عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 01-09-2012, 09:48 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

وأكمل في رسائل الأحزان قائلاً:

وجعلت رسائل الصديق تترادف إلي مسهبةً ضافية ، تقطر فيها نفسه كما ترسل السحابة المنتشرة قطرات انعقدت وانحلت . ثم جعلت نفسه تنطوي على نأي حبيبته وأشتد عليه أمرها ثم أسهل وانقاد ، واعتادها عنها بعد أن ملأت نفسه.
أما هذا الصديق فأعرفه أسلوباً من الكبر ولكن على نفسه ، ومن الشذوذ ولكن في نفسه ، كأنما فتحت أفواه عروقه جنيناً ولأتها الوراثة من دم ملك كان في أجداده . مستصعب شديد المراس فهو أبداً في حياته كالملك الذي حالت السيوف والأسنة والقوانين بينه وبين تاجه ، فجعلت له حياتين يفصل الموت بينهما ، اجتمع من تاريخه إنسان بلغ الزمن تحت عينيه نيفاً وأربعين سنة ، فهو تاريخ أحزانٍ قد استفاضت مسائله في فصول وأبواب جف القلم منها على نيف وأربعين جزءاً ، كلماتها في حوادثها ، وأن السطر منها ليرعد في صحيفته من الغيظ ، وأن الكلمة لتبكي بكاءً يرى ، وأن الحرف ليءن أنياً يُسمع ، وأن تاريخه كله لينتفض لأنه مصيبة ملكية مصورة في ملك .
لقد سبق الكتاب وجف القلم الأزلي على علم الله ، فما أتينا إلى هذه الدنيا إلا ليمثل كل واحدٍ منا فصلاً من معاني الشقاء الإنساني في تلك الثياب التي هي ملك لصاحب المسرح ، لا نخلعها ونلبسها بل يخلعنا بعضُها ليلبسنا بعضها الآخر . فلسنا نبتدع ولكن يلقى علينا ، وما نحن بمخترعين ولكننا نحتذي ، والرواية موضوعة تامة قبل ممثليها . وصعها ذلك القلم الأعلى الذي كتب مقادير كل شئ كان أو يكون حتى تمحى من صفحة الأرض هذه الأحرف السوداء المتحركة والساكنة .......
والمشكلة الأنسانية الكبرى أن كل إنسان يريد أن يكون بطل الرواية ومثلها البكر ، حتى ذلك الشخص الذي جي لتنزل عليه اللعنة في سياقها . غير أن الرواية مفصلة من قبل ، ويأتي فصل اللعنة كما هو بأطرافه وحواشيه وأسبابه ونتائجه فينصب على ممثله جملة واحدة على وجه لا يحس ولا يرى ولا يدفع كما يلبسه النوم ، فإذا هههو يفتل فيه فتلاً ، وإذا رجل على أعين الناس باللعنة حال وباللعنة مرتحل .
النوم والقدر والموت كالشئ الواحد أو ثلاثتها أجزاء لشئ واحد ، فالنوم غفلة تخرج الحي هنيهة من الحياة وهو فيها على حالةٍ أخرى ، والموت غفلة تخرجه من الحياة كلها إلى حالة أخرى ، والقدر منزلة بين المنزلتين يقع هيناً على أهل السعادة بأسلوب النوم ، ويجئ لأهل الشقاء عنيفاً في أسلوب الموت ، ولن ي*** شيئاً أو يدفع عن نفسه شيئاً من هذه الثلاثة إلا الذي لم يخلق على الأرض . ذلك الذي يستطيع أن يفتح عينيه على الليل والنهار فلا ينام ، أو يحفظ نفسه على الصغر والكبر فلا يموت ، أو يضرب بيديه على مدار الفلك فيمسكه ماشاء أو يرسله .
جئنا إلى هذه الحياة غير مخيرين ونذهب غير مخيرين أن طوعاً وإن كرهاً ، فمد يدك بالرضا والمتابعة للأقدار أو انزعها إن شئت فإنك على الطاعة ما أنت على الكره ، وعلى الرضا ماأنت على الغضب ، ولن تعرف في مذاهب القدر إذا أنت أقبلت أو أدبرت أي وجهيك هو الوجه ، فقد تكون مقبلاً والمنفعة من ورائك أو مدبراً والمنفعة أمامك ، والقدر مع ذلك يرمي بك في الجهتين أيهما شاء .
وحري بمن يوقن أنه لم يولد بذاته أن لا يشك في أنه لم يولد لذاته ، وإنما هي الغاية المقدورة المتعينة ، فلا الخلق يتركونك لنفسك ، ولا الخالق تارك نفسك لك.
كذلك كان صديقي وما هو إلا إنسان من الناس ، وقد بلغ من العمر أربعة عقود ولكنه يحس منذ الصغر أنه رجل هرم أو كما يقول بعض الفلاسفة في تعليل ذكاء الأذكياء أنهم يتذكرون ما يرونهولا يتعلمونه لأن فيهم نفوساً خرجت من الدنيا كاملة ثم رجعت لتزداد كمالاً . وتلك خرافة ، ولكن من نقص هذا الإنسان أنه لا يستطيع التعبير عن أكبر الحقائق وأدقها إلا بأسلوب خرافي .......
قال لي هذا الصديق يوماً : إني بلغت أربعة عقود ولكنها فيما عانيت كأنما تضاعفت إلى أربعين عقداً ، وقد انتهيت من دهري إلى السن التي ينقلب فيها الآدمي من وفرة القوة ليثاً ويرجع من قوة الحكمة نبياً ، ويعود من تمام العقل إنساناً . غير أن هذه الأربعين بما تعاورت على قد هدم في بعضها بعضاً ، فإن أكن بناءً فذلك صرح ممرد عمل فيه أربعون معولاً فما أبقت حجراً على حجر ،
وإن أكن حومة فقد اعترك فيها للأقدار أربعون جيشاً فما تؤرخ بنصر ولا هزيمة . ياويلتا من هذه الدنيا . إن مصيبة كل رجل فيها حين يصير رجلاً أنه كان فيها طفلاً وما علم أنه كان طفلاً .
تلك حياة الصديق وكانت ليلاً طويلاً انبسط عليه فنن من الظلام كأنه مورق بالسحب والغمائم السوداء لا ينقشع بعضها عن بعض حتى كأن صباحه مات فيها أربعين سنة ثم أنبعث آخر من وجه فتاةٍ أحبها فأشرق له من غرتها واستضاء عليه في وجهها وطلعت شمس حبه من خد يها حمراء في لون الورد إذا امتزجت أشعتها بظلماته .
ويؤخذ من رسائله أن صاحبته كانت من قوة الجاذبية كأنها كوكب جذب منه كوكباً آخر ، ومن فتنة الحسن كأنها رسالة إلهية إلى هذه الأرض بل إليه وحده في هذه الأرض . أدارتها هذه الحياة وأدارتها ليجئ موضعه إلى جانبها فكأنما أدارت منه فلكاً عاتياً لا يتزحز إلا بعد أربعين سنة كاملة .....


يتبع ...........





رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59