عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 01-10-2012, 02:46 PM
الصورة الرمزية مهند
مهند غير متواجد حالياً
متميز وأصيل
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 563
افتراضي قصة أضغاث أحلام


أضغاث أحلام
(إنها الثالثة صباحا) تنهد سالم وهو يقلب هاتفه المحمول باستغراب (هل يعقل بان تكون ساعة الهاتف معطلة؟.) وهو يفرك عينيه بتوتر، ثم عاد للنظر بهاتفه يتفقد الوقت ثانية ليتأكد بان الأضواء الفسفورية المنبعثة منه لم تخدع نظره.

(اجل أنها الثالثة، لازال الوقت باكرا وباكرا جدا على الاستيقاظ!.. ولكن لي أكثر من ساعتين أتقلب في فراشي؟... إذا أنا لم انم إلا لبضع ساعات فقط!.

هل يعقل أن تستمر الحال بي هكذا!؟... يجب أن أعود للنوم حتى أعطي لبدني الوقت الكافي من الراحة لمواجهة يوم جديد من العمل والمسؤولية!!!.)

رمى سالم هاتفه بشيء من التذمر معتبرا إياه المسئول عمال يصيبه في كل ليلة من ارق.

واخذ بأطراف لحافه لينقلب إلى الجهة الأخرى من الفراش، وكأنه يريد أن يدير ظهره للزمن، عله ينام لبعض الوقت يسترد به أنفاسه، فلقد بدا عليه التعب دون أن يبذل أدنى جهد يذكر وتساءل: (أين كنت منذ قليل وما هو أخر حلم رأيته قبل استيقاظي؟... يجب أن أأخذ أطرافه الأخيرة، حتى أعيد ما قطع منه، وكما هي العادة في كل مرة علني أغفو..)

فجأة تناهى إلى أذنيه صوت طفل رضيع يبكي قادم من الشقة المجاورة، وذكره هذا الصوت بصوت آخر لطفل فلسطيني - ممد على حصيرة ممزقة مرمية بين أنقاض منزله المهدم- يبكي مثله!؟.

ومع هذا الصوت حلت الصور المريعة للجرافات الإسرائيلية وهي تتابع قضم ما تبقى من أخر بناء منهار في قرية كاملة، تم هدمها ومسحها بالأرض، وكأن زلزالا قد أصابها، وقد تبعثرت الملابس واختلطت مع أواني المطبخ وفرش البيت بالأنقاض والأتربة.

صراخ الطفل يزداد حدة، وقد أخذته أخته الكبرى بين ذراعيها، وهي تحاول أن تلهيه بلعبة من القماش، وقد امتزج صوته مع عويل النساء وصراخهن، وهن يحاولن دون جدوى انتزاع ما تبقى من أمتعتهم من تحت التراب: (أين العرب؟... أين الأمة العربية؟... أين الحكام العرب؟... أين النخوة العربية؟... أين شباب العرب؟... أين كرامتهم؟... وشرفهم؟... أين انتم؟... ألا ترون ما يحدث لنا؟... ما يصيبنا في كل يوم من دبابات وجرافات شارون الملعون!؟...هل خلت امة العرب من الرجال حتى لم يبقى إلا النساء تصرخ وتستصرخ!؟...) ثم تابعت (إننا هنا باقون على أرضنا ولن تهزمنا لا جرافات "شارون" ولا دباباته ولا مجنزراته... وسنبقى صامدين بمساعدة العرب أو من دونها!!!... هنا في العراء... في حر الصيف... أو تحت المطر والثلج... سنبقى صامدين إلى الأبد؟... وكل ما هدم لنا منزلا سنبني مئة منزل!... وكل ما اخذ "شارون" منا طفلا سننجب عشرة أطفال جاهزون لقتاله ودحره والانتصار عليه!؟.)

انقبض سالم على نفسه وهو يستعيد تلك الصور الحزينة التي تبثها الأقنية العربية صباحاً مساءً، وشعر وكأن تلك المرأة -وهي تشير بإصبعها إليه- توجه له ندائها واستغاثتها مباشرة.

وتمنى لو أن بمقدوره أن يتجاوز المكان والزمان ويخترق الحواجز والحدود ليفعل أي شيء يرد إليها الأمل... بان صوتها قد وصل وأن ندائها لن تذروه الرياح... (ولكن كيف؟.) ردد سالم بخجل (كيف؟.. وأنا هاهنا في غربتي وفي فراشي... وماذا تنفع مئات الخطابات والمظاهرات وحمل اللافتات والهتافات التي أجوب بها شوارع المدن الكبرى في الغرب منددا ومستنكرا؟؟؟!!!!.)

هو يعرف بأنه لن يغير من الأمر شيئا، وبان كل ما يقال عن إسماع أصوات المظلومين أمام مباني الأمم الكبرى المتحدة منها أو المتفرقة لن يجدي نفعا.. حتى وان قيل بان كل ما يحاك هناك في وطنه الصغير أو الكبير يطبخ هنا في مطابخ الكبار!؟.

وبان والملايين مثله ليسوا أكثر من بضع أرقام تضاف أو تمحى من على اللوحة المعدة سلفا في إحدى قاعاتها الكبرى أو خلفها!.

وتذكر بأنه تابع هذه اللوحة بأرقامها المذهلة مباشرة على "الانترنت" حيث تضيف ثانية بثانية كل مولود جديد على وجه الأرض، وتمحي كل مغادر إلى الدار الآخرة؟؟؟، -طبعا حسب اللوائح الرسمية للدول التي تساهم في تزويد هذه اللوحة بالمعطيات- أما أولئك الذين يولدون ويموتون خارج هذه اللوحة فهم ولابد كثر، ولا يعرف عنها شيئا؟؟؟!!!.
(مالي وهذه الأمور وبماذا تعنيني وأين كنت وكيف صرت؟؟؟.) ردد سالم وهو يمسح العرق عن جبينه بأطراف الغطاء، ثم استدار باحثا عن الجهة الأخرى الباردة من الوسادة ليدفن بها رأسه.. وكأنه يحاول إبعاد أصابع الاتهام التي تتناوله بالذم والتقصير، ليجد نفسه مرة ثانية بين الأشلاء الممزقة والمحروقة لأخر عملية قتل جماعي في ذكرى "عاشوراء" بالعراق!.

وشعر وهو يتفقد تلك المشاهد المؤلمة بان وسائل الأعلام التي تبثها قد فقدت ولابد حيائها!؟... فهي تتاجر بالصور الملونة للأحداث لتدخل كل بيت دون استئذان، ولسان حالها يقول خذه كما هو أو اتركه، وكأنه برنامج للتسلية؟؟؟!!!. دون أدنى شعور بالمسؤولية!.

وبأنه ولمجرد إقحامه في مشاهدة تلك الصور هو إساءة لمشاعره وتعدي على المساحات البريئة الباقية في نفسه، بقصد الإثارة ورفع درجة الغيظ والكره والاشمئزاز لا أكثر؟؟؟.

لأنه يعرف تماما وكما يعرف الجميع ممن يقومون بنقل الأحداث بان ما يدور هناك على ارض الواقع لا علاقة له بتاتا مع مقاومة شعب للاحتلال!... وان تلك المتفجرات والمفرقعات والقتل الرخيص ما هو -في بعضه- إلا تصفية للحسابات... وفي البعض الأخر وسيلة للتفاوض بين البقية الباقية من النظام القديم وقوات الاحتلال، على حل بدأت علاماته تظهر في خفة حدة التوتر الأخيرة.. وكأنهم انتهوا إلى حل يرضي الطرفين... ولا يهم حجم ومقدار الثمن المدفوع من جثث الأبرياء وأحزان العائلات المنكوبة!؟.

وشعر بالخوف وهو ينتهي إلى هذه التفسيرات المقيتة... من أن تكون الأحداث -التي يشاهدها عن فلسطين- لتصفية المقاومة هناك، ما هي إلا تحصيل حاصل يقوم بها "شارون" لحساب ومصالح دول وأفراد اتفق فيما بينهم عليها!؟.

وبان آلاف المؤلفة من القتلى والبيوت المهدمة والأراضي المجروفة والأشجار المقطوعة ليست إلا جزءً من مخطط معد له سلفاً وباتفاق الجميع!؟.

وبان أجيالا كاملة من أمته ومن كفاحها... وسنين طويلة من الاضطهاد والاستبداد والعبودية والظلم التي تعرضوا لها في سبيل قضيتهم المقدسة تلك قد ذهبت هباء؟؟؟!!!.

وبإن ما يراه وما يسمعه ما هو إلا احتقار لمشاعره ومشاعر الملايين من هذه الأمة الكبيرة من المحيط إلى الخليج لإذلاله وطعنه في كبريائه... وتحطيم حلمه بالعيش بكرامته وحريته وعزة نفسه منتصرا... وان النصر لحريته وعزته وبقائه إن هو إلا بالاستسلام والخنوع والقبول بالأمر الواقع شاء أم آبى؟؟؟؟!!!!.

انقلب سالم على ظهره متحاشيا وسادته المبللة بالعرق، وقد امسك بأطراف الغطاء بكلى يديه محاولا وبمساعدة قدميه أن يعيده إلى وضعه الطبيعي، وقد ***ت إليه -ما أدخلته تلك الحركة من هواء بارد- بعض من الهدوء!.

وتأمل نفسه وهو ممدد على السرير وقد عقد ذراعيه فرأى نفسه يشبه تلك الجثث الممددة على الأسرة في المستشفيات، أو تلك القابعة في البرادات تنتظر دورها بالدفن، أو المحمولة على الأكتاف وقد طوقتها الجماهير المتوعدة بالانتقام والهاتفة بالشهادة.

ووجد بان التشابه فيما بينهم قريب جدا!، حتى بالشكل، فهم ممدون وكأنهم نائمون وعلى وجوه بعضهم ابتسامة.. -خاصة تلك الطفلة الوديعة التي فقدت حياتها بقذيفة مدفع!؟.. فكان يصاحب ابتسامتها نور الهي عجيب.. وهدوء وسكينه تبشر بالنصر-.

والفارق الوحيد بينه وبينهم هو أنهم يرقدون دون عودة في حين هو سيعود إلى الحياة؟!.

(إي حياة؟.) تساءل سالم ممتعضا وهو يجادل نفسه بها.. وتابع وهو يتأمل سقف غرفته وقد ارتسم عليه بعض من الخطوط الرفيعة القادمة من أضواء الشارع عبر شقوق نافذته.

(ما الفرق بين ميت وحي؟.. وهل يشعر الميت بمن حوله؟.. بحزنهم وعويلهم... وهل يتأسف لفراقهم إذا ما شعر حقا بهم؟... أم انه ينظر إليهم ساخرا لتعلقهم بحياة لا معنى لها إلا عندهم!... فهم يشعرون بها لأنهم يعونها!... ولهذا فكل المشاعر من ألم وتأثر وحزن وبكاء أن هي ألا خاصة بهم وتتصف بهم على غير أي كائن حي على وجه البسيطة!!!.)

اخرج سالم يديه من تحت لحافه ليدفع بعض جوانبه عن بدنه النحيل وقد شعر وكأنه يحترق بداخله، ثم عاد إلى وضعه الأول وقد استلقى على ظهره وهو يتأمل خطوط الفجر الأولى تتسابق لتحتل الزوايا المظلمة من غرفته.

(وبعد كل هذا ما يهمني أنا من كل تلك الفذلكة؟... الحضارة والتخلف الحرب والسلام الحب والكره ومالي ومال من يعترف بي ومن يصدق... ألا يكفي كل تلك السنين الضائعة من شبابي أدافع عن حقيقة غير موجودة وكأنني في حرب خرافية ووهمية مع طواحين الهواء!.. ولما علي أن أبرهن عن حقيقة نعيشها ويعرفها الجميع، يكفيني إنني احترم الآخرين من خلال نفسي.

وأنا والحمد لله مؤمن ولا أخاف الموت وهذه الأرض التي يتصارعون عليها من اجل بناء يعمرونه وارض يزرعونها وثياب يخيطونها ومجوهرات يتزينون بها ما هي إلا إكسسوارات مستعارة ولا نملكها لأننا سرعان ما نتركها لأحفادنا وهم بدورهم لأحفادهم إلى ما نهاية؟!.

والسعادة والتعاسة نبنيها بالتواصل والاعتراف بالأخر بأننا أبناء هذا الكوكب الجميل الذي نعيش فيه وقد اؤتمنا من الله خالق هذا الكون عليه وعلى ثرواته!؟.

ونحن بعد كل ذلك لسنا أكثر من مسافرين نمتطي ظهر هذا الكوكب في رحلة لا نعرف أين تنتهي؟.. فالثقوب السوداء الكثيرة حولنا تجذبنا إليها وقد يكون عبورنا من خلالها هو نفاذ إلى عالم أخر أجمل وأكثر رحابة وسلاما وأمنا، أو هو الدخول إلى بوابة الآخرة حيث الحياة الأبدية تقرها ما قمنا به من خير وشر... ونحن في الحالتين مسافرين شئنا أم أبينا.. وممتطين كوكب واحد صغير لا غيره هو الأرض... فلنتعايش بسلام واعتراف ومحبة... فهو كبير بنا وبحبنا وصغير بكرهنا وأنانيتنا.

وكوكبي ميلادي الذي يلمع كما تلمع مليارات الكواكب والنجوم لابد وان ينطفئ يوما كما انطفأت غيرها.. وأنا لست بأسف لأنني جزءاً من هذا الكون بضيائه وعتمته.. وهو قمة الوعي الإنساني الذي منحنا إياه الله وخلقنا لأجله!؟.

وأجمل ما في إيماننا ما وصانا به رسولنا الكريم بان نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا وان نعمل لأخرتنا وكأننا ميتون غدا.)

كانت الساعة قد قاربت السابعة صباحا عندما تناهى إلى سمع سالم ضحكات الطفل الصغير... -ابن الجيران- وهو يخبط بقدميه على صندوق -التدفئة المركزية- الخشبي وخيل إليه وهو يحاول الاستيقاظ بأنه لابد قد سمع بكائه في منتصف الليل... وتساءل إذا ما كان ذهنه صافي بما فيه الكفاية حتى يتذكر كل ما سمعه وما جال بخاطره تلك الليلة، أم أنها ليست إلا أضغاث أحلام!؟.

نهض سالم من فراشه ليستقبل أولى خيوط الشمس الذهبية ووقف خلف النافذة ينظر إلى الشارع وقد بدأ يمتلئ بالأطفال الذاهبين إلى مدارسهم، فتأمل خيرا، وشعر بدفء وسعادة عظيمة تجتاحه، بأنه والحمد لله لازال حيا، ويتمتع بالصحة والتفاؤل والسلام.
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59