#1  
قديم 05-13-2013, 01:00 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي أنسي الحاج وقصيدة النثر




الكاتب : د. فريد أمعضشو: المغرب
المجلة العربية


في الحقيقة، لا يمكننا الحديث عن قصيدة النثر (‏Poème en prose‏) في الثقافة العربية دون الوقوف عند تجربة ‏الأديب اللبناني الشاعر أنسي الحاج المتميزة، في كتابة هذا الضرب من التعبير الأدبي، سواء داخل بلده أو في ‏عموم أرجاء الوطن العربي. وهي تجربة شعرية حقيقية، اتسمت بكثير من مظاهر التفرد والعمق والنضج، وإن ‏خرجت عن عروضي الشعر الكلاسيكي والتفعيلي معاً.‏
يقول جهاد فاضل: «أول ما يجب التأكيد عليه أن تجربة أنسي الحاج الشعرية، وإن لم تكتب على أوزان الخليل ‏وتفعيلاته، تجربة شعرية حقيقية. فأية قراءة نقدية باردة لأعماله كفيلة أن تضع القارئ في مناخ الشعر وحرائقه ‏وأهواله، بل في خضم تجربة روحية جوانية قد لا يكون لها نظير في تاريخ شعراء لبنان إلا عند إلياس أبي شبكة ‏الذي عرف أقاليم النعمة والخطيئة على نحو فاجع كالذي عرفه أنسي الحاج».‏
وقبل الانتقال إلى تسليط الضياء على هذه التجربة وعلى بعض ما رافقها من نقد رصين مؤسس بيراع الشاعر ‏نفسه، يحسن بنا أن نعرّف، بعجالة، بهذا الأخير بوصفه أحد أعلام قصيدة النثر العربية المبرزين، الذي جعل، ‏كما تؤكد الشاعرة والكاتبة رانة نزال في كتابها الصادر حديثاً عن أنسي وإسهامه الفاعل في إرساء دعائم قصيدة ‏النثر عربياً، هذه القصيدة قضيته الخاصة؛ فأعمل فيها أدواته وتحديه وقاموسه وصوره وتراكيبه، فاتحاً بذلك آفاقاً ‏رحيبة من المغامرة المقترنة لديه بالحرية؛ حرية الانطلاق بالشعر العربي إلى فضاءات دلالية ولغوية جديدة، ‏وعدم الارتهان للنموذج الشعري المبني على بحور الخليل الفراهيدي وقصيدة التفعيلة؛ فأنسي الحاج أديب لبناني ‏مرموق، ولد عام 1937، بدأ نظم الشعر، وكتابة بعض المقالات، عام 1954 حين كان تلميذاً في المرحلة ‏الثانوية، ولم تنشر له قصائد، ولاسيما من الشعر المنثور، إلا مع أواخر 1957؛ وهي السنة التي شهدت تأسيسه، ‏رفقة بعض زملائه؛ من أمثال يوسف الخال وعلي أحمد سعيد (أدونيس)، في مجلة (شعر) في ظل مناخ ثقافي ‏تتبوأ فيه القصيدة الموزونة مكانة سنية في وعي المتلقين العرب، الذين صدموا بهذا النوع الكلامي! ولم يكن ‏يجرؤ رواد هذه القصيدة، آنئذ، على وسم إبداعاتهم، في هذا المضمار، بتلك التسمية المستفزة (الغريبة)، التي ‏تنطوي على تنافر وتناقض واضحين، دفعا، فيما بعد، أحد دارسي قصيدة النثر العربية إلى وصفها بـ(القصيدة ‏الخنثى)! وشكل اطلاع شعراء مجلة (شعر) على كتاب الشاعرة والمنظرة الفرنسية سوزان برنار (‏Suzanne ‎Bernard‏) الموسوم بـ(قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) نقطة انطلاق هؤلاء في استعمال مصطلح (قصيدة ‏النثر)، وما شابهه من أسام اصطلاحية، لوصف ما يكتبون من أشعار منثورة. وعلاوة على تأثره بهذا الكتاب، ‏وإفادته منه، فقد تأثر أنسي بشعر وشعراء أوروبيين آخرين؛ كما صرح بذلك في حوار أجري معه، ونشر في ‏صحيفة (الحياة) اللبنانية. فقد أجاب عن سؤال متعلق بالروافد الأدبية التي تأثر بها، وغذت تجربته الشعرية، ‏قائلاً: «أنا متأثر بشعر القرن 19 الفرنسي، وبالشعراء السورياليين وبعض أصدقائهم. معظم الأحيان أراني معجباً ‏بنثرهم أكثر من قصائدهم إلا بول إيلوار، فهو هو في كل ما كتب».‏
منذ الخمسينيات إلى 1994؛ السنة التي توقف فيها أنسي عن كتابة الشعر ليتحول، أساساً، إلى الكتابة في فنون ‏أدبية أخرى كالمقال الصحافي، أصدر الحاج ست مجموعات شعرية، هي: لن (1960)، الرأس المقطوع ‏‏(1963)، ماضي الأيام الآتية (1965)، ماذا صنعت بالذهب؟ ماذا فعلت بالوردة؟ (1970)، الرسولة بشعرها ‏الطويل حتى الينابيع (1975)، الوليمة (1994). ولا يخفى على متصفح شعر هذه المجموعات ما يمتاز به من ‏فرادة وخصوصية؛ إذ يبدو، كما يقول شارل شهوان، وكأنه «يبتعد ليشكل على صورته ومثاله هو بالذات... إنه، ‏بإيجاز، توهج الصمت النابض بحرائقه الفاتنة؛ توهج يتقدم إلينا كمدينة بيضاء هائلة في الحلم». ولعل هذا الأمر ‏هو الداعي الأساس إلى ترجمة أشعار أنسي الحاج إلى عدة لغات، منها الفرنسية والإنجليزية والألمانية ‏والأرمنية. وللرجل نفسه إسهام ملحوظ في الميدان الترجمي؛ إذ إنه نقل إلى لغة العرب عدداً من مسرحيات أعلام ‏الدراما الأوروبية؛ من مثل شكسبير وبريخت ويونيسكو. وله كتاب ضمنه جملة وافرة من مقالاته التي نشرها، ‏قبلاً، في عدة منابر صحافية، يقع في ثلاثة أجزاء، عنونه بتركيبة (كلمات كلمات كلمات)، صدر عام 1978. وله ‏تأليف آخر في التأمل الفلسفي الوجداني بعنوان (خواتم) (3 أجزاء). وتجدر الإشارة إلى أنه قد صدرت لأنسي ‏‏(الأعمال الكاملة)، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر، في ثلاثة مجلدات.‏
وموازاة مع اهتماماته الأدبية إبداعاً ونقداً وترجمة، اشتغل أنسي الحاج بالصحافة منذ أواسط الخمسينيات؛ فكتب ‏مقالات في أشهر الصحف اللبنانية، وعلى رأسها (النهار) و(الحياة) و(الأخبار)، وتولى مسؤوليات مهمة في ‏بعضها؛ منها رئاسته هيئة تحرير جريدة (النهار) مدة إحدى عشرة سنة (1992 – 2003).‏
إن أنسي الحاج يعد، بحق، أحد رموز قصيدة النثر العربية وفرسانها ومؤسسيها، ولكنه ليس أول مبدع فيها ولا ‏أول منظر لها في أدبنا. فقد كتب قصيدة النثر، قبله، سليمان عواد وتوفيق صايغ وآخرون غيرهما، ونظر لها، ‏قبله، ناقدون غيره، وأقصد، بالتحديد، أدونيس. إلا أن إبداع أنسي الحاج وتنظيره النقدي في هذا الإطار كانا ‏متميزين؛ ذلك بأنه أول من أصدر مجموعة شعرية تجرأ على وسم نصوصها بـ(قصائد النثر)، وهي مجموعته ‏المعروفة (لن) التي كان ظهورها، في مشهدنا الأدبي، صادماً، محتوى ومبنى، للقارئ الذي ألف، أرداحاً ‏متطاولة من الزمن، نمطاً من الشعر يجعل الوزن والقافية عماديه الأساسيين. يقول أنسي عن تجربته الشعرية في ‏المجموعة المذكورة: «تجربة (لن) كانت صادمة بالمحتوى مثلما كانت بالشكل. الصدمتان متداخلتان. (لن) أول ‏كتاب يسمي نفسه (قصائد نثر)، لكنه ليس أول كتاب من نوعه.. ثمة أدباء عرب عديدون عالجوا الكتابة الشعرية ‏نثراً، لكنهم أطلقوا على نتاجهم مسميات مبهمة؛ كالقطع الوجدانية، أو الشذرات الفلسفية، أو النفحات الشعرية... ‏إلخ، من هؤلاء: أمين الريحاني، وجبران خليل جبران، ومي زيادة... تجربتي كانت بمثابة تأسيس نوع معلن ‏وشرعي. على صعيد المضمون لا أذكره إلا أذكر دراسة خالدة سعيد عن (لن). هناك مقالات تحتضن كالأم. هذه ‏منها. لولا برهان الزمن لقلت: لولا دراسة خالدة سعيد لما كانت (لن)...». ففي آخر هذا النص، كما هو باد ‏للعيان، اعتراف صريح، من أنسي نفسه، بفضل الناقدة خالدة سعيد على مجموعته المعنية تعريفاً وتحليلاً ونقداً، ‏بل وعلى تجربته الشعرية ككل.‏
والواقع أنه يصعب –وإن لم نقل: يستحيل– الحديث عن بدايات قصيدة النثر لدى العرب، والتأريخ لها علمياً، دون ‏استحضار متون إبداعية محددة، لعل من أبرزها ديوان (لن)، الذي صدر سنة 1960، ضمن سلسلة منشورات ‏مجلة (شعر)، على نفقة أنسي الخاصة، بما قدره مئة ليرة لبنانية، حاوياً بين دفتيه عدداً من النصوص أولها ‏‏(هوية)، وآخرها (حرية حرية حرية). وأعادت نشره المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ببيروت، عام 1982. ‏وقد ارتأى أن يسمي هذا الديوان بحرف ناصب يفيد معنى النفي لما ألفاه فيه من إمكانية للتعبير عن موقفه من ‏الواقع الموبوء المعيش آنذاك. يقول رجاء النقاش في هذا المتجه: اختار أنسي الحاج كلمة (لن) عنواناً لكتاب من ‏الشعر المنثور؛ لأنه وجد فيها ما يعبر عن رفضه للواقع، وتمرده عليه. ‏
وإلى جانب نبرة الرفض الطاغية في ديوان (لن) كله –وهو ليس صرخة رفض للرفض، كما يقول خليل رامز ‏سركيس، بقدر ما يعني عمل الرفض في مصير الإنسان– تميزت طريقة كتابة نصوصه بخواص واضحة لغة ‏وتصويراً وأسلوباً وإيقاعاً وبناء. إنها كتابة غير مألوفة في العربية، ذات جماليات أخرى، أسست لشعر جديد في ‏تربة الأدب العربي المعاصر استمد مقوماته الفكرية والفنية من صميم الواقع الماثل أمام المبدع، ومن انفتاحه ‏الواعي على شعر الحداثة الغربي. ‏
وكان قد أنجز بول شاوول دراسة نقدية عميقة عن شعر أنسي الحاج وجماليته ولغته القائمة على أساس تفجير ‏النسق اللغوي المألوف وتثويره ليستوعب تحديات اللحظة الحضارية الراهنة وإشكالاتها، وليستجيب لرهانات ‏الشعر العربي المعاصر المنفتح والمتفاعل مع الأشعار الأخرى. ‏
وفي السياق نفسه، عد عباس بيضون، وهو من كتاب قصيدة النثر كذلك، (لن)، ومعها مجموعة أنسي الثانية، متناً ‏مفارقاً ومتميزاً في اللغة العربية، نسجت نصوصه بطريقة كتابية مضادة للغة السائدة المعهودة، وصادمة لذائقة ‏المتلقي ولأفق انتظاره، مما يجعل أمر تناولها بمقاييس الأدب المألوفة غير ممكن، بل غير مجد أصلاً! ‏
إن ديوان (لن) أثر إبداعي حافظ على راهنيته، ولم يظل أسير لحظته الزمنية، ولم يخضع لمنطق التقادم، بل إن ‏كرور الأيام، وتوالي العقود، لم يكونا ليزيداه إلا تألقاً وسحراً. ومرد ذلك كله إلى تميزه شكلا ومضموناً، وإلى ‏ملامسته أسئلة تعلو على الزمان والمكان معاً لتعانق الكوني والمشترك، ولتعبر عن موقف الإنسان مما حوله. قال ‏عبده وازن عن هذا الديوان، عام 1995: «بعد خمسة وثلاثين عاماً على صدور كتاب (لن) أقرأه كما لو أنني ‏أقرأه للمرة الأولى. كأن الأعوام التي مرت عليه لم تزده إلا تألقاً وحدة وسحراً، بل كأن الشاعر (المراهق) آنذاك ‏لم يكتب كتابه الأول إلا ليقرأ فيما بعد، ليظل يقرأ جيلاً بعد جيل.. ومن يقرأ الآن (لن) لا يصدق كيف أن ابن ‏الثانية والعشرين استطاع أن يخوض تجربة جحيمية مماثلة، وأن يكون واحداً من (المصابين) الذين خلقوا عالم ‏الشعر العربي الجديد».‏
ولم تقتصر الشهرة على نصوص (لن) الشعرية المنثورة، بل اشتهرت أيضاً، بالقدر نفسه أو أكثر، تلك المقدمة ‏النقدية التي كتبها أنسي الحاج لهذا الديوان، والتي –على قصرها– حفلت بعدد من القضايا الأدبية والنقدية. إن هذه ‏المقدمة بمثابة (بيان) أعلن ميلاد قصيدة النثر العربية رسمياً، وأعطى –بالتالي– شارة انطلاق لحظة الحداثة ‏الثانية في شعرنا المعاصر، بعد لحظة الحداثة الأولى مع جيل نازك والسياب وأمثالهما من عمالقة القصيدة الحرة ‏في أواسط القرن الماضي. ويلزمنا، نحن القراء، حين العمد إلى قراءة تلك المقدمة، مراعاة السياق العام الذي ‏أفرزها بكل تحدياته ومتطلباته، حتى نستطيع إدراك أسرار الطريقة التي صيغت وفقها. وقد أومأ أنسي نفسه إلى ‏ذلك حين قال: «لو وضعت مقدمة (لن) اليوم لكنت سأكون أكثر ليونة، وكان هذا سيكون خطأ!».‏
ويحلو لبعضهم مقارنة هذه المقدمة المؤسسة للحداثة الثانية (قصيدة النثر) بمقدمة نازك الملائكة لديوانها (شظايا ‏ورماد) (1949)، بوصفها أسست للحظة الحداثة الأولى في شعرنا المعاصر (قصيدة التفعيلة)، طبعاً مع وجود ‏فوارق بين المقدمتين – الحداثتين. يقول ماهر شرف الدين، في مقال نشره في العدد 24 من مجلة (الغاوون) ‏‏(شباط 2010): «في الحقيقة، فإن المقارنة بين المقدمتين تقنعنا، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن المقارنة الصحيحة ‏يجب أن تقوم بين حداثتين (التفعيلة وقصيدة النثر)، لا بين شاعرين (الملائكة والحاج). والفارق هنا ليس ‏مصطنعاً بالطبع. فالحداثة الأولى (التفعيلة) قدمت نفسها كامتداد طبيعي وسلس للتراث، لا بل إن نازك الملائكة ‏جهدت لتجد جذوراً ضاربة لها في هذا التراث (شعر البند). بينما جاءت قصيدة النثر استفزازية، غير هيابة، ‏وغير مكترثة بمسألة الجذور كلها، بل إنها قدمت –تقريباً– كإنتاج طبيعي لترجمة الشعر الغربي وشعرائه الكبار.‏
وما قالته الملائكة بـ(لا) قاله أنسي بـ(لن).. قاله بالمؤكد، لكن الضبابي.. بالحاسم، لكن غير الواضح.. بالجازم، ‏لكن المفتوح.‏
ومثل هذه الخلاصة يمكن معاينتها، في أجلى صورها، من خلال المقارنة بين مقدمتي (لن) و(شظايا ورماد). فقد ‏كانت مقدمة الملائكة مقدمة تقديم الأجوبة، بينما كانت مقدمة الحاج مقدمة طرح الأسئلة. كان هم نازك الملائكة ‏طمأنة الناس والشعراء، في حين كان هم أنسي الحاج إقلاقهم واستفزازهم وقض مضاجعهم.‏
وفي هذا الفارق بين مقدمة الأجوبة ومقدمة الأسئلة، يبرز الفارق بين الحداثتين: بين حداثة استيعابية وحداثة ‏استفزازية، بين حداثة تطمين وحداثة تقليق، بين حداثة مسيجة وحداثة مفتوحة». ‏
إن أنسي الحاج يعد، إذاً، من أقطاب قصيدة النثر في الوطن العربي إبداعاً وتنظيراً، ومن رجالاتها الأعلام الذين ‏لا يمكن لدارس هذه القصيدة إغفالهم أو غض الطرف عنهم لدى إرادة الحديث عن هذه الأخيرة. فمنذ الخمسينيات ‏إلى أواسط التسعينيات، راكم أنسي إبداعات في الشعر المنثور لا يعدم أي منها النضج والاكتمال الفني، وأبرز ‏هذا المخلوق الأدبي الحداثي في أبهى الصور وأرقاها، ملحاً على صلاته الوثقى بالواقع بكل تلاوينه وتمظهراته ‏وأبعاده، حتى اغتدت قصيدة النثر معه (أطروحة العالم الطالع)؛ على حد عبارة منيف موسى. وغير خاف على ‏أحد من قراء هذه الإبداعات مدى تميزها، مما كان سائداً في الساحة الشعرية العربية يومئذ، رؤية ولغة وصياغة ‏فنية، وحجم تجديدها لقصيدة الوزن وثورتها عليها من جميع الجوانب. إنها، بإيجاز، تعكس تجربة إبداعية ‏مشاكسة ومغايرة غير معهودة لدى أبناء العربية. بقول عابد إسماعيل عن أنسي راصداً أهم مظاهر تجديده ‏للقصيدة العربية مضموناً وشكلاً: «إنه يطور رؤيا شعرية جديدة، تتجاوز نسق القافية والتفعيلة والوزن، ‏وتنويعاتها الأسلوبية والفكرية، مقتحماً متاهات النثر ومباغتاته الخفية. يكتب الشاعر محوره المتواصل كمبشر ‏مؤسس للحداثة الشعرية العربية، إلى جانب أدونيس ويوسف الخال اللذين أسس معهما مجلة (شعر) عام 1957، ‏هارباً من التنميط والقولبة، وناسفاً المسافة بين الوزن والإيقاع، الشعر والقصيدة، الجسد واللغة؛ فيندفع بقوة اللعنة ‏الكامنة في اللغة الخرساء ليعلن أن (الملعون يضيق بعالم نقي)، ذلك أن القصيدة ينبغي أن تتكلم خارج أعراف ‏الطهارة، وخارج قواعد اللسان الجاهز؛ لأنها تتطلب الاغتسال الدائم من الماضي، والتحديق في عين العدم، ‏ومكابدة المفارقة القصوى التي سماها الشاعر الإنجليزي كيتس، عام 1817، في وصفه لشعرية شكسبير، ‏‏(الاستطاعة السلبية) (‏Negative capability‏)؛ وتعني معايشة الشاعر للشكوك والحيرة والأسرار، من دون ‏أن يزعج نفسه بالوصول إلى الحقيقة، مكتفياً بالتحديق في مرايا الهاوية».‏
ومنذ جيل أنسي المؤسس إلى اليوم، حققت قصيدة النثر لدينا مكاسب ملحوظة كماً وكيفاً، وسارت في مسارات ‏عدة، وفتحت لنفسها آفاقاً كثيرة، واستقطبت قطاعاً عريضاً من المبدعين، ولاسيما الشباب منهم ذكوراً وإناثاً، ‏وبلغت بتجديد القصيدة العربية حدوداً بعيدة على مستويي الرؤيا وآليات التعبير الفني. وقد وصف أنسي ما تحقق ‏لقصيدة النثر العربية، في أحد الحوارات المجراة معه مؤخراً، رداً على سؤال وجه إليه نصه: (هل حققت قصيدة ‏النثر في لبنان والعالم العربي ما أردتم لها أن تحقق على صعيد اللغة والتعبير عن هموم الإنسان المعاصر؟)، ‏فأجاب بالقول: «لا أحب التعميم. الشعر هو الشعراء.. هو الشاعر. بعضهم فتح أبواباً وآفاقاً مدهشة. بعضهم ‏نصيبه أقل. وهناك أجيال جديدة أضافت إيقاعاتها ولا تزال في طور التشكل. أما هموم الإنسان، المعاصر وغير ‏المعاصر، فهي من بديهيات التكوين الشعري، ولا حاجة لإعلانها في مشروع. جل ما يطمح إليه في هذا المجال ‏هو أن يجد الشاعر اللغة التي تماشي إيقاعات وجدانه، وتعانق تجاربه ورؤاه وعواطفه وأحلامه. إن أهم ما حققته ‏الكتابة الحديثة، وبينها قصائد النثر، هو أنها تجرأت على أن تتقمص ذاتها». ولئن كان الإقبال على هذه الكتابة ‏الجديدة مؤشراً إيجابياً ينم عن تقبل هذا النتاج الأدبي الحداثي، إلا أنه، أحياناً، يصير موضع تحفظ وتحوط حين ‏يقتحم غماره من لا يتحكم في إوالياته، ولم يستوعب بعد عمقه وجوهره؛ فيسقط ما يخطه قلمه من كتابة، في هذا ‏الإطار، في مهاوي الركاكة والابتذال، بعيداً عن الشعرية. والذي يأسف له أنسي أن كثيراً مما ينتج اليوم، على أنه ‏قصائد نثر، ليس من هذه الأخيرة في شيء! مما جعله يدعو المبدعين الشعراء إلى الرجوع إلى كتابة قصائد ‏الوزن ما داموا غير متحكمين بعد في تقنيات كتابتها، وغير فاهمين، بما يكفي، روحها وخواصها الدقيقة. وقد ‏جاءت دعوته هذه، بصريح العبارة، في مقاله، المنشور حديثاً، تحت عنوان (دعوة إلى الهرطقة)؛ حيث دعا ‏الشباب إلى معاودة كتابة الشعر الموزون ما دامت قصائد النثر التي تكتسح المشهد الإبداعي العربي، اليوم، قمة ‏في الرداءة والضحالة والإسفاف والفوضى والتخبط. وعزا ذلك، في المحل الأول، إلى غياب النقد العليم الصادق. ‏يضاف إليه، طبعاً، عدم اطلاع أولئك الشبان، مسبقاً، على النقد النظري المكتوب حول قصيدة النثر، وعدم ‏اختمار تجاربهم واكتمال استعدادهم لخوض غمار هذا الفن الشائك، وما يتيحه الإعلام المعاصر وثمار ‏التكنولوجيا الحديثة من إمكانات غير مسبوقة في مجال النشر على أوسع نطاق.‏
وبهذا كله، يتضح لنا عظم إسهام أنسي الحاج في ميدان الشعر المنثور العربي إبداعاً ونقداً؛ مما أهله لأن يكون، ‏بجدارة، واحداً من رموز هذا الشعر الذين جددوا القصيدة العربية وعصرنوها واجترحوا منها قصيدة حداثية ‏مغايرة ومشاكسة ومنفلتة و(مفتوحة عابرة للأنواع)؛ كما ذكر الناقد عز الدين المناصرة في كتابة (إشكاليات ‏قصيدة النثر) (2002).‏

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
موسى, امداد, النثر, وقصيدة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع أنسي الحاج وقصيدة النثر
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فضل صلاة الوتر صابرة شذرات إسلامية 0 03-15-2016 06:41 AM
الشاعرة والأدبية حفصة بنت الحاج الرَّكوني Eng.Jordan شخصيات عربية وإسلامية 0 10-18-2013 03:56 PM
الحاج عبد الله النسور في عيون الفيسبوكيون - صور Eng.Jordan الأردن اليوم 0 10-12-2013 01:33 PM
قصيدة النثر Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 11-20-2012 09:46 PM
أيها الحاج .. تذكر حرمة البيت العتيق جاسم داود شذرات إسلامية 0 10-06-2012 10:44 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:43 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59