

أما التدوين مع الإلزام به وهو التقنين فهو محل التجاذب ، وعليه مدار النقاش ، والحق أنه لا يُقبل في جميع الأحكام الشرعيّة ؛ إذ إن من الأحكام الشرعيّة ما للشريعة فيه قولٌ فصْل لا يُمكن شرْعاً إلا الرجوع إليه.


وبيان ذلك أن الأحكام الشرعيّة التي مبناها على درء المفسدة وتقليلها و*** المصلحة وتكثيرها لها أمام المصالح عدة مواقف ؛ الأول مصالح معتبرة ، أي اعتبرتها الشريعة ، والثاني مصالح ملغاة ؛ ألغتها الشريعة ، والثالث مصالح مرسلة لم يكن للشريعة فيها حكم ، فالأحكام التي هي من الأول والثاني لا يُمكن شرعاً أن يدخلها التقنين إلا في إجراءات تطبيقها ، أي لا يدخل التقنينُ الموضوعَ فيها ، لأن ذلك يؤول إلى تنحية الحكم الذي حدّدته الشريعة ، ومثال ذلك أحكام النكاح ، وتطبيق الحدود ، وتحريم الربا والزنا ، وغير ذلك ، وأما الأحكام التي من الثالث – أي هي مرسلة – فهذه يُمكن أن يدخلها التقنين موضوعياً وإجرائياً.


ومما يجدر التنبيه له أن على السلطة – والمقصود بها شرعاً إمام المسلمين وولي أمرهم – أن تتوخى عند التقنين موضوعياً وإجرائياً أحكام السياسة الشرعية ، بالإضافة إلى ما ذكره علماء المسلمين من أحكام للمصالح المرسلة أو ما يسميه بعضهم الاستصلاح.


وليُعلم أن إدخال التقنين عامّةَ الأحكام الشرعيّة عواقبه وخيمة ، ومنتهاه تنحية الحكم بالشريعة ، وترك السنة ، ومخالفة الإجماع على وجوب اتباعها متى استبانت ، كما قال الشافعي رحمه الله : ( أجمع الناس على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يدعها لقول غيره ) ، كما يترتب على تقنين جميع الأحكام الشرعية أن يحكم القضاة بما لا يعتقدونه صواباً عادلاً يدينون الله به ويريح ضمائرهم ، لاسيّما من يملك الاجتهاد منهم ، وقد حكى ابن فرحون المالكي في تبصرة الحكام (1/71) الإجماع على أن التقليد لا يصح للقاضي المجتهد فيما يرى خلافه، وكذلك مما يترتب على تقنين جميع الأحكام الشرعيّة تركُ الحكم بعرْف الناس الذي لابد من تحكيمه تحقيقاً للعدالةِ ، والقضاءُ على العلم الشرعي بانكباب الناس على دراسة الأنظمة والقانون مع ترك دراسة أحكام الكتاب والسنة ، وتفاسير السلف وشروحهم ، وأقوال الفقهاء وآرائهم ، والإحاطة بمداركهم وطرقهم في استنباط الأحكام ، بحيث عندما يطلب الناس استنباط حكم شرعي لنازلة يوائم ظروف زمانهم لم يجدوا فقيهاً وعالماً بالكتاب والسنة.


وفكرة التقنين أو جمع الناس على رأي واحد ليست وليدة اليوم ، بل كما يذكر كثير من المؤرخين والباحثين أن أول من ابتدعها طالباً لها من إمام المسلمين عبدُ الله بنُ المقفع ، لكن فكرته قُوبلتْ بالرفض بدءاً من الإمام مالك رحمه الله وانتهاءاً بزماننا هذا ، كما ذكر الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام عضو هيئة كبار العلماء رحمه الله في كتابه ( تقنين الشريعة ، أضراره ومفاسده ) ، فقد ذكر أن الملك عبد العزيز رحمه الله عرض أمر تلك الفكرة شورى على علماء المملكة منذ نصف قرن تقريباً ، فاجتمع رأيه مع رأي العلماء على ردّها رحمهم الله أجمعين ، وكذلك تمّ عرض الفكرة في عهد الملك فيصل رحمه الله على هيئة كبار العلماء فصدر رأيهم بالأغلبية بردّ الفكرة عام 1393هـ ، وأجابوا بأن الداعي للفكرة – وهو التباين بين أحكام القضاة في القضايا المتماثلة – إن كان إشكالاً فليس التقنين حلّاً له ، فلازالت الدول التي فيها تقنين عندها تباين في أحكام القضاة ، ولديها محاكم نقض ، ثم استعرضت الهيئة حلولاً للتباين لو كان إشكالاً. وفي القول ( لو كان إشكالاً ) الإشارة إلى أن ليس كلّ تباين مذموم ، وبيان ذلك أن التباين والتضارب لا يخلو من أحد الأوجه التالية :


الأول : أن تكون القضيتان متماثلتين في الظاهر ، لكن أحاط بكل واحدة منهما ما يوجب أن يكون الحكم على خلاف الظاهر وما لا يطّلع عليه إلا القاضي ناظر القضيّة ، سواء أكانتا – أي القضيتان – عند قاضٍ واحدٍ أو واحدة لدى قاضٍ والأخرى لدى آخر ، فاختلاف الحكم هنا ليس مذموماً.


الثاني : أن تكون القضيتان متماثلتين من كلّ وجه عند قاضٍ واحد فقضى فيهما في زمَنين بحكمين مختلفين ، عن اجتهاد ونظر أوضحه في حكمه وبرهن عليه حيث اقتضى فيه الرجوع عن رأيه الأول إلى رأيه الثاني ، فهذا سائغ شرعاً كما وقع في ذلك عدة قضايا لعمر بن الخطاب وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم ، وفي ذلك قولته المشهورة : ( تلك على ما قضينا يومئذٍ ، وهذه على ما نقضي اليوم ) ، فاختلاف الحكم هنا ليس مذموماً أيضاً.


الثالث : أن تكون القضيتان متماثلتين من كلّ وجه عند قاضٍ واحد فقضى فيهما بآن واحد بحكمين مختلفين ، فهذا اختلاف وتباين مذموم ، وهو ممتنع شرعاً ، ولو فرض وقوعه فإن العدالة تأخذ مجراها في القاضي وحكمه.


وإن من دواعي التعجّب معرفة أن من أهداف المطالبين بالتقنين – وأكثرهم محامون – معرفة ما سيحكم به القاضي ، وهذا يُخالف ما يرومونه في كتاباتهم وأطروحاتهم من مطالبتهم منع القضاة من أي عمل سوى القضاء كالخطابة وغيرها لئلا يُعرف رأي القضاء ، فكيف يطلبون شيئاً وخلافَه ؟ هذا مع التنبيه أن الصواب في منع القضاة من الفتوى في كل ما من شأنه أن يرجع للخصومة من معاملات الناس لما فيه من تعليم الخصوم بالحكم وإعانتهم على الفجور في الخصومة ، لا منع القضاة من الإفتاء في العبادات وتفقيه الناس في دينهم ، كما قال ابن عاصم الغرناطي :

ومنع الإفتاء للحكامِ **** في كل ما يرجع للخصامِ
وفي الختام أذكر ما قاله الأستاذ علّال الفاسي في كتابه ( دفاع عن الشريعة ص255) ردّاً على من يشعر بانهزام نفسي من أبناء المسلمين أمام تقنين غيرهم : ( وهي هزة يجب أن لا نفزع منها ، بل يجب أن نعتبرها بمثابة خفقة القلب التي تحصل لمن يخرج وحده في الظلام أحياناً ؛ عبارة عن ضعف الأعصاب وعدم الإرادة ، سرعان ما تزول إذا تذكر الخائف أن الليل والنهار سيّان بالنسبة لحركة الإنسان وسكونه ، وأنه ليس هنالك كما يعلم هو يقيناً طاريء ولا تشكّل من الكائنات ، إن هي إلا أوهام وخزعبلات ، وكما يشتد عزم ذلك الخائف فيتحدى أوهامه ، كذلك يجب أن يشتد عزم الذين يضعفون خوف الاتهام بالرجعية ، فيعلمون أن ذلك مجرد خزعبلات موروثة عن الاستعمار ومن إيحاء رجاله )

انتهى.
سلطان بن عثمان البصيري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دمتم بخير
__________________


رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59