عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 04-25-2012, 02:33 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي الوكالة الأمريكية لمراقبة الأغذية والأدوية


د محمد يوسف عدس

في هذه السلسلة من المقالات لا أكشف للقارئ فقط مجرد حقائق أو معلومات عن حالة الإنسان المعاصر الذي قُدّر له أن يحيا تحت سطوة التكتلات الاحتكارية مُستغَلاً مُروّعاً مذعوراً من هواجس الفقر والمرض والأوبئة واستلاب الحرية.. إنما أحاول أن أكشف عن الأوضاع التي آلت إليها حضارة عالمية أرى أنها أوشكت على الانهيار.. وليتذكر هذا عني من قُدّر له أن يشهد السنوات العشر أو العشرين القادمة مٍِِِن تغيّرات متسارعة...!



(1)

الوكالة الأمريكية لمراقبة الأغذية والأدوية: في مارس 1972 وبعد استفسارات ملحّة من جانب بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي اضطرت هذه الوكالة إلى الكشف عن معاييرها وشروطها التي تطبقها على صناعة الأغذية الأمريكية وهي المعايير التي تُلحق بها دائماً وصف "المعايير النظيفة..!" في هذه المعايير النظيفة التي تقوم بتطبيقها على الصناعات الغذائية أشياء تثير العجب فهي مثلاً: تسمح بوجود فضلات فئران بنسبة (ذبلة) واحدة في كل باَيِنْت من القمح وعشرة بيضات ذباب لكل 8.5 أوقية من عصير الفاكهة المعلّبة، وخمسين نتفة من حشرات ميتة أو شعرتين من القوارض في كل 3.5 أوقيّة من معجون الفول السوداني..

ولسنوات عديدة ظلت معايير هذه الوكالة تسمح بوجود هرمون (DES) لتسمين العجول، ثم اكتشفت بعد ذلك أن أي آثار مهما كانت طفيفة من هذا الهرمون في لحم العجول يصيب آكلها بالسرطان، فاضطرت أخيراً إلى تحريم استخدامه.. ولكنها في نفس الأسبوع الذي أعلنت فيه هذا القرار الجديد سمحت بوجود نفس الهرمون في أقراص منع الحمل للنساء بنسبة خمسين ملليجرام في كل قرص، تتناولها السيدة المتزوجة يومياً لمدة خمسة أيام في الشهر.. وقد علق أحدُ مُربيّ العجول ساخراً فقال: إن الوكالة قد سمحت للنساء بتناول كمية من الهرمون في خمسة أقراص تعادل كمية الهرمون الموجود في 262 طن من كبد البقر الذي يضاف إلى غذائه هرمون (DES).

وطبقاً للدراسات المسحية يوجد ثلاثة آلاف من أنواع الكيماويات تستخدم في صناعة المنتجات الغذائية وتلوينها وحفظها.. وبصفة عامة لتغيير خصائصها.. بعض هذه المواد المضافة بالمقادير المعلن عنها لا بأس به.. ولكن معظمها تشكل خطراً حقيقياً على الصحة (مع الاستخدام طويل الأمد) كما هو الحال بالنسبة لهرمون (DES) والأدلة على هذا كثيرة.. وقد أثيرت هذه الاعتراضات وترددت كثيراً في الإعلام الأمريكي..! فماذا كان رد فعل الوكالة المسئولة عن مراقبة الأغذية والأدوية...؟

كان الردّ صادماً.. فبدلاً من أن تندفع لفتح معركة لحماية الإنسان الأمريكي المستهلك كما فعلت في حملتها ضد الأطعمة الصحية الطازجة والفيتامينات التي قيّدت استخدامها بشروط وكميات محدّدة وحرّمت بعضها تحريماً مطلقاً.. بدلا من ذلك تراخت وأهملت النقد.. وبهذا الموقف السلبي دعّمت الوضع الراهن.. وستجد أن الوكالة في كلتا الحالتين الدعم أو الحظْر كان دائماً استجابة وتأكيداً لاحتكارات صناعة الأغذية والأدوية الكيميائية.. ذلك لأنها تعلم أن رفضها أو معارضتها لهذه الإضافات الضارة في الأطعمة المصنّعة يترتب عليها تدمير هذه الصناعة.. فلا الشركات بقادرة على الاستغناء عن هذه المواد ولا الناس مستعدّون للمخاطرة بصحتهم إذا وعوْا هذه الحقائق..

انظر إلى تصريح لأحد كبار موظفي الوكالة نعرضه كعيّنة تبرز حقيقة الاستهانة والاستخفاف بعقول الناس وصحتهم يقول: "الفروق بين الأطعمة المصنّعة والأطعمة الطبيعية الطازجة فروق طفيفة.." وكالعادة يستند إلى نتائج أبحاث علمية يصعب التحقق من صحتها.. ثم يضيف ببجاحة فيقول: ".. كما أن المخصّبات الكيماوية لا تسمّم أرضنا الزراعية كما يزعم البعض.. فهذه المخصّبات الحديثة مطلوبة لإنتاج غذاء كافٍ لشعبنا.. أما المبيدات الحشرية فإنها وإن تركت بعض الآثار على المحاصيل الغذائية فإن الوكالة تؤمن أن كمية هذه الآثار تظل في حدود المأمون بالنسبة لصحة المستهلك.. كما أن الفيتامينات المركّبة كيميائياً تفيد الصحة شأنها في ذلك شأن الفيتامينات التي تأتي من مصادر طبيعية..".

(2)

وفي نوفمبر 1971 أصدرت الوكالة نشرة خاصة عن تعريف الغشّ والشعوذة تقول فيها: "يجمع مصطلح الشعوذة كُلاَّ من الناس والمنتجات.. وبصفة عامة فإن الشعوذة تنطوي على معلومات خاطئة عن الصحة".. وهنا نسأل: هل ما تسمح به معايير الوكالة من هرمونات وقذارات في الأطعمة.. وحديثها عن السماد الكيمائي والمبيدات الحشرية وعن الفيتامينات المركّبة كيماوياً من قبيل المعلومات الطبية الصحيحة..!؟ من ناحية أخرى نجد أن قاموس أكسفورد العالمي يحدّد المشعوذ بأنه الشخص الذي يقدّم معلومات عن موضوعات يجهلها..." ويعلق جي إدوارد جريفين على ذلك بقوله: " بأي واحد من هذين التعريفين ستجد أن المتحدث باسم الوكالة المحترمة هو أكبر مشعوذ في العالم.. وإذا مضينا خطوة أبعد في هذا الاتجاه يمكن أن نقول: يوجد فارق هام بين المشعوذ والدّجال.. فالمشعوذ يمكن اعتباره في بعض الأحيان شخصاً أميناً.. ذلك إذا كان يعتقد فعلاً أنه بكلامه يساعد مريضه على الشفاء.. أما الدجّال فهو يعلم أن الأدوية التي يقدّمها أو يوصي بها لا تؤدي إلى علاج أو شفاء، ومن ثمَّ يمكن أن يوصف شخص ما بأنه مشعوذ أو دجال ولكن من المحتمل أيضاً أن يكون الشخص مشعوذاً ودجّالاً في نفس الوقت، ويبدو أن المتحدث الرسمي للوكالة يتمتع بالصفتين معاً.

(3)

سنة 1960 جرى تحقيق في الكونجرس الأمريكي.. وكان تحقيقاً مشهوراً في ذلك الوقت.. موضوعه تقارير صحفية عن تلقَّي القيادات الكبرى في الوكالة هدايا كبيرة من الشركات التي كان من المفترض أنهم (بحكم عملهم وواجباتهم) يقومون بالرقابة عليها.. ومن أمثلة ذلك: دكتور هنري ولْش مدير قسم المضادّات الحيوية في الوكالة الذي تلقّى رشوة قدرها 287 ألف دولار.. في حفلات تكريم مشبوهة، وكان رؤساؤه يعلمون ذلك ولكنهم أغمضوا أعينهم في بادئ الأمر.. فلما فاحت رائحة الرشوة خارج نطاق الوكالة.. وبدأت الصحافة تنشر عنها معلومات مفصّلة وتأكدت التهمة في تحقيقات الكونجرس طلبوا إليه تقديم استقالته..

(4)

قبل ذلك في سنة 1940 كانت قد تفجّرت فضيحة أكبر تبيّن فيها أن هدف الوكالة ليس هو حماية الشعب الأمريكي كما تدّعي ولكن حماية الكارتلاّت.. ففي ذلك الوقت كانت مصانع (وِنْثروب) للكيماويات تحت هجوم صحفي عاتٍ لتصديرها أربعمائة ألف قرص عليها عنوان (سلفا ثيازول) ولكن وُجد بكل قرص خمس حبّات من عقار (لومينال) كانت الحبة الواحدة منها تؤدي إلى نوم المتعاطي إلى الأبد.. وتبين بالفعل أنها تسبّبت في موت 17 ضحية في مناطق مختلفة بالولايات المتحدة. ومع ذلك لم تسارع الشركة بإخطار الجمهور مباشرة بالخطورة المحقّقة من تعاطي هذه الأقراص.. وبدلاً من ذلك استدعت رصيدها من الأصدقاء في الجمعية الأمريكية للأطباء وفي مجلس الدواء والكيماويات لتعزيز موقفها.. وبذلك زاد أعداد الضحايا وتفاقمت المشكلة.. وكانت الوكالة متعاطفة مع شركة ونْثروب وداعمة لها على طول الخط.. مستخدمة سلطاتها الإدارية.. فمثلاً دكتور كِلمْب Klump مدير قسم العقاقير ودكتور كامْبل مدير الوكالة نفسه ماطلا في تقديم الشركة للمحاكمة على مسئوليتها عن الضحايا الذين فقدوا حياتهم بسبب تناول العقار.. وعلّقت الوكالة وقف شحن السفينة لمدة ثلاثة أشهر حتى غرقت السوق بمبيعات الشركة، فلما أصدرت الوكالة قرارها بالإيقاف كان قراراً مفرّغاً من المعنى والفاعلية.. ونال دكتور كلمب جائزته كاملة حيث قبل أولاً وظيفة الأمين العام لمجلس إدارة العقاقير والكيمياء ثم أصبح رئيساً لمجلس إدارة شركة ونثروب.

(5)

بعد ذلك ببضع سنوات ظهر مضاد حيوي باسم "كلورمفنيكول" من إنتاج وتوزيع شركة (بارك ديفز).. واكتسب شهرة عالمية مهولة.. ثم ظهرت تقارير طبية تؤكد أن هذا العقار كان مسئولاً عن تسمم دموي ولوكيميا.. كما أنه تسبب في العديد من حالات الموت بأنيميا (A plastic).. كان الرجل الذي مُفترض فيه أن يأمر شركة بارك ديفز بسحب هذا العقار القاتل من السوق هو دكتور "جوزيف سادوشك" ولكنه بدلاً من توجيه سلطته ضد الشركة وقف في وجه سحبه من السوق.. بل منع صدور قرار بوضع (ليبل) على الدواء يحذّر من مخاطره.. وأخيراً في سنة 1969 بعد أن حققت الشركة ملايين الدولارات من مبيعات هذا العقار وبعد أن توصّلت إلى إنتاج بديل عنه يحل محله.. كل ما فعلته (باسترخاء شديد) أن أرسلت نشرةً للصيدليات تقول: إن "كلورمفينيكول" لم يعد بالضرورة الاختيار الفعّال لأي إصابة مكروبية...!"

بعد ذلك خرج الحليف المخلص دكتور "جوزيف سادوسك" من الوكالة ليعمل أستاذاً في جامعة جون هوبكنز، وفي خلال عام واحد جاءته جائزته الكبرى ليُعيّن نائباً لمدير شركة بارك ديفز.. وعيُن مكانه في الوكالة مديران آخران سرعان ما تركا الوكالة لوظائف على نفس المستوى من الأهمية والمرتّب في شركات أدوية بالولايات المتحدة الأمريكية..!

ومن خريجي هذه الوكالة المباركة شخصيات محظوظة أخرى مثل: دكتور "هوارد كوهين" الذي ذهب إلى مركز رفيع في شركة سيبا للصناعات الدوائية ودكتور "هارولد أندرسون" الذي ذهب إلى معامل وينْثروب، "وموريس ياكوويتز".. وكذلك "ألين رايفيلد" الذي أصبح مستشاراً لإحدى شركات الأدوية الكبرى...!

وفي سنة 1964 وتحت ضغوط من الكونجرس اضطرت الوكالة لإصدار قائمة بأسماء موظفيها الذين سبق لهم العمل في الوكالة ثم تركوها للالتحاق بوظائف في الشركات الصناعية الخاصة.. وقد تبين من تحليل هذه القوائم أن 83 من أصحابها البالغ عددهم 813 موظفاً (أي بنسبة أكثر من 10% منهم) قد تقلّدوا مناصب في شركات كانت في الماضي تحت رقابتهم وإشرافهم.. وكان هؤلاء هم الذين يتخذون القرارات الهامة في الوكالة، وهم الذين يصدرون توجيهاتهم الرسمية إلى الشركات.. وعندما كانوا على رأس وظائفهم في الوكالة أتيحت لهم الفرصة للاطلاع على معلومات متعلقة بالبحوث العلمية لشركات أخرى وعلى العمليات الصناعية المختلفة فيها، وعندما ذهبوا للعمل في واحدة منها كان في الذهن دائماً أن المعلومات التي في حوزتهم عن إنتاج هذه الشركات الأخرى لها قيمتها في تطوير عمل الشركة التي انتقلوا إليها.. وعلى ذلك كانت الشركة مستفيدة دائماً من سيادة الموظف الكبير وهو داخل الوكالة أو خارجها...!

هنا يجب أن يلفت نظرنا بشدة الطريقة العبقرية التي تستغل بها شركات الأدوية السلطات البيروقراطية الحكومية وتسخيرها في خدمة مصالحها الاحتكارية وتعظيم مكاسبها على حساب مصلحة المواطنين وصحتهم.. وعلى الأخص تسخير الحكومات في القضاء على المنافسة في مجال الصناعات الدوائية.. وهكذا.. حتى في البلاد التي يبدو لنا أن الناس يختارون حكوماتهم بأصواتهم الحرة عبر صناديق الانتخابات لا تعمل هذه الحكومات لمصالح هؤلاء المواطنين وترعاها وإنما لمصالح الاحتكارات والقضاء على المنافسة الشريفة فما بالك بدولنا التي آخر ما تحترمه صناديق الاقتراع وآخر ما تُعنى به مصالح مواطنيها أو صحتهم...! نعم.. في هذه النقطة بالذات حيث تلتحم مصلحة السلطة مع مصلحة أصحاب الشركات الاحتكارية لم أجد فارقاً كبيراً بين حكومة ديمقراطية وحكومة فاشية إلا في الدرجة وفي القدر المطلوب لعملية الإخفاء والتمويه على الجماهير...! ففي الديمقراطية الأمريكية وقد أطلقتُ عليها (الفاشية الناعمة) يتطلب الأمر كثيراً من الدهاء والكياسة والنعومة في التعامل مع الجماهير، أما في الفاشية الغليظة فإننا نرى حكومات تتمتع بكثير من البجاحة والاستخفاف وبلادة الحس.. وكثيراً ما تلجأ إلى استفزاز المشاعر والقمع بلا حساب...!

ولنا وقفة أخرى مع هذه الوكالة إن شاء الله...
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59