#1  
قديم 11-14-2016, 03:11 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة.. الفين وهايدي توفلر ج 3


إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة / الفين وهيدي توفلر ترجمة: حافظ الجمالي ج3


الفصل السابع
تجابه الموكَّلين
إن قائمة المشكلات التي تجابه مجتمعنا، لا نهاية لها، ونحن نعاني من التفسخ الأخلاقي لحضارة صناعية، شبه ميتة، نرى فيها المؤسسات تنهار واحدة بعد أخرى، بسبب قلة النجع والفساد المتشابكين تشابكاً عنيفاً. وهكذا فإن الجو العام يميل إلى الجفاف والمطالبة بتغييرات سياسية. وكان لدينا ردّاً على كل هذا البؤس، آلاف من الاقتراحات التي تحسب كلها أنها"أساسية"، بل وثورية أيضاً. ولكن يبقى أولاً وأخيراً أن القواعد، والقوانين، والتنظيمات الجديدة، والخطط والممارسات المقدر أنها ستحل مشاكلنا -تحمل في طياتها، باستمرار، آثار ردود الفعل المتبادلة، ولا تؤدّي إلا إلى زيادة خطورة الأوضاع، فضلاً عن أنها تغذي الشعور بالعجز، وتقدم الانطباع بأنه ما من شيء سليم في حياتنا. وما لم نبرهن على أن لدينا الشجاعة والخيال الكافيين، فإننا نغامر بأن نقبل بدورنا، أن نوضع في قمامة التاريخ.
وتقدم وسائل إعلامنا الحياة السياسية الأمريكية، كما لو أنها معركة دائمة بين سَيّافي( ) حزبين سياسيين، غير أن الأمريكيين يصبحون أكثر فأكثر انزعاجاً، يعضّهم الإرهاق بأنيابه، ويتضايقون من الصحافة والساسة معاً. أما السياسة المنحازة، فإنها تبدو لأكثرية الناس مسرح ظلال غير نزيه، ومكلفاً، ومفعما بالفساد. بل إن هؤلاء الأمريكيين يتساءلون أكثر فأكثر: أحقاً يملك اسم الظافر أهميةً ما، مهما تكن قليلة؟.(*)
والجواب عندنا هو: بلى، ولكن لا للأسباب التي تقال لنا، ففي عام 1980، كنا نكتب في الموجة الثالثة، ما يلي:
"إن الحادث السياسي الأكبر في زمننا، هو دخول جيشين كبيرين في معركة: أما الأول فهو يدافع عن حضارة: الموجة الثانية، وأما الثاني فهو الذي يزداد قوة، كما لو أنه بطل الموجة الثالثة. ويتمسك الأول بعناد بحماية المؤسسات المتصلة بقاعدة المجتمع الصناعي المهتم بالإنتاج الكثيف- أي الأسرة النووية، والتعليم الجماهيري، والدولة- الأمة الممركزة، وصيغة للحكم تعتمد على ما يشبه التمثيل الشعبي والنقابات الجماهيرية. وأما الثاني فإنه يرى أن المشكلات الكبيرة الأهمية المطروحة على عالم اليوم، بدءاً من مشكلة الطاقة، والحرب، والفقر، حتى مشكلة انحطاط البيئة، وانحلال الروابط العائلية، لا تستطيع أن نجد حلاً في إطار حضارة، من النموذج الصناعي.
لكن الحدود بين هذين المعسكرين ما تزال غامضة ومائعة. ولكلٍ منا، نحن جميعاً، رجل هنا، ورجل هناك.. أما المنازعات فتبدو غامضة، دونما علاقةٍ بينهما(أو بينها). وأكثر من ذلك أن هذين المعسكرين يتألفان كلاهما من جماعات عديدة تبحث عن إرواء مآربها، الأنانية الشديدة الضيق، من غير رؤية للكل. ومن جهة أخرى، ما من واحد من المعسكرين يملك التفرد بالفضيلة، والأخلاق. وهناك أناس شرفاء في الجانبين. بيد أن الخلافات بين هاتين المنظومتين السياسيتين والكامنة وراء السطوح، تظل كبيرة.
مؤامرات، من أجل الماضي
ولئن كان الجمهور العام، لا يزال، حتى اليوم، غافلاً عن الأهمية الحاسمة لهذا الفصل بين الطرفين، فذلك لأن الصحافة تقضي قسماً كبيراً من الوقت، في ترديد صدى المألوف السياسي المعتاد، أي الصراع بين طرفي الموجة الثانية اللذين يتنازعان رفات النظام القديم، ولكن هذه الجماعات، على الرغم من اختلافاتها، تسرع أو تستعجل في إقامة السدود أمام مبادرات الموجة الثالثة.
ولهذا حدث ما نعرفه عام 1984( )، عندما رشح غاري هارت Gary Hart نفسه عن الحزب الديمقراطي، وكسب الانتخابات الأولية في نيوها مشير New Hamqshire، بإعرابه عن تمنياته بقيام "تفكير جديد" . لكن زعماء للموجة الثانية القدماء، داخل الحزب الديمقراطي، جمعوا قواهم لقطع الطريق عليه وتزعيم Walter Mondale، البطل الموثوق والصلب ضد الموجة الثانية..


ولهذا السبب أيضاً تعاون حديثاً النادريون Naderiens، نادريو الموجة الثانية ضد الـ Alena، مع البوكانيان Buchaniens، بوشانيي الموجة الثانية.( )
ولهذا السبب أيضاً لوحظ أنه عندما وضع الكونغرس، قانوناً حول البنى التحتية" عام 1991، وظف فيه 150 مليار دولار للطرق، والطرق الكبيرة (الأوتوسترادات) والجسور، وإزالة الحفر - ضامناً بذلك أرباحاً كبيرة لـ شركات الموجة الثانية،و للاستخدامات في نقابات الموجة الثانية. وفي الوقت نفسه، خُصص المبلغ التافه، مبلغ المليار دولار لإقامة أوتوسترادات الإعلام المشهورة ( Reseau )ومهما تكن الطرق والأتوسترادات ضرورية، فإنها على كل حال، تظل جزءاً من البنية التحتية للموجة الثانية، على حين أن الشبكات الإصبعية Reseauxdigitaux ( )، تقع في قلب الموجة الثالثة. وليست المشكلة، في هذه المناسبة، أن نعرف ما إذا كان على السلطات العامة أن تساعد أو لا تساعد الشبكة الإصبعية، بل المشكلة هي اتصالها بعدم التوازن بين قوى الموجتين الثانية والثالثة في واشنطن.
وبسبب عدم التوازن هذا، لم ينجح نائب ريئس الجمهورية آل غور Gore- الذي كان له موطئ قدم في الموجة الثالثة- على الرغم مما بذله من جهد- في إعادة خلق الحكومة التي تتمتع بالروح التي تقتضيها الموجة الثالثة. وفي الحين الذي كانت فيه الشركات- بضغط من المزاحمة- تحاول يائسة أن تفكك بيروقراطياتها، واختراع أشكال جديدة للإدارة، خاصة بالموجة الثالثة، فإن الإدارات، المشلولة بنقابات موظفي الموجة الثانية، ظلت -إلى حد كبير- في المؤخرة: والخلاصة، إنها إذ ترفض أي إعادة لانبساط، وأي إعادة اختراع، نراها تحتفظ ببناها المعروفة في عهد الموجة الثانية.
هذا وإن نخب الموجة الثانية تناضل وتحارب بغية الاحتفاظ بماضٍ تجاوزه الزمن، بحكم أنها تحصل الآن على ثرواتها وسلطاتها، عن طريق تطبيق مبادئ الموجة الثانية. أما الأخذ بصورة حياةٍ جديدةٍ، فإنه قد يضع موضع البحث هذه الثروة وهذه السلطة. لكن النخب ليست وحيدة في هذا المجال. ذلك أن ملايين من الامريكيين الفقراء أو من الطبقة المتوسطة، تقاوم هي أيضاً هذا الانتقال إلى الموجة الثالثة، لأنها تخشى -وكثيراً ما تكون في هذا على حق- أن تبقى في المؤخرة، وأن تفقد استخداماتها، و الانحدار بعض الشيء عن مستواها الاقتصادي والاجتماعي..
وإذا شئنا أن نفهم قوة العطالة، لدى كتائب الموجة الثانية في أمريكا، فإن علينا أن ننظر إلى ماوراء الصناعات القائمة على الجهد الجسدي. بل علينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من نقاباتها وعمالها. ذلك أن قطاع الموجة الثانية يتمتع بدعم الـ Wall Street ورجاله الذين يضمنون له حاجاته. وكذلك فإنه مدعوم به من قبل المثقفين والجامعيين، الذين كثيراً ما يتقاضون رواتب حقيقية، بلا عمل حقيقي. وكثيراً ما يتلقون منحاً من المؤسسات والتعاونيات النقابية. أو من اللوبيات التي يخدمونها.
أما عملهم فإنه يقوم على جمع المعطيات الملائمة لأهوائهم، وتنميق الحجج والشعارات الأيديولوجية الخاصة بالموجة الثانية: مثال ذلك أن يقال: إن الإدارات ذات الإتصالات الإعلامية الكثيفة، غير منتجة، وإن مستخدمي هذا القطاع محكومون، بتقديم الهامبورغر لطالبيه، أو أن على الصناعة أن تعمل في إطار"الفبركة" (أي تظل دائماً دائرة، لتنتج إنتاجاً كثيفاً) وأمام هذا النوع من إقامة السدود، بصورة متصلة، فإنه ليسَ من المستغرب أن حزبينا السياسيين يعكسان فكر الموجة الثانية. ثم إن نظريات"النجع" التابعة لهذه الموجة، تكشف لنا عن شرح استسلام الديمقراطيين استسلاماً شبيهاً بردّ الفعل" لحلول بيروقراطية متمركزة، لحل مشكلاتٍ، من نوع أزمة الضمان الاجتماعي. وعلى الرغم من أنه يوجد رجل سياسي، متفرد، مثل نائب رئيس الجمهورية، غور Gore- وهو نائب رئيس الـ Congressionnal Clearing house on the future، سابقاً- الذي يعترف بأهمية التقانة المتقدمة، فإن الديمقراطيين يظلون شركاء في دعمهم للموجة الثانية، وشركاء إلى الدرجة التي يبقى فيها حزبهم، في كل ما هو شيء أساسي، مشلولاً أمام القرن الواحد والعشرين.
ومن هارت Hart، في الثمانينات، إلى Gore في التسعينات، نجد النواة الصلبة لوكلاء الحزب الديمقراطي، تمنع الحزب من السير على الطريق التي يشير إليها رؤساؤهم الأكثر بعد نظر.(أو الأكثر وعياً). وهكذا فإن الحزب يجد نفسه شبه فريسة لتصوره للواقع- أي واقع الياقات الزرقاء. وهذا النوع بين الإخفاق، لدى الديمقراطيين -العاجزين عن البروز كحزب مستقل(كما كان من قبل)- هو الذي يترك الباب مفتوحاً جداً لأعدائه. ولما كان الجمهوريون أقل تجذّراً في الشمال الشرقي الصناعي القديم، فإن الفرصة متاحة لهم للاتسام بسماتهم، أي في الظهور كحزب الموجة الثالثة، على الرغم من أن رؤساءهم الأخيرين قد فوّتوا على أنفسهم هذه الفرصة.
وهكذا نجد الجمهوريين، يستسلمون، هم أيضاً، لما يشبه المنعكس الرضفي ( أو الشرطي) في كل خطاب يتصل بالموجة الثانية.
ولا شك أن الجمهوريين على حق في الدعوة إلى خلع الأنظمة القائمة الموروثة ، على مقياس واسع، وذلك لأن الشركات بحاجة لكل المرونة لمجابهة المزاحمة العالمية.. ولهؤلاء الجمهوريين كل الحق في الدعوة إلى تخصيص الخدمات العامة، ذلك أن الادارات التي تستفيد من"اللا مزاحمة" تؤدي واجباتها الإدارية بصورة سنية بدرجة كافية. وللجمهوريين أيضاً كل الحق في الدعوة إلى الإستفادة، إلى أعلى درجة ممكنة، من الدينامية والقدرة على الخلق، اللتين تجعلان اقتصادات السوق ممكنة. إلا أنهم يبقون هم أيضاً، أسرى النظرية الاقتصادية المعروفة في الموجة الثانية. وحتى أنصار اقتصاد السوق الذين يستند إليهم الجمهوريون، مثلاً"، لم يحسنوا التلائم مع الدور الجديد للمعرفة.
ثم إن الجمهوريين مايزالون أسرى بعض العمالقة الذين ينتسبون إلى ماضي الموجة الثانية، وهم مدينون لها بأنديتهم المهنية، ولوبياتهم(جمع لوبّي)، وبطاولاتهم المستديرة التي تعرف فيها السياسة.
وثالثة الأثافي، هي أن لديهم ميلاً إلى الغضّ من قيمة الانقلابات الاجتماعية الضخمة التي يمكن توقعها من أي تغيير له عمق الموجة الثالثة. مثال ذلك أننا في زمن تصبح فيه الكفاءات عديمة القيمة(أو فات أوانها)، بين يوم وآخر، وجماهير المستخدمين من أبناء الطبقة الوسطى، الذين قد يكونون ممتازين في تخصصاتهم، كل هؤلاء يمكن أن يفقدوا فجأة أعمالهم، ويصبحوا بلا عمل، يدل على ذلك وضع الباحثين والمهندسين الكاليفورنيين، المختصين بمشاكل الدفاع، وهذه حالة مبئسة جداً. و ليس اقتصاد السوق، واقتصاد النقطة بعد النقطة اللذان جُمّدا وتحولا إلى عقائد لاهوتية، بالجواب الكافي. وعلى كل حزب ينظر إلى المستقبل، أن يلفت الانتباه إلى المشكلات القادمة، وأن يضع تدابير وقائية، تحول دون الوقوع فيها. مثال ذلك، هذه الثورة الإعلامية(الصحفية، وما يجاورها من وسائل الإعلام) التي يمكن أن تقدم أرباحاً ضخمة للاقتصاد الناشئ من الثورة الإعلامية.. غير أن المشتريات التي تتم عن طريق الهاتف(أو الفاكس مثلاً). والخدمات الإلكترونية الأخرى، يمكن أن تقلل من عدد الدكاكين الصغيرة، في القطاع التقليدي للبيع بالمفرّق، الذي يتيح للشباب الضعفاء الإختصاص، أن يدخلوا في الحياة النشيطة(أو الفاعلة)..
ولكن يبقى اقتصاد السوق والديمقراطية، حيَّين، وعلى الرغم من التغييرات الضخمة، والاضطرابات القادمة، فإنه ينبغي على السياسة أن تكون بعيدة النظر، ووقائية أيضاً. بيد أن من الصعب أو من النكران للجميل، أن نطلب من أحزابنا السياسية أن تفكر فيما هو أبعد من الانتخابات القادمة.
والحزبان اللذان نملكهما، مشغولان بحقن الشوق في عروق وكلائهم. ومنذ بعض السنين، مثلاً، كان الديمقراطيون يتحدثون عن "إعادة التصنيع" أو عن إعادة بناء الصناعة الأمريكية، بأمَل أن تجد عظمتها التي عُرفت لها في الخمسينات(والحقيقة أنهم يتحدثون عن عودة مستحيلة إلى اقتصاد الإنتاج الكثيف). وفي الوقت نفسه، كان الجمهوريون الذين وقعوا فيما يشبه الصورة في المرآة(الصورة المرءآوية) يعظّمون الشوق، بخطاباتهم عن الثقافة والقيم، كما لو أنه يمكن إعادة الإتصال بقيم عام 1950 وأخلاقه -أي قبل ظهور التلفزيون العالمي(أو الكلي)، وقبل حبة منع الحمل، وقبل الطيران النفاث، وقبل الأقمار الصناعية، والحواسيب الفردية- من غير العودة، في الوقت نفسه، إلى المجتمع الصناعي ذي الإنتاج الكثيف الذي توسم به الموجة الثانية. وكان بعضهم يتحدث عن Rireer rouge، والآخرون يتحدثون عن أوزي وهارييت OZZIE et Harriette.
وكان الجناح الديني للحزب الجمهوري، يرى أن"الليبراليين" و"الإنسانيين" والديمقراطيين، هم المسؤولون عن تدهور الأخلاق. وهو لا يرى أن أزمة نظام القيم لدينا تكشف عن أزمة أعمّ لحضارة الموجةِ الثانية. وبدلاً من أن نتساءل كيف ندعو إلى أمريكا جديدة من طراز الموجة الثالثة، غنية الكرامة، والأخلاق، والديمقراطية، كان أكثر رؤسائها يكتفون بتحبيذ العودة إلى الماضي. وبدلاً من التساؤل، عن: كيف نبني مجتمعاً أخلاقياً، عادلاً، غير متكتل، كان الكثيرون يقدمون لنا الانطباع بأن ما يريدونه حقاً في الواقع هو إعادة تكتيل وزيادة حجم الولايات المتحدة remassifier.
ومع ذلك، فإن هناك فرقاً بين الحزبين. فعلى حين أن التواقين إلى الموجة الثانية، داخل حزب الديمقراطيين، مؤتلفون ومجتمعون في النواة الصلبة، نجد أنهم لا يؤلفون إلا هامشاً من"المثارين أو المتعصبين في الحزب الجمهوري. فإذا عَبرً هذا من قدرته على التجميع، وانفتح للتغيير، فإن المستقيل، يكون من، أو بسبب(العصبة المركزية) للحزب.
وتلك هي(أو ذلك هو) النداء الذي حاول Newt Gingrich، رئيس مجموعة الجمهوريين في الكونغريس، أن يعلنه، بنجاح محدود، أو يوصله إلى حزبه، فإذا هو نجح، فإن الديمقراطيين يغامرون كل المغامرة، في التعلق بأهداب غبار الباحة السياسية.
وفي عام 1980 كان لي أتويتر Lee ATWTER مستشاراً سياسياً مسموع الكلمة لدى الرئيس ريغان. ثم إنه، فيما بعد، صار رفيق الرئيسBush في ألعابه الرياضية، ومدير حملته الانتخابية. وبعد فترة قصيرة من انتخابات ريغان، وزّع نماذج من كتاب"الموجة الثالثة، على موظفي البيت الأبيض. ثم إنه اتصل بنا، وكان لنا في السنين التالية، محادثات منتظمة معه. وعندما كنا في آخر عشاء لنا يحضره هو، قلنا له: إن من المؤسف أن لا نجد لدى الديمقراطيين، رؤية إيجابية لأمريكة الموجة الثالثة. ورأى أتواتر أننا على حق، ولكنه فاجأنا بإضافة جميلة في الحديث، قال فيها"وحتى الجمهوريون لا يملكون ما تقول. " وأضاف شارحاً كلامه: إنه ما من حزب يملك صورة إيجابية عن المستقبل: "وهذا هو السبب في أن الحملة كانت سلبية إلى هذه الدرجة." لا ريب إذن أن قصر النظر في الجهتين يشعرنا بأن أمريكا قد افتقرت.
متنبئو الغد
مهما تكن أو تبدُ لنا قوى الموجة الثانية، فإن مستقبلها شديد القلق. وفي بداية العهد الصناعي، كانت قوى الموجة الأولى تسود المجتمع والحياة السياسية. وكانت النخب الريفية تبدو وكأنها ستظل تتحكم في الحياة العامة إلى الأبد. ولكن ذلك لم يكن صحيحاً... ولو أنها احتفظت بالسلطة، إذن لما كان للثورة الصناعية أن تغير صورة العالم.
إن العالم اليوم في طريقه إلى التغير. والأكثرية الساحقة من الأمريكيين، ليست مزارعين، ولا عمالاً، إلا أنهم يمارسون شكلاً أو آخر من أشكال العمل القائمة على المعرفة. وأهم الصناعات التي تتقدم في أمريكا بأكبر سرعة، هي الصناعات التي تملك الإعلام الأقوى. ولا يقتصر قطاع الموجة الثالثة على الإعلام المتقدم، أو الإليكترونيات أو البيوتكنولوجيات (أي الصناعات الإلكترونية. والتقانة الحيوية أو الحياتية). بل إنه، بفضل التصنيع المغمور بالمعلوماتية infonmatise. يصل إلى كل القطاعات، بما في ذلك من إدارات مثل المالية، وأنظمة الحواسيب، وصور اللهو، ووسائل الإعلام، والاتصالات المتقدمة والخدمات الطبية، والاستشارة، والتنشئة والتعليم، وبالجملة، كل النشاطات القائمة على العمل العقلي، أكثر مما هي قائمة على القوة العضلية. ولن يطول الأمر بشعب هذا القطاع، حتى يكون هو الفئة الناخبة، في الحياة السياسية الأمريكية.
وخلافاً "لجماهير" العصر الصناعي، نجد أن جماعة الموجة الثالثة، متنوعة جداً. وهي تتألف من أشخاص أو فرديات، تتميز باختلافها. بل إن اختلافها نفسه يعبّر عن نقص الوعي السياسي عندها. إنها أصعب على التوحيد من جماهير الأيام الخالية.
وعلى هذا، فإنه يجب على جماعة الموجة الثالثة أن تشغّيل ما لديها من عقول مفكرة، وإنضاج إيديولوجية سياسية. إنها لما تتلق الدعم المنتظم للانتيليجانسيا في واشنطن،.فأنديتها ولوبياتها تظل جديدة نسبياً، وغير متسقة فيما بينها، ثم إن ما لدى وكلاتها من الأسلحة التشريعية، باستثناء نقطة واحدة هي الألينا Alena، حبت غلبت جماعة الموجة الثانية ضئيل / قليل.
ومع ذلك، فإن هناك قضايا مصيرية(حاسمة) يستطيع الناخبون(من جماعة الموجة الثالثة) الذين هم على وشك أن يصبحوا الأكثرية) أن يتفقوا عليها، بدءاً من التحرير: أي التحرر من مجموعة القواعد والأنظمة، والضرائب، والقوانين العائدة للمجموعة الثانية، التي أسست لمصلحة بارونات العهد الصناعي، وبيروقراطيية. ولما كانت قد وضعت في العهد الذي كانت فيه الموجة الثانية، تؤلف أو تشكل قلب الإقتصاد الأمريكي، فإنها -كتدابير- تعرقل اليوم تنامي الموجة الثالثة.
ولما كانت معايير الضرائب قد وُضعت بضغط من رجال المصالح الصناعية، مثلاً.. فإن مدة استهلاكها(المحسوب على أساس تغيير المصنع وأدواته بعمر ما أو زمن ما) تقتضي أن تكون المكنات والمنتجات، ذات حياة طويلة.. ولكن الأمر يختلف مع الصناعات المتقدمة التي تتجدد بسرعة، وخاصةً في الأنفورماتيك informatique. وحقاً فإن عمرها يقاس بالأشهر، بل وبالأسابيع.. وهكذا، فإن معيار الضريبة السابق يؤذي التقانة المتقدمة. ثم إن الاستنتاجات "المقبولة" حول نفقات"البحث" و"التنمية" تتحيّز للشركات الكبرى، التابعة للموجة الثانية، ضد الشركات الدينامية التي تشكل مركز الانطلاق للموجة الثالثة. والواقع أن الضريبة على ما لايحس به، ومالا يُشغل عمالاً كثيرين، ستكون متحيزة بالضرورة( ) عند ما يحسب عدد العمال، وعدد المكنات، بغض النظر عما فيها من حداثة، أو تقادم. ويبقى أخيراً أنه سيكون مستحيلاً أن تغيَّر هذه القواعد من غير أن تقوم معركة سياسية تحسم المشكلة..
إن شركات الموجة الثالثة ذات ميزات مشتركة. فهي فتية، بصورة عامة، بالقياس إلى تاريخ نشوئها، أو بالنسبة للعمر المتوسط لموظفيها. فإذا قورنت بشركات القطاع الصناعي، وجدنا أنها منظمة على أساس وحدات عمل صغيرة وهي توظف أموالاً أكثر من المتوسط(المألوف) سواء أكان ذلك في مجال الأبحاث أوالتنمية، أوالتنشئة، أم في الموارد الإنسانية. ذلك أنها دوماً تجاه مزاجمة عنيفة جداً ترغمها على التجديد باستمرار: ومن هنا تنشأ دورات حياة قصيرة، تحتاج إلى تجديد العاملين والأدوات والممارسات الإدارية. أما رأس مالها الحقيقي والأساسي، فإنه يتألف من رموز معشعشة في أدمغة مستخدميها. أفيمكن أن نتوقع من هذه الشركات وهذا النوع من الفعاليات أن تحترم قواعد اللعبة التقليدية، التي إذا هي طبقت عليها، كانت نوعاً من العقاب لها؟.
إن جزءاً كبيراً من قطاع الموجة الثالثة، يشغل نفسه بتقديم مجموعة هائلة ومتجددة من الخدمات. وبدلاً من التنديد بنشاط هذا القطاع من الخدمات، ولومه باستمرار على أنه مصدر قليل الإنتاجية، ألا يكون من الأفضل أن ندعمه، ونزيد ثروته(أو رأسماله)- أو، على أقل تقدير، تحريره من المعوقات القديمة؟ إن على أمريكا" طمعاً بتحسين صورة الحياة لشعبها، أن تقدم له الكثير من الخدمات، لا العدد الأقل منها. وهذا ما يعني: تقديم العمل لكثيرين من الناس، أو لكل الناس: بدءاً من ***** الأجهزة الإلكترونية، إلى المخطط الجديد، مروراً بالمساعدين الطبيين.. وتقديم الخدمات للأشخاص المعمرين، والشرطة، ورجال الإطفاء، حتى رعاية الأطفال، وخدم البيوت إذا مست الضرورة، لا سيما إذا كان الأبوان يعملان. وعلى سياسة الاقتصاد الجديد، اقتصاد الموجة الثالثة، أن لا تنتقي الرابحين والخاسرين، بل أن تقضي على كل ما يعرقل تنمية المهن. وزيادة الخدمات، بحيث نجعل الحياة أقل توتراً، وغبناً، وإمحاءاً للذاتية، ولكن يبقى أن نلاحظ أن هذه المقاربة ليست من عناصر أو مطالب أي حزب سياسي.
وعلى الرغم من هذا النوع من التخلف، فإن محامي الموجة الثالثة يرتفع شأنهم يوماً بعد يوم. وهم يعبرون عن أفكارهم أكثر فأكثر بعيداً عن الأحزاب السياسية التقليدية، لأنه ما من واحد من الحزبين، انتبه لوجودهم، ونراهم يمضون ليزيدوا وجودهم في المنظمات المتزايدة العدد، كل يوم، والشديدة القوى، التي تتناثر داخل البلاد، وهم الذين يسودون المجتمعات الإلكترونية الجديدة التي تتكاثر حول الـ : Imternet (الإنترنيت) وهم أيضاً الذين يعملون على تفكيك وسائل إعلام الموجة الثانية، وعلى خلق حلول بديلة. أما الساسة التقليديون، الذين لا يريدون أن يفهموا هذه الحقائق، فسوف يكنسون من الطريق، تماماً كالنواب الإنجليز في القرن التاسع عشر الذين كانوا يتحينون الفرصة للاستفادة من الرواتب دون عمل لأنهم كانوا منتخبين.. من الضواحي الفاسدة..(من القصبات الغضة) ..
وحتى الآن لم تجد قوى الموجة الثالثة ناطقاً باسمها في أمريكا. فإذا وجد حزب يتكلم بلسانها، فإنه بالتأكيد سيسيطر على مستقبل أمريكا. ومنذ الآن، سنجد أو سنرى من خلال ركام القرن العشرين الموشك على الانتهاء ظهور أمريكا جديدة. مختلفة جوهرياً من التي سبقتها.











الفصل الثامن
مبادئ جدول أعمال للموجة الثالثة
عندما نواجه عاصفةً من التغيرات الهائلة التي تحيط بنا من كلِّ جانب، ونرى أنها تتطلب أجوبة تزدادُ سرعة، كل يوم، يشعر الإنسان أنه يسبح أكثر فأكثر على موجةٍ عميقة لا شيء يُوقفها. والواقع أن هذه هي الحال، في كثير من الأحيان، وربما استطعنا، كهاوي السباحة SURFEUR، أن نستفيد من طاقة الموجة لكي نمضي إلى الأمام.
وهذه الموجةُ الثالثةُ التي وصفناها سابقاً، تستطيع أن تمضي ببلادنا إلى مستقبل أفضل وأكثر مدنية، وأغنى كرامة وديمقراطية، ولكن لن يتم أيّ شيء من هذا النوع إلا بعد أن نُحسن تمييز السياسة والسياسات الاجتماعية للموجة الثالثة من مثيلاتها أو ما يقابلها في الموجة الثانية. ولما لم يقم الناس بهذا التمييز النقدي، فإن كثيراً من التجديدات الحسنة النية يبدو، وكأنه يزيد الأشياء خطورةً.
ونحن نعرف آلام الولادة التي تعانيها حضارة جديدة، لم تقم مؤسساتها بعد، ولم تستقر في مكانها. وإذا شاء أصحاب القرار أن يعرفوا ما يفعلون فإن رجال السياسة، والمواطنين الفاعلين سياسياً، بحاجةٍ ماسةٍ إلى تعلم تمييز المقترحات المعدّة لدعم النظام المتهاوي، نظام الموجة الثانية، من تلك التي من شأنها أن تيسر الموجة التالية لها، أي حضارة الموجة الثالثة.
وهنا نجد أن بعض الإيضاحات تفرضُ نفسها.
1-هل تشبه مصنعاً ما؟
أصبح المصنع ذلك الرمز الأساسي للحضارة الصناعية. ولقد أصبح هذا -في الواقع- نموذجاً يحتذى لأكثر مؤسسات الموجة الثانية. ويبقى بعد ذلك أن المصنع الذي عرفناه تغيب صورته في الماضي تدريجياً وتجسد المصانع مجموعة مبادئ مثل الإنتاج طبقاً لنموذج واحد، والمركزية والبيروقراطية والتفوق maximlisation .أما إنتاج الموجة الثالثة فإنه إنتاج بعدَ -مصنعي Kast- usiniere يقوم على مبادئ جديدة. وهو يصنِّع في منشآت قليلة الشبه بالمصانع. والحقيقة أنه يتم أكثر فأكثر في البيوت أو في المكتب، وحتى في السيارة أو الطائرة.
وأيسرُ وسيلة وأسرعها لملاحظة مقترح ما وللموجة الثانية، سواء أكان ذلك في الكونغريس، أم في شركةٍ ما، هي أن نرى، عمداً أو على غير عمد، ما إذا كان المقترح المشار إليه مستلهماً أم غير مستلهم من النموذج المصنعي؟
وفي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تعملُ المدارسُ كما تعمل المصانع، مخضعة المادة الأولية (أي الأطفال) لتعليم مُنهج متماثل، ولتفتيش روتيني. فإذا كنا أمام اقتراح يهدف إلى تجديد النظام التربوي، وجدنا أمامنا سؤالاً بسيطاً يطرح نفسه: تُرى هل هذا الاقتراح معد لجعل المعمل، أكثر نجعاً، أو أنه تصوّر على ما ينبغي له، لكي يتخلص من النظام المصنعي، والتعويض عنه بتعليم مُفرّد individualise، على القياس؟ وفي وسعنا أن نطرح على أنفسنا، السؤال ذاته، فيما يتصل بكل تشريع، أو بالصحة، أو بالتأمين الاجتماعي، أو حولَ اقتراح بإعادة النظر في البيروقراطية الفيدرالية. وأمريكا بحاجة إلى مؤسسات جديدة، تبنى على نماذج ما بعد البيروقراطية،، وبعد المصنعية.
أما إذا كانت المقترحات تحاول تحسين عمليات النسق المصنعي وحده أو إنشاء مصنع جديد. عندئذ يمكنها أن تكون ما تريد ولكن من المؤكد أنها ليست من الموجة الثالثة في شيء.
2-هل تكثف المجتمع
إن الناس الذين كانوا يديرون مصانع الاقتصاد الماضي، القائمة على القوة الخام، كانوا يحبون كثرة العمال المنتظرين والقابلي التبادل، وخاصة الذين كانوا لا يطرحون أسئلة أثناء العمل، حول سلاسل التركيب، أو حول تجميع مواد الشيء المصنوع، وعندما كان الانتاج بالجملة، كان التوزيع والتربية الجماهيرية ووسائل الاعلام وصور اللهو الجماعية تنتشر داخل المجتمع. وهكذا فإن الموجة الثانية قد أنشأت "الجماهير" أيضاً.
وبالمقابل فإن اقتصادات الموجة الثالثة ستلزم الشركات (بل سيكون الميل لديها، إلى تفضيل) عامل مختلف جداً أي إلى عامل يفكر ويطرح أسئلة، ويجدد، ويغامر، أي إلى عمال لا تسهل مبادلتهم.. وبتعبير آخر، إن الموجة الجديدة تؤثر التفرد (وليس هذا بالضرورة كالفردية).
ويميل الاقتصاد العقلاني أو الدماغي الجديد إلى تكوين التنوع الاجتماعي. ذلك أن الإنتاج المعلم informatiei ( )و المعلوماتي والذي يتم "على القياس" ويتييح المجال لأساليب حياة مادية مختلفة كل الإختلاف. ويكفي أن تلقي نظرة إلى الـ wal- mart الموجود في زاوية الشارع مع الـ 110000 منتج. أو أن نرى أن أنواع القهوة الكثيرة التي يعرضها starleueks والمقارنة بينها وبين ما كان يوجد منها، منذ بعض السنوات فقط. ولكن الأمر لا يتعلق بالأشياء وحدها، ذلك أن الموجة الثالثة تبعثر أو تنوّع الثقافة أيضاً، وهي شيء هام جداً. ولا يكفيها هذا، بل إنها تنوّع القيم والأخلاق، أو تنوّع هذه جميعاً. إن وسائل الإعلام، المتنوعة توصل إلى الثقافة عدداً كبيراً من الرسائل المتناقضة أحياناً.
ثم إن أشكال العمل، وكذلك صور اللهو، والفن، والحركات السياسية تتنوع، كما تتنوع أنظمة المعتقدات الدينية. ويلاحظ الإنسان في أمريكا المتنوعة العروق والسكان، أن هذه الفئات القومية، واللغوية والعرقية، ستتكاثر أيضاً.
ويعمل أنصار الموجة الثانية على إصلاح المجتمع الجماهيري de masse أما أنصار الموجة الثالثة فإنهم يحاولون أن يجعلوا التناثر " التنوع" demassification مفيداً.
3-كم بيضة في السلة نفسها
إن تنوّع المجتمع وتعقيده، في عهد الموجة الثالثة، يوقع الاضطراب في المنظمات الشديدة التركيز، وكان التركيز (أو المركزة) في قمة السلطة، وسيلة كلاسيكية لجماعة الموجة الثانية، لحل المشكلات، أو محاولة ذلك. ولئن كانت المركزية ضرورية أحياناً، فإن الإفراط في مركزية المصارف يعني أن تضع بيضاً أكثر مما يجب في السلة نفسها، في اتخاذ القرار- ومن هنا يكبر العبء ويتثاقل. أما في أيامنا هذه، في واشنطن فإننا نجد الكونغرس والبيت الأبيض، يتخذان عدداً كبيراً من القرارات في كل المواضييع، وفي مجالات معقدة متجددة باستمرار لا معرفة لهما بها إلا في الحد الأدنى.
وبالمقابل فإن مؤسسات الموجة الثالثة، تضع المزيد من القرارات الممكنة في أيدي الناس (أو تجعل القرارات تنتقل من القمة إلى القاعدة). وهكذا فإن الشركات تسرع في ترك المزيد من السلطات، لأيدي المستخدمين، لا عن غيرية، ولكن لأن رجال القاعدة، كثيراً ما يكونون أكثر علماً، وخبرة، وفي وسعهم أن يردوا على الأزمات والظروف الطارئة، بسرعة أكبر من التي يستطيعها رجال السلطة.
أما وضع البيض في مجموعة سلال، لا في واحدة منها، فإنه ليس بالأمر الحديث، ولكنه فكرة لا يحبُها أنصار الموجة الثانية.
4-أعمودي، أم ضمني
كانت منظمات الموجة الثانية تزيد - على نفسها مع الزمن- تراكم الوظائف، وتسمن أكثر فأكثر، لكن منظمات الموجة الثالثة، بدلاً من أن تضيف إلى عملها وظائف جديدة، سعى منها أو تختزلها لكي تبقى رقيقة. وبحكم ذلك فإنها تتجاوز الدنياصورات، عندما نقترب من العهد الجليدي.
إن منظمات الموجة الثانية تجد بعض الصعوبة، في كبح ميلها إلى الدمج العمودي integration verticle أي الفكرة القائلة: إذا شئنا صنع سيارة، فيجب أن تستخلص فلزات الحديد، وحمله إلى مصانع الصلب، وإنتاج الصلب، ثم نقله إلى مصنع السيارات. وبالمقابل فإن شركات الموجة الثالثة تختزل أكبر عدد من المهام الممكنة، وتدعها أحياناً كثيرة: لأيدي شركات أكثر اختصاصاً وتعتمد على تقانات قادرة على العمل بسرعة، وبسعر أرخص، وفي النهاية، نجد الشركة قد أفرغت عمداً من رجالها وأن الأشخاص ردّوا إلى الحد الأدنى، والمهام منفذّة في أمكنة متناثرة، وأن المنظمة نفسها أصبحت تبعاً لكلمة أوليفيه ويليامسون (من بركليه) "عُشَّ عُقود" وهذه المنظمات الصغرى، اللامرئية جزئياً، على ما يشرحه لنا شارل هاندي Carles Handy من شركة London Business Scool تصبح منذ الآن " ركائز عالمنا ".
ويضيف هاندي قائلاً: إن لعبتٌ أن يريد بعضنا ألا يعمل مباشرة من أجلها. ذلك أننا ستبيعها خدماتنا، وستتعلق ثروة شركاتنا بها وليس هاندي وويليامسون بالوحيدين اللذين يصفان هذا النوع الجديد جذرياً من التنظيم "المتخيل" الذي تجعله تقانات الإعلام والاتصال ممكناً في عهد الموجة الثالثة.
وقدّمت هيدي توفلر، الشريكة في تأليف هذا الكتاب والكتب الأخرى التي استمد منها هذا الكتاب، تلك الفكرة الهامة، فكرة المطابقة Congwenu وخلاصتها أن على القطاع الخاص والقطاع العام، كيلا يختنقا يجب أن ينتظما بصورة متطابقة. فالقطاع الخاص ، محمول اليوم بطائرة أسرع من الصوت، على حين أن القطاع العام لم يفرغ بعد حمولته في مدخل المطار.
أفنقيم سياسة، أو برنامجاً؟ اسأل من هو الذي عليه أن ينفذها أو ينفذه- أهم عموديون أم المضمرون؟ والجواب هو الذي سيقدّم قرينة تسمح بالحكم عما إذا كان الحل المتصور يمضي فقط باتجاه تطوير الماضي الذي أصبح عصياً على الانقياد أم أنه يهيء المستقبل.
5-أيرفع من شأن الأسرة؟
كانت الأسرة الموسّعة، قبل الثورة الصناعية، هي النوع الغالب، وكانت حياتها تدور حول البيت المشترك، فهناك كان الناس يعملون ويعنون بالمرضى، ويربون الأطفال. بل إن هذا البيت هو مجال اللهو والمكان الذي يُهتم فيه بالأكبرين عمراً. إن الأسرة ، أيام الموجة الأولى، كانت مركز العالم الاجتماعي.
أما انحطاط هذه المؤسسة فإنه لم يبدأ مع الدكتور سبوك DR SPOCK ولا مع PLAY BOY (المجلة المفرحة للشباب) بل بدأ عندما قامت الثورة الصناعية بتجريد الأسرة من أكثر وظائفها. إذا لقد انتقل العمل إلى المصانع والمكاتب. ثم أرسل بالمرضى إلى المستشفى، والصغار إلى المدرسة، والأزواج إلى السينما، والكبار عمراً إلى بيوت المتقاعدين (دور السعادة). وعندما دفع بكل المهام إلى الخارج، لم يبق شيء غير الأسرة النووية، التي يقوم انسجامها لا على الوظائف أو الأعمال المنجزة من قبل عضويها بالدرجة الأولى، بل على علاقات نفسية، ما أسهل أن تقطع.
لكن الموجة الثالثة تعيد إلى الأسرة والمنزل، كل أهميتهما، إنها تَرُدّ إليها عدداً من الوظائف المضيعّة، التي كانت في الماضي تجعل منها الخلية الأولى للمجتمع، ويقدّر عدد الأمريكيين الذين يعيدون إلى المنزل (لنقل الشقة) جزءاً من أعمالهم، مستخدمين ، الفاكس والهاتف وتقانات أخرى من الموجة الثالثة، بحوالي ثلاثين مليوناً. وكثيرون من الأهل يفضلون تربية أبنائهم في البيت. إلا أن التغيير الحق سيتم في اليوم الذي يدخل فيه "التلفزيون -الحاسوب" إلى البيوت، ويدمج هذا كله بالتربية. والمرضى ما سيكون شأنهم؟ ونلاحظ الآن أن عدداً أكبر فأكبر من المهمات الطبية التي كانت تتم في المستشفى أو في عيادات الأطباء -من اختبارات الحمل إلى قياس الضغط - صارت الآن تتم في المنزل. وفي هذا كله ما يحمل على التفكير بأن السقف العائلي يستعيدُ شيئاً ما من أهميته، وإن دور الأسرة يتنامى- ولكنها الآن أسرة متنوعة الأشكال: بين النووية، وبين الموسعة، وحتى الأسرة التي تجمع بين عدة أجيال تحت السقف نفسه".. منهم أناس تزوجوا مرة ثانية، وبعضها كثيرة الأفراد، وبعضها محدودة العدد، أو بدون أطفال، وقد يوجد بين هؤلاء من اختار مبكراً أن يكون له أطفال، ومنهم من اختار الانتظار حتى بلوغ سن النضج. وهذا التنوع في البنية العائلية، يعكس صورة التنوع التي نجدها في الاقتصاد والثقافة، بمقدار ما يتفتت مجتمع الجماهير العائد للموجة الثانية.
والمفارقة هي أن عدداً من دعاة القيم العائلية لا يخدمون تعزيز الأسرة، عندما يدعون إلى العودة إلى الأسرة النووية: فهم يحاولون استعادة النموذج العام، الذي كان سائداً أيام الموجة الثانية. فإذا كنا نريد حقاً دعم الأسرة وأن يعود البيت ليصبح مؤسّسة مركزية، فإن علينا أن ننسى الأسئلة الهامشية وأن نقبل التنوع، وأن نعيد إلى الأسرة مهام كبيرة.
وكقاعدة عامة، نقول إن أمريكا هي التي يعيّن لها المستقبل موعداً. وإذا كنا نتألم من انهيار مؤسساتنا القديمة، فنحن أيضاً رواد حضارة جديدة. وبتعبير آخر، نحن مضطرون إلى العييش في وضع شديد القلق، يصعب معه التنبؤ، بالكثير من انعدام التوازنات، والاضطرابات والانقلابات، وعدا ذلك، فإنه ما من أحد يستطيع الادعاء بأنه يعرف الكلمة التي سيقولها التاريخ، أو أن يعرف إلى أين نمضي، حتى ولا أن يقول: إلى أين يجب أن نمضي. وفي وسط هذا الضباب، يجب أن نتقدم ونحن نتلمس الطريق، دون أن نهمل أية مجموعة. ومن شأن هذه المعايير القليلة، أن تساعدنا على تمييز السياسات المتجذّرة في الماضي، ماضي الموجة الثانية، من تلك التي تستطيع أن تهيئ مستقبل الموجة الثالثة. وكل قائمة من المعايير تشتمل، مع ذلك، على شيء من الخطر، هو أن يحاول بعض الناس تطبيقها بصورة آلية، أو بحرفيتها، أو حتى بشيء قليل أو كثير من التعصب الأعمى. وفيما عدا وزنة مناسبة من حب المرح وحسّ النسب (أي أن يقدر الإنسان نسبة الأشياء بعضها إلى بعض وتبعاً لأهميتها) فإن التسامح مع الخطأ، والالتباس، وبصورة خاصة، سمة التنوع، كل هذا هو جزء من التجهيزات المساعدة على البقاء التي ينبغي أن نحملها معنا في اللحظة التي نريد فيها القيام بهذه الرحلة المدهشة والغريبة، إلى الألف الثالث من تاريخنا. وعلينا أن نتهيأ أحسن التهيؤ إلى ما عساه أن يكون النزهة الفائقة الغرابة في التاريخ.





الفصل التاسع
رسالة الديمقراطية في القرن الواحد والعشرين
أيها الآباء المؤسسون
إنكم الثوريون الموتى أنتم، رجالاً ونساءاً ومزارعين، وباعة، وصناعاً، ومحامين، وعمال المطابع، والهجائين، والتجار، والجنود، الذين أسسوا جميعاً أمة على الشواطئ البعيدة لأمريكا، إن بينكم أولئك الخمسة والخمسون الذين اجتمعوا في الصيف الحار لعام 1787 في فيلادلفيا، لكي يكتبوا هذه الوثيقة الخارقة للعادة، التي هي دستور الولايات المتحدة. أنكم أنشأتم وابتكرتم مستقبلاً، أصبح الآن حاضرنا.
إن هذا النص، وإعلان حقوق الإنسان، الذي جاء متمماً له عام 1791 واحدة، بلا ريب، من قمم التاريخ الإنساني. ونخلص منه إلى أنكم كنتم فيه مرغمين -بحكم خوفكم من أن تنهار حكومة أصيبت بالعجز، ومشلولة بحكم مبادئ غير متلائمة مع العصر، وببنى تجاوزها الدهر وكنتم محمولين بموجة الأحداث العميقة.
واليوم أيضاً، نجد هذه المبادئ محركة للمشاعر، كما حرّكت مشاعر الملايين من الناس، على هذه الأرض. وإنه لعسير علينا أن نقرأ بعض مقاطع من كلام جفرسون أو باين PAYNE من غير أن يمضي بنا جمالها، ومعناها العميق، إلى حافة ذرف الدموع.
إننا نريد أن نشكركم، أنتم الثوريين الموتى، لأنكم عملتم بصورة، تجعلنا، نحن، نعيش نصف قرن، باعتبارنا مواطنين أمريكيين، تحت حكم القوانين، لاتحت حكم الأشخاص، ونريد شكركم أيضاً بصورة خاصة، من أجل هذا الشيء الثمين الذي هو حقوق الإنسان، الذي جعلنا نتمكن من التفكير والتعبير عن آراء غير شعبية، ولأنكم عشتم بين حضارتين -أي في نقطة تشعب عالم زراعي قديم تهزه علائم العالم الصناعي القادم -وفهمتم معنى النقاء السياسي.
وهكذا فقد فهمتم لماذا كان ضرورياً أن يعاد النظر في الدستور الأمريكي، وأن يُغيّر - لا من أجل اقتطاعات واضحة في الموازنة الفيدرالية، أو لإبراز هذا المبدأ المحدود أو ذاك، ولكن من أجل توسعة مجال إعلان الحقوق، مع الأخذ بعين الاعتبار تهديدات كانت خارج دائرة التصور. وكانت سيئة تثقل كاهل الحرية. ومن أجل خلق بنية جديدة لحكومة قادرة على اتخاذ قرارات ذكية وديمقراطية لا يستغنى عنها، إذا أردنا البقاء على قيد الحياة في أمريكا، أمريكا الموجة الثالثة. أمريكا القرن الواحد والعشرين.
ونحن لا نحمل معنا نموذج الدستور القادم، ونحذر من أولئك الذين يعتقدون أنهم وجدوا الجواب، على حين أننا ما نزال نحاول صياغة الأسئلة، ولكن الوقت قد حان لكي نتخيل خيارات كلّها جديدة، وأن نناقش، ونتشاور، ونتخيل من الألف إلى الياء هندسة الديمقراطية الآتية غداً.
وكل ذلك لا في جو شكس أودوغماتي، ولا في ثورة غضب، ولكن على أساس أوسع التشاور والمشاركة السلمية للجمهور -ذلك أننا بحاجة إلى أن نجتمع لكي نعيد خلق أمريكا.
وكان ينبغي أن تفهموا هذا الأمر، في أيامنا هذه. أو لم يكن رجل من زمانكم - أعني جيفرسون- يعلن بعد تفكير ناضج بأن "بعضهم ينظرون إلى الدساتير باحترام يشبه التقديس، ويعتبرونها كتابوت عهد، مفرط القداسة، بحيث لا يمكن معها مسُّه.إنهم يعزون إلى العهد السابق حكمة أكثر من الحكمة الإنسانية. ويصرون على أن عملهم لا يمكن تصحيحه. ونحن حقاً لسنا من أنصار من يقول بأنه يجب أن يكثر من التعديلات، من غير أن تكون قد برهنت على سلامتها.. ولكننا نعرف أيضاً أن الدساتير والقوانين ينبغي أن يسيرا متوازية واليد باليد، مع تقدم العقل الإنساني. وبمقدار ما تنشأ اكتشافات جديدة، وتظهر حقائق جديدة. وبمقدار ما تتقلب الأفكار على حسب الظروف المتغيرة، يكون على المؤسسات أن تتقدم هي أيضاً، وأن تتزاوج مع عصرها.
ومن أجل هذه الحكمة، نشكر السيد جيفرسون الذي ساهم في خلق نظام، انتفع به الناس لمدة طويلة، إلا أن عليه الآن، بدوره، أن يموت، لكي يحل محله نظام آخر.
الفين وهيدي توفلر.

ومن المؤكد أن في بلاد كثيرة، أناساً كثيرين سيعبرون لو أتيحت لهم الفرصة، عن عواطف مماثلة لتلك التي تحتويها هذه الرسالة المتخيلة. ذلك أن غفلة حكومات معاصرة كثيرة، ليست بسر مكتوم، ونحن الوحيدون الذين اكتشفنا هذا السر. وكذلك فإن هذا البؤس ليس ببؤس مقصور على الأمريكيين. إنه لا يمكن الخروج منه إلا بإنشاء حضارة للموجة الثالثة على أنقاض مؤسسات الموجة الثانية. ولابد من إقامة بنى سياسية جديدة "مناسبة، في عدد من البلاد في الوقت نفسه، وهذا مشروع شاق، لكنه ضروري، بل إن حجمه يصيبنا بالدوار، وسيحتاج بلا أدنى شك إلى زمن طويل.
وتبعاً لكل الاحتمالات، لا بد من خوض معركة مديدة لإعادة النظر إعادة كاملة، أو لإلقاء الكونغرس في سلة القمامة، هو واللجان المركزية والمكاتب السياسية للدول الصناعية الشيوعية، والجمعية الوطنية الفرنسية، ومجلس اللوردات، والبوندستاغ، والدييت الياباني، والوزارات الشديدة التضخم، والإدارات المتحصنة بقوة العدد غير القليل من الدول، والدساتير والمكنات القضائية، أي لا بد من تعديل كبير للجهاز الثقيل، المتزايد الصعوبة على التداول لأنظمة الحكم التمثيلية.
إلا أن هذه المعركة لن تقف عند حدود الأمم. وخلال أشهر أو عشرات السنين القادمة، سيكون على مكنة صناعة القوانين الكلية (أوالشاملة) في جملتها- من الأمم المتحدة من جهة أولى، إلى الجمعية المحلية، أو المجلس البلدي، من الجهة الثانية - أن تجابه هجوماً متزايداً "لا يقاوم إلى فرض إعادة التشكيل".
وعلى كل هذه البنى، أن تتغيّر تغيراً أساسياً، لا لأنها سيئة في الجوهر، ولا لأنها خاضعة لرقابة هذه الطبقة أو تلك، ولهذه الفئة أو تلك، ولكن لأنها أقل فأقل إجرائية، ولأنها لم تعد متلائمة مع حاجات عالم تطورّ تطوراً أساسياً. وحباً بإنشاء نظم للتحكم، متجدّدة وقابلة للبقاء، وبإنجاز ما سيكونُ المهمة الأساسية والعظمى أهمية لجيلنا- فإنه سيكون من الضروري أن نقذف إلى البحر بكل المحنطات المتراكمة التابعة للموجة الثانية، وأن نعيد التفكير بالحياة تبعاً لثلاثة مبادئ أساسية، وهي مبادئ ربما بدت وكأنها أحجار الزاوية الثلاث لحكومات الموجة الثالثة.
سلطة الأقليات
أما المبدأ الأول - وهو مبدأ مخالف للمألوف -في حكم الموجة الثالثة، فإنه مبدأ سلطان الأقليات. وخلاصته هي أن الحكم الخاضع لنظام الأكثرية وهو نظام أساسي في العهد الصناعي -يتزايد تهافتاً على مرّ الأيام. وليست الأكثرية بالأمر المهم، بل الأقلية هي الشيء المهم، وعلى نظم الحكم السياسية أن تترجم هذا الواقع.
كان جيفرسون مرة أخرى - وهو الذي يعبّر عن رغبات الجيل الثوري - يؤكّد أن على الحكومات أن تنقاد كل الانقياد لقرارات الأكثرية". وكانت الولايات المتحدة وأوروبا في بداية عهد الموجة الثانية، تبدأ عندئذ تلك المسيرة الطويلة التي كان عليها أن تحوّلها إلى مجتمعات صناعية جماهيرية. وكان مفهوم الأكثرية يناسب حاجات مثل هذه المجتمعات. وما ديمقراطيتنا الجماهيرية الحالية إلا التعبير السياسي عن إنتاج واستهلاك وتربية للجمهور وللإعلام الجماهيري وللمجتمع الجماهيري.
ولكننا رأينا أننا نخرج اليوم من العهد الصناعي. وأن المجتمع يتناثر بسرعة. وفي مثل هذه الشروط يكون من الصعب أكثر فأكثر -إذا لم نقل مستحيلاً- أن نجمع أكثرية أو حتى تحالفاً حكومياً. ولهذا فإن هولندا وإيطاليا بقيتا أحياناً ستة أشهر (لهولندا) أو خمسة (لايطاليا) من دون حكومة. ويعلن الاستاذ في العلوم السياسية WALTER Dean BURNHAM ويترديمن برنهام من الماساشوسيت أو لتقل من معهد ماسوشوسيت للتكنولوجيا. "إنني لا أرى اليوم من أساس لأكثرية حقيقية حول أية قضية".
وبدلاً من مجتمع قوي التراتب، تتحالف فيه جماعات كبرى لتأليف الأكثرية، سيكون لدينا مجتمع خليط من العناصر، توجد فيه آلاف من الأقليات، الكثير منها في وضع لا يستقر على حال، فتراهم يدورون ويتخابطون بغية خلق تراكيب موقنة، قلّما يبلغ تآلفها حدود الـ 51% حول المشكلات الكبرى. وهكذا فإن انبثاق حضارة الموجة الثالثة، يُضعف أو يقلل من مشروعية الحكومات.
وكذلك فإن هذا الانبثاق يضع موضع البحث مسلماتنا التقليدية المتصلة بعلاقة "القاعدة" (أي قاعدة الأكثرية) بالعدالة الاجتماعية. وأثناء أو طيلة عهد الحضارة الزراعية (الموجة الأولى) ظلت المعركة حول انتصار قاعدة الأكثرية إنسانية وتحريرية. ويمكن أن نقول مثل هذا عن البلاد التي تمضي إلى التصنيع، مثل جنوب افريقيا. ولقد كانت قاعدة الأكثرية، في عهد الموجة الثانية، شبه مرادفة للانتصار، بالنسبة للفقراء، لأن هؤلاء كانوا يشكلون الأكثرية.
أما اليوم، وفي البلاد التي تعصف بها ثورة الموجة الثالثة، فإن العكس هو الصحيح،. ذلك أن الفقراء حقاً لم يعودوا يشكلون الأكثرية بالضرورة. وقد أصبحوا في عدد لا بأس به من الأمم- تماماً كبقية الناس، أقلية بين الأقليات.
وعلى ذلك يمكن القول: إن قاعدة الأكثرية لم تعد معياراً للمشروعية المتوازنة، ولكنها أيضاً -وبالإضافة إلى ذلك- ليست حتماً إنسانية أو ديمقراطية في المجتمعات الماضية إلى حضارة الموجة الثالثة.
ومن عادة أيديولوجيي الموجة الثانية أن يأسفوا على انهيار المجتمع الجماهيري. وبدلاً من النظر إلى التنوع الغني الذي ينشأ عن ذلك، كما لو أنه الأرض الخصبة للتقدم الإنساني، نراهم يدينونه، من حيث أنه تجزؤ أو "بلقنة" ويجعلونه مسؤولاً عن أنانية الأقليات. لكن هذا التفسير العامي، ينظر إلى الأثر، كما لو أنه السبب. ذلك أن العدوان المتزايد للأقليات لا ينشأ، فعلاً، عن نموّ مفاجئ للأنانية، بل هو انعكاس -بين أشياء أخرى- لمقتضيات ذاتية للطريقة الجديدة في الإنتاج، التي يقتضي وجودها مجتمعات أكثر تنوعاً وألواناً، وأعظم انفتاحاً، واختلافاً، من كل المجتمعات التي عرفها الناس في الماضي.
وفي وسعنا إما أن نقاوم هذا التنوع بمعركة كبيرة من رجال المؤخرة، إنقاذاً لمؤسسات الموجة الثانية وإما أن نعترف بالتنوع، وتغيير المؤسسات تبعاً له. ولا يمكن أن نطبق الاستراتيجية الأولى، إلا بالاعتماد على طرائق جماعية، وهي تؤدي بالضرورة إلى ركود اقتصادي وثقافي. أما الطريقة الثانية، فإنها تطل على التطور الاجتماعي، كما تطل على ديمقراطية القرن الواحد والعشرين القائم على مبدأ الأقليات.
وطمعاً بإعادة بناء الديمقراطية كما ينبغي للموجة الثالثة، يكون علينا، في هذه الحال، أن نلوي عنق العقيدة المخيفة- على كونها خاطئة- التي ترى أن التنوع المتزايد يزيد، آلياً، خطورة الصراعات داخل المجتمع. والواقع أن العقيدة المعاكسة يمكن أن تكون معقولة ومقبولة كالأولى. ذلك أن الصراع ليس ضرورياً للمجتمع فقط: بل هو أيضاً، مطلوب ومُتَمنّى في بعض الحدود. فإن أراد مئة شخص ليس لديهم ما يفقدونه أن يتملكوا الشيء نفسه، فإنهم سيتضاربون بالأيدي. وبالمقابل إذا كان لكل واحد منهم هدف مختلف، فإنه سيكون من الأجدر لهم أن يتفاوضوا وأن ينشئوا علاقات تكافلية، فإذا نحن قمنا ببعض الاصلاحات المناسبة، وجدنا في التنوّع ضماناً لحضارة مريحة وثابتة.
وفي رأينا أن غياب المؤسسات السياسية المناسبة هو الذي تثير الأقليات وتدفعها، حتى إلى العنف، هو المسؤول عن عنادها وتطرفها. وهو الذي يجعل الأكثريات تفقد أكثر فأكثر.
ولن نحل هذه المشكلات، بزيادة التناقضات، ولا باتهام الأقليات بالأنانية (كما لو أن النخب والخبراء الذين يقومون بخدمة الأكثرية لا تبتغون إرواء المصالح الشخصية). والحل هو إنشاء إجراءات خلاقة ودينامية، تأخذ التنوع بعين الاعتبار، وتجعله مشروعاً وتُحدث مؤسسات جديدة قادرة على الاستجابة.
ولعل مؤرخي الغد، يجدون في التصويت والبحث عن أكثرية، مراسم بالية أنشأها بدائيون يشكون من نقص التواصل فيما بينهم. غير أنه لا يسعنا في العالم الخطير الذي هو اليوم عالمنا، أن نسمح لأنفسنا بتفويض السلطة إلى أي إنسان، بل ولا أن نستغني عن التأثير المتواضع الذي يملكه الشعب، في الأنظمة التي تسود فيها قاعدة الأكثرية، ولا يمكن أن ندع الأقليات تتخذ تدابير ذات عواقب خطيرة تثير عليها أقليات أخرى.
ولهذا يجب علينا أن نعيد النظر، من البداية إلى النهاية ومن تحت إلى فوق، في تلك الطرائق البدائية العائدة لنظام الموجة الثانية، التي نعتمدها في بحثنا عن أكثريات لا يُحصل عليها. إننا بحاجة إلى مقاربات جديدة متلائمة أو حسنة التلاؤم مع ديمقراطية الأقليات.. وإلى أساليب تهدف إلى كشف الفروق بدلاً من سحقها، تحت ثقل أكثريات القيادة، أو الأكثريات المزيفة القائمة على الحقوق الانتخابية، وإلى تزييف المشكلات المتنازع على حلّها، أو إلى تضييق حقوق الانتخابات. إن ما هو ضروري لنا أخيراً، هو تحديث كلي للنظام، بغية تعزيز دور مختلف الأقليات، من غير أن نحرمها الحق في تكوين الأكثريات أو الأكثرية الواحدة.
ولا شك أن الانتخاب المهيأ لمعرفة الإرادة الشعبية، أداة هامة للتغذية الراجعة ( )، لحساب قادة مجتمعات الموجة الثانية، فإذا أصبح الوضع لسبب أو لآخر، غير محتمل لدى الأكثرية. وكانت أكثرية، الـ 51% للناخبين تعرب عن استيائها، فإن النخب كانت تستطيع أن تغيرّ إرادتها السابقة، وتعديل الاتجاهات أو اتخاذ تدابير أخرى (من أجل المحافظة على مراكزها).
بيد أن حاجز الـ 51% حتى في إطار مجتمع جماهيري، كان معياراً سخيفاً وكمياً بالدرجة الأولى. فالانتخاب من أجل الحصول على أكثرية، شيء له معناه. أما البحث عن رأي الناس على المستوى الكيفي (لا الكمي) فإنه شيء آخر. إن هذا الأسلوب يدُلنا على عدد الأشخاص الذين يتمنون في لحظة ما أن يكون (س) في السلطة، ولكنه لا يدلنا على شدة الرغبة فيه حاكما،ً بل، وبصورة خاصة، هو لا يقول لنا ما يمكن أن يقبله أنصاره من التضحيات من أجل (س) ولكن هذا شيء هام جداً في مجتمع مؤلف من جملة أقليات.
ومن جهة أخرى، فإن طريقة الأكثرية، لا تقول لنا شيئاً أكثر، عندما تشعر إحدى الأقليات أنها مهدّدة إلى هذا الحد، أو أنها تعلق أهمية إلى هذا الحد أو ذاك، في نقطة معينة، بحيث أن وجهة نظرها ينبغي أن يحسب حسابها( ).
إن نقاط الضعف هذه في المجتمع الكثير السكان (أو الجماهيري) (يعني نقاط الضعف في قاعدة الأكثرية) فإنها كانت لا تثير أحداً أو كانت مسموحاً بها، لا لشيء إلا لأن أغلبية الأقليات لم تكن تملك القوة الاستراتيجية الضرورية لقلب النظام. غير أن تطور الأوضاع في مجتمع متشابك الأطراف، بالقوة التي نعرفها اليوم، حيث ما من أحد إلا وهو ينتسب قليلاً أو كثيراً إلى مجموعة من الأقليات، جعل ذلك الأمر غير صحيح.
لكن أنظمة التغذية ( الراجعة) المألوفة في العهد الصناعي، مفرطة البدائية، بالنسبة لمجتمع الموجة الثالثة المتناثر، الذي سيواجهنا أثناء الموجة الثالثة. وهكذا يجب علينا استخدام التصويت الشامل، والقيام بعمليات سبر الرأي، بصور، جديدة تماماً.
ومن حسن الحظ أن تقانات الموجة الثالثة، تفتح الطريق أمام ديمقراطية مناسبة لعهد الموجة الثالثة.. وهي تفتح في سياق جديد جداً، اضبارات أساسية عكف عليها آباؤنا المؤسسون، منذ قرنين. هي تتيح للناس أشكالاً جديدة من الديمقراطية لم تكن كما يمكن تصوره حتى هذه الساعة.
الديمقراطية نصف المباشرة.
أما الصخرة الثانية التي ستبنى عليها هندسة سياسة الغد، فإنها تبدأ بالديمقراطية نصف المباشرة، حيث نقوم نحن مقام ممثلينا. وكما رأينا، فإن انحلال أو إنهيار مبدأ الإجماع أو الأكثرية، يقضي على مفهوم التمثيل نفسه، وعندما يختلف الناخبون فيما بينهم، فمن هو الجزء الذي يمثل الشعب حقاً؟ ومن جهة أخرى، فإن المشرّعين انتهوا من هذا إلى استدعاء الدعم اللوجيستيكي ( أو المشورة) لمجموعة داخلية، وأحياناً إلى خبراء من الخارج ينضافون إليها. ومن الواضح جداً أن النواب البريطانيين يظلون في موقف ضعيف أمام بيروقراطية الوايتهول Whitehall لعدم وجود تنظيم ملائم، وهذا مما يؤدي إلى نقل السلطة من البرلمان إلى موظفين غير منتجين.
وعندما حاول الكونغرس، في الولايات المتحدة، أن يقيم توازناً بين تأثير البيروقراطية التابعة للسلطة التنفيذية وبينه، أقام هو بيروقراطيته الخاصة به، وهكذا أنشأ دائرة للموازنة، وأخرى للدراسات التكنولوجية، وأضاف إليها وكالات ودوائر تابعة له، لا يستغني عنها. ولكن هذا لم يعد بطائل غير نقل المشكلة من خارج جدرانه إلى داخلها. وهكذا فإن ممثلي الشعب المنتخبين، قلّما يحيطون علماً بجملة التدابير التي يجب أن يحدّدوا منها موقفهم، وهم مرغمون دوماً على الاعتماد أكثر فأكثر على أحكام الآخرين. إن الممثل لم يعد يمثل شيئاً، حتى ولا نفسه.
وكانت البرلمانات، والكونغرس، والجمعيات الوطنية، في الأصل، مجالات، تملك نظرياً أن تؤلف بين وجهات نظر متضادة. وكان ممثلو وجهات النظر هذه يستطيعون التفاوض للوصول إلى مصالحة ما. غير أنه ليس من برلمان، ذي أدوات عرجاء، ومبتذلة، كالتي ذكرناها، يستطيع أن يعرف مطالب الكثرة الهائلة للجماعات الصغيرة، على كونه كما يقال، يمثلها، حتى ولا أن يكون وسيطاً أو "سمساراً". وكلما ازدادت الأعباء على الكونغرس الأمريكي والبوندستاغ الألماني، أو الستورتينج النروجي، ازداد الوضع سوءاً.
والآن نحن نفهم بصورة أفضل ذلك العناد الذي أظهرته المجموعات الضاغطة. ولما كانت إمكانية المساومة أو الوصول إلى حدً وسط، محدودة في إطار المؤسّسة البرلمانية، فإن مقتضيات أو مطالب الفئات المتخاصمة تصبح شبه انذارات لا مفاوضة فيها. وهكذا فإن الحكومة التمثيلة، بوصفها وسيطة نهائية، تنهار هي أيضاً.
إن تفجر بنى المفاوضة، والاحتكاك بين مراكز القرار، والشلل المتصاعد الذي يصيب الهيئات التمثيلية، أمور ربما كان من نتائجها أن الكثير من القرارات المتخذة اليوم، سترّد بالتدريج إلى الناخبين أنفسهم. وعندما يستطيع الوسطاء الذين هم نوابنا أن يفاوضوا بالنيابة عنا، نتساءل لِمَ لانتفاوض نحن بدلاً منهم. ولئن كانت القوانين التي يسنونها غريبة عن حاجاتنا، أولاً تحسن تقدير هذه الحاجات، فلا أقل إذن من أن نضع، نحن أنفسنا، هذه القوانين التي نحتاج إليها. إلا أن ذلك يوجب علينا أن نملك مؤسسات تقانات جديدة.
وهؤلاء ثوريو الموجة الثانية الذين ابتكروا أو ابتدعوا آلية المؤسسات الحالية، لم يكونوا يجهلون الطرف الاخر من المعادلة أي تلك الديمقراطية المباشرة. وكذلك فإن الآباء المؤسسين لم يكونوا يجهلون شيئاً، من النظام البلدي، أو الموافقة الشعبية، على المستوى الصغير، الموجود في انجلترا الجديدة، غير أن نقاط الضعف في الديمقراطية المباشرة، وحددوها، كانت بارزة أيضاً -وفي ذلك العهد، كانت محازيرها أكبر وزناً من حسناتها.
"وكان الفيديرالي يثير اعتراضين أمام هذا التجديد" تبعاً للسيد Mc Cauley والسيد Rood وجونسون Johnson وهم أصحاب الاقتراح الذي يدعو إلى الاستفتاء العام في الولايات المتحدة. وأول ما يقال، هو أن الديمقراطية المباشرة لم تكن تسمح لا بضبط ولا بتأخير ردود الفعل العاطفية المؤقتة، لدى الجماهير- والحجة الثانية، هي أن المواصلات في ذلك العهد، لم تكن قادرة على ضمان عملها (عمل الاقتراع).
ولاشك أن لدينا هنا مشكلات مشروعة. فلو أن الشعب دُعيَ لإبداء الرأي، من أواسط العام 1960 في إمكانية إلقاء قنبلة نووية على هانوي، ترى كيف نتصور أن الرأي العام الأمريكي المغبون الملتهب سيصوت؟ وكيف كان يمكن أن يرد ألمان الغرب المتميزون غيظاً على عصابة Baades meinhof على الاقتراح القائل بسجن المتعاطفين مع إرهابييّ المعسكرات؟ وماذا كان يمكن أن يجري لو وجد هناك استفتاء شعبي حول كيبك، بعد ثمانية أيام على وصول رينيه ليفسك Rene Levesque إلى السلطة؟ إن الممثلين المختارين يقدر أنهم من الذين يظن بهم الخير، وقلة الاندفاع مع العواطف، والإصغاء إلى ما يقوله العقل أكثر من الآخرين.
ومع ذلك فإن لدينا وسائل مختلفة نستطيع بها السيطرة على ما لدى الجمهور من شدة التأثر بالعاطفة- مثال ذلك، فرض فترة للتفكير في الأمر المطروح، أو إعادة الاستفتاء (أو الانتخابات) بعد تطبيق القرارات الهامة المتبناة بالاستفتاء، أو أي صورة أخرى للديمقراطية المباشرة؟ وكذلك فإن من الممكن دحض الاعتراض الثاني. والحقيقة، أن ضيق وسائل الاتصال القديمة، لم تعد تشكل عقبة أمام انتشار الديمقراطية المباشرة. ذلك أن التقدم المدهش في تقانة الاتصالات تفتح لأول مرة شبكة خارقة للعادة من وسائل المشاركة المباشرة للمواطنين، في القرار السياسي.
ولقد سُررنا منذ مدة بسيرة عندما شهدنا حادثاً تاريخياً يؤلف سابقة عالمية: إذ لقد شهدنا وسمعنا نقاشاً بلدياً (في المجلس البلدي) تلفزيونياً. فبفضل التلفزيون، والاتصال الممكن بين الناس عن طريقه، بعد أن جرّبه Qube (كوب) إذ استطاع سكان ضاحية من ضواحي Colombus في أوهايو أن يشاركوا حقاً في أعمال لجنتهم في الخطة plan.وكان يكفيهم من غير أن يتركوا أو يتخلوا عن أعمالهم الطبيعية، أن يضغطوا على زر معيّن، لكي يعبروا آنياً أو فوراً عن رأيهم في أمور من طبيعة سياسية، كالتهيئة المدنية، ووضع نظام للمساكن، أو العقارات أو وضع مشروع بناء أوتوستراد. ولم يكونوا قادرين على التصويب بـ "نعم" أو "لا" ولكنهم كانوا يستطيعون التدخل في النقاش أيضاً، وأن يعربوا عن وجهة نظرهم. وفي وسعهم أيضاً بالضغط على زر آخر، أن يقولوا للرئيس، أن ينتقل إلى نقطة أخرى من نقاط البحث.
وليس هذا إلا العلامة الأولى، والأكثر بدائية، على بداية الديمقراطية المباشرة الموعود بها للغد. ولأول مرة في التاريخ تستطيع هيئة انتخابية مطلقة، أن تتخذ قراراتها، بفضل الحاسوب، والقمر الصناعي، والهاتف، ثم التلفزيون Par Cable . وكذلك بتقنيات سبر الرأي، وأدوات متقدمة أخرى غير هذه. وليست القضية أن نحل نظاماً محل نظام آخر، ولا أن نخلق بلديات الكترونية، على نحو ما تصوره Ross perotبشكل موجز. بل إن سيرورات ديمقراطية أكثر حساسية وأرهف، أصبحت ممكنة، وكذلك ليست القضية أن نختار بين الديمقراطية المباشرة أو الديمقراطية اللامباشرة، أو بين التمثيل الذاتي، أو التمثيل عن طريق تفويض الآخرين بالسلطة. بل إن في وسعنا أن نتخيل الكثير من الأشكال التي تؤلف بين الديمقراطية المباشرة،والديمقراطية اللامباشرة. وفي أيامنا هذه، سواء أكنا في الكونغرس أم في أكثر البرلمانات أو الجمعيات، نجد أن النواب ينشئون لجانهم الخاصة، من غير أن يكون للمواطنين أية وسيلة لإرغام المشرعين على إنشاء لجنة ما، أو جملة لجانٍ تدرسُ مشكلةً مهملة، أو مشكلة يطول فيها أو طال الجدل. ولكن نتساءل: لم لا يكون للناخبين القدرة بعد تقديم طلب ما على إرغام الجمعية الوطنية، على إنشاء لجنة لدراسة مشكلةٍ، يرى الجمهور -خلافاً للمشرع- أنها مسألة هامة؟
ولا يعني هذا كله أننا نمتدحُ هذه الآراء الخيالية، لأننا سلفاً نقرّ بها ونحرص عليها، بل نحن نريد فقط أن نلحّ على فكرة من نظام أكثر شمولاً: إن هناك وسائل ناجحة لإدخال الديمقراطية على نظام يقتَّرب من نهايته، في إطار لا نجد فيه إلا قليلاً من الناس- هذا إن افترضنا أن مثل هذا العدد موجود -يشعرون بأنهم ممثَّلون فعلاً. ولكن يجب علينا أن نتخلى عن عاداتنا العقلية القديمة، ونهمل ماضياً صار عمره ثلاثة قرون. ذلك أننا لم نعد نستطيع حل المشكلات التي نعانيها بالاعتماد على الأيديولوجيات، أو على بقايا بنى ورثناها من الموجة الثانية.
ولكن يجب أيضاً أن نمتحن مثل هذه المقترحات ذات المقتضيات اللامؤكدة، على الأرض، وعلى مقياس صغير، من قبل أن نوسع مجال التطبيق. ولكن مهما يكن رأينا في مثل هذه الأفكار، فإن الاعتراضات القديمة، التي كانت تقف في وجه الديمقراطية المباشرة تضعف، وذلك في اللحظات التي تتعزز فيها الاعتراضات التي تثار في وجه الديمقراطية التمثيلية. ومهما يكن خطر الديمقراطية نصف المباشرة التي ندعو إليها، ومهما تكن، في عيون بعض الناس، فإنه يبقى أن ما ندعو إليه، هو مبدأ معتدل يمكن أن يساعدنا على اقتراح مؤسسات جديدة قابلة للتطبيق.
تقسيم القرار
إن زيادة فتح أبواب السلطة للأقليات، وإتاحة الفرصة للمواطنين للتدخل بشكل أوسع في حكومتهم، هما قضيتان ضروريتان بدرجة واحدة، ولكن هذا لا يكفي. وعلى هذا فإن المبدأ الحيوي الثالث، في سياسة الغد يتجه إلى كسر القفل على القرار، ونقله إلى حيث ينبغي نقله- وهذا -وليس فقط تغيير القادة- هو النقيض للشكل السياسي. وهناك دواء نسميه بـ: بتقسيم القرار".
هناك مشكلات لا يمكن أن تسوّي على المستوى المحلي. وهنالك مشكلات أخرى لا يمكن تسويتها، على المستوى الوطني. وبعضها يقتضي عملاً متوازياً ومتواقتاً على مستويات مختلفة. وعدا ذلك، فإن المكان الملائم لتسوية مشكلة ما. ليس ثابتاً بل إنه يتغير مع الزمن.
فإذا أردنا أن ننهي عهد محاصرة القرارات، الذي هو نتيجة إرهاق المؤسسات بالعمل، فإن من المهمّ آنئذ أن نجزّئ القرارات. ونعيد توزيعها- وتقسيمها بشكل أوسع، وتحديد المكان الذي يتخذ فيه القرار، طبقاً لنوعية المشكلات. ولنقل إن الجهاز السياسي الحالي متناقض تناقضاً فعلياً مع هذا المبدأ: إذ أن المشكلات قد تغيّرت، ولكن سلطة اتخاذ القرار لم تتغير. وهكذا نرى مثلاً أن كثيراً من القرارات ما يزال يخضع للمركزية، على حين أن هندسة المؤسسات أُنضجت أمثلَ الانضاج، على المستوى الوطني. وبالمقابل فإنه لا يوجد ما يكفي من القرارات على المستوى المحلي، وكل البنى الموجودة في هذا الميدان، ما تزال متخلفة جذرياً. وكل هذا من غير أن نشير إلى أن لدينا قليلاً جداً من القرارات، المتروكة على المستوى التحت الوطني أي المناطق والدول، والمحافظات والجماعات المحلية، أو التجمعات الاجتماعية، الخالية من الاقتصاد الجغرافي.
ونحن، على المستوى العالمي، بدائيون، ومتخلفون ولانزال في هذا الموضوع كما كنا منذ 300عام. ولئن وُجد عدد من القررات، ينتقل إلى الدرجة الأعلى، خارج الدولة، فإننا سنكون قادرين على التدخل، بدرجة أكبر من النجاح، في هذا المستوى الذي هو مهد الاختيار (أو التعرض) للمشكلات المهددة بالانفجار، والمرشحة لمواجهتنا نحن. وبحكم ذلك، سيجد مركز القرار أنه مثقل بالأعباء، أعني أن الدولة -الأمة، ستخفف من عبئها بعض الشيء. إن تقسيم (تقاسم) القرار، شيء أساسي. ومهما يكن من أمر، فإننا لن نكون قد قطعنا إلا نصف الطريق، وبديهي أن من الأهمية بمكان أن "نُنزل" جزءاً كبيراً من مراكز القرار، أو أن نهبط بمستواه. غير أننا هنا نجد المبدأ القائل: "إما الكل وإما لا شيء"، لا يعمل أو لا يستقيم. فالقضية ليست في معارضة المركزية باللامركزية، بالمعنى المطلق، إذ أن المشكلة المطروحة هي إعادة تأطير آلية القرار داخل نظام تضخمت فيه المركزية تضخماً كبيراً، حتى لنجد أن سبل الإعلامات يخنق مراكز القرار.
وبطبيعة الحال فإن حذف أو تخفيف المركزية، ليس بضمان لوجود الديمقراطية. ذلك أن إمكانية بروز بعض الاستبدادات الصغيرة والعديمة الشفقة، ليست محذوفة.، كثيراً ما تكون السياسه المحلية أكثر فساداً من السياسة الوطنية. وهذا من غير أن نقول: إن ذاك الذي يوهمك بأنه "لا مركزية" ليس في الحقيقة إلا نوعاً من التزييف لهذه اللامركزية، أما المستفيدون منها، فسيكونون من هواة المركزية.
ومع ذلك، يستطيع الإنسان أن يناقش بقدر ما يريد، إلا أنه لا يمكن أن يتم اعادة الحس السليم والنظام والنجاح في الإدارة ) -ويصح هذا على الكثيرين من الدول- إلا بنقل جوهري للسلطة المركزية. ويجب وجوباً مطلقاً تجزئة عبء القرار، وجعلها إلى حدّ كبير في يد السلطات الدنيا.
لا بدعوى أن بعض الفوضويين الرومانطيقيين، يريدون أن نعود إلى ديمقراطية القرية او أن بعض كبار المكلفين بالضرائب والمستائين من ذلك يطالبون باقتطاعات كبيرة من المخصصات الموضوعة للمساعدات الاجتماعية (الخاصة بالمعوزين)،بل لسبب أبسط بكثير من هذا: فالبنية السياسية حتى ولو جهزت بمجموعة من الحواسيب، لا تستطيع أن تستوعب إلا جزءاً معيناً من القرارات، من نوعية معينة، ولكن الحكومات- بحكم كثرة واجبات القرار- قد تجاوزت نقطة اللاعودة.
وشيء آخر أيضاً هو أن المؤسسات الحكومية لا بُدّ لها من أن تنسجم مع بنية الاقتصاد، ونظام الإعلام، والاعتبارات الأخرى الناشئة عن حضارة الزمن الذي تعمل فيه.ذلك أننا تشهد اليوم تناثر المركزية، والتجزؤ المحلي للإنتاج والنشاط الاقتصادي. والحقيقة أن من الممكن جداً ألا يكون الاقتصاد الوطني وحدة هو القاعدة.
وعلى نحو ما لاحظنا سابقاً فإننا نشهد داخل الاقتصادات الوطنية، بروز اقتصادات جزئية في المناطق، تزداد أهميتها. وعندئذ نرى الشركات لاتبذل جهداً من أجل القيام بتجزئة داخلية فقط، بل إنها أيضاً تقوم بتجزئة مركزيتها تبعاً للمناطق الموجودة فعلاً.
وينشأ هذا كله، جزئياً، عن التحول الضخم في سييل المعلومات التي تسقي المجتمع. ومع ضعف التشعب المركزي نشهد، على ما لاحظنا من قبل- تفكك المركزية الأساسية للاتصالات، إننا نشهد تكاثراً مريعاً في عدد التلفزيونات ذات الكابلات، والحواسيب وأنظمة التواصل الالكترونية الخاصة، التي تمضي كلها في اتجاه اللامركزية. وليس في الإمكان أن تقوم شركة ما، بنثر النشاط الاقتصادي، والاتصالات، والكثير من طرائق العمل الأساسية، من دون أن ترى نفسها، ذات يوم، مرغمة أيضاً على نثر القرار (أي نثر القرار بين فروع الشركة).
إن هذا كله ليقتضي شيئاً آخر غير مجرد ارتقاء المؤسسات السياسية، كما يقتضي معارك عنيفة، هدفها هو الرقابة على الموازنات والضرائب، والأرض، والطاقة، والمصادر الأخرى. إن نثر أو تناثر مراكز القرار لن يكون مطلباً سهل الانتزاع،ولكنه شيء لا بد منه، أو محتوم في البلاد المشبعة جداً بالمركزية.
ازدهار النخب
ولكي نفهم ماهية الديمقراطية لا بدّ من الاعتراف بأن مفهوم عبء القرار ذو أهمية كبيرة. إن شيئاً من الكم وشيئاً من الكيف في القرارات السياسية، أمرٌ لا بد منه لعمل كل المجتمعات. والحقيقة أن لكل واحدة من هذه، بنية خاصة لاتخاذ القرار. وكلما ازدادت القرارات عدداً، وتنوعت، وتعقدت، ازداد عبء القرار السياسي: ثم إن الطريقة التي يُوزّعُ بها هذا العبء لتؤثر بصورة أساسية في مستوى المجتمع الذي ينظر إليه.
وفي المجتمعات السابقة للصناعة، حيث يكون تنوع العمل ضئيلاً، والتغيرّ قليلاً، كانت كمية القرارات السياسية أو الادارية المطلوبة فعلاً، لتشغيل مكنة العمل، ضئيلة. وكان عبء القرار قليلاً. وكانت نخبة محدودة جداً نصف مثقفة وغير مختصة، قادرة على تشغيل المكنة، دون عون من أصحاب الدرجات الدنيا. وكانت وحدها تحمل عبء القرار كله.
أما ما نسمِّيه اليوم ديمقراطية، فإنه لم يظهر إلا في اللحظة التي كان فيها عبء القرار، يتخذ أهمية ضخمة، لم يكن في وسع النخبة القديمة أن تحمله.. وعندما ظهرت الموجة الثانية، حاملة معها، اتساع السوق، وتقسيماً أكبر للعمل ، وانتقالاً إلى مستوى أرقى من التعقيد الاجتماعي، أثارت، في زمانها، حادثة انبثاق للقرار، شبيهة بتلك التي تسبب انفجار الموجة الثالثة، اليوم.
وكانت كفاءة اتخاذ القرار لدى الفئات القيادية تجد أن ظروف الحياة الجديدة قد تجاوزتها. وكان يجب أن تُختار نُخبٌ ذات كفاءة عالية ونخب دونها بقليل، كعناصر مساعدة لمجابهة الشروط الجديدة.وإنشاء معاهد ومؤسسات سياسية ثورية وغير معهودة لتهيئة الكفاءات المطلوبة.
وعندما لوحظ تنامي المجتمع الصناعي، وازداد تعقيداً اضطر" تقنيو السلطة" بدورهم، للبحث باستمرار عن دم جديد لمساعدتهم في حمل العبء، عبء اتخاذ القرار الذي يظل متضخماً. وهذه السيرورة، اللامرئية، على كونها محتومة، هي التي أدخلت في صفوفها، تلك الطبقة الوسطى في الحياة السياسية، بأعداد متراصة باستمرار، وهذه الحاجة الماسة إلى اتخاذ القرارات هي التي أدت إلى اتساع دائرة الحصانات، وإفساح المجال، بصورة متزايدة، لدخول أناس جدد من الطبقة الأدنى.
وحتى إذا لم يكن هذا الوصف إلا تقريبياً، أو غير دقيق كل الدقة، فإنه يبرهن على أن تنامي الديمقراطية متعلق بالثقافة، ويتجابه الطبقات العزيز على الماركسيين، والشجاعة في المعركة" وحسن الخطابة، والإرادة السياسية، بأقل مما يتعلق بتضخم عبء القرار الذي يقع على عاتق كل المجتمعات. وعندما يصبح هذا العبء مفرط الثقل، يجب حتماً أن يجد من يقوم به، بتوزيعه على أعداد أكبر، عن طريق المشاركة الديمقراطية.. وعلى ذلك فإنه عندما يتمدّد عبء القرار الذي يتحمله النظام الاجتماعي، تصبح الديمقراطية ضرورة من ضرورات التطور، وليست مجال اختيار حر. ذلك أن النظام لا يقوم إلا بها.
وهذا كلّه يحملنا على التفكير، من جهة أخرى، على أننا ربما كنا على عتبة القيام بقفزة كبيرة في ميدان الديمقراطية. ذلك أن الحاجة نفسها إلى القرار. -التي تشل رؤساءنا، ورؤساء وزرائنا، وحكوماتنا- هي التي تفتح لنا الطريق، لأول مرة منذ بداية الثورة الصناعية - إلى توسّع ضخم وأساسي في المشاركة السياسية.
ثم إن الحاجة إلى خلق مؤسّسات أو معاهد سياسية تتلازم والحاجة التي نشعر بها، إلى مؤسّسات عائلية تربوية واقتصادية، متصلة اتصالاً وثيقاً بالبحث عن قاعدة شديدة العزم. وهي تعكس الانقلاب الذي يؤثر أو يتناول مجال الاتصالات. وهذا الاقتضاء، أي إعادة النظر في بنى العلاقات التي نقيمها مع العالم اللاصناعي، أو قل إنه، جملة مترجمة، على المستوى السياسي للتحولات المتسارعة التي تتدخل في مختلف هذه الدوائر.
وإذا نحن لم نر هذه الترابطات، لم نفهم شيئاً من الأخبار التي تملأ صفحات الجرائد. وليس التجابه السياسي الكبير، اليوم، هو الصراع الذي يقوم بين الأغنياء، والفقراء، والجماعات العرقية التي تتصدر الناس في كل مكان، وبين تلك التي حُرم عليها كل شيء، ولا بين الرأسمالية والشيوعية، بل يعني أن المعركة الحاسمة هي تلك التي تقوم بين من يحاولون إنقاذ المجتمع الصناعي، وبين أولئك المستعدين سلفاً، لتجاوزه.. إن هذه المعركة هي أم معارك الغد.
مصير يجب خلقه
هنالك أجيال، قدرها أن تخلق، أن تبدع حضارة، وأخرى، قدرها أن تبقي على هذه الحضارة، وتلك التي أطلقت الموجة الثانية من التغيير التاريخي، كانت يحكم الضرورة أجيالاً خلاقه. فمونتسكيو، وستوارت ميل والماديسيون les Maldisons هم الذين اخترعوا أكثر البنى السياسية التي تبدو لنا، وكأنها أشياء طبيعية. وكان دور هؤلاء، في نقطة الفصل بين حضارتين، دور خلق الحضارة الجديدة.
وفي اللحظة الحاضرة، وفي كل مجالات الحياة الاجتماعية، سواء أتعلق الأمر بالأسرة، أم بالمدرسة، أم بشركة ما، أم بالدين، أم بأنظمة الطاقة، أم بشبكات الاتصال، نجد أنفسنا، نحن أيضاً، أمام ضرورة خلق أشكال ملائمة جديدة، للموجة الثالثة. وهنالك، في بلاد كثيرة، ملايين من الناس قد تعهدوا القيام بهذه المهمة. ولكن ما من بلد يظهر فيه تهافت البنى، وخطورة الوضع، كما هي الحال في حياتنا السياسية، وما من بلد في العالم، يتسم بمثل هذا النقص في الخيال، والتجريب، وكراهية التغيرات الأساسية، مثل بلدنا.
لكن الناس الذين يبرهنون على روح جريئة في التجديد في عملهم، سواء أكانوا في مكاتبهم، كمحامين، أم في مخابرهم، أم في مطابخهم أم في صفوفهم (طبقاتهم) أم في شركاتهم. يبدون وكأنهم يذهلون متى حدثناهم بالقليل القليل، عن مساوئ دستورنا وبنانا السياسية، وعن ضرورة تجديدها تجديداً جذرياً. إن مجرد الإشارة إلى تغيير سياسي عميق، بما فيه من أخطار يخيفهم إلى الدرجة التي تراهم فيها يعتقدون أن الإبقاء على الوضع القائم، مهما يكن سريالياً ومؤسفاً -هو الخير الأعظم لبلد هو أحسن بلاد العالم.
وبالعكس فإن هناك في كل المجتمعات، فئة من أشباه الثوريين، المتجذرين في العقائد البالية العائدة للموجة الثانية، ترى أنه ما من تغيير مقترح، هو جذري، بالدرجة الكافية- إنهم ماركسيون متخلفون أو فوضويون رومانطيقيون، أو من أقصى اليمين، أو ثوار بالبابوح ، أو إرهابيون غيفون.، يحلمون بحكومات فنيين، مقيدة بطوبائيات القرون الوسطى. وفي الحين الذي ندخل نحن فيه. بسرعة كبيرة. في عهد تاريخي جديد، تراهم يهذون بنماذج من الثورات، استُمدت من البيانات السياسية، المصفرة مما صدر البارحة (الأيام الماضية).
ولكن في الحين الذي تشتد فيه المعركة الكبرى، نجد أننا لن نشهد استعادة أية درامة ثورية من الزمن الماضي -ولن نشهد أيضاً إنقلاباً للنخب بقوم به (حزب طليعي) يجرُّ إليه الجماهير، ولا تمرّداً عفوياً، مزيف الطهارة، يكون الإرهاب أداة لتخمره. إن إنشاء بنى جديدة سياسية ملائمة لحضارة من الموجة الثالثة، لا يتم كثمرة لأي "ليلة قدر" أو شكل احتفالي، بل سيكون نتيجة ألف تجديد، وألف صدام، تتدخل على مستويات عديدة، في أماكن كثيرة، على مدى عشرات السنين.
وهذا لا ينفي إمكانية العنف على الطريق الذي يؤدي بنا إلى الغد. وكان الانتقال من حضارة الموجة الأولى، إلى الثانية طويلاً، كمأساة دامية، أو نسيج من الحروب، أو تمردات، ومجاعات وهجرات ارغامية ، وانقلابات عسكرية. ومصائب. أما اليوم ، فإن الرهانات أعلى بكثير، والزمن أقصر، والتسارع أوضح، والأخطار أكبر وأكبر.
وكثيرة هي الأشياء التي تتعلق بالمرونة، وبالذكاء الذي تملكه النخبة، أو من هو فوق النخبة، أو تحتها حالياً، فإذا بدا أنها قصيرة النظر، مجرّدة من قوة الخيال، ومرعوبة كأكثر الفئات القيادية، في الماضي، فإنها ستقاوم الموجة الثالثة، مضاعفة بذلك أخطار العنف، ومسرعة للقضاء على جماعاتها.
وبالمقابل، فإنها إذا قبلت أن تمضي مع الموجة الثالثة وإذا اعترفت بضرورة توسيع الديمقراطية، عندئذ يمكنها أن تشارك في تأسيس حضارة جديدة، تماماً كالنخب الأكثر تبصّراً أيام الموجة الأولى التي شاركت في ولادة الحضارة الصناعية، عندما استبقت الأحداث وفهمت مغزاها.
لكنّ الوضع يختلف بين بلد وآخر. إذ لم يوجد قط في التاريخ، عددٌ بهذه الكثرة من الناس المتمتعين بمستوى ثقافي معقول، والمزوّدين، بجملتهم، بمعرفة، بمثل هذه القوة والتألق. وكذلك لم يوجد قط عدد من الناس يملكون سعة مادية، لها كل هذا اليسار- الذي ربما كان مؤقتاً، ولكنه كان، يتيح لهم أن يخصصوا جزءاً من أوقاتهم وطاقاتهم من أجل التفكير والعمل المدني. ولنقل أيضاً لم يوجد قط هذا العدد من الناس الذين يستطيعون الاتصال، والسفر، والاحتكاك بثقافات أخرى، وكذلك، وبصورة خاصة أيضاً، تقول أنه لم يوجد قط مثل هذا العدد من الناس الذين يستفيدون عندمايسهرون على أن تتم التغيرات مهما تكن عميقة، بصورة سلمية.
وهذه النخب المثقفة أكثر من غيرها، لا تستطيع وحدها إن تبني حضارة جديدة. بل إن من الضروري أن تتآزر الطاقات بكاملها. وفعلاً فإن هذه الطاقات موجودة. ولا تنتظر إلا أن يتم تجنيدها. والحقيقة أننا إذا عهدنا للجيل القادم، وخاصة في البلاد ذات التقانات العالية، بخلق أو إنشاء مؤسسات ودساتير جديدة فعلاً، "فلربما حررنا عندئذ شيئاً أكثر بكثير من الطاقة: أي من الخيال الجمعي.
وكلما بكرنا في رسم صورة المؤسسات السياسية الجديدة، المؤسسة على المبادئ الثلاثة المشار إليها سابقاً، أي تحرير الأقليات، والديمقراطية نصف المباشرة، وتقسيم أدوات القرار- نكون عندئذ قد ضمنا الانتقال السلمي- وسرّعنا خطواته.إن إرادة تبطئه هذه التغيرات، لا التغييرات نفسها، هي التي تزيد الأخطار. ثم إن الإرادة العمياء في الدفاع عما قد فات أوانه، هي التي تزيد أخطار المجابهات الدموية. ونتيجة ذلك، اننا إذا أردنا تجنب الاضطرابات العنيفة بترتب علينا، منذ الآن، أن نركز الجهود على مشكلة تقادم العهد على البنى السياسية في العالم، وعدم تسليم هذه المشكلة إلى الخبراء وحدهم -مثل الاختصاصيين في الحقوق الدستورية، والمحامين والسياسيين- ولكن إلى المؤسسات المدنية، والنقابات والكنائس، والجماعات النسائية، والأقليات العرقية، والعلماء وربات البيوت، ولرجال الأعمال.
ويجب علينا، في المرحلة الأولى،أن نفتح نقاشاً عاماً، موسعاً بقدر الإمكان، حول موضوع: ضرورة الدعوة إلى نظام سياسي يتلاءم مع حاجات الموجة الثالثة. ويجب أن نكثر من المحاضرات، والإذاعات المرئية، والندوات حول طاولة مستديرة، والتدريب على تمثيل صور الحضارة القادمة. وإنشاء ما يشبه الجمعيات الدستورية (المجالس الدستورية) أملاً باستخلاص مجموعة من المقترحات المتصلة بإعادة البنى السياسية، وبفتح الطرق للحصول على سيل من الأفكار الجديدة. وعلينا أن نهيء أنفسنا لاستخدام كل ما يمكن استخدامه من أفكار عادية، أو مؤنقة، مما نحن قادرون على الاستفادة منه، بدءاً من الأقمار الصناعية والحواسيب حتى ما يسمى بال VIDEO- DISQUE ( )في التلفزيون ال INTERACTIVE وما من إنسان يعرف بدقة ما سيكون عليه المستقبل، ولا مم يتألف منه ولا ما يتلاءم أفضل التلاؤم مع الموجة الثالثة. ولهذا السبب، فإن ما يجب أن نتصوره ونضعه في حسابنا ليس إعادة تنظيم كتلة واحدة ووحيدة، وليس باستحالة ثورية وحيدة، مفروضة من الخارج، بل الذي نريده هو آلاف التجارب اللامتمركزة (الخالية من المركزية) التي تتيح لنا أن نتحقق من قيمة نماذج جديدة لانضاج القرار، على المستويين المحلي والمناطقي، تسبق تطبيقات أخرى وطنية، وأكثر من وطنية.
وعلينا في الوقت نفسه أن نبدأ بإنشاء مركز انتخابي بغية القيام بتجريب مشابه، يتناول المؤسسات الوطنية، والتي تشمل أكثر من بلد واحد، بغية إعادة صهرها، وتنظيمها من جديد. وفي يومنا هذا ربما استطاع انقشاع الوهم المشترك بين الكثيرين من الناس، والتعصب، والمرارة، من حكومات الموجة الثانية، أن تتحول، بالقوة نفسها،إما إلى استشاطة الغيظ العصبي والطائفي، استجابة لبعض الديماغوجيين المتعطشين إلى الدماء، وإما إلى ما يغذي سيرورة إعادة بناء الديمقراطية.
وعندما نقوم بحملة تربوية واسعة -هي تجربة للديمقراطية المسبقة في عدد كبير من البلاد في الوقت نفسه -نستطيع أن نقيم عقبة أمام الهجمات الدكتاتورية (التوليتارية): ونستطيع أن نهيء الجماهير للتشتت والأزمات المهلكة التي ترقبنا. ونستطيع أن نمارس تأثيرات محلية مركّزة استراتيجياً في الأجهزة السياسية الموجودة، بغية تسريع التغيرات الضرورية.
فإذا غضضنا النظر عن هذا الضغط الضخم، المتجه من تحت إلى فوق- فعلينا ألا نأمل ألا يتحرك القادة الحاليون الرسميون - كالرؤساء ورجال السياسة، والشيوخ وأعضاء اللجان المركزية- لإدانة مؤسساتٍ مهما تكن قلقة أو متفسخة- تظل بالنسبة إليهم مصادر نفوذ وثروة، وهذا من غير أن ندخل في الحساب، أنها تقدم لهم الشعور بامتلاك شكل السلطة كبديل عن حقيقتها. إن بعض رجال السياسة المطلعين واليقظين، وبعض الشخصيات المتميزة، سيقدمون يد المساعدة في المعركة الهادفة إلى تغيير المؤسسات السياسية، إلا أن أكثرهم لن يتحركوا، قبل أن تكون المطالب الخارجية قد اكتسبت قوة لا تقاوم، أو قبل أن تكون الأزمة التي بلغت الكثير من النضج، وملأت الدنيا عنفاً، بحيث لا يرى في الأفق إمكانية أخرى.
وعلى ذلك فإننا نحن -آخر الأمر- المسؤولون عن حركة التغيير. ولنقل إن علينا أن نبدأ بتغيير أنفسنا عن طريق التعلم بأن لا تغلق عقولنا قبل الأوان، على ما هو جديد. وهذا يعني أن نقف ضد خانقي الأفكار السريعين إلى القضاء على كل موقف جديد، بدعوى أنه غير واقعي، أولاً يمكن تحقيقه، نعني أولئك المدافعين باستمرار عن كل ما سبق أن وُجدَ، حتى ولو كان سخيفاً، قاهراً أو غير قابل للاستغلال- بدعوى أنه صالح للاستخدام. وهذا يعني ضرورة القتال -أو النضال من أجل حرية التعبير - ومن أجل حق الناس في صياغة آرائهم حتى ولو كانت من نوع الهرطفة.
وهذا يعني بشكل خاص أن نقوم دون تباطؤ، بتيسير سيرورة إعادة البناء، قبل أن تصاب النظم السياسية القائمة بالانحلال، وقبل أن تكون قد وصلت إلى العتبة الكريهة، التي تتفلت بعدها قوى الاستبداد، وتجعل من المستحيل أن يتم الانتقال بصورة سليمة إلى ديمقراطية القرن الواحد والعشرين.
فإذا نحن بدأنا العمل دون تأخير، فإننا نستطيع نحن وأبناؤنا أن نساهم في هذا العمل المثير لحماسة الإنسان، ونعني به، لا مجرد إعادة بناء بنانا السياسية التي عفى عليها الزمن، بل إعادة بناء الحضارة نفسها.
وكما كانت حال جيل الثوريين سابقاً، فإن قدرنا نحن هو أن نخلق مصيرنا.
من أجل المزيد من المعلومات
حيّت الصحافة الأمريكية، وصحافة بلاد كثيرة أخرى ظهور كتبنا السابقة، كتب ألفين وهيدي توفلر، التي وصفت بأنها رائعة حسب تعبير "الواشنطن بوست، "وشبيهه بالمتفجرات، و"مكتوبة بأسلوب رائع" بلغة ال WALL STREET JOURNAL أو ذات طراوة لا تموت، طبقاً لقول ال BUSINESS WEEK وتُرجمت هذه الكتب إلى ما هو أكثر من ثلاثين لغة، وطُبع منها عدة ملايين من النسخ، وقد قرئت من قبل بعض رؤساء الجمهوريات ورؤساء الوزراء، كريشار نيكسون، وأنديرا غاندي وياسوهيرو ناكاسون وميخائيل غورباتشيف، وكل منهم أشار إليها أمام الجماهير أوفي أحاديثه مع الأصدقاء.
وعندما ظهر كتاب "الموجة الثالثة" ووصل إلى الصين أعربت السلطات مباشرة عن رأيها في أنه مصدر، تلوث عقلي غربي، وحرّمت بيعه. وعندما سمح له من جديد بالتداول أصبح وكأنه النجاح الثاني بين الكتب المبيعة في الصين الشعبية.. وبعد خطابات DENG XIOPING أصبح "انجيل" الحركة الديمقراطية. وعندما خلع القساةُ ZHAO ZIYANG رئيس الحزب الشيوعي الذي بدا وكأنه يريد المصالحة مع الطلاب الذين كانوا يتظاهرون في ساحة TIENANMEN لِيَم الرجل بين أشياء أخرى- على أنه استقبل التوفلريين.
وفي الحين الذي كانا يرفضان فيه كلمة "التنبؤ" مشيرين إلى أنه ما من أحدٍ يستطيع أن يعرف المستقبل، كانت كتبهما ومحاضراتهما قد سبقت، وأحياناً بعشرات السنين، عدداً من الحوادث الكبرى في أيامنا، لا سيما ارتفاع شأن الحاسوب، وانهيار الاتحاد السوفييتي وتوحيد ألمانيا، وتفجر الأسرة النووية، وصور التقدم التي تحققت خلال (أثناء) السنوات الأخيرة في مادتي التصور والكلوناج ( أي الاستنساخ ) ، والأشكال الجديدة المعادية للبيروقراطية، وتكاثر الأسواق والاتصالات، في كل مكان، من غير أن ننسى تنامي التنظيمات السياسية، القائمة حول الرهان الوحيد، أو رهان الموجة الثالثة، والحركات الأساسية والاهتمام "بالديمقراطية".
وأهم كتبهما: كتاب "صدمة المستقبل، والموجة الثالثة وتغيرات السلطة.
حول الرهان الوحيد، رهان الموجة الثالثة، والحركات الأساسية الداعمة لها، والعامل لأوسع ديمقراطية ممكنة، والاستفادة من المعارف المستحيلة في الحواسيب، والكترونيات، والمعرفة الإنسانية المتنامية، وأهم كتبهما كتاب صدق المستقبل، والموجة الثالثة وتغيرات السلطة



الفهرس
تمهيد 5
مقدمة 7
مقدّمة: دليل القرن الواحد والعشرين لاستخدامه من قبل المواطنين. 10
الفصل الأول: المعركة العظمى SUPER - COMBAT 17
الفصل الثالث: البديل الأخير 33
الفصل الرابع: الطريقة التي ننشئ بها الثروة 39
الفصل الخامس: الإمعان في المادية 47
الفصل السادس: اصطدام الاشتراكية بالمستقبل. 61
الفصل السابع: تجابه المتنبئين 71
الفصل الثامن: مبادئ جدول أعمال للموجة الثالثة 81
الفصل التاسع: الديمقراطية في القرن الواحد والعشرين 87





رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية

إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة: دراسة= Créer une nouvelle civilisation La politique de la troisième vague / الفين و هيدي توفلر؛ ترجمة حافظ الجمالي... دمشق : اتحاد الكتاب العرب، 1998 - 107 ص ؛ 24 سم .

1- 303.4 ت و ف إ 2- العنوان 3- العنوان الموازي
4 -توفلر 5- توفلر 6- الجمالي
ع -1950/11/98 مكتبة الأسد




هذا الكتاب


كتاب مترجم يرصد وجهة نظر المؤلفين حول مستقبل الولايات المتحدة الأميركية ودورها في صنع حضارة جديدة تعتمد على المعلوماتية.
واعتمادها على التقانة الحاسوبية في دخولها الألفية الثالثة إعلاناً منها لبداية تاريخ
لا لنهاية التاريخ.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
المندب, الثالثة.., الفين, توفلر, جديدة, حضارة, سياسة, إنشاء, وهايدي


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة.. الفين وهايدي توفلر ج 3
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
توفلر... إننا نعيش اليوم حضارة الموجة الثالثة Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 1 11-14-2016 06:46 PM
إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة .. الفين وهايدي توفلر ج1 Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 11-14-2016 03:09 PM
رحيل ألفين توفلر أشهر علماء الدراسات المستقبلية Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 11-14-2016 02:17 PM
إنزال بري مصري عند باب المندب عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 03-28-2015 07:21 AM
إنشاء جمعية إسلامية جديدة عبدالناصر محمود المسلمون حول العالم 0 04-30-2014 08:25 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:52 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59