عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-07-2012, 02:55 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

- السلطة الثقافية والسلطة السياسية

ليس المقصود بالسلطة هنا ما تعارف عليه الناس فيما بينهم: أي مجموعة المؤسسات والأجهزة التي تمكن أصحابها من إخضاع المواطنين في دولة معينة، فالدولة هي المؤسسة التي تملك في إطار مجتمع ما احتكار العنف المشروع([1]). فنحن لا نرى في السلطة موضوعاً سياسياً صرفاً يتجسد في كيان ما، وإنما نقصد بها وضعية معقدة للعلاقات في مجتمع ما، وهي علاقات تُمارس انطلاقاً من نقاط لا حصر لها، وفي إطار تناسبات متحركة غير متكافئة. فهي نتاج مباشر للتقسيمات، واللاتكافؤات، والاختلافات التي تقوم في داخل تلك العلاقات. وعلى ذلك فإن السلطة تتجسد في كل الآليات التي تتحكم في العلاقات الاجتماعية بشكل عام، وتصبح بذلك مجموع علاقات القوى والآليات المتعددة في مجتمع ما، في زمان ومكان معينين، والتي ينتج عنها المفهوم الشائع للسلطة. فالسلطة من خلال ذلك موجودة في كل زمان ومكان، حيث توجد العلاقات الاجتماعية، ولا يمكن إزالتها أبداً، وإنما يجب التعامل معها. وأي سلطة هي علاقة يجب تحليلها وفهمها من خلال طرفيها: الطرف الأول الذي تصدر عنه الرسالة أو الأمر، والطرف الثاني الذي يتلقى تلك الرسالة أو يخضع لذلك الأمر([2]). وطريقة ممارسة السلطة وتطبيقها في الواقع تتعلق أيضاً بهذين الطرفين، وبحسب العلاقة بينهما تكون العلاقة جدلية، وتتخذ السلطة أشكالها المختلفة فتصبح رضائية، أو إلزامية، أو قسرية تعتمد على القوة والعنف([3]).
وكل فرد في المجتمع هو عضو فعال في خلق السلطة، فنحن نصنع السلطة، ثم ننتمي، في إطار النظام الإنساني، إلى واحد من أشكالها، ونقوم بأدوارنا الاجتماعية انطلاقاً من هذا الانتماء، ونتكيّف في سلوكنا معه. إن هذا يعني أننا ننطلق في وجودنا السلطوي الاجتماعي من الحرية إلى الالتزام، ومن الاختيار إلى الإكراه، فالسلطة لا تتولد من تعارض بين المُسيطِر ومن يقع تحت السيطرة، وإنما من علاقة تنشأ بين الجانبين معاً.
فما من جماعة بلا سلطة، ولكل جماعة بشرية سلطة تتخذ شكلها الخاص بها من شكل النظام الإنساني فيها، وكل من الطرفين المُسيطِر والمُسيطَر عليه يتدخل في صياغة نوع السلطة السائدة بينهما، وتحديد شكلها.
هذا هو المفهوم العام للسلطة، وهو يوحي بوجود أشكال عديدة للسلطة في داخله([4]). ويمكننا أن نعيد كل هذه الأشكال إلى نوعين: السلطة الثقافية "AUTORITÉ"، والسلطة السياسية "POUVOIR". ولكي نفهم هذين المصطلحين يجب دائماً أن نتصور وجود طرفين تربط بينهما علاقة يمكن تحديدها على مستويين: هما السلطتان الثقافية والسياسية أو على مستوى واحد فقط. ويمكن أن يكون هذان الطرفان شخصين أو فئتين من الناس أو حزبين، أو الحكومة والشعب في دولة ما، أو أن يكونا دولتين مختلفتين.
2-1- السلطة الثقافية

يمكننا أن نجد تعريفاً وافياً لهذا المصطلح في "المعجم النقدي للعلوم الاجتماعية"([5]) نستطيع إيجازه فيما يلي: السلطة الثقافية هي العلاقة التي تنشأ بين طرفين، يكون فيها للطرف الأول هيمنة على الثاني، تجعل الثاني يفعل ما يريده الأول عن طريق الاقتناع بما يفعله، وليس تحت الضغط والإكراه أو الإلزام المادي أو القانوني. فهي علاقة تقوم على انتماء الطرف الثاني العفوي واللا واعي؛ أو الواعي الإرادي، إلى ما يصدر عن الطرف الأول من أقوال أو أفعال. ويَخضَع الطرف الأول نَفْسُهُ، في أقواله وأفعاله، إلى الغايات والأهداف التي يسعى الطرف الثاني إلى تحقيقها بخضوعه للطرف الأول. فالعلاقة بين الطرفين تقوم على مصلحة ما متبادلة بينهما، ولا تقوم على حساب طرف واحد منهما.
2-2- السلطة السياسية

يعرِّف عالم الاجتماع الألماني ماكس وبر السلطة السياسية بأنها "القدرة التي تمكِّن (أ) من الناس من جعل (ب) من الناس يفعل ما قد لا يفعله بمحض إرادته، وبشكل يتفق مع أوامر (أ) أو مقترحاته"([6]). فالسلطة السياسية، في هذا التعريف تأتي، على العكس من السابقة، من مصدر يقع خارج من يخضع لها. ويتنوع هذا المصدر كثيراً، فيتراوح بين الإقناع والقسر والإلزام. وتكون ردود فعل من يخضع لهذه السلطة متفاوتة بقدر هذا التنوع، فقد يكون رد الفعل هو الانتماء إلى ما يأمر به (أ)، وقد يكون الخضوع والاستسلام، كما قد يكون الرفض والتمرد. إنّ قدرة (أ) تلك إنما تقوم على حساب حرية الطرف الآخر ووجوده، كما أنها قد تقوم على اتفاق بين الطرفين يصوغ تلك العلاقة، ويحددها. ويضيف وبر أن سلوك (ب) يرتبط مباشرة بـ (أ)، وذلك لأنّ (ب) يستجيب في تصرفاته، سلباً أو إيجاباً، إلى رغبات (أ) واقتراحاته. وبشكل عام فإن سلوكه يرتبط بشكل (أ) ومنهجه في الوجود.
إن هاتين السلطتين لا توجدان مستقلتين على الإطلاق، فالعلاقة بينهما قائمة مهما اختلفت أشكالها، وهما في الأصل واحد في التطبيق. ودراستهما، مفردتين أو مجتمعتين، تقوم على الرد عن الأسئلة الآتية: ما طبيعة المصادر التي يستمد منها الطرف الأول هيمنته؟ وما ردود الفعل المتوقعة عند الطرف الثاني في استجابته لهذه الهيمنة؟ وأخيراً، ما العلاقة بين الطرفين في كل من هاتين السلطتين من جهة، وبينهما مجتمعَين في العلاقة بين السلطتين من جهة ثانية؟ ولا شك في أنّ الإجابة عن كل هذه الأسئلة ليست سهلة على الإطلاق، وليس بإمكان باحث واحد القيام بها بمفرده، وإنْ تعلّق الأمر بحصر الدراسة في العلاقة بين شخصين اثنين.
إنّ ما عرضناه من آراء نظرية يشكل ظاهرة إنسانية تاريخية عامة، فهذه الآراء ما هي إلا نتيجة قراءة التاريخ الإنساني، إلا أن ذلك لا يمنع أن لكل حضارة خصوصياتها وأشكال السلطة الخاصة بها. وهذا ما سنعرضه في الفقرات الآتية المخصصة للعلاقة بين السلطة الثقافية والسلطة السياسية في التاريخ العربي الإسلامي. وسوف نقسم الدراسة على مرحلتين: الأولى نتكلم فيها على الأصول الثقافية التاريخية للعلاقة بين السلطة والمثقف في زمان الرسول r، ومن بعده في عصر الخلفاء الأربعة الأوائل، إلى نهاية القرن الرابع الهجري. وما سنتوصل إليه من نتائج في هذه المرحلة يمكن تعميمه على التاريخ العربي الإسلامي حتى نهاية الدولة العثمانية وظهور مفهوم الدولة الحديثة مع ثورة الشريف حسين. والمرحلة الثانية سوف تغطي الفترة الممتدة من هذه الثورة إلى نهاية القرن العشرين عند العرب المعاصرين.

¡r¡


([1]) ريمون آرون في مقدمته لكتاب : LE SAVANT ET LE POLITIQUE ***ER, Max PLON. PARIS, 1986. P / 24

2)) Dictionnaire critique de la sociologie, P.U.F. Paris 1982 . P /24-29

(3) المصدر السابق،ص / 27

([4]) انظر أنواع هذه السلطة في كتاب (السلطة السياسية) – جان وليام لابيار، تر/ الياس حنا الياس.

([5]) Dictionnaire critique de la sociologie, /Article: Autorité. P / 24 – 29 وانظر أيضاُ المصطلح نفسه في : ( Encyclopaedia Universalis )

([6]) المصدر السابق،بحث Pouvoir، ص 425 /
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59