عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 08-28-2012, 12:11 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

اهتماماتي(50).
فبين سطوة الثقافة المهيمنة، من ناحية أولى، وبين منظومة المعارف والمناهج (savoir) غير المجسمة، من ناحية ثانية، يقف الناقد. وهانحن الآن نعود إلى صيغتي الأولى وإلى مزيد من الإدراك، كما آمل، لما قد يعنيه الموقف الجيوبوليتيكي [علم السياسة الطبيعية] الذي وقفه فوكو. ففي الوقت الذي تتعمد فيه نظرية ديريدا عن النصية إلى استجلاب النقد للاعتماد على دلالة متحررة من أي التزام حيال أي شيء مبهم مدلول عليه، تتعمد نظريات فوكو نقل النقد من تأمل الدلالة إلى وصف مكان الدلالة، ألا وهو ذلك المكان الذي قلما يكون بريئاً أو بلا أي بعد، أو بدون القوة الجازمة للنظام المنطقي. وبكلمات أخرى فإن فوكو مهتم بوصف القوة التي تحتل بها الدلالة مكاناً بها، وهكذا فإنه قادر في كتاب "النظام والعقاب" على تبيين الكيفية التي كان بها الخطاب الجنائي قادراً بدوره على أن يخصص أمكنة الجانحين في التنظيم البنائي والإداري والنفسي والأخلاقي الذي ينطوي عليه مبنى السجن الشمولي النظرة. ولكن على الرغم من ذلك فلا يبدو على فوكو أنه مهتم باستقصاء السبب الذي أدى إلى هذا التطور.
والآن فقيمة مثل هذه النظرة التاريخية البحتة، وحتى الجبرية، ربما، للدلالة في النص لايتأتى من كونها تاريخية ليس إلا. فقيمتها العظمى هي أنها توقظ النقد إلى الإقرار بأن دلالة تحتل لها مكاناً، تقوم بفعل التدليل في مكان ما هي فعل إرادي- أي أكثر من كونها تجسيداً للفعل الإرادي- له نتائجه الفكرية والسياسية التي يمكن التحقق منها، وفعل ينفذ رغبة استراتيجية لإدارة وتفهم ميدان مادي شاسع وتفصيلي. فعدم الإقرار بهذا الفعل الإرادي هو الشيء الذي يجد المرء أن المفكك لايحسن تمييزه إلى الحد الذي يدفعه إلى رفضه أو تجاهله. وهكذا بفضل النقد الذي جاء به فوكو تمكنا من أن نفهم الثقافة على أنها كتلة من المعارف التي تتحلى بالقوة الفعالة للمعرفة المرتبطة منهجياً بالسلطة ذلك الارتباط الذي ليس، بحال من الأحوال، مباشراً أو حتى مقصوداً.
فالعبرة التي نستفيدها من فوكو هي أنه في الوقت الذي يستكمل فيه عمل ديريدا بمعنى ما، فإنه بمعنى آخر يخطو خطوة في اتجاه جديد. إن الرؤيا التاريخية التي يطرحها تنطلق من ذلك التحول العظيم الذي تحولته المعرفة منذ نهاية القرن الثامن عشر، وقد كان بالمناسبة تحولاً لاتفسير له إلى حد كبير، من تلاحم السلطة والمعرفة تلاحماً استبدادياً إلى تلاحم استراتيجي. فسلسلة المعارف المتخصصة الذي برزت في القرن التاسع عشر كانت معارف ذوات تفاصيل تداعى من جرائها الموضوع البشري إلى فيض التفاصيل أولاً ليصار إلى تكديسه ثانياً واستيعابه في تلك العلوم التي كان مقصد تصميمها جعل التفاصيل وظيفية ومطواعة في آن واحد معاً. ومن ذلك الوضع نشأ جهاز إداري واسع الانتشار بغية الحفاظ على انتظام وفرص الدراسة. وهكذا فما يقترحه فوكو، على ما أظن، هو ذلك النوع من النقد الشامل ضمناً والمفصل في توصيفاته، مثله بذلك مثل المعرفة التي يبدو تفهمها عليه. فحيث توجد المعرفة والخطاب يجب أن يوجد النقد: كما يرى فوكو، لتبيين الأمكنة الحقيقية للنص -والتزحزحات- ولرؤية النص بتلك الوسيلة كسيرورة دالة على إرادة تاريخية فعالة على أن يكون له وجود، كرغبة فعالة من لدنه على أن يكون نصاً وعلى أن يكون موضعاً محتلاً.
إن هذا النوع من النقد لتلك الفاعلية التي تنطوي على مغزى هام في صميم الثقافة، على الرغم من أنه مفصول عمداً عن الهيمنة الثقافية. فهو يحرر النقاد من العوائق المفروضة عليهم شكلياً من قبل الأقسام والمعارف والتقاليد البالية للدراسة، ويفتح إمكانية الدراسة العدائية لوقائع الخطاب، ألا وهي تلك الوقائع التي تحكمت، منذ القرن الثامن عشر على الأقل، بإنتاج النصوص. ولكن على الرغم من هذا المنزع الدنيوي المتطرف الذي ينزعه العمل، فإن فوكو يتبنى نظرة سلبية وجدبة لا حيال استخدامات السلطة بمقدار ماهي حيال كيفية وسبب احتياز السلطة واستخدامها والتشبث بناصيتها. وماهذه النتيجة إلا أخطر النتائج لاختلافه مع الماركسية، علماً أن محصلتها تمثل أقل جوانب عمله إقناعاً. فحتى لو أبدى المرء موافقته التامة على رأيه القائل أن مايدعوه بفيزياء جزئيات السلطة "شيء موضع الممارسة أكثر مماهو موضع الاحتياز، فضلاً عن أنه ليس الامتياز المكتسب أو المصون للطبقة المهيمنة،، وإنما هو النتيجة الشاملة لمواقعها الاستراتيجية"(51)، لما كان بالإمكان، لما ورد آنفاً، تقليص الانطباعات الشخصية عن الصراع الطبقي وعن الطبقة نفسها- علاوة على تسنم سلطة الدولة عنوة والهيمنة الاقتصادية والحرب الامبريالية وعلاقات التبعية وضروب مقاومة السلطة- إلى مرتبة التصورات الباطلة التي جاء بها القرن التاسع عشر عن الاقتصاد السياسي. وعلاوة على ذلك فمهما كان الزي الذي قد تتزيا به السلطة كنوع من أنواع التحكم والنظام البيروقراطيين بشكل غير مباشر، فهنالك ثمة تغييرات هيئة التحقق ومنبثقة عن التساؤل عمن يمسك بزمام السلطة وعمن يهيمن على من.
وقصارى القول فإن السلطة لايمكن تشبيهها بشبكة العنكبوت بمعزل عن العنكبوت ولا برسم تخطيطي يتدفق عاملاً على هينته، وذلك لأن مقداراً كبيراً من السلطة يبقى في بنود فظة من أمثال العلاقات والتوترات بين الحكام والمحكومين والشراء والامتياز واحتكارات القمع، وبين الجهاز المركزي للدولة. ففي تلك الرغبة المفهومة التي يرغبها فوكو لتفادي الفكرة الفجة القائلة أن السلطة عبارة عن هيمنة بدون وساطة، يتجاهل إلى حد ما الديالكتيك المركزي للقوى المتعارضة -ذلك الديالكتيك الذي لايزال يستند عليه المجتمع الحديث، على الرغم من وضوح تكامل مناهج التحكم "التكنوقراطي" والجدارة اللاإيديولوجية ظاهرياً التي تتحكم بالأشياء كافة على مايبدو. وإن الشيء الذي يفتقده المرء عند فوكو لشيء يماثل تحليلات غرامشي للهيمنة والكتل التاريخية وطواقم العلاقات المنطلقة من منظور عامل سياسي ملتزم لايرى في الوصف الساحر لممارسة السلطة بديلاً أبداً عن محاولة تبديل العلاقات السلطوية داخل المجتمع.
إن الموقف المعيب الذي يقفه فوكو من السلطة يتأتى، إلى حد كبير جداً، من اهتمامه الناقص التطور بمشكلة التغيير التاريخي. فعلى الرغم من أنه محق في اعتقاده أن التاريخ لايمكن دراسته حصراً كسلسلة من الانقطاعات العنيفة (الناجمة عن الحروب والثورات والرجال العظام)، يقلل بالتأكيد من شأن قوى حافزة أخرى في التاريخ من أمثال الربح والطموح والتدله بحب السلطة، ولايبدو عليه بأنه يعير اهتمامه للحقيقة التي مفادها أن التاريخ ليس إقليماً ناطقاً بالفرنسية متجانس التكوين بل تفاعل معقد فيما بين اقتصادات ومجتمعات وأيديولوجيات متفاوتة. إن جلّ مادرسه في عمله ينطوي على أعمق المعاني لا كنموذج متقوقع عرقياً عن كيفية ممارسة السلطة في المجتمع الحديث، بل كجزء من صورة أشمل تتضمن، مثلاً، العلاقة بين أوربا وبين بقية أرجاء العالم. ولقد كان غافلاً على مايبدو عن الحد الذي كانته فكرتا الخطاب والترشيد فكرتين أوربيتين بشكل قاطع، وعن الكيفية التي جرى بها استخدام الترشيد، فضلاً عن استخدامه لتوظيف كتل من التفاصيل (والكائنات البشرية)، لإدارة ودراسة وإعادة بناء كل العالم غير الأوربي تقريباً، ومن ثم لاحتلاله بالتالي وحكمه واستغلاله.
فالحقيقة البسيطة المتمثلة في أنه بين عام 1815، حين كانت القوى الأوربية تحتل 35 بالمائة من سطح المعمورة على أكثر تقدير، وبين عام 1918، حين توسع ذلك الاحتلال إلى مانسبته 85 بالمائة من سطح المعمورة، تزايدت القوة المنطقية وفق هذا المعيار نفسه، ويحس المرء صنعاً إن تساءل ما الذي يجعل من الممكن لماركس وكارلابل وديزرائيلي وفلوبير ونيرفال ورينان وكوينت وشليغل وهوغو وروكبرت وكوفيير وبوب أن يوظفوا جميعهم كلمة "شرقي" لكي يحددوا بالأساس نفس الظاهرة المشتركة، على الرغم من الفروق السياسية والأيديولوجية الهائلة فيما بين بعضهم بعضاً(52). إن السبب الرئيسي لهذا كان تشكل كينونة جغرافية تدعى بالشرق، كما أن دراستها صارت تدعى بالاستشراق، الأمر الذي حقق عنصراً هاماً جداً من الإرادة الأوربية للسيطرة على العالم غير الأوربي، وجعل من الممكن خلق لامجرد فرع دراسي منظم وحسب بل ومجموعة من المؤسسات والمفردات المستترة (أو زمرة من الإمكانات المنطوقة)، وموضوعاً دراسياً، وأخيراً -كما يتجلى في كتابة كل من هوبسون وكرومر في نهاية القرن التاسع عشر -خلق أعراق بشرية تبائع. فالتماثل بين نظام السجن لدى فوكو وبين الاستشراق تماثل مذهل. فالاستشراق كخطاب، ككل الخطابات الأخرى، "مؤلف من إشارات، ولكن الشيء الذي تفعله هذه الخطابات لشيء أكثر من استخدام هذه الإشارات لتحديد الأشياء. فهذا الشيء "الإضافي" هو مايحول دون تقليص تلك الخطابات إلى لغة وإلى كلام، وهذا "الشيء الإضافي هو مايتوجب علينا كشفه ووصفه"(53).
ففي خطاب الاستشراق وترشيده يكون هذا الشيء "الإضافي" بمثابة القوة القادرة على الإتيان بالتمييزات بين لغاتنا الأوروبية الهندية وبين لغاتهم السامية -مع إعلاء شأن هذه على تلك إعلاء واضحاً وجلياً بمجرد إجراء التمييز- وعلى تبيين سطوة المؤسسات القادرة على إطلاق التقولات عن الذهنية الشرقية، وعن الشرق الملغز، وعن كل ماهو شرقي منحط لايمكن الركون إليه، وهلم جراء. وعلاوة على ذلك فإن النمو الهائل الذي تنامته اختصاصات الأساتذة الجامعيين في الشؤون الشرقية في طول أوربا وعرضها، وتفريخ الكتب عن الشرق (إذ عن الشرق الأدنى وحده كان التقدير صدور 60000 كتاباً بين عام 1850 وعام 1950)، وانبثاق الجمعيات المهتمة بالشرق، وتكاثر رصيد الأموال لاستكشاف الشرق، والجمعيات الجغرافية، وفي النهاية خلق بيروقراطية استعمارية هائلة ودوائر حكومية ومرافق بحوث -هذا كله "أكبر" بكثير جداً مما يطيق الشرق احتماله من نعته البريء ظاهرياً بالشرق. وقبل أن شيء آخر كان الاستشراق يتحلى بقوة إبيستيمولوجية وأنطولوجية تتحكم عملياً بالحياة والموت، أو بالحضور والغياب، على كل شيء وكل إنسان موسوم بأنه شرقي. ففي عام 1833 زار لامرتين الشرق ودون خبراته عنه في كتابه المعنون بـ "رحلة إلى الشرق" الذي احتوى كثيراً من مناقشاته مع بعض المواطنين المحليين وزياراته لقراهم ووجبات الطعام التي تناولها معهم. ولكن كيف بوسع المرء أن يفسر قولته في "الموجز السياسي" الملحق بكتاب "رحلة..." إذ جاء فيها أن الشرق منطقة بلا مواطنين أو بلا مواطنين حقيقيين أو بلا حدود -إلا من خلال قوة الخطاب الشرقي الذي يخصص تصنيفين مختلفين، أنطولوجيا، يحددان الوجود وعدم الوجود. فالاستشراق، ككل الخطابات الأخرى، متلازم مع الخطاب القضائي- كنظرية أمير دي فانيل مثلاً عن البقاع المأهولة قانونياً وعن حق الأوربيين في الاستيلاء على تلك البقاع وتحويلها إلى بقاع مفيدة في حالة عدم وجود مواطنين حقيقيين فيها. والاستشراق متلازم مع الخطاب البيولوجي، لا مع دراسة الرموز التي أجراها كيوفيير عن الأعراق وحسب بل ومع مبحث عجائب المخلوقات حيث تناول فه جيوفري دي سانت هيلاري دراسة النماذج المنحرفة ذوي الخلائق المشوهة، ومتلازم أيضاً مع الميدان البيداغوجي من ذلك الصنف الذي أفصح عنه محضر جلسة رسمية لماكولي في عام 1835 عن التربية الهندية.
إن الاستشراق ليبدو، قبل كل هذا وذاك، كميدان مختص بالتفاصيل، كنظرية بالفعل عن التفاصيل الشرقية حيث تبدى من خلالها الجوهر الشرقي لكل ماعبرت عنه من دقائق مظاهر الحياة الشرقية، وحيث تكشفت رفعة الاستشراق وسطوته وسلطته المؤكدة على الشرق الذي اختصه لنفسه. فلقد كان الاستشراق يعني أن أكداساً مكدسة من النصوص، مخزونات هائلة من المخطوطات الشرقية، كان مصيرها الشحن باتجاه الغرب لتصبح موضع دراسة تفصيلية معمقة، كما كان يعني أن أكداساً من الأجساد البشرية واجهت المصير نفسه إبان القرن التاسع عشر بعد أن احتاز الغرب على مزيد ومزيد من الأعراق الشرقية وبلدانها ووضعهم تحت ظل السيادة الأوربية: فلقد سارت هاتان العمليتان جنباً إلى جنب وعلى النحو الذي سارت فيه عملية ترشيدهما معاً. ولئن صدقنا أن حديث كيبليننغ عن الرجل الأبيض الشوفيني كان مجرد هذر بمنتهى البساطة، فلن يكون بوسعنا عندئذ رؤية الحد الذي بلغه الرجل الأبيض في أنه كان بمثابة التعبير الوحيد عن علم يستهدف -شأنه شأنه القانون الجنائي- فهم وحشر غير البيض في خانتهم، خانة غير البيض، ابتغاء جعل فكرة بياض البشرة فكرة أوضح وأنقى وأقوى. وإذا لم يكن بمقدورنا رؤية هذا الشيء، يكون مانراه أقل بكثير جداً مما رآه أي مفكر أوربي كبير وأية شخصية ثقافية من عمالقة القرن التاسع عشر، بدءاً بشاتوبريان وهوغو وغيرهما من أوائل الرومانسيين، ومروراً بآرنولد ونيومان وميل وت.إ.لورانس وفورستر وباريس ووليام روبيرتسون سميث وفاليري، وبالكثيرين غيرهم ممن لاعد ولاحصر لهم. فالشيء الذي كان يراه هؤلاء كلهم هو العلاقة الضرورية والنافعة بين السطوة الجازمة للخطاب الأوربي- أو للدلالة الأوربية إن شئتم- وبين الممارسات المتواصلة للقوة مع أي شيء أختص بخانة غير الأوربي، أو غير الأبيض. وأنا هنا أشير بالطبع إلى هيمنة الثقافة الامبريالية. ولكن الشيء المرعب يتمثل بالمبلغ الذي بلغه الكثير من النقد المعاصر، الذي ضاع في المتاهة السحيقة لعنصر النصية، في عماه المطلق حيال السلطان التكويني المذهل في النصية لقوة كقوة الترشيد الثقافي القائم على قاعدة عريضة، بالمعنى الذي قصده فوكو بهذه العبارة.
وهأنذا الآن بودي أن أختتم هذه المقالة بملاحظة تنطوي على مزيد من الإيجاب. لقد كنت أوحي ضمناً أن النقد هو، أو يجب أن يكون، فرعاً من أصل، وأنه شكل من أشكال المعرفة. وأجد الآن لزاماً علي أن أقول أن المعرفة إن كانت كلها مشاكسة، كما حاول فوكو أن يبين، فعلى النقد أن يكون، كفاعلية ومعرفة، مشاكساً صراحة أيضاً. فاهتمامي هو إعادة استثمار الخطاب النقدي في شيء أكثر من الجهد التأملي أو في طريقة قراءة النصوص قراءة تقنية إطرائية باعتبار أن النصوص موضوعات رجراجة. ومن الواضح أنه ليس هنالك بديل للقراءة بشكل جيد، وأن النقد، في فرع من فروعه التي يمثلها ديريدا، يحاول أن يفعل شيئاً ويحاول بالفعل أن يعلم. وأما إحساسي حيال الوعي النقدي المعاصر كما يمثله ديريدا و فوكو هو أن هذا الوعي، بعد أن عزل نفسه مبدئياً عن الثقافة السائدة وبعد أن تبنى من ثم موقفاً وموقعاً معارضاً مسؤولاً لمصلحته، يجب عليه أن يستهل فعاليته الفرعية المفيدة في محاولة منه أن يأخذ في حسبانه قوة التعابير في النصوص، وأن يكتشفها ويعرفها عقلانياً: أي التعابير والنصوص وهي تفعل شيئاً مجدياً إلى حد ما، فضلاً عن النتائج التي يجب على النقد أن يجعل تبيانها مهمة من مهماته. فلئن كانت النصوص شكلاً من أشكال النشاط البشري الرائع، يقضي الواجب أن تتلازم مع غيرها من أشكال النشاط البشري الرائع حتى لو كانت قمعية أو تهجيرية، لا أن تتقزم إلى مستوى هذه الأخيرة.
إن النقد لايمكنه أن يدعي أن مهمته مقصورة على النص وحسب، حتى لو كان نصاً أدبياً عظيماً. ويجب عليه أن يرى نفسه مقيماً، مع خطاب آخر، في فضاء ثقافي موضع نزاع كبير، ألا وهو ذلك الفضاء الذي ماكان يحسب حسابه فيه بخصوص استمرار ونقل المعرفة كان الدلالة، كحدث ترك بصماته الدائمة على الكائن البشري. وما أن نأخذ بوجهة النظر تلك حتى يختفي الأدب كحيز معزول ضمن الميدان الثقافي العريض، وتختفي معه الفصاحة البريئة للنزعة الإنسانية التي تسلي نفسها بنفسها. وبدلاً من ذلك سيكون بمقدورنا، على ما أظن، أن نقرأ ونكتب بإحساس فياض بالمراهنة على الجدوى السياسية والتاريخية التي ينطوي عليها النص الأدبي وغيره من النصوص الأخرى%


nnn



10- النظرية المهاجرة



إن الأفكار والنظريات لتهاجر مهاجرة الناس والمدارس النقدية -من شخص إلى شخص ومن حال إلى حال، ومن عصر إلى عصر آخر. فالحياة الفكرية والثقافية تجد غذاءها عادة وأسباب بقائها غالباً في تداول الأفكار على هذا النحو، وذلك لأن هجرة الأفكار والنظريات من مكان إلى آخر ماهي إلا حقيقة من حقائق الحياة وماهي، في الوقت نفسه، إلا شرط مفيد للنشاط الفكري، سواء اتخذت تلك الهجرة شكل التأثير الذي يقر به الناس أو الذي يأتيهم عفو الخاطر، أو شكل الاستعارة الخلاقة، أو شكل المصادرة والاستيلاء جملة وتفصيلاً. ولكن القول بأن على المرء أن يمضي قدماً بغية تحديد أنواع الهجرة الممكنة لقول يبعث على التساؤل ما إن كانت أية فكرة أو نظرية تتزايد قوة أم تتناقض جراء هجرتها من عصر تاريخي وثقافة قومية إلى مكان وزمان آخرين، وما إن كانت ثمة نظرية تتحول إلى شيء مغاير تماماً في انتقالها من ثقافة قومية وعصر تاريخي إلى عصر أو حال آخر. وهنالك حالات تستدعي التأمل العميق على وجه التخصيص في مهاجرة الأفكار والنظريات من ثقافة إلى أخرى، مثلما جرى في استيراد الأفكار المعروفة بالأفكار الشرقية حول التسامي على الخبرة البشرية إلى أوربا في مطلع القرن التاسع عشر، أو مثلما جرى نقل بعض الأفكار الأوربية عن المجتمع إلى مجتمعات شرقية تقليدية في مؤخر القرن التاسع عشر. ولكن مثل هذه الهجرة إلى بيئة جديدة لاتخلو البتة من المعوقات، وذلك لأنها تستدعي بالضرورة عمليتي التمثيل والتأطير في المؤسسات على نحو مغاير عما كانت عليه تلك الأفكار والنظريات في موضعها الأصلي، الأمر الذي يعقّد عليها أية محاولة من محاولات الازدراع والانتقال والتداول والاتجار.
بيد أن هنالك نمطاً كراراً وقابلاً للتمييز لهذه المهاجرة نفسها، ألا وهو تلك الأطوار الثلاثة أو الأربعة المألوفة التي تمر بها أية نظرية أو فكرة مهاجرة.
فهنالك أولاً موضع أصلي، أو مايبدو أنه كذلك، أي مجموعة من الظروف الأولية التي صادف أن ولدت فيها الفكرة أو راجت من خلالها في الخطاب. وثانياً: هنالك ثمة مسافة تعترض سبيل الفكرة التي تنتقل من موضع سابق إلى زمان ومكان آخرين ولذلك عليها أن تجتازها، أن تشق لها درباً في خضم ضغوط قرائن شتى، حتى تحظى بلألائها الجديد. وثالثاً: هنالك مجموعة من الظروف -قل عنها إن شئت ظروف التقبل، أو ضروب المقاومة لكونها جزءاً لايتجزأ من ظروف التقبل- التي تواجه من ثم النظرية أو الفكرة المزدرعة، والتي تتيح لها الاحتواء، أو التساهل مهما كان كبيراً مظهر غربتها. ورابعاً: تتعرض هذه الفكرة، التي أضحت الآن موضع الاحتواء أو الدمج بشكل كامل أو جزئي، إلى شيء من التحوير جراء استخداماتها الجديدة، أي من خلال الموقع الجديد الذي تحتله في زمان ومكان جديدين.
وإن من الواضح أن الإقدام على وصف كامل ومقنع لهذه الأطوار سيكون مهمة شاقة. ومع أنني أفتقر إلى النية والمقدرة بخصوص الاضطلاع بعبء هذه المشكلة، فإنني أرى أنها جديرة بالوصف بشكل عام ومقتضب حتى أتمكن في النهاية من أن أعالج بالتفصيل جانباً واحداً منها، وجانباً على أضيق مايكون من التحديد وعلى أوثق ارتباط بصلب الموضوع. وأما التناقض الصارخ بين المشكلة العامة وبين أي تحليل خاص ليستحق منا التعليق بحد ذاته طبعاً. وإن الانحياز إلى جانب تحليل مفصل محلي للكيفية التي تهاجر بها هذه النظرية أو تلك من مكان إلى آخر يعني إبداء مقدار أساسي من الشك حيال تخصيص أو تحديد الميدان الذي قد تنتمي إليه تلك النظرية أو الفكرة. لاحظوا مثلاً أن الطلاب الذين يحترفون الأدب الآن ليس من المفروض بهم، حين يستعملون كلمات من أمثال النظرية والنقد، أن يقيدوا اهتماماتهم بالنظرية الأدبية أو بالنقد الأدبي، ولا يجب عليهم ذلك. فالتمييز بين هذا النوع من المعرفة وذاك صار أغبش، وذلك يعود بالتحديد إلى أن ميادين كالأدب والدراسة الأدبية لم تعد النظرة إليها أنها جامعة مانعة أو إجمالية كما كانت حالتها عليه ذات مرة، وحتى عهد قريب. وعلى الرغم من أن بعض دارسي الأدب من المحجاجين لايزال بمقدورهم أن يهاجموا بعضهم الآخر لكونهم غير متبحرين بما يكفي في مضمار الأدب، أو لكونهم لايفهمون (ومن ذا الذي يتسنى له الفهم الكامل؟) أن الأدب ماهو أساساً إلا، على نقيض غيره من أشكال الكتابة، محاكاة، وماهو أساساً إلا الشيء الأخلاقي، وما منزعه أساساً إلا المنزع الإنساني، علاوة على أن المناظرات التي تدور حول هذه الأمور وتنجم عنها ماهي بحد ذاتها إلا دليل على الحقيقة التي مفادها انعدام توافق الآراء حول الكيفية التي تتحدد بها الحدود الخارجية لكلمة الأدب أو لكلمة النقد. فقبل بضعة عقود تنطح التاريخ الأدبي والنظرية التصنيفية، من ذلك النوع الذي استهله نور ثروب فراي، ووعدا بالإتيان ببنية نظامية ومنفتحة وصالحة للسكنى، أي تلك البنية التي قد يكون من الممكن فيها مثلاً إقامة الدليل على أن من الممكن تحوير مقومات الصيف لتصبح، بشكل قاطع، مقومات الخريف. "إن الفعل البشري الأساسي في منظومة فراي" كما يكتب فرانك لانتريشيا في (بعد النقد الجديد) مستشهداً "بالخيال البارع" على حد قول فراي "كونه نموذجاً لكل الأفعال البشرية، هو فعل توجيهي خلاق يحوّل عالماً موضوعياً خالصاً، معداً سلفاً ضدنا بحيث نشعر فيه بالوحشة والرعب والنبذ، إلى موطن مأمون"(1). بيد أن معظم الدارسين الأدبيين يجدون أنفسهم في هذه الآونة، مرة ثانية، موضع التجاهل. وعلى نحو مماثل: فإن تاريخ الأفكار والأدب المقارن، ألا وهما الفرعان المرتبطان ارتباطاً وثيقاً بدراسة الأدب والنقد الأدبي، لايزود روتينياً ممارسيهما بنفس الإحساس الذي كان يحسه غوته- الإحساس بانسجام كل الآداب وكل الأفكار.
ففي كل هذه الأمثلة يبدو أن الموقع أو الموضع المحدد لمهمة فكرية بعيد بعداً مؤكداً عن التوحد والتلاحم والتكامل الخرافي لذلك الميدان العام الذي ينتهي إليه المرء مهنياً، فضلاً عن أنها لاتنال من ذلك كله إلا مساعدة بلاغية طنانة. ويبدو أن هنالك عدداً أكثر مما ينبغي من الانقطاعات ومن التشوهات ومن النشازات تتدخل في شؤون ذلك الميدان المتجانس التكوين الذي من المفروض به أن يقرّب الدارسين فيه بعضهم من بعض. فتشعب العمل الفكري، الذي صار يعني تزايد الاختصاصات، يزيد طمس أي إدراك مباشر قد يخطر على بال الفرد بوجود ميدان واحد متكامل للأدب والدراسة الأدبية، لابل وعلى النقيض من ذلك فإن الغزو الذي يتعرض له الخطاب الأدبي من جانب اللغات الاصطلاحية الشاذة "outré" التي ترطن بها السيميوطيقا ومابعد البنيوية والأقوال المقتضبة للتحليل النفسي، كلها زادت في انتفاخ عالم النقد الأدبي إلى حدود يتعذر تبيانها تقريباً. وقصارى القول لايبدو أن هنالك أي عنصر أدبي محض في صميم دراسة تلك الأمور التي كانت النظرة التقليدية إليها بأنها نصوص أدبية، ومامن نزعة أدبية مهما كان عمقها يمكنها أن تمنع ناقداً أدبياً معاصراً من اللجوء إلى التحليل النفسي أو السوسيولوجيا أو علم اللغة. فالتقليد والعرف التاريخي والاحتكام إلى بروتوكولات الفلسفة الإنسانية والدراسة التقليدية كلها مطروحة بالطبع على نحو منتظم كدليل على صمود تكامل هذا الميدان، بيد أنها تميل بشكل متزايد للظهور بمظهر الاستراتيجيات البلاغية في مناقشة عما يجب أن يكون عليه الأدب والنقد الأدبي لا بمظهر التعريفات المقنعة لما هما عليه في حقيقة الأمر.
لقد خلع جيوفري هارتمان كساء مسرحياً أنيقاً على ذلك المأزق بتحليله التوترات والتذبذبات التي تتحكم بالنشاط النقدي المعاصر. فالنقد في هذه الأيام "كما يقول، نقد رجعي جوهرياً لأنه بعد "تحرره من لياقة الكلاسيكية الجديدة التي خلقت طيلة قرون ثلاثة نثراً متنوراً ولو أنه كان مجاملاً أكثر من اللزوم، يعاني في هذه الآونة مما يدعوه "حركة لغوية استثنائية"(2). وفي بعض الأحيان تكون هذه الحركة اللغوية مختلفة المراكز إلى الحد الذي يجعلها تضاهي الأدب نفسه، لابل وتتحداه أيضاً، في حين أنها في بعض الأحيان الأخرى تستحوذ على النقاد المولودين على تياراتها فيما يتعلق بالمثل الأعلى للغة "نقية" تماماً. وأما في أحيان ثالثة فالناقد يكتشف أن "الكتابة ماهي إلا بمثابة المتاهة والأحجية الطوبولوجية واللغز النصي للكلمات المتقاطعة، هذا في حين أن على القارئ، من جانبه، أن يغرق نفسه لهنيهة من الزمن حتى تضيع في متاهة تمديد لانهائية تأويل ما إلى مالانهاية له مما يجعل كل قوانين الإغلاق تبدو ضرباً من العبث"(3). وسواء أحظيت هذه البدائل للخطاب النقدي بنعت الإرهابية أو بنعت "طراز جديد من التعالي أو من التسامي الوليد"(4)، فذلك متوقف على الحاجة للناقد الإنساني كي يحدد بمزيد من الوضوح "الحيز الخصوصي الذي تحتله الآداب الإنسانية" وكي يضفي، في الوقت نفسه، صبغة مادية (لا روحانية) على الثقافة التي نعيش فيها(5). ومع ذلك فإن هارتمان يستنتج أننا نعيش مرحلة انتقالية، الأمر الذي يعني القول بطريقة مختلفة (كما يقول في عنوانه "النقد في البراري") أن النقد اليوم وحيد، بين حدين سائبين، عاثر الحظ، حزين، ولعوب لأن مملكته تتحدى الإغلاق واليقين.
إن الحماسة المفرطة لدى هارتمان -لأن موقفه بالأساس حماسي- كانت تقتضي التعديل بذلك التعليق الفتاك الذي ساقه ريتشارد أوهمان في كتابه المعنون بـ "اللغة الإنكليزية في أمريكا" والقائل أن الأقسام الإنكليزية تمثل "جهداً متواضعاً ناجحاً في لدن الأساتذة لاغتنام بعض منافع الرأسمالية وتفادي مخاطرها في الوقت نفسه، وللإحجام عن إبداء إقرارهم أيضاً بوجود أية علاقة بين الكيفية التي ننجز بها عملنا وبين الطريقة التي يدار بها المجتمع الكبير"(6). ولكن هذا القول لايعني أن الأكاديميات الأدبية تطرح جبهة إيديولوجية متحدة، حتى لو كان أوهمان مصيباً مائه بالمائة "grosso modo". فالانقسامات فيما بين النقاد لايمكن تقليصها ببساطة إلى صراع بين أقدمين ومحدثين أو إلى أيديولوجيا سائدة وطيدة الأركان مناهضة للمحاكاة، على النحو الذي يسوق أدلته فيه جيرالدغراف بمنتهى التضليل. ولئن قلصنا عدد مسائل الخلاف إلى أربع للاحظنا أن الكثيرين ممن يتصدرون الدفاع عن مسألة ما يصبحون محافظين جداً في مسألة أخرى:
1-النقد كدراسة، كفلسفة إنسانية، "خادم" للنص، منحاز للمحاكاة، ضد النقد كنزعة رجعية وضد كونه بحد ذاته شكلاً من أشكال الأدب.
2-دور الناقد كمعلم وقارئ جيد: يكمن في صيانته المعيار ضد تخريبه أوضد خلق معيار جديد. فمعظم نقاد مدرسة ييل رجعيون بالقياس إلى رقم (1)، ومحافظون بالقياس إلى رقم (2).
3-النقد باعتزاله العالم الاجتماعي/ السياسي ضد النقد كشكل من أشكال الميتافيزيك الفلسفي والتحليل النفسي وعلم اللغة، أو أي فرع من هذه الفروع، ضد النقد كنشاط عليه أن يتعامل عملياً مع ميادين "ملوثة" من أمثال التاريخ ووسائل الإعلام والنظم الاقتصادية. وهنا يكون الانتشار التوزيعي أوسع نطاقاً بكثير مما هو عليه في رقم (1) أو رقم (2).
4-النقد كنقد للغة (اللغة كلاهوت سلبي، كعقيدة خاصة، كميتافيزيك لا تاريخي) ضد النقد كتحليل للغة المؤسسات ضد النقد كدراسة للعلاقات فيما بين اللغة وبين الأشياء اللالغوية.
ففي غياب ميدان مسيّج يدعى الأدب، وله حدوده الخارجية الواضحة، لن يكون هنالك موقع رسمي، أو مفوض، للناقد الأدبي. ولكن في الوقت نفسه لن يكون هنالك أي منهج جديد فعّال، ولا أية تقنية جديدة قادرة على فرض الولاء والإخلاص الفكري. وبدلاً من ذلك سيكون هناك هياط ومياط في تلك المماحكات التي تدافع عن لامحدودية التأويل بأسره، وفي تلك الأيديولوجيات التي تدعي سرمدية وجزم قيمة الأدب، أو "الآداب الإنسانية" وماذلك إلا لأن المناهج التي تجزم على أنها قادرة أصلاً على أن تنجز مهما تؤكد ذاتها بذاتها لاتفسح المجال لقيام دليل مناهض للدليل الواقعي. إن بمقدوركم أن تدعوا مثل هذا الموقف بالتعددي إن شئتم، أو باليائس إن كنتم تتذوقون الموقف الميلودرامي. وأما أنا من طرفي فأفضل النظر إليه بأنه فرصة سانحة للبقاء شكاكاً ونقاداً ودون أي إذعان لا للدوغمائية (اليقينية) ولا للغم العبوس.
وهكذا فإن المشكلة الخاصة التي تحدث لنظرية مهاجرة من مكان إلى آخر هي أنها تطرح نفسها كموضوع شيق جدير بالبحث. فلئن كان هنالك ميادين كالأدب أو تاريخ الأفكار دون أية حدود محسومة أصلاً، ولئن كان معدوماً، على النقيض مما سبق، وجود أية منظومة يتعذر عليها تقبل فرض ذلك الشيء الذي هو بالأصل حيز نشاط مفتوح ومتعدد العناصر - أي الكتابة وتفسير النصوص- يصبح من الحكمة إثارة الأسئلة عن النظرية والنقد بتلك الطرق الملائمة للوضع الذي نجد أنفسنا فيه. ومايعنيه هذا القول، بادئ ذي بدء، هو المدخل التاريخي. ولذلك افترضوا قيام نظرية أو فكرة ما، كنتيجة لبعض الظروف التاريخية الخاصة، وهي على أوثق ارتباط بتلك الظروف. فماذا يحدث لها إن صادف وتم استعمالها مرة ثانية في ظروف مغايرة ولأسباب جديدة، ومرة ثالثة في ظروف أشد اختلافاً؟ وماذا بوسع هذا الشيء أن ينبئنا عن النظرية نفسها- عن حدودها، إمكانياتها، مشكلاتها الكامنة فيها- وماذا بمقدوره أن يوحي لنا حول العلاقة بين النظرية والنقد، من ناحية أولى، وبين المجتمع والثقافة من ناحية ثانية؟ إن العلاقة الوطيدة لهذه الأسئلة بصلب الموضوع سوف تتجلى في الوقت الذي يبدو فيه النشاط النظري كثيفاً وانتقائياً في آن واحد معاً، وفي الوقت الذي تتكشف فيه صعوبة تحديد العلاقة بين الواقع الاجتماعي وبين الخطاب النقدي المهيمن والساحر، وفي الوقت الذي يتبين فيه، نظراً لكل هذه الأسباب وغيرها من الأسباب التي أشرت للتو إليها، عقم الإتيان ببرامج نظرية لمصلحة النقد المعاصر.
إن كتاب لوكاش المعنون بـ "التاريخ والوعي الطبقي" (1923) حظي بالشهرة عن جدارة نظراً لتحليله ظاهرة التجسيد المادي، ألا وهي المصير الشامل الذي ابتليت به كل جوانب الحياة في عصر هيمنت عليه فيتيشية السلع. فبما أن الرأسمالية هي أكثر النظم الاقتصادية تمفصلاً وتفصيلاً كمياً، فإن ماتفرضه على الحياة والجهد البشريين في ظل سطوتها، كما يأتي بالبينات لوكاش، يفضي إلى تحويل جذري لكل ماهو بشري وفياض ومطرد وعضوي ومترابط إلى أشياء ومواد وذرات مفككة، عديمة الحياة، ومن "مقتنيات" أناس آخرين. وعندئذ فالزمن، في مثل هذا الوضع، يتجرد من طبيعته الفياضة والمتقلبة والنوعية، ويتجمد على شكل سلسلة متواصلة مفصولة الحدين بمنتهى الدقة، وقابلة للقياس الكمي ومليئة بالأشياء" القابلة للقياس الكمي أيضاً (أي "بأداء" الصانع البشري أداء خاضعاً للتجسيد المادي ومصبوغاً بصبغة موضوعية بشكل آلي): أي أن الزمن يستحيل، بوجيز العبارة، إلى مدى زمني. وفي هذا المناخ الذي يستحيل فيه الزمن إلى مدى مادي مجرد قابل للقياس بمنتهى الدقة، ألا وهو ذلك المناخ الذي هو للتو سبب ونتيجة إنتاج مقصد الجهد المخصص والمتبعثر ميكانيكياً وعلمياً، يقتضي الواجب بعزقة فَعَلة الجهد عقلانياً وعلى نفس تلك الشاكلة. إن إضفاء السمة المادية على قوة عملهم وتحويلها إلى شيء مناقض لمجمل هويتهم الشخصية (وهي العملية التي يتم إنجازها بمجرد بيع قوة العمل تلك كسلعة) تتحول الآن، من ناحية أولى، إلى واقع حياتي دائم لا مفر منه في حياتهم اليومية. فهنا أيضاً لاتتمكن الشخصية من فعل أي شيء يتعدى النظرة البلهاء في الوقت الذي يجري فيه تقزيم وجودها إلى ذرة معزولة وتقديمها لقمة سائغة إلى نظام غريب. وأما من الناحية الثانية فإن التفكك الآلي الذي تتفككه عملية الإنتاج إلى عناصرها المكونة تدمر بدورها أيضاً تلك الروابط التي كانت قد ربطت فيما بين، الأفراد وجعلت منهم جماعة مشتركة في الأيام التي كان فيها الإنتاج لايزال "عضوياً". وبهذا الإطار أيضاً تجعل المكننة منهم ذرات مجردة معزولة إلى الحد الذي لايعود فيه عملها يقرّب فيما بينها على نحو مباشر وعضوي، إذ إن ذلك العمل يصبح عرضة بشكل متزايد للوساطة التي تتوسطها حصراً القوانين المجردة للمكننة التي تحبس الأفراد(7). ولئن كانت هذه الصورة للعالم بأسره كئيبة، فإن من الممكن مقارنتها بالوصف الذي وصفه لوكاش لما يحدث للفكر، أو للعقل "the subject" كما يسميه. وبعد أن يأتي لوكاش بوصف رائع مذهل عن تناقضات الفلسفة الكلاسيكية من ديكارت إلى كانط إلى فيخته وهيغل وماركس، حيث يبين فيه تراجع العقل تراجعاً مطرداً إلى حالة من التأمل الشخصي السلبي واتخاذه موقفاً على مزيد ومزيد من الانفصال عن وقائع الحياة الصناعية المعاصرة الممزقة إرباً إرباً إلى حد مرعب، يمضي قدماً إلى وصف الفكر البورجوازي الحديث بأنه قد وصل إلى طريق مسدود وأضحى متسمراً ومشلولاً في وضع من السلبية النهائية. فالعلم الذي ينتجه قائم على مجرد جمع الحقائق، ولذلك فالأشكال العقلانية للفهم لايمكنها مجاراة لاعقلانية المعطيات "données" المادية، وحين تبذل الجهود لإجبار "الوقائع" على الإذعان "للنظام" فإن بعزقتها والتجزيء الدائب لوجودها إلى ذرات إما أن يخلصا إلى تقويض النظام أو إلى تحويل العقل إلى سجل سلبي لأشياء منفصل بعضها عن بعض.
بيد أن هنالك شكلاً واحداً من أشكال الخبرة بمقدوره الإتيان بالتمثيل المادي لجوهر التجسيد وقصوره في الوقت نفسه: ألا وهو الأزمة. فلئن كانت الرأسمالية هي رمز التجسيد المادي بلغة الاقتصاد، يجب عندئذ أن تخضع الأشياء كافة، بما فيها الكائنات البشرية، للقياس الكمي ولنوال قيمة السوق. وهذا بالطبع هو مايقصده لوكاش حين يتحدث عن التمفصل تحت مظلة الرأسمالية، وهو مايسمه في بعض الأحيان وكأنه لائحة هائلة متبعزقة. فمن حيث المبدأ ما من شيء- لاشيء لاشخص لامكان أو لازمان- متروك خارج تلك اللائحة، باعتبار أن من الممكن حساب أي شيء. ولكن هنالك ثمة لحظات يتحول فيها "الوجود النوعي للأشياء التي تعيش حيواتها خارج قوانين علم الاقتصاد كأشياء بحد ذواتها ضحايا سوء الفهم والإهمال، كقيم انتفاع [وهنا يشير لوكاش إلى أشياء "لاعقلانية" من أمثال الوجدان والعاطفة والحظ]، ويصبح فجأة بمثابة العامل الحاسم (فجأة أي بالنسبة للفكر العقلاني المتجسد مادياً). أو بدلاً من ذلك: فإن هذه القوانين تخفق في أداء وظيفتها ويصبح العقل المتجسد مادياً غير قادر على إدراك أي نموذج في خضم هذه الفوضى"(8). ففي لحظة كهذه يغتنم العقل أو الفكر لحظته الوحيدة كي يتهرب من التجسيد المادي: بالتفكير من خلال الشيء الذي يجعل الواقع يظهر بمظهر مجموعة من الأشياء والمعطيات الاقتصادية. وإن مجرد التفتيش نفسه عن العملية الكامنة خلف مايبدو بأنه كان محط العطاء والتشيء بشكل أبدي، يجعل من الممكن للعقل أن يعرف نفسه كفكر لا كشيء عديم الحياة، وأن يمضي قدماً بعد ذلك خلف الواقع التجريبي ليدخل حيز الإمكانية المأمول. فحين تستطيع أن تتصور، بدلاً من حيرتك في أمر قلة الخبز، العمل البشري، ومن ثم بالتالي المخلوقات البشرية التي تنتج الخبز وكفت عن ذلك لأن هنالك إضراباً للخبازين، تكون قد قطعت شوطاً لابأس به على طريق معرفتك أن الأزمة معرضة للفهم لأن العملية معرضة للفهم، ولئن كانت العملية عرضة للفهم يكون كذلك عرضة للفهم شيء من الإحساس بالكل الاجتماعي الذي خلقه الجهد البشري. وقصارى القول فإن الأزمة تتحول إلى نقد الوضع القائم: فالخبازون مضربون لسبب ما، والأزمة يمكن تعليلها، والنظام لايعمل بشكل معصوم عن الخطأ، والفكر تكشف لتوه عن انتصاره على الأشكال الموضوعية المتحجرة.
إن لوكاش ليضع هذا كله في ضوء العلاقة بين الفكر والشيء. بيد أن الإنصاف المناسب لهذه المماحكة يتطلب متابعتها إلى النقطة التي يبين فيها أن التسوية بين الفكر والشيء ستكون أمراً ممكناً، على الرغم من إقراره أن مثل هذا الاحتمال بعيد جداً في غياهب المستقبل. ومع ذلك فهو على يقين أن بلوغ مثل هذا المستقبل أمر محال بدون تحويل الوعي التأملي السلبي إلى وعي نقاد وفعال. فالوعي النقدي (الوعي الذي يدرك أنه انبثق عن الأزمة) يصبح مدركاً بشكل حقيقي، في افتراضه وجود واسطة بشرية خارج متناول التجسيد المادي، لقوته "التي تدأب بلا انقطاع لتقويض الأشكال الموضوعية التي تحدد حياة الإنسان"(9). إن الوعي ليمضي قدماً إلى ماخلف المعطيات التجريبية وليدرك، دون أن يختبر عملياً، التاريخ والمجموعية، والمجتمع ككل -أي تلك الوحدات التي أخفاها التجسيد المادي وتنكر لها في آن واحد معاً. فالوعي الطبقي، في جوهره، موضع الظن بأنه يحاول أن يشق طريقه من قلب البعزقة إلى الوحدة، كما أنه موضع الظن بأنه مدرك لموضوعيته الخاصة كشيء فعال ونشيط، وشعري أيضاً بأعمق المعاني (وعلينا هنا أن نشير إلى أن لوكاش كان قد ساق الحجج، قبل عدة سنوات من صدور كتابه "التاريخ والوعي الطبقي "، على أنه ليس من الممكن التغلب على قيود النظرية المحض وقيود الأخلاق المحض إلا في ميدان الجمال، حيث كان يقصد بالأولى تلك النظرية العلمية التي ترمز موضوعيتها نفسها إلى تجسيدها المادي نفسه، أي إلى عبوديتها للأشياء، في حين أنه كان يقصد بالثانية ذاتية كانطية ليس لها أية علاقة بأي شيء إلا ذاتيتها هي. ومامن شيء إلا العنصر الجمالي يحيل معنى الخبرة إلى خبرة معاشة في شكل مستقل ذاتياً: وبذلك يصبح التفكير والشيء شيئاً واحد(10).
والآن بما أن الوعي يرقى فوق الأشياء، فهو يدخل مضمار الاحتمالية، أي مضمار الإمكانية النظرية. إن الإلحاح الخاص الذي يلحه وصف لوكاش لهذا هو أن لوكاش يصف شيئاً بعيداً بعض الشيء عن مجرد التهرب إلى ميدان الخيال الجامح. فالوعي الذي يتوصل إلى الوعي الذاتي ليس هو البتة كإما بوفاري في تظاهرها أنها سيدة في (يونفيل). إن الضغوط المباشرة التي يمارسها القياس الكمي الرأسمالي، أي الإعداد الصارم للائحة عن كل شيء على سطح الأرض، يتواصل الشعور بها كما يرى لوكاش، وأما الشيء الوحيد الذي يتبدل فهو أن العقل يدرك طبقة من الكائنات على شاكلته تتمتع بقوة التفكير عموماً، لاتستوعب الحقائق إلا لكي تنظمها على شكل زمر، كما أنها تدرك العمليات والاتجاهات التي لايتيح فيها التجسيد المادي ظهور دليل سوى دليل الذرات عديمة الحياة. وهكذا فإن الوعي الطبقي يبدأ بالوعي النقدي. فالطبقات ليست واقعية بتلك الطريقة التي تكون بها الأشجار والبيوت واقعية، إذ إن من الممكن إرجاعها إلى الوعي الذي تستغل طاقاته لافتراض نماذج مثالية تعثر على نفسها فيها بصحبة كائنات أخرى، إن الطبقات نتيجة فعل من أفعال العصيان المسلح يرفض الوعي من خلاله أن يكون مقيداً بعالم الأشياء، ألا وهو المكان الذي كان مقيداً فيه في مخطط الأشياء الرأسمالي.
لقد انتقل الوعي من عالم الأشياء إلى عالم النظرية. وعلى الرغم من أن لوكاش قد وصفه على أحسن ما يكون الوصف المتاح لفيلسوف ألماني شاب- بلغة طافحة بالميتافيزيك والتجريدات أكثر من اللغة التي كنت أستعملها- يجب عليا ألا ننسى بأنه يقوم بفعل من أفعال العصيان السياسي. إن بلوغ النظرية يعني تهديد التجسيد المادي، علاوة على تهديد مجمل النظام البورجوازي الذي يعتمد عليه التجسيد المادي، بالتدمير. ولكن هذا التدمير، كما يؤكد لقرائه، "ليس بمثابة تمزيق وحيد لايتكرر للحجاب الذي يقنّع عملية التجسيد المادي وإنما هو تناوب دائب للتحجر والتناقض والتحرك"(11). فالنظرية، بوجيز العبارة، تكون موضع الاغتنام كنتيجة للعملية التي تبدأ حين يختبر الوعي لأول مرة التحجر المريع الذي هو عليه في التجسيد المادي الشامل لكل الأشياء تحت مظلة الرأسمالية، ولكن حين يعمّم الوعي (أو يصنف) نفسه كشيء معارض لأشياء أخرى، وحين يشعر بنفسه أنه مقاوم للتشييء (أو أنه بمثابة الأزمة في صميم التشييء)، يبرز وعي التغيير في الحالة الراهنة، وفي الختام يتنطح الوعي، إبان تحركه نحو الحرية والتحقق، لاستكمال تحقيق الذات، ألا وهي بالطبع تلك العملية الثورية التي تمتد مسافات إلى الأمام في المستقبل، والتي ليس من الممكن الآن إدراكها إلا كنظرية أو مشروع.
وماهذا الشيء إلا بالمادة المتهورة فعلاً. ولقد أوجزتها كي أطرح مؤشراً بسيطاً عن عتو ردود الأفعال لأفكار لوكاش عن النظرية على النظام السياسي الذي جاء على وصفه بمثل هذا الاتزان والرعب المخيفين. فالنظرية بالنسبة إليه كانت بمثابة الشيء الذي أنتجه الوعي، لا على شكل تفادي الواقع بل على شكل إرادة ثورية ملتزمة مطلق الالتزام بالنزعة الدنيوية والتغيير. إن وعي البروليتاريا كان يمثل، بالنسبة للوكاش، النقيض النظري للرأسمالية، كما أن البروليتاريا التي كان يعنيها ماكان لها أن تتشبه البتة، كما قال ميرلوبونتي وآخرون، بمجموعة من العمال الهنغاريين ذوي الثياب الرثة والوجوه المتجهمة. فالبروليتاريا كانت رمزه للوعي الذي يتحدى التجسيد المادي، وللعقل الذي يؤكد طاقاته فوق المادة المحض، وللوعي الذي يطالب بحقه النظري في إقامة عالم أفضل خارج إطار عالم الأشياء البسيطة. وبما أن الوعي الطبقي ينجم عن عمال عاملين ومدركين للواقع الذي هم عليه، فإن على النظرية ألا تفقد ارتباطها بتاتاً بجذورها في السياسة والمجتمع والاقتصاد.
هذا هو إذاً لوكاش وهو يصف أفكاره عن النظرية -وطبعاً عن نظريته حول التبديل التاريخي الاجتماعي- في مطلع العشرينيات. هيا وتأملوا الآن تلميذ لوكاش ومريده لوسيان غولدمان الذي كان كتابه المعنون بـ "الإله الخبيء"(1955) بمثابة إحدى أوائل المحاولات ومن بين أروعها لوضع نظريات لوكاش موضع التطبيق العملي الاستبحاري. ففي دراسة غولدمان لباسكال وراسين جرى تحويل الوعي الطبقي إلى "رؤية دنيوية"، أي إلى شيء ماهو بالوعي المباشر بل بالوعي الجماعي الذي يعبر عنه عمل بعض أكابر الكتاب الموهوبين(12). ولكن هذا ليس كل مافي الأمر. فغولدمان يقول أن هؤلاء الكتاب يستمدون نظرتهم الدنيوية من ظروف اقتصادية وسياسية حاسمة شائعة بين أفراد زمرتهم، بيد أن النظرة الدنيوية نفسها لها منطلقها لافي التفاصيل التجريبية بمقدار ماهو في إيمان بشري بوجود الحقيقة "التي تتجاوزهم كأفراد وتجد تعبيرها في عملهم"(13). ولما كان غولدمان يكتب كأستاذ ملتزم سياسياً، (لا على غرار لوكاش المناضل المعني بالأمر على نحو مباشر)، فإنه يسوق الأدلة على أن عمل باسكال وراسين، باعتبارهما كاتبين من ذوي الامتيازات، يمكن أن يشكل كلاً متكاملاً هاماً من خلال عملية تنظير ديالكتيكي، ألا وهي تلك العملية التي يعزى فيها الجزء إلى الكل، والتي يتحقق فيها تجريبياً ذلك الكل المفروض من خلال الأدلة التجريبية. وهكذا فإن النظرة إلى نصوص بأم عينها هي أنها أولاً: تعبر عن رؤية دنيوية، وثانياً: أن الرؤية الدنيوية هي مايشكل كل الحياة الاجتماعية والفكرية للجماعة (أي الجماعة المدعوة باسم جانسينيي بور رويال)*، وثالثاً: أن أفكار ومشاعر الجماعة هي التعبير عن حياتهم الاجتماعية والفكرية(14). وفي هذا كله -حيث يسوق الأدلة غولدمان بروعة وفخامة نموذجيتين- يكون المشروع النظري، أي الدائرة التأويلية، بمثابة عرض للتلاحم: بين الجزء والكل، بين الرؤية الدنيوية والنصوص في أدق تفاصيلها، بين واقع اجتماعي حاسم وبين كتابات بعض الأفراد الموهوبين بشكل استثنائي ضمن جماعة ما. فالنظرية، بكلمات أخرى، هي ميدان الباحث، هي المكان الذي تتوحد فيه الأشياء المتباينة، والأشياء المتفككة بمنتهى الوضوح، لكي تتطابق فيما بينها تطابقاً تاماً: الاقتصاد والعملية السياسية والكاتب الفارد وسلسلة من النصوص.
إن الدين الذي يدين به غولدمان للوكاش دين واضح، على الرغم من عدم الإشارة إلى أن ماهو تناقض مضحك، لدى لوكاش، بين الوعي النظري وبين الواقع المتجسد مادياً قد تحول وتموضع، على يد غولدمان، إلى تطابق مأساوي بين الرؤية الدنيوية وبين الوضع الطبقي التعيس الذي كانت عليه طبقة "أشباه النبلاء"** الفرنسية في مؤخر القرن السابع عشر. ففي حين أن الوعي الطبقي لدى لوكاش يتحدى النظام الرأسمالي، لابل ويتمرد عليه لمقاومته فعلاً، نجد أن النظرة المأساوية إليه من لدن غولدمان موضع التعبير التام والمطلق من قبل أعمال باسكال وراسين. إن من الصحيح أن نقول أن النظرة المأساوية ليست موضع التعبير المباشر من قبل ذينك الكاتبين، وصحيح أيضاً أن نقول أن الباحث الحديث بحاجة ماسة، للإتيان بالتطابق بين الرؤية الدنيوية وبين التفاصيل التجريبية، لأسلوب من أساليب البحث الديالكتيكية البالغة التعقيد، مع العلم أن التكييف الذي أجراه غولدمان على نظرية لوكاش ينزع عنها دورها الثوري. فمجرد وجود الوعي الطبقي، أو النظري، بالنسبة للوكاش، كاف بحد ذاته للإيحاء له بمشروع الإطاحة بالأشكال الموضوعية. وأما بالنسبة لغولدمان فإن إدراك الوعي الطبقي أو الجماعي ماهو قبل أي شيء إلا ضرورة استبحارية ومن ثم التعبير -في أعمال كتاب من ذوي الامتيازات الرفيعة- عن وضع اجتماعي محدود بشكل مأساوي. إن الوعي المنسوب لمصدره لدى لوكاش هو حاجة نظرية ممتنعة على الإثبات، ولو أنها حاجة نظرية مسبقة بشكل مطلق، إن كان المرء يود الإتيان بالتغيير في الواقع الاجتماعي، إذ في النسخة التي جاء بها غولدمان عن ذلك الوعي، وهي النسخة المقصورة باعتراف الجميع على وضع محدود جداً، يقوم التعبير عن النظرية والوعي في الرهان الذي يراهنه باسكال على إله صامت ومحجوب عن الأنظار "deus absconditus"، كما ويقوم التعبير عنهما بالنسبة لغولدمان الباحث العلمي، كما ينعت نفسه، في التطابق النظري بين النص والواقع السياسي. ولئن وضعنا الأمر في إطار آخر لقلنا إن النظرية عند لوكاش تبدأ كنوع من التنافر الممنوع من التقليص بين العقل والشيء، في حين أنها بالنسبة لغولدمان هي العلاقة المتماثلة التي من الممكن رؤيتها موجودة بين جزء فارد وكل متلاحم.
إن الفرق بين النسختين المطروحتين عن نظرية لوكاش حول النظرية لفرق واضح تماماً: فلوكاش يكتب كمشارك في صراع (الجمهورية السوفياتية الهنغارية لعام 1919)، في حين أن غولدمان يكتب كمؤرخ منفي في السوربون. فانطلاقاً من وجهة نظر واحدة يمكننا أن نقول أن التكييف الذي كيف به غولدمان نظرية لوكاش يخفض منزلة النظرية، يقلل من أهميتها، يشذبها بعض الشيء وفق مقتضيات أطروحة دكتوراه في باريز. ولكنني لا أتصور هنا أن ذلك التخفيض ينطوي على أي مضمون أخلاقي، بل إنه (كما يدل أحد معانيه الثانوية) ينقل تخفيض اللون، وزيادة ابتعاد المسافة، وفقدان القوة المباشرة الذي يطرأ حين إجراء المقارنة بين أفكار غولدمان عن الوعي والنظرية وبين المعنى والدور اللذين يقصدهما لوكاش بالنظرية. وليس في نيتي فضلاً عن ذلك أن أوحي أن هنالك شيئاً من الخطأ الكامن في التحويل الذي حول به غولدمان الوعي من وعي مقاوم ومعارض معارضة جذرية إلى وعي بمقدوره استيعاب التطابق والتماثل. فكل مافي الأمر لايعدو القول بأن الوضع قد تغير بما يكفي لحدوث التخفيض، مع أنه مامن شك في أن قراءة غولدمان للوكاش تمحو تلك المسحة النبوية تقريباً عن النسخة التي جاء بها هذا الأخير عن الوعي.
يالكثرة ماتعودنا أخيراً على أن نسمع أن كل الاقتباسات والقراءات والتأويلات ماهي إلا قراءات مغلوطة وتأويلات مغلوطة حتى كدنا أن نعتبر أن حادثة غولدمان/لوكاش ليست إلا قسطاً ضئيلاً آخر من الدليل على أن أي إنسان، حتى الماركسي، يسيء القراءة ويسيء التأويل. بيد أنني أعتبر أن مثل هذا الاستنتاج مقنع بتاتاً. فهو يوحي ضمناً، قبل أي شيء آخر، أن البديل الممكن الوحيد عن النسخ الذميم هو القراءة المغلوطة الخلاقة، وأن إمكانية الوساطة شيء لا وجود له. وثانياً: إن الفكرة القائلة أن كل القراءة قراءة مغلوطة ماهي أساساً، حين يصار إلى رفعها لسوية مبدأ عام، إلا إلغاء لمسؤولية الناقد. فليس من الكافي بتاتاً بالنسبة للناقد الذي يحمل فكرة النقد على محمل الجد أن يقول بمنتهى البساطة أن التأويل هو إساءة تأويل، أو أن الاقتباسات تنطوي ضمناً على قراءات مغلوطة بشكل لامناص منه. إن الأمر على النقيض من ذلك تماماً: إذ يبدو لي أن من الممكن تماماً تقويم القراءات المغلوطة (بالشكل الذي تحدث فيه) بأنها جزء من الانتقال التاريخي الذي تنتقله الأفكار والنظريات من إطار إلى آخر. لقد كتب لوكاش لصالح وضع، وفي وضع، كان ينتج أفكاراً عن الوعي والنظرية، وأفكاراً مختلفة جداً عن الأفكار التي جاء بها غولدمان في وضعه الذي كان فيه. فلئن تدعو عمل غولدمان بأنه قراءة مغلوطة لعمل لوكاش، ولئن تربط للتو مباشرة بين قراءة مغلوطة لنظرية عامة عن التأويل وبين إساءة التأويل، يعني عدم إعارة أي اهتمام نقدي للتاريخ وللوضع اللذين يلعبان كلاهما دوراً هاماً وحاسماً في تغيير أفكار لوكاش وتحويلها إلى أفكار خاصة بغولدمان. وإن هنغاريا إبان عام 1919 وباريز في أعقاب الحرب العالمية الثانية تمثلان محيطين مختلفين الاختلاف كله. وإلى الحد الذي تتم فيه قراءة لوكاش وغولدمان قراءة دقيقة، يصبح بمقدورنا إلى ذلك الحد نفسه أن نفهم التغيير النقدي -في الزمان وفي المكان- الذي يحدث بين كاتب وآخر، مع العلم أنهما يعتمدان معاً على نظرية لإنجاز شيء معين من العمل الفكري. وهنا ما من حاجة تدعوني للجوء إلى نظرية عن التداخل النصي الذي لاحدود له لكي تكون نقطة أرخميدس* خارج إطار الوضعين معاً. فالرحلة الخاصة من هنغاريا إلى باريز، بكل ماينجم عنها من نتائج، تبدو قاهرة جداً وكافية جداً لصالح التمحيص النقدي، إن لم نكن راغبين في الاستغناء عن الوعي النقدي واللجوء إلى الشعوذة النقدية.
ففي المقارنة بين لوكاش وغولدمان نتيقن من الحد الذي تكون فيه النظرية رد فعل على وضع تاريخي واجتماعي محدد، ألا وهو الوضع الذي تشكل فيه المناسبة الفكرية قسطاً منه. وهكذا فإن الشيء الذي يكون وعياً متمرداً في مثل من الأمثلة يصبح رؤية مأساوية في مثل آخر، وذلك نظراً لتلك الأسباب التي تتوضح عند إجراء مقارنة جادة بين بوادبست وباريز. وهنا لاتحدوني الرغبة إلى الإشارة بأن بوادبست وباريز هما اللتان حددتا نوعية النظرية لدى كل من لوكاش وغولدمان، بل ماأقصد بالفعل هو أن بودابست وباريز هما الشرطان الأوليان الممنوعان من التقليص، وهما الشرطان اللذان يطرحان الحدود ويمارسان الضغوط التي يرد عليها كل كاتب منهما، مع التسليم بداهة بمواهب ونوازع واهتمامات كل منهما على حدة.
هيا بنا الآن نجتاز خطوة إضافية مع لوكاش، أو بالأحرى مع تلك النسخة التي استخدمها غولدمان عن لوكاش: أي نسخة غولدمان التي أفاد منها ريموند وليامز. فبما أن وليامز كان قد ترعرع في تراث الدراسات الإنكليزية في كامبردج وتدرب على تقنيات ليفز وريتشاردز، كان تكوينه تكوين ذلك المتبحر الأدبي الذي لم تكن فيه أية فائدة للنظرية. إنه يتحدث بلغة تثير الحنق إلى حد ما عن الكيفية التي تمكن مفكرين تثقفوا بالطريقة التي تثقف بها من أن يستخدموا "لغة مستقلة تحدد ذاتها بذاتها" وتعبد التفاصيل الدقيقة الملموسة عبادة الأصنام، الأمر الذي كان يعني أن بمقدور المفكرين التقرب من السلطة والتحدث بلغة التطهير عن أدق الرموز، وأن عليهم أن يجاهروا بالولاء للتجسيد المادي لابنيّة استنتاجه، وأن يتحدثوا بدلاً من ذلك عن التلازم الموضوعي، لا لتبيين مكان التسوية على الرغم من معرفتهم بموضع التنفيس(15). فها هو وليامز يخبرنا أن غولدمان جاء إلى كامبردج في عام 1970 وألقى محاضرتين هناك. وهذه الزيارة كانت حدثاً ضخماً، طبقاً لما جاء به وليامز في المقالة التذكارية الشجية التي كتبها عن غولدمان بعد مماته، وذلك لأنها طرحت النظرية على كامبردج، كما يدعي وليامز، حيث استوعبها واستخدمها، بالشكل الذي كانت عليه، كل المفكرين المتضلعين في التراث الأوربي الرئيسي. ولقد حرض غولدمان وليامز على إطراء مساهمة لوكاش كونها جعلتنا نفهم تلك الكيفية التي استحال بها التجسيد المادي إلى موضوعية زائفة بمقدار ماكان الأمر يتعلق بالمعرفة، وإلى تشويه ينخر، في الوقت نفسه أيضاً، كل ثنايا الحياة والوعي أكثر من أي شكل آخر من أشكال النشاط البشري في عصر "هيمنة الفعالية الاقتصادية على كل ما عداها من الفعاليات البشرية". ويتابع وليامز قائلاً:
إن فكرة الانجماع كانت إذاً سلاحاً نقدياً ضد هذا التشويه بالحصر، لابل وضد الرأسمالية نفسها في حقيقة الأمر. ومع ذلك لم يكن هذا الإجراء بمثابة نزعة مثالية- أي توكيد سيادة قيم أخرى. ولكن على العكس تماماً: فكما أن هذا التشويه لايمكن فهمه في جذوره إلا من خلال تحليل تاريخي لنوع خاص من الاقتصاد، كذلك محاولة التغلب عليه وتجاوزه لايمكن أن تقوم في شاهد فارد أوفي فعالية مستقلة، وإنما تقوم في جهد عملي بغية العثور على غايات اجتماعية إنسانية أسمى، وتوكيدها وتوطيدها، بوسائل اقتصادية وسياسية وإنسانية أسمى(16).
ومرة ثانية تعرضت فكرة لوكاش -وهي في هذه الحالة الفكرة الثورية العلنية عن الانجماع- لشيء من الترويض. فبدون أية رغبة عندي بشكل من الأشكال للتقليل من أهمية مافعلته أفكار لوكاش (من خلال غولدمان) لصالح الدراسات الإنكليزية وقتما كانت في حالة جمود عليل في كامبردج في مؤخر القرن العشرين، أرى أن الحاجة الماسة تدفعني للقول بأن تلك الأفكار قد صيغت بالأصل لتفعل شيئاً أكثر من مجرد قلقلة حفنة من أكابر أساتذة الأدب. بيد أن هذه النقطة نقطة واضحة ناهيك عن أنها بسيطة، إذ إن الأهم هو التالي: فنظراً لأن كامبردج ماهي بوادبست الثورية، ونظراً لأن وليامز ماهو لوكاش المناضل، ونظراً لأن وليامز ناقد تأملي- وهذه نقطة عويصة- أكثر مماهو ثوري ملتزم، فإن بمقدوره رؤية حدود نظرية ماتبدأ كفكرة تحريرية ولكنها يمكن أن تتحول، على الرغم من ذلك، إلى فخ لذاتها هي.
على أعلى المستويات العملية كان يسيراً علي أن أوافق [على أن نظرية لوكاش عن الانجماع كانت رداً على التجسيد المادي]. ولكن الحديث عن مجمل قوة التفكير بلغة الانجماع يعني التوكيد على أننا جزء منه، أي وضع كل وعينا وعملنا ومناهجنا في زاوية نقدية محفوفة بالمخاطر. لقد كان في ذلك الميدان الخاص، ميدان التحليل الأدبي، هذه العقبة الواضحة: ألا وهي أن معظم العمل الذي كان علينا أن نتفحصه كان نتاج نفس هذا الوعي المتجسّد مادياً، حتى إن ذلك الشيء الذي ظهر بمظهر الغنيمة المنهجية (الميثودولوجية) صار، وعلى جناح السرعة، مظنة الفخ المنهجي. ولكن لما يكن بوسعي حتى الآن إطلاق هذا الحكم النهائي على لوكاش كوني لما أتوصل بعد إلى عمله كله، غير أن بعض ما جاء في عمله على الأقل، كالتبصرات الأساسية الواردة في كتاب "التاريخ والوعي الطبقي"، التي تنصل حالياً منها ولو بشكل جزئي، تتعذر ترجمته إلى ممارسة نقدية [وهنا يلمح وليامز إلى العمل التالي الذي أصدره لوكاش عن الواقعية الأوربية، والذي كان أقل صقلاً بكثير من كتاب "التاريخ و...."] فضلاً عن أن بعض العمليات الأقل إتقاناً تدأب على معاودة الظهور -ولا سيما ما يتعلق منها بالقاعدة والهيكل العلوي. وأما أنا فلا أزال أقرأ غولدمان بروح من التعاون والنقد ولا أزال أطرح السؤال نفسه لأنني على ثقة تامة أن تطبيق الانجماع لا يزال بالنسبة لأي واحد منا، وفي أي زمان، غاية في العسر لا بل وغاية في الوضوح أيضاً.
إن هذا المقطع لمثار الإعجاب، ولكن على الرغم من أن وليامز لا يقول شيئاً عن التكرار الكرار في العمل الذي أصدره غولدمان لاحقاً، فإن من الأهمية بمكان كبير أن يكون قد تعلم، ولو من نظرية إنسان آخر، رؤية حدود النظرية ولا سيما حقيقة إمكانية تحول الغنيمة إلى فخ، إن تم استخدام النظرية بشكل عشوائي وكرار وبلا حدود. فما يعنيه، على ما أتصور، هو أن أية فكرة ما أن يكون لها رواجها نظراً بمنتهى الوضوح لفعاليتها وقوتها حتى تقوم كل الاحتمالات، خلال مهاجراتها، لتقزيمها وتصنيفها وتوشيحها وشاح المؤسسات. إن ذلك العرض الرائع المعقد الذي عرض به لوكاش ظاهرة التجسيد المادي استحال بالفعل إلى نظرية تأملية بسيطة، ولو إلى حد ما طبعاً، على يدي غولدمان، مع العلم أن وليامز لم يقل ذلك عن صديق قديم مات منذ عهد قريب لأنه كان حزيناً عليه ذلك الحزن الوقور. فالتماثل، بعد كل ما قيل، ما هو إلا نسخة منقحة عن نموذج القاعدة والهيكل العلوي الدولي الثاني القديم*.
إن تأملات وليامز، علاوة على تذكيرها لنا بالشيء الذي يحدث بالتحديد لنظرية طليعية، تساعدنا على الإتيان بتعليق آخر حول النظرية بعد أن تنبثق من صميم وضع ما وتصبح من ثم قيد الاستخدام وتهاجر وتحظى بالقبول على نطاق واسع. فلئن كان من الممكن لنظرية "التجسيد والانجماع" (إن حولنا الآن نظرية لوكاش إلى عبارة موجزة لتبسيط المرجعية) أن تكون أداة للتقليص، لن يكون هنالك أي سبب يمنعها من أن تكون شاملة جداً وفعالة جداً بدون انقطاع، وأن تنشر عادة فكرية على أوسع نطاق. وبوجيز العبارة، إن كان بمقدور نظرية ما أن تنزل إلى تحت، إن جاز التعبير أي أن تصبح تقليصاً دوغماتياً لنسختها الأصلية، يكون بمقدورها أيضاً أن ترتفع إلى فوق حتى تصل إلى نوع من اللاتناهي الرديء، ألا وهو الاتجاه الذي كان يقصده لوكاش نفسه بخصوص نظرية التجسيد والانجماع. فالحديث عن نبذ لا يكل ولا يمل للأشكال الموضوعية، والحديث كما يتحدث في المقالة عن الوعي الطبقي، عن كيفية كون النهاية المنطقية للتغلب على التجسيد المادي هي الإبادة الذاتية للطبقة الثورية نفسها، يعني أن لوكاش قد دفع نظريته أشواطاً إلى الأمام وإلى الأعلى، أي إلى حد غير مقبول (في رأيي أنا). إن التناقض الذي تنطوي عليه هذه النظرية- ولربما معظم النظريات التي تتطور كردود على ضرورة التحرك والتبدل- هو أنها تخاطر بالتحول إلى مبالغة نظرية، إلى مسح نظري لذلك الوضع الذي صيغت بالأصل لمعالجته أو التغلب عليه. فلئن يصف المرء "تعاقباً دائباً للتحجر والتناقض والتحرك" نحو الانجماع كعلاج نظري للتجسيد المادي ما هو إلا، بمعنى ما، استبدال صيغة ثابتة بصيغة أخرى. وإن القول عن النظرية والوعي النظري بأنهما، كالقول الذي يقوله لوكاش، يتداخلان في التجسيد المادي ويستهلان عملية ليس بالقول الدقيق بما يكفي كي يأخذ في اعتباره، وفي حساباته، التفاصيل وضروب المقاومة التي يبديها واقع حرون متجسد مادياً للوعي النظري. وعلى الرغم من البهاء الذي يتحلى به الوصف الذي جاء به لوكاش للتجسيد المادي، وعلى الرغم من كل دقته فيه، فإنه لم يكن قادراً على أن يرى كيف أن التجسيد المادي نفسه حتى تحت مظلة الرأسمالية لا يمكن أن يكون كلي الهيمنة- ما لم يكن لوكاش مستعداً بالطبع أن يترك شيئاً يقول بأن الانجماع النظري (وسيلته الثورية للتغلب على التجسيد المادي) أمر ممكن، أي أن الانجماع على شكل تجسيد مادي كلي الهيمنة أمر ممكن نظرياً تحت مظلة الرأسمالية. فلئن كان التجسيد المادي كلي الهيمنة، كيف يكون إذاً بمقدوره لوكاش أن يفسّر عمله هو كشكل من أشكال الفكر البديل تحت وطأة التجسيد المادي؟
ولربما أن هذا بقضه وقضيضه مجرد هياط ومياط وشعوذة. ومع ذلك يبدو لي أن المسافة التي نأى بها وليامز عن لوكاش الشاب المتأجج حماسة تنطوي، مهما كانت بعيدة زماناً ومكاناً، على فضيلة استثنائية حتى بالنسبة لبرودة تأملاته النقدية حول لوكاش وغولدمان اللذين لولا ذلك لكان فكرياً على أوثق ارتباط حميم معهما كليهما. فهو يأخذ عن هذين الرجلين إدراكاً نظرياً نفاذاً بالقضايا التي ينطوي عليها ربط الأدب بالمجتمع، بالشكل الذي يطرحه فيه في مقالته النظرية الوحيدة المثلى المعنونة بـ "القاعدة والهيكل العلوي في النظرية الثقافية الماركسية". فالمصطلحات الفنية المطروحة في النظرية الجمالية الماركسية لرسم حدود ذلك الميدان المتعرج والمعقد القائم بين القاعدة والهيكل العلوي لمصطلحات غير وافية بالغرض على العموم، ولذلك فإن وليامز يمضي قدماً للإتيان بالعمل الذي يجسد نسخته النقدية عن النظرية الأصلية. إنه يعرض نسخته على أحسن ما يرام، كما أتصور، في كتابه المعنون بـ"السياسة والأدب" حيث يقول: "مهما بلغت هيمنة نظام اجتماعي ما، فإن معنى هيمنته نفسها تقضي ضمناً بوجود تحديد أو اصطفاء للفاعليات التي يغطيها، ولذلك لن يكون بوسعه تحديداً استنفاد كل الخبرة الاجتماعية التي تشتمل دائماً، نظراً لذلك، على حيّز لقيام أفعال بديلة ونوايا بديلة من تلك التي لما تتبلور بعد كمؤسسة اجتماعية أو حتى كمشروع اجتماعي"(18) فكتاب "الريف والمدينة" يدوّن كلاً من حدود الهيمنة وبدائلها على شكل ردود أفعال عليها، مثلما عليه الأمر في حالة جون كلير الذي يسم عمله "نهاية الشعر الرعوي [كتقليد منهجي لوصف الريف الإنكليزي] بمجرد الصدمة التي واجهته جراء اصطدامه بالخبرة الريفية الفعلية". إن نفس وجود كلير كشاعر صار محفوفاً بالمخاطر نظراً لإزالة النظام الاجتماعي المقبول من المشهد المألوف الذي تزيا بالزي المثالي على أيدي جونسون وثومسون، الأمر الذي أدى إلى ذلك التحول الذي تحوله كلير- كإجراء بديل لما يكن وقتها قد صار موضع التحقق الكامل ولما يكن قد استسلم الاستسلام المطلق للعلاقات اللاإنسانية التي ترسخت في ظل نظام استغلال السوق- إلى "اللغة الخضراء للطبيعية" أي إلى الطبيعة لتكون هدف التمجيد بطريقة جديدة على ألسنة أكابر الشعراء الرومانسيين"(19).
ما من سبيل لتقزيم الحقيقة التي مفادها أن وليامز ناقد هام نظراً لمواهبه وتبصراته. بيد أنني على قناعة أن من الخطأ التقليل من أهمية الدور الذي لعبه في كتاباته الناضجة ذلك الشيء الذي كنت أدعوه بالنظرية المستعارة أو المهاجرة. فعلينا أن نستعير بالتأكيد إن كنا نريد التملص من كوابح محيطنا الفكري المباشر. ونحن بأمس الحاجة لنظرية لكل أنواع الأسباب التي قد ينطوي تكرارها الآن على ملل كبير. ولكن الشيء الذي نحتاجه أكثر بكثير من النظرية هو الإدراك النقدي الذي مفاده أنه ما من نظرية قادرة على التنبؤ بكل الحالات التي قد تكون مفيدة فيها، وتغطية تلك الحالات وتطويقها. وهذا القول ما هو إلا طريقة أخرى للقول، كما يقول وليامز، بأنه ليس بوسع أي نظام فكري أو اجتماعي أن يكون على هيمنة كبيرة إلى الحد الذي يجعله لا محدوداً في قوته. وهكذا فإن وليامز يتوفر له ذلك الإدراك النقدي الذي يستخدمه بمنتهى التعقل لكي يصف ويسوغ ويصقل استعاراته من لوكاش وغولدمان، علماً أن علينا أن نعجل ونضيف أن حيازته ذلك الإدراك لا تجعله معصوماً عن الخطأ ولا أقل تعرضاً للمغالاة. ولكن ما لم تكن النظرية قاطعة، من خلال جوانب نجاحها أو جوانب فشلها، حيال هذا الوجود الفوضوي أساساً، والسائب أساساً، الذي يشكل قسطاً كبيراً من الأوضاع الاجتماعية والتاريخية (وهذا ينطبق سواء بسواء على النظرية التي تنبثق من أي مكان وعلى النظرية "الأصلية")، فإنها تصبح فخاً إيديولوجياً تنصيد وتسمّر مستخدميها والشيء الذي يدور استخدامها عنه في آن واحد معاً. وفي هذه الحالة يصبح النقد أمراً غير ممكن أبداً.
فالنظرية، باختصار، لا يمكن لها أن تكون كاملة البتة، شأنها بذلك شأن ولوع المرء بالحياة اليومية ولوعاً لا سبيل لاستنفاده أبداً من خلال الإتيان بمتشابهات عنه أو بصور نموذجية أو بتجريدات. إن المرء ليستمد المتعة بالتأكيد من فلاحه في أن يجعل الأدلة تحتل مكانها المناسب في مخطط نظري أو تفعل فعلها فيه، وإن لمن السخف بمكان كبير أن يتقول المرء أن "الوقائع" أو "النصوص العظيمة" لا تستدعي أي إطار عمل نظري أو أي منهج لتكون بموجبه موضع إطراء مناسب أو قراءة مناسبة. فما من قراءة حيادية أو بريئة، وعلى المنوال نفسه ما من نص وما من قارئ إلا، إلى حد ما، نتاج منطلق نظري مهما كان هذا المنطلق ضمنياً أو لا شعورياً. وهأنذا أسوق الحجج على أننا نميز بين النظرية وبين الوعي النقدي بالقول أن هذا الأخير نوع من أنواع الإحساس المكاني، أي نوع من أنواع تقدير المقدرة الشخصية على تحديد موقع النظرية أو مكانها، وهذا يعني أن الواجب يقضي بإدراك المكان والزمان اللذين تنبثق عنهما النظرية كقسط من ذلك الزمان حيث تفعل فعلها فيه ولفائدته وحيث تستجيب له، ومن ثم يصبح بالإمكان لاحقاً إجراء المقارنة بين المكان الأول وبين الأمكنة التالية التي تبرز فيها النظرية كي تكون قيد الاستعمال. فالوعي النقدي هو إدراك الفروق القائمة بين مكان وآخر، علاوة على أنه إدراك الحقيقة التي مفادها أنه ما من منظومة أو نظرية تستنفد المكان الذي تنشأ فيه أو المكان الذي تترحل إليه. والوعي النقدي هو، قبل أي شيء آخر، إدراك ضروب المقاومة للنظرية، وإدراك ما تواجه من ردود أفعال أو تأويلات متضاربة معها. وإنني لأود بالفعل أن أشتط إلى حد القول أن مهمة الناقد ما هي إلا الإتيان بضروب المقاومة للنظرية، وتشريع أبوابها باتجاه الواقع التاريخي، باتجاه المجتمع، باتجاه الحاجات والمصالح البشرية، لتوضيح تلك الأمثلة الملموسة المستمدة من الواقع اليومي الذي يقع خارج أو خلف إطار التأويل المحدد سلفاً بالضرورة والمقيد من ثم بأية نظرية.
إن الكثير من هذا يؤول إلى التوضيح إذا قارنا لوكاش ووليامز من ناحية أولى مع غولدمان من ناحية ثانية. لقد قلت من قبل أن وليامز عارف بما يدعوه بالفخ المنهجي. وأما لوكاش، من طرفه، فيبين في حياته المسلكية كمنظّر (إن لم يكن في النظرية الناضجة نفسها) معرفة عميقة بضرورة الانتقال من متاهة النزعة الجمالية إلى العالم الواقعي المتمثل بالسلطة والمؤسسات، في حين أن غولدمان، على النقيض من ذلك، أسير شرك حتمية التماثل التي تكشف عنها كتابته الرائعة والمقنعة لاسيما في كتابه المعنون بـ"الإله الخبيء" (Le Dieu caché). إن التسييج النظري، شأنه شأن العرف الاجتماعي أو العقيدة الثقافية، لعنة على الوعي النقدي الذي يفقد حرفته حين يفقد معناه الفعال المتمحور حول عالم مفتوح عليه أن يمارس مقدراته فيه. إن أفضل الدروس الناجمة عن ذلك هو الدرس الموجود في الكتاب الفخم للانتريشيا المعنون بـ "بعد النقد الجديد" الذي هو بمثابة سرد مقنع كله للشيء الذي يدعوه بـ"المساجلات المشلولة حالياً حول النظرية الأدبية المعاصرة(20). ففي مثل في أعقاب مثل آخر يبين التوهين والترقيق اللذين يلحقان بأية نظرية ليست نسبياً موضع الاختبار من قبل العالم الاجتماعي وليست معرضة لتسييجه المعقد، ألا وهو ذلك العالم الذي ليس البتة مجرد بيئة لينة العريكة يسيرة الاستخدام لسن قوانين المواقف النظرية. (فكترياق لبلاء الخواء الذي ابتلى به الموقف الأمريكي، يوجد في كتاب فردريك جيمسون المعنون بـ"اللاوعي السياسي" وصف مفيد غاية الفائدة لثلاثة "آفاق سيمانتيه" يجدر أخذها بالحسبان ديالكتيكياً من قبل المفسر على أنها أجزاء من عملية فك طلاسم الرموز، الأمر الذي يدعوه أيضاً "بالنمط الثقافي للإنتاج")(21).
ومع ذلك علينا أن ندرك أن الواقع الاجتماعي الذي كنت ألمح إليه ليس بأقل تعرضاً للمبالغة في التلخيص النظري، حتى حين يتعمد، كما سأبين في حالة فوكو، بحث تاريخي في غاية القوة إلى الخروج بنفسه من الأرشيف إلى عالم السلطة والمؤسسات، وتحديداً إلى تلك المقاومات للنظرية التي تتغافل عنها وتسقطها من حاسبها أشد النظريات شكلية- كالتفكيك والسيميوطيقا والتحليل النفسي اللاكاني* والماركسية الآلثوسيرية التي كانت هدفاً لهجوم إ. ب. ثومبسون(22). إن العمل الذي قام به فوكو لمن أكثر الأعمال تحدياً وذلك لأن النظرة إلى فوكو هي أنه بحق خصم نموذجي للشكلية اللااجتماعية واللاتاريخية. بيد أنه يقع أيضاً، كما أتصور، ضحية لتقليل قيمة النظرية تقليلاً منهجياً بتلك الطرق التي يعتبرها أتباعه أدلة على عدم إذعانه للشعوذة.
إن فوكو ليجسد مفارقة عجيبة. فحياته المسلكية تقدم لجمهوره المعاصر له مساراً أخاذاً بشكل استثنائي يبلغ ذروته، في زمن أحدث عهداً بكثير، في الإعلان الذي أعلنه هو نفسه، والذي أحاله أتباعه لمصلحته، ومفاده أن موضوعه الحقيقي هو العلاقة بين المعرفة والسلطة. ونظراً لبهاء أدائه في الميدانين النظري والعملي، فإن السلطة والمعرفة (pouvoir and savoir) أتاحتا لقرائه (ولسوف يكون من الوقاحة ألا أعد نفسي بينهم، لا بل وراجعوا أيضاً كتاب جاك دونزيلوت المعنون "بشرطة العائلات") العدة للتعامل مع المفاهيم لتحليل الخطابات الذرائعية التي تتناقض تناقضاً صارخاً مع ذلك الميتافيزيك الجديب نسبياً الذي كان ينتجه عادة تلاميذ منافسيه الفلسفيين الكبار. ومع ذلك فإن أقدم عمل من أعمال فوكو كان من وجوه عديدة غافلاً بشكل ملفت للنظر عن قوته النظرية الخاصة. فحين تعيدون قراءة كتاب "تاريخ الحماقة" بعد كتاب "الرقابة والعقاب" ستصابون بالذهول من جراء الاستشراف المذهل الذي كان عليه الكتاب الأول بالنسبة للثاني، ولسوف تصابون بالذهول أيضاً حين تكتشفون أن فوكو حتى وهو يعالج الحبس والحجر، وهو الموضوع الذي كان يهجس في ذهنه، في بحثه البيمارستانات والمستشفيات، لم يأت على ذكر السلطة صراحة أبداً، لا ولم يأت على ذكر الإرادة "volonté" أيضاً. وأما كتابه المعنون بـ "الكلمات و..." فيقوم عذره، في التغافل عن ذكر السلطة، في أن الموضوع الذي كان يبحثه فوكو فيه كان تاريخ الفكر لا تاريخ المؤسسات، في حين أن كتاب "علم آثار المعرفة" يتضمن بعض التلميحات هنا وهناك مما يدل على أن فوكو بدأ يدنو من موضوع السلطة من خلال عدد من التجريدات التي تعني السلطة ضمناً: إذ إنه يشير فيه إلى أشياء من أمثال القبول والتكديس والمحافظة والتشكيل المعزوة كلها لإنشاء المقولات والخطابات والأرشيفات والوظائف التي تقوم بها، غير أنه يفعل ذلك دون أن يهدر شيئاً من وقته على ذكر ما قد يكون المصدر العام لقوتها ضمن المؤسسات أو في ميادين المعرفة أو حتى في المجتمع نفسه.
فنظرية فوكو عن السلطة -التي سوف أقيد نفسي بها هنا- تنبثق عن محاولته تحليل الفعل الذي تفعله أنظمة الحبس من الداخل، أي تلك الأنظمة التي تعتمد في أدائها وظائفها على كل من ديمومة المؤسسات ومن تفريخ الإيديولوجيات التقنية التي تسوغ وجود تلك المؤسسات.
وما هذه الإيديولوجيات إلا الخطابات والمعارف التي ينهمك بها فوكو. ففي عرضه الواقعي لبعض الواقف المحلية التي تحتشد فيها مثل هذه السلطة ومثل هذه المعرفة لا نظير له، علاوة على أن ما فعله لشيء في غاية التشويق بأي معيار. إن السلطة كي تكون فاعلة يجب أن يكون بوسعها، كما يقول في كتاب "الرقابة والعقاب"، تدبير التفاصيل والتحكم بها وحتى خلقها أيضاً: إذ كلما تزايدت التفاصيل تزايدت السلطة الفعلية، إدارة تفرخ وحدات يسيرة الإدارة، الأمر الذي يفرخ بدوره معرفة ذات مزيد من التفاصيل، ومعرفة ذات تحكم أدق. فالسجون، كما يقول في تلك الفقرة التي لا تنسى، ما هي إلا المصانع التي تنتج الجنوح، وما الجنوح إلا المادة الخام للخطابات التأديبية.
إنني لا أجد أية مشكلة فيما يتعلق بأوصاف وملاحظات مخصصة من هذا النوع، ولكن حين تتحول اللغة الخاصة لفوكو إلى لغة عامة (أي حين ينتقل بتحليلاته للسلطة من التفاصيل إلى المجتمع ككل) تتحول الغنيمة المنهجية إلى فخ نظري. ومن الطريف أن هذا الأمر يزداد وضوحاً زيادة طفيفة حين يقوم نقل نظرية فوكو من فرنسا وزرعها في عمل أتباعه فيما وراء البحار. فمنذ عهد قريب، على سبيل المثال، كان موضع التهليل بلسان إيان هاكينغ باعتباره بديلاً صعب المراس لأولئك الناس المتخلفين أكثر من اللزوم والتقدميين "الحالمين" من الماركسيين (ومن هم أولئك الماركسيون؟ الماركسيون كلهم؟)، وباعتباره خصماً فوضوياً لدوداً لناعوم تشومسكي الموصوف وصفاً غير مناسب بأنه "مصلح ليبرالي حصيف إلى حد الروعة"(23). هذا في حين أن كتاباً آخرين، ممن يرون بشكل صائب أن بحوث فوكو عن السلطة تلعب دور نافذة الإنعاش المفتوحة على العالم الواقعي للسلطة والمجتمع، أساءوا عشوائياً قراءة إعلاناته ونعتوها بأنها أحدث شيء عن الواقع الاجتماعي(24). وما من شك أن عمل فوكو بديل هام بالفعل للشكلية اللاتاريخية التي كان يتجادل معها على نحو ضمني، وأن رؤيته تتحلى بميزة عظيمة لكونه مفكراً مختصاً (كشيء مناقض للمفكر العام(25)) قادراً وآخرون من أمثاله على خوض معركة فدائية نطاقها صغير ضد بعض مؤسسات القمع، وضد "الصمت والتكتم".
بيد أن ذلك كله لايعني تقبل رؤية فوكو المطروحة في كتاب "تاريخ الغريزة الجنسية" والقائلة أن "السلطة موجودة في أي مكان"، وتقبل كل النتائج التي تنجم ولابد عن مثل هذه الرؤية المبسّطة ذلك التبسيط الهائل(26). إن بمقدور أي واحد أن يرى أن فوكو، كما أسلفت القول، في حماسته لتفادي الوقوع في شرك النزعة الاقتصادية الماركسية، انساق إلى طمس دور الطبقات، ودور الاقتصاد، ودور العصيان والثورة في المجتمعات التي يبحثها. هيا ولنفترض أن السجون والمدارس والجيوش والمصانع كانت، كما يقول، مصانع للتأديب في فرنسا إبان القرن التاسع عشر (باعتباره يتحدث حصراً على وجه التقريب عن فرنسا)، وأن الحكم الجامع كان يهيمن عليها كلها. فما هي ضروب المقاومة التي تصدت لنظام التأديب، ولماذا لم يبحث فوكو البتة ضروب المقاومة التي تخلص دائماً إلى الإذعان لهيمنة النظام الذي يصفه، كما يسوق الأدلة نيكوس بولانتزاس بمنتهى حدة الذهن في كتاب "الدولة والسلطة والاشتراكية"؟ وأما الوقائع فإنها أكثر تعقيداً بالطبع، مثلما يستطيع أن يبين أي مؤرخ جيد لقيام الدولة الحديثة. وعلاوة على ذلك، يتابع أقواله بولانتزاس، فحتى لو قبلنا الرأي القائل أن السلطة عقلانية في جوهرها، وأنها ليست بحوزة أي إنسان ولكنها استراتيجية ومزاجية وفعالة إلى الحد الذي يجعلها تستثمر كل زوايا المجتمع، كما يدعي كتاب "الرقابة والعقاب"، فهل من الصواب أن نستنتج، كما يستنتج فوكو، أن استخدام السلطة يستنفد السلطة؟(27) أوليس من الخطأ بمنتهى البساطة أن نقول، كما يتساءل بولانتزاس، أن السلطة لاتستند إلى أي أساس في أي مكان وأن النضال والاستغلال لا يحدثان(28)، مع الإشارة إلى أن كلا هذين التعبيرين غائبان عن تحليلات فوكو؟ فالمشكلة تكمن في أن استخدام فوكو لمصطلح السلطة "pouvoér" يدور ويدور أكثر من اللزوم إلى الحد الذي يجعله يبتلع أية عقبة تعترض سبيله (المقاومات التي تقاومه، الطبقة والقواعد الاقتصادية التي تنعشه وتزكي ناره، والاحتياطات التي يكدسها هو نفسه)، ويطمس التغيير، ويعمي سلطانه المادي الصغير(29). وعلامة من العلامات الدالة على الانتفاخ الكبير الذي يمكن أن ينتفخه تصور فوكو للسلطة حين يهاجر وتنأى به المسافات هي قولة هاكينغ أنه "ما من كائن حي يعرف هذه المعرفة، وما من كائن حي يتنازل عن سلطة كهذه". فما هذا القول بكل تأكيد إلا غاية في الشطط لكي يبرهن على أن فوكو ليس ذلك التابع الساذج لماركس.
إن نظرية فوكو عن السلطة هي، في حقيقة الأمر، تصور من تصورات اسبينوزا، ألا وهو ذلك التصور الذي خلب لا لب فوكو وحده بل وألباب الكثيرين من قرائه ممن يتمنون تجاوز تفاؤل اليسار وتشاؤم اليمين لكي يسوغوا الخنوع السياسي بنزعة فكرية متكلفة، ويتمنون في الوقت نفسه الظهور بمظهر الواقعيين وعلى ارتباط بعالم السلطة والواقع، علاوة على لبوسهم لبوس التاريخيين والمعادين للشكلانيين في انحيازهم. فالمشكلة تكمن في أن نظرية فوكو رسمت دائرة حول نفسها مسيجة بذلك فسحة منفردة حيث سجن فوكو نفسه فيها وسجن آخرين معه. وإن من الخطل بالتأكيد أن نقول، مع هاكينغ، أن الأمل والتفاؤل والتشاؤم قد تبدت كلها على يد فوكو بأنها مجرد توابع لفكرة عن عقل متسام موطود الأركان، باعتبار أننا تجريبياً نختبر الأمور يومياً ونتصرف بها وفقاً لتلك الأشياء دونما أية إشارة لأي "عقل" كذاك العقل الذي لاعلاقة له بتلك الأمور. وهنالك، بعد كل ماقيل، فرق معقول بين hope وHope* ، كذلك الفرق الموجود بين Logos- words**: الأمر الذي يفرض علينا ألا ندع فوكو يعبث بالخلط بين هذا وذاك، وبألا يجعلنا ننسى أن التاريخ لايمكن أن يتسنى له البناء دون عمل ونية ومقاومة وجهد وصراع، وأن لاشيء من هذه الأشياء عرضة للامتصاص بصمت في صميم صغريات شبكات أعمال السلطة.
وهنالك نقد أهم من سابقه يجدر توجيهه لنظرية فوكو عن السلطة، ألا وهو ذلك النقد الذي ساقه لها تشومسكي على أحسن ماتكون البراعة. ويبدو، لسوء الحظ، أن معظم القراء الجدد لفوكو في الولايات المتحدة، لايعرفون شيئاً عن المناظرة التي جرت بينهما قبل عدة سنوات خلت على التلفزيون الهولندي (30)، ولا عن المقالة النقدية البليغة لتشومسكي عن فوكو الموجودة في كتاب "اللغة والمسؤولية". فلقد وافق كلا الرجلين على ضرورة مقاومة القمع -وهو الموقف الذي صار فوكو يجد مزيداً من المشقة منذ ذلك التاريخ في تبنيه بشكل لا لبس فيه. وأما بالنسبة لتشومسكي فقد كان يرى أن المعركة السياسية السوسيولوجية يجب أن يخوضها المرء وفي ذهنه مهمتان: أولاهما "تخيل مجتمع مستقبلي يتطابق مع مقتضيات الطبيعة البشرية بالشكل الذي نفهم فيه تلك المقتضيات على أحسن مايكون، وثانيهما طبيعة السلطة والقمع في مجتمعاتنا الراهنة"(31). لقد وافق فوكو على الثانية دون أن يتقبل الأولى بشكل من الأشكال. فأية مجتعمات مستقبلية قد نتخيلها الآن ماهي إلا، كما كان يرى، "ابتكارات حضارتنا وثمرة نظامنا الطبقي". وإن تخيل مجتمع مستقبلي تسوده العدالة لن يكون محدوداً بوعي زائف وحسب، لابل وإن التخطيط له سيكون أيضاً طوباوياً جداً بالنسبة لأي إنسان كفوكو الذي يعتقد أن "فكرة العدالة بحد ذاتها لهي تلك الفكرة التي جرى تلفيقها بالنتيجة واستغلالها في مجتمعات مختلفة كأداة لسلطة اقتصادية وسياسية معينة أو كسلاح ضد تلك السلطة"(32). وماهذا الرأي إلا شاهد حي على إحجام فوكو عن التعامل الجاد مع أفكاره عن ضروب المقاومة ضد السلطة. فلئن كانت السلطة تقمع وتهيمن وتستغل، فإن أي شيء يقاومها ليس موازياً لها أخلاقياً، ليس حيادياً وليس بمنتهى البساطة سلاحاً ضد تلك السلطة. فالمقاومة لا يمكن أن تكون بديلاً مناوئاً للسلطة ولا أن يكون وجودها مشروطاً بوجود السلطة في آن واحد معاً، إلا بمعنى من أكثر المعاني المتيافيزيكية تفاهة. وحتى لو كان من العسير إجراء التمييز، فهنالك تمييز جدير إجراؤه- مثلما يفعل تشومسكي، مثلاً، حين يقول أنه على استعداد لتقديم ماندته لطبقة بروليتاريا مسحوقة إن هي وضعت نصب أعينها العدالة كهدف لنضالها.
إن التداول المزعج لنظرية فوكو عن السلطة لشكل من أشكال المغالاة في التلخيص النظري الذي تنطوي مقاومته ظاهرياً على مزيد من الصعوبة وذلك لأنه، على نقيض العديد من الأشكال الأخرى، موضع التصييغ، وموضع تكرار التصييغ والاقتباس لاستعماله فيما يبدو عليها بأنها حالات موثقة تاريخياً.
ولكن الجدير بالذكر أن التاريخ لدى فوكو ماهو، في خاتمة المطاف، إلا نصي، أو بالأحرى مصبوغ بصبغة نصية، علاوة على أن شكله هو ذلك الشكل الذي لو سئل بورجز عنه لانتسب إليه، في حين أن غرامشي لو سئل السؤال نفسه لقال بأنه واجد عدم التجانس فيه. ولو طولب غرامشي بإبداء الرأي في التنقيبات الأثرية لفوكو لأطرى دقتها بالتأكيد، ولأبدى استغرابه من أنها لاتتيح حتى مبرراً إسمياً للحركات الصاعدة، ولا أي مبرر للثورات أو الهيمنة المضادة أو الكتل التاريخية. ففي التاريخ البشري هنالك دائماً شيء ما خارج متناول الأنظمة السائدة مهما كان عمق استنفاع المجتمع بها، وهذا الشيء هو مايجعل التغيير أمراً ممكناً بمنتهى الوضوح، أي مايقيد السلطة بالمعنى الذي يقصده فوكو ويكبح جماح نظرية تلك السلطة. والمرء ليس بوسعه أن يتخيل فوكو مكابداً مشقة تحليل معزز لمسائل سياسية موضع نزاع شديد، ولا ملزماً نفسه، على غرار تشومسكي نفسه وغيره من الكتاب الآخرين كجون بيرغر، بتوصيفات للسلطة والقمع بشيء من النية لتخفيف المعاناة والآلام البشرية، وآمالها الخائبة.
إن أنواع النظريات التي كنت أبحثها يمكن أن تتحول بسهولة متناهية إلى عقيدة ثقافية، الأمر الذي يعني أن التوصل إليه قد يبدو بمثابة النتيجة المفاجئة. فما أن تقوم عملية تخصيصها للمدارس أو للمؤسسات حتى تحوز لها على جناح السرعة على منزلة السلطة ضمن الزمرة أو النقابة الثقافية، أو ضمن الأسرة الثقافية المتواشجة. وعلى الرغم من أن الواجب يقضي بتمييزها عن أشكال عقائد ثقافية أكثر فظاظة منها كالعرقية والقومية، فإنها ماكرة في كون مصدرها الأصلي -أي تاريخ منشئها المعارض والمناوئ- يجعل الوعي النقدي كليلاً بإقناعه أن تلك النظرية التي كانت ذات مرة متمردة لاتزال على تمردها وحيويتها وردها على التاريخ. فالنظرية، ما أن تستبقى بين أيدي اختصاصييها وكهانها، حتى تميل لإقامة الأسوار حول نفسها، إن جاز مثل هذا التعبير، غير أن هذا لايعني أن على النقاد إما أن يتجاهلوا النظرية وإما أن يفتشوا يائسين عن بدائل أجد. إن قياس المسافة بين النظرية بالأمس وفي هذا اليوم، وهنا وهناك، وتدوين الصدام الذي كانته النظرية مع ضروب المقاومة لها، والتحرك الشكاك في العالم السياسي الفسيح حيث يتوجب النظر إلى الآداب الإنسانية أو إلى الآداب الإغريقية والرومانية بأنها فروع صغيرة من المغامرة البشرية، وتعيين حدود المساحة التي تتغطى بكل تقنيات الانتشار والاتصال والتأويل، واستبقاء شيء ضئيل (ولربما متضائل) من الإيمان بجماعة بشرية معادية للقمع: فإذا لم تكن هذه الأشياء إلزامية، فإنها على الأقل تبدو بالفعل بدائل جذابة. وماهو الوعي النقدي في جذوره إن لم يكن ذلك النزوع والجموح للتفتيش عن البدائل؟

nnn



11- ريمون شواب ورومانسية الأفكار



على الرغم من أن ريمون شواب كان شاعراً وكاتب سيرة وأديباً وروائياً ومحرراً صحفياً ومترجماً وأستاذاً، فإنه مجهول (من قبل معظم الهيئات الأنكلو -أمريكية النموذجية المهتمة بالحركة الرومانسية، على سبيل المثال)، علاوة على أن لاعمل من أعماله حظي بالترجمة إلى الإنكليزية. فبالنسبة لإنسان ما كانت اهتماماته تعرف أية حدود وطنية كما كانت طاقاته مكرسة ذلك التكريس العميق لكل مايتخطى الحدود الوطنية، فإن هذا التجاهل مفعم بسخرية كئيبة. لقد ولد في نانسي في عام 1884 ومات في باريز في عام 1956. وإن الشيء القليل الذي اكتشف بسهولة عن حياته وشخصيته يأتي من ثلاثة أعداد من "Mercur de France"،= (رسول فرنسا) حيث ظهرت بعض أشعاره ومذكراته التي لم تكن قد وجدت طريقها إلى النشر حتى حينه، علاوة على الذكريات التي كتبها عنه أصدقاؤه(1). ويبدو عليه أنه كان ذلك الإنسان المتواضع بعض الشيء والهادئ الذي قضى معظم حياته في خدمة الأدب. ولبضع سنين (1936-1940) أصدر بالتعاون مع غي لافود مجلة مكرسة للشعر بعنوان "Yggdrasill"(*) حيث كان من الملفت للنظر فيها شمولية اهتماماتها وانفتاحها على تيارات في الشعر غير التيارات الأوربية والعصرية. إن شواب يخلف وراءه الانطباع بأنه رجل مرهف الحس والذوق وذو تأمل عميق بطبعه وانطوائي بعاداته، وذو نوع من الإحساس الديني العنيف، ولو أنه خامد، إلى الحد الذي يدفعه لترجمة "المزامير" أو كتابة ملحمة شعرية عن "نمرود" دون أن يكون ملتزماً بالضرورة بأي دين منظم.
إن شواب يماثل خورخس(**) في وجوه عديدة، هذا إن لم يكن أيضاً شخصية من شخصيات قصصه القصيرة المجموعة تحت عنوان "Ficciones"+ . فحين كان يتعاطى الأدب كان ينتج كتباً عن شخصيات مغمورة إلى حد ما من مثل ألامير بورج، وحين طلب منه أن يكتب مقدمة لترجمة فرنسية لحكايات "ألف ليلة وليلة" كتب بدلاً عن ذلك عملاً من ثلاثمائة صفحة عن أنطوان غالاند، الذي كان تلك الشخصية التي عاشت في أواخر القرن السابع عشر، والذي كان أول مترجم فرنسي "لألف ليلة وليلة". ويحكى لنا عن اهتمام خورخس بشخصيات شاذة كجون ويلكينز وج.ك. تشسترتون، اللذين أفادا من الاهتمام الجاد المفاجئ، إلى حد ما، المعروض في دراسته عنهما، وذلك لأن الكتب المجهولة والكتاب المغمورين لايستقطبون في العادة مثل هذا النوع من الاهتمام. إن كلاً من شواب وخورخس يتكشفان عن تكتم شخصي جوهري مقرون بفكرة تقريباً من أفكار مالارميه عن الكتاب المقدس -البحث عنه، عن حياته، كياسة وهدوء البطولة الموجودة فيه بصرف النظر عن الجهود المبذولة لصالحه إلى حد لايخطر على بال. وإن المرء ليخالجه الإحساس في شواب، وفي خورخس، بالطبع، بأنه يجسد مكتبة إنسانية عرضة للاكتشاف رويداً رويداً، للسير فيها ولوصفها، غير أن القيمة لاتأتيها من آدابها الكلاسيكية العريضة بمقدار ماتأتيها من شواذها المستغرب.
إن التفاصيل اللامتناهية هي مايسم أهم أعمال الاستبحار لشواب حيث يمثل كتاب "الانبعاث الشرقي" أهم المنجزات(2). فالموضوع الكامن في هذا العمل هو الخبرة الأوربية للشرق، ألا وهي تلك الخبرة التي تعتمد بدورها على الحاجة البشرية لاستيعاب "الغريب والمغاير". وللوصف الذي يصف فيه شواب هذه الخبرة يضيف موهبة نادرة للتعامل مع تفاصيل شديدة التمركز ومجموعة بمنتهى الصبر والأناة. فالشرق، في رأي شواب، مهما قد تبدو درجة شذوذه "outré"، مكمل لنصف المعمورة الغربي، والعكس بالعكس.
وإن المشهد، كما عبر عنه أحد المعجبين بشواب، لمشهد إنسانية متكاملة(3). وأما شكله -أي العبارة الاصطلاحية اللفظية علاوة على زاوية رؤياه -فشكل جليل وعسير في آن واحد معاً، وذلك لأن شواب يحاول دائماً أن يصف ظاهرة ما بالشكل الذي هي عليه بحد ذاتها وكشيء كان له أثره على حيوات عديدة على مدى ردح طويل من الزمن. إنه أهل لبذل ذلك الجهد المضني اللازم لتوثيق التبادلات الثقافية بين المشرق والغرب الأوربي. ولكن بمقدوره أيضاً أن يخلق بعض الزوايا الخلابة، المحجوبة عن الإطار العريض لموضوعه الكبير، التي تظهر فيها من حين إلى حين فراغات جديدة أساسية.
فمثالان كافيان هنا. فأولاً: في الوصف الذي يصف فيه شواب سلسلة الأحداث المعقدة التي تسبق مغادرة غالاند باريز إلى تركيا، لايعدم الوسيلة أيضاً للكشف عن الكيفية التي كانت فيها هذه الأحداث موضع تلميح موليير في مسرحية "البورجوازي اللطيف"(4). وبعدئذ في كتاب "الانبعاث الشرقي" يبين شواب لا ذلك التكافل العجيب بين العلوم البيولوجية وبين علم اللغة الأوربي الهندي وحسب، بل وتفاعل هذه القوى في عمل كوفييه، علاوة على الأثر الاجتماعي الذي خلفه ذلك التكافل في الصالونات الباريزية في تلك الآونة. فسواء أكان الأمر يتعلق بحفنة من العبارات الشفافة ظاهرياً المنطوقة بلسان م.جوردين أوبلسان كوفييه في الصالونات التي كان يرتادها بلزاك، فإن شواب يفتح مغاليق سلسلة رائعة من التلميحات مبرهناً بذلك، مثلاً، أن تجاذب أطراف الحديث بين محدثي النعمة كان يخفي بعض الإشارات عن نشوب أزمة في العلاقات بين لويس الرابع عشر وبين البلاط التركي، أو أن فهم بلزاك للمنجزات التي جاء بها كوفييه كان مظهراً من مظاهر الانتشار الثقافي المقصور على باريز في عشرينات ذلك القرن(1820).
فالتفاصيل في أمثال هذه الشواهد هي تفاصيل التأثير -أي كيفية تأثير كاتب بأم عينه أو حدث على آخر. ولكن شواب، على غرار إرخ أورباخ، شحيح في إعطاء التفسير النظري عما يفعل، علاوة على أنه قنوع، على غرار إرخ أورباخ أيضاً في بحثه في كتاب "المحاكاة" (Mimesis) الفكرة الكلاسيكية عن الأسلوبين الأدبيين الرفيع منهما والمبتذل، باعتماد موضوع صريح صراح تقريباً، أي تأثير الشرق في الغرب، والسماح لبصمات ذلك الموضوع بالظهور في أمكنة لاعد لها ولاحصر في كتلة هائلة من الأدب اللاحق. وبالفعل فإن التماثل مع إرخ أورباخ لابل وحتى ذلك التماثل الأكثر سحراً وأسراً مع أيرسنت روبرت كورتيوس يفرضان الانكفاء داخل الوطن على المعرفة الفيلولوجية لدى شواب، ولاسيما على قدرتها على الكيفية التي تتمكن بها وحدات ضخمة (أي السطوة الثقافية اللاتينية، الشرق) من أن توحي وتعيش وتتخذ شكل كتلة نصية في عصور وثقافات تالية. إن شواب مهووس إلى حد كبير جداً، على غرار أورباخ وكورتيوس وخورخس، بصورة النص كمكان للجهد البشري، كخصوبة نصية "****-ile* محشودة في هوية ثقافية تنشر الحياة البشرية أينما كان في الزمان والمكان كنتيجة. فأهمية الانبعاث الشرقي (وهو التعبير المأخوذ من العمل المهمل الذي أصدره صدره إدغار كوينت عام 1832 بعنوان "جنّي الأديان") بالنسبة لشواب تكمن في أن هذا الانبعاث الثاني عرض العالم كله أمام الإنسان الأوربي، في حين أن الانبعاث الأوربي حبسه ضمن حدود حيز لاتيني/ إغريقي مكتف بذاته. إن هذا الانبعاث الثاني، كما يسميه شواب في إحدى التعميمات المتراصة التي يفيض بها عمله، جمع الهند والعصور الوسطى وأزاح بذلك عصري أوغطس ولويس الرابع عشر فبمهمة الإزاحة توزعت بالتساوي على العواصم الكبرى: فكالكوتا زودت ولندن وزعت وباريز نقحت وعممت.
إن نظرة شواب للشرق نظرة فياضة بالعمق والفائدة حتى لبوسع المرء أن يكون بلاشك على مزيد من الدقة إن وصفه بأنه شرقي أكثر مما هو مستشرق، فضلاً عن أنه إنسان أكثر اهتماماً بالإدراك الواسع منه بالتصنيف النزيه(5). وبمقدار مايمكن أن يقال عن إدراك الأوربي للشرق كان له تأثير، فإن شواب يعتقد بأنه كان تأثيراً منتجاً، وذلك لأن التأثيرات الشرقية يمكن العثور عليها أينما كان في الثقافة الرومانسية وفي الثقافة السابقة للرومانسية أيضاً. ولكن على الرغم من ذلك فإن باحثين حديثين اثنين للفترة الرومانسية، هما هارولد بلوم و و.ج. بيت، جاءا بفرضية مناقضة مفادها أن التأثير كله عاد بالقلق وإحساس بالدونية والتخلف على كتاب العصر فمن كانت الأصالة غير المتأثرة بشيء بالنسبة لهم هي الهدف الأسمى (والأقل احتمالاً). ولكن شواب يتخذ لنفسه الموقف الذي مفادها أن الحركة الرومانسية هللت للشرق كتأثير فيه النفع للشعر والنثر والعلم والفلسفة. فهنا يساهم عمل شواب تواً مساهمة دراسية ونظرية جلى: التأثير في الأدب الرومانسي باعتباره عامل إغناء وديمومة مفيدة أكثر مما هو عامل توهين وحضور مقلق. فالتفصيل هو من جديد ذلك الشيء الذي يراه شواب ويورد فيضاً منه لتعزيز التعميم. والشيء الذي يقوله على مايبدو هو أن عملاً بهذا الحجم الكبير جداً -الذي يؤرخه زمنياً بدقة متناهية تدوّخ القارئ- إذا دأب على اكتشاف الشرق بشكل إرادي وواع، يجب علينا وقتئذ أن نعتبر التأثير بأنه يزودنا، في خاتمة المطاف، بشيء لولا ذلك لكان الشعور حياله بأنه غياب مربك. والشيء الذي ينجم ماهو بالنزاع العنيف بين الكتاب حول الزمان والمكان المرسومين تخطيطاً من قبل بلوم بمثل ذلك الإلحاح، بل توفيق لاحدود له مماثل للتوفيق الذي يراه شواب في الفطرة الآسيوية، ألا وهو ذلك التوفيق الذي لايغاير فيما بين البدعة والوافد الجديد بل يرى بدلاً من ذلك أن الزمن كله ملك الشاعر: "إنه يكرر نفس النماذج المتشابكة إلى مالانهاية، لالتوفير الوقت، بل لأن بحوزته تحديداً، على النقيض من ذلك، ردحاً طويلاً من الزمن تحت تصرفه بحيث أن استنفاده له في الإتيان بتفاصيل صغيرة عابرة بالضرورة أمر لاينطوي على أية مخاطر.
وهكذا فإن نقد شواب نقد مطبوع بطابع المشاركة الوجدانية. فالثنائيات والتعارضات والاستقطابات -كما بين الشرق والغرب، وبين كاتب وأخر وزمن وأخر- تتحول في كتابته إلى خطوط متصالبة ومتقاطعة، وهذا صحيح بيد أنها ترسم في الوقت نفسه صورة إنسانية هائلة. فقبل عام واحد من وفاته كانت تراوده فكرة مؤداها أن الحاجة تفضي بوجود "تاريخ عن الشعر العالمي"، ولكن من المؤسف أنه لم يكتبه، إذ كان يحاول أن يتنبأ بصورة عن الأدب كخطوة في ذلك الاتجاه(7). إن الصورة البشرية كانت دائماً تطغى على نقد شواب، ولكن مايثير اهتمامنا بها هو أن مثل هذه الصورة، حين ندركها، من منجزات الكاتب وماهي بمثابة الهبة إليه بتاتاً. فهنالك تفاصيل الجهد البشري، ومن ثم تنظيمها، وبعدئذ تصويرها كلها في نهاية الأمر. إن نقد شواب، في محاولته تخصيص موضوع دراسته واستنساخه، لقد على أوثق ارتباط بنقد كل من جورج باولي وآلبرت بيغوين وآلبرت ثيبوديه وجين ستاروبينسكي، وبنقد آخرين من أمثالهم، ممن خيالهم الصابر الدؤوب يهيمن على عمل جمع الحقائق المضني. فشواب، على نقيضهم كلهم (باستثناء ستاروبينسكي على الأرجح في "ابتكار الحرية")، يسير دائماً على هدى الأحداث واللحظات التاريخية المتميزة والتحركات الكبرى التي تتحركها الأفكار. إن الوعي، بالنسبة إليه، مسألة ثقافية مثقلة بالخبرة التجريبية في هذه الحياة الدنيا ومنها. ولئن كان يصف نشوء علم اللغة استناداً إلى المكتشفات العديدة التي جاءت من لغة الزند آمنيستا أوالسنسكيريتية أو إحدى اللغات السامية أو الأوربية /الهندية، أو كان يصف ذلك الانحباك الغني الخرافي الذي تنحبكه الموضوعات الشرقية في الكتابة الإنكليزية والفرنسية والألمانية والأمريكية، أو كان يصف حتى المعطيات الدقيقة المرتبطة بالنشاط الفني أوالعلمي في غضون تلك السنوات بين عام 1771 وبين عام 1860 على وجه التقريب، فإن عمله دائماً بمثابة الكنز الحقيقي للتبصر والمعرفة. وقبل كل هذا وذاك فعمله يعمق إطراءنا لذلك النوع النادر ندرة بالغة وخاصة من الدراسة المتأنية التي قلما يخطر فحص دورها على بال واحد من منظري النقد أو الأدب، كما أشعر.
إن شواب، بصرف النظر عن ظواهر الأمور، ليس بتين "Taine" أو لانسون. فالنقد التاريخي ليس علماً بالنسبة إليه، على الرغم من أن الوقائع التاريخية جديرة بالاحترام طبعاً. ولكن تاريخ الإنسان ينال حوافزه من الرغبة بنشدان الحقيقة، لا من توطيد أركانها بمنتهى البساطة، فالتاريخ "يعلمنا أن توطيد أركان الحقيقة أقل أهمية من جعل حقيقة معينة أمراً مرغوباً. ومن هو ذلك المبتكر العظيم الذي وجد في الدنيا كلها حقيقة جديدة من دون أن يكون قد فتش عنها قبلاً في المكان المغلوط؟"(8). فلقد كتب شواب هذا الشيء عن أوائل المستشرقين، بيد انه ينطبق على عمله أيضاً. إن عجائب الأمور الثقافية التي كانت تنكب عليها كل دراسته تتمثل بالصراع بين زمرة الحقائق (لا الوقائع) التي هي موضع الاكتساب وزمرة الحقائق التي هي موضع الشعور، بالشكل الذي يحدث فيه في صميم ثقافة ما وفيما بين ثقافتين في آن واحد معاً. فشواب، الذي كان يجد له مايعززه في خلفيته، يرى أن المركب المسيحي/اليهودي في الثقافة الغربية كان مضطر للإذعان لاكتشاف حضارة أقدم منه، الأمر الذي جعل علم اللغة الأوربي/ الهندي ينافس أولوية المجتمع العبري في العقل الأوربي. وهكذا فإن ذلك العقل يستوعب لاحقاً ذلك الاكتشاف ليجعل من العالم وحدة تامة مرة أخرى. ولكن المأساة المزعجة التي عاشها الاستشراق، كما يعبر عنها شواب في الصفحات الثلاثين الأول من كتاب "الانبعاث الشرقي". تكمن في المناقشة التي استهلها الكتاب عن معنى "البدائي"، أي كيف أن عالمين مختلفين يبدوان للناظر كأنهما يطالبان بحقهما في الأصالة والعبقرية، وكيف أن فكرتين عن الحضارة والهمجية، وعن البداية والنهاية، وعن الأنطولوجيا والغائية، تعانيان من تحول صارخ في السنين الواقعة بين عام 1770 وعام 1850: وتحديداً في ذلك الزمان الذي قامت فيه رغبة عارمة للاختلاف وانتشرت في طول أوربا وعرضها واتخذت شكل الأزمة الوحيدة الناجمة عن موجة الثورات السياسية، طغت على سطح الأحداث تلك الجوانب الاستشراقية التي لاتعد ولاتحصى(31)". فمهمته إذاً هي دراسة التطور الذي أدى إلى تبديل صورة الغرب عن الشرق من صورة بدائية إلى فعلية، أي من انبهار ش**** إلى توقير لامثيل له. إن من الواضح أن هنالك توهيناً محزناً من صورة إلى أخرى. ومع ذلك فإن التصوير تصوير حصيف وتعديلي جداً كما أن نطاقه نطاق موسوعي جداً إلى ذلك الحد الذي يجعلنا نشعر أن التوهين قانون من قوانين التغيير الثقافي أكثر مما هو فكرة عاطفية. فالشرق يتحول من مكتبة... خاصة بالأقسام الدراسية (30) ويصبح قطاعاً أيديولوجيا أو دراسياً: فالإلهامات تفضي إلى الاختصاص(131). فقبل عام 1800 كانت أوربا تعيش عالم التصنيف الطبقي "le monde du classé" حيث كان هوميروس يمثل فيه نموذج الكمال التقليدي الأول والأخير، ولكن بعد عام 1800 يتطفل "المنشق" على ذلك العالم. فإلى جهنم وبئس المصير بالاعتماد على الخرافات والموروثات والكلاسيكيات. وبدلاً من ذلك ثمة نصوص ومصادر، وعلوم قائمة على عمل مضن ومجهد وعسير، طفقت تفرض حقيقة جديدة وغريبة على العقل. وهكذا فإن الشغل الشاغل لشواب صار ينصب على كيفية حدوث هذا الأمر وعلى السرعة العجيبة التي تسلم نفسها فيها حتى الغرابة للتحول إلى معتقد رصين.
ثمة سمة خاصة تطبع دراسة شواب هي أنه لايولي اهتماماً واضحاً لمجرد الحماقة والفوضى اللتين يثيرهما الشرق في أوربا. وما ذلك إلا لأن الانبعاث الشرقي، كموضوع، لا يشكل تياراً في الخيال الرومانسي أقل شذوذاً من تلك التيارات التي يوثقها ماريو براز، مع الإشارة إلى أن شواب ليس أقل كفاءة من براز للتعليق عليها. بيد أنه لايقدم على ذلك، حتى وهو يدون بالتفاصيل -مثلاً؛ جنون حياة آنكوتيل دوبرون الذي على الرغم من تجشمه مشاق سفر فعلي مستحيل وعبوره أدغالاً فياضة بالأبخرة، لم يحظ بشرف الإقرار به كباحث إلا في أواخر سنوات حياته، فهضم المتبحرين حقوقهم "des érudits abnégatoin" ليس مفيداً جزئياً إلا كتعليل لرجال من هذا القبيل. وإن ما رأوه وشعروا به حيال الشرق في حالات عديدة استحوذ على عقولهم عملياً، ولكن شواب منهمك أكثر مما ينبغي بتبيين التناسق الإنساني فيما بين هذا الانبعاث والانبعاث السابق لكي يهجس بتلك الحماسات المجنونة التي كان بمقدورها إنتاج بيكفورد أو آنكوتيل أو رينان أو روكرت. وعلى النقيض من ذلك فإن نظرة شواب إلى الانبعاث الشرقي تتفادى، في الوقت الذي تتجنب فيه المظاهر المربكة للخبرة الأوربية في الشرق، الميول الفطرية الرومانسية الكبيرة الأخرى نحو الطبيعية، أي الوعي المشحوذ الرهيب بخصوص الثقافة الشعبية.
إن كتاب "الانبعاث الشرقي" يمثل في الحقيقة ذروة الحياة المسلكية الدراسية لشواب، على الرغم من أنه يحتل زمنياً مركز الصدارة تقريباً فيها. فكما أن موضوعه يعد العدة لتقبل الغرب الشرق والمجابهة معه ومن ثم استيعابه، فإن هذه الأمور كانت هي الأشياء التي أوحى بها عمل شواب الأسبق كما كانت أيضاً في الوقت نفسه من الأمور المفروغة في عمله اللاحق. ولسوف أتحدث هنا بإيجاز عن حلقة من الكتب والكتيبات التاريخية والدراسية التي تتحلق حول كتاب "الانبعاث الشرقي"، ألا وهي تلك الحلقة التي تستثني الكتلة الأساسية من أشعاره وقصصه وترجماته. إن التناوب الذي يتناوبه شواب بين الأمانة لموضوعه أمانة وراثية أو سلالية، وبين مطامحه البنيوية الشاملة لتبيين التنبؤ والاستتار والانكسار والاستبدال على الرغم من مسيرة التاريخ المستقيمة -ماهو بوجيز العبارة إلا التناوب في منهجه بين القربى والتقرب كأسلوبين من أساليب فهم التاريخ ومواكبته.
وأول كتاب من كتب شواب كان "حياة آنكوتيل دوبرون" (1934)، أي سيرة حياة ذلك الدارس الفرنسي، والمنظّر لفلسفة المساواة، وداعي الدعاة لتوحيد العقائد (الجانسينية والكاثوليكية والبراهمية) الذي بين عامي 1759 و 1961 نسخ "الزند آفيستا" وترجمه لاحقاً وقتما كان في منطقة سيورات الهندية. إن هذا الحدث بالنسبة لشواب يتنبأ بفيض من الوثائق المترجمة التي ستظهر في الغرب لاحقاً خلال الانبعاث الشرقي. وعلاوة على التحليل الاعتباطي لحماقات وحماسات آنكوتيل الغريبة نجد في الكتاب بشائر معظم الموضوعات التي كان يعتزم شواب معالجتها لاحقاً. والأول بين تلك الموضوعات هو موضوع نكران الذات لدى المتبحرين "selflessness= abnégation des érudits" إبان لهاثهم خلف مخطوطة ما، أي مطلق الالتزام بقضية التعلم: "إن ماكنا نراه نكبات كان في نظره فرصة إضافية أخرى لتعلم شيء ما"(9). وأما الموضوع الثاني فهو التولع الذي يتولعه شواب بالإدلاء بالتفاصيل، كما حين يصف الظروف الحقيقية للحياة على ظهر السفن في القرن الثامن عشر أوحين يؤرخ زمنياً علاقات آنكوتيل مع كل من غريم ودريدرو ووليام جيمز وهيردر. والموضوع الثالث هو اهتمام شواب بالخلاف في العقل الأوربي بين الأسبقية الشرقية وبين "التاريخ" التوراتي. ومن الجدير بالذكر أن كلاً من آنكوتيل وفولتير كان مهتماً بالهند وبالكتاب المقدس، بيد "أن هم الأول كان جعل الكتاب المقدس أكثر بعداً عن التفنيد، في حين أن هم الثاني كان جعله أكثر بعداً عن التصديق"(10). إن تلك الموهبة المحكمة لدى شواب سوف تتعزز في عمله اللاحق بفقرات ذات جمال شعري فائق.
ولكن الموضوع الذي انكب عليه خيال شواب أكثر من كل الموضوعات الأخرى هو حياة الصور والأشكال في الوعي البشري، أي وضعها دائماً وجودياً في سياق تاريخي محدد وعدم تركها البتة تطفو هنا وهناك كما تشاء. فالتاريخ الثقافي ماهو إلا بمثابة سلسلة من الأحداث الوجدانية لأن الأفكار التي تستمد وجودها من صور ذات طراز بدئي تدفع الناس، من الناحية الأولى، للنضال دفاعاً عنها وتغرس في أذهان الناس، من الناحية الثانية، نوعاً من السلبية اللعوب أو حتى من، كما هو عليه واقع الحال في حالة آنكوتيل، الميل الفطري المضطرب: نحو الأفكار أو المعتقدات بصرف النظر عن التناقض الذي هي عليه. إن الصور أمور تاريخية، مصنّعات شبه طبيعية ناجمة عن تفاعلنا كلنا أجمعين "nous, à tous". وعلاوة على ذلك فهي محددة العدد، فالخيال نفعي جداً ومداها قوي جداً: الشرق، الغرب، الجماعة، الأصل، المقدس. زد على أن تلك الصور تشكل فيما بينها مستنبتاً يولد قصة ومغامرة ثقافيتين للتعبير عنها كأفكار متصارعة فيما بينها أو منسجمة بعضها مع بعض. وعلى الرغم من أن الصورة والفكرة تتحركان بمنتهى الحرية على مايبدو، فإنهما أولاً من إنتاج البشر والنصوص التي يكتبها البشر، ومن ثم تصبحان النقطتين المحوريتين للمؤسسات والمجتمعات والعصور والثقافات. وبما أن الصور هي الثوابت في الخبرة البشرية، فإن الأفكار التي تحظى بمشروعيتها منها تتخذ لها أشكالاً مختلفة وقيماً متفاوتة. فها هنا في فقرة من كتاب "حياة..." يبين شواب ذلك التفاعل الذي سيهيمن على كتابته: "إنه يذهب إلى آسيا ليعثر على برهان علمي عن أولوية (الشعب المختار) وعن سلالات الكتاب المقدس. ولكن سرعان ما أفضت استقصاءاته، عوضاً عن ذلك، إلى انتقاد نفس تلك النصوص التي ظلت حتى حينه محط الاعتبار أنها من وحي الله، ألا وهي تلك السيرورة التي كان "علم تاريخ الآشوريين" سيبرهن لاحقاً على تعذر الإتيان بنقيض ذلك"(11).
إن هذه الأفكار المرتبطة بالضرورة لها بعد مادي بحيث أنه ينقل لا التناوب بين المحدود واللامحدود في الثقافة وحسب (كما حين يتحدث شواب عن الاستشراق في المرحلة السابقة لمرحلة آنكوتيل قائلاً: "تنبثق الرغبة في الأشياء الجليبة من طرافتها")(20) بل وينقل أيضاً تحولات أفكار المسافة والزمان والعلاقة والذاكرة والمجتمع واللغة والجهد الفردي.
في عام 1759 ينهي آنكوتيل ترجمة كتاب آفيستا في سيورات، وفي عام 1786 ينهي ترجمة كتب الأوبائيشاد في باريز- لقد حفر قناة فيما بين عالمي العبقرية البشرية، مطلقاً بذلك العقال للنزعة الإنسانية لدى حوض
البحر الأبيض المتوسط. وقبل ذلك بخمسين سنة تقريباً كان مواطنوه يتساءلون كيف بمقدور أي امرئ أن يكون فارسياً، في الوقت الذي كان يعلمهم فيه أن
يقارنوا بين مآثر الفرس ومآثر الإغريق. فقبله كان المرء يفتش عن المعلومة عن الماضي البعيد لكوكبنا حصراً بين أكابر الكتاب اللاتينيين والإغريقيين واليهود والعرب. لقد كانت النظرة إلى الكتاب المقدس بأنه الصخرة الوحيدة، النيزك السماوي. ولكن كونا صار متاحاً في الكتابة إلى الحد الذي ندر فيه أن يشك امرؤ في شسوع هذه الأراضي غير المعروفة. فلقد نشأ التيقن من ذلك من ترجمته لكتاب الآفيستا، وبلغ أوج ذراه نظراً لاكتشاف اللغات التي تكاثرت في أعقاب بابل إذ كان ذلك الاكتشاف في آسيا الوسطى. ففي مدارسنا، التي كانت مقصورة حتى ذلك الوقت على الإرث اللاتيني/الإغريقي الذي جاء به الانبعاث الحضاري الأول، أقحم ملامح حضارات لاتحصى في غابر الأزمان، وملامح سلسلة لانهاية لها من الآداب، وفضلاً عن ذلك صار من المعروف أن بلداننا الأوربية القليلة ماهي بالأمكنة الوحيدة التي تركت بصمتها على التاريخ، "وأن الاتجاه الصحيح للكون لم يعد متمركزاً بين شمال إسبانيا وشمال الدانيمارك من ناحية وبن انكلترا والحدود الغربية لتركيا من ناحية أخرى"(13).
إن تصوير شواب لآنكوتيل يشتط كثيراً في محاولته تبديد الغموض الذي يخفي دائماً بدايات الاكتشافات"(14). ففي خاتمة المطاف يحدد شواب مكان البداية في تبديل التركيز الناجم عن جزيء غامض من كتاب "الزند" الذي يظهر في أوكسفورد، في الوقت الذي كان فيه الدارسون ينظرون إلى هذا الجزيء الهام ليعودوا من ثم إلى دراساتهم، بينما آنكوتيل نظر مثلهم ومضى إلى الهند"(15).
فعلى الرغم من أن شواب كان سيعبر لاحقاً عن بعض الشكوك في طريقة الغرب في تناول السيرة تناولاً مصبوغاً بصبغة عبادة الأصنام، فإن عمله التالي، "حياة الأمير بورج"، محكوم بإطار عمل يتناول الحياة والأعمال. لقد امتدت حياة بورج من عام 1852 إلى عام 1925، ومع أنه كان موضع إعجاب عدد من الكتاب -من بينهم كان إدمون جلو وهنري دي رونييه- فيلسوف يبقى على الأرجح كاتباً مغموراً وضئيل الشأن (16). إن كتاب شواب عن بورج لأقل كتبه شهرة، وإن المرء ليتعجب من السبب الذي جعله -علاوة على العلاقات الشخصية البسيطة المشار إليها بين بورج وشواب- يضطلع بعبء هذه المهمة الشاقة والخاصة كي تكون أطروحته التكميلية في السوربون. وبين الحين والحين نلتقط بعض التلميحات عن شواب الحقيقي، ولاسيما في تحليلاته لاصطفائية بورج، وأيضاً في قدرته على إحياء المشاعر الروحية في حياة، لولا ذلك، لبقيت حياة عرضية. وفي هذا السياق علينا ألا نتغاضى عن الحقيقة التي مفادها أن شواب كان في مطلع سنواته الستين حين تقدم رسمياً للحصول على شهادة الدكتوراه، إذ إنه حوّل نفسه، كأحد موضوعات دراساته، من رجل أدب إلى دارس أكاديمي. فتعرجات عمل شواب- ذلك الفيض المتوسع الجذاب الذي حدث في صميمه نفس تغيير الأفكار الذي كان خبيراً جداً بوصفه- هي ما أتاح له الحد الأعظم من التحول الذاتي بالحد الأعظم من التماسك المنطقي والوضوح. ولذلك من العسير أن يصدق المرء أن عمق الانكفاء الداخلي في حياة بورج ليس هو العمق نفسه فعلاً في حياة شواب، مطروحاً من قبل شواب كشيء يخص بورج بتلك الأمانة التي تقتضيها الزمالة.
فالتغاير مع كتاب "الانبعاث الشرقي"، الذي كان سيجيء بعد عامين في عام 1950، واضح لتوه. إن عنوانه الفرعي المفصل يدل على أنه شيء يماثل الموسوعة، إن لم يكن يماثل برنامجاً لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب الشرقية الغربية (وعرضاً كان ذلك الكتاب أطروحة رئيسية لنوال شواب الدكتوراه) في: "الاكتشافات السنسكريتية- عصر الكتابات المحلولة الطلاسم- ظهور الإنسانية المتكاملة- أكابر الشخصيات الشرقية- فلسفة الأديان والتاريخ- العلوم اللغوية والبيولوجية- فرضيات الآرية- الهند في الآداب الغربية- آسيا والرومانسية- الهندوسية والمسيحية". فهذا العمل بدوره تلاه عملان آخران كلاهما كانا محصلتين منطقتين. الأول منهما، وقد كان عبارة عن مائتي صفحة حول "مجمّع تاريخ الآداب" وبعنوان "الميدان الشرقي" ويحمل تواضعاً عنواناً فرعياً هو "الرواق الشرقي". فلقد حول شواب اهتمامه هنا لكل تلك المادة التي كان قد دون آثارها من قبل بمنتهى الاجتهاد والكد. والأمر بدا وكأن مالارميه قرر في خاتمة المطاف أن يكتب حول ذلك الموضوع الذي كان يؤرقه فيما مضى (وذلك طبعاً لأن كتاب "الانبعاث الشرقي" عبارة عن عمل دراسي مكتوب من منطلق رمزي). وبعدئذ صدر بعد مماته، في عام 1964، كتاب "حياة أنطوان غالاند". وعلى الرغم من أن هذا الكتاب كان أقل تشويقاً من كتاب "حياة آنكوتيل دوبرون"، فإنه أكمل العمل السابق واختتم الحياة المسلكية لشواب في الوقت نفسه أيضاً، نظراً لمعالجة الظاهرة السابقة للاستشراق كأسلوب وأدب في تلك اللحظة التي سبقت استسلام الشرق للعلم الغربي)(17).
ثمة سمة رئيسية لكل العمل الناضج لشواب هي اهتمامه بما يدعوه بالثانويين "le secondaire"، بالشخصيات الصغيرة -كالمترجمين والوراقين والدارسين ممن يفضي جهدهم الجهيد لإتاحة الفرص لظهور الأعمال القيمة لغوته وهوغو وشوبنهاور وأمثالهم. وهكذا فإن الانبعاث الثقافي العظيم الذي نعته شواب "بالشرقي" كان موضع استهلال الترجمات التي أنجزها رجلان منسيان عملياً هما آنكوتيل وغالاند -إذ واحد منهما شق الطريق أمام الثورة العلمية واللغوية في أوربا، والثاني استهل الأسلوب الأدبي الغريب المقرون في أوربا بالاستشراق(18). فالشيء الذي يفتن شواب في أمثال هذين الرجلين هو، بمنتهى الوضوح، أنهما لايتمتعان بأية سمة من السمات التي تدفع أكابر الشخصيات الأدبية أو الثقافية، ولا بأي شكل يسير التمييز لحياتهما المسلكية، ولا بأي دور جدير بالإطراء الكامل في التحركات الكبيرة التي تتحركها الأفكار التي يعملان على خدمتها. إنهما يشبهان على الأرجح النتف الصغيرة التي تساهم، كما قال شواب ذات مرة، في مخطوطة خيالية من تلك المخطوطات التي يذعنان لمشيئتها(19) والتي تشبه كليتها جمعاء ماكان سيدعوه فوكو، لو سئل، بأرشيف عصر معين. وعلاوة على ذلك فنكرانهما الذات يفرض نوعاً من رد الفعل المعكوس في نفس الدارس المعاصر الذي لن يتيح لتواضعهما الاختفاء خلف أكابر الأعمال أو الشخصيات التي ساهما بظهورها بكل ذلك الوضوح. فإحدى المحاولات الناجحة التي حاولها شواب لإحياء الإنصاف تحدث حين يبين كيف أن أسلوب غالاند، أكثر من كونه نسخاً مباشراً لأصل عربي، يخلق بالفعل ذلك المناخ الذي تصاغ في صميمه مآثر الرواية الرومانسية المعنونة بـ "أميرة دي كليفز"* .
هنالك مظهر آخر لاهتمام شواب بالشخصيات الثانوية: ألا وهو إطراؤه، الواضح في طول وعرض "الميدان الشرقي"، لغفلية الأدب الآسيوي والإهمال النسبي للفردية الذاتية القوية التي يتكشف عنها. فما مقدار نشوء هذا الإطراء من انطباعات شواب عن الأدب الذي يبحثه ومامقدار كونه عاملاً حقيقياً فيه (إذ إن المرء ليصاب بخيبة الأمل لدى اكتشافه أن شواب لايعرف الأدب الشرقي إلا بالأساس من خلال الترجمة)، أمران ليس بوسعي تقديرهما. ومع ذلك يخالجني الشك في أنه بعد أن تقدمت به السنون كان يفتش عن وسائل أخرى -وكان يجدها بطريقته الخاصة- لنقل التاريخ الثقافي، أي لنقل وحدات جديدة يجدّ في طلبها الدارس الأصيل النيّق، ألا وهي تلك التعميمات الأكثر فاعلية. إن عمله ليستهل تلك العملية التي كانت ستقلص الفجوة بين المؤرخين الموسوعيين -شكلانيين كلهم على بكرة أبيهم- من أمثال إيلي فور وهنري فوسيون وأندريه مارلو، وبين ماكان على يسارهم من مادية التحريات الأثرية لفوكو، تلك المادية المنهجية والفعلية والمؤسساتية. وهنالك بالطبع مغزى سياسي لهذا النوع من العمل، على الرغم من أن شواب نفسه قلما يفصح عن ذلك. فسابقاً في "الميدان الشرقي" يقول بالفعل أن أوربا، أو الثقافة الغربية، يجب تذكيرها بأنها ومنجزاتها وأبطالها ماهم، في خاتمة المطاف، إلا مجرد حالة خاصة في العمومية السامية للثقافة البشرية ككل(20).
إن تجنب المواقف العرقية المتمركزة، في الوقت نفسه، حول اعتبار الإنسان محور الوجود، يملي وجوب الاهتمام بالأدب الشرقي كرمى لذاته ليس إلا. وما "الميدان الشرقي"، ضمن الحدود المرسومة آنفاً، إلا تأمل شعري منثور رائع. فالأسلوب الذي اعتمده شواب في خريف عمره لأسلوب صعب ومجهد، في بعض الأحيان، كأسلوب ر.ب. بلاكمور. وهاكم هذا المثال:
على الشكل الذي كانت فيه لانهائية الآثار الأدبية الزاخرة بالانفعالات تستدعي إجراء التسويات مع الكلمات الجوفاء والبدائل المؤقتة للكلمات المعينة، فإن الاحتجاجات الصارخة للدعاة الأخلاقيين تبدو بدورها عقيمة جزئياً للأجيال القادمة. وماذلك إلا لأن تلك الأشياء التي تصبح موروثاً تتخذ لها أشكالاً صارمة تعلي من شأنها بعدئذ بتحويلها إلى أدوات معينة للذاكرة، ومن ثم فإن هذا الدرع المنيع يصبح، جراء منعته ذاتها، مصدراً للضعف والتفسخ، وهكذا فإن الذاكرة تثبط همة الخيال وتخلص فضائل التكرار إلى الإفراط: كأدب المختارات والمنتخبات في الهند وفارس والجزيرة العربية، وأدب الخطابات والتلميحات والمقتطفات في الصين واليابان ومملكة يهوذا(21).
فنثر محكم جداً كهذا ينطلق من تعميمات كبيرة عن الأدب الآسيوي إلى أمثلة مقتضبة عن تنوعه. وفي الواقع فإن إحدى مميزات ذلك الأدب، كما يدأب على توكيدها شواب، هي أنه مضرب مثل للجمع بين وحدته وبين أشكاله المختلفة في آن واحد معاً. وإن الجانب (الباخي)* من "الميدان الشرقي" ليبين، مثلاً، كيف أن بعض الشخصيات المعينة -كالرعاة والعمال والأشجار والرحالة والخيالة والباعة المتجولين- تمنح الأدب الآسيوي دعامته القوية في أرض الواقع. ولكن شواب لايظهر على أروع مايكون إلا في دراسته للوسائل اللفظية والجمالية. فانطلاقاً من الفكرة التي مفادها أن الآداب الشرقية تتصور الواقع التاريخي كشيء جدير بالتحويل، ظلماً وعدواناً، إلى "قطاعات مكافئة خرافية"، يتحرى شواب هيمنة الصبغة الإسمية على القواعد الفنية الشرقية للغة، وتحليل رموز النبرة المتواترة وشاعرية الطول، والنظرة إلى الزمن كمفهوم تأملي، واستخدام جذور الألفاظ "mot- germes" في بنية الشعر الإيقاعية الساحرة، والتفاعل بين خصوصية لانهائية وعمومية لانهائية، وتوظيف مزاج الابتهاج مراراً وتكراراً فيما يدعوه بالملاحم المشرقية العظيمة. فهذا كله خاضع، مع سلسلة واسعة من الإيضاحات، إلى الافتراض بأن الأدب الغربي يحاول أن يحول كل الوسائل الموجودة تحت تصرفه إلى لفظ ونطق، في حين أن الأدب الشرقي يسعى لتحويل أي شيء، بما في ذلك الكلمات، إلى جرس موسيقي.
إن الخلخلة النسبية الموجودة في "الميدان الشرقي" هي من عمل القيود المفروضة على شواب من جراء العمل العام الجماعي الذي كان يساهم فيه ومن جراء اتساع الموضوع الذي كان يحاول معالجته اتساعاً خارج إطار التخيل. ولكن ما من قيود مماثلة كانت موجودة بالنسبة إليه في كتاب "الانبعاث الشرقي" الذي يأتي فيه على ذكر مقادير ضخمة من المعلومات التفصيلية التي كانت كلها موضع المعالجة المباشرة بمنتهى الوضوح. فقراءة هذين العملين كليهما تدل على أنهما بمثابة توطئة وتكملة لكتاب فوكو المعنون بـ "الكلمات والأشياء"، الذي ينطوي على أهمية فائقة لفهم ذلك التحول الكبير الذي حل بالثقافة والتعلم في أواخر القرن الثامن عشر وفي أوائل القرن التاسع عشر. ولكن في الوقت الذي يبدو فيه فوكو على شيء من الغموض فيما يتعلق بتحديده لزمرة خاصة من الأسباب التي أدت إلى ذلك التحول، فإن شواب ليبدو أكثر تزمتاً وأكثر تقيداً بالمعلومات التي تعزز موقفه برد السبب إلى الشرق. ولكن كلا الرجلين يدركان أن حيازة المعرفة ومؤسساتها ورواجها ماهي إلا تلك الأمور التي تحدد لا التطبيقات العملية الثقافية على العموم وحسب، بل وتحدد في الوقت نفسه أيضاً التطبيقات العملية الجمالية. فلا دارس من هذين الدارسين يتبنى النظرة التي مفادها أن تقديس "الشاعر" شيء كاف بحد ذاته لفهم الإنتاج الأدبي، ولايتبنى أي منهما الرأي القائل أن من الممكن دراسة الأعمال الأدبية في عزلة اعتباطية عن ظروف الإنتاج الكلامي والثورة النصية، أي تلك الظروف التي كانت تتحكم بكل أنواع النشاط الكلامي خلال عصر معين. إن شواب ليضفي التوكيد القاطع على صحة مقولات فوكو صحة لايرقى إليها الشك -من مثل أننا كنا نعيش ذلك العصر، حوالي بداية القرن التاسع عشر، الذي شهد ولادة الفيلولوجيا والبيولوجيا في آن واحد معاً. وإن شواب ليبين، علاوة على ذلك، بصبر كصبر أيوب المعنى الفعلي لدعوة فوكو (التي صاغها في كتاب "علم آثار المعرفة" بعد مرور تسعة عشر عاماً على صدور كتاب "الانبعاث الشرقي") بضرورة إقامة أرشيف.
فوسطاء وأبطال التشكيل والتغيير الثقافيين هم، بالنسبة لشواب، الدارسون وذلك لأن التحولات الثقافية لاتقوم إلا لأن البشر يميلون فطرياً للمعرفة أولاً ومن ثم لتنظيم الأشياء الجديدة. وماهذه الصيغة إلا بالصيغة البسيطة، بيد أنها تعني ضمناً، في كتاب "الانبعاث الشرقي"، إعادة تثقيف قارة بأخرى. إن هذا العمل منقسم إلى ستة أبواب رئيسية فضلاً عن عشرات الأقسام الفرعية والخاتمة. فكما أفلح موضوع "الاستشراق الشرقي" في أداء مهمته من خلال الإسهاب والاختزال على مايبدو، كذلك أفلح الكتاب. إن الباب الأول يرصد ويؤكد ظاهرة الإدراك الأوربي للشرق -كيف أن الاكتشاف الجغرافي، والمقام الرفيع لعلم الآثار المصري، والمهمات الاستعمارية المختلفة للهند، أمور عززت كلها التحدي الشرقي والنزوع للتعامل معه منهجياً في المجتمع الأوربي. والباب الثاني يشرح مفصلاً ذلك التكامل الذي تلقت أوربا فيه الشرق وأدخلته ضمن كتلة بناها الخيالية والمؤسساتية والعلمية. ويتضمن هذا الباب موجة الدراسات السنسكريتية التي اكتسحت القارة الأوربية، واتخذت من باريز قاعدة أساسية لها، والحماسة التي ضاعفت العالم على حد العبارة البهيجة لشواب. وفي الباب الثالث يكرر شواب مجدداً البابين الأولين كي يبين التحولات الفعالة التي تحدث في معرفة الشرق. والشيء المركزي هنا يكمن في تحول المعرفة عن اللغة من كونها مسألة دينية إلى كونها مسألة لغوية وعلمية وحتى عرقية. وفي صحبة هذا التحول يأتي التحول الذي حازت الهند بموجبه على بعد رمزي كامل في الأدب الغربي، من ذلك الاستشراق السابق لكل من ميلتن ودرايدن مروراً بشعراء البحيرات وصولاً إلى أميرسون و ويتمان والمتسامين على الخبرة البشرية وريختر ونوفاليس وشيلينغ وروكيرت وهاين وغوته، وفردريك شليغل بالطبع.
وأما الباب الرابع فهو بنية محبوكة لكتلة فسيفسائية من "السير التاريخية" والمواد حول شهود شخصيين على التأثير الشرقي مستمدة كلها من حيوات أربعين شخصية أو قرابة ذلك العدد. إن شواب مهتم بتقديم ملامح أساسية وبانورامية أيضاً عن إعادة التوجهات في أعمال الدارسين والعلماء والنقاد والفلاسفة والمؤرخين. إن كل صورة تضاعف تعقيد الاستشراق كظاهرة من ظواهر التلقي والنقل. فمعالجة موضوع الكتاب لهي معالجة تصويرية، أي أن شواب سواء أكان يتفحص بلزاك أو كوفييه أوجيل مول أوسيلفستر دي ساسي أو أمبير أو أوزانام أو فورييه، فهو يصور أيضاً تبدل التصورات عن الزمان والمكان لدى كل منهم. إن القضبان الهوائية (الأنتيلات) لدى شواب تفرز التحولات التي طرأت على العلاقات اللارسمية فيما بين الناس المتأثرين بالشرق (في الصالونات والزمر شبه السرية في مصانع القال والقيل) وفيما بين المعارف (كعلم اللغة والجيولوجيا والبيولوجيا). فتحرياته للتشكيلات المنطقية يمكنها أن تبين، مثلاً، أن المكتبة والمتحف والمخبر تعرضت كلها لتعديلات داخلية ذات أهمية قصوى. وإن مايرقش شبكة شواب هو الأشياء التي لاتعد ولاتحصى من تواريخ وأسماء ومجلات وأعمال ومعارض وأحداث (كمعرض نينوى، مثلاً، الذي أقيم في باريز في عام 1846)، ألا وهي تلك الأشياء التي تضفي على سرده فورية أخاذة:
والبابان الخامس والسادس يرفعان الآلاف المؤلفة من التفاصيل عن الاستشراق من مستوى المدارس والدارسين والأكاديميات والعلوم والصالونات والأيديولوجيات، ليدخلا بها في سلسلة الأحداث المثيرة الأكثر تمييزاً والجارية في الحياة المسلكية لأكابر الكتاب الخياليين. فالباب الخامس يعني بالكتاب الفرنسيين في عراكهم مع مشكلة الخلق الشاقة التي كانت تنوء بعبء المعرفة الواسعة: من أمثال لامارتين وهوغو وفيني وميشيليه و كونت ليل وبودلير. وهنالك، فضلاً عن ذلك، قسم عما يدعوه شواب بـ "الشرق الخارجي"، أي ذلك الشرقي العجيب النافذ التأثير في أعمال نيرفال وغوتييه وفلوبير، مع العلم أن هنالك بعض التعليقات الشيقة على وجه التخصيص على عمل فلوبير المعنون بـ "قصة الآثار"، ذلك العمل الذي مادته مقتبسة من كوابن غير أن لهجته تناقض صراحة لهجة ذلك الكاتب. وأما الباب السادس، المعنون بـ "التحولات والاستطالات"، فيركز في معظمه على الكتاب الألمان (ومن بينهم نيتشه وفاغز وشوبنهاور) والكتاب الروس في مؤخر القرن. إنكم لواجدون غوبينو في هذه الصفحات، علاوة على مذهبه عن تفاوت الأعراق. فشواب يولي اهتمامه، حين تقترب دراسته من نهايتها، للأقسام الخبيثة غالباً (كإيران قبالة الهند، والآريين قبالة الساميين، والشرق قبالة الغرب) التي تتسرب من خلال الكتلة الثقافية الهائلة الناجمة، طيلة قرن تقريباً من المقارنات، عن الوعي الاستشراقي. وإن من الممكن اقتفاء آثار هذه الأقسام كلها وردها إلى اثنتين من "التقنيات الروحية" (techniques spirtuelles) تقابل واحدتهما الأخرى من الغرب إلى الشرق. وهكذا:
في غضون القرنين التاسع عشر والعشرين، قامت ثلاثة اتجاهات مختلفة بعضها عن بعض: المدرسة الصارمة للتقنيين -أي الفيلولوجيين والفلاسفة -ممن واظبوا على الإتيان بالتعريفات الضيقة مما أدى إلى إقصاء الهواة، وحلقة الأيديولوجيين والمبتدئين ممن طعّموا الخبرة المحلية بالتأثيرات الأجنبية، وبين اللاهوتيين ظهرت من جديد الحماسة التبشيرية القديمة إذ أدت إلى قيام الشكوك المتصارعة بين العلم والضمير. وإن هذه النظرات الثلاث لتوضح تلك الاحتكاكات، العديدة والمتواصلة، التي تعاظمت بشكل لم يسبق له مثيل من قبل فيما بين مختلف الثقافات.
إن الباب الختامي، المكتوب بأسلوب رصين ومعقد، يؤكد أن الانبعاث الشرقي كان في جوهره ظاهرة من ظواهر الاختلاف، وظاهرة ولّدت تقنيات المقارنة، في حين أن الانبعاث الأول كان في جوهره انبعاثاً استيعابياً في كونه تملق أوربا دون قلقلة المركزية الثقافية لأوربا مركزية تؤكد ذاتها بذاتها. وهكذا فإن الانبعاث الثاني أفضى إلى تزايد، لا إلى تناقص، نقاط المقارنة والتقنيات المتاحة للثقافة الغربية "ومحاوريها المحتجبين عن الأنظار"، الأمر الذي تزايد على هذا النحو لأن الانبعاث اللاحق كان حدثاً كلامياً لا حدثاً كلامياً ومصطنعاً كما كان عليه الانبعاث السابق. فالاستشراق أتاح الفرصة أمام العالم الأول كي يتكلم "premier tour du monde parlé"، الأمر الذي استهل بدوره نظرية لغوية ذات أصول على انكماش واستحالة متواصلتين. فمثل هذه النظرية، بوقوفها بين التاريخ والإيمان، كانت حدثاً
ذا شأن: إذ إن اللغويين اعتقدوا أنهم قد وجدوا الجواب على بابل، كما أن الشعراء توقعوا عودة جنة عدن، فضلاً عن أن موجة عارمة من الهوى بالأصول قامت في نفوس الناس لدى العثور على أي اكتشاف أثري جديد، وشيئاً فشيئاً تولد الانطباع، مع كل صيغة جديدة مطروحة بلسان صيدلاني، بأنه خلق حياة جديدة: فمسلمة عن لغة أم أدت إلى ولادة لغويين عن طريق التوالد العذري. غير أن فكرة البدائي الأولي ماكان بالإمكان توكيدها إلا بتشويهها، علاوة على أنه لم يعد بالإمكان اعتبارها كنقطة بداية التاريخ، بل مجرد نقطة متزايدة الهبوط في كفة ميزانه. لقد كانت قابلة للتحريك ولذلك أدت إلى تنشيط الأفكار عن التغيير - فالتاريخ لم يعد بمثابة الحصن للزمان كله، ولم يعد يستطيع بالتأكيد أن يقوم مقام الأساس. وفي الوقت نفسه، فإن جملة المعايير الجمالية والنظريات العلمية تخلت كلها عن مطالبها بحق الديمومة، فضلاً عن أن أي عامل في مضمار ماكان حقائق قديمة في قديم الزمان صار يشعر بأنه موضع الخذلان إن تعلق بأي شيء ثابت أو احتاز عليه. فالحركة الجمالية الرومانسية، والعقيدة البيولوجية بخصوص النشوء، وامبريالية اللغة في الامبراطوريات الفكرية، صارت الآن هي الأشياء الجديدة والهامة التي بوسع المرء الموافقة عليها. ففي يومنا هذا يتعمد ورثة شعراء التذبذب، وميتافيزيقيو اللاشعور، ودهاقنة الأسطورة، أن يتحدثوا عن "الكلمات الحرة" وكأنهم يتحدثون عن "خبرة روحية" -وإنهم بذلك ليؤكدون، على غير دراية منهم، صيغة بورنوف "Nomina numina"
(التسميات المقدسة) [498-497].

إن المصادفة بين ورود الرومانسية ومجيء الاستشراق في الغرب، بالشكل الذي يصورها فيه شواب بمنتهى الحذاقة، أعطت الأولى أبعادها المعقدة وساقتها لإعادة تصييغ الحدود البشرية -وفعلاً إلى ذلك الحد الذي يستطيع فيه اللاشعور وحتى المستغرب أن ينتحلا لقب الشيء الطبيعي. وإن مايتحكم بتلك المصادفة ثمة قانونان هما: "صدفة العصور" و "مهمة الأجيال" (502). ولذلك فإن تصور شواب للتاريخ الثقافي في كتاب "الانبعاث الشرقي" تصور كوني لأنه يرى نفسه تتوسط بين القانونيين وبين استحقاقهما على الفهم الثقافي.
إن كتاب "الانبعاث الشرقي"، وهو على شيء من الإيجاز نسبياً والإسهاب نسبياً (وهما نعتان من نعوت شواب)، لتثقيف فعلي في معنى المغامرة الفكرية، لنوع من العمل الكشاف الحيوي، الذي لايهمل لا الصغائر المادية ولا الكبائر التأملية المتعلقة بتصييغ الأحكام العامة. وأهمية شواب، تلك الأهمية الباقية على مر العصور، تكمن في أنه لايسمح للشكوك أن تساورنا البتة في أن الفيلولوجيا، كما يستعملها بذلك المعنى العريض الذي كان يقصده نيتشه وكما يدرسها في تاريخ علم الآثار الفيلولوجي الذي جيء من خلاله بالنصوص الشرقية إلى صميم المعرفة والوعي الغربيين، هي دراسة النصوص وكأنها آثار خالدة موضع التنقيب المتواصل لتنظيم وإعادة تنظيم إدراك الثقافة لهويتها. إن الدراسات الحديثة عن الأدب الرومانسي -من أمثال العمل الذي جاء به كل من آبرامز وبلوم وهارتمان ودي مان -ستجد ولابد دعامتها التي لامفر منها في شواب، وذلك لأن الاستفاضة النصية لشواب تقدم المادة الأولية الضرورية لتلك الدراسات، إذ أخذنا في الحسبان أن فهم الكتابة الرومانسية لايكون على أفضل مايرام، كما يبدو، إلا إذا اتخذ شكل الاستقصاء المتطاول للشكل الشعري واللغوي الذي يدأب على تركيب وتفكيك مستويات المعنى. وإذا لم يكن هنالك دائماً، بعد قراءة شواب، معبر منتظم يمكن رؤيته من الكلمات إلى الأشكال، أومن الاكتشاف اللغوي إلى الأداء اللغوي والجمالي، تكوين المشكلة هي أننا، كتلاميذ أدب، لما نتقن بعد العلاقة بين اللغة في التاريخ واللغة كفن. فشواب يرتأي أن العلاقة عويصة، بيد أن منهجه يستند إلى التهويل، المطروح على نحو معقد وموسوعي، فيما يتعلق بمواجهة ثقافية، ألا وهي تلك المواجهة التي تقوم بين عشق الكلمات، شبكة النصية، وبين جمعية التعليم والتخصيص الثقافي. وهكذا فإن المرء ليحسن صنعاً، على ما أظن، إن أطرى شواب، بدلاً من قراءته كمنظر فاشل، على إنجازه الدراسي العظيم الذي يوفر الفرصة لقيام توجه نظري وتفحص ذاتي.
إن الأشياء التي لايعيرها اهتماماً شواب إلا تلميحاً على مايبدو هي القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تفعل فعلها خلال العصور التي كان يدرسها. فهو خبير في إعطائنا ظروف العصر، مع العلم أن هذه الظروف قد تتضمن تفاصيل اجتماعية واقتصادية. بيد أن ظرفية تفصيلاته بعيدة عن أن تضيف شيئاً على القوى الفاعلة في تكوين تلك القوى العاملة في صميم التاريخ. وهكذا فإنه يذكر أن أوائل المستشرقين البريطانيين كانوا من رجالات الطبابة ذوي المهمات التبشيرية الدينية، كما كانوا، علاوة على ذلك، على علاقة وثيقة مع المشروع التجاري في المستعمرات الهندية. ومع ذلك فإنه لايحاول في أي مكان أن يدمج هذه الظروف المتباينة في تفسير سياسي للاستشراق البريطاني. وعلى نحو مماثل يشير هنا وهناك إلى أن تعاظم الموجة العظيمة للسنسكريتية وتفاقم الأستاذية السنسكريتية في طول أوربا وعرضها كانا على ارتباط بالتجارة الاستعمارية المتنامية على جناح السرعة، وأن المنزلة السامية التي حظي بها علم الآثار المصرية كانت نتيجة للمغامرة النابليونية في الشرق الأوسط. غير أن الجدير بالذكر أنه لم يطرح البتة أية فرضية مترابطة منطقياً عن الاستشراق باعتباره علماً أو موقفاً أو مؤسسة لمصلحة الهيمنة الأوربية على المستعمرات الشرقية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
إن التباين القائم بين الشيء الذي يعرفه شواب من خلال التفاصيل المرعبة وبين الشيء الذي يستنتجه من تلك التفاصيل لتباين صارخ، فالأمر لايقتصر على استنكافه عن عزو النتائج السياسية التي حلت بالشرق إلى تدميره على أيدي الأوربيين وحسب، لابل ويختار أن يرى أيضاً أن العلاقة بين الشرق والغرب علاقة متكافئة -في حين أنها لم تكن في الواقع في شيء من مثل هذا القبيل بالطبع. فلقد كانت السنسكريتية بمثابة اللغة التي احتازت على قيمة ثقافية في أوربا، بيد أنها كانت لغة بائدة وعلى بون شاسع عن التخلف الذي كان عليه الهنود الحديثون. وإن الخيال الرومانسي الذي كان يتحلى به الكتاب والدارسون الأوربيون كان مستنقعاً بالاستشراق، ولكنهم نالوا استشراقهم هذا على حساب أية رأفة يمكن أن يكونوا قد شعروا بها حيال المواطنين المحليين الجهلة الذين كانوا تحت وطأة حكمهم. فمن بين مسارات الفكر كان هنالك مسار واهن ناشط في الدراسة الاستشراقية في مطلع القرن التاسع عشر ألا وهو ذلك المسار القائل -كما في عمل آبيل ريمو سات مثلاً- أن الحماسة الاستشراقية تجد وقودها غالباً في الجهل المطبق لا بالشرق القديم وحده بل وبالشرق الحديث على وجه التخصيص. ولئن قرأتم شواب لن تنسوا أن كيرتز في رواية كونراد كان أحد النواتج الأساسية للاستشراق، أو أن النظرية العرقية ومعاداة الساميّة أكاديمياً وبراعم الفاشية ماهي إلا النواتج الفعلية للفيلولوجيا الاستشراقية في القرن التاسع عشر. وفي نفس ذلك الوقت الذي كان فيه فردريك شليغل ويلهيلم فون هامبولت وإيرنست رينان يقيمون تمييزهم بين الإنسان الهندي/ الأوربي الرائع والحيوي والمتناسق وبين الإنسان السامي القميء والجاسئ والمتهافت، كانوا يختلقون تلك الدراسة الاستشراقية التي كانت ستواصل تسبيحها بحمد الله في القرن العشرين على معاداتها العرب ومعاداتها اليهود. فهذا الشيء كله صار ممكناً لا عن رغبة في المعرفة بل عن رغبة في التملك والتحكم، كما كان يدرك شواب على مايبدو.
وإن القول بأن هذه المسألة ماهي بالمسألة الأكاديمية المحض لقول بالإمكان البرهنة عليه ببساطة كافية إن ضربنا مثلاً حياً عما يدور في هذه المرحلة الراهنة. فالمستشرق الأكاديمي المعاصر هو الوريث المباشر للفيلوجي المستشرق زمن القرن التاسع عشر. ففي المسائل التي تنطوي على أهمية سياسية عاجلة يُسعى إليه طلباً لوجهة نظره ولمعلوماته ومساعداته، على الشكل الذي تصاغ فيه سياسة الولايات المتحدة حيال الشرق الأوسط، على سبيل المثال. ولكن بما أن الاستشراق هو تلك الظاهرة السياسية التي لايمكن فصلها عن الكولونيالية الأوربية (بيضاً وذكوراً)، فإن أبناءه الحديثين يحملون ذلك الماضي القبيح على كاهلهم وفي عملهم: إنهم يعتبرون الإنسان كائناً بشرياً بدائياً ومتخلفاً أساساً، وهو بأمس الحاجة لتلك الهيمنة التي تعمل على تحضره. وإن آراءهم كمستشرقين، مهما كان مقدار تحبيك الشكل الذي تظهر فيه، لآراء خسيسة في خاتمة المطاف. فحرب أكتوبر لعام 1973، على وجه التخصيص، جاءت بكتلة هائلة من التحليلات المستندة بالأساس على بعض المعتقدات الموغلة في القدم إلى حد لايصدق تقريباً عن الذهن العربي والعقلية الإسلامية والمجتمع العربي، والقائمة كلها على رأي استعماري مبسط شرير عن الشخصية المشرقية- ألا وهو ذلك الرأي العنصري في أشرف تعبيراته بمنتهى الصراحة.
وهكذا علينا إذاً ألا نقول ببساطة إن الشيء المفقود لدى شواب هو إدراك فوكو للهيمنة السياسية والمادية المتمثلة في منظومات خطاب كخطاب الاستشراق، كما يجب ألا نقول حصراً أن شواب يفشل في أن يأخذ بحسبانه الجانب السياسي السوسيولوجي الذي ينطوي عليه التقوقع العرقي بالشكل الذي يمثله فيه الاستشراق. فعلينا بدلاً من ذلك أن ننبه إلى المشكلة التي تعترض سبيل أي عمل فكري موسوعي مثل "الانبعاث الشرقي" الذي فضائل نطاقه وتكريس كاتبه جهده للتفصيلات الظرفية تجعله خجولاً من الإتيان بتعميمات سياسية مغرضه. وبالأساس فإن ما أفضى إليه طموح شواب كان الرغبة في توكيد وجود وأهمية أي انبعاث شرقي، وفي فعل ذلك بأكبر قدر ممكن من الأمانة للقوى الداخلية الفاعلة في الحركة. وعلى الرغم من التوفيق الديالكتيكي الذي أجراه شواب فيما بين مختلف الحالات التي مرت بها الحركة، يبدو عليه أنه كان محجماً عن الإقرار بأن الاستشراق كان على تلك الإشكالية التي كانت تلامس في أي مكان، بشكل دقيق ومنهجي، المواقف والوقائع السياسية/ السوسيولوجية. ولذلك فهو يثير في أذهاننا ذلك السؤال الدائر عن الكيفية التي يتمكن فيها المرء من كتابة أفضل نوع من أنواع التاريخ الثقافي في الأكاديمي ومن الأخذ بعين الاعتبار، في الوقت نفسه، السلطة والنقود والغزو الاستعماري. ومن الواضح أنه لا أية غائية مبتذلة ولا أية نظرية مبتذلة ذات فكرة آنية بمقدورها الإجابة على هذا السؤال. ولكن حتى تفادي السؤال ولو بمنتهى الحذاقة والدقة لن يجدي فتيلاً أيضاً.
وعلى الغالب يبدو أن الاعتقاد السائد عن الدراسة الدقيقة في ميدان الآداب الإنسانية عموماً، وفي ميدان الأدب خصوصاً، أن إحراز المدى والتفاصيل لايمكن أن يستقيم إلا بالبقاء بمعزل عن التشبث بالميول وأما النقيض لذلك فليس أقل صحة أيضاً: أي أن التنظير الرائع يأتي بلا أية مبالاة بالظرف أو بعمق المعرفة أومدى الشاهد الملموس. ولربما أن من طبيعة الدراسة وطبيعة المعرفة الفكرية المعاصرة أن يكون تخيل العمل بأنه فاعل هذا النوع من الشيء المختص أو ذاك، أي رؤية المهمة العقلانية بأنها تنطوي ضمناً على ظروف المنظر أو الدارس، أو الصحفي الشعبي إن استشهدنا بحالة راهنة. فالمنظر يرى نفسه مستجيباً لظروفه الخاصة به: سواء أكان ماركسياً أو بنيوياً أو ناقداً جديداً أو فينومينولوجياً. ولكن الأمر الهام، بالنسبة للمؤرخ، فهو الماضي "كما كان عليه في واقع الأمر"، في تفاصيله وفي عمقه. وثمة واحد قد يعترض ويقول بأنه لم يعد هنالك أي مفكر يعمل وفق مثل هذه الخطة المتهافتة، بيد أن الفروق توطد أركانها عملياً بمنتهى الصرامة. فليس هنالك من التفكير أو الوقت إلا القليل جداً، مع التسليم جدلاً بفهم ديالكتيك الضغط ورد الفعل عليه في العمل الأدبي، لانتهاك حرمة الظرفية التي ينوء بعبئها الإنتاج النقدي أو النظري أو التاريخي أو، في خاتمة المطاف، انتهاك حرمة الطريقة التي قد يتمكن بها إنسان ما من أن يكتب بدقة في الوقت الذي يكتب فيه أيضاً بشيء من الإدراك للقضايا السياسية الحادة التي هي على أوثق ارتباط بصلب الموضوع، كما هي عليه الحال مع الاستشراق بالضبط.
إن هذا المكان ليس بالمكان المناسب لمعالجة هذه المسائل، بيد أن دراسة شواب، بفضل فخامتها وأهميتها، تعود بها إلى الذهن كما تعود بها ورطة أي دارس لايشعر أنه ملزم باتخاذ موقف سياسي صريح حيال العمل الذي يقوم به أو تقوم به أو حيال كل الأشياء على العموم. غير أننا هنا نصل إلى تلك المشكلة العويصة المتعلقة بتحديد الموضوع الدراسي أو حتى النظري الذي يستلزم أو لايستلزم اتخاذ موقف أو موقع سياسي صريح حتى تنال معالجة الموضوع كفايتها من الدقة والإنصاف. فالاستشراق كموضوع يصرخ غالباً بملء أشداقه مطالباً بحقه في الفهم الصريح لخلفيته القبيحة الغارقة في مستنقع التعصب العرقي واللهاث الاستعماري. ومع ذلك فإن الواجب يحتم علي أن أقول بأنني أفضل دراسة شواب البعيدة عن السياسة على أي تحليل كامل للاستشراق تحليلاً فياضاً بالجعجعة والدقة ولو كان أكثر بعداً عن تناول التاريخ -بيد أن من الواضح تماماً أن هذا البديل ليس بالبديل الوحيد. ولربما من الصحيح أن نقول أن المرء ليستطيع على الأقل، في عمل كعمل شواب بصرف النظر عن غنى توثيقاته، أو يشير إلى غياب بعض جوانب الواقع علماً بأنه قد يستطيع استكمالها أيضاً، علاوة على أن بعض الدراسات الأخرى، الأقل إثارة للإعجاب، تنطوي بالأساس على تلك المواقف التي (وهي تلغي التاريخ في أحيان كثيرة) بوسع المرء أن يساندها أو أن يهاجمها فضلاً عن شيء طفيف آخر.
ولكنني سأحاول أن أكون دقيقاً حيال الكيفية التي تكشف فيها بعض الدراسات، حتى وهي تستبعد بعض الأمور، عن تعقيد ماتشتمل عليه ومالا تشتمل عليه في آن واحد معاً. فما من طريقة جراحية هناك لتحديد مقدار التعقيد والغنى الكافي والمناسب. إن الشواهد النموذجية تقدم لنا العون، من مثل كتاب "الانبعاث الشرقي"، على الرغم من انعدام إمكانية التعامل معها وكأنها تلك النماذج الأصلية التي تستوجب المحاكاة بمنتهى العبودية. وهكذا فإننا نعود إذاً إلى أمور من أمثال الصبر والمؤالفة والحماسة التي تعبر كلها عن أنفسها بشكل معدٍ وضمني في عمل الدارس مهما كان تعلمه هائلاً ونزيهاً. ولئن تبسم المرء أحياناً من هول البساطة التي تنطوي عليها بعض العبارات كعبارة "الذهن الآسيوي" (الواردة في "الميدان الشرقي")، فإنه يدرك دائماً على الرغم من ذلك أن نية شواب في تعميماته نية ودية وما هي بالعدائية أو العدوانية. وبالاختصار فإن عمل شواب، وبالمقدار نفسه تماماً في موضوعه ومناهجه، يزيد الفرص للدراسة والتعلم، ولا يحد منها حتى لوكان الخنوع السياسي الذي يخنعه شواب يمنعه من اعتماد الحكم القاطع بما مفاده أن الجشع الثقافي لهو مبعث الاستشراق. وكوننا نتمكن بعد ذلك من أن ندرس الحركة الرومانسية، أو أن نتحرى تأثير الأكاديميات على الحياة الفكرية إبان القرن التاسع عشر، أو أن نحلل العلاقة بين الفيلولوجيا والأيديولوجيا- أو أن نتمكن من التعامل مع كل تلك الأمور ومع العديد غيرها- هو السبب الذي يجعل رومانسية أفكار شواب نفسها جديرة بالاهتمام الجاد، وهناك مكمن المتعة الخالصة في تعلمها.
ولكن استخدام "المتعة" بهذا الاستخفاف الكبير لوسم "التعلم" لايعني ضمناً الاستمتاع الرخيص. فليس في جعبة شواب من فن يحلله أو إنجاز فكري يخطط له إلا وله مايناسبه من إدراك حيال علاقته الفعلية بهذه الحياة الدنيا. ولذلك فالشيء الذي يكشفه له بحثه التاريخي، والذي يجعل قراءه يجدون فيه متعة فعلية، هو الدعامة الحقيقية التي تستند عليها الحياة الثقافية، ألا وهي تلك الدعامة التي تعني أن أية ثقافة ليست مجرد تجمع أو اندماج لزمرة من الذوات المنتصرة هنا وهناك، وإنما هي العمل الذي أنجزته الوسائط البشرية -القائمة في المجتمع، في الأواصر الاجتماعية، في مكان التوالد، في التاريخ. وهأنذا أستخدم هنا المفردات التي استخدمها كوانتين آندرسون كي أضع رأيين متناقضين عن الثقافة الأدبية والدراسة الأدبية أحدهما قبالة الآخر(22). فشواب ليس من المؤمنين بكفاءة أنفس ذوات شأن عظيم. والشيء الجدير ذكره عنه هو أنه، على الرغم من كل المغزى التجميلي والتمديني والتحويلي الذي ينطوي عليه الحدث الثقافي الذي يصفه، وعلى الرغم من كل الهزال السياسي الذي يصوره به، لايفترض أبداً أن يكون العمل نتيجة الهوى المباشر لفرد ما لإعادة صياغة العالم بكل تلك البساطة التي يضع بها امرؤ رفاً من رفوف الكتب، فالثقافة بالنسبة لشواب قاعة محاضرات أكثر مما هي محراب، لابل وقاعة طافحة بالهرج والمرج فيما يتعلق بذلك الخصوص. وأما بالنسبة للناقد المعاصر، الذي لايزال متسمراً بلا جدوى بالشكل المحض وغالباً ما يستخفه الطرب بالأشعار البنيوية غير المقرونة بالظروف، فإن شواب يجب أن يكون ترياقه الكافي الوافي لأنه يصر على نشر الشبكة حتى فوق أصغر النخاريب المعزولة. وختاماً مامن منظور غير هذا المنظور يتيح إمكانية فهم الثقافات على أنها تلك المنظومات التي كما هي عليها قولاً وفعلاً، والمنظومات التي يكبح جماح فاعليتها لجام فهم تاريخي يقظ وحكم أخلاقي بين يدي مؤرخ نقاد لامثيل له.

nnn


* بور رويال: مؤسسة ثقافية غربي باريز انتشعت منذ عام 1638 حتى عام 1704 حيث أغلقها البابا بأمر بابوي لأنها صارت بؤرة ثقافية حيث كان الأساتذة فيها يعملون في مضمار علم اللغة -جانسينيي: نسبة إلى كورنيل جانسين، صاحب المذهب الديني في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية- المترجم.

** أشباه النبلاء: طبقة من الأغنياء كانوا يشترون لقب النبالة بالمال ولكن ماكان يحق لهم توريث اللقب لأبنائهم -المترجم.

* من المعروف عن أرخميدس قوله أنه لوتسنت له نقطة يقف فيها على سطح الأرض لتمكن من تحريك العالم كله -الترجم.

* الاتحاد الدولي للأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية الذي بدأ في باريز عام 1889 وانهار خلال الحرب العالمية الأولى- المترجم.

* نسبة إلى جاك لا كان- المترجم.

*Hope: إحدى ثلاث إلهات شقيقات كن رمزاً للفتنة والجمال لدى قدماء الإغريق، في حين أن hope تعني الأمل أو الرجاء -المترجم.

**Logos: ترمز في العهد الجديد إلى السيد المسيح (الابن -أو كلمة الله) في حين أن words تعني الكلمات المحض- المترجم.

* إغدراسيل: أسطورة نورويجية تتحدث عن شجرة من الرماد تظلل العالم بأسره، وتجمع الأرض والسماء في حين أن الجحيم يكمن في جذورها وأغصانها. وهي كلمة مؤلفة من مقطعين يعنيان ربما "الحصان المخيف"-المترجم.

(**) خورخي لويس خورخس: أرجنتيني من مواليد عام 1899، شاعر وباحث أدبي وكاتب قصة قصيرة، له مجموعة قصصية بالعنوان المشار إليه -المترجم.

+Ficciones: "الخيال"- المترجم.

***** تعني النص في الإنكليزية، في حين أن ****ile تعني النسيج أو المنسوج المحبوك -وكأن الكلمة الثانية مشتقة من الأولى -المترجم.

* رواية رومانسية لمدام دي لافاييت منشورة في عام 1678- المترجم.

* نسبة إلى جوهان سيبيستيان باخ، عازف الأورغ والمؤلف الموسيقي الألماني -المترجم.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59