#1  
قديم 12-28-2017, 11:27 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي مترجم : مركز كارنيغي في موسكو: نظام الحكم الهجين أم الدكتاتورية



(1): ما الذي يحدد صلابة النظام الروسي

ترجمة سمير رمان / مركز حرمون

مقدّمة

بيّنت التجربتان الماليزية والإندونيسيّة، أنَّ صلابة النظام الدكتاتوري مرتبطةٌ مباشرةً بقدرته على تلبية مصالح المجموعات الاجتماعية التي تدعمه، حتى لو كانت هذه المصالح متناقضةً في ما بينها. تمكّن النظام الماليزي من الصمود، لأنّ التناقضات بين من كانوا بحاجةٍ إلى المساعدة في ماليزيا، كانت أقلّ منها في إندونيسيا.
لأول وهلة، يبدو أنَّ الجدل المحض حول طبيعة النظام السياسي الروسي يحمل أهميَّةً عمليَّة، خصوصًا في العام الذي يسبق الانتخابات. على الرغم من أهمية النظرية والمصطلحات واهتماماتهما، فإنَّنا لا نتحدَّث عنهما وحدهما. تحدَّث كلٌّ من غريغوري غولوصوف ويكاترينا شولمان بشكلٍ مفصّلٍ وموضوعيّ عن تلك الصفات التي يتّصف بها النظام الروسي، وتوفِّر ممرًا لإمكانات التحرك نحو المستقبل. وتطرَّق الحوار إلى مسألة: كيف سيتصرف المحيطون بالرئيس، النخبة والمتنفِّذون في الأقاليم عندما يفقد بوتين السلطة؟ من (أو ماذا) سيتمكَّن المحافظة على الفدرالية؟ كيف سينتهي الأمر بالرئيس نفسه وبأصدقائه؟ هذا محور الحديث الذي تطرَّق إليه المحللان.
المتحدِّثان كلاهما استخدم لغة علم السياسة المُقارَن: وهي واحدةٌ من التخصصات الفرعية في النظرية السياسية الأكثر صلابةً من حيث التجريد في النيو- ليبرالية المنقّحة. يقع علم السياسة المقارن على التقاطع بين اتجاهات رئيسة عدَّة في العلوم الاجتماعية، متقاطعًا مع النظرية الاقتصادية والاقتصاد المؤسساتي، وكذلك مع علم الاجتماع التاريخي والتاريخ. تعود شهرتها إلى تقديراتٍ إحصائيِّةٍ دقيقة لتطور الأنظمة “السيئة”من جهة، وإلى إمكان تعاملها مع السياسة والتوصل إلى استقراءاتٍ وبناء (نماذج) لدول محدَّدة استنادًا إلى تلك الحسابات والنظم المستنبطة منها، من جهةٍ أُخرى.
من وجهة نظر قاموس علم السياسة المقارن، يوجد فرق كبير بين “النظام الهجين” (كما تصف د. شولمان النظام في روسيا) و”دكتاتورية الفرد” (كما يصفه غولوسوف). فاحتمال وقوع اضطِّرابات وتمرّد خلال المراحل الانتقالية، تكون أكبر في حالة حكم الدكتاتور الفرد منها في النظام الهجين. ومن ثم، يكون احتمال تعرُّض قادة الحكم الدكتاتوري للنفي أو السجن، بعد فقدان السلطة، أكبر منها بالنسبة إلى قادة أيَّ نوعٍ آخر من أنواع الحكم.
إذا صنَّفنا روسيا بوصفها دكتاتورية فرديَّة، ونقول تصنيفًا بالتحديد، أيْ إنَّ الحديث يدور حول أيِّ نموذج يلائم بلدنا أكثر، فإنَّنا نستطيع القول إنَّ إمكان قيام ثورةٍ مدمِّرةٍ هو إمكان كبير. أمَّا إذا كان تصنيف روسيا بوصفها دولة هجينة، فإنَّ حظوظ أنْ تمرَّ الأمور على خيرٍ ستكون أكبر.
كي نتمكَّن فهم ماهيَّة الحالة الروسية من هذا المنظار، علينا أنْ نفهم الفارق بين النظام “الهجين” والنظام ” الدكتاتوري”. تقترح باربارا غيدس، التي أدى جهدها دورًا كبيرًا في إدخال مصطلح “الهجين” إلى الساحة الأكاديمية، استخدام المصطلحات الآتية لتوصيف الأنظمة السيئة: الدكتاتورية العسكرية، دكتاتورية الحزب الواحد، دكتاتورية الفرد. أمَّا الحكم “الهجين”، فهو خليط من أنواع الأنظمة السيئة المذكورة آنفًا جميعها. وبحسب غيدس، يجب تحديد الفرق تجريبيًا من خلال التجارب المتاحة. ويكمن المفتاح في الإجابة عن السؤال؛ من يسيطر على السياسة الحكومية الحالية، ومن يهيمن على أجهزة الأمن والكوادر القيادية؟.
في روسيا، إذا تحدثنا بلسان علم السياسة المقارن، لا يمتلك النظام أيَّ علامات مهمَّة من مواصفات النظام الهجين. فالرئيس يتحكَّم بصورة حصريٍّة تقريبًا بالقيادات كافَّة، بما فيها الدستورية: إذ يُعيين الرجال المهمّون كلهم، والقضاة، والوزراء الفدراليين ورؤساء الشركات الحكومية من خلال مراسيم يصدرها. وتخضع الأجهزة الأمنية لرئيس الدولة مباشرةً. ثم إنَّه يقرِّر السّياسة الحاليَّة: إذ يقول قانون التخطيط الإستراتيجي المعتمد في عام 2014، إنَّ رسالة الرئيس السنوية هي وثيقة رئيسة من وثائق التخطيط الإستراتيجي.
لا تمتلك الأحزاب ولا المؤسسات العسكرية مفاتيح حلَّ هذه القضايا، وليس لها تأثيرٌ تقريبًا في عمليّة حلِّها. على الأرجح، يبدو أنَّ تحويل النظام إلى نظامٍ هجين سيكون أحد الاحتمالات التي قد تتطور الحوادث وفقها، أي: إذا أصبحت الكنيسة، مجلس الدوما، الأقاليم، اللوبي الصناعي- الحربي، البنك المركزي، مجلس التدقيق أكثر قوة، فإنَّ روسيا ستتحوَّل بحلول عام 2024 إلى نظامٍ هجين. ولكنَها (روسيا) الآن نموذج فردي خاص لدكتاتورية الفرد.

حسنًا/ موتٌ طبيعي

تتلخَّص المشكلة مع هذا الاستنتاج في أنّنا، كالسابق، نبقى لا نعرف مدى صلابة النظام. وعندما سينتهي كل شيءٍ بثورةٍ، سنقول إنَّ احتمال قيام ثورةٍ كان دائمًا الأعلى من الانتقال السلمي. أمَّا كيف، ولماذا وفي أيِّ أحوال يمكن أنْ ينهار كلُّ شيء؛ فلا نعرف.
عمومًا، أيٌّ الأنظمة هو الأكثَرُ صمودًا في وجه الهزَّات: الهجين أم أنواع الدكتاتورية الصرفة؟ إذا كانت الأخيرة، فأيُّ نوعٍ هو الأكثر قدرةً على الصمود؟ وما هي بالتحديد الهزَّات التي يصمد أمامها هذا النظام أو ذاك؟ لا تعطي الطرائق المطبَّقة في الدراسات الكميَّة إجابةً عن هذه الأسئلة.
لا يخبرنا علم الإحصاء في الحالة التي بين أيدينا عن الأخطاء المميَّزة التي يرتكبها الدكتاتور، القادة العسكريون أو أباطرة أفريقيا، بل عن القواعد المنطقية الثابتة في سيناريوهات انهيار الأنظمة. إضافةً إلى ذلك، لا يعرف علم الإحصاء شيئًا حول الطبيعة البشرية. فإذا كان الضباط السود قد أسرفوا في الشراب والتدخين، ومن ثمَّ رتَّبوا انتقالًا سلميًّا للسلطة، وأبقوا الجيش تحت سيطرتهم، فإنَّ حظوظهم في البقاء أحياءً حتى وقت المحاكمة ليست بكبيرة، فهم سيموتون (بسبب سرطان الرئة أو تشمُّع الكبد)، قبل فقدانهم لآخر أذرع السيطرة، وستوضع أنظمتهم في تلك الخانة التي سمَّتها غيدس في مقالها بالـ «OK / Natural Death.. بالطبع، يرتبط الأمر هنا بالطريقة. تظهر الأرقام الطبيعة البشرية، التقلُّبَ التاريخي بشكلٍ سيء، الأمر الذي يدعى في علم الاجتماع بال “بالكاريزما”، أيْ المواهب التي يتمتًّع بها القائد، وتمنحه نوعًا خاصًّا من القبول بخواصِّ حكمه.
يمكن أنْ نبيِّن كيف تطورَّت تاريخيًا أنواع الأنظمة المختلفة: في مرحلةٍ ما من التاريخ، كم كان عدد الدكتاتوريين على الأرض، وكم منهم كان يحكم من خلال الحزب الواحد. وتقول لنا هذه المعلومات شيئًا ما حول تغيُّر العصور، واتجاهات النموذج الدكتاتوري الفردي. ويمكننا استنتاج علاقةٍ إحصائيةٍ تربط بين مدة حكم الدكتاتور أو الحزب الواحد ونوع النظام. ولكنَّ هذا المؤشر سيكون سيئًا، إذ تختلط فيه كثير من الأمور: الجغرافيا، الموارد، مستوى تطوُّر البلاد وقت الانتقال إلى الدكتاتورية، وتجربة الدكتاتور نفسه.
وحالما نتوقف عن الاهتمام بالمؤشرات الكميّة، سنغيِّر موقفنا: فنتحوَّل من مراقبين خارجيين، يرونَ الدكتاتوريَّات مصنَّفةً بطريقةٍ خاصَّة كـ “صناديق سوداء”، إلى قاطنين في هذه الصناديق. والآن نهتمُ بكيفية بناء هذه الدكتاتوريات من الداخل وكيف ولماذا لا تنهار. وهنا لا تنفع سلاسل المعلومات الطويلة التي يسميها علم السياسة المقارَن بـ Large-N methods)، بل تلزمنا سلسلة المعلومات القصيرة (Small-N methods)، أي ليس سلسلة من مئة نظامٍ، بل من عشرة أنظمةٍ أو حتى من اثنين، شرط أنْ تُدرس نوعيًّا من الداخل وليس كميًّا. تتضاعف المتطلبات المنطقية لسحب العينات. فمئة نظامٍ حكمت خلال قرن من الزمن تساوي من حيث الحقوق دكتاتورية الإمبراطور بوكاسا، الذي قدَّم هدايا من الألماس إلى هنري كيسنجر والرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، وتوازي دكتاتورية المكتب السياسي السوفياتي ودكتاتورية بينوشيه في تشيلي. المراقبة الخارجية البصرية “لعالَمٍ صحيح” الذي يدرس ما هو “ليس صحيحا” عمومًا، حرمت هذه الأنظمة الدكتاتورية من تفرُدها وتميُزها. كلما كانت السلسلة طويلة، أصبح سهلًا القول بوجود أمور عامة بين الأنظمة. وكلَّما قصُرت السلسلة أصبح الأمر أكثر تعقيدًا: في البداية، يلزم إثبات التشابه للانتقال بعدها إلى دراسة الاختلاف بينها.

حالة مِخبريَّة

عام 2009، نشر العالم الأميركي توماس بيبينسكي كتابه “الأزمات الاقتصادية وانهيار الأنظمة الاستبدادية”، إذ حاول فيه الإجابة عن سؤال رئيس لفهم طبيعة هذه الأنظمة. لماذا يكون نظامٌ استبداديٌّ ما أكثر تحصينًا من الآخر في وجه الصدمات الخارجية؟ ونموذج دراسةٍ اختار بيبينسكي دولتين، كانتا من ضمن ضحايا الأزمة المالية أعوام 1997و1998: ماليزيا وإندونيسيا. كان الكاتب على معرفةٍ تامَّةٍ بالحياة فيهما: فإلى جانب درجته العلمية في العلاقات الدولية من جامعة إييل، حصل على درجة علمية في علم اللغات متخصصًا باللغة المالاوية، ومن ثمَّ عمل سنواتٍ عدّة في جاكرتا وكوالا لامبور.
من وجهة نظر التشابه، يمكن عدّ الحالتين اللتين اختارهما بيبنسكي دراسةً مخبرية. عام 1997 تعرّضت آسيا لموجة تسونامي ماليًة (أصبحت روسيا إحدى ضحاياه بعد عام واحد)، أعقبها؛ انهيار العملات الوطنية، هرب رؤوس الأموال خارج هذه البلدان، تدنَّي مستوى المعيشة، ارتفاع الأسعار، البطالة والاضطراب السياسي.
تتشابه إندونيسيا وماليزيا كتوأمين، ولكنَّ تأثير الأزمة فيهما كان مختلفًا بالكامل. بعد عامٍ من الصراع، سقط نظام سوهارتو الاستبدادي تحت ضربات الاحتجاجات. أمَّا نظام محمد مهاتير الاستبدادي في ماليزيا، فقد صمد على الرغم من الخسارات الكبيرة التي لحقت به. استقال سوهارتو في أيار/ مايو 1998، أمَّا مهاتير محمد فقد اجتاز بنجاحٍ مرحلة الأزمة الحادَّة، وحتى أنَّه ربح الانتخابات البرلمانية عام 1999، على الرغم من فقدان حزبه، التنظيم الوطني الماليزي الموحَّد، قرابة 15 في المئة من مقاعده.
كان اقتصاد البلدين عام 1997، يتَّصف باعتماده على المواد الخام. أمَّا مستوى حياة السكان فيهما فكان غير مرتفع، إلى جانب معدَّل نموٍّ متقارب في الناتج المحلي الإجمالي. وكانت درجة اللامساواة في ماليزيا أعلى من إندونيسيا (قيمة عامل جيني في عام 1996 – كان 49 و30 على التوالي). وكان كلٌّ من مهاتير وسوهارتو دكتاتورًا يتمتَّع بالخبرة: حكمَ سوهارتو إندونيسيا منذ عام 1967، وحكم مهاتير ماليزيا منذ 1981. اتبع كلاهما سياسةً اقتصاديةً ليبرالية نوعًا ما، أمَّنت لبلادهما نموًا قويًا بداية التسعينيات من القرن الماضي. كلاهما كان بشكلٍ ما متورطًا بصفقات فساد.
كتب باري بِيْن، الرئيس السابق لمكتب صحيفة The Wall Street Journal, في كتابٍ له، أنَّ مهاتير محمد تسبَّب للاقتصاد الماليزي بضررٍ يقارب 40 مليار دولار بسبب شراء شركاتٍ وأراضٍ لنفسه وللمقرَّبين منه. سوهارتو لم يتخلَّف عن مهاتير، وسرعان ما سبقه: فقد قدّرت مجلة Time Asia ثروة أسرته عام 1999 بـ 25 مليار $. أغلق كلاهما صحفًا، ومارسا الضغط على وسائل الإعلام في بلادهما، وقمع الرجلان خصومهما السياسيين، وكان لديهما شرطتهما السِرِّيةٌ الخاصَّة. فلماذا انهار نظامٌ، وصمدَ الآخر؟
يفسِّر الكاتب بيبينسكي هذه الظاهرة على النحو الآتي: بالنسبة إلى إندونيسيا، كانت مصالح تحالف المجموعات الاجتماعية الداعمة لسوهارتو متناقضةً في ما بينها. وعندما وقعت الأزمة، لم تكن الأموال، كانت الحكمة والصبر كافيتين لدى سوهارتو لإرضاء هذه المجموعات كلها. عام 1997، كان على سوهارتو الاختيار بين البورجوازية القديمة، المؤلّفة بأغلبها من الإثنية الصينية التي لها مصالح عملية متنوعة في بلدان جنوب- شرق آسيا كلها، والبورجوازية الجديدة- ذات الأصول المحلية/ المرتبطة بالاقتصاد الإندونيسي وحده. أرادت البورجوازية القديمة ألَّا تعرقل عمليات إخراج الأموال من البلاد، في حين كانت البورجوازية الجديدة على قناعةٍ بضرورة إغلاق الحدود وتجميد الحسابات نوعًا من حماية البلاد من خطر تذبذب قيمة العملة.
بعد ترددٍ بين الطرفين، وضع سوهارتو رهانه على الصينيين، وترك الحرية لرؤوس الأموال بالتنقُّل (وهذا كان أحد مطالب صندوق النقد الدولي)، ولكنَّه بذلك استفزَّ اضطراباتٍ دمَّرت الأحياء الصينية، وسارت تظاهرات احتجاجٍ معاديةٍ للصينيين، وفي النهاية جرى الاستيلاء على مبنى البرلمان من المحتجين وهرب رؤوس الأموال والصينيين إلى سنغافورة، هونغ كونغ، تايوان وخصوصًا إلى الصين. وكانت النتيجة فقدان سوهارتو السلطة.
أمَّا مصاَلح التحالف الداعم لمهاتير محمد، فكان أكثر تجانسًا، ولهذا كان من السهل عليه إرضاؤهم، والتعامل مع الأزمة ومن ثم الصمود. كانت البورجوازية الماليزية متماسكةً ومرتبطةً أكثر باقتصاد البلاد الوطني، ولم يكن للنفط والغاز مصالح ذات امتدادات واسعة خارج البلاد. وكان مهاتير محمد وحزبه يتحكَّمون بالموارد المالية وهم أيضًا بورجوازيون، يمثلون في واقع الأمر الطبقة الحاكمة التي استخدمها مهاتير محمد ورفاقه لتكوير الاقتصاد.
لم يحتج مهاتير إلى إقناع البورجوازية التحلّي بالصبر، لأنّها قد أدركت، أنَّه إذا فقد الدكتاتور السلطة فإنَّ طبقنه ستخسر، في ساعة واحدة، كلَّ ما تملكه. حمى مهاتير العملة الوطنية، ومنع خروج رأس المال من البلاد، ورفع الإنفاق الاجتماعي وتظاهر بأنَّه تقاسم السلطة مع المعارضة. وهكذا تمكَّن من النجاة.
وكما أوضح بيبنسكي، فإنّ صلابة النظام تتعلّق مباشرة بالقدرة على تلبية مصالح المجموعات الاجتماعية التي تدعمه، حتى لو كانت مصالحها متضاربة في ما بينها. الفرق بين إندونيسيا وماليزيا تكمن في أنَّ دكتاتورًا قد تمكَّن من تشكيل نخبةٍ حوله انطلاقًا من الصفر، بينما وجد الآخر نفسه في صفوف طبقةٍ حاكمةٍ قائمة. في الأزمات، صمد ت تلك الأنظمة، التي كانت طبقة النخبة قليلة الارتباط بالعالم الخارجي، وفي الوقت نفسه أقلَّ استقلالًا. في ماليزيا، كانت التناقضات بين أولئك الذين كانوا بحاجةٍ إلى المساعدة، أقلَّ ممّا كانت عليه في إندونيسيا.

بوتين بوصفه قارئًا لباربارا غيدس

انقضت سنواتُ ثلاث على بدء الانعطافة الحادَّة في السياسة الخارجية والخارجية الروسية، التي عًدَّت بدايتها متزامنةً مع حوادث كييف. عندما يتحدَّثون في الغرب عمَّا حدث في روسيا، يستذكرون أكثر فأكثر ما يُسمَّى بمسار التبعية path dependence. وبهذا يصبح كلُّ تاريخ البلاد مفسِّرًا لحاضرِها: فما الذي يمكن أنْ تتوقَّع من بلادٍ لها تاريخ كهذا؟
باستثناء بعض القصور العرقي، تبقى هذه الحجَّة موضوع جدلٍ من منظور مصطلح path dependence. في علم التاريخ الاجتماعي، يعودون إليه عندما يريدون تفسير ارتباطٍ طويل المدَّة (300-400 عام). حينئذٍ، تغدو معايير البحث الشكلية عن المسار، غير واضحة المعالم. من الصعب إثبات تسلسل الحوادث المتشابكة، والبرهان على التشابك نفسه، وخصوصًا عندما يدور الحديث عن تاريخِ غنيِّ، كما هو حال التاريخ الروسي.
يسمح نموذج (موديل) بيبينسكي التوضيحي باقتراح إجابةٍ أُخرى، أكثر إقناعًا لتفسير ما حدث في أعوام 2013و2014 في روسيا. وتصبح فكرةٌ بسيطةٌ هي نقطةَ الانطلاق لمثل هذا البحث، إذ يمكن للدكتاتور إعادة ترتيب التحالف الداعم له وفقًا للأوضاع. وقد تُخْرج مجموعةٌ ما من المنطقة المريحة، بينما يمكن لمجموعاتٍ أُخرى أنْ تدخلها. وكلُّ شيءٍ يتعلَّق بالأوضاع، وتقدير الخطر وما إليه.
لا تقتصر مهمَّة الدكتاتور في مرحلة الأزمة على فهم كم تكلِّف المحافظة على هذا الحليف أو ذاك، بل في التقدير الصحيح (لثمن) لخطر التخلُّص منهم. إذا تمكَّن الدكتاتور من التغلُّب على الأزمة، فهذا يعني أنًّ التقويم كان صحيحًا وأنَّ التحالف قد نجح، وأنْ تغيَّر بعض الشيء، في امتحان الصلابة.
بناء التحالف- هو مشروعُ مثقلٌ بالخطر. إذ يمكن أنْ تثور المجموعات التي لم يُحافظ عليها، وقد تخلق مشكلات في وجه الدكتاتور. أمَّا المجموعات، التي حافظت على موقعها بالنسبة إلى الدكتاتور، أو التي حصلت على دعمٍ أكبر منه، فقد يتبيّن أنَّها غير مفيدة، وفي مرحلةٍ ما قد يتخلَّى الدكتاتور عنها. هناك دائمًا خطر مقاطعة الحلفاء لبعضهم، عندما يصبح بإمكان الدكتاتور الاستغناء عن موزاييك “المئة لون”، وهو الوضع المثالي لتطبيق سياسةٍ كـ “فرِّق تسدْ”، فإنّه سيعمد إلى استبدال هذا الموزاييك بجبهةٍ واحدةٍ، ولكنَّها ضعيفة وغير قادرةٍ على المبادرة.
من الخطر بمكان بالنسبة إلى الدكتاتور إطلاق الوعود عند تشكيل التحالف: فآجلًا أم عاجلًا سيأتي وقتٌ يجب تسديد هذه الفواتير، إلا أنَّه من غير المؤكَّد أنَ يتوافر لديه مثل هذا الإمكان. خلال السنوات الثمانية الأولى من حكم بوتين، ظهر التحالف الذي شكَّله صلبًا بدرجةٍ كافيةٍ لتجاوز الأزمة الاقتصادية. وأدت المساعدة التي تلقاها أعضاء التحالف من الحكومة الروسية، التي كان بوتين على رأسها، دورًا مهمًّا في التقليل من ارتباط التحالف الناشئ بالمحيط الخارجي. وتسبَّب الحلفاء، الذين لم يُعوّموا وعزلوا عام 2009، ببعض المشكلات، التي جرى تخطيها.
بعد عودة فلاديمير بوتين إلى الكرملين عام 2012، جاء معه شركاءٌ من تحالفه الجديد ليحصِّلوا فواتيرهم. ومن ثمَّ، بدأ الأقوياء منهم بعرقلة بعضهم، وأصبحوا يحدِّدون مسار البلاد السياسي. وبما أنَّ التحالف الجديد كان أكثر تجانسًا من التحالف الذي كان قائمًا قبل أزمة 2008، فقد انتهى كلّ شيءٍ بحوادث آذار/ مارس 2014. بالطبع، جاءت هذه الحوادث عشوائيةً، بمعنى أنَّ أحدًا لم يكن يعرف أنَّها ستكون على هذا النحو. ولكنَّها في الوقت نفسه، كانت، بصورة أو أخرى، مبرمجةً مسبقًا بفعل حامل التوجُّه ذاك، الذي طرحه على روسيا التحالف الداعم للقائد القومي عام 2008، الذي تشكَّل تحت ضغط ضرورة التصدي للأزمة.


عنوان المادة الأصلي باللغةالروسيةГибрид или диктатура. Что определяет устойчивость российского режима

اسم الكاتب
كوستانتين غازيه

مصدر المادة الأصلي
مركز كارنغي في موسكو

رابط المادة
http://carnegie.ru/commentary/?fa=69995

تاريخ النشر
24 أيار/ مايو 2017



المترجم
سمير رمان


(2): خلاصة موجزة

أصبحت حرب 2014 ممكنةً بعد تحويل الاقتصاد إلى اقتصادٍ حكوميّ في أثناء أزمة عام 2008 الماليّة، ولكنَّ هذه العملية نفسها، لم تكن تخطّط للحرب. أصبح إطار إدارة الاقتصاد اليدوي، الذي اعتمدته الحكومة تحت ضغط حاجتها إلى التصدّي للأزمة، ورقةً رابحة في عمليّة مواجهة العقوبات، وفي اعتماد إجراءات مضادَّة وحتى لتزويد الدونباس (شرق أوكرانيا) بالمواد والمؤن.
بيد أنَّ إطار إدارة الاقتصاد بهذه الطريقة، كان مخطّطًا للاستخدام لتلبية حاجاتٍ أُخرى.

مقدّمة

في الثامن عشر من شهر كانون الثاني/ يناير 2012 اجتمع عدد كبير من الموظّفين وخبراء الاقتصاد في منطقة تلال “غوركي” عند الرئيس مدفيديف، لمناقشة إستراتيجيّة تطوير روسيا لغاية 2020. عند المدخل، سُئل المرشّح للرئاسة فلاديمير بوتين: هل سندخل في جوهر الموضوع، أم نؤجِّل لما بعد الانتخابات؟ أجاب رئيس الوزراء (بوتين- المترجم) عندها، أنَّنا بالطبع سنفعل، لأنَّه “ضرورةٌ، وعندما تمرّ الأمور، سيكون لدينا موقفٌ موحّد”، – فالمواطنون يحتاجون إلى فهم كيف تنوي السلطة العمل. ولكن، وبما أنّ مناقشة الضرائب والمعاشات التقاعديّة ليست أفضل استناد للحملة الانتخابيّة، فقد طلب بوتين كتم الأمر عن عامَّة الشعب. في الرابع من آذار/ مارس عام 2012، صوّت لمصلحة بوتين 46 مليون ناخب روسيّ. وفي اليوم التالي، اجتمع الفريق نفسه، لوضع اللمسات الأخيرة. بدأ وزير الماليّة “سيلوانوف” بالأخبار السيّئة: لا يوجد ما يكفي من الأموال، والميزانيّة مثقلةٌ بالنفقات، “المبادرات التي أطلقها فلاديمير بوتين” تحتاج إلى 2 في المئة أُخرى من الناتج المجليّ الإجمالي. كان الحديث يدور عن الوعود التي أطلقها رئيس الوزراء المرشَّح للرئاسة في أثناء حملته الانتخابيّة صيف عام 2012. قاطع بوتين وزير الماليّة مصحِّحًا؛ ليس 2 في المئة بل 1.5 في المئة، وهذه النفقات كلُّها بُحِثت ولم تُقترح. ومع نهاية اللقاء الذي استمرَّ ساعتين، وضع نقطةً رئيسة فارقة: نحن لسنا نعمل في مكتبٍ من مكاتب المحاسبة، أنا بحاجةٍ إلى الحصول على دعم جزءٍ من المجتمع.
في السابع من أيَّار/ مايو عام 2012، أُجريت مراسم تنصيب فلاديمير بوتين الثالثة خلال مسيرته المهنيّة. طبعت هذه المراسم في ذاكرة كثيرين. فعندما كان موكب الرئيس المنتحب يمرّ، كانت شوارع موسكو تبدو خالية تمامًا من أيّ مظهرٍ يدلُّ على وجود الحياة فيها. مرَّت الذكرى السنويّة لهذا التنصيب في خضمّ احتفالات أيّار/ مايو وهو دافعٌ جيِّد لتجديد الحديث عن تحالف الدورة الثالثة من حكم الرئيس.
من كان يقصد بوتين في آذار/ مارس عام 2012، عندما كان يشرح المبالغة في إطلاق الحملة الانتخابيّة.؟ وما هو ذلك “الجزء من المجتمع” الذي احتاج إلى الحصول على دعمه لـ 2 في المئة من قيمة الناتج الإجمالي؟ وكيف أصبح هذا “الجزء من المجتمع” متورِّطًا في النزاع الأوكراني، وفي الحرب الباردة الجديدة مع الغرب، وكذلك في الحملة على سورية؟ أدّت هذه التركيبة الفريدة دورًا حاسمًا في تاريخ البلاد الأحدث، ولكنّها في الوقت نفسه، تبقى حتى أيّامنا هذه محوطةً بكثير من الخرافات والمفهومات الخاطئة.
كان من الممكن أن يكون كلُّ شيءٍ ليس كما حصل. فتحالف المدّة الرئاسية الثالثة لم يقم بوصفه تحالف حربٍ، ولكنَّه أصبح كذلك بحكم الأوضاع وبسبب طبيعته الغريبة. فقد كان بالإمكان، قبل خمسة أعوامٍ، جمع رعاة التحالف الرئيسيين جميعهم في صالةٍ كبيرةٍ واحدة لعقد اجتماعٍ ما. ومع ذلك، فقد أوكلت لهذا التحالف بالذّات، مهمّة حشد التأييد الجماهيري للرئيس. وإذا أردنا إعادة تركيب الحوادث، فإنّ علينا أن نعترف بنزاهة، بأنّ فكرة إعادة تكوين “الأغلبيّة البوتينيّة” التي كانت تتلاشى بصورة مستمرٍّة، هي التي كانت وراء ظهور هذا التحالف، وأنَّه كان تحالفًا ظرفيًّا لا يتطلَّع إلى حجمٍ تاريخيّ. من حيث المبدأ، عندما صمّم هذا التحالف في خريف عام 2008، كان الحديث يدور عن مشروعٍ قصير الأجل، وليس عن مبادرةٍ سياسيّة، تغيِّر روسيا إلى الأبد.

عين العاصفة

بالطبع، فإنّ العاطل عن العمل، مواطن ولاية كاليفورنيا من “ستوك تون”، الذي تسبّب عجزه عن تسديد قرضه العقاريّ في عام 2006 لا يعرف شيئًا عن أزمة الركود الشاملة، ولم يكن ليعرف الدور الذي سيكون عليه أنْ يؤديه في السيرة السياسيّة للرئيس الروسي الثاني. فعام 2008، كانت الأمور تسير بشكلٍ ممتازٍ في موسكو، عندما منحت شركة Countrywide Financial Corporation قرضًا تعيسًا، وعندما كانت في الوقت نفسه تقوم بابتلاع Bank of America مع أنَّها كانت قد خسرت، حتى لحظتها، 60 في المئة من قيمتها في البورصة.
يتذكَّر ضيوف الحفل الذي أُقيم بمناسبة يوم الاستقلال في 12 حزيران/ يونيو عام 2008، أنّ جوًّا رائعًا كان يسود ساحة “إيفانوفسكايا”، إذ نُصبت الموائد احتفالًا بهذه المناسبة. فقد تشكَّلت الحكومة الروسيّة ونجحت؛ من دون إراقة دماءٍ كثيرة، من دون ثورة، ومن دون هزَّاتٍ. في حين كان يُظَن، أنَّه لا مكان في تاريخ روسيا لإنجازاتٍ كبيرة: رفع الرئيس الجديد مدفيديف النخب الأولَّ وكرّسه للمسائل الاجتماعية ولتحسين النظام القائم حاليًّا وليس لإعادة بنائه. وبدا أنّ سعر برميل النفط بـ 200 دولار أمر واقعيٌّ يمكن بلوغه.
ولكنَّ العالم تغيَّر، وفي موسكو، حيث لم تكن صورة المصيبة التي ستقع بعد عام قد اكتملت بعد في أذهان المسؤولين، ومع ذلك كان يراودهم بعض القلق بهذا الخصوص. بحلول الأول من كانون الثاني/ يناير، كان قد ضخّ قرابة 100 مليار دولار من احتياطي الأموال الروسيّة للاستثمار في أوراق وكالاتٍ الرهن العقاري الأميركيّة كـ: Fannie Mae, Freddie Mac Federal Home Loan Banks. ابتداء من بداية العام، وبسبب المشكلات التي ظهرت في الصناديق الأميركيّة، توقّف بنك روسيا عن شراء شرائح جديدة. وبحلول الأوَّل من أيلول/ سبتمبر، تمكَّن البنك الروسي من التخلّص من الاستمارات في Federal Home Loan Banks بالكامل، أمَّا الاستثمارات في Fannie Mae وFreddie Mac، فقد تقلَّصت من 65 إلى 30 مليار دولار. وقد ساعد هذا بالمحافظة على جزءٍ من الاحتياطات، ولكنَّه لم يمنع المصيبة.
بحسب بنك روسيا، ومطلع شهر تموز/ يوليو عام 2008، كان دين البنوك الروسية الخارجي يقترب من 500 مليار دولار.
نتيجة الأزمة وهبوط أسعار النفط، الذي بدأ في شهر آب/ أغسطس، توقّف الدائنون عن منح البنوك الروسية قروضًا جديدة، وطالبوها، في الوقت نفسه، بالإسراع في تسديد المستحقات القديمة: بدأت استثمارات الأسهم تفقد قيمتها بسرعة. وفي مطلع شهر أيلول/ سبتمبر، سمعت البلاد للمرّة الأولى كلماتٍ لم تألفها كـ margin call: أي المطالبة بتغطية الفرق بين الرهن الذي كانت قيمته قد نقصت عن قيمة تقويمه الأوّليّ.
عاجلًا، وجّهت الأوليغارشيا في قطّاعات النفط، التعدين الصناعة، تجارة التجزئة، رسالةً إلى الحكومة تطلب فيها الدعم. وتهاوى النفط والروبل معًا، وبدأ التوتر يتسرّب إلى الحكومة، وهي تصنِّف طلبات المساعدة، متسائلين عن طبيعة المفاجآت التي يمكن أن تحملها العاصفة القادمة. وفجأةً، ظهر في تشرين أوّل/ أكتوبر، بُعدٌ اجتماعيّ للأزمة، إذ راحت الشركات الكبرى في البلاد تهدِّد الحكومة بتسريح أعدادٍ كبيرة من العمال. انقسم محيط رئيس الوزراء: وبدأت منافسةٌ أيديولوجيّة بين مختلف البرامج المضادّة للأزمة. اقترح نائب رئيس الوزراء النفطيّ إيغور سيتشين برنامجًا جذريًّا (بمقاييس عام 2008) لاستحواذ الدولة على الاقتصاد، منح الشركات قروض ميزانيّة وإصداراتٍ مقابل تملُّك الحكومة لأسهم الشركات، التي ستحصل على المساعدة، ولقاء إعادة مهمات الحكومة في الصناعة، تنظيم الأسعار في السوق، وقف البنوك التجارية اختياريًّا عملية إعادة النظر بشروط اتفاقات الإقراض، وزيادة ملحوظة في حجم طلبات الدفاع الحكوميّة.
وقف رئيس الوزراء ووزير الماليّة ألكسي كودرين ضدّ الاقتراح: يجب تقليص النفقات في الميزانيّة (على غرار ما فعلت ألمانيا عام 2009)، إنشاء بنكٍ للقروض السيّئة وتقديم مساعدة انتقائيّة لأولئك الذين يمكن بالفعل أن يقوموا بتسريح العمّال. عندها، حوالى نهاية شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر، وعندما كانت الحكومة تضرب كفًا بكفّ، أدرك رئيس الوزراء أنَّ الاستمرار في دعم معدَّل صرف الروبل والإجراءات الظرفيّة العفويّة غير كافية لمواجهة الأزمة.
عند هذا الحدّ، كانت الأوليغارشيا ورجال الأعمال الحكوميين قد طلبوا من الحكومة أموالًا بـ 50 مليار دولار وحوالى 2 تريليون روبل (حوالى 30 مليار دولار) تشمل تخفيضاتٍ ضريبيّة ومزايا. وهذا كلُّه من دون احتساب تراجع قيمة العملة التدريجيّ بقيمة 50 مليار دولار. فهل تلبي الحكومة الطلب أم ترفضه؟ وهل تستمرّ في إنقاذ الروبل أم تقوم بتعويمه؟ ومن يمكن للحكومة أن تتركه من دون أموال؟
عند مقارنة وضع بوتين خريف عام 2008 بمشكلة الدكتاتور الإندونيسي سوهارتو عام 1997، يجب أن نلحظ أنّ الخيار أمام سوهارتو كان أسهل. أولًا، كانت الأوليغارشيا الصينيّة شريكه العمليّ القديم؛ فقد كان على سوهارتو الاختيار بين: البورجوازية الوطنيّة، من لا يملكون كثيرًا، والعشائر الصينيّة التي تعاون معها لمدةٍ طويلة. لذا وضع الرئيس الإندونيسي رهانه على ما كان يتعاون معه سنواتٍ طويلة، وفعل ما كان يسعى له التحالف الداعم له، الذي كان يتشكَّل حينها. إضافة إلى ذلك، فإنَّ كلّ ما اقترحه أو صادق عليه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وسواهما، كان يعود بالنفع على الصينيين. في واقع الأمر، لم يقم سوهارتو بأيّ اختيار، فقد كان يظن أنّ إستراتيجيته هي الإستراتيجية الوحيدة الممكنة: وعدّ سوهارتو أنّ سخط فقراء المدينة والطلاب ليس سوى عاملٍ قليل الأهميّة استنادًا إلى السياسة الواقعيّة.
أمَّا وضع بوتين فأعقد كثيرًا. فهو لم يكن في حينها رأس الدولة، وكان منصبه عرضةً للخطر من دون تفاهماتٍ مع مدفيدييف: فرئيس الوزراء في روسيا هو المسؤول عن الاقتصاد، وليس الرئيس. لم يكن بوتين يعرف متى ستنتهي الأزمة، أو حتى عند أيّ نقطةٍ ستستقرّ أسعار النفط المتدهورة. كما لم يكن يعرف إلى متى يمكنه الاستمرار بدعم أولئك الذين قرَّر إنقاذهم. وكان الأمر الأصعب بالنسبة إليه: تحديد مَن الصديق ومَن العدوّ، مَن القريب ومن الغريب. عام 2008، لم يكن لدى بوتين أوليغارشيا تابعة له. وكانت شركات “روس تك” و”روس نفط” في بداية تحوّلهما إلى عمالقة وطنية، وبحلول نهاية تشرين أول/ أكتوبر، أصبح واضحًا أن شهيّة هذه الشركات في مواجهة الأزمة أكبر كثيرًا من شهية الأوليغارشيا التي هبّت عندما دعاها يلتسين إلى الوقوف إلى جانبه.
ثم إنّه لم يكن هناك بعد وضوحٌ سياسيّ مع الجيل الأوليغارشيّ الجديد: فبعضهم، كـ “أوليغ ديريباسكا”، كان قد أقسم الولاء لبوتين منذ بداية عام 2000، وبعضهم لم يتلكّأ، ولكنّه نأى بنفسه بعيدًا عن السياسة، وآخرون بعد هزيمة “يوكس” خافوا بوتين وعلّقوا آمالهم على الرئيس الجديد (مدفيديف). ومع هذا، طلب الجميع مساعدة رئيس الوزراء (بوتين).
بالنسبة إلى سوهارتو، عام 1997، كانت مصالح الأوليغارشيا القديمة معيارًا أساسيًّا لإعداد إستراتيجيّة مواجهة الأزمة. فما المعيار الذي يجب أن يعتمده بوتين؟ هل هو برنامج أعمالٍ اجتماعيّ، الذي تقدّم به هو وخلفه؟ في نهاية عام 2008، لم تكن هناك ضماناتٌ بتوفُّر الأموال لدى الحكومة لتنفيذ هذا البرنامج. هل يكون المعيار هو دعم قطّاع الأعمال؟ ببساطة، لاعتماد معيار كهذا، لم تكن هناك مصادر لتأمين نصف التريليون دولار التي يدين بها قطاع الأعمال. أم يكون بدعم الصناعيين والعمّال، وتعزيز دور الحكومة كما اقترح سيتشين؟ كانت نتائج هذه الخطَّة إن اعتُمدت واضحة للعيان: التضخّم، تزايد هرب رؤوس الأموال، انغلاق روسيا. لو كان بوتين رئيسًا حينها، فلربّما كان قد وافق على هذه الخطَّة، خصوصًا بعد الحرب مع جورجيا، ولكن كان هناك رجلٌ آخر يجلس في الكرملين، رجلٌ لم يكن متحمِسًا لمثل هذه الأفكار.
مع اقتراب شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2008، أصبحت القطيعة بين التصورات حول إمكانات السلطة اللّامحدودة والموضوعات الصغيرة، وعدم ترابط أفعالها تهديدًا حقيقيًّا لرئيس الوزراء بوتين. فقد طالبت النُخبة (الأوليغارشيا) وعتاة قطاع الأعمال الحكوميّ بمساعدة الحكومة. أمَّا المواطنون، فكانوا يلوذون بالصمت، ولكنَّهم أصبحوا رهانًا في اللعبة. كانت ذرائع الأوليغارشيين جميعهم ورجال الأعمال، الذين تقدموا بطلب المساعدة من رئيس الوزراء، على النحو الآتي: أعمالنا مهمة لروسيا إستراتيجيًّا، ونحن سنسرِّح الجميع، إذا لم تساعدونا.
كان لدى بوتين المال والسلطة. ولكن لم يكن لديه الوقت، لتحديد من يحتاج إلى الأموال أكثر من غيره، ومن هو الخطر، ومن يستطيع الصمود في الأزمة من دون هذه الأموال. كما لم تكن هناك أُطرٌ، أو صيغةٌ سياسيّة، تستطيع أن تربط، ولو خطابيًّا، بين الإمكانات المتوافرة لدى رئيس الوزراء بخطّة لاستخدامها عمليًّا.
للخروج من حالة التشتّت هذه، ولتقليص الفارق بين المتوقَّع والواقعيّ، ولكسب الوقت في نهاية الأمر، كان يجب الخداع. أي الاشتغال بالعلاقات العامَّة

حلم الرجل السياسي الإستراتيجي

لا يعرف أحدٌ بالضبط ما هي الأغلبية البوتينيّة. ولكنَّ الظاهرة التي نراها تبدو على هذا النحو. بحسب معطيات مركز ليفادا (لاستقصاء الرأي العام) منذ تشرين الأول/ أكتوبر 1999 وحتى اليوم، لم ينخفض مؤشّر دعم بوتين تحت 60 في المئة، على الرغم من أنَّ بطل المؤشّر (بوتين)، استطاع خلال هذه المدّة تنشئة أطفال، أن يشيخ، أن يتشاجر مع زوجته ويغيّر عمله ثلاث مرات!
في ما يبدو، لم يكن الحديث يدور ولا يدور الآن عن تحالفٍ جماهيريّ لمؤيدين لديهم الحافز، مؤلّف من آلاف عدّة من الناشطين المنهمكين في العمل السياسيّ (ليسوا موظفين) ومن ملايين المؤيدين. ظهرت الأغلبيّة البوتينيّة في حقيقة الأمر ليس من فرط النشاط السياسيّ، بل من نقصٍ فيه وربما حتى من غيابه. في خريف عام 1999، أبصرت هذه الأغلبيّة النور على شكل صعود مستمرٍّ لشعبية رئيس الوزراء. وأصبح استطلاعات الرأي، علماء الاجتماع والمحلّلون السياسيّون هم عرّابو تنفيذ معجزة الأغلبيّة هذه. ولو كان السؤال في الاستبيان عن الثقة بصيغة “هل نثق ببوتين أم لا؟” لما وُجدت الأغلبيّة البوتينيّة على الإطلاق.
غليب بافلوفسكي، أحد مهندسي أغلبية بوتين، وصف عام 2014 التحالف الأوّل الداعم لبوتين على النحو الآتي: “بنينا أغلبية الفوز عام 2000 كانتقام الخاسرين- من موظفي الدولة، العمال، الذين يلعنون بصوتٍ واحد البيروقراطيّة ويحتقرون مؤسسات السلطة الأمنية. والأهمّ، من النساء اللاتي نسيهم الديمقراطيون وربما لم يكنَّ أصدق قوى تحالف بوتين”.
زعيم الشيوعيين، غينادي زوغانوف، قدَّم توصيفًا أكثر اكتمالًا لهذا التحالف عام 2004: بين قطبي الغنى والفقر المطلق في روسيا “يقبع الجزء المتبقي من المجتمع في حالةٍ من السيولة. هذه “الماغما” الاجتماعية تبرد ببطء، وتتصلّب في بعض البقع لتتحول إلى هذه الفئة أو تلك”. لتسويغ الطبيعة البونابرتية لنظام بوتين، يؤكّد زوغانوف، في واقع الأمر أنّه ليس لدى الكرملين قاعدةٌ اجتماعيّة متشكّلة، بقوله: “الماغما” هي أساس النظام، والوحدة الظرفيّة تبقى طالما لم يتصلّب ذلك الجزء من هذه”الماغما”، وطالما لا تدرك اختلاف مصالحها عن مصالح غيرها.
عام 2005، وقفت الأغلبيّة البوتينيّة، لأول مرَّة، على حافّة الانقسام: فقد جعل تحويلُ المكاسب إلى أموالٍ؛ العمّال، الموظّفين، النساء وصغار رجال الأعمال غير مبالين، ولكنَّها أصابت المتقاعدين بحالةٍ مزرية. ولو لم ترتفع أسعار النفط في ذلك العام بنسبة 60 في المئة، لكان من غير الواضح، ما إذا كان بإمكان بوتين إعادة تجميع شتات تحالفه. ولكن ما حدث قد حدث: فقد أُنفق فائض أسعار النفط على سدّ الحاجات الاجتماعيّة بصورة مشروعات قوميّة، وبقيت المزايا، وزادت رواتب العسكريين والموظفين بعض الشيء. وبهذا تمكّن بوتين من جديد، ليس من رتق تحالفه فحسب، بل من حصد محصولٍ سياسيٍّ قياسيّ أيضا. ولكن في حقيقة الأمر، استفاد منه شخصٌ آخر. ففي عام 2008، صوَّت 52 مليون مواطن لخليفة بوتين، ديمتري ميدفيديف، ولم يحصل أيّ مرشّحٍ لرئاسة روسيا على هذا الكمّ من الأصوات في تاريخ روسيا كلّها.
بعد مرور نصف عامٍ، تحوَّلت هذه الأغلبية المقلقلة إلى مشكلةٍ من جديد. الآن، لم يستطع أحدٌ في الواقع أن يضمن إمكان ترقيع التحالف بالمال مجدّدًا: فقد تبخّرت الأموال، وبدا أنّ الأزمة ستكون مبررًا ممتازًا للجماهير لتدرك اختلافها الطبقي. كان رئيس الوزراء بوتين (المسؤول مباشرةً عن الاقتصاد)، بحاجةٍ من ناحيةٍ إلى توحيد أغلبيته تحت راية هدفٍ ما، ومن ناحيةٍ أُخرى، عدم تقديم وعودٍ لا يمكن تنفيذها للمجموعات الاجتماعيّة، أو لا تكفي الأموال لها. كان يلزمه أن يُريَ رفاقه عاملًا/ مسارًا سياسيًّا جديدًا، وإثبات تفوقه السياسيّ على الرئيس الشابّ (ميدفيديف).
مع الأخذ بالحسبان، أنّ رئيس الوزراء بدأ بمساعدة الأوليغارشيا، أصبح من الضروري أن يوضّح للمواطنين، لماذا وبأيَّ شروط فُتحت لرجال الأعمال، الذين كانوا وقتها على”مسافةٍ واحدة”، خزينة الدولة. وكان من الضروري تسمية أشخاصٍ أوصلوا الاقتصاد إلى حالته البائسة. وفي الحصيلة رفع معنويات المواطنين بشكلٍ ما، وزرع الثقة بالمستقبل في أنفسهم.
ليس لدى الكرملين والحكومة منصب ” الإستراتيجي السياسيّ”. وبكلماتٍ أبسط، لم يكن بين التابعين لبوتين عام 2008 (كما في عام 2017) لا “كارل رويف([1])” ولا “ستيف بينون([2])”. نقطة ضعف الأهداف السياسيّة والمهنيّة الخاصّة مع الموارد المتاحة، تقويم الخطر والتهديدات، هذا عملٌ، لا يمكن ببساطةٍ للمسؤولين الروس الكبار تكليف أحدٍ القيام به. ولهذا الوضع كثير من الأسباب، أحدها وليس آخرها هو ضرورة إبقاء الموظفين التابعين في حالة عمىً في ما يتعلَّق بالخطط السياسيّة الخاصّة.
بشكلٍ أو بآخر، كانت تجري تجزئة عملية إعداد الإستراتيجية بشكلٍ متعمّد: فالاقتصاديون يعملون على وضع الإستراتيجيّة الاقتصاديّة، والتقنيون السياسيون، يضعون إستراتيجيّة الحملة الإعلاميّة، علماء الاجتماع -معلومات استطلاع الرأي، ورجال الأمن- يضعون التقارير والمذكرات، أما القائد فيقرر في ما بعد، كيف يدمج هذا كله.
في منتصف تشرين أوّل/ أكتوبر من عام 2008، عندما كان كبير إستراتيجي الكرملين السياسيين، النائب الأول في إدارة الرئيس، فلاديسلاف سوروف، يعمل على إعداد برنامج إعلاميّ لمواجهة الأزمة، كان يدرك تمامًا، أنّه يعمل على خلق منتجٍ إعلاميٍّ أيديولوجيّ، وليس إستراتيجيّة سياسيّة. ولهذا كانت يداه مقيّدتان: فقد كان بإمكانه اختلاق كلّ ما يخطر في ذهنه، فليس هناك قيودٌ حقيقيّة، لم يكن الأمر حينها يتعلّق بخطّةٍ حقيقيّة لإجراءاتٍ اقتصاديّة. كان الأمر يتعلّق بحلم رجل إستراتيجيٍّ سياسيٍّ، وليس بوظيفته.
لم تنشر وثيقة سوروف على العلن أبدًا، ولكنّ الغريب في الأمر، أنَّ البلاد بأسرها كانت تعرف ما كُتب في هذه الوثيقة. وهذا مفهومٌ من تعدادٍ بسيط لعناوين الوثيقة الرئيسة من قبيل، “رعب الغرب”، “الفرصة التاريخيّة”، المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال” إلخ. فالأطر العامّة للثورة الأيديولوجيّة التي تنسب إلى عام 2014، أو 2012، كانت قد وضعت في حقيقة الأمر، منذ عام 2008.
سمّيت الخطّة بـ: مشروع الحملة المعلوماتيّة “مكافحة الأزمة”. وتضمّنت بعض الأفكار الثورية:

أولًا:

سيروف، بصفته نواة التحالف البوتيني، اخترع طبقةً متوسطةً جديدة، لم تكن موجودةً على أرض الواقع بعد. وأضفى على هذه الطبقة توجّهًا وطنيًّا مناوئًا للغرب، وجعل قوامها؛ موظفي المكاتب، عمّال شركات ومعامل القطاع الحكومي والخاص، رجال الأعمال العاملون في القطاع الحقيقي، وقبل كلّ شيءٍ ممثلي المشروعات الصغيرة، إضافة إلى الأوليغارشيا.
لم تأخذ الخطّة بالحسبان كلّ أنواع من يتلقى دخله من الميزانية، ابتداءً بالمتقاعدين وانتهاءً بالأطباء والمعلمين؛ فقد كانت الخطة ابتكارًا سياسيًّا جديدًا من ناحية، ومن ناحيةٍ أُخرى مؤشرًا قاطعًا على أنّ الخطة كانت عبارةً عن خدعةٍ، غطاء، وأسلوبًا لكسب الوقت. لو كان بوتين يعرف معرفة مؤكَّدة، أنَّه سيتمكّن من رفع رواتب المتقاعدين وأجور الموظفين، لكان سوركوف قد كتب عن ذلك بالتأكيد.
ثانيًا:

التخلّي عن فكرة العقد مع مواطني البلاد جميعهم من دون تمييز، والانتقال إلى علاقاتٍ تعاقديّة مع مجموعاتٍ اجتماعيّة معينة. بحسب فكرة سيروف، فإنَّ كلّ عنصرٍ من عناصر التحالف البوتيني، سيحصل على حزمةٍ واضحة من الوعود الحكوميّة. فالعمال يجب أن يحصلوا على: وعودٍ بدعم الطلب على منتجات معاملهم، طلباتٍ حكوميّة، سكن اجتماعي وقيام الحكومة بإلزام أصحاب المنشآت بالمسؤولية الاجتماعية. أمّا أصحاب المنشآت، فسيوعدون -بالحصول على التمويل (قروض سهلة وشراء قروضهم لدى البنوك الأجنبيّة”، وإجبار البنوك بالولاء لقطاع الأعمال وبالحصول على طلباتٍ حكوميّة بشروط خاصّة. بالنسبة إلى طفيلي المكاتب- فستضمَّن الوعود التي ستقطع لهم على: رهون عقارية رخيصة، قروض استهلاكيّة وبعض “الفرص الجديدة”. جاء في ورقة سيروف “أطلق الركود العالمي آلية دوران الكوادر الحتميّة، وستخلي النخبة القديمة مكانها لجيلٍ جديد من الاختصاصيين عالي المهارة”.

الفكرة الثوريّة الثالثة

إعادة النظر الشاملة في مفهوم علاقة روسيا بالاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأميركية. أظهرت ورقة سيروف المتسبب بالأزمة على صورة “الغرب” المتكامل. فالخطاب المعادي للولايات المتحدة الأميركيّة، كان على الدوام موجودًا على لائحة التلفزيون ووسائل الإعلام الحكوميّة، ولكنّ هذه “الوجبة” لم تكن تقدّم إلى المواطنين دائمًا، بل في مناسباتِ معيّنة، كغزو العراق أو عند أول تظاهرةٍ في ميادين كييف. في حين، كان الإعلام الروسي يتحاشى إزعاج أوروبا.
اهتمَّ سيروف بالقضاء على التباين المهم بين الولايات المتحدة المتلاشية والعالم القديم (أووربا) الميؤوس منها من وجهة النظر الروسيّة. واقترح سيروف عدّ الأزمة نفسها عقابًا لدول الغرب على ذنوبها، إذ قال: “الضربة الأكبر ألحقتها الأزمة النقديّة بأولئك المتسببين في خلقها، الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي”. وأخيرًا، دنت نهاية النظام العالمي القديم، وبالطبع ستنشئ روسيا نظامًا جديدًا. توعّد برنامج سيروف الغرب قائلًا في حين تتخبط العقلية الغربية في مستنقع الانكماش نتيجة الهزات، فإنّ بلادنا التي خبرت أزماتٍ سابقة، تقف بصلابة أكبر كثيرًا أمام التوترات العالميّة، وتمتلك كلّ الحظوظ لتصبح أكثر أنظمة العالم الاقتصادية – الماليّة أمنًا. إنّها فرصة روسيا للتزعم في الاقتصاد العالميّ”.
لم يكتف البرنامج برسم رؤية قاعدة السلطة الاجتماعيّة الجديدة فحسب، أي طبقة مـتوسطة معبّأة وطنيًا، إنّما أوضح أيضًا، أنّ أوليغارشيا التشكيلة القديمة لن تترك ممتعضةً. ولكن في الحقيقة، سيكون معيار قياس مسؤوليتها تجاه الحكومة أعلى، ومن خلال الدولة تجاه المواطنين. يقول سيروف:”تمكّنت الدولة من منع انتقال الأصول الإستراتيجيّة إلى الدائنين الغربيين. بالطبع، سيجب على رجال الأعمال إعادة الأعمال”. وهكذا، بحسب أفكار سيركوف، في تحالف بوتين الجديد، ستقف أوليغارشيا حقبة الرئيس يلتسين، التي أنقذها بوتين بطبيعة الحال، ذليلةً على أحد أجنحة التحالف، وعلى الجناح الآخر سيكون عمّال الأورال الذين حصلوا على سكنٍ اجتماعي، والموظف من موسكو الذي حصل على رهنٍ عقاريّ.
في أعياد تشرين الثاني/ نوفمبر 2008، أرسل سيركوف خطة “مواجهة الأزمة” إلى الرئيس ميدفديف وإلى رئيس الوزراء بوتين، إذ أعلن رئيس الوزراء في نهاية الشهر نفسه أغلبيّة بنودها أمام مؤتمر حزب “روسيا الواحدة”، وكان خطابه أوّل خطابٍ يتطرّق إلى معالجة الأزمة. غير أنّ هذه الخطة بقيت حتى تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2009 محض خدعة. فرئيس الوزراء، لم يستطع الوفاء بوعوده الجميلة.
في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، وجّه نائب رئيس الوزراء كودرين رسالةً إلى بوتين تضمنت اقتراحًا بتقليص نفقات موازنة 2009 بنسبة 15 في المئة، ومن ضمنها النفقات الاجتماعيّة، وكافّة نفقات البناء ونفقات الدفاع. في الثاني عشر من كانون الأوّل/ ديسمبر، ردّ بوتين على رسالة كودرين بقرار “موافق”. كان سعر برميل نفط ماركة برنت في ذلك اليوم 42 دولارًا، وانخفض في آخر تعاملات عام 2008 إلى حدود 35 دولارًا/ برميل. حتى تلك اللحظة، كان مبلغ 150 مليار دولار قد أنفق لدعم قيمة الروبل. آن أوان شدّ الأحزمة، ومن ثم عدم تنفيذ الوعود التي قُطعت للطبقة الوطنية الوسطى التي لم تُخلق بعد!

فهم الاقتصاد السياسيّ عند الكثرة الوهميّة

لماذا غيّر بوتين والرئيس مدفيديف رأيهما معًا، ولماذا، بدلًا من تقليص النفقات، قاما برفعها بقيمة 3 تريليون روبل، في إطار البرنامج الذي أقرّته حكومة بوتين نهاية آذار/ مارس 2009 لمكافحة الأزمة. هذا سؤال لن نعرف الإجابة عليه قبل أن يستقيل أحدهما ويشير إليه في مذكراته يومًا ما. يقال إنّ السبب الرئيس وراء عدم المصادقة على التخفيضات التي اقترحها كودرين، كانت خشية الرئيس الشابّ، وكذلك رئيس وزرائه، من هبوط شعبيتهما.
فإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الرئيس بإصراره على زيادة الإنفاق لمكافحة الأزمة، يكون قد وضع في يد رئيس الوزراء ورقةً رابحة، لم يتردد الأخير باستخدامها، في سبيل العودة إلى الكرملين. بالمناسبة، يقال أمرٌ آخر: رئيس الوزراء بموافقته على مقترح كودرين، كان في حقيقة الأمر ضدّها، وتمكّن من إقناع الرئيس بوجهة نظره. بعدها، قال وزير الماليّة إنّ القرار اتّخذه الرئيس، وليس قراره، ولم يكن بوسع الحكومة سوى الرضوخ.
من الممكن أن يكون الأمر متعلّقًا بوجود نصٌّ في روسيا، أكثر من النصّ الآتي: يقع الذنب على قصور ثقافة الشعار المركزي، وعلى قواعد عمل البيروقراطيّة.
فرغبات المسؤول الروسي الكبير أو أفكاره، تكتسب على الفور قوة القانون. ومقالات رئيس الوزراء بوتين في أثناء الحملة الانتخابيّة، التي نشرت في الصحف الروسيّة نهاية عام 2011 وبداية عام 2012، لم تكن أوامر ولا تعليمات ولا قوانين، ولكنّها هي بالذات، أصبحت أساس إعداد مراسيم الرئيس بوتين في شهر أيار/ مايو. وهكذا، جاء في تعليمات رئيس جهاز الحكومة أنطون فاينو في ربيع عام 2012: “عملًا بتوجيهات رئيس حكومة روسيا الاتحاديّة…. أرجو … ولغاية 30 نيسان/ أبريل 2012، أن يرفع إلى حكومة روسيا الاتحاديّة مشروع مرسوم… بشأن إقرار خريطة طريق للمشروعات الهادفة إلى تنفيذ البنود الرئيسة الواردة في مقالات المرشّح لمنصب رئيس روسيا الاتحاديّة المنشورة في أثناء حملته الانتخابيّة”.
إذا تركنا جانبًا لأوقاتٍ أفضل، الحديث عن دستوريّة استعمال مقالات مرشّح الرئاسة بوصفها أساسًا لإعداد الوزارات والمؤسسات، قوانين معيارية، فإنّه سيكون علينا الإشادة بالآليّة نفسها. فليس المهمّ الصفة القانونية التي يتمتّع بها النصّ الذي أعلنه المسؤول الكبير: فهذه ليست مزحة، إنَّها مقالةٌ ما أو خطابٌ في مؤتمرٍ حزبيّ! يحتاج النصّ إلى بعض الإجراءات البسيطة، ويصبح النصّ معيارًا للعمل المباشر.
لم يكن لدى السلطة نصّ آخر يحدّد الأفق السياسي ويرسم أطر الأغلبيّة البوتينيّة الجديدة: فالأفق وُضع في خطة سوركوف، وتحدّث عنه رئيس الوزراء مرّاتٍ عدة. وهكذا أصبح هذا النصّ بحدّ ذاته، ومن دون أيّ مكائد، أصبح أقوى من تخفيض الإنفاق (المقترح من وزير الماليّة والمصادق عليه من الحكومة). وللتقيّد الصارم بما جاء في النصّ، كان على الموظّفين القيام بالمستحيل، بكلّ ما تعنيه الكلمة: أي العمل على إنتاج طبقةٍ وطنيّةٍ متوسطة غير موجودة، التي تحدّث عنها سوركوف.
وهكذا، أنفقت التريليونات من الروبلات، وبُذل جهدٌ سلطوي كبيرة لبناء كثرةٍ سياسيّةٍ مصطنعة (وربّما، فارغة عمومًا). وما دامت مصالح المجموعات الاجتماعيّة غير متطابقة، فإنه يصبح من الضروري سياسيًّا جعلها كذلك، فقد سبق للرئيس أنْ طلب ذلك. إذًا يجب تغيير قواعد اللعبة. ومثالًا على هذا السيناريو، كبح رجال الأعمال شهيتّهم لجني الأرباح ولم يخفّضوا الأجور وأحجموا عن تسريح العمال جماعيًّا. مقابل ذلك حصلوا على قروضّ سهلة من البنوك، وتلقوا كثيرًا من الطلبات الحكوميّة مليارات الروبلات، وبهذه النقود ابتلعوا منافسيهم الأقلّ شأنًا، الذين لم يتمكّنوا من الحصول على القروض الحكوميّة. ثم إنّ العمّال لم يحتجّوا، ولم يطالبوا بتحسين أوضاع عملهم أو بتغيير أرباب عملهم المتعثرين، ردًّا لصنيعهم بعدم تسريحهم، وبهذا حصلت قيادة العمّال على مساعدة حكوميّة. وهكذا دواليك.
لم يكن إنتاج هذه الكثرة السياسيّة المصطنعة أمرًا هيِّنًا. فالمجموعات الاجتماعيّة الحقيقية، التي وصّفها سيركوف بالتحالف الجديد، لم تكن تربطها مصالح اقتصاديّة. فعمّال المصانع الحربية، المنتمين بالكامل تقريبًا إلى الحكومة، كان من مصلحتهم فرض ضرائب أعلى، وأن يُعسكَر الاقتصاد، وأن تكون العلاقات سيئة مع الدول الغربيّة المجاورة. أمّا موظفو المكاتب فيهمّهم تخفيض الضرائب، وجود استثمارات أجنبيّة أكثر، وظهور مصادر تتيح قروضًا طويلة الأجل مرتبطةً بالحكومة، التي يمكنهم الحصول عليها بفوائد قليلة ولآجالٍ طويلة.
بالنسبة إلى عمّال المصانع الخاصّة، فقد كانوا يرون؛ ضرورة فرض ضريبة دخلٍ عالية على أرباح الرأسماليين، والقيام بتنظيم أوضاع العمل بشكلٍ صارم، وجود استثمارات أجنبية توجّه إلى زيادة الإنتاجيّة، أهمية تحديث الإنتاج، ومن ثم زيادة أجور عمّال هذه المعامل المطوّرة.
في حين كان من مصلحة رجال الأعمال؛ عدم تنظيم سوق العمل لإبقاء أجور العمّال منخفضةً، وبذلك تكون منتجاتهم أكثر تنافسيّة، ثم إنّ مصلحتهم تقتضي بعدم رفع الضرائب على مدخولات المواطنين. وأخيرًا، كانت الأوليغارشيا ترى مصلحتها في عدم دخول الاستثمارات الأجنبيّة بشكلٍ واسع كي لا تشكّل الأموال الأجنبيّة خطرًا على الوضع التفضيلي الذي يحظى به كبار أصحاب الثروة في البلاد.
لذا يمكن القول من وجهة نظر محدّدة، إنّ الإجراءات التي اتبعتها السلطة لواجهة الأزمة، في 2009وحتى 2011، كانت مجموعة منتقاة من عمليات تركيب أطراف اصطناعية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. وبفضل تدخل الحكومة لمواجهة الأزمة، وبذلك، تغيّرت الشروط الاقتصادية الطبيعيّة بالنسبة إلى الأعمال والعمّال. فالمجموعات التي خسرت في مكانٍ ما، أصبحت تتلقّى في مكانٍ آخر المعونات التي خصّصتها الحكومة لمعالجة الأزمة. وهذا بالضبط، ما يدعى في روسيا اليوم “الشراكة بين الحكومية – والقطاع الخاص” وأيضًا “مسؤولية قطاع الأعمال الاجتماعيّة”. وبرفضهم للمنطق الاقتصادي، يبدأ رجال الأعمال والمواطنون باعتماد منطق شبه سياسي: يتغيّر التحفيز لديهم. فبدلًا من الدفاع عن مصالحهم الاقتصاديّة، يبدؤون التنافس على كميّة الأموال والميزات التي يمكن أنْ تقدّمها الحكومة.
هذا الأمر شرحه على أكمل وجه، أغنى رجلٍ في روسيا، أليشير أوسمانوف، في مقابلته الأخيرة مع صحيفة “فيدوموستي”.” إنتاجية العمل عندنا أقلّ…..، صحيح، ولكن أبدًا، ليس لأنّنا نعمل بشكلٍ أسوأ. ببساطة لأنَّ أعمالنا موجّهة اجتماعيًّا، وندفع أجور آلاف العمال، وندرك أنّ الاندفاع إلى التحديث السريع، في أوضاع حركة الانتقال البطيئة وارتفاع متوسط عمر العاملين، يحمل في طياته خطر فقدان كثير من الناس عملهم. في منشآت أوسمانوف، لا تجري عمليات التحديث بسبب نقص الأموال، بل لأنَّ السلطات ترجوه ألا يسرّح أحدًا من العمال، ولا يستبدل حتى قليلي الإنتاجيّة بعمالٍ أكثر مهارة إذا كانت توجهاتهم السياسيّة لا تروق السلطات.
أولئك الذين حصلوا على معونات مكافحة الأزمة، هم من شكّل وجه الأكثريّة البوتينيّة والتحالف الجديد الداعم لفلاديمير بوتين. لقد غيّر الدعم الذي تحكّمت به الحكومة الاقتصاد الروسي لدرجةٍ لم يعد يعرف معها، وكذلك تغيّر المجتمع. وحتى في يومنا الحاضر، فإنّ حجم التدخل الحكومي يفوق التصور. في كانون الثاني/ يناير من عام 2007، كانت لمساهمة الحكومة في رأس مال الكيانات القانونية بحدود 74 مليار روبل، وفي كانون الثاني/ يناير 2010، وصلت 4 تريليون روبل. وقد أُنفق القسم الأكبر من هذه الأموال في شراء أسهم الشركات الحكوميّة نفسها- بقيمة 3.4 تريليون روبل، أكثر قليلًا من 100 مليار دولار. وكانت قيمة سوق البورصة الروسية عام 2009 حوالى 750 مليار روبل فقط. في العام نفسه، أنفقت الحكومة قرابة 5 تريليون روبل على إجراءات مكافحة الأزمة.
أمّا معونات مكافحة الأزمة، فإنّها لم تتخلف عن تغيير ملامح الاقتصاد والمجتمع فحسب، بل خلقت آلياتٍ جديدةً في العلاقات السياسيّة. فأولًا، تغيرت آليات التمثيل السياسيّ. وتحوّلت روسيا من دولةٍ مواطنين يصوتون بحريّة إلى دولةِ تجمّعاتِ تصويت، على غرار ما كان عليه الاتحاد السوفياتي يومًا ماَّ. ولكن في الاتحاد السوفياتي، كان العمال المتنورون والقيادات الحزبيّة هم من يمثلون هذه التجمعات سياسيًّا، بينما في روسيا أصبح الممثّلون للتجمعات هم أصحاب الملكيات، الإدارات العليا ومجالس المديرين. لم تعد الجماهير والطبقات الاجتماعية تصغي إلى السلطة، فهم يستمعون إلى ممثلي التجمعات العمالية، أي لأولئك الذين طلبوا مساعدة الحكومة في أعوام 2008 و2009، وحصلوا عليها، ومن ثم هم من قبل بقواعد اللعبة.
وثانيًا، تغيّرت العلاقة بين السلطة والمواطنين المتحدين في تجمعاتٍ عمل، وبينها وبين ممثليهم. وعندما يتحدّث السياسيون حول عقد الحملات الانتخابية المبرم مع تجمعهم، فإنّهم يعبّرون مجازًا بما معناه: لا يدور الحديث عن حزمة وعود، ثابتة ومعبَّرٍ عنها بكميةٍ من الأموال، قُطعت لهذه أو تلك من المجموعات الاجتماعيّة. بيد أنّ المجاز في روسيا أصبح واقعًا، فقد نشأ التحالف البوتيني على أساس علاقات تعاقديةٍ بين الحكومة وممثلي تجمعات العمل.
طُلب من حكومة بوتين المساعدة، فقدّمتها. وبالمقابل تذكِّر الحكومة المستفيدين بالتزاماتهم الاجتماعية. لجأ المستفيدون إلى الغش في تقويم تكلفة المسؤولية الاجتماعية. وبالنتيجة، وجد آلاف من أكبر مشروعات البلاد أنفسهم متورطين في لقاءاتٍ دائمة وشبه يوميّة مع الحكومة: المال والأولويات، الوعود وتقديم التهاني بالأعياد، المشاركة في الاجتماعات، أفكارٌ من “القاعدة”، مقترحات وطلبات بإسعاد التجمّع بالتشرّف بزيارة كبار مسوؤلي الحكومة. عندما يقول كبار موظفي الحكومة إنّ “المعارضة خارج النظام”، فإنّهم يقصدون أولئك الذين لم ينضمّوا إلى شبكة التواصل هذه، ولم يتقاسموا الموارد مع الآخرين. تلك المعارضة هي من لم يطلب المساعدة من الحكومة، أي كلّ من لم يتلقّ الخدمات والذين لم يحظوا بالعناية والاهتمام منها.
على الرغم من الجهد الهائل، الذي بُذل لإبقاء جميع من شملهم “السيد سوركوف” في الأغلبية البوتينية على المركب، فإن هذا الجهد لم يفلح. وحتى الآن يؤكّدون، على سبيل المثال، أنّ الطبقة العاملة بكاملها تؤيّد بوتين وتدعم الاستقرار. جزءٌ فقط من الطبقة العاملة هم عمال المصانع الحربية الضخمة، التي تلقت منذ البداية المساعدة الحكوميّة، ولم تقلّص عدد العاملين فيها، وسعت عبر مراكز الضغط للحصول على قراراتٍ بزيادة الطلبات العسكرية الحكومية منها. وبالفعل، حصل هذا الجزء من الطبقة العاملة على وضع تفضيليّ مميّز. فعلى سبيل المثال، مصانع العربات في الأورال “أورال فاغون زافود”، التي أصبحت عام 2012 رمزًا لمحبّة الطبقة العاملة لبوتين، حصلت، عام 2009 وحده، من الحكومة على ما قيمته 500 مليون دولار من الإسهامات في رأس المال المعلن.
أما عمّال المصانع المدنيّة، وخصوصًا الضخمة منها أو التي يملكها الأفراد، فكانت موضع شبهةٍ لدى السلطات وما تزال. ويعدّ مسؤولو الحكومة الحركات الاحتجاجيّة التي نظّمها العمال وقت الأزمة، وفي الوقت الراهن، أنّها احتجاجاتٌ مأجورةٌ ومدفوعة. على سبيل المثال، أعلن نائب وزير تطوير المناطق يوري أوسينتسوف في رسالة وجّهها إلى الحكومة عام 2009، أنّ الأوليغارشي ريبالوفوف هو نفسه من نظّم الاضطرابات في منشآته.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ. فقد دأبت، وما تزال المؤسسات الأمنية تلاحق الناشطين في اللجان العماليّة من خارج الـ establishment. كانت وزارة الداخلية ترفع تقاريرًا، بشكلٍ مستمر، طوال عام 2009، إلى سيرغي سوبيانين، نائب رئيس الوزراء فلاديمير بوتين عن حالة الوضع في مصانع “أفتو فاز”. كان يدير المصنع إدارةٌ عيّنها زميل بوتين القديم سيرغي تشيميزوف. ولكنّ أداء هذه الإدارة كان سيئًا لدرجةٍ تبخرّت معها كلُّ المعونات التي قدمتها الحكومة، ولكنّ وزارة الداخليّة افترضت أنّ وضع المصنع السيئ ليس سببه الإدارة، بل نقابة العمال “الوحدة” ورئيسها بيتر زولوتارييف، الذي قال عنه وزير الداخلية وقتها نور غالييف لنائب رئيس الوزراء “سوبيانين” أنّه “يوتّر الأوضاع بنشره إشاعاتٍ عن تدهور الوضع المالي للعاملين في المصنع، وأنّه يحاول بكلّ السبل الممكنة تأزيم الوضع”.
ولم تنجح محاولات الاتحاد مع العاملين في الدوائر والمكاتب. فقد اتضح أن الوفاء بالوعود التي أُطلقت بشأن القروض الاستهلاكيّة، والرهن العقاري وخلق “الإمكانات الجديدة” مكلفٌ جدًا، ولم تتمكّن الحكومة من تنفيذها بالكامل. عام 2011، تفكك الاتحاد بين الحكومة وهذه الفئة من العاملين، بعد أن أدركوا في النهاية أنّهم قد خدعوا: بقيت القروض والرهن العقاري تكلف غاليًا، و”الإمكانات الجديدة” استفاد منها أطفال المحيطين برئيس الوزراء بوتين وأقاربهم.
عام 2013، انتهت حقبة الموظفين الذهبيّة في روسيا. ونتيجةً لوضع النظام المصرفي الذي طبع كمياتٍ كبيرةٍ جدًا من الروبلات لمواجهة الأزمة، أصدرت السلطات قراراتٍ رسميّة قيدت منح القروض الاستهلاكيّة. وعند اندلاع الحرب، قيدت الحكومة الاستهلاك نفسه، لإدراكها أنّ مستهلكي اللحوم الأوروبيّة توقفوا منذ وقتٍ بعيد عن دعم بوتين.
لم يبق شاغرًا مكان موظفي الإدارات والمكاتب من الطبقة الوسطى المفعمة بالشعور الوطني المتأجّج. فبدلًا من الطفيليين أدخل بوتين في “أغلبيته” العسكريين وقوات الأمن. عندما تحدّث في 6 آذار/ مارس عام 2012 عن المبادرات، “التي أطلقها فلاديمير فلاديميروفيتش”، كان وزير الماليّة سيلوانوف يقصد، قبل كلّ شيءٍ، وعود بوتين برفع رواتب العسكريين وأفراد لجان التحقيق، وزارة الداخلية ومكتب التحقيقات الفيدرالي الروسي. بلغت تكلفة هذه الوعود بأسعار 2012 حوالى 1.5 تريليون روبل في السنة، واليوم أكثر من ذلك، إذا أخذنا بالحسبان التضخم وظهور مؤسسات جديدة.

الجماهير في مواجهة الطبقات

عام 2012، اتَّسعت صالة الاجتماعات في قصر الاتحادات العماليّة لممثلي تجمعات العاملين. ولكنّ الالتزامات السياسيّة التي أخذوها على عاتقهم، أجبرتهم على الضغط على من يمثِّلون: لم يكن الموظفون الذين يتلقون رواتبهم من الحكومة هم من يشكِّل العمود الفقري لحضور الاجتماعات الجماهيرية التي نُظِّمت دعمًا لسلطات ولبوتين شخصيًّا، بقدر ما كان العاملون في المؤسسات والشركات التي حظيت بمساعدة حكومة بوتين للخروج من أزمتها.
وهكذا تحولت الأغلبيّة البوتينيّة الجديدة إلى “أغلبية في الشارع”. وقد أصبح هذا المصدر، الذي أتيح للكرملين فجأةً -أي إمكانيّة العمل على السياسة الجماهيريّة، ورقةً رابحة بيد السلطة عام 2014. فنسبة التأييد بـ 86 في المئة، رأت النور ليس بفضل براعة الكرملين، بل بفضل الأموال، التي أنفقتها حكومة بوتين، في نهاية العقد الأوّل من الألفيّة الثالثة، لمواجهة الأزمة.
فما هي اللحظة، التي تحوّل عندها تحالف ممثلي التجمعات العمالية المستقلين إلى تحالف حربٍ؟ كان الجميع وفي كلّ مكانٍ ينتظر الحرب عام 2012 في الحكومة، بين قادة المؤسسات والمشروعات، الذين كان من مصلحتهم استمرار إجراءات مواجهة الأزمة بأيّ ثمن. فما هي تلك الإجراءات التي كانت تهمّ هؤلاء القادة التي كانت الحكومة تتبعها في مواجهة الأزمة؟ الحماية. فتعويض رأس المال الأجنبي باستثمارات الميزانية وشبه الميزانية، التي سيكون من الممكن الحصول عليها بعد سنواتٍ عدّة من التعاون المتبادل مع الحكومة، كان أقلّ تكلفةٍ كثيرًا من الاستثمارات الأجنبيّة. فازدياد الطلب الحكومي بجميع أشكاله المختلفة، هو نمّو للطلب خارج السوق ولا يحتاج إلى آليات السوق، وهو تقييدٌ للاستيراد وحدُّ منه. هذه الإجراءات كلها كانت متداولة بشكلٍ أو آخر في أعوام 2009 و2010. ومن جديدٍ، عادت هذه الإجراءات لتفعَّل عام 2014.
لقد خلق تدخل الحكومة في الاقتصاد نُخبةً جديدة. تضمّن تقرير مركز دراسات العمالية، المنشور في نيسان/ أبريل 2017، مخططًا بيانيًّا يبيّن أنّ إجمالي عدد العاملين – موزعين إلى مجموعاتٍ بحسب المهن التي يمارسونها- قد تقلّص من عام 2008 إلى عام 2015. بينما ارتفع عدد العالمين في قطاع الخدمات، وهو أكثر المجموعات المهنيّة أهميّةً وحجمًا في أيّ اقتصادٍ حديث، بنسبة 0.7في المئة. أمّا القيادة -وهي مجموعة “القادة” المهنيين- فهي الوحيدة في روسيا التي أصبحت أكبر بنسبة 2 في المئة، وهذا بالطبع كلّه بفضل الأزمة.
تحوّلت الأزمة إلى وقودٍ إنتاج نُخبةٍ جديدة. وقد كانت هذه النخبة معبّأةً بالعداء تجاه الغرب “المتسبِّب بالأزمة”. حاء في تقرير معدّ عام 2012-2013، بطلبٍ من نادي المناقشة الدولي “فالداي”، حول النُخبة الروسيّة -الموظفين، النواب، قادة الشركات الكبرى- ما يلي” “تنتشر معاداة أميركا بين النّخب بشكلٍ أكبر من انتشارها بين المواطنين العاديين”. ويفسر معدّو البحث ذلك بـ “أثر الشعور بالاستياء” أو» resentment effect»
غير أنّه من الممكن ألا يكون انهيار محاولات تطبيق النماذج الغربية على الواقع الروسي، هو من ولَّد النظرة السلبيةً تجاه الغرب، التي تسمى باللفة النظريَّة.
ربما يكون الأمر مرتبطًا بمصالح النخبة العقلانيّة، وقبل كلِّ شيءٍ، مصالح النُخبة الجديدة، نخبة الأزمة. الأزمة والإجراءات التي اتُّخذت لمواجهتها، هي من أوجدت هذه النخبة، منحتها الثروة، وجعلتها شرعيّةً في نظر المواطن.
لقد نجحت خطّة سيركوف، التي أرادت من الخطاب المعادي للغرب أنْ يشرح للمواطنين الروس، لماذا تساعد الحكومة الأغنياء ولماذا تجعل الأغنياء عملاء لها وهي تساعد الفقراء. الرأسماليون -قادة الشركات الحكوميّة الكبرى والأليغارشيا- فهموا أنّه عندما تشتم السلطة الغرب، فإنّها تساعد الأغنياء الروس ليصبحوا أكثر ثراءً …وإلخ. لا يتطلب الأمر سوى تفعيل العقود الحكومية، واستمرار عمليّة مقايضة النقود والمزايا التفضيلية بولاء التجمعات العمالية.
عام 2012، كان كلُّ شيءٍ جاهزًا إمّا للوقوع أزمةٍ جديدة، أو لنشوب الحرب. وقد قامت الحكومة بتوجيهٍ من رئيس الوزراء بإجراء تدريباتٍ، وكأنّها تواجه الأزمة. وتبيّن أنّ الحكومة ستواجه بسهولة أكبر أزمة انخفاض أسعار البترول وهرب رؤوس الأموال خارج البلاد. فالمطالبات الغربية على الحسابات المصرفية أقلّ كثيرًا مما كانت عليه عام 2008، ثم إنّ الديون المستحقة للغرب أقلّ بمرّات عدة، في حين استطاعت البلاد تشكيل احتياطاتٍ من العملات الأجنبيّة.
الأمر الوحيد، الذي حّذر منه وزير المالية آنذاك كلًا من رئيس الوزراء والرئيس، أنّه ليس من الضروري دعم الروبل، تكرار عام 2008، هدر مئات المليارات من الدولارات على “تعويم العملة المنظّم”، ولن تحدث فوضى نقديّة. كانت هذه النصيحة ستكون مجديةً لو جاءت في نهاية عام 2014: مع أنّ سعر صرف الروبل كان قد انهار، ونفض بنك روسيا يديه، ولكن أحدًا لم يخرج إلى شوارع وساحات المدن الروسيّة للتظاهر. فتدهور سعر الصرف خفّف مشكلات الاقتصاد، الذي كان يعاني العقوبات وانخفاض أسعار النفط.
الباقي تفاصيل. بداية عام 2013، وضع الرئيس بوتين نقطةً على السطر في قصّة بيع الأصول الإستراتيجيّة الروسية للمستثمرين الأجانب. روسيا ليست بحاجةٍ إلى مستثمرين أجانب في فروع الاقتصاد الإستراتيجيّة، وإذا ما احتاجت الموازنة إلى أموال عن طريق الخصخصة، فإنّ عمالقة الاقتصاد الحكوميّة سيتولون تأمينها. وهذا ما حدث عام 2016: إذ بيع جزءٌ من حزمة الأسهم الحكوميّة في شركة “روس نفط” عن طريق البنك الحكومي ВТБ لمجموعة مستثمرين، وسُدد جزء من قيمة الصفقة من حساب قرضٍ قدّمه بنكٌ روسيّ كبير آخر، تابعٌ للدولة.
في نهاية عام 2013، أطلقت روح الحرب رسميًّا، عن طريق إدخال تعديلاتٍ طفيفة على قانون العقوبات في روسيا الاتحاديّة. قبل 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 لم يكن قانون العقوبات الجنائية يتضمّن أيّ استثناءاتٍ بالنسبة إلى المشاركين في التشكيلات المسلَّحة خارج القانون: المنظمون -من2 إلى 7 سنوات، المشاركون- مدّة اعتقال مشروطة، الاعتقال أو الحرمان من الحريّة. كذلك لم تكن هناك تحفظاتٍ بالنسبة إلى مكان عمل هذه التشكيلات المسلّحة: كان يفترض أنّ الأمر يتعلّق بروسيا وحدها، أمّا للمشاركين في أعمالٍ قتاليّة في دولٍ أُخرى فهناك فقرة تتعلَّق بالمرتزقة.
التصحيحات التي كتبتها جهاز مجلس الأمن القومي، وأرسلها الرئيس إلى مجلس الدوما، أثرت الفقرة 208 من القانون الجنائي بتعريفِ غريب. بحيث أصبح الجزء الثاني على النحو الآتي: “المشاركة في التشكيلات المسلّحة، خارج القانون الفدرالي، وكذلك المشاركة في التشكيلات المسلًّحة على أراضي دولٍ أُخرى ولا تعترف بها قوانين تلك الدول، لأهدافٍ تتعارض ومصالح روسيا الاتحاديّة، تستوجب عقوبة تصل حتى ستّ سنوات من الحرمان من الحرية مع تقييد الحريّة مدّة عامين”. ويتضح من هذا القانون، أنّ المواطن الروسي الذي يحارب على أرض دولةٍ أجنبيّة ضمن تشكيلاتٍ خارج قانون تلك الدولة، لن يحاكم في روسيا إذا كانت أهداف الحرب لا تتعارض مع مصالح روسيا القوميّة.
في التاريخ، نادرًا ما تتضمّن الأسباب نتائجها كلها. أصبحت حرب عام 2014 ممكنةً بسبب تحويل الاقتصاد إلى حكوميٍّ بسبب أزمة عام 2008، ولكنّ العمليّة نفسها لم تكن تهدف الوصول إلى الحرب. فنظام الإدارة اليدوي الذي أنشأته الحكومة بحكم ضرورة مواجهة الأزمة، أصبح ورقةً رابحة مهمة في مسائل مواجهة العقوبات، وإدخال إجراءات مواجهة العقوبات لتزويد مقاطعة الدونباس بما يحتاج إليه من مواد، ولكنّ الإطار كان قد صمِّم في البداية لحاجاتٍ أُخرى.
عندما قامت الحكومة عام 2009، بوضع قواعد وتعليماتٍ لشطب ديون العشرات من المؤسسات العسكريّة المستحقة للميزانية ولصناديق التأمين، لم يكن بإمكان أحدٍ ما أن يتصوّر أنّ هذه المؤسسات بالذات، ستحول، بعد 8 سنواتٍ، سورية وشرق أوكرانيا إلى حقل تجارب لاستعراض انجازاتها التقنية وإنتاجها الناجح. ولكنَّ هذا التعليمات هي بالضبط التي أدَّت في بداية الأمر إلى ارتفاع الإنفاق الحكومي على الطلبات الحكوميّة العسكرية، ومن ثمَّ عسكرة ميزانية الدولة.
استعراض قطاع الأعمال الضخمة ولاءه، الذي تمتّع به الكرملين عام 2014، ما كان ممكنًا لو كان رجال الأعمال مدينين للغرب، وليس لبوتين وللبنوك الحكوميّة الكبرى. وعندما أعطى بوتين الأوليغلرشيا القروض، لم يكن يعرف، أنَّ هذه الأموال ستضمن له بعد سنواتٍ عدة، ولاء كبار الأثرياء الروس.
عن طريق المصادفة المحضة تقريبًا، ومن دون أن يكون لديه أفكارٌ مستقبليّة، أعاد بوتين إلى الحياة غوليم([3]): تحالف الأغلبية الساحقة، التي أُنشئت، خلافًا لغوليم، ليس من الطين والتعويذات، بل من التسديدات الإلكترونية، مجلداتٍ من قوائم الميزانية، القرارات، اللقاءات، كوادر الأرشفة، الاجتماعات، القوافل، أبراج التلفزيون، سيارات LADA، عمال الخطوط المباشرة، المنتديات الاقتصادية، علماء الاقتصاد، علماء الاجتماع وغيره إلى ما لانهاية. هذه الأكثرية، كانت وتبقى تخضع للإصلاح من أشخاصٍ ما، متجددة ومعادة البناء، وبكلماتٍ أُخرى، ليس لهذه الأغلبية طبيعةٌ خاصّةٌ بها: إنّها مشروعٌ، ينفَّذ في الفراغ والزمن بوساطة المال.
هناك عدد من الروايات حول نهاية غوليم. بحسب البعض منها، يقوم العملاق الطيني بقتل صانعه. ولكن هناك رواياتٌ أُخرى تقول، بعد أن حقَّق غوليم الأهداف التي وُجد من أجلها، تبعثر على شكل غبارٍ، ليعود إلى طبيعته الأصليّة.

خاتمة

الواضح أمرٌ واحد، فالتجربة الاجتماعيّة الجذريَة، التي قام بها فلاديمير بوتين، ستنتهي آجلًا أم عاجلًا. فـ”أغلبية بوتين” التي تبدو صلبةً، ستتفتت إلى مجموعاتٍ اجتماعيّةٍ عدة متنوعة، حالما تتحرر النُخبة الروسيّة الجديدة من عبء الالتزامات، التي أخذتها على عاتقها من أجل بوتين وباسمه. وسيُنهي تحالف الحرب وجوده، ليترك المكان؛ لمن؟ لتحالف السلام ربّما؟

([1]) كارل رويف: مستشار الرئيس الأميركي جورج بوش الابن.
([2]) ستيف بينون: مستشار ترامب السياسي والإستراتيجي. أجبر على الاستقالة مؤخرًا.
([3]) غوليم: كائن أسطوريّ عملاق من الطين، أنشأه أحبار اليهود ليدافع عن الشعب اليهوديّ. وهو كائن بلا روح، ثقيل الحركة، يخضع لأوامر من أوجده. المصدر wikipedia.org: ميكولاي آليش. عودة غوليم للحياة




المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مترجم, مركز, موسكو:, الحكم, الدكتاتورية, الهجين, نظام, كارنيغي


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع مترجم : مركز كارنيغي في موسكو: نظام الحكم الهجين أم الدكتاتورية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مخطط لقلب نظام الحكم عبدالناصر محمود أخبار الكيان الصهيوني 0 01-04-2016 09:25 AM
عهد جديد من الدكتاتورية في تونس عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 12-07-2014 07:38 AM
دان حالوتس نفضل بقاء نظام الأسد في الحكم عبدالناصر محمود أخبار الكيان الصهيوني 0 12-12-2013 08:46 AM
تقرير // مركز كارنيغى الامريكى // حماس تواجه تحديات كبيرة وعباس ليس محل ثقة كثير من الفلسطينيين ابو الطيب أخبار عربية وعالمية 0 12-04-2013 11:30 PM
6 أبريل: 30 يونيو انقلاب عسكري ومحاولة لاستساخ نظام مبارك.. ونتوعد بثورة جديدة ابو الطيب شذرات مصرية 0 11-23-2013 12:09 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:19 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59