وإذا نظرنا إلي الموروث الصوفي الذي لايهتم بالحياة الدنيا إلا كوسيلة للترقي روحيا مع الانقطاع عن شهوات وملذات الحياة تدريجيا واضعا في اعتباره لحظة الموت وما بعدها "وإذا أضفنا إلى ذلك أن الدين الذي قامت هذه الحضارة على أساسه يبشر بقيم إيجابيه نحو الحياة و باسم هذه القيم قامت تلك الفتوحات واتجهت تلك الحضارة اتجاها عالميا ( دعوة على الناس كافة )، أدركنا أي لغز ينطوي عليه انتشار أخلاق الفناء في الحضارة العربية الإسلامية منذ العصر الأموي. و بما أن هذا النوع من الأخلاق يتناقض –بما ينطوي عليه من موقف سلبي من الحياة- مع القيم الإسلامية و العربية التي قامت على أساسها الدعوة المحمدية و دولة الخلفاء الراشدين و دولة الأمويين، دولة الفتوحات فإن التفكير لا بد أن يتجه بالباحث إلى العامل الخارجي.
كما أشرنا إلى ذلك من قبل ومهما يكن فالبلاغة على مستوى أدب اللسان في المنقول من التراث الفارسي تبدو وكأنها تقوم بدور" جواز المرور للمضمون" الذي يخص "أدب النفس". و من هنا التداخل الذي لا حدود له بين الموروث العربي الخالص والموروث الفارسي في مصادرنا.
و بطبيعة الحال كان لا بد لهذه النظم و هي تتزاحم على مسرح الثقافة العربية من أن يحصل بينها احتكاك و تداخل و تلاحق و منافسة وصراع...الخ و بالتالي لا بد من بروز هيمنة هذا النظام من القيم الخاص بهذا الموروث أو ذلك في هذا العصر أو ذلك فينتج عن ذلك ما نسميه هنا بالمحصلة التي تبرز كممثل للثقافة العربية الواحدة و بالتالي " كعقل أخلاقي عربي "و الحق أن الأمر هنا يتعلق بـمحصلة اعتبارية أما في الواقع المعيشي فالتنافس و الصراع بين نظم القيم لا يكاد يهدأ حتى يستيقظ في جميع المجتمعات خاصة منها تلك التي شيدت لنفسها إمبراطوريات. و من هنا القلق شبه الدائم الذي تعاني منه هذه المجتمعات.و المجتمع العربي كان طوال تاريخه المديد مجتمعا قلقا على مستوى القيم على الأقل و إذا كان من الممكن إرجاع هذا القلق لعدة عوامل فإن صراع القيم الراجع إلى تعدد الموروثات الثقافية على الساحة العربية قديما و حديثا كان له دوره الذي لا يجوز إغفاله و لا التقليل من أهميته. إن كثير من الصراعات التي عاشها و يعيشها المجتمع العربي كانت في جملتها عبارة عن أزمة في القيم إذا هدأت في ناحية من نواحي الوطن العربي أو في حقبة من تاريخه فهي تبقى مستعرة في نواحي أخرى أو تنبعث في الحقبة الموالية. إن أزمة القيم كانت و ما تزال من الأزمات التي تبقى كامنة لمدة من الزمن في نسيج الحياة الاجتماعية المتموجة لتنفجر بعد حين في شكل خروج على النظام القائم المادي أو الروحي أو هما معا، وإما في شكل أزمة نفسية تضرب الكيان الروحي و الفكري للشخص الواحد
النظام الأخلاقي العربي الخالص لم يتغير على مستوى الكيف و النوع و يناسب نمط الحياة للعرب و هذا يعني أن كثيرا من القيم التي يحملها هذا الموروث و يمجدها مثل الكرم و الشجاعة و الوفاء الخ قيم تناسب تماما نمط حياة العرب في الجاهلية و صدر الإسلام و العصر الأموي هذا فضلا عن كونها قيما عامة مشتركة لا تخص شعبا بعينه و لا عصرا دون أخر "
المروءة بهذا الاعتبار قيمة مركزية في الأخلاق الارستقراطية و في القبلية.وإضافة إلى الأرستقراطية الأموية، التي يمكن اعتبارها امتداد للأرستقراطية القبلية العربية في الجاهلية وصدر الإسلام،
في هذا المجال ينسب إلى عمر بن الخطاب الذي يمكن اعتباره أول عربي قومي، أنه قال " تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة و تعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت بنسبها". اللغة والنسب عماد الهوية القومية والمروءة جزء من الهوية العربية"
و يقرر الدكتور الجابري أخيرا "و بعد فهل نحتاج إلى القول بأن المروءة قد بقيت تمثل في الفكر العربي منذ العصر الأموي إلى اليوم القيمة العليا التي لا تتحقق" المدينة الفاضلة العربية " بدونها؟
ولن نجد لنختم هذه النقطة أفضل من قول الدكتور الجابري الذي ختم به بحثه لفصل الموروث العربي الخالص بهذه الجملة " و بعد فيبدو أننا كنا على صواب عندما اخترنا " المروءة"كقيمة مركزيه في الموروث العربي الخالص و يبدو أننا لن نبتعد عن الصواب إذا أضفنا الخالد.
أما بالنسبة للموروث الإسلامي الخالص فيورد السبتي:" و المروءة عندي خصلتان: اجتناب ما يكره الله و المسلمون من الأفعال، و استعمال ما يحب الله و المسلمون من خصال". " ما يحب الله و المسلمون" و "يكره الله و المسلمون" هو جوهر أخلاق الإسلام. و هذا يعني أن المروءة هي جوهر الدين الإسلامي
كيف تم توظيف الأيات و الأحاديث لترسيخ قيم أجنبيه :الراغب الأصفهاني من خلال مشروعه الذي يعبر عنه ب"أسلمه الأخلاق اليونانية". هذا يعني أن بنية الأخلاق اليونانية الأفلاطونية يجب أخذها كما هي في صياغتها " الصناعية" العلمية و إلباسها لباسا إسلاميا. و من أجل هذا الغرض يوظف الراغب نحو "450 آية قرآنية و200 حديث نبوي".
هنا ورد لفظ " الإيمان" و ما اشتق منه مقرونا في القرآن في الأغلب الأعم بألفاظ وعبارات أخرى تشير إلى وجهته الاجتماعية و مضمونه الإنساني. و من العبارات التي تتكرر في القرآن بعد لفظ الإيمان و كأنها ترتبط معه بعلاقة شرط بمشروط عبارة "العمل الصالح". و يكفي أن يقوم المرء باستعراض سريع للخطاب القرآني حتى يلاحظ أن عبارة " الذين أمنوا و عملوا الصالحات" التي تتكرر مرارا بهذه الصيغة أو بصيغ أخرى ترمز حقا إلى أن " العمل الصالح" هو محور القيم الإسلامية القرآنية".
التقوى هي القيمة المركزية في كل دين فإن ما يشكل خصوصية الإسلام في هذا المجال مكون التقوى فيه يؤسسها العمل الصالح و من هنا يبدو واضحا انه إذا كانت التقوى هي القيمة المركزية في الإسلام كـ"دين" شأن جميع الأديان فإن العمل الصالح هي القيم المركزية في "الأخلاق" التي تنتمي إليه : " الأخلاق الإسلامية" و لذلك وجب وصفها بأنها " أخلاق العمل الصالح"
وهذا المعني أبرزه الجابري في محاضرة ألقاها وأبدي فيها أسفه لكون المرء لايملك إلا أن يلاحظ " أن التراث العربي الإسلامي يخلو أو يكاد من دراسات و مؤلفات في أخلاق المروءة و العمل الصالح التي هي بحق الأخلاق العربية الإسلامية.
المحصلة "نظم للقيم متنافسة متصارعة مما جعل الثقافة العربية الإسلامية ككل تتحول إلى سوق للقيم تعكس بتعددها و تنافسها واختلاف مشاربها تفكك وحدة الأمة و انقطاع استمرارية الدولة مما كان لا بد أن ينعكس أثره بقوة على ميدان القيم. أقصد غياب نظام واحد للقيم.....أجل لم تعرف الثقافة العربية نظاما واحدا للقيم. بل كل ما عرفته منذ بدأ فيها الكلام في القيم عقب الفتنه الكبرى أي منذ 1380 سنه هو " أسواق" للأدب و الأخلاق و معارض للقيم. و ما من شك في أن هذا التعدد في نظم القيم داخل الثقافة الواحدة يمكن النظر إليه على إنه ثروة و غنى. و لكن غنى من ذلك النوع الذي يقوم على مجرد الكثرة و يفتقد القدر الضروري من النظام الذي يخرجه من الفوضى ويجعل منه قوة. إنه في هذه الحالة يعكس خللا بنيويا ووضعا قلقا
ختاما لهذا الفصل لا داعي للتقرير بأن نتاج تلك المحصلة من القيم المتداخلة كان عقلا قيمي مشوه و سمي (العقل العربي ) و يقف خلف فشل الإدارة. و ذلك يست*** السؤال والبحث عن العقل العربي الخالص ( و خاصة القيمي المفقود) والمروءة و أخلاق العمل الصالح، و البحث عن ثقافة عربية إسلامية خالصة لم تتأثر بصراع الموروثات الفارسية و اليونانية و الصوفية و احتكاك التجارة و الهند والسند و إندونيسيا ! فإذا كانت سوق القيم و معارضها في المدن و القرى فما حال العرب الذين غاصوا في بطون الصحراء في الجزيرة ؟ هل كانوا بعيدين عن هذه الفوضى ؟هل نجد مدرسة المروءة المفقودة على حد تعبير الكتاب السابقين ؟ هل نجد أخلاق العمل الصالح ؟ هل الصحراء وهل بدوها الرحل و التي فرضت الحياة والإبل ورعايتها بقائهم في بطون الصحراء بعيدين عن هذه الاحتكاكات ؟ هل يكفي هذا الانعزال و الانغلاق في الصحراء للاحتفاظ بأخلاق المروءة و ألعمل الصالح كما كانت في (العصر الذهبي) ؟
الفيلسوف "هربرت سبنسر" يرى أن التجارب النافعة إذ تكون منسقة و معززة بفضل تعاليم ودروس الماضي الجماعية : تستثير في الجهاز العضوي للإنسان تغيرات عصبيه تنتقل من طريق الوراثة وتتراكم جيلا بعد جيل لتصبح ملكات أخلاقيه جوانية مندمجة تماما في شخصية الإنسان كما تصبح انطلاقا من ذلك مشاعر موازية للأفعال سواء أكانت الأفعال أفعالا جيدة أم سيئة.و بقاء الإنسان معزولا يحتم بقاءه بعيدا عن التأثيرات الإجتماعيه"
لنناقش البدو والقبيلة:
يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم"
فمن لا يعرف النسب لم يعرف الناس و من لم يعرف الناس لم يعد من الناس)
" أنا النبي لا كذب أنا أبن عبد المطلب" وقال "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثرأة في المال منسأة في الأجل").وقال عمر رضي الله عنه "تعلموا النسب ولاتكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا. وقال عمر بن الخطاب : "البدو أصل العرب و مادة الإسلام
و لقد ميز ابن خلدون ثلاث فئات من السكان هم البدو و الأعراب و الحضر . فالبداوة ترتكز على القبيلة و الترحال الدائم ، أما الأعراب فهم تجمعات البدو المستقرين في قرى الأرياف والواحات و يقيمون نمط إنتاج زراعي و هم نواة مرحلة انتقاليه بين نظام البداوة والتحضر"
يقول وليفريد ثيسيقر يعرف الكلمة عربي كما يلي "و منذ خمسين سنه لم تكن كلمة عربي نعني سوى قاطن في الجزيرة العربية و قد اعتبرت مرادفة لكلمة بدوي ورجال القبائل الذين هاجروا من الجزيرة إلى مصر و غيرها و ظلوا عائشين كالبدو فيها قد اعتبروا ، بينما غيرهم من الذين أصبحوا مزارعين أو من سكان المدن لم يعتبروا كذلك . إني لأستعمل كلمة عربي في هذا المعنى القديم و ليس بالمعنى الذي تحمله الكلمة-حديثا- و مع نمو القومية العربية أصبح كل من اتخذ العربية لغة يشار إليه كعربي دون اهتمام بأصله......
يقول الرجوب "و لقد رأيت بعد الاختبار في دراستي للأدب العربي القديم من جاهلي و أموي أن الحياة التي عاشها أصحابه من العرب من أهل الوبر لايزال يحياها إلى اليوم أحفادهم أهل الوبر ولايزال أدب هؤلاء الأحفاد يعبر عنها كما كان يعبر عنها أدب أجدادهم . فهؤلاء البدو يعيشون اليوم في خيام كالتي عرفها أجدادهم منذ ألفي سنه وأزيد – بيوت سود من شعر المعزى كخيام قيدار التي ذكرتها التوراة –تضرب في جوانبها الأوتاد و قد شدت إليها الأطناب و تقوم على أعمدة من الخشب ثم توقد فيها النيران لقرى الضيفان و تعقد في أفنيتها مجالس الحديث و السمر فإذا قل الكلأ في المراعي أو أنقطع الماء في الأودية أو الغدران دعا داعي النجعة أهل القبيل إلى الرحيل فحلت الأطناب واقتلعت الأوتاد و قوضت الخيام و هيئت الهوادج و حملت الأحمال و علت الضوضاء فمن منادي ينادي و من خيل تصهل و من إبل ترغو:
أجمعوا أمرهم بليل فلمـا أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من مناد و من مجيب ومن تصهال خيل خلال ذاك رغاء
حتى إذا جلوا عن منازلهم و خلفوا الطلول ورائهم كان هناك من يمر على تلك الطلول فيقف عليها يستنطقها و يوقف رفيقة فيتصفحان الآثار ويستعرضانها بل قل يقرأنها كما لو كانت كتابا مسطورا في رق منشور فمنازلهم و ما تخلف فيها حين انتجعوا أرضا أخرى و من أثار الأوتاد وأواري الخيل و الإناء التي حفرت حول الخيمة و مرابض الإبل في أعطانها و ما نثر في باحات الطلول من بقايا الصوف و العهن والوبر لاتختلف عن تلك التي وصفها أدب الشعراء القدامى و هي كالطلول في الشعر القديم أقوت و طال عليها الأمد ترددت الغزلان إليها و انتثر بعرها في عرصاتها كما وصف امرؤ القيس طلل حبيبته حيث قال
ترى بعر الأرام في عرصاتها و قيعانها كأنه حب فلفل
وأرأيت أن أيضا أن الشاعر البدوي اليوم يصف الحياة البدوية كم كان يصفها زميله في العصر الجاهلي و الأموي و لا يقصر في وصف ناقته الذلول الكريمة الشراريه عن زملاؤه القدامى فهي الناقة المرقال المفتولة الساعدين المؤللة الأذنين الماويه العينين المزينة بالرحال الجدد قد تدلت من جوانبها نسائل الإبريسم و ربطت رؤؤسها بالأرسان الجميلة ولاتختلف عن نياق زملائه الشعراء القدامى أمثال طرفة و لبيد والراعي و ذي الرمة و يصل الشاعر البدوي اليوم إلى ممدوحة بعد أن يصف المفازات التي قطعها و ما لاقاه من مشقة و عناء كما كان يفعل هؤلاء الشعراء القدامى".
و يقول المستشرق فالين في كتابه رحلات فالين " ففي نجد و في الدرجة الأولى في هذه المناطق عينها اجتمع فرعا الأمة العربية الرئيسيان: القحطانيون و العدنانيون و ربما جاز لنا القول : القبائل اليمانية و السورية و أندمج الجميع في شعب قوي أخذ يعيد الحياة إلى جزء كبير من آسيه. و نعلم أن الإسلام قد أنزل في مكة و لكن أول شعب اعتنقه وذاد عنه كان أهل المدينة الذين تصلهم طباعهم و عاداتهم بأنسبائهم من العرب الرحل . و لما طرد الرسول صلى الله عليه و سلم من مسقط رأسه لجأ إلى بلدتهم في طرف نجد و كان بنو طي و القبائل الأخرى المقيمة في الجبلين من أوائل الذين أمنوا بدعوته و أدوا له الطاعة"( )،
هنا إشارة تؤكد أن أول من أستقبل الرسول و نصر دعوته و ذاد عنه هم البدو الرحل بأخلاقهم و طباعهم و عاداتهم
وعندما اعتنقت الإسلام أمم أخرى من غير العرب ، وانتقلت الحروب الإسلامية إلى أراض بعيدة ، بقي أبناء الصحراء و الجبلين بمنأى عن التاريخ فلم يشتركوا في الفتوح الإسلامية الأخيرة
الجدير بالذكر أن سكان الجزيرة العربية قد حافظوا على نقاوة عنصرهم لأن الصحراء و البحر تفصلان بينهم و بين العالم الخارجي ، بعكس البلدان المجاورة مصر و سورية و العراق فقد كانت مفتوحة للجيوش الغازية و المهاجرين ، إلا أن هذه النقاوة قد شابها أحيانا بعض الشوائب فقد شن الحبشيون و الفرس و المصريون والأتراك في فترات من التاريخ حملات على الجزيرة و فرضوا حكمهم الصارم على اليمن و عمان و الحجاز و نجد. و كانوا يحتفظون بالمدن الكبيرة ويشنون الحروب العديدة على القبائل التي كانت كثيرا ما تنهار، و كانت جيوشهم تناسل في الحاميات و لكن دمهم لم يمتزج أبدا بدم القبليين ولا يوجد شعب يحفظ نقاوة دمهم مثلهم.
أما عادات و تقاليد و علاقات البدو الإجتماعيه:
غسان التل يقول :فأساس العلاقات الاجتماعية في الواقع هي تلك القيود و الضوابط الاجتماعية التي تعمل على تحويل الميول العدوانية إلى دوافع اجتماعيه إنسانيه ودوافع للترابط والتماسك الاجتماعي بين الأفراد و الجماعات......فالعادات الاجتماعية ذات وظيفة ظبطيه تنظيمية لأنها توضح أساس العلاقات الاجتماعية وتقدم للمجتمع دستور التعامل بين أعضائه فبدون هذا الدستور لا يرجى للحياة الاجتماعية أن تسير في مجراها الطبيعي، و تكون النتيجة وقوف الأفراد مواقف متناقضة و تشيع بينهم الفوضى مما يهدد بتمزيق الجماعة يخضع لها الناس إما لأنها مقدسة أو لأنها ضارة و هي تثير الاحترام و الخوف معا و هي تحول بين الناس و بين رغبتهم في الخروج على المتبع لا من حيث أنها تدعوهم إلى تفهم ما يقومون به على أساس العقل و المنطق بل من حيث أنها تثير في نفوسهم خوفا و رعبا" و يتابع في وصف الوظيفة الإرشادية التوجيهية فيقول:" ....العادات الاجتماعية تعطي الحلول الفورية لكل حالة يصادفها الفرد في حياته بدءا من أبسط الأشياء إلى أعقدها هذه العادات توجه إلى الطريق الصحيح الذي به يتصرف في مثل هذا الموقف فالمجتمع يزود الفرد بأنماط اجتماعيه معينه يستطيع أن يتصرف بها إزاء هذا الموقف الذي وضعت فيه لأن العادات الاجتماعية تدرب على التصرف إزاء كل صغيرة و كبيرة في المجتمع و تبين للفرد الحلال و الحرام الممنوع من المرغوب والمباح من غير المباح بمعنى أنها ترشد الفرد إلى طريق التعامل أمام كل حالة تصادفها و تزوده بأنواع السلوك المختلفة التي سيختار منها ما هو ملائم و تبعده عن كل ما هو غير ملائم.
العادات و التقاليد البدوية كيف أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية :"و قد اقتبس معاوية بن أبي سفيان من التقاليد البدوية المجلس العشائري المؤلف من رؤساء القبائل و كان الخليفة يدعوه للمشاورة تقليدا لدار الندوة في مكة قبل الإسلام فيستأنس برأيهم و هم أصحاب المكانة و النفوذ في مجتمعاتهم ويطلع على أحوالهم و يحل مشاكلهم كما كان معاوية يستدعي أيضا الوفود من مختلف البلدان حاملة مطالبها و همومها فيقضي لها حاجاتها و يضمن ولاءها فكان حكم معاوية من هذا الوجه حكما قبليا شعبيا قريبا من الشعب العربي وهمومه
"و في اعتقادي أن حضارات العالم ستمحى تماما كحضارات بابل و آشور و إن كتاب التاريخ المدرسي بعد ألفي سنه سيخصص عدة صفحات للعرب دون أن يذكر حتى الولايات المتحدة الأمريكية"(
أن البدوي تابع و عبد أو خانع لما يمليه شيخ القبيلة وكبيرها؟ وعلى العكس من ذلك فشيخ القبيلة المنتخب لصفاته و أخلاقه ينفذ ما تراه القبيلة مفيدا لمصالحها بمبدأ المشاركة و لا يستطيع إجبار أحدا على فعله. و يؤكد ذلك فاسلييف في كتابه تاريخ العربية السعودية "كان الشيخ يتخذ أهم القرارات بعد التشاور مع وجهاء القبيلة أو مجلسها الذي احتفظ بسمات التنظيم الديمقراطي للمجتمع العشائري. و يقول الرحالة الإنجليزي دوتي : في المجلس "يتكلم من يشاء ويرتفع هنا صوت أبسط أبناء القبيلة لأنه من أبنائها". و لا يستطيع الشيخ أن يعلن الحرب أو يعقد الصلح بدون تشاور مبدئي مع أبناء القبيلة المسموعين الكلمة و إذا أراد أن ينصب مخيما فعليه أن يستطلع أرائهم"...... و يقول دوتي أن المجلس كذلك " شورى للشيوخ و محكمة اجتماعية و يراجعه أبناء القبائل أي وقت للنظر في شؤونهم و يتشاور الشيخ مع الشيوخ الآخرين و الوجهاء و الأشخاص الأرفع منزلة و يصدر القرار دوما دون تحيز ودون أي ارتشاء و هو قرار نهائي.
"يتحدث عن الأمير فيصل بن تركي أل سعود و هو الجد الثاني لجلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز ( أي جد جده لأبيه) و قد ذكره أمين الريحاني بالخير و التقدير في كلامه عليه فقال:".....حكم فيصل حكما عربيا سعوديا مثل ابن عمه عبدالعزيز بن سعود فأقام العدل و عزز الأمن وأعاد إلى نجد شيئا من اليسر وسالف المجد بل إلى ما وراء نجد : فقد بسط سيادته على الشطر الأكبر من شبه الجزيرة فدانت له الإحساء والقطيفة ووادي الدوار و عسير و الجبل و القصي دانت له حبا لا كرها..الخ
أما عن الرأي العام وتأثيره في المجتمع البدوي القبلي فيقول أوبنهايم "الرأي العام أو الخوف من لوم و سخرية الآخرين هو القوة الوحيدة الملومة والسلطة الوحيدة التي ينحني البدوي الأصيل أمامها
والمروءة :إنها من هذه الناحية جماع خصال الأرستقراطية القبلية كما عرفها المجتمع العربي في الجاهلية
وفي مقدمة ابن خلدون : " في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها و ينطبع فيها من خير أو شر قال صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه
ويتابع ابن خلدون في مقدمته في الفصل الخامس : "إن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر : و السبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة ، وانغمسوا في النعيم و الترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم و الحاكم الذي يسوسهم و الحامية التي تولت حراستهم ، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم و الحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيدا ، فهم غارون أمنون قد ألقوا السلاح ، وتوالت على ذلك منهم الأجيال ، وتنزلوا منزلة النساء و الولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة. وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع وتوحشهم في الضواحي و بعدهم عن الحامية و انتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السلاح و يتلفتون عن كل جانب في الطرق ، و يتجافون عن الهجوع إلا غرارا في المجالس ، و على الرحال وفوق الأقتاب ، و يتوجسون للنبات و الهيعات و يتفردون في القفر والبيداء مدلين ببأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم الباس خلقا و الشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استفزهم صارخ . و أهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا و ذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات و موارد المياه و مشارع السبل وسبب ذلك ما شرحناه وأصله أن الإنسان ابن عوائده و مألوفه لا ابن طبيعته و مزاجه. فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقا و ملكة و عادة تنزل منزلة الطبيعة و الجبلة . و اعتبر ذلك في الآدميين تجده كثيرا صحيحا
وأما المتفردون في أنستبهم فقل أن تصيب أحد منهم نعرة على صاحبه فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة و استيحاشا من التخاذل فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر لما أنهم حينئذ طعمة لما يلتهمهم من الأمم سواهم
يقول توماس فريدمان " من الأجدى لك إذا أردت فهم العولمة ثم شرحها بعد ذلك ، أن ترى في نفسك بدويا مفكرا . ففي عالم البدو الرحل ليس هناك رقعة محددة بدقة من الأرض العشبية ، و لذلك كان البدو الرحل هم الذين توصلوا إلى الأديان التوحيدية اليهودية و الإسلام. فإذا كان المرء مقيما في مكان واحد فسوف يتوصل إلى جميع أنواع الأساطير عن هذه الصخرة أو تلك الشجرة و سيعتقد أن الله موجود في هذه الصخرة أو تلك الشجرة فقط. أما البدو الرحل فإنهم يرون المزيد من العالم . إنهم يعرفون أن الله ليس في هذه الصخرة . إنه موجود في كل مكان . كما ينقل البدو الرحل بعد ذلك هذه الحقيقة المركبة في قصص وأخبار بسيطة و ذلك حين يجلسون حول نيران مخيمهم أو و هم ينتقلون من واحة إلى أخرى"
نجد الإيمان الفطري قويا لدي البدوي ، وفي ذلك يقول أحمد محمد حسنين في كتابه رحلة في صحراء ليبيا : "إننا في الصحراء لا نتحدث كثيرا فالصحراء تعلم السكوت و إذا حدق ينا الخطر تحاشينا النظر بعضنا إلى بعض و غنينا عن الحديث وماذا يجدي الكلام ؟ كل منا يعرف ما هو واقع و كل منا يحتمله بصبر وجلد ، إذ التضجر ضرب من اللوم على الله القدير، و هذه معصية لا يقدم عليها بدوي قط ففي عقيدته أن الله كتب عليه هذه الحياة و قدر عليه سلوك هذا الطريق و قد تقوده على الموت الذي اختاره له فلا بد له من الرضا به . و البدوي يقول :لا مفر مما كتبه الله و"أينما تكونوا يدرككم الموت و لو كنتم في بروج مشيده" ، هذا الأيمان أفضي إلي الصفاء الروحي الذي يظهر في الطبيعة المحيطة لذا نجد أن :"قليلون من أهل المدن يعرفون لذة الجلوس في حلكة الظلام ورعي النجوم ، ولا عجب إذا كان العرب أساتذة علم الفلك ، فالأعرابي إذا انتهى من عمل يومه ، خلا إلى نفسه و انقطع إلى ترسم حركات النجوم وإمتاع روحه بما تبعثه فيها من الراحة و الشعور بالسمو إلى ما فوق العالم الأرضي ، وتقع النجوم من نفسه موقع الأصدقاء الأقربين الذين يلقاهم كل يوم حتى إذا دارت قبة الفلك لم تغب فجأة كما يختفي المسافر عند الرحيل و لكنها تحتجب تدريجيا كما يذوب الراحل في عين مودعه على أمل اللقاء القريب". ( ).فالراحل في الصحراء يذوب تدريجيا و يختلف عن الراحل الذي يختفي في المدينة خلف الجدار فجأة مفضيا إلى فراغ نفسي مفاجئ
:"كتب فولني عن غزوات البدو يقول : " لما كان البدوي نهابا أكثر مما هو محارب فهو لا يسعى إلى إراقة الدماء . إنه يهاجم فقط من أجل النهب و السلب وإذا قوبل بمقاومة فهو يعتقد بأن الغنيمة الزهيدة لا تستحق المجازفة بحياته . و بغية إثارة غضبه لا بد من إراقة دمه . و عند ذاك يكون مصرا على الانتقام و الثأر بقدر ما كان حذرا يتحاشى المخاطر. غالبا ما يلومون البدو على ميلهم إلى النهب والسلب ولكن اللائمين الذين لا يريدون تبرير هذا الميل لم يلتفتوا بالقدر الكافي إلى أن الميل للسلب و النهب موجه ضد الغريب الذين يعتبرونه عدوا : ولذا يستند هذا الميل إلى أعراف غالبيه الشعوب".
ومن كتاب رسائل جيرتر وود بل وفي رسالتها المؤرخة بتاريخ 22 كانون الأول 1913( ) 294تقول :" أخرتنا اليوم حادثة مثيرة و منافية للعقل كنا قد سرنا مدة ساعتين عندما رأينا جمالا و دخانا ينبعث من خيام ، اعتقدنا أنهم من عرب من الجبال (و بالواقع كانوا كذلك) من جبل الدروز ومعهم قطعان . أخبرتك أننا حاولنا في الضمير أن نعثر على واحد من جبل الدروز ليكون مرافقا لنا و لم نفلح و عانينا من ذلك و الآن جاء خيال يعدو بحصانه على السهل يطلق النار و هو قادم في الهواء فقط . دار حولنا و صرخ أننا أعداء و أننا يجب أن لا نقترب و معنا سلاح و بعدئذ و بينما كان يصوب بندقيته إلي أو إلى أحد منا حاولا محمد و علي أن يهدئاه لكن عبثا طلب من علي بندقيته و سترة الفرو فرماهما له ، و في هذا الوقت كان حوالي عشرة رجال أو أكثر جاءوا على أحصنتهم مسرعين البعض يطلق النار و كلهم يصرخون و كانوا نصف عراة ، وكان واحد منهم دون أي لباس و كانت تتدلى خصل مضفورة من شعر اسود على وجوههم ، وكانوا يقفزون حولنا و يصرخون بنا كالمجانين أمسك واحد منهم بجمل محمد و سحب السيف المتدلي من خلف سرجه و بدا يرقص به حولنا يضرب الهواء ، و يضرب ناقتي على عنقها كي يجعلها تركع ، وبعد ذلك تقدموا كي يجردوا رجالي من مسدساتهم و أحزمة خرطوشهم و عباءاتهم نهضت ناقتي و لما لم يكن هناك أي شي نفعله سوى الجلوس بهدوء و مراقبة الأحداث ، كان ذلك ما فعلت بدت الأمور سوداء نوعا ما لكن الأمور بدأت تتحسن عندما تعرف المهاجمون على راعي قطيعي وهو زنجي و بعد دقيقة أو اثنتين جاء بعض الشيوخ و تعرفوا على علي ومحمد و حيونا على نحو ودي . أعادوا لنا أمتعتنا و ركبنا معا في هدوء و أمان و لكن لتجنب تكرار مثل هذه الأحداث أو ما هو أسوأ منه كان علينا أن نأخذ معنا رجلا من خيامهم و لفعل ذلك اضطررنا للتخييم بجانبهم حتى نستطيع العثور على مرافق مناسب منهم. شرب الشيوخ القهوة معي و استمتعوا بأحاديث طويلة معنا جميعا و كانوا طيبين بما يكفي لقبول إكراميتي إشارة إلى شكرنا لإنقاذنا من أيدي الرعاة و أعطونا رسالة شامله لكل عرب الجبال إن شأ الله".قانون الصحراء ، الصديق يخضع لقانون ، والعدو يطبق عليه قانون الحرب.
ومن رسالتها المؤرخة بـ7شباط1914( ) تقول:".....كنا نخيم في واد قليل عمق، كان مسرود معي، كنا قد مشينا حوالي 100 ياردة استدار كل من كانوا أمامنا و عادوا مسرعين ."إنهم خائفون"،قال مسرود."لقد رأوا عدوا".جاء غادي الشمري الرئيس راكبا."ما الأمر؟"سألته."قوم-عدو"أجاب. كم عددهم؟.....الخ ...و تتابع بقيه القصة" ، المهم قولهم عدو وبالتالي تسقط قوانين الصديق و تطبق قوانين فقه العدو
و في رسالتها المؤرخة بـالأحد 22 آذار 1914 ( ) تقول جيرترو بل "..... وهذا الصباح أطلق رجل مار كان يرعى بعض القطعان رصاصة من بندقية بين أرجل جمالنا . ركض ضاوي و احتج عليه قبل أن يرسل طلقة أخرى و احتججنا بصوت مرتفع على المعاملة التي عاملنا."العدو لا يأتي راكبا في وسط السهل وضح النهار"،قال علي:"إذا كنتم خائفين فالعادة هي أن تطلقوا رصاصة فوق رؤوس الراكبين حتى تعرفوا إن كانوا أصدقاء أم أعداء". اعترف أنه خالف(كسر) القاعدة
والعلاقة بين البدوي والحرية يتحدث عنها سليمان جبورفيقول "والبدوي يحب الحرية والإعتاق من النظم التي تقيد الإنسان و يحب الاستقلال بحيث لا يكون لأحد سلطان عليه حتى شيخه فإنه يحترمه إلى حد محدود تظل معه كرامته محفوظة و يكن له الولاء لأنه رمز عزته و حريته فإذا تجاوز الشيخ الحد و جنح إلى الاستبداد خرج البدوي من طاعته إذا استطاع أو جابه شيخه و دافع عن حريته........"
"و لم أشاهد في حياتي بدويا يضرب جملا أو يعامله بقسوة"
إذ أن ما هو جيد لدى الأعراب يأتيهم من الصحراء و من شعورهم الديني القوي الذي وجد له منفذا في الإسلام إلى حاسة الأخوة عندهم التي تربطهم كأعضاء في جسم واحد إلى فخرهم بعنصرهم و كرمهم و حسن ضيافتهم إلى كرامتهم واحترامهم لكرامة غيرهم كبشر مثلهم إلى مرحهم و شجاعتهم و صبرهم والظريف أن العرب سلالة تنتج أحسن ما عندها في حالات الشدة و الضيق وتتدهور بالتدريج عندما تصبح شروط المعيشة سهلة
سحبت خنجري و قفزت على الرجل قبل أن يتمكن من الوقوف على قدميه . فدفعت خنجري في رقبته و قتلته . و كان رجلا قصير القامة.يحمل بندقية إنجليزية....... و بعد فترة من السكون قال الإعرابي :" والله لقد كان رجلا..لقد عرف كيف يقاتل..في هذه الغزوة قتل منا أربعة عشر...."
أوفالين " لقد سئلت كثيرا :"لماذا يعيش البدو في الصحراء ما دام أنهم يعيشون حياة قاسية؟ ولماذا لا يتركونها و يعيشون حياة أسهل في مكان أخر ؟". و قليلون من الناس صدقوني عندما قلت أنهم يعيشون هناك بكامل اختيارهم ، لقد كان في استطاعة القبائل البدوية السورية الكبيرة أن تسطو على أراضي الفلاحين الضعفاء و تسكن فيها وبدلا من ذلك ظلوا يسكنون الصحراء كقبائل رحل لأن تلك هي الحياة التي يعتزون بها . و عندما كنت في دمشق زرت عرب الرولة كثيرا وعلى الأخص لما كانوا مخيمين في الصيف عند الآبار خارج المدينة. وقد استحثوني لأن أرافقهم في هجرتهم السنوية التي تبدأ جنوبا إلى نجد حالما تنمو المراعي عقب أمطار الخريف و صرحوا إلي بأن الرجل لايجد الحرية إلا في الصحراء، و يجب أن يكون هذا الحنين إلى الحرية نفسه هو الذي دفع القبائل التي دخلت مصر إبان الفتح العربي لأن تمر عبر وادي النيل إلى الصحراء اللامتناهية تاركة وراءها الحقول الخضراء و أجمات النخيل الوارفة الظل و المياه الجارية وكل المسرات التي وجدوها في المدن التي احتلوها
و يتابع "هنا في الصحراء وجدت كل ما طلبته و علمت إني لن أجده مرة ثانية أبدا. و أكثر ما آلمني هو هذا التطور المفاجئ الكاسح الذي شمل المنطقة . لقد تأكدت من أن البدو الذي عشت معهم و سافرت معهم ووجدت القناعة في رفقتهم قد كتب عليهم الهلاك. إن بعض الناس يزعمون أن حياتهم ستتحسن عندما يستبدلون بفقر الصحراء وخشونتها رفاهة العالم المادي و لكن لا أعتقد هذا، و سأذكر دائما كم أخجلني هؤلاء الرعاة الأميون بخصال الكرم و الشجاعة و الصبر و الشهامة التي كانوا يتحلون بها و التي كانت تنقصنا نحن المدنيون"
باختصار و من ما سبق : البدوي يعني غريزيا الإيمان التوكل وسلامة الباطن الانتماء والولاء الصدق الشرف الحرية الكرم الشجاعة الأمانة علو الهمة الشهامة النجدة الرحمة العطف احترام البيئة و الحيوان ، بتعبير أخر المروءة و أخلاق العمل الصالح...........أليس ذلك إرث المروءة؟ أليس ذلك تاريخ عظيم؟
لقد عدنا إلى التاريخ ؟ لماذا والعالم أضحى "عالم القرية الصغيرة والعولمة "، ذلك يحتم معرفة التاريخ و موقعه في القرية الصغيرة المتعولمة . سنستكشف ذلك من خلال كتاب السيارة ليكساس و شجرة الزيتون محاولة لفهم العولمة للكاتب توماس ل.فريدمان و هوغني عن التعريف:
" إن التحدي في حقبة العولمة هذه- بالنسبة للدول والأفراد- يتمثل في تحقيق توازن صحي بين الحفاظ على الإحساس بالهوية و الوطن و المجتمع وبين القيام بكل ما من شأنه تحقيق البقاء داخل نظام العولمة. و يجب على أي مجتمع يسعى إلى تحقيق الازدهار الاقتصادي اليوم أن يسعى باستمرار إلى بناء سيارة ليكساس أفضل والدفع بها إلى العالم (رمز السرعة و التقدم و الرفاهية و سعي الإنسان نحو الازدهار و التحديث) بيد أن لا يكون لأي إنسان أي أوهام بأن مجرد المشاركة في هذا الاقتصاد العالمي سوف يجعل من أي مجتمع مجتمعا صحيا. إذ أنه إذا جاءت هذه المشاركة على حساب هوية المجتمع ، و إذا شعر الأفراد بأن جذور شجرة زيتونهم (رمز الجذور و الأصالة والانتماء و التمسك بالأرض و العادات و التقاليد) قد سحقت ، أو لم تؤخذ في الحسبان من جانب ذلك النظام العالمي فإن جذور شجرة الزيتون تلك سوف تتمرد . إنها سوف تثور و تخنق العملية"
و لما كانت العولمة قوة تعمد إلى التجانس الثقافي و التهام البيئة و قادمة بسرعة كبيرة ، فهناك خطر حقيقي من أنها في غضون عقود قليلة فقط قد تقضي تماما على التنوع الإيكولوجي و الثقافي الذي أفرزه التطور البشري و البيولوجي طوال ملايين السنين
ما لم يكن قويا فاليهودية مثال كلاسيكي للثقافة الدينية التي امتصت مؤثرات من كثير من الدول المختلفة على مر الأجيال بدون أن تفقد أبدا لب هويتها .يشير مدرسي تزفي ماركس المتخصص في الديانة اليهودية أنه عندما واجه اليهود الإغريق لأول مرة في القرن الرابع قبل الميلاد ، كان أكثر الأشياء التي أمتصها الفكر اليهودي بعمق هو المنطق الإغريقي الذي تجانس مع تعاليم التوراة والحاخامات في ذلك الوقت. يقول ماركس : " كان هذا الامتصاص للمنطق الإغريقي سهلا نسبيا ، لأنه كان متصلا بصورة عضوية بما يفعله الحاخامات ودارسو التوراة في تلك الأيام و كان يتمثل في رعاية الحقيقة . و تظهر علامات الامتصاص الصحي عندما يستطيع مجتمع ما أن يأخذ شي من خارجه و أن يتبناه وكأنه نابع منه و أن يعيد تهيئته ليتناسب مع الإطار المرجعي له و ينسى تماما أنه جاء من خارجه . يحدث هذا عندما تلمس القوة الخارجية التي امتصت شيئا كامنا في ثقافتك الخاصة و أن يكن غير ناضج تماما ، و تعمد المواجهة مع الحافز الخارجي حقيقة إلى إثراء ذلك الشيء الكامن و مساعدته على الازدهار" و هذا هو الطريق الذي تتقدم به أنواع الكائنات و الثقافات "
"غير أنه في ذلك الوقت الذي أنفتح فيه اليهود على المنطق الإغريقي انفتحوا أيضا على الاحتفاء الإغريقي بالجسد ، ناهيك عن انشغالهم الكامل بإله الحب إيروس و بتعدد الآلهة. و لم يمتص اليهود هذه المؤثرات . فقد كانت في نظرتهم دخيلة و ظلت كما هي دخيلة . كان الإغريق يستمتعون بمشاهدة الرياضات العارية و لم يفعل اليهود ذلك ولم يمتصوا قط تلك الجزئية من الثقافة الإغريقية . و أعتبر الذين فعلوا ذلك بأنهم قد تجانسوا معها و فقدوا إحساسهم الأصيل بذواتهم و في النهاية كانت هناك أشياء للإغريق يأكلونها و أساليب في الملابس انتقى بعضها اليهود في تلك الأيام و استمتعوا بها لمجرد أنها مختلفة ، ولكنهم أبدا لم يجعلوها خاصة بهم . و بعبارة أخرى و باستخدام المصطلحات اللامعقولة : إنهم لم يتخلوا أبدا عن شوربة فطائر خبز كرة الماتزو لكي يأكلوا السوفلاكي و لكنهم أكلوا السوفلاكي واستمتعوا به لأنه شي مختلف"
ويظل "صغار المزارعين الفرنسيين و من ثم صغار التجار و صغار القرى صامدين دون مساس بهم على الرغم من الضغوط العالمية التي يتعرضون لها من أجل تجميع المزارع و تحويل القرى إلى أسواق لكل شيء. و بعبارة أخرى :إن ما يعجبنا في الجنوب الفرنسي يقوم على أساس سياسات تقدر القيمة الحقيقية للحفاظ على التراث الثقافي. إنه يقوم على سياسات زراعية أوربيه مشتركة . و انتقال الأموال عبر الحدود لكي تدعم زراعة المساحات الزراعية الصغيرة بغية الإبقاء على القرى الصغيرة هناك دون مساس ، لأنها في نظرهم مصدر للثراء الثقافي إلى حد ما . نحن بحاجة إلى مثل هذه الأنواع من شبكات الأمان الاجتماعي من أجل الحفاظ على تراثنا الثقافي . و يجب أن يعلم السياسيون جماهير الشعب بقيمة شبكات الأمان الثقافي و أن يكونوا على استعداد لإقناعهم"
وولفينسون عليه أن يصارع كل عام مجلس إدارة البنك الدولي المؤلف من وزراء للمالية لاستمرار تمويل هذه البرامج . يقول ووليفنسون" أقول لهم : هل يمكن أن تتخيلوا إنجلترا بدون تاريخها ؟ هل يمكن أن تتخيلوا كيف الحال إذا ذهبنا إلى فرنسا و لم نعثر على ثقافتها؟ حسنا إذا كنتم لاتستطيعون تخيل ذلك فلم تنكرونها على الدول النامية التي تحتاج إليها حتى أكثر منكم ؟ فليس في استطاعتكم مساعدة الناس على التقدم إلى الأمام ما لم تكن لديهم معرفة بالقاعدة أو الماضي اللذين انحدروا منهما
فليس التراث و التاريخ المسئوول عن مشاكل التنمية و الإدارة . هي الشفافية والإخلاص وتدفق المعلومات كما يتابع فريدمان يذكر ريتشارد ميدللي " أن الافتقار إلى الشفافية هو الذي يسمح تماما لأصحاب الأوهام المتفائلين و لأصحاب الأوهام المتشائمين بأقصى قدر من حرية الحركة"( )
" يشير الاقتصاديان روبرت هـ.فرانك و فيليب ج.كوك في كتابهما العظيم " مجتمع الفائز يحصد كل الأرباح ".إلى أن العولمة " لعبت دورا مهما في اتساع عدم المساواة......يشير فرانك و كوك في هذا الصدد إلى أنه في حين يستطيع الفائزون تحقيق نجاح مذهل في هذه السوق العالمية فإن من يقلون عنهم مهارة بدرجة قد لا تذكر سيكون نجاحهم أقل كثيرا ، أما من لا يمتلكون سوى القليل من المهارات أو الذين يفتقرون إليها تماما فسوف يكون أداؤهم ضعيفا. لذلك تزداد الفجوة بين المركز الأول والمركز الثاني اتساعا و يصبح من الصعوبة تخطي الفجوة بين المركز الأول والمركز الأخير. و بطبيعة الحال يندر أن يكون هناك فائز واحد في كثير من المجالات ولكن أولئك الموجودين بالقرب من القمة يحصلون على نصيب غير متكافئ مع الآخرين. و كلما تعولمت هذه الأسواق المختلفة و أصبحت "أسواق الفائز يحصد كل الأرباح" اتسع عدم التكافؤ داخل الدول ومن ثم بين الدول بعضها و بعض..... لقد أصبح عدم التكافؤ هذا من بين أكثر المنتجات الفرعية الاجتماعية إثارة للقلق في هذا النظام"( )
"و كان أفضل مقال على الفجوة بين طبقات اللاعبين ما حدث في الموسم الماضي مع لاعبي نادي هيوستين روكيتس حيث حصل نجومه السوبر الثلاثة على مرتبات تزيد على 21 مليون دولار و لا يوجد في الطبقة الوسطى من قائمة الفريق سوى لاعبين اثنين فقط ( كيفين ويليس و ماريو إيلي) و يوجد ما لا يقل عن ثمانية لاعبين آخرين ممن يحصلون على الحد الأدنى من الأجور . يعلق كروتسون على ذلك بقوله :" مما سمعت أرى أن ذلك سوف يكون فريقا غير سعيد
يقول المواطن " هل من العدل أن أكرس نفسي لكل ما طلبتم مني طوال عقود من الزمن ثم فجأة تنسونني الاّن و تدفعون بي إلى السوق بعد أن تقدم بي العمر ؟ هذا ليس عدلا . إنني لم أخطئ في شيء. لقد كنت دائما أتبع تعليماتكم أيتها الحكومة العزيزة ، و لكن تعليماتكم الآن لي هي أن أنسى وجود الحكومة ..................و في كل ما تفعله الحكومة ببساطة إجراء الخصخصة ببيع الكثير من الشركات المملوكة للدولة لتلك الزمرة الاقتصادية الصغيرة.......". و كما يقول الرئيس الأمريكي الأسبق جون ف.كنيدي "إذا تعذر على مجتمع حر مساعدة الكثرة من فقرائه فإنه يتعذر عليه إنقاذ القلة من أغنيائه"
كيف نساعد ؟ "المهم في الدخل ليس حجمه بل توزيعه بكفاءة و عدالة :فقوله "وإذا انتهى بنا الحال إلى السؤال عن أكثر النظم فاعليه في توليد مستويات للمعيشة ترتفع بصفة مستمرة ، عندئذ سوف يتوقف الحوار التاريخي . و الإجابة واحدة و هي رأسمالية السوق الحرة . و قد تكون النظم الأخرى قادرة على توزيع وتقسيم الدخل على نحو أكثر كفاءة و عدالة و لكن أيا منها لا يستطيع توليد هذا الدخل لتوزيعه بهذه الكفاءة مثل رأسماليه السوق الحرة . وأصبحت هذه الحقيقة معروفة لمزيد و مزيد من الناس لا يحتاج للكثير من الإيضاح أن نسأل هل نحتاج إلى توليد دخل أو نحتاج إلى توزيعه بطريقة أكثر كفاءة وفاعليه لنتمكن لاحقا من توليد الدخل بطريقة أكثر كفاءة و فاعليه حين ينضب البترول أو تهوي أسعاره.الدول الأخرى رأت مع سبق الإصرار في اقتصاديات السوق الحرة مصلحة لشعوبها وعمدت إلى دعمها وتشجيعها ولا يعني ذلك ضرورة أن تجري الدول الأخرى خلف اقتصاد السوق الحر أو تعتمده ما لم ترى فيه مصلحة لشعوبها. كما يشير فريدمان : "لقد حدثت الثورتان التاتشريه و الريجانية لأن الأغلبية الشعبية في هاتين الدولتين الكبيرتين اللتين تمثلان الاقتصاد الغربي خلصت إلى أن الأساليب القديمة التي تتولى فيها الحكومات توجيه الاقتصاد لا توفر ببساطة المعدلات الكافية للنمو . فقد عمد ريجان وتاتشر إلى اقتطاع أجزاء ضخمة من سلطة اتخاذ القرار الاقتصادي من الدولة ، و من المدافعين عن سياسة المجتمع العظيم و من الاقتصاديات الكينزية التقليدية و تسليمها إلى السوق الحرة"
دور مهم يلعبه المثقفون و المفكرون في المجتمع كأدوات من المفترض أنه منوط بها دراسة الحراك الاجتماعي و تأثره بالمتغيرات الخارجيه و على رأسها العولمة بحيث قياسه بصفة دائمة و يترتب على ذلك في (ظل وجود رؤية واضحة و مستهدفه لديهم عن ماهية المجتمع تاريخه و حاضره ومستقبله )، يترتب على ذلك المحافظة على هذا الحراك المستمر دائما كتكامل سياسي لا ينقلب إلى صراع سياسي ، يجد من يضبطه ويعيده إلى جادة (الوطن) ثم إلى القرية العالمية الصغيرة.
سوف نناقش المثقفين من هم ، واجباتهم ، وماذا يقولون ؟
المثقف يصبح ضمير المجتمع والناطق باسم قوى التقدم التي لا تخلو منها أي مرحلة من مراحله التاريخية. و لا مناص من أن ينعت بأنه شخص يثير العراقيل و الفتن ومن طرف الطبقة المسيرة التي تعمل على الحفاظ على الوضع القائم ومن جانب العمال الفكريين خدام تلك الطبقة الذين يتهمونه بأنه خيالي وطوباوي ويصفونه في أحسن الأحوال بأنه ميتافيزيقي و في أسوأها بأنه متمرد و بعبارة أخرى إن المثقفين وفقا لهذه التحديدات هم أولئك الذين يعرفون و يتكلمون ، يتكلمون ليقولوا ما يعرفون و بالخصوص ليقوموا بالقيادة و التوجيه في عصر صار فيه الحكم فنا في القول قبل أن يكون شيئا أخر" .
"يجب علي هؤلاء المثقفين والمفكرين الذين ينتسبون إلي الثقافة والفكر أن يكونوا علي قدر المسؤولية لا أن يكونوا كالطبل الأجوف يواجهون ويعترضون وعندما نناقشهم فيما يعترضون ، لايقدمون إجابات شافية.لذلك يجب أن ينزعوا أقنعتهم الاعتراضية " أنهم يعترضون من "فراغ"، أي من دون أن يكون اعتراضهم مرتبطا بمرجعية معينه أو بسياق فكري معين ، بل ومن دون أن يعوا تمام الوعي الطبيعة الإيبستمولوجية لهذا الاعتراض. و تلك حالة أخرى من حالات اللامرجعية التي تميز كثيرا من "المثقفين العرب " ، أولئك الذين يهبون لتأييد قضية أو معارضتها من دون أن يكون لهم إلمام كاف بتلك القضية و لا بأصولها و فصولها ، فالمفاهيم الجديدة التي تغرقنا بها العولمة يوميا مليئة بالغموض، وعندما نتشدق بقولها فأننا لانعرف ماذا نقول،لأننا ببساطة نحتاج إلي عملية لنقل هذه المفاهيم إلي الحقول المعرفية الملائمة لها وتطبيعها عليها "وهذه العملية عملية نقل المفاهيم من حقل إلى أخر تكون مشروعة عندما تنجح في ملائمة المفهوم المنقول مع الحقل المعرفي المنقول إليه و تبيئته فيه . والتبيئة في اصطلاحنا هنا تعني ربط المفهوم بالحقل المنقول إليه ربطا عضويا و ذلك ببناء مرجعية له فيه تمنحه المشروعية و السلطة سلطة المفهوم في آن واحد. و عملية بناء المرجعية للمفهوم في الحقل المنقول إليه تتطلب بطبيعة الحال الإطلاع على مرجعيته الأصلية على ظروف تشكلها و مراحل تطورها و بعبارة أخرى استحضار تاريخيتها وذلك حتى يتأتى التعامل مع المعطيات التي وضع المفهوم للتعبير عنها في الحقل/ الأصل، والمعطيات التي يراد من ذلك المفهوم التعبير عنها في الحقل / الفرع تعاملا من نوع قياس الأشباه و النظائر. مع الاحتفاظ دوما بالفارق و لكن لا بوصفه جدارا حديديا بل بوصفه جسرا و معبرا.
المثقف العربي (كان): "معتقدات خطيرة تفرضها سلطة الكتاب: الإنجيل..........وفي القرن
يتبع................
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
|