العودة   > > >

أخبار ومختارات أدبية اختياراتك تعكس ذوقك ومشاعرك ..شاركنا جمال اللغة والأدب والعربي والعالمي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #1  
قديم 03-31-2013, 02:36 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,159
ورقة نصوص من الأدب الإسلامي


نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية

والرسائل والوصايا والعهود


إذا ذُكرت كلمة "الفن"، أو أُلقيت على الأسماع عبارة "الفن الأدبي" أو "الفنون الأدبية"، انصرف الذهن إلى ألوان الأدب شعرًا ونثرًا؛ مِن قصيدة أو أنشودة أو مقطوعة أو ملحمة، ومِن خُطبة إلى قصَّة وأقصوصة، وخاطرة ومقالة ومسرحية، إلى غير ذلك مما يؤديه فنُّ العبارة؛ كالأسطورة، واللغز، والأُحجية، والذي يسبق هذه الألوان في ميدان الأدب والنقد هو مَعرِفة القيَم الفنيَّة التي بها يقوم العمل الأدبي أيًّا كان نوعه.


ولعلَّ أقرب المقاييس الفنية التي يوزَن بها اللون الأدبي هو مِقياس "الصنعة".

فلقد درس النقاد القدماء صناعة الأدب من خلال البناء اللفظي والمعنوي، وقامت على تلك النظرة النقدية دراساتٌ وسعتْ خصائص الألفاظ والتراكيب وخصائص المعاني للنصِّ الأدبي، وما يتبع هذه الخصائص من جزئيات تُقاس بمعيار الذَّوق والنظرة الشاملة.

فهذا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ يقرِّر الصنعة في الأدب، ويرى أنها مِهنة الأديب المطبوع، شاعرًا كان أو ناثرًا، وفي ذلك يقول: "الأدب جنس مِن الصناعة، وضرب مِن التصوير"، ويُسمي أبو هلال العسكري كتابه في نقد الأدب بـ: "الصناعتين"؛ يعنى الشعر والنثر، ويدرس عبدالقاهر الجُرجاني القيم الفنية لألفاظ ومعاني الأدب حتى يبلغ الشوط إلى مداه، فيُقرِّر مزيَّة النص في النَّظْم، لا في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده.


ويدرس ابن سنان الخفاجي خصائص اللفظة المُفرَدة، فيوصلها إلى ثمانية أوصاف.

ويَبني ابن الأثير كتابه: "المثَل السائر" على مقدِّمتَين؛ أولاهما في الصناعة اللفظية، وثانيتهما في الصناعة المعنوية[1].

وقبل أن ندرس - بالتفصيل - فنون الأدب الإسلامي مِن خطبة وقِصَّة وشِعر، يَحسن أن نسوق بعض الشواهد من النصوص الإسلامية؛ لنقف على شيء مِن خصائصها.


إليك مِن كلام العرب ما يَقرع الخصم، ويقطع الحُجَّة، ويُثبت العقل، ويستثير الحماس، ويُمتع العواطف، ويُلهب المشاعر، ويَفيض بسحر البيان وأَسرِ الجنان.

قال الخليفة المعتصم في كتاب له إلى عبدالله بن طاهر، وكانت في نفس المعتصم عليه حزازة:
"أما بعد، عافانا الله وإياك، قد كانت في قلبي منك هنَات غفَرها الاقتدار، وبقيَت حزازات أخاف منها عليك عند نظري إليك، فإن أتاك ألفُ كتابٍ منِّي أستقدمك في كل واحد، فلا تقدم، وحسبك معرفة بما أنا منطوٍ لك عليه إطلاعي إياك على ما في ضميري منك، والسلام".

وطلب الحَجاج إلى المُهلَّب بن أبي صفرة أن اكتب لي عن خبر الوقيعة في خراسان، واشرح لي القصة كأني أشاهدها، وعن خبر بني المُهلَّب وأيهم أشجع، فأرسل المُهلَّب إلى الحجاج كعبَ بن معدان الأشعري، فجاء مِن كلامه: "أما بنو المهلب، فالمُغيرة سيِّدهم، وكفاك بيزيدَ فارسًا، وما لقي الأبطالُ مثل حبيب، وما يستحيي شجاع أن يفرَّ مِن مدرك، وعبدالملك موت زعاف وسمٌّ ناقع، وحسبك بالمفضل في النجدة، واستجهز قبيصة، ومحمد ليثُ غابٍ"، فقال الحجاج: ما أراك فضلت منهم واحدًا عليهم، فأيُّهم أشجَع مِن أخيه؟ قال كعب: هم كالحلقة المُفرغة لا يُدرى أين طرفاها، قال الحجاج: فأخبرني عن رضا الجند على المُهلَّب، ورِضا المهلب على الجند.


قال كعب: أعزَّ الله الأمير، للمُهلَّب على جنده شفقة الوالد، ولهم به بِرُّ الولد.

وبعد، فهذا غيض مِن فيض مِن كلام السادة والقادة، فكيف بكلام أرباب اللسن والفصاحة وعلماء البيان وصُنَّاع الكلام، وبخاصَّة مَن كان مِن فنِّ الشعر، فهو أقدر على التصوير؟

إليك هذه المُذهبة العينيَّة لشاعر الإسلام الصحابي المجاهد كعب بن مالك الأنصاري، أبيات جديرة بالدراسة والنظرة الفاحِصة، إنها قصيدة لشاعر أحبَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لِما له مِن مواقفَ تشهَد بصدقِ إيمانه، ورسوخ العقيدة في نفسه، هذه القصيدة نظمها كعب في الرد على عبدالله بن الزِّبَعْرَى، اشتملَت وحدتها العضوية على صورٍ أدبية فنيَّة، صاغها كعب - رضي الله عنه - بريشة الشاعر المُبدِع، فجاءت قصيدته خطابًا للعقل والعاطفة، متَّسمة بالواقعية والتاريخ والصِّدق الشعوري، وهذه الخصائص مجتمعة تؤكِّد ثُبوت الشِّعر الإسلامي وقوته وتفاعله وأثره وتأثيره، وإنَّ ما يراه بعض النقاد - قدماء ومعاصرين - مِن أن الشِّعر الذي نظمه شعراء الإسلام مِن الرعيل الأول فقَدَ بعض السمات الفنية مِن توهُّج العواطِف، والإبداع في الصور، وسعة الخيال، وتميَّز بخصائص أخرى كفتور العاطفة، ونضوب الصورة، وضيق الخيال - ليس على إطلاقه، والحكم العدل فيما ذهب إليه هؤلاء النقاد أن نُطلَّ على شيء من قصيدة كعب؛ فهي البرهان على خلاف ما يَرمي إليه هؤلاء.


يقول - رضي الله عنه وأرضاه -:
ألا هل أتى غسَّانَ عنا ودونهم الإسلامي space.gif
مِن الأرض خَرقٌ سَيْرُه مُتنَعنِعُ الإسلامي space.gif

صَحارٍ وأعلامٌ كأنَّ قَتامَها الإسلامي space.gif
مِن البعدِ نقْعٌ هامدٌ مُتقطِّعُ الإسلامي space.gif

مجالدنا عن ديننا كل فَخمةٍ الإسلامي space.gif
مذرَّبةٍ فيها القوانسُ تلمَعُ الإسلامي space.gif

ولكن ببدرٍ سائِلوا مَن لقيتمُ الإسلامي space.gif
مِن الناسِ، والأنباءُ بالغيبِ تنفَعُ الإسلامي space.gif

وإنَّا بأرضِ الخوفِ لو كان أهلُها الإسلامي space.gif
سِوانا لقد أَجلَوْا بليلٍ فأقْشَعوا الإسلامي space.gif

إذا جاء مِنا راكبٌ كان قولُه الإسلامي space.gif
أعدُّوا لما يُزجِي ابنُ حربٍ ويَجمَعُ الإسلامي space.gif

نُجالد لا تَبقى علينا قَبيلةٌ الإسلامي space.gif
مِن الناس إلا أن يَهابوا ويفظعوا الإسلامي space.gif

وقال رسول الله لما بدَوا لنا الإسلامي space.gif
إذا ما اشتهى أنا نُطيع ونسمَع الإسلامي space.gif

فلمَّا تلاقَيْنا ودارَتْ بِنا الرَّحى الإسلامي space.gif
وليس لأمرٍ حمَّه اللهُ مدفَعُ الإسلامي space.gif

ضَربْناهمُ حتى تركْنا سَراتَهم الإسلامي space.gif
كأنهمُ بالقاعِ خشبٌ مُصرَّعُ الإسلامي space.gif

ونحن أناسٌ لا نرى القتلَ سُبَّةً الإسلامي space.gif
على كل مَن يَحمي الذِّمارَ ويمنَعُ الإسلامي space.gif

بنو الحربِ لا نَعيا بشيءٍ نقولُه الإسلامي space.gif
ولا نحن مما جرَّتِ الحربُ نَجزعُ الإسلامي space.gif



إلى آخر ما قال كعب - رضي الله عنه - في هذه الرائعة الحَماسية، التي تُقارب أبياتها خمسين بيتًا، كل بيت يُعبِّر عن معنًى سامٍ شريف تتلاحَق فيه الصور؛ حتى كأن السامع يُشاهد المعركة الإسلامية عيانًا، ولنقف على شيء مِن هذه الصور في عدد مِن أبيات هذه القصيدة.

في مطلع القصيدة تناول الشاعر تصوير المسافات التي قطعها الجيش الإسلامي انتصارًا لدين الإسلام ونشره والدعوة إليه.

وقد أبدع كعب في تصوير الأرض المُوحِشة التي قطعها الجيش المجاهد؛ "فهي في شِعره مصيدة لأقوى الجِمال، فلا يقدر على اجتيازها أيُّ مُسافر مهما بلغت راحلته من الصبر والتمرُّس على الأسفار، موحشة، لا أنيس فيها ولا رفيق".

ولكن سرعان ما يَرسم في تعبيره صورة أخرى لهذه الأرض الموحشة؛ إنها مرتع خِصب للظباء الخالصة البياض، ولأسراب النعام والطيور البرية؛ فقد جمع "كعب" في تصويره الشاعريِّ بين نقيضَين لصورة هذه الصحراء الواسعة المُوحِشة، فهناك حياة الصمت الرهيب الذي لا يقطعه إلا دلاج في السير، وهناك الشعاب المُتناثِرة التي لا يسكنها راجل أو راحل، وبجانب هذه الصورة تجد صورة الحياة تعجُّ بالحركة الدائبة التي تمتِّع النظر؛ فهناك الظباء والطيور، وأعداد مِن حيوانات البرِّ تسرَح وتمرَح وترتَع في مواطن الكلأ ورياض السهل والوعر.
به العِينُ والآرامُ يَمْشِينَ خلفة الإسلامي space.gif
وبَيضُ نَعَامٍ قَيضُه يَتقلَّعُ الإسلامي space.gif



وشبيه قول كعب في هذا البيت "به العين والآرام يمشين خلفة" بقول زهير بن أبي سلمى:
بِها العينُ وَالآرآمُ يَمشينَ خلفَة الإسلامي space.gif
وَأَطلاؤُها يَنهَضنَ مِن كُلِّ مجثمِ الإسلامي space.gif



ومعلوم أنه يَبقى لزهير فضْل السَّبق إلى هذه الصورة النابضة بالحياة والحركة.

يقول الدكتور/ زكريا صيام - حول الصور التي رسَمها كعب في قصيدته تلك -:
"ولا أدري كيف تسَنَّى لشاعر المدينة حيث الحضارة والاستقرار أن يأتي بصور بدوية، بل موغِلة في البداوة والغرابة، لكنه خيال الشعراء الذي لا يحدُّ أفقَه شيء"[2].


ويمكننا أن نأخذ مِن ملاحظة الدكتور/ صيام معنى قدرة الشاعر المسلم على الإبداع في التصوير على حسب ما تقع عليه حاسته، وعلى حسب ما يراه في ذهنه مِن مواقف ومشاهد.

فكعب في هذه القصيدة يُقوي لفظَه في رسم الصورة التي تتطلَّب منزع القوة؛ كهَول الصحراء وسعتها ووحشتها، وحين يرتبط شعوره بمشاهد الحضارة واللين نراه سهل اللفظ وواضح المعنى، حتى لكأنَّ القارئ يُحسُّ أن مطلع القصيدة لونٌ خاصٌّ بعيد عن وسطها وآخرها، فهل تُحسُّ بصلابة أو غرابة أو وحشية في قوله من هذه القصيدة؟
وفينا رسول الله نتبَع أمره الإسلامي space.gif
إذا قال فينا القول لا نتطلَّع الإسلامي space.gif

نُشاوره فيما نريد وكلنا الإسلامي space.gif
إذا ما دعا - حتمًا - نُطيع ونسمع الإسلامي space.gif

وقال رسول الله لما بدَوا لنا الإسلامي space.gif
ذَروا عنكمُ هول المنيات واطمَعوا الإسلامي space.gif

وكونوا كمن يَشري الحياة تقرُّبًا الإسلامي space.gif
إلى ملك يُحيا لديه ويُرجَع الإسلامي space.gif



فتأمَّل هل تجد في هذه الأبيات مِن قصيدة كعب لفظًا غريبًا، أو حرفًا متنافرًا، أو معنًى غامضًا؟!

إن هذه الأبيات جميعها تدل - في إطارها ومضمونها - على سعة قاموس لغة الشاعر، وخصوصًا شاعر مثل كعب بن زهير، ذلك الصحابي الذي تخرَّج في مدرسة المسلمين، مدرسة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، مدرسة الرعيل الأول من المسلمين، ومَن حذا حذوهم مِن أدباء ومفكِّري الإسلام إلى اليوم.

إن هذه الخصائص، التي تجمع بين سهولة اللفظ وعذوبته، وفخامته وقوته، وبين وضوح المعنى وعُمقِه، خصائص تَصدُق على الشعر الذي نبَت وأينَع في رياض الفِكر الإسلامي.

وقامت عليه دراسات أدبية ونقدية قديمة وحديثة أولئك الأدباء، فكْر أدبيٌّ زخرت به أمهات المصادر من مثل كتاب "الأغاني"؛ لأبي الفرج الأصفهاني، و"البيان والتبيين"؛ للجاحظ، و"العقد الفريد"؛ لابن عبدربه، و"يتيمة الدهر"؛ للثعالبي، و"زهر الآداب"؛ للحصري، و"المثل السائر"؛ لابن الأثير، و"صبح الأعشى في صناعة الإنشا"؛ للقلقشندي، و"الطراز"؛ للعلوي، وكان ذلك الشِّعر قِبلة النحاة في شواهدهم، ومحط أنظار البلغاء في كلامهم، والبلاغيين في بحوثهم، واللغويين في آثارهم، والنُّقاد في آرائهم.

[1] انظر هذه القضية وتفصيلاتها في: البيان والتبيين؛ للجاحظ جـ1، والصناعتين؛ لأبي هلال العسكري، في باب النظم، وأسرار البلاغة؛ لعبدالقاهر الجرجاني، شرح فكرة النظم، وسر الفصاحة؛ لابن سنان الخفاجي، والمثل السائر؛ لابن الأثير.

[2] الأدب العربي في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، ص: 143، د. زكريا عبدالرحمن صيام.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــ{ شبكة الألوكة }ـــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ








المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 03-31-2013, 02:42 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,159
ورقة

نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية

والرسائل والوصايا والعهود


إذا كان الاستدلال يُغري بذكر الكثير مِن عطاء الأدباء، فهذه عبارات مِن جيِّد المنظوم والمنثور مِن كلام العرب أوردها الحصري في كتابه: "زهر الآداب وثمر الألباب".


قال أبو إسحاق:
أهدى الكِنديُّ إلى بعض إخوانه سيفًا صقيلاً فكتب إليه:
"الحمد لله الذي خصَّك بمنافعَ كمنافع ما أهديتَ، وجعلك تهتز للمكارم اهتزاز الصارم، وتمضي في الأمور مضاء حِدَّة المأثور، وتصون عِرضك بالأرفاد، كما تُصان السيوف بالأغماد، ويطَّرد ماء الحياة في صفحات خدِّك المشوف كما يشفُّ الرَّونق في صفائح السيوف، وتَصقُل شرفك بالعَطيَّات كما تصقل متون المشرفيات"[1].


هذه العبارات التي ساقها أبو إسحاق الحصري من كلام أحد الأدباء تتميز بخصائص فنية ثلاث:
أولها: تَراوُح الفقرات بين الطول والقصر.


وثانيها: اعتماد هذا الكتاب على أسلوب السجع الذي تبدو عليه مسحَة مِن تكلُّف.


وثالثها: أن طوَّع هذا الكاتب مباني كلماته لمعاني الغرض الذي يقصد إليه، وهذا مِن الخصائص الفنية التي يَكاد كلام العرب ألا يَحيد عنها في أغلب الظروف والأحوال.


وثمة خصوصية أخرى تميَّز بها كلام ذلك الأديب: أنها أسلوب الحقيقة، وهذا يعني أن الصور الأدبية تكتسب رُواءها مِن أسلوب الحقيقة بقدر ما تكتسبها من أسلوب المجاز، ويعود تحقُّق هذه الخصوصية إلى قدرة الأديب على تطويع كلماته وَفْق معانيها.


وانظر إلى ما جرى مِن وفد الشام بين يدَي المنصور، واستمع إلى كلام الحارث بن عبدالرحمن الغِفاري أحد الوافدين، فلسوف يتبيَّن لك قدرة الأديب على تخيُّر الكلمات لما يمكن أن تحمله من معنى.


يقول الحارث: "يا أمير المؤمنين، إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة استخفَّت حليمَنا، فنحن بما قدمنا معترفون، وبما سلف منا معتذرون، فإن تُعاقبْنا فبما أجرمْنا، وإن تعفُ عنا فطالما أحسنت إلى مَن أساء"، قال أبو إسحاق: فقال له المنصور: أنت خطيب القوم، وردَّ عليه ضياعه بالغوطة"[2].


هذه العبارات شفعت لصاحبها ولمستمعيها مِن وفد الشام، شفعت لهم عند السلطان بطيب ألفاظها وتوفيق معانيها، وسِحر بيانها، الذي أخذ بمجامع القلوب، فصار إلى قَبول توبة التائبين أنصفَ في حقِّ المُعتذِرين.


قال أبو إسحاق:
"ومِن المواقف التي أنصفَت صاحبها موقف تميم بن جميل عند الخليفة المعتصم، حدث أن قام تميم بن جميل بشاطئ الفرات، واجتمع إليه كثير من الأعراب فعَظُم أمره، وبَعُد ذِكرُه، فكتب المعتصم إلى مالك بن طوق في النهوض إليه، فتبدَّد جَمعُه، وظفر به موثقًا إلى المعتصم، فقال أحد رجال الخليفة: ما رأيتُ رجلاً عايَن الموت فما هاله ولا شغله عما كان يجب عليه أن يفعله مثل تميم بن جميل، فإنه لما مثل بين يدي المعتصم وأُحضر السيف والنطع ووقف بينهما تأمله المعتصم - وكان جميلاً وسيمًا - فأحبَّ أن يعلم أين لسانه مِن منظره، فقال له: تكلم يا تميم، فقال تميم للخليفة: أما إذ أذنتَ - يا أمير المؤمنين - فأنا أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، يا أمير المؤمنين، جبَر الله بك صدعَ الدِّين، ولمَّ بك شعث المسلمين، وأوضحَ بك سبُل الحق، وأخمدَ بك فتنة الباطل، إن الذنوب تُخرس الألسن الفصيحة، وتُثقِل الأفئدة الصحيحة، ولقد عَظُمت الجريرة، وانقطعَت الحُجَّة، وساء الظنُّ، فلم يبقَ إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربَهما مني وأسرعهما إليَّ أشبههما بك وأولاهما بكرمك، ثم أنشد:
أرى الموت بين السيف والنِّطْع كامنًا
يُلاحِظني مِن حيثما أتلفَّت

وأكبر ظنِّي أنك اليوم قاتلي
وأيُّ امرئ مما قضى الله يفلت

وأيُّ امرئ يأتي بعذر وحُجَّة
وسيف المنايا بين عينَيه مُصلَت

وما جزعي مِن أن أموت، وإنني
لأعلم أن الموت شيء مؤقَّت

ولكنَّ خلفي صبية قد تركتهم
وأكبادهم مِن حسرة تتفتَّت

كأني أراهم حين أُنعى إليهم
وقد خمشوا تلك الوجوه وصوَّتوا

فإن عشتُ عاشوا سالِمين بغِبطة
أذود الردى عنهم وإن متُّ موتوا

يعزُّ على الأوس بن خزرج موقِف
يُسلُّ عليَّ السيف فيه وأَسكُت

وكم قائلٍ لا يبعد الله روحه
وآخر جذلان يسرُّ ويشمَت



قال أبو إسحاق: فتبسَّم المُعتصِم، وقال: يا جميل، قد وهبتُك للصِّبية، وغفرتُ لك الصَّبوة، ثم أمر بفك قيوده، وخلَع عليه، وعقد له على شاطئ الفرات[3].


ومِن خلال هذه النصوص يتبيَّن لنا أن أهم فنون الأدب الإسلامي منذ عهد النبوة وما وليه من عصور الأدب إلى عصر النهضة الحديثة، لا يتجاوز الكلام المنثور والمنظوم في إطار ألوانٍ أدبية معيَّنة مِن خطبة، ووصية، وعهد، وميثاق، ورسالة، وقصة، وتوقيعات، وشِعر.


أما المسرحية فلونٌ شاع وكَثُر في العصر الحديث، والقصة ويتبَع المسرحية ألوان أخرى؛ كالأقصوصة، والخاطرة، والأسطورة، والمقالة، والقصة القصيرة.


ولم تُعرَف هذه الألوان الأخيرة وبخاصة فن المسرحية في حياة العرب الأدبية، ولم تنشأ أثناء نقلتهم الإسلامية إلا في العصر الحديث، غير أن القصة بمفهومها الأدبي وفوارقها الفنية التي تميِّزها عن الخَطابة كانت مِن أهمِّ فنون الأدب بعامة، والأدب الإسلامي بخاصة، ويكفي - دليلاً - على ذلك اشتمال الأدب النبوي على طائفة مِن القصص، مما سنتحدَّث عنه بالتفصيل في موضع آخَر مِن هذه الدراسة.


وإذا كانت الخطابة والقصة والشعر هي أرحَب ميدان لاستيعاب أغراض الأدب الإسلامي وموضوعاته، فسنقصر الدراسة على هذه الألوان الثلاثة، مُبتدئين بفنِّ الخَطابة؛ فهي مِن أخطر فنون الأدب الإسلامي في حياة المسلمين منذ فجر الدعوة الإسلامية على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلى اليوم، مُشيرين - باختصار شديد - إلى بعض الألوان الأدبية الأخرى؛ كالرسائل، والوصايا، والعهود.


وإذا كانت الخَطابة العربية أسبق في الظهور مِن الشعر جاهلية وإسلامًا فما أهم وبلاغتها، وما الخصائص الفنية التي تميَّزت بها في ألفاظها وجُمَلها وتراكيبها ومعانيها وبلاغتها، وما قيمتها الفنية في معايير النقد الأدبي؟ ذلك ما سندرسه في الصفحات التالية، وقبل أن نتحدث عن هذه القضايا يَحسن أن نلمَّ بشيء عن تاريخ الخطابة عند العرب قبل الإسلام، وما كان لهذا الفنِّ مِن أثر في حياتهم الاجتماعية والأدبية.


كانت الدوافع والأغراض لفن الخطابة عند الجاهليين تكاد لا تتجاوز الموضوعات التالية: "النعرة والحمية الجاهلية، وشن الغارة مدافعة عن النفس والمال والعِرض، أو للتحريض على السطو والسلب.


ومِن أهم موضوعاتها عندهم:
"المُفاخَرة بالشِّعر والنسَب والحسب، وقوة العصبية إلى جانب عدد من الخِصال الحميدة؛ كالشجاعة والكرم والنجدة والإيثار وحماية الجار وإباء الضيم"[4]، وقد سارت الخطابة عند العرب في جاهليتهم سَير الشِّعر في كثير مِن الأغراض والموضوعات، غير أن عِنايتهم في أول الأمر كانت خاصة بالشِّعر دون الخَطابة؛ لصعوبة حفظ النثر وسهولة حفظ المنظوم، ولأن الخَطابة فنٌّ قضَت به طبيعة حياتهم المعيشية، ودعَت إليه حالتهم الاجتماعية، فتفتَّقت بها ألسنتهم *****ً لعزِّها، وحِفظًا لمَجدِها، وتخليدًا لمآثرها، وتأييدًا لمفاخرها[5].


وعلى الرغم مِن قِدَم عنايتهم بالشعر دون الخطابة فإنه قد نزَل مُستوى الشِّعر عندهم وعلا شأن الخطابة لما اتَّجه الشعراء إلى موضوعاتٍ تُقلِّل مِن قيمتهم؛ حيث استعملوا الشِّعر في ثلب الأنساب والطعن في الحرُمات، وهتْك الأعراض، وإثارة الضغائن، واتخذوه وسيلة للعيش والتكسُّب.


مِن أجل ذلك اتجه الخطباء بخُطبِهم في ذلك العصر إلى موضوعات ذات قيَم إنسانية رفيعة بخلاف ما كان عليه الشعر، فاستُعمِلت الخطابة في تكريم الأشراف وتأبين العظماء، والصُّلح بين الفريقَين.

[1] زهر الآداب وثمر الألباب للحصري جـ3 ص 828، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، شرح: زكي مبارك.

[2] المصدر السابق للحصري ص 828.

[3] المصدر السابق للحصري ص 829 وما بعدها.

[4] الخطابة لعلي محفوظ ص 18، ط الرابعة.

[5] المصدر السابق ص 18.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــ{ شبكة الألوكة }ـــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ








رد مع اقتباس
  #3  
قديم 04-17-2013, 11:05 PM
ام زهرة غير متواجد حالياً
متميز وأصيل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: العراق
المشاركات: 6,886
افتراضي

بارك الله فيك وجزاك كل خير.
موضوع رائع قيم وهادف.
وفقك الله ورعاك وزاد من تقواك.
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الأدب, الإسلامي, نصوص


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع نصوص من الأدب الإسلامي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أول نصوص عن المسيح عمرها 2000 عام Eng.Jordan أخبار منوعة 0 12-01-2016 11:19 AM
وقفة مع الأدب الإسلامي ام زهرة مقالات وتحليلات مختارة 0 04-29-2013 04:32 PM
أكلُّ أدب إلا الأدب الإسلامي؟ يقيني بالله يقيني أخبار ومختارات أدبية 4 04-13-2012 05:54 AM
الأدب الإسلامي في إطار البديهيات الشرعية والواقعية يقيني بالله يقيني أخبار ومختارات أدبية 0 02-15-2012 04:25 PM
نصوص أدبية احمد ادريس دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-20-2012 06:21 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:45 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59