#1  
قديم 04-07-2013, 07:37 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
29 قصة مخطوط


على هامش ذكرى الأندلس … قصة مخطوط!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

الزمان: عام 1924، المكان: أروقة مكتبة برلين؛ حيث يتجول الطبيب المصري النابه محيي الدين التطاوي بين زخائر المكتبة العريقة، ليتوقف فجأةً أمام مخطوط عربي (يحمل رقم 62234) للعالم والطبيب العربي: ابن النفيس (1210 - 1288) بعنوان: شرح تشريح القانون، (كتاب القانون؛ لابن سينا).

مخطوط نادر يثير شغف الباحث العربي طالب الدكتوراه في جامعة فرايبورج.

لحظة فارقة بدَّلت وِجهة بحثه وموضوع رسالته، بل وبدَّلت تاريخ العلم الحديث؛ إذ - ولدهشة الطبيب الباحث - يسجل المخطوط العربي وصفًا للدورة الدموية، على نحوٍ يخالف تفسير جالينوس في شرحها، ويَفوقه دقةً، بينما يتوافق مع تفسير الإسباني سيرفيتوس الذي يُنسب إليه فضلُ كشْفها مؤرخًا بثلاثة قرون لاحقة لكشف العالم العربي.

ونتابع مع المستشرقة الألمانية المنصفة: د. زجريد هونكه ما ذكرته في كتابها: "شمس العرب تسطع على الغرب"؛ إذ تقول: "ففي هذا العام قدم طالب عربي شاب أطروحة باللغة الألمانية إلى كلية الطب في جامعة فرايبورج، أحدثت دهشًا وعجبًا شديدين، وجرت حولها بحوث محمومة ومقارنات عديدة، فكانت النتيجة أن صادَق الجميع على ما ورد في الأطروحة من نتائج علمية، والدهشة لا تزال تملأ النفوس على المختصمين أنفسهم.

وبادئ ذي بَدء، كان هناك فقط بضعة أساتذة ألمان استمعوا إلى ما ادَّعاه الشاب العربي، فأخرجوا من مكتبة الدولة كل المخطوطات القديمة، وأشبعوها بحثًا وتنقيبًا ومقارنة، حتى وصلوا نهائيًّا إلى النتيجة الحتمية التي لم يكن منها مَفرٌّ، وهى نتيجة تؤكد أن الدكتور التطاوي - من مصر - على حق بما جاء فيه، فإن أول من نفذ ببصره إلى أخطاء جالينوس ونقدها، ثم جاء بنظرية الدورة الدموية، لم يكن سيرفيتوس الإسبانى، ولا هارفي الإنجليزي، بل كان رجلاً عربيًّا أصيلاً من القرن الثالث عشر الميلادي، وهو ابن النفيس الذي وصل إلى هذا الاكتشاف العظيم في تاريخ الإنسانية وتاريخ الطب، قبل هارفي بأربعة مائة عام، وقبل سيرفيتوس بثلاثمائة عام".

سَبَق تسليم الجامعة الألمانية بما جاء في بحث الطبيب المصري، إرسالُها لصور من المخطوط إلى عالم المخطوطات والتراث العربي الإسلامي البروفسور ماكس مايرهوف، الذي كان يتَّخذ من القاهرة مستقرًّا له آنذاك، فقام بتحقيقها وأكَّد صحتها.

ثم قدَّم هذه الحقيقة العلمية في تقرير مفصَّل إلى المعهد المصري عام 1931، وتناوَلها في مقال له نشرته مجلة إيزيس Isis عام 1932.

ثم أرسلها بدوره إلى الأمريكي جورج سارتون، الذي كان يعد في هذا الوقت كتابه "تاريخ العلم"، فقام بإضافتها إلى طبعته الأخيرة، ناسبًا الفضل لأهله، ومصِّححًا لخطأ كان قد استقر قرونًا.

ونتوقف عند ما ذكره البروفسير ماكس مايرهوف، مُعربًا عن دهشته من التطابق بين ما ورد في مخطوط ابن النفيس وبين ما كتب سيرفيتوس، (الذي كان يُتقن العربية، بحسب د. زيجريد هونكه)؛ إذ يقول معلقًا: "إن ما أثار دهشتي أثناء المقاطع التي تخص الدوران الرئوي في مخطوط ابن النفيس، هو الشبه العظيم بينها وبين الجمل التي كتبها سيرفيتوس، حتى ليُخيَّل للمرء أن المقاطع في الكتاب العربي قد ترجمت إلى اللاتينية بشيء من التصرف".

تعليق عالم المخطوطات والتراث الإسلامي، مقترنًا بإشارة المستشرقة الألمانية، يُلقي بظلال من الشك والريبة حول جدية بحث الإسباني سيرفيتوس، ويطرح احتمالية اقتصار جهده على ترجمة ما كتب العالم العربي الفذ، ومما يُعزز من هذه الاحتمالية ويُقوِّيها، أن سيرفيتوس قد نشأ في إسبانيا منارة العلوم الإسلامية، وليس من الغرابة في شيء أن يتسنَّى له الاطلاع على المؤلفات العربية، ولا سيما في مجال الطب الذي كان عربيًّا بامتياز في هذ التاريخ.

لكن هذا التاريخ أيضًا قد شهد انسحابًا إسلاميًّا من أوروبا، ومخاض نهضة في القارة الشمالية، تلك النهضة التي اتَّقدت بالمحارق، وكان سيرفيتوس نفسه أحد ضحاياها.

سيرفيتوس الطبيب وعالم اللاهوت الإسباني، ومن نُسب إليه الكشف الأول عن الدورة الدموية في كتابه "إعادة المسيحية" – "Chrisitianismi Restitutio" عام 1553، أُلقي به وبكتابه إلى آتون نار تلظَّى، بعد أن أدانته محاكم التفتيش آنذاك بتهمة الهرطقة، بعد حياة قصيرة قضاها هاربًا يتنقل بين مدن أوروبا تحت اسم مستعار هو "ميشيل دي فيلنوف"، هذا جراء إنكاره الثالوث، وتناوُله ذلك في عدد من كتبه: "De Trinitatis Erroribus" "حول أخطاء الثالوث"، و"Dialogorum de Trinitate"، "حوارات حول الثالوث".

فقد رأى سيرفيتوس الذي كان موهوبًا في اللغات ودرس العبرية، واليونانية، واللاتينية في سن الخامسة عشر، وتسنَّى له أن يقرأ الكتاب المقدس بلغته الأصلية - أن الثالوث تعاليم مخادعة مقتبسة من فلاسفة اليونان، لم ينص عليها الإنجيل، وأن العودة الصحيحة للدين، ستجعل المسيحية أكثر قبولاً لدى اليهود والمسلمين، الذين حافظوا على وَحدة الله في دياناتهم.

أليس مدهشًا أن تكون هذه هي الخاتمة، وأقصى - (والأوفق: أقسى) - تقدير ناله هذا العالم الذي نافحوا عن سبْقه وفضله في كشفٍ يُعد تحوُّلاً في علم الطب الحديث؟!

ولكننا قد نتجاوز الدهشة إلى الصدمة إذا ما أتتنا إجابة سؤال: من فعل؟
مَن أدان سيرفيتوس بتهمة الهرطقة؟
من أسلَمه إلى محاكم التفتيش؟
من وضع أسئلة الاتهام؟
من شدَّد على أن تكون العقوبة هي الإعدام؟
من ساقه إلى المحرقة؟
الإجابة: جون كالفن رائد حركة الإصلاح البروتستانتي!

فبينما كان سيرفيتوس كسائر أهل إسبانيا يعانى إرهاب محاكم التفتيش الكاثوليكية، فقد التمسَ في كالفن رائد الإصلاح البروتستانتي أن يتعاطف معه، ويتفهَّم أفكاره الداعية إلى وحدانية الله، فأخذ يراسله على مدار عامين كاملين، لم يزيدا كالفن إلا بُغضًا وحَنقًا على سيرفيتوس، إلى أن أقسَم متوعدًا إذا ما فكر سيرفيتوس في الحضور إلى جينيف - (عاصمة البروتستانتية التي أسَّسها كالفن) -: "لن أتركه يغادرها على قيد الحياة".

وبَرَّ كالفن بقسمه، بل ولم ينتظر حضور سيرفيتوس إلى جنيف، بل سعى في محاكمته غيابيًّا، بتقديم خطابات سيرفيتوس إلى محكمة التفتيش الكاثوليكية الفرنسية، معربًا عن أمله في أن تكون العقوبة هي الموت، وكان له ما أراد، فأصدرت محكمة التفتيش الفرنسية حكمها بالموت حرقًا!

واتُفق أن مرَّ سيرفيتوس بجينيف، وحضر محاضرة لكالفن، الذي تعرف عليه، فأُلقي القبض عليه في 14 أغسطس 1553م، وسُلِّم هذه المرة إلى محكمة بروتستانية، حكمت بنفس الحكم: الموت حرقًا!

وهكذا تفرَّق دمه بين الكنائس!
وقضى سيرفيتوس أيامه الأخيرة منزويًا في جُبٍّ بارد مظلم، لا ينفذ إليه ضوء ولا حرارة، فقط القليل من الطعام، حتى كان يوم 27 أكتوبر 1553م نُفِّذ فيه حكم الإعدام حرقًا، فوُضع في مَحرقة فُرشت بأعواد الحطب نصف الأخضر، وتُوِّج رأسه بإكليل رُصِّع بالكبريت؛ كي يَحترق ببطءٍ، ويتعذَّب ببطء!

بحريق سيرفيتوس وحرائق أخرى، توهَّجت أوروبا.
فلما بلغ الانحراف والإرهاب الكنسي ذِروته، حقَّت فيه السنة الكونية التي بدَّلت مسار المنحنى.
وهكذا يروي المخطوط الذي يحمل رقم 62234 في مكتبة برلين أكثر مما به من كلمات.
ويستوقفني سؤال، يؤلمني سؤال: كم مخطوطًا لم تصادف تطاوي؟


المراجع:
(1) د. زيجريد هونكه؛ شمس العرب تسطع على الغرب، ص 262.

(2) د. عبدالكريم شحادة؛ (الحائز على درجة الدكتوراه من السربون عن رسالته: ابن النفيس واكتشاف الدورة الدموية الرئوية)، ابن النفيس المكتشف الأول للدورة الدموية الرئوية، المقال.

(3) http://en.wikipedia.org/wiki/Michael_Servetus
(4) http://www.britannica.com/EBchecked/...chael-Servetus
(5) http://www.sullivan-county.com/id2/servetus.htm




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
*[ صحيفة الحرية 25يناير]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
**(شبكة الألوكة)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مخطوط, قصة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع قصة مخطوط
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اكتشاف مخطوط مفقود لابن الساعي بعنوان المقابر المشهورة والمشاهد المزورة Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 06-24-2014 11:35 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:08 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59