عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 01-30-2012, 12:26 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ بالإسلام كله , كما جاء من عند الله جلَّ وعلا , فهو المقتدى الذي يُقتدى به , وأخذ به الخلفاء الراشدون عليهم رضوان الله , ولم يزل الأمر ينقص شيئاً بعد شئ في تحقيق كمال الإسلام إلى وقتنا هذا , « ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرُّ منه , حتى تلقوا ربَّكم » ؛ كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم .
الميزان هذا تنظر فيه ؛ كيف هو في تحقيق الأمور الشرعية ؟ كيف هو في الأمر بالصلوات كيف هو في النهي عن المنكرات ؟ كيف هو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يتعلَّق بالفرائض ؟ وفيما يتعلَّق بالنهي عن المحرمات ؟ إذا كان ذلك كاملاً ؛ دلَّ على الكمال , وإن كان ذلك ناقصاً ؛ دلَّ على النقص بحسب ذلك

وهذه الموازين مهمة لا بدَّ أن تكون في قلبك وعقلك , لا تفارقه أبداً , حتى لا تضل وقت حدوث الضلال , ولا تلتبس عليك الأمور وقت حدوث الالتباس .

إذا تبَّين لك ذلك , وتميَّزت لك الراية المسلمة من غيرها ؛ وجب عليك شرعاً أن توالى الراية المسلمة في الحق والهدى , توالى الراية المسلمة ؛ لأن الله جلَّ وعلا أمر بموالاة المؤمنين ,وحثَّ على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق :

ومن أول ذلك : أن يكون ولاؤك لتلك الراية صحيحاً , أن يكون ولاؤك للراية التي ترفع الإسلام صحيحاً ليس فيه زيغ , وليس فيه التباس , وليس فيه تردُد لأنه إما إسلام , وإما كفر فإذا ثبت الإسلام ؛ ترتَّبت الأحكام الشرعية على ذلك , ولا يحل لمسلم أن يجعل المعصية مبيحة لأن لا يلتزم بما أمره الله جلَّ وعلا أن يلتزم به رسوله صلى الله عليه وسلم من الولاء للمؤمنين والولاء للذين يقاتلون في سبيل الله.

الأمر الثاني : أن تنصح لتلك الراية نصحاً يعلمه الله جلَّ وعلا من قلبك , وأهل السنة والجماعة فارقوا أهل البدعة الذين يحبوُّن الفرقة , في أنهم ينصحون مَن ولاَّه الله جلَّ وعلا عليهم , ويكثرون الدعاء , ولو رأوا ما يكرهون ؛ فإنهم يكثرون الدعاء , وينصحون نصحاً يعلمه الله جلَّ وعلا من أنفسهم , أنهم ما أرادوا بذلك جزاءً ولا شكورا ؛ إلا من عند الله جلَّ وعلا لا من عند غيره , وهذا إذا ثبت في القلب ؛ كنا حقا من أهل السنة والجماعة .

طالعوا كتب عقائد أهل السنة والجماعة ؛ تروا أن فيها أبواباً مختصَّة بحقوق الإمام على الرعيَّة , وبحق الرعية على الإمام ؛ لأن ذلك به تحصل الجماعة , ويحصل به الالتفاف حول السنة والجماعة.

وهذا كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على النصح لأئمة المسلمين ولعاميتهم في حديث : الدين النصيحة , وإذا ثبت أن النصح واجب , وأنه لا بدَّ للمسلم أن ينصح ؛ فكيف تكون تلك النصيحة ؟ وكيف يكون ذلك البيان ؟ على ما جاء في السنة لا من عند أنفسنا .

ثبت في الحديث الصحيح أن عياض بن غنم قال لهشام ابن حكيم رضي الله عنهما وأرضاهما : ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( مَن أراد أن ينصح لذي سلطان ؛ فلا يبده علانية , ولكن ليأخذ بيده , ثم ليخلُ به , فإن قبل منه ؛ فذاك , وإلاَّ ؛ فإنه أدى الذي عليه ), رواه ابن أبي عاصم في السنة وغيره وصححه الألباني .

اسمعوا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم , وأنتم ولا شكَّ حريصون على السنة ؛ كما أن أهل السنة والجماعة حريصون عليها .

إذا ترتب على الموازين السابقة الراية المسلمة من غيرها ؛ ترتبت الحقوق الشرعية على تلك الراية , وعلى بيان أن تلك الراية مسلمة , وليست براية غير مسلمة .

من ذلك هذا الأمر المهم الذي أهميته تبرز عند تغير الأحوال وحدوث الفتن .


قال صلى الله عليه وسلم : مَن أراد أن ينصح لذي سلطان ؛ فلا يبده علانية , ولكن ليأخذ بيده , ثم ليخلُ به , فإن قبل منه ؛ فذاك , وإلاَّ ؛ فإنه أدى الذي عليه .

فهذا يجعلنا في طمأنينة , ويجعلنا في اتباع لما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم , إن أخذنا بذلك ؛ فنحن ناجون بإذن الله , وإن لم نأخذ به ؛ فسيصيبنا من القصور ومن المخلفة عن طريق أهل السنة والجماعة بقدر ما خالفنا من ذلك .

وتلك الموازين , إذا التبس على المسلم أو على طالب العلم : كيف يزن بها ؟ فالمرجع العلماء ؛ فإنهم هم الذين يزنون بالموازين الصحيحة , وهم الذين يقيِّمون بالتقييم الصحيح , وهم الذين يحكمون بالحكم الشرعي الصحيح .

ولهذا ؛ فإن الحكم بالإسلام من عدمه , الحكم بالإيمان أو الكفر , مرجعه إلى علماء أهل السنة والجماعة , لا إلى غيرهم من المتعلمين الذين ربما علموا بعضاً وجهلوا بعضاً آخر , أو ربما عمَّموا أشياء لا يجوز تعميمها .

فالحَكَم في ذلك لمن لم يستطع أن يزن بالميزان الصحيح من أهل العلم هم العلماء , وبقولهم يجب أن نأخذ , وبما صاروا إليه , والى ما صاروا إليه , يجب أن نأخذ في تقييم الإيمان والكفر , والوزن بتلك الموازين التي ذكرناها لكم .

مما يترتَّب على تلك الموازين كما قرر أهل السنة والجماعة : أن الجهاد ماض مع كل إمام أو سلطان ؛ برَّ أو فاجر , كل إمام أو سلطان , سواء كان برّاً أو كان فاجراً ؛ فإن الجهاد ماض معه , لا يجوز لأحد أن يتخلف عن راية الجهاد لأجل أن السلطان عنده مخالفات شرعية ؛ في أي وقت , وفي أي زمان .

وهذا الضابط لا بدَّ لك منه في كل وقت ؛ فربما يحدث في المستقبل في سنوات تستقبلها من عمرك ما لا نعلمه , فيكون عندك ما تضبط به أمرك , ويكون عندك ما تزن به أحوالك , وما تزن به أفكارك .

ومن ذلك – أي: من تلك الحقوق – الدعاء لمَنْ ولاَّه الله جلَّ وعلا الأمر .

يقول البربهاري رحمه الله ناصر السنة إمام من أئمة السنة والجماعة في كتابه السنة , وهو مطبوع موجود ؛ يقول : إذا رأيت الرجل يدعو للسلطان ؛ فعلم أنه صاحب سنة , وإذا رأيته يدعو على السلطان ؛ فعلم أنه صاحب بدعة .

والفضيل بن عياض كان يدعو كثيراً للسلطان في وقته , ونحن نعلم ما كان من سلاطين بني العباس في وقتهم من أمور , كان يدعو لهم كثيراً ؛ قيل له : تدعو لهم أكثر من دعائهم لنفسك ؟! قال : نعم ؛ لأنني إن صلحت فصلاحي لنفسي ولمَن حولي , وأما صلاح السلطان ؛ فهو لعامة المسلمين .

ولهذا ؛ مَن أراد صلاحاً عاماً في المسلمين ؛ فليعلم الله من قلبه أنه يدعو مخلصاً في أن يصلح الله جلَّ وعلا مَن ولاَّه الله على المسلمين , مَن ولاَّه الله أمر المسلمين , وأن يوفِّقه إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فإننا لا نرجو ولا نطمع في أكثر من أن يكون الهدى والعمل بالكتاب والسنة , والقلوب بيد الله جلَّ وعلا , هو الذي يقلبها.
* السادس من تلك الضوابط والقواعد :

أن للقول والعمل في الفتن ضوابط ؛ فليس كل مقال يبدو لك حسناً تظهره , وليس كل فعل يبدو لك حسناً تفعله ؛ لأن الفتنة قولك فيها يترتَّب عليه أشياء , ولأن الفتنة عملك فيها يترتَّب عليه أشياء .

فلا غرو أن سمعنا أبا هريرة رضي الله عنه يقول : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين : أما أحدهما ؛ فبثثته , وأما الآخر ؛ فلو بثثته ؛ لقطع هذا الحلقوم ! رواه البخاري في صحيحه .

قال أهل العلم : قول أبي هريرة : لقطع هذا الحلقوم ؛ يعني : أنه كتم الأحاديث التي في الفتن , والأحاديث التي في بني أمية , ونحو ذلك من الأحاديث وهو قال هذا الكلام في زمن معاوية رضي الله عنه , ومعاوية اجتمع الناس عليه بعد فرقة وقتال , تعلمون ما حصل فيه , وتعلمون تاريخه , فأبو هريرة كتم بعض الأحاديث ؛ لماذا وهي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! ليست في الأحكام الشرعية , وإنما في أمر آخر , لماذا كتمها ؟! لأجل أن لا يكون هناك فتنة في الناس , ولم يقل : إن قول الحديث حقِّ , وأنه لا يجوز أن نكتم العلم ؛ لماذا ؟ لأن كتم العلم في هذا الوقت الذي تكلَّم فيه أبو هريرة لا بدَّ منه ؛ لكي لا يتفرَّق الناس بعد أن يجتمعوا في عام الجماعة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه .

ويقول ابن مسعود فيما رواه مسلم في صحيحه : ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلعه عقولهم ؛ إلا كان لبعضهم فتنة .

الناس لا يتصورون كل كلام يقوله القائل فيما يتحدث به في كل أمر في الفتن ؛ فقد يسمعون منه أشياء لا تبلغها عقولهم , فيفهمون أشياء يبنون عليها اعتقادات , أو يبنون عليها تصرفات , أو يبنون عليها أحوالاً وأعمالاً وأقوالاً لا تكون عاقبتها حميدة .

لهذا كان السلف يعملون بذلك كثيراً .

أنظر إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى حيث أنكر على أنس بن مالك رضي الله عنه حين حدث الحجاج بن يوسف بحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم للعًرَنيين ؛ قال لأنس وأنكر عليه : لم تحدث الحجاج بهذا الحديث ؟! قال له لأن الحجاج عاث في الدماء , وسيأخذ هذا الحديث يتأول به صنيعه , فكان واجباً أن يُكتم هذا الحديث وهذا العلم عن الحجاج ؛ لكي لا يكون في فهمه وعقله – الذي ليس على السواء وليس على الصحة – أن هذا الحديث يؤيده , أو أن هذا الحديث دليل معه , فيفهمه على غير فهمه .

فالحسن رحمه الله أنكر على أنس رضي الله عنه –وهو الصحابي – تحديثه , وندم أنس رضي الله عنه بعد ذلك على تحديثه الحجاج بحديث العُرَنيين .

وحذيفة – قبل أبي هريرة – كتم أحاديث من أحاديث الفتن , لأنه رأى أن الناس لا يحتاجونها .

والإمام أحمد كره أيضا التحدث بالأحاديث التي فيها الخروج على السلطان , وأمر أن تشطَب من مسنده ؛ لأنه قال : لا خير في الفتنة , ولا خير في الخروج .

وأبو يوسف كره التحدث بأحاديث الغرائب.
ومالك رحمه الله كره التحديث بأحاديث فيها ذكر لبعض الصفات .

المقصود من هذا : أنه في الفتن ليس كل ما يعلم يُقال , ولا كل ما يُقال يُقال في كل الأحوال.

لا بدَّ من ضبط الأقوال ؛ لأنك لا تدري ما الذي سيحدثه قولك ؟ وما الذي سيحدثه رأيك ؟ وما الذي سيحدثه فهمك؟

والسلف رحمهم الله أحبو السلامة في الفتن , فسكتوا عن أشياء كثيرة ؛ طلباً للسلامة في دينهم , وأن يلقوا الله جلَّ وعلا سالمين .

وقد ثبت أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال لابنه حين حدَّث في القيام ببعض الأمر في الفتنة ؛ قال لابنه : يا هذا ! أتريد أن تكون رأساً في الفتنة ! لا , لا والله .

فنهى سعد بن أبي وقاص ابنه عن أن يكون سعد أو أن يكون أبنه رأساً في الفتنة , ولو بمقال أو بفعال , ولو رآها حسنة صائبة ؛ فإنه لا يأمن أن تكون عاقبتها غير حميدة .

والناس لا بدَّ أن يزنوا الأمور بميزان شرعي صحيح , حتى يَسْلَموا, وحتى لا يقعوا بالخطأ .

ثم إن للأعمال وللأفعال وللتصرفات ضوابط لا بدَّ من رعايتها ؛ فليس كل فعل يُحمد في حال يُحمد في الفتنة إذا كان سيفهم منه غير الفهم الذي يُراد أن يُفهم منه .

فالنبي صلى الله عليه وسلم – كما روى البخاري في الصحيح – قال لعائشة : لولا حدثان قومك بالكفر ؛ لهدمت الكعبة , ولبنيتها على قواعد إبراهيم , ولجعلت لها بابين .

النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يفهم كفار قريش الذين أسلموا حديثاً من نقضه الكعبة , ومن بنائه إياها على بناء إبراهيم , ومن جعله لها بابين : باب يدخل منه الناس , وباب يخرجون منه ؛ خشي أن يفهم منه الناس فهماً غير صائب , وأن يفهموا أنه يريد الفخر , أو أنه يريد تسفيه دينهم – دين إبراهيم - , أو نحو ذلك ؛ فترك هذا الفعل.

ولهذا ؛ بوَّب البخاري – رحمه الله – باباً عظيماً استدلَّ عليه بهذا الحديث ؛ ماذا قال ؟ قال : باب : من ترك الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه .

وذكر البخاري تحت هذا الباب هذا الحديث النبوي .

وعند ذلك نعلم أنه لا بد َّ من الفهم ؛ فالسرعة والتعجُّل أمور غير محمودة , فمَن الذي يلزمك بأن تتكلَّم في كل مجلس أو أن تتكلَّم في كل مجتمع بما تراه حقَّاً في الفتن ؟

فالحق يبيِّنه علماء السنة والجماعة , فإن كان عندك رأي أو فهم ؛ فاعرضه عليهم , فإن قبلوا ؛ فذاك , وإلا ؛ فقد برئت ذمتك من إطلاع عامة المسلمين على رأيك .

* السابع من تلك الضوابط والقواعد :

أن الله أمر بموالاة المؤمنين وخاصة العلماء :

فالمؤمنون والمؤمنات – كما قال جلَّ وعلا - : ( بعضهم أولياءبعض ) ؛ كل مؤمن لا بدَّ له وفرض عليه : أن يحب المؤمنين , وأن ينصرهم وأن يجتنب السخرية منهم ؛ فكيف إذا كان أولئك المؤمنون هم أنصار شرعة الله , وهم الذين يبيَّنون للناس الحلال والحرام , وهم الذين يبيَّنون لناس الباطل ؟!

فيحرم أن يذكر العلماء إلا بخير .

والمجالس التي يذكر فيها العلماء بغير خير مجالس سوء .

لماذا ؟ لأن العلماء ورثة الأنبياء ؛ فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً , وإنما ورَّثوا العلم , فمَن أخذه ؛ أخذ بحظٌّ وافر .

فمن أحترم العلماء , وأجلَّ العلماء , وأخذ بمقال العلماء أهل السنة والجماعة – أهل التوحيد - ؛ فإنه أخذ بميراث النبوة , ولم يدع ميراث النبوة إلى غيره .

والعلماء الذين يرجع إلى قولهم ويوالَوْن ويحبون : صفتهم : أنهم :

أولاً : هم أئمة أهل السنة والجماعة في وقتهم , وأئمة التوحيد , والذين يرجع إلى قولهم في التوحيد في وقتهم .

ثانياً : ثم هم : أهل الشمولية في معرفة الأحكام الشرعية , فيعلمون الفقه بأبوابه كلها , ويعلمون قواعد الشرع , والأصول المرعية , فلا يكون عندهم التباس , ولا خلاف بين المسألة والأخرى , ولا بين القضايا بعضها مع بعض .

وعند ذلك ؛ لا بدَّ وأن نذكر مسألة مهمة , وقع فيها كثيرون , وهي قول القائل :

إن علماءنا في هذا الوقت لا يفهمون الواقع !! حتى بلغ من أحدهم أنه قال في مجتمع صغير له مع بعض إخوانه : إنه استفدنا من هذه الأحوال وهذه الحوادث : تميز العلماء إلى أناس يفهمون الواقع ويبنون عليه الأحكام الشرعية , وأنا من العلماء لا يفهمون الواقع !!!

ووالله إنها لمقالة سوء , تدل على عدم فهم ما تُبنى عليه الأحكام الشرعية , وما يأخذ به العلماء , وما يرعونه من الفهم , ومالا يرعونه .
فإن الفهم للواقع – عند أهل العلم – ينقسم إلى قسمين :

* القسم الأول : فهم لواقع ينبني عليه الحكم الشرعي ؛ فهذا لا بدَّ منه , وفهمه مُتعيّن , ومن حكم في مسألة دون أن يفهم واقعها ؛ فقد أخطأ.

فإذا كان للواقع أثر في الحكم ؛ فلا بدَّ من فهمه.

* القسم الثاني : واقع لا أثر له في الحكم الشرعي ؛ فإنه يكون من الواقع : كيت وكيت , وكذا وكذا , وقصصاً طوالاً ... ولكن لا أثر لذلك الفهم , ولذلك القصص , ولتلك الأحوال ؛ لا أثر لها في الحكم الشرعي أبداً .

فعند ذلك ؛ العلماء لا يأخذون بها , وإن فهموها , وليس معنى ذلك أن كل واقع عُلِم تُبنى عليه الأحكام الشرعية .

سأضرب أمثلة للأمر الأول , وأمثلة للأمر الثاني ؛ فكونوا منها على بينة وفهم :
* أما أمثلة الأمر الأول – وهو أن فهم الواقع ينبني عليه الحكم الشرعي -:

- فمن ذلك مثلاً : مسألة متى يُحكم على الميت بأنه مات ؟ هل هو يموت بقلبه ؟ أو هو بموت دماغه ؟

هذه مسألة حادثة , لو أتى متكلم فيها , وتكلم دون أن يعلم واقعها , ودون أن يعلم أحوالها ؛ لا بدَّ أن يقع في خطأ في الحكم ؛ لأن فهم واقع المسألة وتلك القضية ؛ له أثر في الحكم الشرعي .

- مثال آخر : مثلاً الحكم على الدول , والحكم على الأوضاع ؛ بأن دولاً ما مسلمة أو غير مسلمة ؛ كيف يتهيأ لي أن أحكم على دولة بأنها مسلمة أو غير مسلمة دون أن نعرف حقيقة أمرها ودون أن أفهم واقعها ؟!

هذا أمر لا بدَّ أن يفهم الواقع فيه , حتى يصدر العالم الحكم الشرعي , فإذا فهم ذلك الواقع ؛ أصدر الحكم الشرعي بناءً على فهمه لذلك الواقع .

- ومن ذلك أيضاً مثلاً : الجماعات الإسلامية الكثيرة , التي قامت في وقتنا الحاضر مختلفة , وبعضها يختلف عن بعض ؛ هل يتسنَّى للعالم الشرعي أن يحكم عليها , أو أن يقيِّمها ؛ دون أن يفهم واقعها , وما هي عليه من المعتقدات ؟ ومن الأصول؟ ومن المناهج ؟ ومن الأفكار والرأي ؟ وكيف سبيل دعوتها ؟

لا يمكن له ...
لا بدَّ إذن من أن يفهم واقعها ؛ لأن فهم الواقع هنا له أثر في الحكم الشرعي , ومَن حكم دون فهم ذلك الواقع ؛ فإن حكمه الشرعي لن يوافق صواباً .

* القسم الثاني: أحوال وقضايا فهم الواقع فيها لا أثر له في الحكم الشرعي :

- فمن ذلك مثلاً : ما يتردد بين الخصمين عند القاضي : يأتي خصمان عند قاض , هذا يبدي ما حصل له في المسألة ؛ ما حصل بينه وبين خصمه , وحصل كذا وكذا بكلام يطول- يعلمه القضاة - , لكن كل ذلك الكلام الكثير الذي هو من الواقع لا يثبته القاضي في القضية ؛ لأنه وإن كان واقعاً ؛ فإنه لا أثر له على الحكم , وإنما هو واقع لا ينبني عليه الحكم .

ولذلك يقول المفتي أو يقول القاضي في مثل ذلك : ولو كان كذا , ولو كان كذا ؛ يعني : أن ما ذكرته من الواقع لا أثر له شرعاً في الحكم الشرعي.

- مثال آخر :مثلاً نرى في وقتنا الحاضر – وهذا مثال أقرب به إلى الأذهان هذه المسألة – أن كثيراً من الدعاة – كبار السن بعض الشيء – يخالطون صغار السن , ويدعونهم ويرشدونهم ويحببون لهم الهدى والصلاح , إما في المنتديات العامة , أو في المكتبات , أو في نحو ذلك.

ونحن نعلم أنه يحصل من اختلاط الكبار بالصغار مفاسد – بل ومحرمات - , ونعلم ذلك من بعض الأحوال على وجه التفصيل .

وفهمنا لذلك الواقع لا يجعلنا نحكم على دعوة الكبار للصغار بأنها لا تجوز.

وإنما فهم ذلك الواقع السيئ لا أثر له في الحكم على الدعوة بأنها غير مشروعة من الكبير للصغير .

ولكن فهمنا لذلك الواقع فيه عرض لمسألة أخرى , وهي : أن ينصح ويرشد مَن وقع في الخطأ , أو وقع في محرم , أو لبس شيئا غير شرعي , أو لا يرضاه الله : أن ننصحه بالتوبة .

فكان ذلك الواقع فهمه لا أثر في الحكم الشرعي من الجواز وعدمه , وإنما له أثر في النصيحة هناك في من وقع في ذلك الأمر , حتى يقوم بالحق دون إتيان بالمنكر , أو دون غشيان لما لا يحبُّه الله ورسوله.

هذه أمثلة لا أطنب فيها , إنما هي لتقريب الأمر إليكم .

- مثال أيضاً مما ينبغي أن ينبَّه عليه : أن هناك أحكاماً شرعية يعتقد الناس والعامة فيها اعتقاداً غير صحيح , مثال ذلك : النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه بال واقفاً .

فالبول واقفاً عند أمن تطاير الرشاش والبول والنجاسة على البدن أو على الثياب جائز ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله .

ولكن الجهال والعامة يعتقدون فيمن فعل ذلك الفعل أنه وقع في خطأ , وأنه فعل فعلاً من خوارم المروءة , وأنه كذا وكذا ....

هذا الاعتقاد منهم – اعتقاد الجهال – لا يعني أن الحكم غير صحيح , أو لا يؤخذ به , وإنما هذا الأمر – بجواز البول واقفاً – لا شك أنه ثابت وصحيح , لا مراء في ذلك , وخطأ الجاهل في اعتقاده ,وخطأ الجاهل في تصوره فيما يتعلَّق بذلك الحكم الشرعي – أو بأي حكم تعلق الجاهل فيه باعتقاد خطأ – علاجه بتوعية الجاهل , ليس علاجه بتغيير ما رآه العالم حكماً شرعيّاً صحيحاً .

* الثامن من تلك الضوابط والقواعد :
وهو ضابط مهم , لا بدَّ من أن يكون لك على بال , هو ضابط التولي للكفار :

فهاهنا عندنا في الشرع , وعند أئمة التوحيد , لفظان لهما معنيان , يلتبس أحدهم بالآخر عند كثيرين :

الأول : التولي .
الثاني : الموالاة .

التولي : مكفر .
الموالاة : غير جائزة.

والثالث : الاستعانة بالكافر واستئجاره : جائزة بشروطها .

فهذه ثلاث مسائل .
* أما التولي ؛ فهو الذي نزل فيه قول الله جلَّ وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51)

وضابط التولي : هو نصرة الكافر على المسلم وقت الحرب المسلم والكافر , قاصداً ظهور الكفار على المسلمين .

فأصل التولي : المحبة التامة , أو النصرة للكافر على المسلم , فمَن أحب الكافر لدينه ؛ فهذا قد تولاَّه تولياً , وهذا كفر .

* وأما موالاة الكفار ؛ في مودتهم , ومحبتهم لدينهم , وتقديمهم , ورفعهم , وهي فسق وليست كفراً .

قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (الممتحنة:1)

قال أهل العلم : ناداهم باسم الإيمان , وقد دخل في النداء من ألقى المودة للكفار , فدلَّ على أن فعله ليس كفراً , بل ضلال عن سواء السبيل .

وذلك لأنه ألقى المودة, وأسر لهم ؛ لأجل الدنيا , لا شكّاً في الدين .

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمَن صنع ذلك : ما حملك على ما صنعت ؟ . قال : والله ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله , أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي ... الحديث أخرجاه في الصحيحين .

فمن هذا يتبيَّن أن مودة الكافر والميل له لأجل دنياه ليس كفراً إذا كان أصل الإيمان والاطمئنان به حاصلاً لمن كان منه نوع موالاة .

* وأما الاستعانة بالكافر على المسلم أو استئجاره ؛ فهذا قال أهل العلم بجوازه في أحوال مختلفة ؛ يفتي أهل العلم في كل حال , وفي كل واقعة , بما يرونه يصح أن يُفتى به .

وأما إعطاء الكفار أموالاً صدقة أو للتآلف أو لدفع الشرور فهذا له مقام آخر , وهو نوع آخر غير الأقسام الثلاثة .


* وآخر تلك الضوابط والقواعد :

أن لا تطبق - أيها المسلم – أحاديث الفتن على الواقع الذي تعيش فيه ؛ فإنه يحلو للناس عند ظهور الفتن مراجعة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن , ويكثر في مجالسهم : قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا ؛ هذا وقتها , هذه هي الفتن ! ونحو ذلك .

والسلف علَّمونا أن أحاديث الفتن لا تنزَّل على واقع حاضر , وإنما يظهر صدق النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر به من حدوث الفتن بعد حدوثها وانقضائها , مع الحذر من الفتن جميعاً .

فمثلاً : بعضهم فسر قول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الفتنة في آخر الزمان تكون من تحت رجل من أهل بيتي ؛ بأنه فلان ابن فلان , أو أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : حتى يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ؛ بأن المقصود به فلان ابن فلان , أو أن قال النبي صلى الله عليه وسلم : يكون بينكم وبين الروم صلح آمن ... إلى آخر الحديث وما يحصل بعد ذلك ؛ أنه في هذا الوقت .

وهذا التطبيق لأحاديث الفتن على الواقع , وبث ذلك في المسلمين , ليس من منهج أهل السنة والجماعة .

وإنما أهل السنة والجماعة يذكرون الفتن وأحاديث الفتن ؛ محذِّرين منها, مباعدين للمسلمين عن غشيانها أو عن القرب منها ؛ لأجل أن لا يحصل بالمسلمين فتنة , ولأجل أن يعتقدوا صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم .

* * * * *

وفي الختام...

أسأل الله جلَّ وعلا أن يرينا الحقَّ حقّاً ويرزقنا اتِّباعه , وأن يمنَّ علينا بائتلاف وقوة في الحق وثبات عليه , وأن يجعلنا من الذين يلتزمون بمنهج أهل السنة والجماعة وبعقائدهم ؛ من أول عقائدهم إلى آخرها,لا نفرق بين شئ مما قالوه أو وضعوه أو استدلوا عليه بالأدلة الشرعية .

اللهم إنا نسألك أن تجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن , وأن ترزق المسلمين صلاحاً في أنفسهم وفي ولاتهم , وأن تدلَّهم على الرشاد , وأن تباعد بينهم وبين أهل الزيغ والفساد , يارب العالمين .

ونسأل الله أن يجعلنا من المرحومين , وأن يختم لنا بالحسنى , وأن يجعل هذا الأمر , وهذه الفتن التي ظهرت عاقبتها حميدة للمسلمين , يارب العالمين .

و صلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداه إلى يوم الدين ....

* * * * * * * * * *
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59