#29  
قديم 01-09-2012, 11:21 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الفصل السادس و الثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم
ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق و الأنحاء في العلوم يولعون بها و يدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله و أدلتها باختصار في الألفاظ و حشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن. و صار ذلك مخلا بالبلاغة و عسرا على الفهم. و ربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير و البيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه و ابن مالك في العربية و الخونجي في المنطق و أمثالهم. و هو فساد في التعليم و فيه اخلال بالتحصيل و ذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه و هو لم يستعد لقبولها بعد و هو من سوء التعليم كما سيأتي. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراحم المعاني عليها و صعوبة استخراج المسائل من بينها. لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت. ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده و لم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار و الإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة. و إذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة و تمكنها. و من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له. و الله سبحانه و تعالى أعلم.

الفصل السابع و الثلاثون: في وجه الصواب في تعليم العلوم و طريق إفادته
اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا و قليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب. و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال و يراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن و عند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية و ضعيفة. و غايتها أنها هيأته لفهم الفن و تحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها و يستوفى الشرح و البيان و يخرج عن الإجمال و يذكر له ما هنالك من الخلاف و وجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به و قد شد فلا يترك عويصا و لا مهما و لا مغلقا إلا وضحه و فتح له مقفله فيخلص من الفن و قد استولى على ملكته هذا وجه التعليم المفيد و هو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثا تكرارات. و قد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له و يتيسر عليه و قد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم و إفاداته و يحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم و يطالبونه بإحضار ذهنه في حلها و يحسبون ذلك مرانا على التعليم و صوابا فيه و يكلفونه رعي ذلك و تحصيله و يخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها و قبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم و الاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا و يكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل و على سبيل التقريب و الإجمال والأمثال الحسنة. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن و تكرارها عليه و الإنتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل و يحيط هو بمسائل الفن و إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات و هو حينئذ عاجز عن الفهم و الوعي و بعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها و حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه و انحرف عن قبوله و تمادى في هجرانه. و إنما إلى ذلك من سوء التعليم. و لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته و على نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا و لا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى أخره و يحصل أغراضه و يستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي و حصل له نشاط في طلب المزيد و النهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم و إذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم و أدركه الكلال و انطمس فكره و يئس من التحصيل و هجر العلم و التعليم. و الله يهدي من يشاء. و كذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس و تقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان و انقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها. و إذا كانت أوائل العلم و أواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا و أحكم ارتباطا و أقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل و تكراره و إذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه. و الله علمكم ما لم تكونوا تعلمون. و من المذاهب الجميلة و الطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال و انصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان و يعود منهما بالخيبة. و إذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله و الله سبحانه و تعالى الموفق للصواب. و اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول و أمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم و ذخيرة شريفة و أقدم لك مقدمة تعينك في فهمها و ذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته و هو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ. تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام و ترتيب و تارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب. و قد يصور طرفيه يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا. أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا و يصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات. ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه و أنها و إن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا و ترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية و منطبق على صورة فعلها و لكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر. و لذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق و لا سيما مع صدق النية و التعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى. و يسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط و العلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه. ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم و هي معرفة الألفاظ و دلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب و مشافهة اللسان بالخطاب. فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك. فأولا: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة و هي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق. ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله و مواهبه. و ليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة و لا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال و الشبهات و قعد عن تحصيل المطلوب. و لم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلا ممن هداه الله. فإذا ابتليت بمثل ذلك و عرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك و انتبذ حجب الألفاظ و عوائق الشبهات و أترك الأمر الصناعي جملة و اخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه. و سرح نظرك فيه و فرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته و علمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك و حصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر و نظره عليه كما قلناه و حينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة و صورها فأفرغه فيها و وفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ و أبرزة إلى عالم الخطاب و المشافهة وثيق العرى صحيح البنيان. و أما إن وقفت عند المناقشة و الشبهة في الأدلة الصناعية و تمحيص صوابها من خطئها و هذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة و تتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك و الارتياب و تسدل الحجب على المطلوب و تقعد بالناظر عن تحصيله. و هذا شأن الأكثرين من النظار و المتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه و من حصل له شغب بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة و شكوكها و لا يكاد يخلص منها. و الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام و تعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى و أما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر. فاعتبر ذلك و استمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالالهام إلى الصواب. و الله الهادي إلى رحمته و ما العلم إلا من عند الله.

الفصل الثامن و الثلاثون: في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار و لا تفرع المسائل
اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير و الحديث و الفقه و علم الكلام و كالطبيعيات و الإلهيات من الفلسفة، و علوم هي وسيلة آلية بهذه العلوم كالعربية و الحساب و غيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة. و ربما كان آلة لعلم الكلام و لأصول الفقه على طريقة المتأخرين فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها و تفريع المسائل و استكشاف الأدلة و الأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته و إيضاحا لمعانيها المقصودة. و أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية و المنطق و أمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. و لا يوسع فيها الكلام و لا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت في المقصود و صار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها و كثرة فروعها. و ربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم و العمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر و شغلا بما لا يغني. و هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو و صناعة المنطق و أصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها و أكثروا من التفاريع و الاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة و صيرها من المقاصد و ربما يقع فيها لذلك أنظار و مسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو و هي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ؟ فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستجيروا في شأنها و لا يستكثروا من مسائلها و ينبهوا المتعلم على الغرض منها و يقفوا به عنده. فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل و رأى من نفسه قياما بذلك و كفاية به فليرق له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا و كل ميسر لما خلق له.

الفصل التاسع و الثلاثون: في تعليم الولدان و اختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الأحاديث. و صار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات. و سبب ذلك أن التعليم في الصفر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس و للملكات. و على حسب الأساس و أساليبه يكون حال من ينبني عليه. و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، و أخذهم أثناء المدارسة بالرسم و مسائله و اختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث و لا من فقه و لا من شعر و لا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة. و هذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب و من تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. و كذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن و حفظه من سواهم. و أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن و الكتاب من حيث هو، و هذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك و أسه و منبع الدين و العلوم جعلوه أصلا في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب و الترسل و أخذهم بقوانين العربية و حفظها و تجويد الخط و الكتاب. و لا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة و قد شدا بعض الشيء في العربية و الشعر و البصر بهما و برز في الخط و الكتاب و تعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم و لا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول. و فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى و استعداد إذا وجد المعلم. و أما أهل أفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب و مدارسة قوانين العلوم و تلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن و استنظار الولدان إياه و وقوفهم على اختلاف رواياته و قراءاته أكثر مما سواه و عنايتهم بالخط تبع لذلك. و بالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، و استقروا بتونس و عنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. و أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا و لا أدري بم عنايتهم منها. و الذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن و صحف العلم و قوانينه في زمن الشبيبة و لا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون و معلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع و لا يتداولونها في مكاتب الصبيان. و إذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة و من أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه و يبتغيه من أهل صنعته. فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة و ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه و الاحتذاء بها. و ليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي و حظه الجمود في العبارات و قلة التصرف في الكلام. و ربما كان أهل أفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب بما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف و محاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله. و أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم و كثرة رواية الشعر و الترسل و مدارسة العربية من أول العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. و قصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن و الحديث الذي هو أصل العلوم و أساسها. فكانوا لذلك أهل حظ و أدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبي. و لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك و أبدأ و قدم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: لأن الشعر ديوان العرب و يدعو على تقديمه و تعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة. ثم قال: و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوامره يقرأ مالا يفهم و ينصب في أمر غيره أهم ما عليه منه. ثم قال ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه، و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله و هو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه و هي أملك بالأحوال و وجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و الثواب، و خشية ما يعرض للولد في جنون الصبي من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته القرآن، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ و انحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساجل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر و ربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه. و لو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم و قبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب و المشرق. و لكن الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه.

الفصل الأربعون: في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
و ذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة. و من كان مرباه بالعسف و القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر و ضيق عن النفس في انبساطها و ذهب بنشاطها و دعاه إلى الكسل و حمل على الكذب و الخبث و هو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه و علمه المكر و الخديعة لذلك و صارت له هذه عادة و خلقا و فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع. و التمرن و هي الحمية و المدافعة عن نفسه و منزله. و صار عيالا على غيره في ذلك بل و كسلت النفس عن اكتساب الفضائل و الخلق الجميل فانقبضت عن غايتها و مدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين. و هكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف و اعتبره في كل من يملك أمره عليه. و لا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. و تجد ذلك فيهم استقراء و انظره في اليهود و ما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق. و عصر بالحرج و معناه في الاصطلاح المشهور التخابث و الكيد و سببه ما قلناه. فينبغي للمعلم في متعلمه و الوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب. و قد قال محمد بن أبى زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين و المتعلمين: لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا. و من كلام عمر رضي الله عنه: من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله. حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب و علما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته. و من أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه و ثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة و طاعته لك واجبة و كن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن و عرفه الأخبار و روه الأشعار و علمه السنن و بصره بمواقع الكلام و بدئه و امنعه من الضحك إلا في أوقاته و خذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه و رفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه. و لا تمرن بك ساعة إلا و أنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه. و لا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ و يألفه. و قومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة و الغلظة. انتهى.

الفصل الحادي و الأربعون: في أن الرحلة في طلب العلوم و لقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم
و السبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم و أخلاقهم و ما ينتحلون به من المذاهب و الفضائل: تارة علما و تعليما و إلقاء و تارة محاكاة و تلقينا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة و التلقين أشد استحكاما و أقوى رسوخا. فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات و رسوخها. و الاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم. و لا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم و تعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها و يعلم أنها أنحاء تعليم و طرق توصل و تنهض قواه إلى الرسوخ و الاستحكام في المكان و تصحح معارفه و تميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة و التلقين و كثرتهما من المشيخة عند تعددهم و تنوعهم. و هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم و الهداية. فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد و الكمال بلقاء المشايخ و مباشرة الرجال. و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الفصل الثاني و الأربعون: في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة و مذاهبها
و السبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري و الغوص على المعاني و انتزاعها من المحسوسات و تجريدها في الذهن، أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العلوم لا بخصوص مادة و لا شخص و لا جيل و لا أمة و لا صنف من الناس. و يطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. و أيضا يقيسون الأمور على أشباهها و أمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم و أنظارهم كلها في الذهن و لا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث و النظر. و لا تصير بالجملة إلى المطابقة و إنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب و السنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية. التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية و الأنظار الفكرية لا يعرفون سواها. و السياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج و ما يلحقها من الأحوال و يتبعها فإنها خفية. و لعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال و ينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها. و لا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام و قياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم و نوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا و لا يؤمن عليهم. و يلحق بهم أهل الذكاء و الكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني و القياس و المحاكاة فيقعون في الغلط. و العامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك و عدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها و في كل صنف من الأحوال و الأشخاص على ما اختص به و لا يعدي الحكم بقياس و لا تعميم و لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة و لا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج. قال الشاعر:
فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل
فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه و تندفع آفاته و مضاره باستقامة نظره. و فوق كل ذي علم عليم. و من هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع، و بعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني. و لعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام و ينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني. و أما النظر في المعقولات الأول و هي التي تجريدها قريب فليس كذلك لأنها خيالية و صور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.


الفصل الثالث و الأربعون: في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم
من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر. و إن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته و مرباه و مشيخته مع أن الملة عربية و صاحب شريعتها عربي. و السبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة و إنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله و نواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم و قد عرفوا مأخذها من الكتاب و السنة بما تلقوه من صاحب الشرع و أصحابه. و القوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم و التأليف و التدوين و لا دفغوا إليه و لا دعتهم إليه حاجة. و جرى الأمر على ذلك زمن الصحابة و التابعين و كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك. و نقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب و ليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة إلى هذا. فهم قراء لكتاب الله و السنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه و من الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له و شرح. قال صلى الله عليه و سلم: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله و سنتي. فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية و تقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد و تعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح مم الأسانيد و ما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب و السنة و فسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية و صارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات و الاستخراج و التنظير و القياس و احتاجت إلى علوم أخرى و هي الوسائل لها من معرفة قوانين العربية و قوانين ذلك الاستنباط و القياس و الذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع و الإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع. و قد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر و أن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية و بعد عنها العرب و عن سوقها. و الحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي و أهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة و أحوالها من الصنائع و الحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه و الفارسي من بعده و الزجاج من بعدهما و كلهم عجم في أنسابهم. و إنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب و صيروه قوانين و فنا لمن بعدهم. و كذا حملة الحديث الذين حفظوة عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة و المربى لاتساع الفن بالعراق. و كان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما عرف و كذا حملة علم الكلام و كذا أكثر المفسرين. و لم يقم بحفظ العلم و تدوينه إلا الأعاجم. و ظهر مصداق قوله صلى الله عليه و سلم: لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس. و أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة و سوقها و خرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية و ما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم. و النظر فيه، فإنهم كانوا أهل الدولة و حاميتها و أولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع. و الرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع و المهن و ما يجر إليها و دفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين. و ما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم و علومهم و لا يحتقرون حملتها كل الاحتقار. حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة و صار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها و امتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني و لا يجدي عنهم في الملك و السياسة كما ذكرناه في نقل المراتب الدينية. فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم. و أما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم و مؤلفوه. و استقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم و تركتها العرب و انصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولا. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم و بلادهم من العراق و خراسان و ما وراء النهر. فلما خربت تلك الأمصار و ذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم و الصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة و اختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة. و لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم و إيوان الإسلام و ينبوع العلم و الصنائع. و بقي بعض الحضارة في ما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك، حصة من العلوم و الصنائع لا تنكر. و قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد و هو سعد الدين التفتازاني. و أما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب و نصير الدين الطوسي كلاما يعول على نهايته في الإصابة. فاعتير ذلك و تأمله تر عجبا في أحوال الخليقة. و الله يخلق ما بشاء لا شريك له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير و حسبنا الله و نعم ال**** و الحمد لله.

الفصل الرابع و الأربعون: في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي
و السر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية و الخيالية، من بين العلوم الشرعية، التي هي أكثر مباحثها في الألفاظ و مودها من الأحكام المتلقاة من الكتاب و السنة و لغاتها المؤدية لها، و هي كلها في الخيال، و بين العلوم العقلية، و هي في الذهن. و اللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة بالمناظرة و التعليم، و ممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكاتها بطول المران على ذلك. و الألفاظ و اللغات وسائط و حجب بين الضمائر، و روابط و ختام بين المعاني. و لابد في اقتياض تلك الضمائر من المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها، و جودة الملكة لناظر فيها، و إلا فيعتاض عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص. و إذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عن استعمالها، أن البديهي والجبلي، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني و الفهم أو خف، و لم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كله إذا كان التعاليم تلقينا و بالخطاب و العبارة. و أما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة و التقييد بالكتاب و مشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخط و رسومه في الكتاب، و بين الألفاظ المقولة في الخيال. لأن رسوم الكتاب لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة. و ما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة. و إن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة، و يزداد على الناظر و المتعلم بذلك حجاب آخر بينه و بين مطلوبه، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول. و إذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية و الخطية مستحكمة ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني. و صار إنما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ و الخط بالنسبة إلى كل لغة. و المتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاما لملكاتهم، ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها و اندرجت الأمم في طيها و درست علوم الأولين بنبوتها و كتابها، و كانت أمية النزعة و الشعار، فأخذ الملك و العزة و سخرية الأمم لهم بالحضارة و التهذيب، و صيروا علومهم الشرعية صناعة، بعد أن كانت نقلا، فحدثت فيهم الملكات، و كثرت الدواوين و التآليف، و تشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم و أفرغوها في قالب أنظارهم، و جردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم و أربوا فيها على مداركهم، و بقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا و طللا مهجورا و هباء منثورا. و أصبحت العلوم كلها بلغة العرب، و دواوينها المسطرة بخطهم، و احتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية و الخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن، لدروسها و ذهاب العناية بها. و قد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسال، و كذا الخط صناعة ملكتها في اليد، فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصرا في اللغة العربية، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى، و هو ظاهر. و إذا كال مقصرا في اللغة العربية و دلالاتها اللفظية و الخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر. إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم. فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم، و لا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية. و كذا أيضا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي. و لهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم و مجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. و صاحب الملكة في العبارة و الخط مستغن عن ذلك، بتمام ملكته، و إن صار له فهم الأقوال من الخط، و المعاني من الأقوال كالجبلة الراسخة، و ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني. و ربما يكون الدؤوب على التعليم و المران على اللغة، و ممارسة الخط يفيضان لصاحبهما إلى تمكن الملكة، كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم، إلا أنه في النادر. و إذا قرن بنظيره من علماء العرب و أهل طبقته منهم، كان باع العرب أطول و ملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة و لا يعترص ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع و الملكات و من جملتها العلوم. و أما عجمة اللغة فليست من ذلك و هي المرادة هنا. و لا يعترض ذلك أيضا مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فأنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم و خطهم المتعارف بينهم. و الأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه، و من غير خطه الذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجابا كما قلناه. و هذا عام في جميع أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس و الروم و الترك و البربر و الفرنج. و سائر من ليس من أهل اللسان العربي. و في ذلك آيات للمتوسمين.


الفصل الخامس و الأربعون: في علوم اللسان العربي
أركانه أربعة و هي اللغة و النحو و البيان و الأدب و معرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها في الكتاب و السنة و هي بلغة العرب و نقلتها من الصحابة و التابعين عرب و شرح مشكلاتها من لغاتهم فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة. و تتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا و الذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر و لولاه لجهل أصل الإفادة. و كان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد و المسند و المسند إليه فإنه تغير بالجملة و لم يبق له أثر. فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة و ليست كذلك اللغة و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

علم النحو
اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده. و تلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلابد أن تصير ملكة متقررة في الغصو الفاعل لها و هو اللسان و هو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم. و كانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات و أوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف و مثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. و ليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب. و أما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة و لذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما تقدره بكلام العرب. و هذا هو معنى قوله صلى الله عليه و سلم: أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا. فصار للحروف في لغتهم. و الحركات و الهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا. فلما جاء الإسلام و فارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم و الدول و خالطوا المجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين. و السمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع. و خشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا و يطول العهد بها فينغلق القرآن و الحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات و القواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام و يلحقون الأشباه بالأشباه مثل أن الفاعل مرفوع و المفعول منصوب و المبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا و تسمية الموجب لذلك التغير عاملا و أمثال ذلك. و صارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب و جعلوها صناعة لهم مخصوصة. و اصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. و أو ل من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة و يقال بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد و كان الناس أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذب الصناعة و كمل أبوابها. و أخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها و استكثر من أدلتها و شواهدها و وضع فيها كتابه المشهور الدي صار إماما لكل ما كتب فيها من بعده. ثم وضع أبو علي الفارسي و أبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه. ثم طال الكلام في هذه الصناعة و حدث الخلاف بين أهلها في الكوفة و البصرة المصرين القديمين للعرب. و كثرت الأدلة و الحجاج بينهم و تباينت الطرق في التعليم و كثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد و طال ذلك على المتعلمين. و جاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل و أمثاله أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في المفصل و ابن الحاجب في المقدمة له. و ربما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى و الصغرى و ابن معطي في الارجوزة الألفية. و بالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها و طرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين. و الكوفيون و البصريون و البغداديون و الأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك. و قد كادت هذه الصناعة تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم و الصنائع بتناقص العمران و وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة و مفصلة. و تكلم على الحروف و المفردات و الجمل و حذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابه و سماه بالمغني في الإعراب. و أشار إلى نكت إعراب القرآن كلها و ضبطها بأبواب و فصول و قواعد انتظم سائرها فوقفنا منع على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة و وفور بضاعته منها و كأنه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني و اتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته و اطلاعه. و الله يزيد في الخلق ما يشاء.
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 01-09-2012, 11:22 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

علم اللغة
هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية و ذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب و استنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم و مخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنه المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب و التدوين خشية الدروس و ما ينشا عنه من الجهل بالقرآن و الحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك و أملوا فيه الدواوين. و كان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين فحصر فيه فركبات حروف العجم كلها من الثنائي و الثلاثي والرباعي و الخماسي و هو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي. و تأتي له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة و ذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة و عشرين و هو دون نهاية حروف العجم بواحد. لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة و العشرين فتكون سبعة و عشرين كلمة ثنائية. ثم يؤخذ الثاني مع الستة و العشرين كذلك. ثم الثالث و الرابع. ثم يؤخذ السابع و العشرون مع الثامن و العشرين فيكون واحدا فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة و عشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب و هو أن تجمع الأول مع الأخير و تضرب المجموع في نصف العدة. ثم تصاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم و التأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات. و تخرج الثلاثيات من صرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالى العدد لأن كل ثنائية يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثية. فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية و هي ستة و عشرون حرفا بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالي العدد و يضرب فيه جملة الثنائيات. ثم تضرب الخارج في ستة، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تراكيبها من حروف العجم. و كذلك في الرباعي و الخماسي. فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه و رتب أبوابه على حروف العجم بالترتيب المتعارف. و اعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثم بعده من خروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة و جعل حروف العلة آخرا و هي الحروف الهوائية. و بدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصر منها فلذلك سمي كتابه بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا و هو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات و الألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل و كان المهمل في الرباعي و الخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله و لحق به الثنائي لقلة دورانه و كان الإستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه. و ضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين و استوعبه أحسن استيعاب و أوعاه. و جاء أبو بكر الزبيدي و كتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائة الرابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب و حذف منه المهمل كله و كثيرا من شواهد المستعمل و لخصه للحفظ أحسن تلخيص. و ألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف العجم فجعل البداءة منها بالهمزة و جمل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم فجعل ذلك بابا. ثم يأتي بالحروف أول الكلمة على ترتيب حروف العجم أيصا و يترجم عليها بالفصول إلى آخرها. و حصر اللغة اقتداء بحصر الخليل. ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية في دولة علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب و على نحو ترتيب كتاب العين. و زاد فيه التعرض لاشتقاتات الكلم و تصاريفها فجاء من أحسن الدواوين. و لخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس. و قلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم و بناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم و سليلي أبوة و لكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد، و لابن دريد كتاب الجمهرة و لابن الأنباري كتاب الزاهر هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. و هناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم و مستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها. إلا أن وجه الحصر فيها خفي و و في الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. و من الكتب الموضوعة أيضا في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز سماه أساس البلاغة بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ و فيما تجوزت به من المدلولات و هو كتاب شريف الإفادة. ثم لما كانت العرب تضع الشيء على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظا أخرى خاصة بها فوق ذلك عندنا، و بين الوضع و الاستعمال و احتاج إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب و من الإنسان بالأزهر و من الغنم بالأملح حتى صار استعمال الأبيص في هذه كلها لحنا و خروجا عن لسان العرب. و اختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي و أفرده في كتاب له سماه فقه اللغة و هو من أكد ما بأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأول بكاف في الترتيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك. و أكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه و نثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها و تراكيبها و هو أشد من اللحن في الإعراب و أفحش. و كذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة و تكفل بحصرها و إن لم تبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر. و أما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت و الفصيح لثعلب و غيرهما. و بعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ. و الله الخلاق العليم لا رب سواه.
فصل: و اعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وصغوها لأنه متعذر و بعيد. و لم يعرف لأحد منهم. و كذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله. على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله. و ليس لنا مثله في اللغة إلا بالعقل، و هو محكم، و على هذا في جمهور الأئمة. و إن مال إلى القياس فيها القاضي و ابن سريح و غيرهم. لكن القول بنفيه أرجح. و لا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية، لأن الحد راجع إلى المعاني. ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور، و اللغة إثبات أن اللفظ كذا، لمعنى كذا، و الفرق في غاية الظهور.

علم البيان
هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية و اللغة، و هو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ و ما تفيده. و يقصد بها الدلالة عليه من المعاني و ذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند و مسند إليها و يفضي بعضها إلى بعض. و الدالة على هذه هي المفردات من الأسماء و الأفعال و الحروف و إما تمييز المسندات من المسند إليها و الأزمنة. و يدل عليها بتغير الحركات من الإعراب و أبنية الكلمات. و هذه كلها هي صناعة النحو. و يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين و ما يقتضيه حال الفعل و هو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة و إذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه. و إذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع و لكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب و الإبانة. ألا ترى أن قولهم زيد جاءني مغاير لقولهم جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم فمن قال: جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه و من قال: زيد جاءني أفاد أن اهتمامة بالشخص قبل المجيء المسند. و كذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة. و كذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم: زيد قائم و أن زيدا قائم و إن زيدا لقائم متغايرة كلها في الدلالة و إن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد أنما يفيد الخالي الذهن و الثاني المؤكد بإن يفيد المتردد و الثالث يفيد المنكر فهي مختلفة. و كذلك تقول: جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه و أنه رجل لا يعادله أحد من الرجال. ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية و هي التي لها خارج تطابقه أولا، و إنشائية و هي التي لا خارج لها. كالطلب و أنواعه. ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب: فيشرك بذلك منزلة التابع المفرد نعتا و توكيدا و بدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب. ثم يقتضي المحل الإطناب و الإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثم قد يدل باللفظ و لا يراد منطوقه و يراد لازمه إن كان مفردا كما تقول: زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة و إنما تريد شجاعته اللازمة و تسندها إلى زيد و تسمى هذه استعارة. و قد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول: زيد كثير الرماد و تريد ما لزم ذلك عنه من الجود و قرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما في دالة عليهما. و هذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد و المركب و إنما هي هيئات و أحوال الواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال و هيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالة التي هي للهيئات و الأحوال و المقامات و جعل على ثلاثة أصناف: الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيآت و الأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال و يسمى علم البلاغة، و الصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي و ملزومه و هي الاستعارة و الكناية كما قلناه و يسمى علم البيان. و ألحقوا بهما صنفا آخر و هو النظر في تزيين الكلام و تحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس. يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منة لاشتراك اللفظ بينهما و أمثال ذلك و يسمى عندهم علم البدء. و أطق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان و هو اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول من تكلموا فيها ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى و كتب فيها جعفر بن يحيى و الجاحظ و قدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته و هذب مسائله و رتب أبوابه على نحو ما ذكرناه أنفا من الترتيب و ألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو و التصريف و البيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه. و أخذه المتأخرون من كتابه و لخصوا منه أمهات قي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان و ابن مالك في كتاب المصباح و جلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح و التلخيص و هو أصغر حجما من الإيضاح و العناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح و التعليم منه أكثر من غيره. و بالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة و سببه و الله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية و الصنائع الكمالية توجد في وفور العمران. و المشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم و هم معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري، و هو كله مبني على هذا الفن و هو أصله. و إنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البدء خاصة، و جعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، و فرغوا له ألقابا و عدوا أبوابا و نوعوا أنواعا. و زعموا أنهم أحصوها من لسان العرب و إنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، و العلم البديع سهل المأخذ. و صعبت عليهم مآخذ البلاغة و البيان لدقة أنظارهما و غموض معانيهما فتجافوا عنهما. و ممن ألف في البدء من أهل أفريقية ابن رشيق و كتاب العمدة له مشهور. و جرى كثير من أهل أفريقية و الأندلس على منحاه. و اعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة و مفهومة و هي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختص بالألفاظ في انتقائها و جودة رصفها و تركيبها. و هذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه. و إنما يدرك بغض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي و حصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه. فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوة من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام و جهابذته و الذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون و أصحه. و أحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون و أكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جاز الله الزمخشري و وضع كتابه في التفسير و تتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفصل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. و لأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السنة و شارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها و لا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع و الأهواء. و الله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل.

علم الأدب
هذا العلم لا موضع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. و إنما المقصود منة عند أهل اللسان ثمرته، و هي الاجادة في فني المنظوم و المنثور، على أساليب العرب و مناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة. من شعر عالي الطبقة، و سجع متساو في الإجادة، و مسائل من اللغة و النحو مبثوثة أثناء ذلك، متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. و كذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة و الأخبار العامة. و المقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب و أساليبيهم و مناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمة. ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها و الأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط و هي القرآن و الحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم و ترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها. و سمعنا من شيوخنا في مجالسى التعليم أن أصول هذا الفن و أركانه أربعة دوارين و هي أدب الكتاب لابن قتيبة و كتاب الكامل للمبرد و كتاب البيان و التبيين للجاحظ و كتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. و ما سوى هذه الأربعة فتبع لها و فروع عنها. و كتب المحدثين في ذلك كثيرة. و كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه. و كان الكتاب و الفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر و فنونه فلم يكن انتحالة قادحا في العدالة و المروءة. و قد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب و أشعارهم و أنسابهم و أيامهم و دولتهم. و جعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب و أوفاه. و لعمري إنه ديوان العرب و جامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر و التاريخ و الغناء و سائر الأحوال و لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه و هو الغاية التي يسمو إليها الأديب و يقف عندها و أنى له بها. و نحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان. و الله الهادي للصواب.

الفصل السادس و الأربعون: في أن اللغة ملكة صناعية
إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعانى و جودتها و تصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. و ليس ذلك بالنظر إلى المفردات و إنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة و مراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئد الغاية من إفادة مقصوده للسامع و هذا هو معنى البلاغة. و الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا و تعود منه للذات صفة ثم تتكرر فتكون حالا. و معنى الحال أنها صفة غير راسخه ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله و أساليبهم في مخاطباتهم و كيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة و من كل متكلم و استعماله يتكرر إلى أن يضير ذلك ملكة و صفة راسخة و يكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن و اللغات من جيل إلى جيل و تعلمها العجم و الأطفال. و هذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم و لم يأخذوها عن غيرهم. ثم إنه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم و سبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيميز بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم و يسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر و أخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة و كانت ناقصة عن الأولى. و هذا معنى فساد اللسان العربي، و لهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية و أصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثم من اكتنفهم من ثقيف و هذيل و خزاعة و بني كنانة وغطفان و بني أسد و بني تميم. و أما من بعد عنهم من ربيعة و لخم و جذام و غسان و إياد و قضاعة و عرب اليمن المجاورين لأمم الفرس و الروم و الحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم. و على نسبة بعدهم من قريش كان الإحتجاج بلغاتهم في الصحة و الفساد عند أهل الصناعة العربية. و الله سبحانة و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل السابع و الأربعون: في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مصر و حمير
و ذلك أنا نجدها في بيان المقاصد و الوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري و لم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم و التأخير و بقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. إلا أن البيان و البلاغة في اللسان المضري أكثر و أعرق، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. و يبقى ما تقتضيه الأحوال و يسمى بساط الحال محتاجا إلى ما يدل عليه. و كل معنى لا بد و أن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته و تلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع. و أما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال و كيفيات في تراكيب الألفاظ و تأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب. و قد يدل عليها بالحروف غير المستقلة. و لذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه فكان الكلام العربي لذلك أوجز و أقل ألفاظا و عبارة من جميع الألسن. و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم: أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا. و اعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر و قد قال له بعض النحاة: إني أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم: زيد قائم و إن زيدا قائم و إن زيدا لقائم و المعنى واحد. فقال له: إن معانيها مختلفة. فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد. و الثاني: لمن سمعه فتردد فيه، و الثالث لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال. و ما زالت هذه البلاغة و البيان ديدن العرب و مذهبهم لهذا العهد. و لا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت و أن اللسان العربي فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. و هي مقالة دسها التشيع في طباعهم و ألقاها القصور في أفئدتهم و إلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى و التعبير عن المقاصد و التعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد و أساليب اللسان و فنونه من النظم و النثر موجودة في مخاطباتهم و فهم الخطيب المصقع في محافلهم و مجامعهم و الشاعر المفلق على أساليب لغتهم. و الذوق الصحيح و الطبع السليم شاهدان بذلك. و لم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة و مهيما معروفا و هو الإعراب. و هو بعض من أحكام اللسان. و إنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق و الشام و مصر و المغرب و صارت ملكته على غير الصورة التى كانت أولا فانقلب لغة أخرى. و كان القرآن منزلا به و الحديث النبوي منقولا بلغته و هما أصلا الدين و الملة فخشي تناسيهما و انغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي نزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه و وضع مقاييسه و استباط قوانينه. و صار علما ذا فصول و أبواب و مقدمات و مسائل سماه أهله بعلم النحو و صناعة العربية فأصبح فنا محفوظا و علما مكتوبا و سلما إلى فهم كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم وافيا. و لعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد و استقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موخودة فيه تكون بها قوانين تخصها. و لعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر فليست اللغات و ملكاتها مجانا. و لقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة و تغير عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري و تصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنها لغة واحدة و يلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية و قوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول و كثير من أشباه هذا و ليس ذلك بصحيح. و لغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها و تصاريفها و حركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهفدنا مع لغة مضر إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط و الاستقراء و ليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك و يدعونا إليه. و مما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان و ما فوقه من الحنك الأعلى. و ما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف و إن كان أسفل من موضع القاف و ما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف و القاف و هو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم و الأجيال مختصا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم. حتى إن من يريد التقرب و الانتساب إلى الجيل و الدخول فيه يحاكيهم في النطق بها. و عندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف. و يظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها فإن هذا الجيل الباقين معظمهم و رؤساؤهم شرقا و غربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور و من بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. و هم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور و أغلبهم و هم من أعقاب مضر و سائر الجيل معهم من بني كهلان في النطق بهذه القاف أسوة. و هذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة و يظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين و لعلها لغة النبي صلى الله عليه و سلم بعينها قد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت و زعموا أن من قرأ في أم القرآن اهدنا الصراط المستقيم بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن و أفسد صلاته و لم أدر من أين جاء هذا ؟ فإن لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها و إنما تناقلوها من لدن سلفهم و كان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح. و أهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجح فيما يوجد من اللغة لديهم أنه من لغة سلفهم. هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقا و غربا في النطق بها و أنها الخاصية التي يتميز بها العربى من الهجين و الحضري. و الظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة، و أن مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك و آخره مما يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك في لغة الأمصار، و النطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي. و بهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن، فإن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك. و بعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إن الأرجح و الأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم، و أنها لغة النبي صلى الله عليه و سلم. و يرجح ذلك أيضا ادغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. و لو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، و لم تدغم. ثم إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، و هي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد، و جعلوها متوسطة بين مخرجي القاف و الكاف. على أنها حرف مستقل، و هو بعيد. و الظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه. ثم إنهم يصرحون باستهجانه و استقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول. و فيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلا بعد جيل، و أنها شعارهم الخاص بهم، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول، و لغة النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم ذلك كله. و قد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، و أنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم، و إنهم ينطقون بها كذلك، فليست من لغة العرب. و لكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج. فتفهم ذلك. و الله الهادي المبين.

الفصل الثامن و الأربعون: في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها للغة مضر
اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار و بين الحضر ليس بلغة مضر القديمة و لا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر و عن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا و هي عن لغة مضر أبعد. فأنا إنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا. و هي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب و كذا أهل الأندلس عنهما و كل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده و الإبانة عما في نفسه. و هذا معنى اللسان و اللغة. و فقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا المهد. و أما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. و هذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب و من الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجم و يربون عليه يبعون عن الملكة الأولى. و اعتبر ذلك في أمصار أفريقية و المغرب والأندلس و المشرق. أما أفريقية و المغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم و لم يكد يخلو عنهم مضر و لا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم و صارت لغة أخرى ممتزجة. و العجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللسان الأول أبعد. و كذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس و الترك فخالطوهم و تداولت بينهم لغاتهم في الأكرة و الفلاحين و السبي الذين اتخذوا خولاً و دايات و أظآرا و مراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. و كذا أهل الأندلس مع عجم الحلالقة و الإفرنجة. و صار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر و يخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره و كأنه لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. و الله يخلق ما يشاء و يقدر.

الفصل التاسع و الأربعون في تعليم اللسان المضري
اعلم أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت و فسدت و لغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن و إنما هي لغة أخرى من امتزاح العجمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات. و وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة و يروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن و الحديث و كلام السلف و مخاطبات فحول العرب في أسجاعهم و أشعارهم و كلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم و المنثور منزلة من نشأ بينهم و لقن العبارة عن المقاصد منهم. ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حساب عباراتهم و تأليف كلماتهم و ما وعاه و حفظه من أساليبهم و ترتيب ألفاظهم فتحثل له هذه الملكة بهذا الحفظ و الاستعمال و يزداد بكثرتهما رسوخا و قوة و يحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع و التفهم الحسن لمنازع العرب و أسليبهم في التراكيب و مراعاة التطبيق بينهما و بين مقتضيات الأحوال. و الذوق يشهد بذلك و هو ينشأ ما بين هذه الملكة و الطبع السليم فيهما كما نذكر. و على قدر المحفوظ و كثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما و نثرا، و من حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر و هو الناقد البصير بالبلاغة فيها و هكذا ينبغي أن يكون تعلمها. و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه.

الفصل الخمسون: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية و مستغنية عنها في التعليم
و السبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة و مقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة و إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين و يخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل و يعطي صورة الحبك و التثبيت و التفتيح و سائر أنواع الخياطة و أعمالها. و هو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً. و كذا لو سئل عامل بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه و آخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر و تتعاقبانه بينكما و أطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة و جائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. و هو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه. و هكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل و ليس هو نفس العمل. و لذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة و المهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذوي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب و أكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك و العبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي , و كذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد التفنن في المنظوم و المنثور و هو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول و لا المرفوع من المجرور و لا شيئاً من قوانين صناعة العربية.
فمن هذا تعلم أن الملكة هي غير صناعة العربية و إنها مستغنية عنها بالجملة و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة و هو قليل و اتفاقي و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبوبه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه و المحصل له قد حصل على خط من كلام العرب و اندرج في محفوظه في أماكنه و مفاصل حاجاته. و تنبه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة. و من هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة و لا يحصل عليه ملكة. و أما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب و كلامهم، فقل ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب و هم أبعد الناس عنه. و أهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة و تعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب و أمثالهم و التفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها و تستعد إلى تحصيلها و قبولها. و أما من سواهم من أهل المغرب و أفريقية و غيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً و قطعوا النظر في التفقه في كلام العرب إلا أن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً من جهة الإقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان و تراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل و بعدت عن مناحي اللسان و ملكته و أفاد ذلك حملتها في الأمصار و آفاقها البعد عن الملكة في الكلية، و كأنهم لا ينظرون في كلام العرب. و ما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان و تراكيبه و تمييز أساليبه و غفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيد الملكة في اللسان. و تلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها و أصاروها علماً بحتاً و بعدوا عن ثمرتها. و تعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسن العربي إنما هو بكثرة المحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه و يتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم و خالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة ف يالعبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. و الله مقد الأمور كلها و الله أعلم بالغيب.

الفصل الواحد و الخمسون: في تفسر الذوق في مصطلح أهل البيان و تحقيق معناه و بيان أنه لا يحصل للمستعربين من العجم
اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان و معناها حصول ملكة البلاغة للسان. و قد مر تفسير البلاغة و أنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلم بلسان العرب و البليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب و أنحاء مخاطباتهم و ينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه و سهل عليه أمر التركيب حيث لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب و إن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجه و نبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل و بغير فكر، إلا بما استفاد من حصول هذه الملكة. فإن الملكات إذا استقرت و رسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة و جبلة لذلك المحل. و لذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا و بلاغة أمر طبيعي. و يقول كانت العرب تنطق بالطبع و ليس كذلك و إنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت و رسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة و طبع. و هذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب و تكرره على السمع و التفطن لخواص تراكيبه و ليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان و لا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها و قد مر ذلك. و إذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم و حسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم و نظم كلامهم. و لو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبل المعينة و التراكيب المخصوصة لما قدر عليه و لا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده و لا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. و إذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب و بلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه و مجه و علم أنة ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. و ربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنه أهل القوانين النحوية و البيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. و هذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم. و مثاله: لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ و ربى في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم و يحكم شأن الإعراب و البلاغة فيها حتى يستولي على غايتها. و ليس من العلم القانوني في شيء و إنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه و نطقه. و كذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم و أشعارهم و خطبهم و المداومة على ذلك بحيث يحصل الملكة و يصير كواحد ممن نشأ في جيلهم و ربى بين أجيالهم. و القوانين بمعزل عن هذا و استعير لهذه الملكة عندما ترسخ و تستقر اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان و الذوق و إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه. و أيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له ذوق. و إذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله كالفرس و الروم و الترك بالمشرق و كالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر و سبق ملكة أخرى إلى اللسان و هي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد و مركب لما يضطرون إليه من ذلك. و هذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار و بعدوا عنها كما تقدم. و إنما لهم في ذلك ملكة أخرى و ليست هي ملكة اللسان المطلوبة. و من عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء. إنما حصل أحكامها كما عرفت. و إنما تحصل هذه الملكة بالممارسة و الاعتياد و التكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعة من أن سيبويه و الفارسي و الزمخشري و أمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط. و أما المربى و النشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب و من تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شيء وراءها و كأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشأوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة و صاروا من أهلها فهم و إن كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة و الكلام لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها و اللغة في شبابها و لم تذهب أثار الملكة و لا من أهل الأمصار ثم عكفوا على الممارسة و المدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته. و اليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. و يجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنة أقبل على الممارسة لكلام العرب و أشعارهم بالمدارسة و الحفظ يستفيد تحصيلها فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. و إن فرضنا أعجميا في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية و ذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ و المدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. و ربما يدعى كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها و هو غلط أو مغالطة و إنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية و ليست من ملكة العبارة في شيء. و الله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم.

الفصل الثاني و الخمسون: في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم و من كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب و أعسر
و السبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد. و لهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان. و تعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم و ليس كذلك و إنما هي بتهليم هذه الملكة بمخالطة اللسان و كلام العرب. نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك و ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة و أنعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية و حصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ. و اعتبر ذلك في أهل الأمصار. فأهل أفريقية و المغرب لما كانوا أعرق في العجمة و أبعد عن اللسان الأول كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم. و لقد نقل ابن الرفيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي و من لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي و عاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج. و أما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا. و كتابي إليك و أنا مشتاق إليك إن شاء الله. و هكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبية بما ذكرنا. و كذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة و لم تزل كذلك لهذا العهد و لهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق و ابن شرف. و أكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها و لم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور. و أهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم و امتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما و نثرا. و كان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة و رافع الراية لهم فيها و ابن عبد ربه و السقطلي و أمثالهم من شعراء ملوك الطوائف لما زخرت فيها بحار اللسان و الأدب و تداول ذلك فيهم مئين من السنين حتى كان الانفضاض و الجلاء أيام تغلب النصرانية. و شغلوا عن تعلم ذلك و تناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض. و كان من آخرهم صالح بن شريف و مالك بن مرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة و كتاب دولة بني الأحمر في أولها. و ألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة لعدوة الإشبيلية إلى سبته و من شرقي الأندلس إلى أفريقية. و لم يلبثوا إلى أن انقرضوا و انقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر قبول العدوة لها و صعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم و رسوخهم في العجمة البربرية و هي منافية لما قلناه. ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلسس كما كانت و نجم بها ابن بشرين و ابن جابر و ابن الجياب و طبقتهم. ثم إبراهيم الساحلي الطريحي و طبقته و قفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه. و كان له في اللسان ملكة لا تدرك و اتبع أثره تلميذه من بعده. و بالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر و تعليمها أيسر و أسهل بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناه من معاناة علوم اللسان و محافظتهم عليها و على علوم الأدب و سند تعليمها. و لأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. و ليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس و البربر في هذه العدوة و هم أهلها و لسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط. و هم منغمسون في بحر عجمتهم و رطانتهم البربرية فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الأندلس. و اعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية و العباسية فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة و إجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم و مخالطتهم إلا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم و كان فحول الشعراء و الكتاب أوفر لتوفر العرب و أبنائهم بالمشرق. و انظز ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم و نثرهم فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب و ديوانهم و فيه لغتهم و أخبارهم و أيامهم و ملتهم العربية وسيرتهم و آثار خلفائهم و ملوكهم و أشعارهم و غناوهم و سائر معانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. و بقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين و ربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد. حتى تلاشى أمر العرب و درست لغتهم و فسد كلامهم و انقضى أثرهم و دولتهم و صار الأمر للأعاجم و الملك في أيديهم و التغلب لهم. و ذلك في دولة الديلم و السلجوقية. و خالطوا أهل الأمصار و كثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم. واستولت العجمة على أهل الأمصار و الحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي و ملكته و صار متعلمها منهم مقصرا عن تحصيلها. و على ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم و المنثور و إن كانوا مكثرين منه. و الله يخلق ما يشاء و يختار و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.

الفصل الثالث و الخمسون: في انقسام الكلام إلى فني النظم و النثر
اعلم أن لسان العرب و كلامهم على فنين في الشعر المنظوم و هو الكلام الموزون المقفى و معناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد و هو القافية. و في النثر و هو الكلام غير الموزون و كل واحد من الفنين يشتمل على فنون و مذاهب في الكلام. فأما الشعر فمنه المدح و الهجاء و الرثاء و أما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعا و يلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة تسمى سجعا و منه المرسل و هو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا و لا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية و لا غيرها. و يستعمل قي الخطب و الدعاء و ترغيب الجمهور و ترهيبهم. و أما القرآن و إن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين و ليس يسمى مرسلا مطلقا و لا مسجعا. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها و يثنى من غير التزام حرف يكون سجعا و لا قافية و هو معنى قوله تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم. و قال: قد فصلنا الآيات. و يسمى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعا و لا التزم فيها ما يلتزم في السجع و لا هي أيضا قواف. و أطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه و اختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا و لهذا سميت السبع المثاني. و انظر هذا مع ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برجحان ما قلناه. و اعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله و لا تصلح للفن الآخر و لا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر و الحمد و الدعاء المختص بالخطب و الدعاء المختص بالمخاطبات و أمثال ذلك. و قد استعمل المتأخرون أساليب الشعر و موازينه في المنثور من كثرة الأشجاع و التزام التقفية و تقديم النسيب بين يدي الأغراض. و صار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر و فنه و لم يفترقا إلا في الوزن. و استمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة و استعملوها في المخاطبات السلطانية و قصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه و خلطوا الأساليب فيه و هجروا المرسل و تناسوه و خصوصا أهل المشرق. و صارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه و هو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب و المخاطب. و هذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه إذ أساليب الشعر تنافيها اللوذعية و خلط الجد بالهزل و الإطناب في الأوصاف و ضرب الأمثال و كثرة التشبيهات و الاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب. و التزام التقفية أيضا من اللوذعة و التزيين و جلال الملك و السلطان و خطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب و الترهيب تنافي ذلك و يباينة. و المحمود في المخاطبات السلطانية الترسل و هو إطلاق الكلام و إرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر. و حيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فإن المقامات مختلفة و لكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية و استعارة. و أما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم و ما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم و قصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة و انفساح خطوبه. و ولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود و مقتضى الحال فيه. و يجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع و الألقاب البديعة و يغفلون عما سوى ذلك. و أكثر من أخذ بهذا الفن و بالغ فيه في سائر أنحاه كلامهم كتاب المشرق و شعراؤه لهذا العهد حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات و التصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. و يدعون الإعراب و يفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأفل ذلك بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه. و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه و الله تعالى أعلم.

الفصل الرابع و الخمسون: في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم و المنثور معاً إلا للأقل
و السبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة. لأن تمام الملكات و حصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل و أيسر. و إذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادة القابلة و عالقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة و تعذر التمام في الملكة و هذا موجود به في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق. و قد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان. فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان و هي بمنزلة الصناعة. و انظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا. فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي و لا يزال قاصرا فيه و لو تعلمه و علمه. و كذا البربري و الرومي. و الإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي. و ما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية و التحصيل و ما أوتي إلا من قبل اللسان. و قد تقدم لك من قبل أن الألسن و اللغات شبيهة بالصنائع. و قد تقدم لك أن الصنائع و ملكاتها لا تزدحم. و أن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد في أخرى أو يستولي فيها على الغاية. و الله خلقكم و ما تعملون.

الفصل الخامس و الخمسون: في صناعة الشعر و وجه تعلمه هذا الفن من فنون كلام العرب و هو المسمى بالشعر عندهم و يوجد في سائر اللغات إلا أننا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب. فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم و إلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه. و هو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة و تسمى كل قطعين من هذه القطعات عندهم بيتا و يسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رويا و قافية و يسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة و كلمة. و ينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله و ما بعده. و إذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أؤ تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته. ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك و يستطرد للخروج من فن إلى فن و من مقصود إلى مقصود بأن يوطئ المقصود الأول و معانيه إلى أن يناسب المقصود الثاني و يبعد الكلام عن التنافر. كما يستطرد من التشبيب إلى المدح و من وصف البيداء و الطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف و من وصف الممدوح إلى وصف قومه و عساكره و من التفجع و العزاء في الرثاء إلى التأثر و أمثال ذلك. و يراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. و لهذه الموازين شروط و أحكام تضمنها علم العروض. و ليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن و إنما هي أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة البحور. و قد حصروها في خمسة عشر بحرا بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظما. و اعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب. و لذلك جعلوه ديوان علومهم و أخبارهم و شاهد صوابهم و خطئهم و أصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم و حكمهم. و كانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها. و الملكات اللسانية كلما إنما تكسب بالصناعة و الارتياض في كلامهم حتى يحصل شبة في تلك الملكة. و الشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده و يصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب و يبرز مستقلا بنفسه. ثم يأتى ببيت آخر كذلك ثم ببيت آخر و يستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التى في القصيدة. و لصعوبة منحاه و غرابة فنه كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه و شحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. و لا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف و محاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها و استعمالها فيه. لنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة و ما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ به. و لا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب و لا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب الذي هو و ظيفة البلاغة و البيان و لا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية و إنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. و تلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب و أشخاصها و يصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب و البيان فيرصها فيه رصا كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام و يقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به و توجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله: يا دار مية بالعلياء فالسند و يكون باستدعاء الصحب للوقوف و السؤال كقوله: قفا نسأل الدار التي خف أهلها. أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله: قفا نبك من في ذكرى حبيب و منزل. أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله: ألم تسأل فتخبرك الرسوم. و مثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله: حي الديار بجانب الغزل. أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
أسقى طلولهم أجش هزيم و غدت عليهم نضرة و نعيم
أو سؤاله السقيا لها من البرق كقوله:
يا برق طالع منزلا بالأبرق واحد السحاب لها حداء الأينق
أو مثل التفجع في الجزع باستدعاء البكاء كقوله:
كذا فليجل الخطب و ليفدح الأمر و ليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله: أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي. أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
منابت العشب لا حام و لا راع مضى الردى بطويل الرمح و الباع
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهيئة فريقه بالراحة من ثقل وطأته كقوله:
ألقى الرماح ربيعة بن نزار أودى الردى بفريقك المغوار
و أمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام و مذاهبه. و تنتظم التراكيب فيه بالجمل و غير الجمل إنشائية و خبرية، إسمية و فعلية، متفقة، مفصولة و موصولة، على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى. يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج و الصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنى فيه أو المنوال الذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن المنوال في نسجه كان فاسدا. و لا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية لذلك لأنا نقول قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئتها الخاصة بالقياس. و هو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية. و هذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها و الاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق. و إن القوانين العلمية من العربية و البيان لا يفيد تعليمه بوجه. و ليس كل ما يصح في قياس كلام العرب و قوانينه العلمية استعملوه. و إنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو و بهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس. و لهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب و كلامهم. و هذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة و القوافي المقيدة و استقلال الكلام في كل قطعين و في المنثور يعتبرون الموازنة و التشابه بين القطع غالبا و قد يقيدونه بالأسجاع. و قد يرسلونه و كل واحد في من هذه معروفة في لسان العرب. و المستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه و لا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب و النساج على المنوال. فلهذا كان من تآليف الكلام منفردا عن نظر النحوي و البياني و العروضي. نعم إنه مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب. و لا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما و نثرا. و إذا تقرر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا العرض. فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه. و قول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده و لا رسم له. و صناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات و السواكن على التوالي، و مماثلة عروض أبيات الشعر لضربها. و ذلك نظر في وزن مجدد عن الألفاظ و دلالتها. فناسب أن يكون حدا عندهم، و نحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب و البلاغة. و الوزن و القوالب الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الإستعاره و الأوصاف، المفضل بأجزاء متفقة في الوزن و الروي مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس و قولنا المبني على الاستعارة و الأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر و قولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن و الروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل و قولنا مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك و لم يفصل به شيء. و قولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور. و كذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما و ليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا. و بهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي و المعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، و قولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عندما يرى أن الشعر يوجد للعرب و غيرهم. و من يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك و يقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. و إذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: اعلم أن لعمل الشعر و إحكام صناعته شروطا أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها و يتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. و هذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل ابن ربيعة و كثير و ذي الرمة و جرير و أبى نواس و حبيب و البحتري و الرضي و أبى فراس. و أكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله و المختار من شعر الجاهلية. و من كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء و لا يعطيه الرونق و الحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر و إنما هو نظم ساقط. و اجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثم بعد الامتلاء من الحفظ و شحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم و بالإكثار منه تستحكم ملكته و ترسخ. و ربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها و قد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخري ضرورة. ثم لا بد له من الخلوة و استجادة المكان المنظور فيه من المياه و الأزهار و كذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها و تنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام و نشاط فذلك أجمع له و أنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه. قالوا: و خير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم و فراغ المعدة و نشاط الفكر و في هؤلاء الجمام. و ربما قالوا إن من بواعثه العشق و الانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة و هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة و إعطاء حقها و لم يكتب فيها أحد قبله و لا بعده مثله. قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت أخر و لا يكره نفسه عليه. و ليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه و نسجه بعضها و يبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرة قلقة و إذا سمح الخاطر بالبيت و لم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه و لم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء و ليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح و النقد و لا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره و اختراع قريحته و لا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب. و الخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة. و قد حظر أئمة اللسان المولد من ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. و يجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده. و إنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم. و كذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. و إنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا و استعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. و لا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. و لهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبى بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه و ازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبئ و المعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر و الحاكم بذلك هو الذوق. و ليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ و المقصر و كذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة و كذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضا فيصير مبتذلا و يقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة و السماء فوقنا. و بمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان. و لهذا كان الشعر في الربانيات و النبويات قليل الإجادة في الغالب و لا يحذق فيه إلا الفحول و في القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك. و إذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه و يعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء و يجف بالترك و الإهمال. و بالجملة فهذه الصناعة و تعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق و قد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. و من أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك. و هذه نبذة كافية و الله المعين. و قد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. و من أحسن ما قيل في ذلك و أظنه لابن رشيق:
لعن الله صنعة الشعر ماذا من ضنوف الجهال منه لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما كان سهلا للسامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحا و خسيس الكلام شيئا ثمينا
يجهلون الصواب منه و لا يد رون للجهل أنهم يجهلونا ‌
فهم عند من سوانا يلامو ن و في الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما يناسب في النظم و إن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضا وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما تتمنى و لم يكن أن يكونا
فتناهى من البيان إلى أن كاد حسنا يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه و المعاني ركبن فيها عيونا
إنما في المرام حسب الأماني يتحلى بحسنه المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشعر حرا رمت فيه مذاهب المشتهينا
فجعلت النسيب سهلا قريبا و جعلت المديح صدقا مبينا
و تنكبت ما يهجن في السمع و إن كان لفظه موزونا
و إذا ما عرضته بهجاء عبت فيه مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منه دواء و جعلت التعريض داء دفينا
و إذا ما بكيت فيه على الغا دين يوما للبين و الظاعنينا
خلت دون الأسى و ذللت ما كا ن من الدعع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتبا جئت بالو عد وعيدا و بالصعوبة بينا
فتركت الذي عتبت عليه حذرا آمنا عزيزا مهينا
و أصح القريض ما قارب النظم و إن كان واضحا مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طرا و إذا ريم أعجز المعجزينا
ومن ذلك أيضا قول بعضهم و هو الناشي:
الشعر ما قومت ربع صدوره و شددت بالتهذيب أس متونه
و رأيت بالأطناب شعب صدوعه و فتحت بالايجاز عور عيونه
و جمعت بين قريبه و بعيده و جمعت بين مجمه و معينه
و إذا مدحت به جوادا ماجدا و قضيته بالشكر حق ديونه
أصفيته بتفتش و رضيته و خصصته بخطيره و ثمينه
فيكون جزلا في مساق صنوفه و يكون سهلا في اتفاق فنونه
و إذا بكيت به الديار و أهلها أجريت للمخزون ماء شؤونه
و إذا أردت كناية عن ريبة باينت بين ظهوره و بطونه
فجعلت سامعه يشوب شكوكه بثبوته و ظنونه بيقينه
و إذا عتبت على أخ في زلة أدمجت شدته له في لينه
فتركته مستانسأ بدماثة مستأمنا لوعوته و حزونه
و إذا نبذت إلى الذي علقتها إذ صارمتك بفاتنات شؤونه
تيمتها بلطيفه و رفيقه و شغفتها بخبيه و كمنه
و إذا اعتذرت لسقطة أسقطتها و أشكت بين مخيله و مبينه
فيحول ذنبك عند من يعتده عتبا عليه مطالبا بيمينه
رد مع اقتباس
  #31  
قديم 01-09-2012, 11:23 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الفصل السادس و الخمسون: في أن صناعة النظم و النثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني
إعلم أن صناعة الكلام نظما و نثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني إنما المعاني تبع لها و هي أصل. فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم و النثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله و جريه على لسانه حتى تستقر له الملكة في لسان مضر و يتخلص من العجمة التي ربي عليها في جبله و يفرض نفسه مثل وليد نشأ في جبل العرب و يلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم. و ذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل شأن الملكات و الذي في اللسان و النطق إنما هو الألفاظ و أما المعاني فهي في الضمائر. وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد و في طوع كل فكر منها ما يشاء و يرضى فلا يحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها و تأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه و هو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التى يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب و الفضة و الصدف و الزجاج و الخزف و الماء واحد في نفسه. و تختلف الجودة في الأواني المملؤة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللغة و بلاغتها في الاستعمال تختلف بإختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد. و المعاني واحدة في نفسها و إنما الجاهل بتأليف الكلام و أساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده و لم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض و لا يستطيعه لفقدان القدرة عليه. و الله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.

الفصل السابع و الخمسون: في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ و جودتها بجودة المحفوظ
قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي و على قدر جودة المحفوظ و طبقته في جنسه و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابئ تكون ملكته أجود و أعلى مقاما و رتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخرين أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصبهاني لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير الناقد صاجب الذوق. و على مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها و تنمو قوى الملكة بتغذيتها. و ذلك أن النفس و إن كانت في جبلتها واحدة بالنوع فهي تختلف في البشر بالقوة و الضعف في الإدراكات. و اختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات و الملكات و الألوان التي تكيفها من خارج. فبهذه يتم وجودها و تخرج من القوة إلى الفعل صورتها و الملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر و ملكة الكتابة بحفظ الأسجاع و الترسيل، و العلمية بمخالطة العلوم و الإدراكات و الأبحاث و الأنظار، و الفقهية بمخالطة الفقه و تنظير المسائل و تفريعها و تخريج الفروع على الأصول والتصوفية الربانية بالعبادات و الأذكار و تعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة و الانفراد عن الخلق ما استطاع حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن و روحه و ينقلب ربانيا و كذا سائرها. و للنفس في كل واحد منها لون تتكيف به و على حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام و بهذا كان الفقهاء و أهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة و ما ذلك إلا لما سبق إلى محفوظهم و يمتلئ به من القوانين العلمية و العبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة و النازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين و العلوم لا حظ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المخفوظ إلى الفكر و كثر و تلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور و انحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. و هكذا نجد شعر الفقهاء و النحاة و المتكلمين و النظار و غيرهم ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب. أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذكرت يوما صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن و كان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي و لم أنسبها له و هو هذا:
لم أذر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها و البالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له: و من أين لك ذلك، فقال: من قوله ما الفرق ؟ إذ هي من عبارات الفقهاء و ليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك إنه ابن النحوي. و أما الكتاب و الشعراء فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم و مخالطتهم كلام العرب و أساليبهم في الترسل و انتقائهم لهم الجيد من الكلام. ذاكرت يوما صاحبنا أبا عند الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر و كان الصدر المقدم في الشعر و الكتابة فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به و حفظي للجيد من الكلام من القرآن و الحديث و فنون من كلام العرب و إن كان محفوظي قليلا. و إنما أتيت و الله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية و القوانين التألفية. فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى و الصغرى في القراءات في الرسم و استظهرتهما و تدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه و الأصول و جمل الخونجى في المنطق و بعض كتاب التسهيل و كثيرا من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك و خدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن و الحديث و كلام العرب تعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال: لله أنت و هل يقول هذا إلا مثلك ؟ و يظهر لك من هذا الفصل و ما تقرر فيه سر آخر و هو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة و أذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم و منظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت و عمر بن أ بي ربيعة و الحطيئة و جرير و الفرزدق و نصيب و غيلان ذي الرمة و الأحوص و بشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية و صدرا من الدولة العباسية في خطبهم و ترسيلهم و محاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة و عنترة و ابن كلثوم و زهير و علقمة بن عبدة و طرفة بن العبد و من كلام الجاهلية في منثورهم و محاوراتهم و الطبع السليم و الذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة. و السبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن و الحديث اللذين عجز البشر في الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم و نشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم و ارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة و لا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم و نثرهم أحسن ديباجة و أصفى رونقا من أولئك و أرصف مبنى و أعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. و تأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق و البصر بالبلاغة. و لقد سألت يوما شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا و كان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين و استبحر في علم اللسان و جاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ؟ و لم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثم قال لي: و الله ما أدري، فقلت: أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك و لعله السبب فيه. و ذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجبا ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. و كان من بعدها يؤثر محلي و يصيخ في مجالس التعليم إلى قولي و يشهد لي بالنباهة في العلوم، و الله خلق الإنسان و علمه البيان.

الفصل الثامن و الخمسون: في بيان المطبوع من الكلام و المصنوع و كيف جودة المصنوع أو قصوره
إعلم أن الكلام الذي هو العبارة و الخطاب، إنما سره و روحه في إفادة المعنى. و أما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به. و كمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، و معرفة الشروط و الأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. و تلك الشروط و الأحكام للتراكيب في المطابقة اسقريت من لغة العرب و صارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الاسناد بين المسندين، بشروط و أحكام هي جل قوانين العربية. و أحوال هذه التراكيب من تقديم و تأخير، و تعريف و تنكير، و إضمار و إظهار. و تقييد و إطلاق و غيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد و بالمتخاطبين حال التخاطب بشروط و أحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة. فتندج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. و ما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال، و لحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات.
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات لأن التركيب يدل بالوضع على معنى ثم ينقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازا: إما باستعارة أو كناية كما هو مقرر في موضعه، و يحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة و أشد. لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. و الظفر من أسباب اللذة كما علمت. ثم لهذه الانتقالات أيضا شروط و أحكام كالقوانين صيروها صناعة، و سموها بالبيان. و هي شقيقة علم المعانى المفيد لمقتضى الحال لأنها راجعة إلى معاني التراكيب و مدلولاتها. و قوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. و اللفظ و المعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني و علم البيان هما جزء البلاغة، و بهما كمال الإفادة، فهو مقصر عن البلاغة و يلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم و أجدر به أن لا يكون عربيا، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي و سجيته و روحه و طبيعته.
ثم اعلم أنهم إذا قالوا: الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طييعته و سجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة و خطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، و يدل به عليه دلالة وثيقة. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين و التزيين، بعد كمال الإفادة و كأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، و الموازنة بين حمل الكلام و تقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام و التورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، و المطابقة بين المتضادات، ليقع التجانس بين الألفاظ و المعاني. فيحصل للكلام رونق و لذة في الأسماع و حلاوة و جمال كلها زائدة على الإفادة.
و هذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضيع متعددة مثل: والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى، و مثل: فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى، إلى آخر التقسيم في الآية. و كذا: فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا إلى آخر الآية. و كذا: هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. و أمثاله كثير. و ذلك بعد كمال الإفادة في أصبل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. و كذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمد. و يقال إنه وقع في شعر زهير.
و أما الإسلاميون فوقع لهم عفوا و قصدا، و أتوا منه بالعجائب. و أول من أحكم طريقته حبيب بن أوس و البحتري و مسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعه. و يأتون منها بالعجب. و قيل أن أول من ذهب إلى معاناتها بشاز بن برد و ابن هرمة، و كانا آخر من يستشهد بشعره في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم و العتابي و منصور النميري و مسلم بن الوليد و أبو نواس. و جاء على آثارهم حبيب و البحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البدء و الصناعة أجمع. و لنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصناعة. مثل قول قيس بن ذريح:
و أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا
و قول كثير:
و إني و تهيامي بعزة بعدما تخليت عما بيننا و تخليت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلها تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، ي أحكام تأليفه و ثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا.
و أما المصنوع فكثير من لدن بشار، ثم حبيب و طبقتهما، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم، و نسجوا على منوالهم. و قد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، و اختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها. و كثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة، و أنها هي تعطى التحسين و الرونق. و أما المتقدمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. و لذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها. و هو رأي ابن رشيق قي كتاب العمدة له، و أدباء الأندلس. و ذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا منها أن تقع من غير تكلف و لا اكتراث في ما يقصد منها. و أما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلام من عيب الاستهجان، لأن تكلفها و معاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام، فتخل بالإفادة من أصلها، و تذهب بالبلاغة رأسا. و لا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات، و هذا هو الغالب اليوم على أهل العصر. و أصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، و يعدون ذلك من القصور عن سواه. و سمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي، و كان من أهل البصر في اللسان و القريحة. في ذوقه يقول، إن من أشهى ما تقترحه على نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، و قد عوقب بأشد العقوبة، و نودي عليه، يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلفون بها، و يتناسون البلاغة. ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها و أن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر و رونقه. و الإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق و غيره. و كان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي منفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنها من محسنات الكلام و مزيناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد و الإثنين منها، و يقبح بتعدادها. و على نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية و الإسلام. كان أولا مرسلا معتبر الموازنة بين جمله و تراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله من غير التزام سجع و لا اكتراث بصنعة. حتى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة و التقفيه و أتى بذلك بالعجب. و عاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية. و إنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة و البعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين و نسي عهد الترسيل و تشابهت السلطانيات و الإخوانيات و العربيات بالسوقيات. و اختلط المرعى بالهمل. و هذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة و التكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلة الإكتراث فيه بأصل البلاغة، و الحاكم في ذلك الذوق. و الله خلقكم و علمكم ما لم تكونوا تعلمون.

الفصل التاسع و الخمسون: في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر
اعلم أن الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم و أخبارهم و حكمهم. و كان رؤساء العرب منافسين فيه و كانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده و عرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن و أهل البصر لتمييز حوله. حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم و بيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس ابن حجر و النابغة الذبياني و زهير بن أبى سلمى و عنترة بن شداد و طرفة بن العبد و علقمة بن عبدة و الأعشى و غيرهم من أصحاب المعلقات السبع. فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من كان له قدرة على ذلك بقومه و عصبته و مكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات. ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبؤة و الوحي و ما أدهشهم من أسلوب القرآن و نظمه فأخرسوا عن ذلك و سكتوا عن الخوض في النظم و النثر زمانا. ثم استقر ذلك و أونس الرشد من الملة. و لم ينزل الوحي في تحريم الشعر و حظره و سمعه النبي صلى الله عليه و سلم و أثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه. و كان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية و طبقة مرتفعة و كان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجبا به. ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل و الدولة العزيزة و تقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. و يجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم و مكانهم من قومهم و يحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على الآثار و الأخبار و اللغة و شرف اللسان. و العرب يطالبون ولدهم بحفظها. و لم يزل هذا الشأن أيام بني أمية و صدرا من دولة بني العباس. و انظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي في باب الشعر و الشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك و الرسوخ فيه و العناية بانتحاله و التبصر بجيد الكلام و رديئه و كثرة مخفوظه منه. ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم من أجل العجمة و تقصيرها باللسان و إنما تعلموه صناعة ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب و البحتري و المتنبئ و ابن هانئ و من بعدهم و هلم جرا. فصار غرض الشعر في الأغلب إنما هو الكذب و الاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين كما ذكرناه آنفا. و أنف منه لذلك أهل الهمم و المراتب من المتأخرين و تغير الحال و أصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة و مذمة لأهل المناصب الكبيرة. و الله مقلب الليل و النهار.

الفصل الستون: في أشعار العرب و أهل الأمصار لهذا العهد
اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية و قد كان في الفرس شعراء و في يونان كذلك و ذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر و أثنى عليه. و كان في حمير أيضا شعراء متقدمون. و لما فسد لسان مضر و لغتهم التي ذونت مقاييسها و قوانين إعرابها و فسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها و مازجها من العجمة فكانت تحيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة و في كثير من الموضوعات اللغوية و بناء الكلمات. و كذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب و أكثر الأوضاع و التصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد. و اختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشرق و أمصاره لغة غير لغة أهل المغرب و أمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس و أمصاره. ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات و السواكن و تقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة و هي لغة مضر الذين كانوا فحولة و فرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين و الحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله و رصف بنائه على مهيع كلامهم. فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيعرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون و يأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر و أغراضه من النسيب و المدح و الرثاء و الهجاء و يستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام. و ربما هجموا على المقصود لأول كلامهم و أكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم و أهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحورانى و القيسي. و ربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية. ثم يغنون به و يسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق و الشام و هي من منازل العرب البادية و مساكنهم إلى هذا العهد. و لهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه و يلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع و المخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين. و لهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة و فيهم الفحول و المتأخرون و الكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد و خصوصا علم اللسان يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها و يمج نظمهم إذا أنشد و يعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها و فقدان الإعراب منها. و هذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعة و ذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته و نظره و إلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود و لمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالا على الفاعل و النصب دالا على المفعول أو بالعكس و إنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه. فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة و اشتهر صحة الدلالة و إذا طابقت تلك الدلالة المقصود و مقتضى الحال صحت البلاغة و لا عبرة بقوانين النحاة في ذلك. و أساليب الشعر و فنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر. و يتميز عندهم الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب.
فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجارية بنت سرحان، و يذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب:
قال الشريف ابن هاشم علي ترى كبدي حرى شكت من زفيرها
يغز للإعلام أين ما رأت خاطري يرد غلام البدو يلوي عصيرا
و ماذا شكاة الروح مما طرا لها عداة وزائع تلف الله خبيرها
يحس إن قطاع عامر ضميرها طوى و هند جافي ذكيرها
و عادت كما خوارة في يد غاسل على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها
تجابذوها اثنين و النزع بينهم على شوك لعه و البقايا جريرها
و باتت دموع العين ذارفات لشانها شبيه دوار السواني يديرها
تدارك منها النجم حذرا و زادها مرون يجي متراكبا من صبيرها
يصب من القيعان من جانب الصفا عيون و لجاز البرق في غزيرها
هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة ناضت من بغداد حتى فقيرها
و نادى المنادي بالرحيل و شدوا و عرج عاريها على مستعيرها
و شد لها الأدهم دياب بن غانم على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها
و قال لهم حسن بن سرحان غزبوا و سوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها
و يركض و بيده شهامه بالتسامح و باليمين لا يجدوا في مغيرها
غدرني زيان السيح من عابس و ما كان يرضى زين حمير و ميرها
غدرني و هو زعما صديقي و صاحبي و أناليه ما من درقتي ما يديرها
و رجع يقول لهم بلال بن هاشم بحرالبلادالعطشى ما بخيرها
حرام علي باب بغداد و أرضها داخل و لا عائد ركيره من نعيرها
تصدف روحي عن بلاد بن هاشم على الشمس أوحول الغظامن هجيرها
و باتت نيران العذارى قوادح يلوذ و بجرجان يشدوا أسيرها
ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بأفريقية و أرض الزاب و رثاؤهم له على جهة التهكم:
تقول فتاة الحي سعدى و هاضها لها في ظعون الباكرين عويل
أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفه خذ النعت مني لا تكون هبيل
تراه يعالي وادي ران و فوقه من الربط عيساوي بناه طويل
أراه يميل النور من شارع النقا به الواد شرقا و اليراع دليل
أيا لهف كبدي على الزناتي خليفه قد كان لأعقاب الجياد سليل
قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم جراحه كافواه المزاد تسيل
أيا جائزا مات الزناتي خليفه لاترحل إلا أن يريذ رحيل
ألا واش رحلنا ثلاثين مرة و عشرا و ستا في النهار قليل
و من قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتابا وقع بينه و بين ماضي بن مقرب:
تبدى ماضي الجبار و قال لي أشكر ما نحنا عليك رضاش
أشكر أعد ما بقي ود بيننا و رانا عريب عربا لابسين نماش
نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا كما صادفت طعم الزباد طشاش
أشكر أعد إلى يزيد ملامه ليحدو و من عمر بلاده عاش
إن كان نبت الشوك يلقح بأرضكم هنا العرب ما زدنا لهن صياش
و من قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب و غلبهم زناتة عليه:
و أي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم و أي رجال ضاع قبلي جميلها
لقد كنت أنا وياه في زهو بيتنا عناني بحجة ماغباني دليلها
وعدت كأني شارب من مدامة من الخمر فهو ما قدر من يميلها
أو مثل شمطامات مظنون كبدها غريبا و هي مدوخه عن قبيلها
أتاها زمان السوء حتى تدوحت و هي بين عربا غافلا عن نزيلها
كذلك أنا مما لحاني من الوجى شاكي بكبد باديتها زعيلها
و أمرت قومي بالرحيل و بكروا و قووا و شداد الحوايا حميلها
قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا و البدو ماترفع عمود يقيلها
نظل على حداب الثنايا نوازي يظل الجرى فوق النضا و نصيلها
و من شعر يلطان بن مظفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح و أهل الرياسة فيهم، يقولها و هو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك أفريقية من الموحدين:
يقول و في بوح الدجا بعد وهنة حرام على أجفان عيني منامها
يا من لقلب حالف الوجد و الأسى و روح هيامي طال ما في سقامها
حجازية بدوية عربية عداوية و لها بعيد مرامها
مولعة بالبدو لا تألف القرى سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها
غيات و مشتاها بها كل شتوة ممحونة بيها و بيها صحيح غرامها
و مرباها عشب الأراضي من الحيا يواتي من الخورالخلايا جسامها
تشوق شوق العين مما تداركت عليها من السحب السواري عمامها
و ماذا بكت بالما و ماذا تناحطت عيون غرار المزن عذبا حمامها
كأن عروس البكر لاحت ثيابها عليها و من نور الأقاحي خزامها
فلاة و دهنا و اتساع و منة و مرعى سوى ما في مراعي نعامها
و مشروبها من مخض ألبان شولها غنيم و من لحم الجوازي طعامها
تفانت عن الأبواب و الموقف الذي يشيب الفتى مما يقاسي زحامها
سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا و بلا و يحيى ما بلي من رمامها
فكافأتها بالود مني و ليتني ظفرت بأيام مضت في ركامها
ليالي أقواس الصبا في سواعدي إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها
و فرسي عديد تحت سرجي مشاقة زمان الصبا سرجا و بيدي لجامها
و كم من رداح أسهرتني و لم أرى من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
و كم غيرها من كاعب مرجحنة مطرزة الأجفان باهي و شامها
و صفقت من وجدي عليها طريجة بكفي و لم ينسى جداها ذمامها
و نار بخطب الوجد توهج في الحشا و توهج لا يطفا من الماء ضرامها
أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى فني العمر في دار عماني ظلامها
و لكن رأيت الشمس تكسف ساعة و يغمى عليها ثم يبدا غيامها
بنود و رايات من السعد أقبلت إلينا بعون الله يهفو علامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي و رمحى على كتفي و سيري أمامها
يجرعا عتاق النوق من فوق شامس أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزل بالجعفرية للوى مقيم بها مالذ عندي مقامها
ونلقى سراة من هلال بن عامر يزيل الصدا و الغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقا و مغربا إذا قاتلوا قوما سريع انهزامها
عليهم و من هو في حماهم تحية مدى الدهر ما غنى يفينا حمامها
فدع ذا و لا تأسف على سالف مضى فذي الدنيا ما دامت لاحد دوامها
و من أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر. شيخ الكعوب. من أولاد أبي الليل. يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل و يجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلمهل. عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه:
يقول و ذا قول المصاب الذي نشا قوارع قيعان يعانى صعابها
يريح بها حادي المصاب إذا سعى فنونا من انشاد القوافي عذابها
محيرة مختارة من نشادها تحدى بها تام الوشا ملتها بها
مغربلة عن ناقد في غضونها محكمة القيعان دابي و دابها
و هيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل و هذي جوابها
اشبل جنينا من حباك طرائفا فراح يريح الموجعين الغنا بها
فخرت و لم تقصر و لا أنت عادم سوى قلت في جمهورها ما أعابها
لقولك في أم المتين بن حمزة وحامي حماها عاديا في حرابها
أما تعلم أنه قامها بعد ما لقي رصاص بني يحيى و غلاق دابها
شهابا من أهل الأمر يا شبل خارق و هل ريت من جا للوغى و اصطلى بها
سواها طفاها أضرمت بعد طفيه و أثنى طفاها جاسرا لا يهابها
و اضرمت بعد الطفيتين ألن صحت لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها
و بان لوالي الأمر في ذا انشحابها فصار و هي عن كبر الاسنة تهابها
كما كان هو يطلب على ذا تجنبت رجال بني كعب الذي يتقى بها
منها في العتاب:
وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأنني غنيت بمعلاق الثنا و اغتصابها
علي ونا ندفع بها كل مبضع بأسياف ننتاش العدا من رقابها
فإن كانت الأملاك بغت عرايس علينا بأطراف القنا اختضابها
و لا بعدها الارهاف و ذبل و زرق كالسنة الحناش انسلابها
بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه تسير السبايا و المطايا ركابها
و هي عالما بأن المنايا تنيلها بلا شك و الدنيا سريع انقلابنها
و منها في وصف الظعائن:
قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا فتوق بحوبات مخوف جنابها
ترى العين فيها قل لشبل عرائف وكل مهاة محتظيها ربابها
ترى أهلها غب الصباح أن يفلها بكل حلوب الجوف ما سد بابها
لها كل يوم في الأرامي قتائل ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها
و من قولهم في الأمثال الحكمية
و طلبك في الممنوع منك سفاهة و صدك عمن صد عنك صواب
إذا رأيت أناسا يغلقوا عنك بابهم ظهور المطايا يفتح الله باب
و من قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم:
لشيب و شبان من أولاد برجم جميع البرايا تشتكي من ضهادها
و من قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى و ذلك فيما قرب من عصرنا:
يقول بلا جهل فتى الجود خالد مقالة قوال و قال صواب
مقالة حبر ذات ذهن و لم يكن هريجا و لا فيما يقول ذهاب
تهجست معنا نابها لا لحاجة و لا هرج ينقاد منه معاب
و كنت بها كبدي و هي نعم صابة حزينة فكر و الحزين يصاب
تفوهت بادي شرحها عن مآرب جرت من رجال في القبيل قراب
بني كعب أدنى الأقربين لدمنا بني عم منهم شايب و شباب
جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم مصافاة ود و اتساع جناب
و بعضهم ملنا له عن خصيمه كما يعلموا قولي بقيه صواب
و بعضهمو مرهوب من بعض ملكنا جزاعا و في جو الضمير كتاب
و بعضهمو جانا جريحا تسمحت خواطر منها للنزيل و هاب
و بعضهمو نظار فينا بسوة نقهناه حتى ماعنا به ساب
رجع ينتهي مما سفهناقبيحه مرارا و في بعض المرار يهاب
و بعضهمو شاكي من أوغاد قادر غلق عنه في أحكام السقائف باب
فصمناه عنه و اقتضي منه مورد على كره مولى البالقي و دياب
و نحن على دافي المدى نطلب العلا لهم ما حططنا للفجور نقاب
و حزنا حمى وطن بترشيش بعدما نفقنا عليها سبقا و رقاب
و مهد من الأملاك ما كان خارجا على أحكام والي أمرها له ناب
بردع قروم من قروم قبيلنا بني كعب لاواها الغريم و طاب
جرينا بهم عن كل تاليف في العدا و قمنا لهم عن كل قيد مناب
إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ربيها و خيراته عليه نصاب
و ركبوا السبايا المثمنات من أهلها و لبسوا من أنواع الحرير ثياب
و ساقوا المطايا يالشرا لا نسوا له جماهير ما يغلو بها بجلاب
و كسبوا من أصناف السعايا ذخائر ضخام لحزات الزمان تصاب
و عادوا نظير البرمكيين قبل ذا و إلا هلالا في زمان دياب
و كانوا لنا درعا لكل مهمة إلى أن بان من نار العدو شهاب
و خلوا الدار في جنح الظلام و لا اتقوا ملامه و لا دار الكرام عتاب
كسوا الحيى ***اب البهيم لستره وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب
كذلك منهم حانس ما دار النبا ذهل حلمي إن كان عقله غاب
يظن ظنونا ليس نحن بأهلها تمنى يكن له في السماح شعاب
خطا هو و من واتاه في سو ظنه بالاثبات من ظن القبايح عاب
فوا عزوتي إن الفتى بو محمد وهوب لآلاف بغير حساب
و برحت الأوغاد منه و يحسبوا بروحه ما يحيى بروح سحاب
جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع لقوا كل ما يستاملوه سراب
و هو لو عطى ما كان للرأي عارف و لا كان في قلة عطاه صواب ‌
و إن نحن ما نستاملوا عنه راحة و إنه باسهام التلاف مصاب
و إن ما وطا ترشيش يضياق وسعها عليه و يمشي بالفزوع لزاب
و إنه منها عن قريب مفاصل خنوج عناز هوالها و قباب
و عن فاتنات الطرف بيض غوانج ربوا خلف أستار و خلف حجاب
يتيه إذا تاهوا و يصبوا إذا صبوا بحسن قوانين و صوت رباب
يضلوه عن عدم اليمين و ربما يطارح حتى ما كأنه شاب
بهم حازله زمه و طوع أوامر و لذة مأكول و طيب شراب
حرام على ابن تافركين ما مضى من الود إلا ما بدل بحراب
و إن كان له عقل رجيح و فطنة يلجج في اليم الغريق غراب
و أما البدا لا بدها من فياعل كبار إلى أن تبقى الرجال كباب
‌ و يحمي بها سوق علينا سلاعه و يحمار موصوف القنا و جعاب
و يمسي غلام طالب ريح ملكنا ندوما و لا يمسي صحيح بناب
أيا واكلين الخبز تبغوا أدامه غلطتوا أدمتوا في السموم لباب
و من شعر علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته:
محبرة كالدر في يد صانع إذا كان في سلك الحرير نظام
أباحها منها فيه أسباب ما مضى و شاء تبارك و الضعون تسام
غدا منه لام الحي حيين و انشطت عصاها و لا صبنا عليه حكام
و لكن ضميري يوم بان بهم إلينا تبرم على شوك القتاد برام
و إلا كأبراص التهامي قوادح و بين عواج الكانفات ضرام
و إلا لكان القلب في يد قابض أتاهم بمنشار القطيع غشام
لما قلت سما من شقا البين زارني إذا كان ينادي بالفراق و خام
ألا يا ربوع كان بالأمس عامر بيحيى و حله و القطين لمام
و غيد تداني للخطا في ملاعب دجى الليل فيهم ساهر و نيام
و نعم يشوف الناظرين التحامها لنا ما بدا من مهرق و كظام
و عرود باسمها ليدعو لسربها و لإطلاق من شرب المها و نعام
و اليوم ما فيها سوى البوم حولها ينوح على اطلال لها و خيام
وقفنا بها طورا طويلا نسالها بعين سخينا و الدموع سجام
‌ و لا صح لي منها سوى وحش خاطري و سقمي من أسباب إن عرفت أوهام
و من بعد ذا تدى لمنصور بو علي سلام و من بعد السلام سلام
و قولوا له يا بو الوفا كلح رأيكم دخلتم بحور غامقات دهام
زواخر ما تنقاس بالعود إنما لها سيلات على الفضا و أكام
و لا قمستمو فيها قياسا يدلكم و ليس البحور الطاميات تعام
و عانوا على هلكاتهم في ورودها من الناس عدمان العقول لئام
أيا عزوة ركبوا الضلالة و لا لهم قرار و لا دنيا لهن دوام
ألا غناهمو لو ترى كيف زايهم مثل سراب فلاه ما لهن تمام
خلو القنا يبغون في مرقب العلا مواضع ماهيا لهم بمقام
و حق النبي و البيت و أركانه العلى و من زارها في كل دهر و عام
لبر الليالي فيه إن طالت الحيا يذوقون من خمط الكساع مدام
و لا بزها تبقى البوادي عواكف بكل رديني مطرب و حسام
و كل مسافة كالسد إياه عابر عليها من أولاد الكرام غلام
و كل كميت يكتعص عض نابه يظل يصارع في العنان لجام
و تحمل بنا الأرض العقيمة مدة و تولدنا من كل ضيق كظام
بالأبطال و القود الهجان و بالقنا لها وقت و جنات البدور زحام
أتجحدني و أنا عقيد نقودها وفي سن رمحي للحروب علام
و نحن كاضراس الموافي بنجعكم حتى يقاضوا من ديون غرام
متى كان يوم القحط يا مير أبو علي يلقى سعايا صايرين قدام
كذلك بو حمو إلى اليسر ابعته و خلى الجياد العاليات تسام
و خل رجالا لا يرى الضيم جارهم و لا يجمعوا بدهى العدو زفام
ألا يقيموها و عقد بؤسهم و هم عذر عنه دائما و دوام
و كم ثار طعنها على البدو سابق ما بين صحاصيح و ما بين حسام
فتى ثار قطار الصوى يومنا على لنا أرض ترك الظاعنين زمام
و كم ذا يجيبوا أثرها من غنيمة حليف الثنا قشاع كل غيام
و إن جاء خافوه الملوك و وسعوا غدا طبعه يجدى عليه قيام
عليكم سلام الله من لسن فاهم ما غنت الورقا و ناح حمام
و من شعر عرب نمر بنواحي حوران لإمرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول:
تقول فتاة الحي أم سلامه بعين أراع الله من لا رثى لها
تبيت بطول الليل ما تألف الكرى موجعة كان الشقا في مجالها
على ما جرى في دارها و بو عيالها بلحظة عين البين غير حالها
فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم و نمتوا عن أخذ الثار ماذا مقالها
أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرني و يبرد من نيران قلبي ذبالها ‌
أيا حين تسريح الذوائب و اللحى و بيض العذارى ما حميتو جمالها

الموشحات و الأزجال للأندلس
و أما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم و تهذبت مناحيه و فنونه و بلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا و أغصانا أغصانا يكثرون من أعاريضا المختلفة. و يسمون المتعدد منها بيتا واحدا و يلتزمون عند قوافي تلك الأغصان و أوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة و أكثر ما تنتهى عندهم إلى سبعة أبيات. و يشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض و المذاهب و ينسبون فيها و يمدحون كما يفعل في القصائد. و تجاروا في ذلك إلى الغاية و استظرفة الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله و قرب طريقه. و كان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافرالفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني. و أخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد و لم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر و كسدت موشحاتهما. فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية. و قد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما أتفق له من قوله:
بدر تم. شمس ضحا غصن نقا. مسك شم
ما أتم. ما أوضحا ما أورقا. ما أنم
لا جرم. من لمحا قد عشقا. قد حرم
و زعموا أنة لم يسبقه وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف. و ذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيلية و كان كل واحد منهم اصطنع موشحة و تأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان. سافرعن در ضاق عنه الزمان. و حواه صدري
صرف ابن بقي موشحته و تبعه الباقون. و ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحا على قول إلا ابن بقي حين وقع له:
أما ترى أحمد. في مجده العالي لا يلحق أطلعه الغرب. فأرنا مثله يا مشرق
و كان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض. و كان في عصرهما أيضا الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة و من الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها:
جرر الذيل أيما جر وصل الشكر منك بالشكر
فطرب الممدوح لذلك لما ختمها بقوله:
عقد الله راية النصر لأمير العلا أبي بكر
فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح: و اطرباه: و شق ثيابه و قال: ما أحسن ما بدأت و ختمت و حلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله و مشى عليه. و ذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكر ابن زهير ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر فغص منه نعض الحاضرين فقال كيف تغص ممن يقول:
ما لذي شراب راح على رياض الأقاح لولا هضيم الوشاح إذا أسا في الصباح
أو في الأصيل أضحى يقول: ما للشمول لطمت خدي ؟
و للشمال هبت فمال غصن اعتدال ضمه بردي
مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريبا يا لحظة رد نوبا و يا لماه الشنيبا
برد غليل صب عليل لا يستحيل فيه عن عهدي
و لا يزال في كل حال يرجو الوصال و هو في الصد
و اشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبى الفضل بن شرف. قال الحسن بن دويدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح:
شمس قاربت بدرا راح و نديم
و ابن بهرودس الذي له:
يا ليلة الوصل و السعود بالله عودي
و ا بن مؤهل الذي له:
ما العيد في حلة و طاق. و شم و طيب. و إنما العيد في التلاقي. مع ******.
و أبو إسحاق الرويني قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: إنه دخل على ابن زهير و قد أسن و عليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة فلم يعرفة فجلس حيث انتهى به المجلس. و جرت المحاضرة فانشد لنفسه موشحة وقع فيها:
كحل الدجى يجري من مقلة الفجر على الصباح
و معصم النهر في حلل خضر من البطاح
فتحرك ابن زهير و قال أنت تقول هذا ؟ قال: اختبر ! قال: و من تكون فعرفة، فقال ارتفع فوالله ما عرفتك، قال ابن سعيد و سابق الحلبة الذي أدرك هؤلاء أبو بكر بن زهير و قد شرقت موشحاته و غربت، قال: و سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لو قيل لك ما أبدع و أرفع ما وقع لك في التوشيح قال كنت أقول:
ما للموله من سكره لا يفيق. يا له سكران. من غير خمر. ما للكئيب المشوق. يندب الأوطان.
هل تستعاد. أيامنا بالخليج. و ليالينا
أو نستفاد. من النسيم الأريج. مسك دارينا
أو هل يكاد. حسن المكان البهيج. أن يحيينا ؟
روض أظله. دوح عليه أنيق. مورق الأفنان. و الماء يجري. و عائم و غريق. من جنى الريحان
و اشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله:
يفوق سهمه كل حين بما شئت من يد و عين
و ينشد في القصيد:
خلقت مليح علمت رامي فليس تخل ساع من قتال
و تعمل بذي العينين متاعي ما تعمل يدي بالنبال
و اشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس، قال ابن سعيد، و لما سمع ابن زهر قوله:
لله ما كان من يوم بهيج بنهر حمص على تلك المروج
ثم انعطفنا على فم الخليج نفض في حانه مسك الختام
عن عسجد زانه صافي المدام و رداء الأصيل ضمه كف الظلام
قال ابن زهر: أين كنا نحن عن هذا الرداء و كان معه في بلده مطرف. أخبر ابن سعيد عن والده أن مطرفا هذا دخل على ابن الفرس فقام له و أكرمه، فقال: لا تفغل ! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول:
قلوب تصاب بألحاظ تصيب فقل كيف تبقى بلا وجد
و بعد هذا ابن خزمون بمرسية. ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عاريا غن التكلف، قال على مثل ماذا ؟ قال على مثل قولي:
يا هاجري هل إلى الوصال منك سبيل
أو هل ترى عن هواك سالي قلب العليل
و أبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله:
إن سيل الصباح في الشرق عاد بحرا في أجمع الأفق
فتداعت نوادب الورق
أتراها خافت من الغرق فبكت سحرة على الورق
و اشتهر بأشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل، قال ابن سعيد عن والده، سمعت سهل ابن مالك يقول: له يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك:
واحسرتا لزمان مضى عشية بأن الهوى و انقضى
و أفردت بالرغم لا بالرضى و بت على جمرات الغضى
أعانق بالفكر تلك الطلول و ألثم بالوهم تلك الرسوم
قال و سمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة، فما شنمعتة يقول له لله درك، إلا في قوله:
قسما بالهوى لذي حجر ما لليل المشوق من فجر
جمد الصبح ليس يطرد ما لليلي فيما أظن غد إصح ياليل إنك الأبد
أو قفصت قوادم النسر فنجوم السماء لا تسري
و من محاسن موشحات ابن الصابوني قوله:
ما حال صب ذي ضنى و اكتئاب أمرضة يا ويلتاه الطبيب
عامله محبوبه باجتناب ثم اقتدى فيه الكرى ب******
جفا جفوني النوم لكنني لم أبكه ألا لفقد الخيال
و ذا الوصال اليوم قد غرني منه كما شاء و شاء الوصال
فلست باللائم من صدني بصورة الحق و لا بالمحال
و اشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزائري صاحب الموشحة المشهورة:
يد الاصباح قدحت زناد الأنوار في مجامز الزهر
و ابن خرز البجائي و له من موشحة:
ثغر الزمان موافق حباك منه بابتسام
و من محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر أشبيلية و سبتة من بعدها فمنها قوله:
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى قلب صب حله عن مكنس
فهو في نار و خفق مثل ما لعبت ريح الصبا بالقبس
و قد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس و المغرب لعصره و قد مر ذكره فقال:
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس
إذ يقود الدهر أشتات المنى ينقل الخطو على ما يرسم
زمرا بين فرادى و ثنا مثل ما يدعو الوفود الموسم
و الحيا قد جلل الروض سنى فثغور الزهر فيه تبسم
و روى النعمان عن ماء السما كيف يروي مالك عن أنس
فكساه الحسن ثوبا معلما يزذهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سر الهوى بالدجى لو لا شموس الغرر
مال نجم الكأس فيها و هوى مستقيم السير سعد الأثر
وطر ما فيه من غيب سوى أنه مر كلمح البصر
حين لذ النوم منا أو كما هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بنا أو ربما أثرت فينا عيون النرجس
أي شيء لامرئ قد خلصا فيكون الروض قد مكن فيه
تنهب الأزهار فيه الفرصا أمنت من مكره ما تتقيه
فإذا الماء يناجي و الحصا و خلا كل خليل بأخيه
تبصر الورد غيورا برما يكتسي من غيظيه ما يكتسي
و ترى الآس لبيبا فهما يسرق الدمع بأذني فرس
يا أهيل الحي من وادي الغضا و بقلبي مسكن أنتم به
ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا لا أبالي شرقه من غربه
فأعيدوا عهد أنس قد مضى تنقذوا عانيكم من كربه
و اتقوا الله احيوا مغرما يتلاشى نفسا في نفس
حبس القلب عليكم كرما أفترضون خراب الحبس
و بقلبي منكم مقترب بأحاديث المنى و هو بعيد
قمر أطلع منه المغرب شقوة المغرى به و هو سعيد
قد تساوي محسن أو مذنب في هواه بين وعد و وعيد
ساحر المقلة معسول اللمى جال في النفس مجال النفس
سدد السهم فأصمى إذ رمى بفؤادي نبلة المفترس
إن يكن جار و خاب الأمل و فؤاد الصب بالشوق يذوب
فهو للنفس حبيب أول ليس في الحب لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل في ضلوع قد براها و قلوب
حكم اللحظ بها فاحتكما لم يراقب في ضعاف الأنفس
ينصف المظلوم ممن ظلما و يجازي البر منها و المسي
ما لقلبي كلما هبت صبا عادة عيد من الشوق جديد ؟
كان في اللوح له مكتتبا قوله إن عذابي لشديد
*** الهم له و الوصبا فهو للأشجان في جهد جهيد
لاعج في أضلعي قد أضرما فهي نار في هشيم اليبس
لم يدع من مهجتي إلا الدما كبقاء ألصبح بعد الغلس
سلمي يا نفس في حكم القضا و اعتبري الوقت برجعى و متاب
و اتركي ذكرى زمان قد مضى بين عتبى قد تقضت و عتاب
و اصرفي القول إلى المولى الرضى ملهم التوفيق في أم الكتاب
الكريم المنتهى و المنتمى أسد السرج و بدر المجلس
ينزل النصر عليه مثلما ينزل الوحي يروح القدس
و أما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات. و من أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقا و غربا و أولها:
حبيبي ارفع حجاب النور عن العذار
تنظر المسك على كافور في جلنار
كللي يا سحب تيجان الربى بالحلى و اجعلي
سوارها منعطف الجدول
و لما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، و أخذ به الجمهور. لسلاسته و تنميق كلامه و ترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله. و نظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً. و استحدثوا فنا سموه يالزجل، و التزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب و اتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة.
و أول من أبدع في هذه الطريقة. الزجلية أبو بكر بن قزمان. و إن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، و لا انسبكت معانيها و اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه. و كان لعهد الملثمين، و هو إمام الزجالين على الإطلاق. قال ابن سعيد: و رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب. قال: و سمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي، إمام الزجالين في عصرنا يقول:
ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، و قد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش و أمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال:
و عريش قد قام على دكان بحال رواق
و أسد قد ابتلع ثعبان من غلظ ساق
و فتح فمه بحال إنسان بيه الفراق
و انطلق من ثم على الصفاح و ألقى الصياح
و كان ابن قزمان، مع أنه قرطبي الدار. كثيرا ما يتردد إلى إشبيلية و نيتاب نهرها، فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن. و قد ركبوا في النهر للنزهة. و معهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد و بيوتهم. و كانوا مجتمعين في زورق للصيد، فنظموا في وصف الحال، و بدأ منهم عيسى البليدي فقال:
يطمع بالخلاص قلبي و قد فاتو و قد ضمني عشقو لشهماتو
تراه قد حصل مسكين محلاتو يغلق و كذاك أمر عظيم صاباتو
توحش الجفون الكحل إن غابو وذيك الجفون الكحل أبلاتو
ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي:
نشب و الهوى من لج فيه ينشب ترى ايش دعاه يشقى و يتعذب
مع العشق قام في بالوان يلعب و خلق كثير من ذا اللعب ماتوا
ثم قال أبو الحسن المقري الداني:
نهار مليح يعجبن أوصافو شراب و ملاح من حولي قد طافوا ‌
و المقلين يقول من فوق صفصافو و البوري أخرى فقلاتو
ثم قال أبو بكر بن مرتين:
الحق تريد حديث بقالي عاد في الواد النزيه و البوري و الصياد
لسنا حيتان ذيك الذي يصطاد قلوب الورى هي في شبيكاتو
ثم قال أبو بكر بن قزقان:
إذا شمر كمامو يرميها ترى البوري يرشق لذاك الجيها
و ليس مرادو أن يقع فيها إلا أن يقبل بدياتو
و كان في عصرهم يشرق الأندلس محلف الأسود، و له محاسن من الزجل منها قوله:
قد كنت منشوب و اختشيت النشب و ردني ذا العشق لأمر صعب
حتى تنظر الخد الشريق البهي تنتهي في الخمر إلما تنتهي
يا طالب الكيميا في عيني هي تنظر بها الفضة و ترجع ذهب
و جاءت. بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، فمن قوله في زجله المشهور:
و رذاذ دق ينزل و شعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض و ترى الآخر يذهب
و النبات يشرب و يسكر و الغصون ترقص و تطرب
و تريد تجي إلينا ثم تستحي و تهرب
و من محاسن أزجاله قوله:
لاح الضيا و النجوم حيارى فقم بنا ننزع الكسل
شربت ممزوج من قراعا أحلى هي عندي من العسل
يا من يلمني كما تقلد قلدك الله بما تقول
يقول بان الذنوب تولد و أنه يفسد العقول
لارض الحجاز موريكن لك أرشد ايش ما ساقك معي في ذا الفضول
مر أنت للحج و الزيارا و دعني في الشرب منهمل
من ليس لو قدره و لا استطاع النية أبلغ من العمل
و ظهر بعد هؤلاء بأشبيلية ابن جحدر الذي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا:
من عاند التوحيد بالسيف يمحق أنا بري ممن يعاند الحق
قال ابن سعيد لقيتة و لقيت تلميذة المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله:
يا ليتني ان رأيت حبيبي أفتل اذنو بالرسيلا
ليش أخذ عنق الغزيل و سرق فم الحجيلا
ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك إمام الأدب، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم و النثر في الملة الإسلامية غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة:
امزج الأكواس و املالي تجدد ما خلق المال إلا أن يبدد
و من قوله على طريقة الصوفية و ينحو منحى الششتري منهم:
بين طلوع و بين نزول اختلطت الغزول
و مضى من لم يكن و بقي من لم يزول
و من محاسنه أيضا قوله في ذلك المعنى:
البعد عنك يا بني أعظم مصايبي و حين حصل لي قربك سببت قاربي
و كان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش، و كان إماما في هذه الطريقة و له من زجل يعارض به مدغليس في قوله:
لاح الضياء و النجوم حيارى بقوله:
حل المجون يا أهل الشطارا مذ حلت الشمس في الحمل
تجددوا كل يوم خلاعا لا تجعلوا بينها ثمل
إليها يتخلعوا في شنبل على خضورة ذاك النبات
و حل بغداد و اجتياز النيل أحسن عندي من ذيك الجهات
و طاقتها أصلح من أربعين ميل ان مرت الريح عليه و جات
لم تلتق الغبار امارا و لا بمقدار ما يكتحل
و كيف ولاش فيه موضع رقاعا إلا و نسرح فيه النحل
و هذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر. و فيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العامية و يسمونه الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم:
دهر لي نعشق جفونك و سنين و أنت لا شفقة و لا قلب يلين
حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع صنعة السكة بين الحدادين
الدموع ترشرش و النار تلتهب و المطارق من شمال و من يمين
خلق الله النصارى للغزو و أنت تغزو قلوب العاشقين
و كان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي و له فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر:
طل الصباح قم يا نديمي نشربو و نضحكو من بعدما نطربو
سبيكة الفجر أحكت شفق في ميلق الليل فقم قلبو
ترى عيارها خالص أبيض نقي فضة هو لكن الشفق ذهبو
فتنتفق سكتوا عند البشر نور الجفون من نورها يكسبو
فهو النهار يا صاحبي للمعاش عيش الغني فيه بالله ما أطيبو
والليل أيضا للقبل و العناق على سرير الوصل يتقلبو ‌‌
جاد الزمان من بعدما كان بخيل ولش ليفلت من يديه عقربو
كما جرع مرو فما قد مضى يشرب بيننو و ياكل طيبو
قال الرقيب يا أدبا إيش ذا في الشرب و العشق ترى ننجبو
و تعجبوا عذالي من ذا الخبر فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا
نعشق مليح الا رقيق الطباع علاش تكفروا بالله أو تكتبوا
ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب يفض بكرو و يدع ثيبو
أما الكاس فحرام نعم هو حرام على الذي ما يدري كيف يشربو
و يد الذي يحسن حسابه و لم يقدر يحسن الفاظ أن ي***وا
و أهل العقل و الفكر و المجون يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا
ظبي بهي فيها يطفي الجمر و قلبي في جمر الغضى يلهبو
غزال بهي ينظر قلوب الأسود و بالوهم قبل النظر يذهبوا
ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا و يفرحوا من بعدما يندبوا
فميم كالخاتم و ثغر نقي خطيب الأمة للقبل يخطبو
جوهر و مرجان أي عقد يا فلان قد صففه الناظم و لم يثقبو
و شارب أخضر يريد لاش يريد من شبهه بالمسك قد عيبو
يسبل دلال مثل جناح الغراب ليالي هجري منه يستغربوا
على بدن أبيض بلون الحليب ما قط راعي للغنم يحلبوا
و زوج هندات ما علمت قبلها ديك الصلايا ريت ما أصلبو
تحت العكاكن منها خصر رقيق من رقتو يخفي إذا تطلبوا
أرق هو من ديني فيما تقول جديد عتبك حق ما أكذبو
أي دين بقا لي معاك و أي عقل من يتبعك من ذا و ذا تسلبوا
تحمل ارداف ثقال كالرقيب جين ينظر العاشق و حين يرقبو
ان لم ينفس عدر أو ينقشع في طرف ديسا و البشر تطلبو
يصير إليك المكان حين تجي و حين تغيب ترجع في عيني تبو
محاسنك مثل خصال الأمير أو الرمل من هو الذي يحسبو
عماد الأمصار و فصيح العرب من فصاحة لفظه يتقربو
بحمل العلم انفرد و العمل و مع بديع الشعر ما أكتبو
ففي الصدور بالرمح ما أطعنه و في الرقاب بالسيف ما أضربو
من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعد قلبي أو يحسبو
الشمس نورو و القمر همتو الغيث جودو و النجوم منصبو
يركب جواد الجود و يطلق عنان الاغنيا و الجند حين يركبوا
من خلعتو يلبس كل يوم بطيب منه بنات المعالي تطيبوا
نعمتو تظهر على كل من يجيه قاصد و وارد قط ما خيبوا
قد أظهر الحق و كان في حجاب لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو
و قد بنى بالسر ركن التقى من بعد ما كان الزمان خربو
تخاف حين تلقاه كما ترتجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو
يلقى الحروب ضاحكا و هي عابسة غلاب هو لا شي في الدنيا يغلبو
إذا جبد سيفه ما بين الردود فليس شيء يغني من يضربو
و هو سمي المصطفى و الاله للسلطنة اختار و استنخبو
تراه خليفة أمير المؤمنين يقود جيوشو و يزين موكبو
لذي الإمارة تخضع الرؤوس نعم و في تقبيل يديه يرغبوا
ببيته بقى بدور الزمان يطلعوا في المجد و لا يغربوا
و في المعالي و الشرف يبعدوا و في التواضع و الحيا يقربوا
و الله يبقيهم ما دار الفلك و أشرقت شمسه و لاح كوكبو
و ما يغني ذا القصيد في عروض يا شمس خدر مالها مغربو
ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فناً آخر من الشعر، في أعاريض مزدوجة موشح، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا و سموه عروض البلد، و كان أول من حدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير. فنظم قطعة بطريقة الموشح و لم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلا مطلعها:
اني بشاطي النهر نوح الحمام على الغصن في البستان قريب الصباح
***** يمحو مداد الظلام و ماء الندى يجري بثغر الاقاح
جرت الرياض و الطل فيها افتراق كثير الجواهر في نحور الجوار
مع النواعير ينهرق انهراق يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
بالغصون خلخال على كل ساق و دار الجميع بالروض دور السوار
الندى تخرق جيوب الكمام و يحمل نسيم المسك عنها رياح
الصبا يطلى بمسك الغمام و جر النسيم ذيلو عليها و فاح
و يطير الحمام بين الورق في القضيب قد ابتلت ارياشو بقطر الندى
تنوح مثل ذاك المستهام الغريب قد التف من توبو الجديد في ردا
و لكن بما أحمر و ساقو خضيب ينظم سلوك جوهر و يتقلدا
جلس بين الأغصان جلسة المستهام جناحا توسد و التوى في جناح
و صار يشتكي ما في الفؤاد من غرام منها ضم منقاره لصدره و صاح
قلت يا حمام احرمت عيني الهجوع أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح
قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح
على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ألفت البكا و الحزن من عهد نوح
كذا هو الوفا و كذا هو الزمام انظر جفون صارت بحال الجراح
و أنتم من بكى منكم إذا تم عام يقول عناني ذا البكا و النواح
قلت يا حمام لو خضت بحر الضنى كنت تبكي و ترثي لي بدمع هتون
و لو كان بقلبك ما بقلبي أنا ما كان يصير تحتك فروع الغصون
اليوم نقاسي الهجر كم من سنا حتى لا سبيل جمله تراني العيون
و مما كسا جسمي النحول و السقام أخفاني نحولي عن عيون اللواح
لو جتنى المنايا كان يموت في المقام و من مات بعد يا قوم لقد استراح
قال لي لو رقدت لاوراق الرياض من خوفي عليه ودا النفوس للفؤاد
و تخضبت من دمعي و ذاك البياض طوق العهد في عنقي ليوم التناد
أما طرف منقاري حديثو استفاض بأطراف البلد و الجسم صار في الرماد
فاستحسنه أهل فاس و ولعوا به و نظموا على طريقته. و تركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم، و كثر سماعه بينهم و استفحل فيه كثير منهم و نوعةه أصنافا إلى المزدوج و الكازي و الملعبة و الغزل. و اختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها و ملاحظاتهم فيها. فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم و هو من أهل تازا:
المال زينة الدنيا و عز النفوس يبهي وجوها ليس هي باهيا
فها كل من هو كثير الفلوس ولوه الكلام و الرتبة العاليا
يكبر من كثر مالو و لو كان صغير و يصغر عزيز القوم اذ يفتقر
من ذا ينطبق صدري و من ذا تغير و كاد ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومو كبير لمن لا أصل عندو و لا لو خطر
لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس و يصبغ عليه ثوب فراش صافيا
اللي صارت الاذناب أمام الرؤوس و صار يستفيد الواد من الساقيا
ضعف الناس على ذا و فسد ذا الزمان ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب
اللي صار فلان يصبح بو فلان و لو رأيت كيف يرد الجواب
عشنا و السلام حتى رأينا عيان أنفاس السلاطين في جلود الكلاب
كبار النفوس جدا ضعاف الاسوس هم ناحيا و المجد في ناحيا
يرو أنهم و الناس يروهم تيوس و جوه البلد و العمدة الراسيا
و من مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته:
تعب من تبع ذا الزمان اهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك
ما منهم مليح عاهد إلا و خان قليل من عليه تحبس و يحبس عليك
يهبوا على العشاق و يتمنعوا و يستعمدوا تقطيع قلوب الرجال
و ان واصلوا من حينهم يقطعوا و ان عاهدوا خانوا على كل حال
مليح كان هويتو وشت قلبي معو و صيرت من خدي لقدمو نعال
و مهدت لو من وسط قلبي مكان و قلت لقلبي اكرم لمن حل فيك
و هون عليك ما يعتريك من هوان فلا بد من هول الهوى يعتريك
حكمتوا علي و ارتضيت بو أمير فلو كان يرى حالي اذا يبصرو
يرجع مثل در حولي بوجه الغدير مرديه و يتعطس بحال انحرو
و تعلمت من ساعا بسبق الضمير و يفهم مرادو قبل أن يذكرو
و يحتل في مطلو لوان كان عصر في الربيع أو في الليالي يريك
و يمشي بسوق كان و لو باصبهان وايش ما يقل يحتاج لو يجيك
حتى أتى على آخرها.
و كان منهم علي بن المؤذن بتلمسان، و كان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف. أبدع في مذاهب هذا الفن. و من أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن و بنى مرين إلى أفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان. و يعزيهم عنها و يؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها. و هو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام و افتتاحه و يسمى براعة الإستهلال:
سبحان مالك خواطر الامرا و نواصيها في كل حين و زمان
ان طعناه أعظم لنا نصرا و ان عصيناه عاقب بكل هوان
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص:
كن مرعى قل و لا تكن راعي فالراعي عن رعيته مسؤول
و استفتح بالصلاة على الداعي للإسلام و الرضا السني المكمول
على الخلفاء الراشدين و الاتباع و اذكر بعدهم اذا تحب و قول
أحجاجا تخللوا الصحرا ودوا سرح البلاد مع السكان
عسكر فاس المنيرة الغرا وين سارت بوعزايم السلطان
أحجاج بالنبي الذي زرتم و قطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا
و من كان بالعطايا يزودكم و يدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا و يعجز شوط بعدما يخفان
و يزف كر دوم تهب في الغبرا أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا و بلاد الغرب سد السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثانيا بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور و ما شرا لو تقرا كل يوم على الديوان
لجرت بالدم و انصدع حجرا و هوت الخراب و خافت الغزلان
أدرلي بعقلك الفحاص و تفكر لي بخاطرك جمعا
ان كان تعلم حمام و لا رقاص عن السلطان شهر و قبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص و علامات تنشر على الصمعا
الا قوم عاريين فلا سترا مجهولين لا مكان و لا امكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا و كيف دخلوا مدينة القيروان
امولاي أبو الحسن خطينا الباب قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد و الزاب واش لك في اعراب افريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام و الحجاز و تاج كسرى و فتح من افريقيا و كان
رد ولدت لو كره ذكرى و نقل فيها تفرق الاخوان
هذا الفاروق مردي الاعوان صرح في افريقيا بذا التصريح
و بقت حمى إلى زمن عثمان و فتحها ابن الزبير عن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان مات عثمان و انقلب علينا الريح
و افترق الناس على ثلاثة أمرا و بقي ما هو للسكوت عنوان
اذا كان ذا في مدة البرارا اش نعمل في أواخر الازمان
و أصحاب الحضر في مكناساتا و في تاريخ كأنا و كيوانا
تذكر في صحتها أبياتا شق و سطيح و ابن مرانا
ان مرين إذا تكف براياتا لجدا و تونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا عيسى بن الحسن الرفيع الشان
قال لي رأيت و أنا بذا أدري لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان
و يقول لك ما دهى المرينيا من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى سلطان تونس و صاحب الأبواب
ثم أخذ في ترحيل السلطان و جيوشه، إلى آخر رحلته و منتهى أمره، مع أعراب إفريقية. و أتى فيها بكل غريبة من الإيداع. و أما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية، إلا أن أكثره رديء و لم يعلق بمحفوظي منة شيء لرداءته.
الموشحات و الأزجال في المشرق
و كان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه المواليا، و تحته فنون كثيرة يسمون منها القوما، و كان و كان، و منه مفرد و منه في بيتين، و يسمونه دوبيت على الإختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها، و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان. و تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب. و تبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية، فجاؤوا بالعجائب. و رأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط، و هو ذو أربعة أغصان و أربع قواف، و يسمى صوتا و بيتين. و أنه من مخترعات أهل واسط، و أن كان و كان فهو قافية واحدة و أوزان مختلفة في أشطاره: الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني و لا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة و أنه من مخترعات البغداديين. و أنشد فيه لنا:
بغمز الحواجب حديث تفسير و منو أوبو، و أم الأخرس تعرف بلغة الخرسان. انتهى كلام الصفي. و من أعجب ما علق بحفظى منه قول شاعرهم:
هذي جراحي طريا و الدما تنضح
و قاتلي يا أخيا في الفلا يمرح
قالوا و ناخذ بثارك قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني يكون أصلح
و لغيره:
طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق رجعت حيران من بحر أدمعي غارق
و لغيره:
عهدي بها و هي لا تأمن علي البين و ان شكوت الهوى قالت فديتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ذكرتها العهد قالت لك على دين
و لغيره في وصف الحشيش:
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر و الخمار و الساقي
قحبا و من قحبها تعمل على احراقي خبيتها في الحشى طلت من احداقي
و لغيره:
يا من و صالو لأطفال المحبة بح كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو و التصبر بح كل الورى كخ في عيني و شخصك دح
و لغيره:
ناديتها و مسيبي قد طواني طي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
قالت و قد كوت داخل فؤادي كي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
و لغيره:
راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
و لغيره:
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
و صيح في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
و لغيره:
عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ترعى النجوم و بالتسهيد اقتاتت
و أسهم البين صابتني و لا فاتت و سلوتي عظم الله أجركم ماتت
و لغيره:
هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن اذا ما انثنى يسبي البنات البكر وان تهلل فما للبدر عندو ذكر
و من الذي يسمونه دوبيت:
قد اقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الاسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ليلا فعساه يهتدي بالنار
و اعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة و كثر استعماله لها و مخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية. فلا يشعر الأندلس بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب و لا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق و لا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس و المغرب. لأن اللسان الحضري و تراكيبه مختلفة فيهم. و كل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته و ذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته و في خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم آيات للعالمين و قد كدنا نخرج عن الغرض.
و جاء مصليا خلفه منهم ابن رافع، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة. قالوا و قد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول:
العود قد ترنم بأبدع تلحين و سقت المذانب رياض البساتين
و في انتهائه حيث يقول:
تخطر و لا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين، فظهرت لهم البدائع، و سابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي، ثم يحيى بن بقي، و للطليطلي من الموشوحات المهذبة قوله:
كيف السبيل إلى صبري و في العالم أشجان
و الركب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بان


خاتمة
و لذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران و ما يعرض فيه و قد استوفينا من مسائله ما حسيناه كفاية له. و لعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوف من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله و ما يتكلم فيه و المتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل. و الله يعلم و أنتم لا تعلمون.
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه: أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع و التأليف قبل التنقيح و التهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة و سبعين و سبعمائة. ثم نقحته بعد ذلك و هذبته و الحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله و شرطته. و ما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم.

مع تحيات موقع الفلسفة الإسلامية نقلاً عن موقع اسلاموب مع بعض التعديلات والله من وراء القصد. تم في صباح يوم الثلاثاء, 01 تشرين الاول, 2002
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مقدمة, ابن, خلدون


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع مقدمة ابن خلدون
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حمل ادبية الخطاب النثري عند ابن خلدون مهند دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 2 01-25-2014 09:28 PM
منظور ابن خلدون في اكتساب اللغة العربية عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 05-17-2013 06:06 AM
آراء ابن خلدون عن طبائع العرب جدل واختلاف Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 12-11-2012 08:27 PM
أصول الأدب العربي عند ابن خلدون Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 09-11-2012 11:56 AM
مقدمة مقدمة في علوم القران محمد خطاب شذرات إسلامية 0 01-12-2012 08:54 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:32 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59