#1  
قديم 11-20-2013, 12:51 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي الجوهـر اليهودي



Jewish Essence
«الجوهر» هو مجموعة الخصائص الثابتة فيظاهرة ما أو هو ما لا يتغيَّر بتَغيُّر المكان أو الزمان. وفكرة الجوهر اليهوديالخالص (الثابت) هي فكرة كامنة وراء عديد من المفاهيم والمصطلحات والنماذجالتفسيرية المُستخدَمة في دراسة الجماعات والعقائد اليهودية، مثل: «التاريخاليهودي»، و«الشخصية اليهودية»، و«العبقرية اليهودية»، و«الجريمة اليهودية»،و«الشعب اليهودي»، و«العرْق اليهودي»، و«الإثنية اليهودية». فكل هذه المصطلحاتتفترض وجود هذا الجوهر اليهودي الخالص الثابت الذي يجعل من يهودية اليهودي النقطةالمرجعية الأساسية لتفسير سلوكه. أما العناصر غير اليهودية، مثل السياق الحضاريالإنساني الذي يوجد فيه أعضاء الجماعات اليهودية، أو حركيات المجتمعات التي ينتمونإليها، أو تفاعلهم مع أعضاء الأغلبية، بل والعناصر الإنسانية المشتركة مع بقيةالبشر، فهي عناصر يُفترَض فيها أنها عَرَضية تنتمي إلى السطح ولا تفيدنا كثيراً فيتفسير الظواهر اليهودية، حيث يتم تفسير هذه الظواهر من الداخل فقط.

ففيحالة دراسة تاريخ يهود بولندا، على سبيل المثال، يتم التركيز على ما جاء في التوراةوالتلمود وعلى الحياة داخل الشتتل، ولا يظهر العالم الخارجي غير اليهودي إلا علىهيئة هجمات ومذابح ضد اليهود أو تسامح معهم. ولكل هذا، تبدو حياة أعضاء الجماعاتاليهودية وكأنها لا علاقة لها بحياة كل البشر، وتختلف تماماً عن حياة الأقلياتالأخرى. ويَبرُز الجوهر اليهودي باعتباره محركاً أساسياً للأحداث. وغني عن الذكر أنالمعادين لليهود يتبنون النموذج نفسه ويرددون، على سبيل المثال، أن عزلة اليهود هيتعبير عن جوهرهم الانعزالي، وأن اشتغالهم بالتجارة تعبير عن نزوعهم الطبيعي إلىالاشتغال بأمور المال، وأن اتجاههم نحو الصحافة الإباحية هو تعبير عن نزوعهم الأزلينحو الشر.

وهذا النموذج التفسيري الذي يفترض وجود الجوهر اليهودي، هو نموذجصهيوني بشكل واع أو غير واع حيث إن كلاًّ من الصهاينة والمعادين لليهود يُسقطون عناليهود إنسانيتهم ولا يرونهم بشراً يتسمون بالقدر نفسه من الخير والشر الذي تتسم بهبقية البشر. لكن مفهوم الجوهر اليهودي هو تعبير عن نموذج اختزالي عنصري، مقدرتهالتفسيرية منخفضة للغاية، إذ أنه يستبعد كثيراً من تفاصيل الواقع ومستوياته وبنيته. فلا يمكن فهم وضع اليهود في بولندا إلا بالعودة إلى حركيات التاريخ البولنديابتداءً من تَوسُّـع بولندا وضمها أوكرانيا، مروراً بظهور الإمبراطوريات الثلاثالمجاورة لبولندا (روسيا وألمانيا والنمسا)، وانتهاءً بتقسيم بولندا. كما لا يمكنفهم الشتتل إلا في ضوء نظام الأرندا البولندي الذي كان يخدم مصالح طبقة النبلاءالبولنديين (شلاختا). كما أن علاقة يهود بولندا بمجتمعهم لا تختلف كثيراً عن علاقةأية أقلية بالأغلبية التي تعيش بينها.

وقد يكون هناك بعض الأنماط المتكررةوالسمات المشتركة التي تسم وجود كثير من الجماعات اليهودية. ولكن هـذه السمات ليستأساسية، وبالتالي فإن مقدرتها التفسيرية ضعيفة. وهذه السمات مرتبطة بعشرات التفاصيلوالسمات الأخرى النابعة من البيئات المختلفة التي يوجد فيها أعضاء الجماعاتاليهودية. وإذا كانت ثمة سمة أو سمات أسـاسـية متكررة في معظم الجماعات اليهودية،فهي اضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية وتَصاعُد الحلولية الكمونية داخل النسق الدينياليهودي. وهاتان السمتان ذاتهما تأخذان أشكالاً مختلفة. فهناك جماعة وظيفية قتاليةاستيطانية في جزيرة إلفنتاين في مصر الفرعونية، وهناك جماعة وظيفية استيطانية فيقبرص العثمانية، وجماعة وظيفية وسيطة في أوربا حتى عصر النهضة. وهذه السمة بالذاتليست مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية وإنما هي سمة مشتركة تجمع بينها وبينأقليات أخرى (مثل الصينيين في جنوب شرق آسيا).

وفيما يتصل بتَصاعُدالحلولية الكمونية داخل النسق الديني اليهودي وهيمنتها عليه تماماً، حتى أصبحتاليهودية، في معظم أنحاء العالم، ديانة حلولية كمونية واحدية، فهذا بدوره ليسمقصوراً على اليهودية وإنما هو تعبير عن نمط أكثر عمقاً وكموناً، إذ يُلاحَظ أنالعقيدة المسيحية أيضاً قد بدأت تهيمن عليها الحلولية الكمونية بعد حركة الإصلاحالديني. كما أن لاهوت موت الإله (وهو تعبير عن حلولية كمونية بدون إله) هو اتجاهديني طالما ساد في المجتمعات العلمانية الغربية، وليس أمراً مقصوراً على اليهودية.

طبيعـــــة اليهــــــود
The Nature of the Jews
«طبيعةاليهود» عبارة تتواتر في كثير من الدراسات التي تُكتَب عن الجماعات والعقائداليهودية، وتفترض أن ثمة جوهراً يهودياً كامناً في أي يهودي يُعبِّر عن نفسه منخلال «طبيعة يهودية» ويتجلى في العقائد اليهودية ويحدِّد رؤية اليهود للواقعوسلوكهم. ولذا، فإن أعضاء الجماعـات اليهودية ـ حسب هذا المفهوم ـ يعملون بالتجارةوالربا والأمور المالية بسبب طبيعتهم، وهم يعيشون في عزلة ويرفضون الاندماج للسببنفسه. لكن هذا المفهوم تعبير عن نموذج تفسيري اختزالي عنصري يتبناه الصهاينةوالمعادون لليهود، ويُبْرز اليهود كتجمع بشري يتمتع بقدر عال من الوحدة والاستقلالوله حركيات مستقلة عن بقية البشر. وغني عن القول أن هذا المفهوم يُفسِّر الواقع كلهبصيغة واحدة بسيطة جاهزة، ومن ثم فهو يتجاهل واقع أعضاء الجماعات اليهوديةالمُركَّب غير المتجانس، وهو واقع لا يخضع لقانون عام ولا ينضوي تحت نمط متكررواحد.

الأخلاقيـــات اليهوديــــة
Jewish Ethics or Morality
«الأخلاقيات اليهودية» عبارة تفترض أن ثمة أنماطاً سلوكية يهودية متكررةتُعبِّر عن جوهر يهودي وطبيعة يهودية وشخصية يهودية تنعكس في رؤية أخلاقية محددة. وهي أنماط متكررة باعتبار أن هذه الأخلاقيات ثابتة لا تتغيَّر، وأينما وُجد يهود فيأي زمان ومكان فإن المتوقع أن يسلكوا السلوك اللاأخلاقي نفسه الذي ينم عن الرغبة فيتحطيم الآخرين والتآمر ضدهم. وبسبب هذه الأخلاقيات اليهودية المزعومة، يتسم سلوكاليهود بحب العزلة عن الآخرين وعدم الولاء للدولة والانحلال الجنسي، كما أنهم لهذاالسبب ينخرطون بأعداد كبيرة في المحافل الماسونية وينضمون إلى صفوف دعاة العلمانيةالشاملة، كما أنهم عادةً ما يعملون بالتجارة والربا والأعمال المالية. ومصدر هذهالأخلاقيات، حسب هذه الرؤية، هو كتب اليهود المقدَّسة كالعهد القديم والتلمود،ويُضاف إلىها الآن بروتوكولات حكماء صهيون، وهي كتب تعبِّر عن طبيعتهم وجوهرهم. لكنهذا النموذج التفسيري متهافت تماماً، فسلوك اليهود يختلف باختلاف الزمان والمكان. ومن هنا يجري حديثنا عنهم، لا باعتبارهم أعضاء شعب يهودي، وإنما باعتبارهم أعضاءجماعات يهوديـة.

ومن المعروف أن أعضاء الجماعــة اليهودية لم يعزلوا أنفسهمفي بابل ولا في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ولا في إسبانيا الإسلامية، بل اندمجواإلى حدٍّ كبير في محيطهم الحضاري. أما في آشـور والصين، فقد انصهروا تماماً. وكانالعبرانيون القدامي بدواً رُحلاً، وعملوا بالزراعة (وليـس بالتجارة أو الربا) حيناسـتقروا في كنعان. وكذلك، فإن ولاء يهود ألمانيا في القرن التاسع عشر لدولتهم كانكاملاً إلى درجة أن نسبة مئوية ضخمة منهم تَنصَّرت حتى أنهم أصبحوا جزءاً لا يتجزأمن الشعب الألماني. كما أن ولاء الأمريكيين اليهود للولايات المتحدة من القوة بحيثإنهم يموتون من أجلها. أما عداء اليهود للأغيار فإنه ليس مطلقاً، فقد ساعدواالمسلمين في الفتح الإسلامي، سواء في فلسطين أو في إسبانيا. كما أن انحلالهم الجنسيغير مطلق أيضاً، فظاهرة الطفل اليهودي غير الشرعي أو البغيِّ اليهودية كانت غيرمعروفة تقريباً في أوربا حتى منتصف القرن التاسع عشر. وأما الماسونية والعلمانية،فإن اليهودية الأرثوذكسية تعاديهما بشراسة، وهكذا. ولا يصعب على أي دارس مُتحيِّزأن ينتقي مجموعة من التفاصيل والقرائن مُنتزعة من سياقها الزمني والمكاني للتدليلعلى أية مقولة عامة، كأن يأخذ قرينة من المدىنة أيام الرسول علىه الصلاة والسلام،وأخرى من إسبانيا أثناء الغزو المسيحي، وثالثة من روسيا في القرن التاسع عشر، ثميستخدمها جميعاً لإثبات مقولة ما مثل « عدم ولاء اليهود » متجاهلاً كل القرائنالأخرى، كتلك التي ذكرناها.

والصورة العامة التي ترسخت في أذهان الكثيرينعن أعضاء الجماعات اليهودية تعود ولا شك إلى الرؤى الإنجيلية الخاصة بالشعب المختارالذي لا يسلك سلوكاً حراً وإنما يُعبِّر دائماً عن قصد إلهي. كما أن اضطلاع أعضاءالجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة في الغرب، ساهم في ترسيخ هذهالصورة الإدراكية. فالجماعات الوسيطة لا تدين بالولاء للأغلبية، وتستخدم عادةًالمعايير الأخلاقية المزدوجة باعتبار أن أعضاء الجماعة يتمتعون بالقداسة، أما أعضاءالأغلبية فهم مباحون لا قداسة ولا حرمة لهم. ولكن المصدر المباشر لهذه الصورةالسلبية للأخلاقيات اليهودية هو يهود اليديشية في مرحلة ضعفهم وتَفسُّخهم في العقودالأخيرة من القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيات القرن العشرين، إذ تركزت نسبة كبيرةمنهم في تجارة البغاء حتى أصبحت شخصية القواد اليهودي والبغي اليهودية أمراًشائعاً. كما أن نســبة المهاجرين منهم كانت مرتفعة للغاية. والمهاجر في كثير منالأحيان، شخصية غير منتمية لا ولاء لها، كما أن معدلات العلمنة بين المهاجرينمرتفعة للغاية. وهكذا، فإن الصورة العنصرية النمطية السائدة عن الأخلاقيات اليهوديةقد يكون لها أساس واقعي، ولكنها تنتمي إلى زمان ومكان محدَّدين، كما أنها فقدتكثيراً من فعاليتها إذ اختفى يهود اليديشية تقريباً وظهرت أنماط سلوكية جديدة بينأعضاء الجماعات.

وتنتشر فكرة الأخلاقيات اليهودية بين المعادين لليهود،ولكنها شائعة أيضاً بين الصهاينة الذين يعطونها مضموناً إيجابياً. فالأخلاقياتاليهودية تعبير عـن العبقرية اليهودية التي تجعل من اليهودي مبدعاً قادراً علىالتماسك الاجتماعي، محباً لقومه وقوميته اليهودية وأرضه... إلخ. وغني عن القول أنرؤية المعادين لليهود لا تختلف في بنيتها عن رؤية الصهاينة، فاليهود في نظرهم هماليهود، يسلكون دائماً السلوك نفسه أينما وُجدوا.

الماديــــةاليهوديــة
Jewish Materialism
لمصطلح «المادية» معنيان:

1
ـالمعنى الفلسفي: الإيمان بأن العالم كله مادة تتحرك وأن كل ما يبدو وكأنه ليس مادة (العقل والروح والنفس والفكر والوعي) إنما هو في واقع الأمر مادة ويمكن تفسيره منخلال مقولات مادية، وأن كل الظواهر الإنسانية العقلية والروحية ما هي إلا جزء منبناء فوقي يمكن أن يُرَد في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى المادة (البناءالتحتي). وأن كل شيء في الكون يمكن تفسيره تفسيراً مادياً لأن كل التغيرات لها سببمادي. ولذا، فإن التفسيرات المادية هي التفسيرات الوحيدة الممكنة، كما أن العقلالإنساني ليست له أية فعالية سببية ولا علاقة له بحركة الكون الذي يتحرك بذاته،والكون لا يوجد فيه غرض ولا سبب ولا هدف ولامعنى ولا يوجد إله ولا غيب (وراءالطبيعة)، فالمادة وحركتها أزليتان ولا يوجد سبب أو محرِّك أوَّل. وقد تتغير أشكالالظواهر المادية وقد تتبدل تجلياتها ولكن المادة لا تُخلَق ولا تُستحدَث من العدم،ولا توجد حياة أزلية سوى المادة.

2
ـ المعنى الدارج: وهو حب النقود (التييشار إليها على أنها «مـادة»). فيُقال «فلان مادي» بمعنى أنه يحب المال حباً جماً.

والمدلولان قد يغطيان رقعة مشتركة، فالإنسان المادي (بالمعنى الفلسفي) قديكون محباً للمال، والمحب للمال قد يكون مادياً بالمعنى الفلسفي، ولكنهما على أيةحال مختلفان، فالمادية بالمعنى الفلسفي رؤية شاملة للكون تغطي علاقة الإنسانوالطبيعة والإله، أما المادية بالمعنى الدارج فهي تنصرف إلى جانب واحد في الطبيعةالبشرية وهو حب المال.

وإذا نظرنا إلى عبارة «المادية اليهودية» بالمعنىالفلسفي، فإننا سنواجه صعوبات بالغة، فاليهودية عقيدة دينية يؤمن كثير من أتباعهابالإله واليوم الآخر والملائكة والشياطين والثواب والعقاب، ومن ثم لا يمكن الحديثعن المادية اليهودية بهذا المعنى. ومع هذا، يمكن من قبيل التحفظ أن نقول إن الطبقةالحلولية الكمونية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي التراكمي تتبدَّى (في مرحلة وحدةالوجود) في شكل رؤية مادية، كما أنها تخلق لدى المؤمن تَقبُّلاً للفكر الماديبالمعنى الفلسفي. ولعل هذا يفسر ظهور النزعات المشيحانية التي عادةً ما تصبح حركاتعدمية بالمعنى الفلسفي، كما يفسر ظهور كثير من الفلاسفة الماديين من أصل يهودي (منأهمهم إسبينوزا وماركس).

ويمكننا الآن تَناوُل عبارة «المادية اليهودية»بالمعنى الدارج. وهنا أيضاً لا يمكننا أن نتحدث عن أعضاء الجماعات اليهوديةالمختلفة في كل زمان ومكان باعتبار أنهم محبون للمال حباً جماً. ومثل هذه المقولاتالتحليلية معادية لليهود وصهيونية في آن واحد لأنها تفترض وجود جوهر يهودي واحد لايتغيَّر بتَغيُّر الزمان والمكان.

والدراس لتواريخ الجماعات اليهوديةسيكتشف أن حب اليهود للمال لا يختلف في معدله كثيراً عن حب أعضاء الأغلبية له. فيهود الجزيرة العربية قبل الإسلام كانوا يتصفون بصفات الكرم والسخاء (إلى درجةالتبذير)، شأنهم في هذا شأن العرب في عصرهم، بينما نجد أن يهود الولايات المتحدةيتصفون بأنهم أكثر حرصاً وتقتيراً، وهذا جزء من ميراثهم البروتستانتي التعاقدي الذييؤكد على قيم التقشف الذي يؤدي إلى التراكم المالي (المادي). وكان كثير من يهود شرقأوربا من يهود اليديشية يتهمون اليهود الأمريكيين بالبرود والحرص الزائد، وهذا يعودإلى أن يهود شرق أوربا جاءوا من مجتمعات شبه زراعية ومن خلفية سلافية لا تعرفالتقتير والتراكم أو لا تشجعه (على عكس اليهود الأمريكيين من أصل ألمانيبروتستانتي)

ومع هذا، يمكن القول بأن أعضاء الجماعات اليهودية في الغربيميلون، أكثر من غيرهم، إلى جمع المال ومراكمته. ولكن هذا لا يُفسِّره يهوديتهموإنما يُفسِّره أنهم أعضاء في جماعات وظيفية لابد أن تقوم بمراكمة الخبرات والأموالوأن تمارس قدراً عالياً من ضبط النفـس في عمـليات الاسـتهلاك (وشـيلوك مثل جيد علىذلك). والدارس للجماعات الوظيفية (خصوصاً الوسيطة)، سيجد أن أعضاءها (يهوداً كانواأم باكستانيين أو صينيين) يتسمون بالصفات نفسها تقريباً. والصينيون في وطنهم غيرمعروفين بالبخل أو الحرص الشديدين، ولكنهم حينما تحولوا إلى جماعات وظيفية، أصبحوا «ماديين» يحبون المال حباً جماً. والباكستانيون مشهورون بكرمهم الزائد في بلدهم،بينما نجد أن البريطانيين (المعروفون بحرصهم البالغ) يتهمون الباكستانيين المقيمينفي بلادهم بأنهم بخلاء.

تهـــــويد المجتمـــــع
Judaization of Society
«تهويد المجتمع» عبارة استخدمها ماركس في كتابه المسألة اليهودية، وهيتفترض وجود جـوهر يهودي ثابت، له ملامـح مـعينة، يتم تعميمه على المجتمع، الأمرالذي يتناقض مع فكر ماركس، ولذا فالأمر يتطلب قدراً من التعمق. وقد يكون من المفيدألا نبدأ بالجوهر اليهودي وإنما بالإنسان الوظيفي، عضو الجماعة الوظيفية، الذي يدخلفي علاقة تعاقدية نفعية باردة مع مجتمع الأغلبية، ولا يكترث بقيم المجتـمع ويعيـشعلى هامشـه أو في مسامه. هذا النمط الإنساني كان مُهمَّشاً، شأنه في هذا شأنالجماعة الوظيفية. ولكن مع تحوُّل المجتمعات الغربية (ثم بقية المجتمعات في العالم) من الزراعة إلى الصناعة تم إشاعة نموذج الإنسان الوظيفي. وقد وصف كارل ماركس هذهالعملية بدقة بالغة في البيان الشيوعي في إطار حديثه عن دور البورجوازية الثوري فيالتاريخ، تلك البورجوازية التي سحقت تحت أقدامها جميع العلاقات الإقطاعيةوالبطريركية والعاطفية، ولم تُبق أية صلة بين الإنسان والإنسان إلا صلة المصلحةالجافة والدفع الجاف نقداً وعداً. وأغرقت الحمية الدينية وحماسة الفرسان ورقةالبورجوازية الصغيرة في مياه الحساب الجليديةالمشبعة بالأنانية، وجعلت الكرامةالشخصية مجرد قيمة تبادل لا أقل ولا أكثر، وقضت على الحريات الجمة، المُكتسَبةوالممنوحة، وأحلَّت محلها حرية التجارة وحدها، هذه الحرية القاسية التي لا تُشفقولا تعرف الشفقة أو الرحمة. فالمجتمع البورجوازي مجتمع تعاقدي تحل فيه قيمة التبادلمحل القيم الإنسانية كافة، ويُعرِّف البشر في ضوء نفعهم وتسود فيه النظم المعرفيةوالاقتصادية والأنانية التعاقدية. وقد أشار ماركس إلى التجربة الرأسمـالية (البروتسـتانتية) الكـبرى في أمريكا الشـمالية بقوله: "إن مامون (إله المال) هوالوثن الذي يعبدونه هناك بجميع قوى أجسادهم وأرواحهم. فالأرض في نظرهم ليست سوىبورصة وهم موقنون بأنهم لا مصير لهم في الحياة الدنيا سوى أن يصبحوا أغنى منجيرانهم. لقد استولت المتاجرة على جميع أفكارهم وليس لديهم تسلية أخرى سوى تبديلأمتعتهم"، وهم "لا يتحدثون إلا عن المنفعة والربح" و"النبوءة الدينية أصبحت سلعةتجارية".

ورغم أن اليهود لم يكونوا وحدهم الضالعين في هذه العملية (كمايعرف ماركس تماماً) إلا أنه وصفها بأنها عملية «تهويد». وحتى نفهم هذا التعميمالماركسي الكاسح، يجب أن نشير إلى أن ماركس كان يرى أن روح الرأسمالية مُستمدة مناليهودية (لا البروتستانتية كما قال فيبر). ولعله كان يعني أن النموذج المعرفيالذري المتفتت الأناني الذي يُشكِّل جوهر الرأسمالية - في نظره - يوجد في اليهوديةبشكل أكثر تبلوراً منه في المسيحية ("جوهر اليهودية هو المتاجرة وأساسها المنفعةالعملية والأنانية" - "تحتوي اليهودية على عنصر عام ومناهض للمجتمع"). وسيادة النمطالمعرفي الكامن في اليهودية يعني في واقع الأمر الانتصار الكامل للرأسمالية. واليهودي، بالنسبة إلى ماركس، هو سيِّد السوق المالية، وبواسطته أصبح المال (إلهإسرائيل الطماع) قوة عالمية، وأصبحت الروح العملية اليهودية هي الروح العمليةللشعوب المسيحية.

ويمكن القول بأن ماركس كان لا يفرِّق بين كلمة «يهودي» و«تاجر»، ومن ثم نجده يقرن بشكل ضمني بين "اليهودي" من جهة و"التاجر" و"البروتستانتي" من جهة أخرى وبين "اليهودية" من جهة و"المتاجرة" و"المنفعةالعملية" و"الأنانية" من جهة أخرى. فهو يقول: "التبادل التجاري هو الإله الحقيقيلليهود وأمامه لا ينبغي أن يعيش أي إله آخر" - "المال هو إله إسرائيل الطماع ولاإله سواه" - "لقد أصبح المسيحيون يهوداً" أي بورجوازيين. وتاريخ التحوُّل التدريجيللمجتمـعات الغربية وهـيمنة العـلاقات البورجوازية التعاقدية هو في واقع الأمرتاريخ التهويد التدريجي لأوربا، وهو أيضاً تاريخ علمنة إله إسرائيل وتحويله إلى إلهالعالم، فالبنكنوت (الرب العملي لإسرائيل) أصبح رب العالم الغربي الرأسمالي. وهذاالترابط العضوي بين اليهودية والبورجوازية هو الذي أدَّى إلى ظهور قومية اليهودالوهمية وقومية التاجر وقومية رجل المال (وربما كانت هذه الملاحظات هي أساس مفهومأبراهام ليون عن الطبقة/الأمة). ومن ثم "لن يُحرِّر المجتمع نفسه إلا بتحرُّره منالمتاجرة والمال، وبالتالي من اليهودية الواقعية"، وحين "ينجح المجتمع في إلغاءالجوهر العملي لليهودية، [أي] المتاجرة وشروطها، عندئذ يصبح وجود اليهوديمستحيلاً".

لقد حوَّل ماركس الكينونة اليهودية إلى وظيفة، ومن ثم يمكنناالحديث عن "التاجر" و"اليهودي" باعتباره «الإنسان الوظيفي». والسمات الأساسية لهذاالتاجر/اليهودي/الوظيفي هي أنه إنسان مجرد، يوجد خارج إطار العلاقات الأوليةالمُتعيِّنة، ويدخل في علاقة تعاقدية محايدة وباردة مع أعضاء المجتمع، وتم تعريفهفي إطار وظيفته أو دوره الوظيفي لا في إطار إنسانيته المُتعيِّنة، أي أنه إنسان ذوبُعد واحد، مُتشيِّئ، مُتسلِّع، لا قداسة له، يدور في إطار المرجعية النهائيةالمادية وفي إطار نموذج الطبيعة/المادة (وهذه هي السمات الأساسية لعضو الجماعةالوظيفية). ومن ثم، فإن تهويد المجتمع يعني في واقع الأمر تحويل كل أعضاء المجتمعإلى مادة بشرية تُوظَّف وتحوسل، وتعني سيادة النظم المعرفية والاقتصاديةالبورجوازية إحلال المجتمع التعاقـدي الذري المُفتَّت المبني على الأنانية (جيسيلشـافت) محل المجتمع العضوي المترابط التقليدي (جماينشافت).

وقد قامماركس بعملية التعميم الكاسحة هذه وهو واع لها تمام الوعي، ولذا فهو كان يتحدث عن «تهويد المجتمع» باعتباره مجازاً كاشفاً، وليس باعتباره حقيقة إمبريقية. فماركس لميكن يُفكر في اليهودي وإنما في الإنسان الوظيفي، أي الإنسان الذي يتوحَّد تماماً معوظيفته ويفقد إنسانيته وينظر للآخرين باعتبارهم وظيفة (مصدر ربح - مصدر متعة) فيفقدهم إنسانيتهم المركبة.

وماركس لا يختلف كثيراً عن كثير من المفكرينالاشتراكيين أو علماء الاجتماع الغربي. فألفونس توسينيل يُحذِّر قُراءه من أنهيستخدم كلمة «يهودي» لا بمعناها الشائع وإنما بمعنى «مصرفي» أو «مراب» أو «تاجر». ومن قبله تحدَّث شكسبير عن تاجر البندقية وهو يعني في واقع الأمر "يهودي البندقية". ويتحدثون في أدبيات علم الاجتماع الغربي عن الصينيين باعتبارهم "يهود جنوب شرقآسيا" واللبنانيين باعتبارهم "يهود أفريقيا"، وهكذا. كما يشيرون إلى "المهن والحرفاليهودية"، أي المهن والحرف التي عادةً ما يقوم بها أعضاء الجماعات اليهودية. وكلهذه الاستخدامات تبيِّن أن المعنيَّ هو «الإنسان الوظيفي» وليس «اليهودي»، ولكنيُطلَق عليه «اليهودي» من باب إطلاق الجزء على الكل.

ولتوضيح وجهة نظرنايمكن أن نضرب مثلاً عكسياً، أي حين يُطلَق على اليهودي اسماً غير اسمه، فيُلاحَظ أنكثيراً من المهاجرين العرب واليهـود إلى أمريكـا اللاتينية يضطلعون بدور الجماعةالوظيفية، ولكن بدلاً من أن يُطلَق على العربي عضو الجماعة الوظيفية كلمة «يهودي» يحدث العكس إذ يُطلَق على كل من اليهود والعرب - كجماعة وظيفية - لفظة «لوس توركوس los turquos» الإسبانية، أي «الأتراك». ويُسمَّى تجار بعض دول شرق أوربا (بغض النظرعن انتمائهم الإثني الفعلي) «اليونانيون» أو «الأرمن». ونحن هنا أمام أربعة دوال أوأسماء مختلفة (يهودي - تركي - يوناني - أرمني) تشير إلى مدلول أو مُسمَّى واحد وهوعضو الجماعة الوظيفية المالية أو «الإنسان الوظيفي». ولذا، قد يكون من الواجب أننضع في اعتبارنا أننا حينما نتحدث عن «الوظائف اليهودية» فإننا في واقع الأمر نتحدثعن وظيفة قد يقوم بها اليهودي في مكان وزمان ما، ولكن قد يقوم بها شخص آخر في مكانوزمان آخر. فالوظيفة (وسماتها) يجب أن تكون المقولة التحليلية لا الجوهر اليهودي أوالشخصية اليهودية. وفي هذه الحالة، فإننا سندرك الواقع بطريقة أكثر تركيبية وحركية،إذ أننا لن نبحث طوال الوقت عن اليهودي الجوهري أو اليهودي الخالص (ذي الأنفالمعقوف والظهر المحدودب الذي يرتبط بوظائف طفيلية أو مشينة، حامل الأفكارالعلمانية الشاملة الذي يفكك نسيج المجتمع لأنه لا ولاء له، يقضي سحابة ليله فيقراءة البروتوكولات ويقضي نهاره في تنفيذ خططه الشيطانية التي تعلمها في الليل) فمنالأجدى لنا أن نبحث عن «اليهودي الوظيفي» أو بالأحرى «الإنسان الوظيفي» الذي يضطلعبالدور الوظيفي ويتسم بصفات عضو الجماعة الوظيفية فيدخل في علاقة تعاقدية باردة معالمجتمع ويُعرَّف في إطار دوره ووظيفته ويُعرِّف هو المجتمع في إطار المنفعة. وهذاالإنسان قد يكون يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً أو شخصاً لا ملة له ولادين.

وفي تَصوُّرنا أن النظام العالمي الجديد سيقوم بتحويل قطاعات عديدة فيالمجتمعات الإنسانية (نخب ثقافية وسياسية محلية - قيادات ثورية سابقة - قطاعاتاقتصادية) إلى جماعات وظيفية تعمل لصالحه، وذلك في محاولته تفكيك مجتمعاتنا بعد أنفشل في عملية المواجهة وبعد تزايد نفقات المواجهة العسكرية. وهذه النخب تقيم بينناوتتحدث لغتنا وترتدي زينا وتقيم الصلاة معنا في مواقيتها، وبعضهم مستمر في استخدامالخطاب الثوري أو الخطاب الديني، حتى بعد أن تحولوا إلى جماعة وظيفية تعمل لصالحالاسـتعمار الغـربي، أي حتى بعـد أن تم تهـويدهم (بالمعــنى الماركسي). ومما يَجدُرذكره أن بعض هذه العناصر التي تمت حوسلتها لصالح الاستعمار الغربي ستضطلع بالدورالوظيفي (اليهودي) المُوكَل لها، أحياناً عن وعي وأحياناً أخرى بدون وعي. ولذا، فإنالبحث عن اليهودي الجوهري هو بحث عنصري لا طائل من ورائه،ولا يؤدي إلا إلى عدمإدراك عملية التفكيك التي يضطلع بها اليهود الوظيفيون أو بالأحرى البشر الوظيفيونمن أبناء العرب والإســلام.ولهـذا، فإن الأجدى هو أن نبحث عن الإنسان الوظيفي.

وقد ساهم وضع الجماعات اليهودية كجماعات وظيفية في المجتمعات الغربية فيتوليد الصور الإدراكية النمطية التي تُشكِّل أساس معاداة اليهود في الغرب. فعداءكثير من الناس لليهود واليهودية هو في جوهره عداء للعلمانية الشاملة (المادية - الطبيعية - العدمية) ولوظيفيتها التي تحـوِّل العالم (الإنسـان والطبيعة) إلى مادةاسـتعمالية ولا تكـترث بقيم أو مطلقات، ولا تعرف سوى قانون مادي واحد، يدور حولثنائية بسيطة: العرض والطلب، والربح والخسارة، والقوة والضعف، والذكاء والغباء،والبقاء والهلاك. ولا تعرف غايات سوى مراكمة الثروة وتحقيق المتعة واللذة، دونتساؤل عن أي مضمون أخلاقي أو أي معنى كلي أو نهائي، أي أنه عداء للإنسان الوظيفيالذي يدخل في علاقة نفعية تعاقدية مع المجتمع ولا يعرف التراحم ولا يعرف سوى وظيفتهولا يحترم حرمات أو محرمات، والذي يؤدي وجوده في أي مجتمع إلى تفتُّت النسيجالمجتمعي وتآكُل القيم.

كان ماركس - كما أسلفنا - يُسمِّي الإنسان الوظيفي «اليهودي»، ويُسمِّي عملية الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعيالرأسمالي عملية «تهويد». ولكن ماركس كان يفعل ذلك مدركاً الطبيعة المجازيةلاستخدامه، فهو كان يعرف الطبيعة الاجتماعية العامة لهذه العملية الانقلابية. ولكنالوجدان الشعبي غير قادر على إدراك ترابط الظواهر الاجتماعية، ولذا فهو يُركِّز علىالعناصر المباشرة الواضحة. وأكثر العناصر وظيفية ورواد الوظيفية هم أعضاء الجماعةاليهودية (فهو عنصر تعاقدي - نفعي - غريب معتزل.. إلخ). ولذا فهم الجوهر الثابتوالعنصر الواضح والسبب المباشر لعملية التحوُّل المؤلمة. وكان كثيراً من أعضاءالجماعات اليهودية يضطلعون بدور الجماعة الوظيفية، ولكن لم يكونوا هم وحدهم الذينيضطلعون بهذا الدور. ومع هذا ارتبط الإنسان اليهودي بالإنسان الوظيفي في الوجدانالشعبي الغربي، بل وتم التوحيد بينهما بحيث أصبح الإنسان اليهودي هو الإنسانالوظيفي بامتياز. ومن خلال عملية التعميم والاختزال، تم استبعاد كل أعضاء الجماعاتالوظيفية غير اليهودية وتم إدراك كل اليهود باعتبارهم جماعة وظيفية بحيث أصبح كليهودي إنساناً وظيفياً وأصبح كل إنسان وظيفي يهودي، إلى أن أصبح الإنسان اليهوديوحده، دون غيره من البشر، الإنسان الوظيفي.

ولذا بدلاً من إدراك ظواهر مثلتآكُل القيم وتزايُد الاغتراب وسيادة العلاقات التعاقدية وانتشار الإباحيةباعتبارها نتاج عملية اجتماعية انقلابية كبرى. وبدلاً من إدراك أن الإنسان الوظيفيهو ذاته الإنسان العلماني (الشامل) والإنسان الطبيعي/المادي الذي لا انتماء ديني أوإثني له وأن هذا الإنسان ليس ثمرة مؤامرة يهودية وإنما نتيجة عمليات اجتماعية لايتحكم فيها اليهود، فهم جزء صغير من كل أكبر، بدلاً من كل هذا تم التركيز علىاليهودي وحده دون بقية أعضاء المجتمع باعتباره مسئولاً عما يحدث من تفتُّت مجتمعيوإباحية وانتقال من التراحم إلى التعاقد. وأصبح اليهودي هو وحده المسئول عن كلالشرور من انحلال وتفسخ وتشيئ وتآكُل مؤسسات الأسرة وغيرها من المؤسسات الوسيطةالتي تحمي الفرد، وزاد الحديث عن «الجوهر اليهودي» و«الخطر اليهودي» و«الثورةاليهودية» وغيرها.

والنموذج التفسـيري المركب الذي نطرحه يدور حول ما نسميه «الإنسـان الوظيفي» الذي يمكن أن يكون يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً، أوبدون ذمة ولا دين، مادام يدخل في علاقة تعاقدية نفعية باردة مع المجتمع ويُعرَّف فيإطار دوره ووظيفته ويضطلع بالوظائف التي يُفترَض أن اليهودي يضطلع بها. ولذا قديكون من الأدق والأشمل تحليلياً أن نتحدث عن وظيفة ما، قد يقوم بها اليهـودي (فيمكان ما)، وقد يقـوم بها شـخص آخـر (في مكان آخر). فالوظيفة، لا الجوهر اليهودي، هيالتي يجب أن تكون المقولة التحليلية.

وقد استخدمت سوزان هاندلمان تعبير «يهودي» بنفس طريقة ماركس ولكن في سياق جديد. فهي تذهب إلى أن المثقف اليهودي بسببوضعه داخل الحضارة الغربية (طرد وتشتيت ونفي) أصبح عنصراً من عناصر الاستنارةالمظلمة والتفكيك. فوجَّه كل طاقته، في بداية الأمر، نحو تفكيك وتقويض الشريعةاليهودية ثم توجَّه إلى ثوابت الحضارة الغربية نفسها يحاول تقويضها وتفكيكها.

ولكن المثقف اليهودي الذي يقوم بالتفكيك يدَّعي أنه يقوم بالتفسير وحسب،ولكنه في واقع الأمر يقوم بما سمته سوزان هاندلمان «الهرمنيوطيقا المهرطقة»، ذاتالطابع التفكيكي العدمي.
وتضيف سوزان هاندلمان أن أي مثقف يقوم بعمليةتفسير تهدف إلى تقويض وتفكيك كتب حضارته المقدَّسة، وفي نهاية الأمر كل مقدَّساتهاوثوابتها، هو يهودي بالمعنى الوظيفي.

العرْق اليهودي
Jewish Race
«العرْق» هو جملة السمات البيولوجية (مثل حجم الجمجمة ولون الجلد أو العيون أوالشعر... إلخ) التي يُفترَض وجودها في جماعة بشرية وتَميُّزها بشكل حتمي (بيولوجي) عن غيرها من الجماعات. وكلمة «عرْق» ترادف أحياناً كلمة «سلالة» أو «جنس» أو «دم». وهناك تقسيمات عدّة للسلالات أو الأعراق أو الأجناس البشرية المختلفة أو الدماءالتي تجري في عروقها.

وهناك اتجاه صهيوني يؤمن بأن ثمة عرْقاً يهودياًمستقلاً، وأن أساس الهوية اليهودية والشخصية اليهودية هو الانتماء العرْقي. ولعلالمفكر الصهيوني موسى هس (1812 ـ 1875) مؤسِّس الفكرة الصهيونية (في ديباجتهاالاشتراكية) هو أول من طرح تعريفاً لليهود على أساس بيولوجي أو عنصري حين ذكر أنالعرْق اليهودي من الأعراق الرئيسة في الجنس البشري، وأن هذا العرْق حافظ على وحدتهرغم التأثيرات المناخية فيه، فحافظت اليهودية على نقاوتها عبر العصور. وقد تنبأ هذاالمفكر الصهيوني بأن الصراع بين الأجناس سيكون أهم الصراعات، وأسهم في المحاولةالرامية إلى التمييز بين العنصرين الآري والسامي، وهو التمييز الذي قُدِّر له أنيكون بعد عدة سنوات أحد المفاهيم الأساسية التي تبناها مُنظِّرو الفكر العنصريالأوربي. وقد داعبت هرتزل فكرة الهوية العرْقية، فترة من الزمن على الأقل فاستخدمعبارات مثل «الجنس اليهودي» أو «النهوض بالجنس اليهودي»، كما أنه كان يفكر في تمييزاليهود عن غيرهم على أساس بيولوجي. وعندما قام هرتزل بأول زيارة له إلى معبد يهوديفي باريس، كان أكثر ما أثار دهشـته التشـابـه العرْقي الذي تصوَّر وجوده بين يهودفيينا ويهود باريس: « الأنوف المعقوفة المُشوَّهـة، والعيون الماكرة التي تسترقالنظـر ». كما يقول ماكس نوردو الذي يُعَدُّ واحداً من أهم مفكري العنصرية الغربية (حتى قبل تَحوُّله إلى الصهيونية)، في لغة لا تقبل الشك وتخلو تماماً من الإبهام، « إن اليهودية ليست مسألة دين وإنما هي مسألة عرْق وحسب ».

ولا يخرج مارتنبوبر في تعريفه لليهودي عن هذا الإطار، رغم استخدامه مصطلحه الحلولي الكموني العضويلنقل فكرته، فقد تحدَّث عن: « أزلية الأجيال كجماعة يربطها الدم. فالدم قوةمُتجذِّرة في الفرد تغذيه، والدم هو الذي يحدد المستويات العميقة لوجودنا، ويصبغصميم وجودنا وإرادتنا بلونه. والعالم من حوله إن هو إلا آثار وانطباعات، بينما الدمهو عالم الجوهر ». ونظراً لأن الدم الذي يجري في عروق اليهود يربطهم بالتربة، فقدكان بوبر يشير إلى اليهود باعتبارهم آسيويين « لأنهم إذا كانوا قد طُردوا منفلسطين، فإن فلسطين لم تُطْرَد منهم».

ويبدو أن مسألة الدم هذه لم تكنشائعة في صفوف الفلاسفة والصهاينة المتأثرين بالتراث الألماني وحسب، بل كانت شائعةفي صفوف الصهاينة الأنجلو ساكسون أيضاً. فقد ادَّعى الزعيم الصهيوني نورمانبنتويتش، في حديث أدلى به في عام 1909، أن اليهودي لا يمكن أن يكـون مواطناًإنجليـزياً كاملاً مثل هـؤلاء الإنجليز الذين وُلـدوا « لأبوين إنجليزيين وانحدروامن أسلاف خلطوا دماءهم بالإنجليز لأجيال كثيرة ». وعرَّف الأمريكي لويس برانديزاليهودية، في خطاب ألقاه في عام 1915، بأنها « مسألة تتعلق بالدم ». وذكر أن هذهالحقيقة لقيت قبولاً من جانب غير اليهود الذين يضطهدون اليهود، ومن جانب اليهودالذين يُحسِّون بالفخر «عندما يُبدي إخوانهم من ذوي الدم اليهودي تفوقاً أخلاقياًأو ثقافياً أو عبقرية أو موهبة خاصة، حتى إذا كان هؤلاء النابهون قد تخلوا عنالإيمان بالدين، مثل إسبينوزا أو ماركس أو دزرائيلي أو هايني».

ويبدو أنالصهاينة حاولوا، على طريقة المفكرين العنصريين في الغرب، أن يُثبتوا أنهم عرْقمستقل بطريقة « علمية » وليس فقط على طريقة بوبر الفلسفية. ولذا، فإننا نجد فيصفوفهم كثيراً من «العلماء » المهتمين بهذه القضية. وقد أشار عالم الاجتماعالصهيوني آرثر روبين إلى "الكتابات المتعلقة بقضية الجنس اليهودي" وأورد في كتابهاليهود في الوقت الحاضر أسماء كثير من «المراجع القيمة» في ذلك الموضوع. ومن بينالأسماء التي يذكرها اسم عالم صيهوني هو إغناتز زولتشان (1877 ـ 1948) الذي وصفاليهود بأنهم « أمة من الدم الخالص لا تشوبها أمراض التطرف أو الانحلال الخلقي ». وقدَّم روبين نفسه تعريفاً عرْقياً لليهود بيَّن فيه أنهم «استوعبوا عناصر عرْقيةأجنبية بدرجة محدودة، ولكنهم في أغلبيتهم يمثلون جنساً متميِّزاً، على عكس ما هوسائد في دول وسط أوربا».

وكان اللورد بلفور، الصهيوني غير اليهودي، يفكرفي اليهود على أساس عرْقي، وربما كان من المهم هنا أن نتذكر أن إحدى المسوداتالأولى لوعد بلفور كانت تدعو إلى إقامة « وطن قومي للجنس اليهودي »، وهي جملة تحملفي طياتها تعريفاً بيولوجياً واضحاً للهوية اليهودية.

ثمة، إذن، إجماعصهيوني على التعريف العرْقي لليهودي. وهو أمر متوقع ومفهوم، فقد كانت الصهيونيةتبحث عن الشرعية من أوربا لا من اليهودية، ولذا كان علىها أن تصبح عرْقاً مستقلاًلأن العرْق المستقل وحده هو الذي من حقه أن تكون له دولة مستقلة (حسب الإطارالمعرفي السائد في أوربا العلمانية). ولكن من الواضح أن تعريف اليهودي كعضو في عرْقمستقل أمر مغرق في الخيال والوهم، إذ يدحض واقع الأقليات اليهودية بسهولة مثل هذهالأساطير. وكان على الصهاينة بالذات أن يتعاملوا لسوء حظهم مع يهود بيض ويهود سودوبضعة يهود صفر إلى جانب الكثير من الظلال اللونية. وكما أشرنا من قبل، فقد كانهرتزل معجباً بالنظرية العرْقية، ولكنه كان صديقاً لإسرائيل زانجويل (1864 ـ 1926) الروائي الإنجليزي والزعيم الصهيوني اليهودي ذي الأنف الطويل والشبيه بأنوف الزنوجوالشعر الكث الحالك السواد، وكانت نظرة واحدة إلىه تكفـي، على حدّ قول هرتزل نفسه،لدحض أي تصور عرْقي لليهــود.

وثمة سبب آخر لاختفاء التعريف العرْقي لليهوديرتبط بالمجال الدلالي لكلمة «عرْق»، إذ أنه بحلول الثلاثينيات كانت الحياة فيالغرب قد تحولت عن العنصرية التي فقدت إلى حدٍّ كبير ما كانت تحظى به من قبولوتأييد في الأوساط العلمية. وكما يقول الزعيم الصهيوني ناحومسوكولوف: بعد أن عشناعصراً أصبحت فيه كلمة «عنصر» أو «عرْق» معادلة للقسوة والبربرية، فإن معظم الناسينفرون من استخدام هذا المصطلح . ويُضاف إلى هذا أن علم الأجناس قد أظهر أن هذاالمصطلح لا يمكن أن يُطبَّق حقاً على اليهود، وذلك رغم أنه كان من المعتاد تماماًالإشارة إلى اليهود في عصر ما قبل هتلر على أنهم «جنس»، وكان الكثيرون يعتقدون أنيهودية المرء مسألة تتعلق بمولده وسماته.

ولذا، كان لابد من العدول عناستخدام كلمة «عرْق». وبـدلاً من ذلك، بدأ تعريف اليهودي على أساس إثني، أي علىأساس التراث والثقافة المشتركة، ومن ثم حلت الإثنية محل العرْقية كنقطة مرجعيةوكأساس للهوية. لكن التعريف الإثني لا يختلف في جوهره عن التعريف العرْقي، فكلاهمايفرز نظرية في الحقوق (العرْقية أو الإثنية) تعطي صاحب الهوية العرْقية أو الإثنيةمزايا معينة وقوة مطلقة تنكرها على غيره من البشر. (انظر الباب المعنون «ثقافاتأعضاء الجماعات اليهودية [تعريف وإشكالية]»).

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-20-2013, 12:54 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

البابالثانى: إشكالية الوحدة اليهودية والنفوذ اليهودي


الوحدة اليهودية
Jewish Unity
«الوحدة اليهودية» عبارة تفترض أن ثمة وحدة تربط بين أعضاء الجماعات اليهودية كافة في كل زمان ومكان، وأن هذه الوحدة تتمثل في وحدة الهوية والشـخصية والسـلوك، وفي أشـكال مختلفة من التضامن، وفي نهاية الأمر في القومية اليهودية وفي الشعب اليهودي الواحد ذي الهوية الواحدة المستمرة وكذلك في التاريخ اليهودي الواحد. ويذهب البعض إلى القول بوجود عرْق يهودي واحد. وينتهي هذا الافتراض إلى أن اليهود حافظوا على هذه الوحدة منذ خروجهم من مصر الفرعونية حتى يومنا هذا. وقد فُسِّر مصدر هذه الوحدة تفسيرات عدة، فالصهاينة الدينيون يرون أن مصدر الوحدة هو حلول الروح الإلهية أو الشخيناه وكمونها في الشعب اليهودي، فهي تَقطُن وسطهم، وهي التي تُحوِّلهم إلى شعب من الكهنة والقديسين، بينما يرى الصهاينة اللادينيون أن مصدر وحدة اليهود هو الجوهر اليهودي الكامن في كل اليهود، أو هو نزعة معاداة اليهود في مجتمعات الأغيار، أو تَميُّز اليهود وظيفياً واضطرارهم إلى الاضطلاع بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة وبالأعمال التجارية والربوية. ويميل الخطاب الصهيوني في الوقت الحاضر إلى تأكيد أن هذه الوحدة هي تعبير عن تَطلُّع قومي في حالة اللادينيين، وعن تَطلُّع قومي ديني في حالة الدينيين.

ولكن النموذج الصهيوني الاختزالي يختلف عن بنية الواقع التاريخي المُركَّب المتعيِّن لأعضاء الجماعات اليهودية، وهو واقع لا يتسم بالوحدة. فمن الناحية الدينية، تأخذ اليهودية شكل تكوين جيولوجي تراكمي غير متجانس تتعايش فيه العناصر المختلفة جنباً إلى جنب أحياناًً وتتفجر أحياناًً أخرى. وقد حدثت تَفجُّرات وانقسامات كثيرة من البداية، من أهمها ما كان يحدث داخل المملكتين العبرانيتين (المملكة الشمالية والمملكـة الجنوبية) من صراع بين عبادة يهوه وعبادة بعل، وصراع بين عبادة مملكة الشمال وعبادة مملكة الجنوب. وعند عودة بعض اليهود من بابل إلى فلسطين، حدث انقسام حاد بينهم وبين اليهود المقيمين الذين جاء منهم فريق السامريين. وقد انقسم اليهود دينياً بعد ذلك إلى صدوقيين وفريسـيين وأسـينيين، ثم ظهر الاحتجاج القرّائي على اليهودية الحاخامية، كما ظهرت الحركات المشيحانية المختلفة (وآخرها الحركة الحسيدية)، وهي حركات احتجاج ضد المؤسسة الحاخامية تنفي مفهوم الوحدة تماماًً. كما انفصلت بعض الجماعات اليهودية مثل الفلاشاه ويهود الهند عن اليهودية الحاخامية، وأصبح لها صيغ يهودية مختلفة جوهرياً عن الصيغة الحاخامية. وفي العصر الحديث، انقسمت اليهودية إلى فرق: اليهودية الإصلاحية، واليهودية المحافظة، واليهودية التجديدية، واليهودية الأرثوذكسية، واليهودية الأرثوذكسية الجديدة. وهناك، بطبيعة الحال، الانقسام بين الإشكناز والسفارد على المستوى الديني. وكثير من هذه الفرق قد تُكفِّر بعضها البعض وقد تجد أن الانقسام من الحدة بحيث تُقاطع الواحدة منها الأخرى، وهو ما يجعل الحـديث عن الوحـدة اليهودية أمراً صعباً. ومما زاد من تعميق هذا التفتت، غياب سلطة مركزية يهودية جماعية، دينية أو دنيوية، تُحدِّد المعايير لأعضاء الجماعات اليهودية.

والخاصية الجيولوجية التراكمية نفسها تسم أعضاء الجماعات اليهودية وهوياتهم المختلفة. فحتى قبل دخول العبرانيين إلى مصر، يُحدِّثنا العهد القديم عن الخلاف بين يوسف وأعضاء أسرته. كما أن القبائل العبرانية تشترك جميعها في الثورة ضد الفلستيين وأعداء العبرانيين الآخرين إبَّان حكم القضاة. وقد اندلعت الثورات الأهلية داخل مملكـة داود وسـليمان، ووصل التوتر إلى درجة عالية داخل المملكة المتحدة، فانحلت بعد موت سـليمان وانقسـمت إلى مملكتين تتصارعان معاً. واستعانت المملكة الجنوبية بآشور ضد المملكة الشمالية، الأمر الذي أدَّى إلى تَدخُّل هذه القوة العظمى، فقامت بتدمير المملكة الشمالية تماماًً وتهجير نخبتها الحاكمة.

وقد حقق اليهود قدراً من الوحدة والاستقرار حينما سيطرت الدولة الفارسية على الشرق الأدنى القديم، حيث كانت كل التجمعات اليهودية تحت هيمنتها. وقد انتهت هذه الوحدة المؤقتة بانحسار نفوذ هذه الإمبراطورية بعد غزو الإسكندر لكلٍّ من مصر وسوريا وفلسطين وغيرها من المناطق. وقد كانت الخصومات بين بعض قطاعات اليهود تتطور إلى حروب أهلية طاحنة يقتتل فيها اليهود ويتعرضون للإبادة الجسدية على أيدي بعضهم البعض كما حدث في العام الرابع الميلادي في عهد أرخيلاوس ابن هيرود الذي أباد ثلاثة آلاف يهودي، أو كما حدث في تَمرُّد عام 70م حين قتل المتطرفون من اليهود اثنى عشر ألف يهودي من الأثرياء. وقد كان هناك، إلى جانب تيتوس، جيش يهودي تحت قيادة أجريبا الثاني يحارب ضد المتمردين اليهود. وفي العصور الوسطى، كان لسكان أي جيتو في أوربا حق تحريم استيطان اليهود الآخرين فيه (حيرىم هايشوف)، وهو حق كانت تمارسه كل الجيتوات. وكان الصراع بين أعضاء الجماعات اليهودية واضحاً في أوربا في القرن السابع عشر. أما في الدولة العثمانية، فكان لكل مجموعة يهودية معبدها اليهودي وحاخامها الخاص، وكانت كل مجموعة يهودية تستعدي السلطة على المجموعة الأخرى. وعندما هاجر يهود اليديشية إلى الولايات المتحدة، ناصبهم اليهود ذوو الأصل الألماني العداء. وكان هؤلاء قد لاقوا رفضاً من جانب اليهود السفارد الذين سبقوهم. غير أن الولايات المتحدة قامت بصهرهم ضمن من صهرتهم من مهاجرين، فحققوا شيئاً من الوحدة والتماسك لا بوصفهم يهوداً بشكل عام وإنما بوصفهم يهوداً أمريكيين تحولوا بالتدريج إلى أمريكيين يهود.

وقد تكررت الظاهرة في أمريكا اللاتينية. ولكن نظراً لأن الحضارة الكاثوليكية هناك لم تقم بصهر أعضاء الجماعات اليهودية الذين هاجروا إلىها، فقد احتفظوا بخاصية عدم التجانس، وقامت كل جماعة يهودية تنتمي إلى هذا البلد أو ذاك بتنظيم نفسها بشكل مستقل. فنجد أن المكسيك تضم عشرات التنظيمات اليهودية، من بينها تنظيمان ليهود سوريا: واحد للدمشقيين والآخر للحلبيين. والمعركة الدائرة بين اليهود الأرثوذكس واليهود غير الأرثوذكس حول تعريف اليهودي، داخل وخارج إسرائيل، أصبحت معركة أساسية تفوق في أهميتها الصراع بين الإشكناز والسفارد.

ويمكننا أن نقول إن أعضاء الجماعات اليهودية لم يحققوا وحدة عامة شاملة إلا حينما كانوا جماعة عرْقية أو إثنية دينية متماسكة (عبرانيين). ولكنهم، حتى في تلك الآونة، كانت تُمزِّقهم الخلافات السياسية، وأحياناًً الثقافية والدينية. ومع انتشار الجماعات اليهودية، لم تَعُد الخلافات مجرد خلافات سياسية، وإنما أصبحت خلافات حضارية قومية عميقة. وقد حققت بعض الجماعات اليهودية وحدة «قومية» داخل التشكيلات الحضارية المختلفة، كما حدث ليهود شرق أوربا من يهود اليديشية، ويهود الولايات المتحدة. ولكن أية وحدة بين هؤلاء هي وحدة يتمتعون بها داخل التشكيل القومي الذي ينتمون إلىه، ومن خلاله وبسـببه، لا من خارجه ورغماً عنه. كما أنها، من ناحية أخـرى، لا ترقى ألبتة إلى مستوى الوحدة اليهودية العالمية الشاملة.

وقد تمتع أعضاء الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية، منذ العصور الوسطى، بشكل من أشكال الوحدة، وذلك من خلال علاقاتهم كجماعات وظيفية وسيطة تشكل ما يشبه النظام الائتماني العالمي ومن مصلحتهم الحفاظ على هذه العلاقات. ورغم أنها بدت كما لو كانت وحدة قومية، فقد كانت علاقات مالية فحسب، إذ أن كل جماعة وظيفية يهودية كانت مرتبطة، في نهاية الأمر، بالمجتمع الذي تنتـمي إلىـه وتتفاعـل معـه وتستمد هويتها منه. ولكن الصهاينة يؤكدون، مع هذا، أن هناك وحدة أزلية لليهود، ويَخلُصون من هذا إلى أن الدولة الصهيونية في فلسطين أمر منطقي بل وحتمي.

الاســتقلال اليهــودي
Jewish Independence
«الاستقلال اليهودي» عبارة تفترض أن لليهود شخصيتهم اليهودية المستقلة وتاريخهم اليهودي المستقل عن تواريخ الأغيار. وتشير الأدبيات الصهيونية إلى مؤسسات الإدارة الذاتية، مثل القهال ومجلس البلاد الأربعة، باعتبارها مؤسسات الحكم الذاتي، كما تشير إلى اللهجات التي يتحدث بها أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارها لغات اليهود. وتستند كل من العقيدة الصهيونية ونزعة معاداة اليهود إلى المفهوم الواحد نفسه، فيتحدث أعداء اليهود عن حب اليهود للعزلة ورفضهم الاندماج وتفضيلهم الجيتو على الحياة مع الأغيار، بل ويتحدثون عن سمات جوهرية داخل الطبيعة البشرية اليهودية تجعلهم مستقلين عن باقي البشر ومختلفين عنهم. ومن المفارقات أن القبَّالاه اللوريانية تذهب إلى درجة من التطرف حيث تطرح تصوراً لليهود باعتبارهم قد خُلقوا من عجينة مغايرة لتلك التي خُلق منها الأغيار، وهذا يتناقض مع قصة الخلق في العهد القديم.

وغني عن القول أنه لا يوجد استقلال يهودي، إذ تدل القرائن التاريخية على أن أعضاء الجماعات اليهودية اندمجوا وانصهروا في مجتمعاتهم، وأن ما يتمتع به أعضاء الجماعات اليهودية من استقلال أو انفصال نسبي عن مجتمع الأغلبية لا يختلف بأية حال عما يتمتع به أعضاء أية أقلية دينية أو إثنية في أي مجتــمع، وخصــوصاً في المجتمعات التقليــدية. ويعود شيــوع مفهــوم مثل مفهــوم اســتقلال اليهــود إلى اضطــلاع أعضــاء الجماعات اليهودية في كثير من المجتمعات، خصوصاً في العالم الغربي، بوظيفة الجماعة الوظيفــية التـي يعيــش أعضـاؤها في عزلــة عن بقــية أعضاء المجتمع.

ونحن نرى أن استخدام مصطلح كمصطلح «اليهود» يؤكد مثل هذا الاستقلال، وقد يشي بدرجة من الوحدة والتجانس لم يتمتع بهما اليهود قط. ولذا، فإننا نؤثر استخدام مصطلح مثل «الجماعات اليهودية» لأنه يؤكد التنوع وعدم التجانس والانفصال ولا ينفي في الوقت نفسه ذلك القدر من الوحدة والتجانس.

الوعــــي اليهــــودي
Jewish Consciousness
«الوعي اليهودي» عبارة تفترض أن ثمة هوية يهودية محدَّدة وشخصية يهودية لها خصوصية يهودية وتاريخاً وتراثاً مستقلين عن تاريخ وتراث الشعوب، بل و تفترض أن ثمة جوهراً يهودياً وطبيعة يهودية. ويرى المعادون لأعضاء الجماعات اليهودية أن اليهود يتمتعون بوعي عميق لخصائصهم اليهودية هذه، وأن هذا الوعي يتبدى في دفاعهم عن مصالحهم اليهودية، وفي انعزالهم داخل الجيتو، وفي نهاية الأمر في المؤامرة اليهودية الكبرى (وهي المؤامرة التي يقول البعض إن اليهود يحيكونها ضد الأغيار في كل زمان ومكان). ومثل هذه النظرة تتجاهل عدم تجانس الجماعات اليهودية، وخاصيتها الأساسية كتركيبة جيولوجية، وانفصالها الواحدة عن الأخرى عبر التاريخ. كما تتجاهل الصراعات الحادة التي نشبت بين هذه الجماعات، لا بسبب اختلاف المصالح وحسب وإنما بسبب اختلاف الهوية والرؤية. وفي الحقيقة، فإن الصراع بين السفارد والإشكناز، ذلك الصراع الممتد منذ القرن السابع عشر حتى الوقت الحاضر، هو تعبير عن هذا الاختلاف الذي يجعل من مقولة الوعي اليهودي الواحد أمراً محالاً.

لكن الصهيونية تؤمن بأن اليهود شعب واحد، ومن ثم فلابد أن يُقوَّى الوعي اليهودي للمحافظة على وحدة هذا الشعب وعلى هويته. ومن المفارقات أنه، بعد إنشاء الدولة الصهيونية، اتضح تهافت ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» وانقسامها إلى عشرات الهويات، كما اتضح أن أبناء المستوطنين الصهاينة من جيل الصابرا لهم هوية جديدة مختلفة عن هوية أعضاء الجماعات الموجودين في العالم، بل ويُكِّن الكثير منهم الاحتقار ليهود المنفى، أي معظم يهود العالم. ومن ثم، فقد أُدخلت مادة الوعي اليهودي في مقررات الدراسة في المدارس الإسرائيلية.

ويؤكد المقرر الجوانب الإيجابية لوجود اليهود على هيئة جماعات منتشرة في العالم، ويمجِّد إنجازاتهم الحضارية، وهو ما يعطي صورة إيجابية لحياتهم في المنفى، أي في أنحاء العالم خارج فلسطين. ولكن هذا التمجيد يتنافى مع العقيدة الصهيونية التي تصدر عن الإيمان بأن حياة اليهود خارج فلسطين إن هي إلا انحراف عما يُسمَّى «التاريخ اليهودي». ومن ثم، فإن مثل هذه الرؤية لا تزيد ألبتة من الوعي اليهودي الأحادي. ولكن، إن تم التركيز على الجوانب السلبية وحدها، وُصوِّر تاريخ الجماعات على أنه تاريخ هجمات ومذابح، كما تفعل بعض كتب التاريخ الصهيونية (وهو ما سميناه «التأريخ من خلال الكوارث»)، فإن هذا سيقلل من احترام الأجيال الصاعدة ليهود العالم، وبالتالي سيقوض دعائم الوعي اليهودي. ولذا، فإن هناك اتجاهاً الآن للتأكيـد على عنصر المقاومة بين يهـود المنفى. واليهود، حسـب هذه الرؤية، كانوا دائماً معرضين للاندماج، ولكنهم تصدوا له فأبدعوا وأبقوا على جوهرهم اليهودي. وعندما تعرضوا للمذابح، ثاروا ضد من قاموا بذبحهم، ومن هنا التأكيد على أهمية التمرد الحشموني والأحداث المماثلة في التاريخ اليهودي مثل: التمرد اليهودي الأول، والتمرد اليهودي الثاني ضد الرومان، وتمرد جيتو وارسو. بل ويصبح تاريخ الصهيونية هو تاريخ هذا الوعي اليهودي وتاريخ تلك المقاومة المستمرة. ويشكو اليهود السفارد والشرقيون من أن مادة الوعي اليهودي تركز على إسهامات اليهود الإشكناز وحدهم ولا تؤكد على إسهاماتهم الحضارية.

عـدم الانتماء اليهـودي
Jewish Rootlessness
«عدم الانتماء اليهودي» عبارة تفترض وجود انتماء يهودي مستقل للجماعة اليهودية يتبدَّى في شكل ولاء كامل للشعب اليهودي وعدم انتماء للشعوب أو الأوطان الأخرى. ونحن نرى أنه إن كان ثمة انتماء يهودي فهو انتماء إلى العقيدة أو العقائد اليهودية، إذ لا يوجد تراث أو ماضٍ يهودي مشترك، فماضي أو تاريخ كل جماعة يهودية هو ماض أو تاريخ المجتمع الذي توجد فيه.

ومن الإشكاليات الأساسية التي تُثار في الأدبيات الغربية (اليهودية وغير اليهودية) إشكالية الانتماء اليهودي. وقد طُرح السؤال منذ البداية كما يلي: هل ينتمي اليهودي إلى الجنس البشري ككل أم إلى الشعب اليهودي المختار أو (المقدَّس)؟ وهل الخالق هو إله اليهود وحدهم (كما يتصور بعض اليهود) أم إله العالمين؟ والإجابة القاطعة عن هذا السؤال داخل النسق الديني اليهودي غير ممكنة؛ فهناك من القرائن ما يؤيد النزعة العالمية والانتماء إلى الجنس البشري، وهناك من القرائن ما يساند الرأي المناقض. ففي تراث القبَّالاه، أصبح التمييز بين الشعب اليهودي والأغيار حاداً إلى أقصى درجة، حتى أن القبَّاليين ذهبوا إلى أن اليهود قد خُلقوا من طينة مختلفة عن تلك التي خُلق منها بقية البشر وإلى أن الأغيار خُلقوا على شكل الإنسان حتى يمكنهم القيام بخدمة اليهود. وفي فكر الاستنارة، وفي اليهودية الإصلاحية، بل وفي التلمود ذاته، ما يناقض هذا الموقف، وذلك بالتأكيد على الانتماء الإنساني العالمي لليهود.

ولكن الانتماء اليهودي قضية ترتبط بالدور الذي لعبته الجماعات اليهودية في كثير من المجتمعات، خصوصاً المجتمعات الغربية، كجماعة وظيفية وسيطة. بيد أن أية جماعة وظيفية وسيطة داخل أي مجتمع لا تنتمي إليه، وإنما تنتمي عـاطفياً إلى الوطـن الأصلي (الوهمي أو الفعلـي)، كما تنتمي فعلياً إلى الطبقة الحاكمة فهي أداتها وسوط العذاب في يدها. وقد نَجَم عن ذلك الوضع ابتعاد الجماعة اليهودية عن الجماهير الشعبية وهامشيتها بالنسبة إلى الحركات الجماهيرية الكبرى. ويرى ماكس فيبر، على سبيل المثال، أن الرأسمالية اليهودية رأسمالية منبوذة لم تساهم في نمو الرأسمالية الرشيدة، كما أن الفكر الاشتراكي الغربي كان يرى أن انتماء اليهودي هو انتماء إلى رأسماله وحسب. وقد عبَّرنا عن هذه الإشكالية بمصطلح «الشعب العضوي المنبوذ».

والواقع أن قضية الانتماء طُرحت بحدة مع ظهور الدولة القومية المركزية التي حاولت توحيد السوق وتوحيد الأمة حسب نموذج ثقافي أحادي موحَّد يستبعد الجيوب القومية الإثنية الأخرى، ويتطلب انتماءً كاملاً من المواطن. وقد نجح كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في تحديد انتمائهم القومي بالاندماج في محيطهم الثقافي. ويرى الدارسون أن تَصاعُد معدلات العلمنة في العالم الغربي سيؤدي إلى ضعف الانتماء الديني للجماعات اليهودية، وهو أمر تساهم الصهيونية في خلقه طارحةً نفسها كعقيدة علمانية تحل محل العقيدة الدينية.
وقد أكد الصهاينة والنازيون عدم انتماء أعضاء الجماعات اليهودية إلى التشكيلات الحضارية أو القومية التي يتواجدون فيها مفترضين أن ثمة انتماءً يهودياً خالصاً. وأكد البرنامج السياسي الصهيوني وجود مثل هذا الانتماء. ولكن السلوك الفعلي ليهود أمريكـا، على سـبـيل المثال، يبين أنهـم ينتمون إلى وطـنهم الأمريكـي، ومن ثم لا يهـاجر منهم إلى إسـرائيل إلا نسـبة ضئيلة جداً. وكذلك، فإن انتماء يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً) كان انتماءً إلى مصالحهم الاقتصادية أو السياسية. ولذلك، فإنهم يحاولون الهجرة إلى الولايات المتحدة ولا يتوجهون إلى إسرائيل إلا عند الاضطرار. كما أن تَفجُّر قضية الهوية داخل إسرائيل يبين أن لليهود انتماءات مختلفة وليس انتماءً يهودياً واحداً. وترتبط قضية ازدواج الولاء بقضية الانتماء اليهودي، إذ أن من يؤمن بأن اليهود لا انتماء لهم لابد أن ينظر إلى اليهود بعين الشك ويرى أن ولاءهم لأوطانهم أمر مستحيل، أو يرى على الأقل حتمية ازدواج هذا الولاء، باعتبار أن ولاءهم اليهودي شيء راسخ متأصل.

ويحاول الصهاينة في الوقت الحاضر أن يُعرِّفوا انتماء اليهود تعريفاً جديداً يتفق مع واقعهم كجماعات تعيش خارج فلسطين وترفض الهجرة. ومن ثم، أصبح الانتماء السياسي والاقتصادي لليهودي إلى وطنه الفعلي، أما انتماؤه الديني والثقافي فلوطنه المثالي أو الوهمي، أي الدولة الصهيونية. وبهذا، لا تصبح الترجمة العملية للبرنامج الصهيوني الهجرة إلى فلسطين المحتلة وإنما تعميق الأبعاد اليهودية الإثنية للهوية، وهو ما يُسمَّى «صهيونية الدياسبورا» أو «الصهيونية الإثنية».

الـولاء اليهـودي المـزدوج
Jewish Double Loyality
«الولاء اليهودي المزدوج» مصطلح يستخدمه المعادون لليهود والصهاينة الذين ينطلقون من الإيمان بأن اليهود لا يدينون بالولاء إلا لوطنهم القومي ومصالحهم اليهودية، لأنهم لا جذور لهم في مجتمعاتهم ولا ينتمون إليها انتماءً حقيقياً، فاليهود شعب عضوي مرتبط بأرضه. لذلك فهم دائماً موزعو الولاء، يمارسون إحساساً عميقاً بازدواج الولاء.

وقد أكد الزعماء والمفكرون النازيون أثناء محاكمات نورمبرج، الواحد تلو الآخر، أنهم تَعرَّفوا إلى اليهود واليهودية والمسألة اليهودية من خلال الكتابات الصهيونية التي تتحدث عن عدم انتماء اليهود إلى أوطانهم الواقعية وعدم ولائهم لها. وتنطلق التشريعات النازية من هذا الفهم، ومن تَصوُّر أن اليهود لا ينتمون إلى الوطن القومي الألماني، إذ أن لكل شعب عضوي وطنه! وفي الوقت الحاضر، يشير أعداء اليهود إلى قرائن عدة تدل على عدم انتماء اليهود مثل كمية الأموال التي تُرسل إلى إسرائيل من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم وتحديد هذه الجماعات اليهودية لمواقفها السياسية بطريقة تتفق ومصالح إسرائيل، ووقوف كثير من المفكرين اليهود الليبراليين والثوريين ضد حرب فرنسا في الجزائر وحرب الولايات المتحدة في فيتنام في الوقت الذي يؤيدون فيه إسرائيل في حروبها العدوانية ضد العرب.

ولا يمكن الحديث عن ولاء يهودي محدد ومطلق، فولاء أعضاء الجماعات اليهودية يتحدد بحسـب مركب تاريخي طبقي إنسـاني أخلاقي، كما لا يمكن تحديد كيفية تصرف أعضاء الجماعات اليهودية مسبقاً، وكأنهم كائنات بسيطة تعيش بمعزل عن التاريخ الإنساني. وتدل تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية على أن ازدواج الولاء ليس سمة أساسية أو لصيقة بهم،وعلى أنهم في كثير من الأحيان أخلصوا لأوطانهم (التي يعيشون في كنفها) وانتموا إليها انتماءً كاملاً واندمجوا فيها، وتمثلوا قيمها واستبطنوها تماماً. ومنذ أيام التهجير البابلي،حيث ظهرت أول جماعة يهودية خارج فلسطين، طوَّرت الشريعة اليهودية مفهوم «شريعة الدولة هي الشريعة»، الأمر الذي يحدد ولاء أعضاء الجماعة بشكل صارم باعتبارهم جماعة بشرية لا تدين بالولاء إلا لقوانين الدولة التي يعيشون في كنفها. وقد التزم معظم أعضاء الجماعات اليهودية بهذا المفهوم عبر التاريخ الإنساني، شأنهم في هذا شأن كثير من البشر من أعضاء الأقليات والأغلبية. وعلى كل حال، لم يكن هناك احتمال لازدواج الولاء لعدم وجود حكومة أو دولة يهودية يدين لها اليهودي بالولاء. وبتحول أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعة وظيفية وسيطة داخل التشكيل الحضاري الغربي، منذ العصور الوسطى وحتى الثورة الفرنسية، توجه ولاء اليهودي إلى جماعته أساساً، ثم إلى الطبقة الحاكمة التي تحمي هذه الجماعة وتضمن بقاءها. وهذه سمة أساسية تسم مثل هذه الجماعات وليست مقصورة على الجماعات الوظيفية اليهودية، فنجد أن الصينيين في الفلبين، والعرب في بعض البلاد الأفريقية وإندونيسيا، يندرجون تحت هذا النمط. وعلى كلٍّ، لم تكن مفاهيم الوطن (والولاء القومي له) واضحة أو متبلورة حتى نهايات القرن الثامن عشر وظهور الفكر القومي.

وقد طُرحت قضية الولاء في عصر التنوير في أوربا، حينما وُصف اليهود بأنهم « دولة داخل دولة » بسبب خصوصيتهم وانعزاليتهم الحقيقية أو الوهمية، وقد طُلب إلى أعضاء الجماعات اليهودية، وكذلك إلى الأقليات الإثنية والدينية كافة، أن يدينوا بالولاء للدولة القومية وحدها وأن يرفضوا أية ولاءات أخرى. وبالفعل، كان اليهود من أكثر العناصر ترحيباً بهذه الدعوة، فاندمجوا في مجتمعاتهم بنسبة عالية كلما سنحت لهم الفرصة. ولم يُعرْقل هذه العملية سوى تَعثُّر التحديث سواء في روسيا أو في ألمانيا، وهي المجتمعات التي طرحت تصوراً عضوياً لفكرة الولاء.

وفي العصر الحديث، يشعر يهود الولايات المتحدة بالولاء العميق لبلدهم أمريكا، فهم ينتمون إليه انتماءً كاملاً ويحاربون ويموتون دفاعاً عنه، ومصيرهم مرتبط بمصيره. وحينما يشكك الدعاة الصهاينة في هذا الولاء، فإن أعضاء الجماعات اليهودية يثورون. ويتضح ولاؤهم أيضاً في رفضهم الهجرة إلى إسرائيل وفي اندماجهم في مجتمعاتهم. أما يهود جنوب أفريقيا، فهم لا يشعرون بالولاء تجاه وطنهم لأن وضعهم في بلادهم مقلقل، وبالتالي فقد يكون ولاؤهم غير راسخ، ولذا فهم يفكرون في الهجرة منها. ولكن عدم ولائهم لا ينبع من مصالحهم اليهودية أو من جوهرهم أو طبيعتهم أو شخصيتهم، وإنما ينبع من أن المستوطن الأبيض في جنوب أفريقيا قد بدأ يتعرض لضغوط حقيقية من السكان الأصليين تهدد وجوده. وحينما يهاجر اليهود الروس من روسيا، فهم لا يفعلون ذلك من باب الولاء اليهودي، وإنما من باب الولاء الدنيوي للمستوى المعيشي المرتفع، ومن ثم يتجهون إلى الولايات المتحدة بدلاً من إسرائيل. وقد اتخذت الولايات المتحدة من التشريعات ما يكفل إغلاق باب الهجرة لتحويلهم عنوة إلى الدولة الصهيونية. وفي هذا، لا يختلف المهاجرون اليهود المرتزقة من روسيا أو أوكرانيا كثيراً عن معظم أعضاء المجتمعات العلمانية في الغرب. فماركس يتحدث عن ولاء الرأسمالي، وهو ولاء يتجاوز الولاء القومي، كما يتحدث بنتام (فيلسوف النفعية) عن المنفعة الشخصية، وهي منفعة تتجاوز الصالح القومي.

ويَصدُر الصهاينة عن فكرة ازدواج الولاء، شأنهم في هذا شأن النازيين والمعادين لليهود، وينطلق برنامجهم السياسي منها. فيتحدث المفكرون الصهاينة، كلاتزكين وجولدمان وبن جوريون، عما يسمُّونه «الولاء القومي اليهودي». وبالتالي، فإن اليهودي الذي يعيش في بلد غير الدولة اليهودية لن يشعر تجاهه بأي ولاء، أو سيكون ولاؤه له ضعيفاً إذ سيكون موزعاً بين وطنه الفعلي الذي يقيم فيه ووطنه القومي الصهيوني، وهو ما يُطلق عليه «ازدواج الولاء». وقد كان هرتزل يتفاوض مع السلطات الإمبريالية المختلفة في إطار تصور أنه قادر، حسب قوله، على تحويل كل يهود العالم إلى عملاء يدينون بالولاء لا لأوطانهم وإنما لأية دولة تساند الفكرة الصهيونية. والعميل إما شخص عديم الولاء أو شخص ذو ولاء مزدوج.

وتنطلق الدولة الصهيونية من الإيمان بازدواج الولاء لدى أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. ولذلك، فهي تحاول دائماً تجنيدهم لخدمة مصالحها ومآربها، بل إن بن جوريون قد صرح بأن السفير الإسرائيلي في كل عاصمة هو الممثل الحقيقي للجماعة اليهودية فيها.

وثمة قوانين في الكيان الصهيوني لتكريس هذا الاتجاه، مثل قانون العودة وقانون الجنسية. وقد عُدِّل هذا القانون الأخير بحيث تستطيع الدولة الصهيونية أن تمنح أي مواطن يهودي جنسيتها وهو لا يزال بعد في وطنه الأصلي، دون أن يتنازل عن جنسيته الأصلية، ويكفي أن تكون لديه النية للهجرة. والصهيونية، بوصفها حركة سـياسـية ودولة اسـتيطانية، تحاول ترجمة فكرة الولاء اليهودي، أي ازدواج الولاء، إلى واقع عملي. ومما له دلالته أن بيان إعلان قيام الدولة الصهيونية عام 1948 قد تم عن طريق مجلس قومي يتحدث باسم كل «الشعب اليهودي»، سواء في فلسطين أو خارجها. وقد اكتشفت الدولة الصهيونية (بعد إعلانها) أنها لن تستطيع الوصول بسهولة ويُسر إلى جميع أعضاء الشعب اليهودي، نظراً لضآلة سلطتها خارج حدودها. ولذا، حوَّلت المنظمة الصهيونية نفسها إلى أداة موظفة في يد الدولة الصهيونية، تصل عن طريقها إلى أعضاء الجماعات اليهودية.

وقد كانت حادثة بولارد ترجمة عملية لنظرة الصهاينة لأعضاء الجماعات اليهودية. فقد قامت المخابرات الإسرائيلية بتجنيده باعتبار أنه مزدوج الولاء، ولكن أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة رفضوا هذا التعريف وأكدوا أن ولاءهم للولايات المتحدة أولاً وأخيراً، واحتجوا على سلوك إسرائيل. ولكن حادثة بولارد ليست سوى جزء من نمط عام، إذ قامت الحركة الصهيوينة من قبل بتجنيد بعض يهود البلاد العربية للتجسس ضمن قسم خاص أسِّس لهم في الوكالة اليهودية قبل عام 1948، كما أن حادثة لافون تُبيِّن أن المخابرات الإسرائيلية قامت بتجنيد بعض يهود مصر للتجسس لصالح الدولة الصهيونية.

ولا شـك في أن هذا الوضع يخلق كثيراً من المشكلات لليهود في العالم. وقد تنبَّه سير إدوين مونتاجو، العضو اليهودي الوحيد في الوزارة البريطانية التي أصدرت وعد بلفور، إلى هذا البعد حيث احتج على إصدار هذا الوعد لأن الاتهام بازدواج الولاء، بحسب رأيه، اكتسب لأول مرة أساساً موضوعياً. وتحاول الصهيونية التوطينية التغلب على هذا الوضع الذي يسبب الحرج لأعضاء الجماعات اليهودية، بأن تعود إلى الصيغة الصهيونية الإثنية التي ترى أن اليهـود ينتمـون سياسياً إلى الوطن الذي يعيشون فيه، مع أنهم، من ناحية القيم الدينية والثقافيـة والروحيـة، ينتمون إلى مركزهم الروحي (أو الإثني) في إسرائيل. ويحاول الصهاينة في الولايات المتحدة أن يُذيبوا ازدواج الولاء داخل النمط الأمريكي العام بحيث تصبح علاقة الأمريكي اليهودي بإسرائيل مثل علاقة الأمريكي الإيطـالي بإيطـاليا، وبالتالي يصـبح لليهودي وطنان قوميان: الأول هو مسقط الرأس الذي هاجر منه، والثاني هو البلد الذي هاجر إليه.

المصالـح اليهودية
Jewish Interests
«المصالح اليهودية» عبارة تفترض أن ثمة مصالح يهودية محددة متفقاً علىها بين «اليهود» (أعضاء الجماعات اليهودية)، وأنهم يدافعون عنها علناً أو سراً متى وأينما سنحت لهم الفرصة، وهو افتراض شائع في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود. وتذهب الكتابات التي تتبني مثل هذا النموذج التفسيري إلى أن اليهود لا يدينون بالولاء إلا لما يُسمَّى «المصالح اليهودية»، وبالتالي فهم لا يعملون إلا من أجلها.

ولكن من الثابت تاريخياً أنه لم تكن هناك مصالح يهودية واحدة، بل إن الصراعات بين الجماعات اليهودية المختلفة حقيقة تاريخية. وكثيراً ما كانت تستعدي جماعة ما السلطات على جماعة أخرى وتطالب بطردها. ويظهر الصراع في حق حظر الاستيطان (حيريم هايشوف)، أي حق أية جماعة يهودية في أن ترفض إيواء أي يهودي من جماعة أخرى، وهو حق كانت تسعى الجماعات اليهودية في أوربا في العصور الوسطى للحصول عليه. ولعل أهم الصراعات عبر التاريخ هو الصراع بين الإشكناز والسفارد في العالم الغـربي، والذي لا يزال له أصـداؤه في إسـرائيل حتى الآن. وكذلك، فإن مصالح الدولة الصهيونية تتعارض في كثير من الأحيان مع مصالح الجماعات اليهودية كما اتضح في حادثة بولارد على سبيل المثال، أو في تَورُّط الإسرائيليين في تجارة المخدرات في كولومبيا. وقد فجرت الانتفاضة قضية التعارض بين مصالح الجماعات اليهودية ومصالح إسرائيل، إذ أن منظر الجنود الإسرائيليين (ممثلي الدولة اليهودية) وهم يكسرون أذرع الشباب الفلسطيني، لم يُحِّسن الصورة الإعلامية ليهود العالم، ولم يخدم مصالحهم، مع أنه يخدم مصلحة الدولة التي يُقال إنها «يهودية»!

ونحن نرى أن أعضاء الجماعات اليهودية لهم مصالح مختلفة باختلاف الزمان والمكان، ولتفسير سلوكهم لابد من العودة إلى سياقهم الحضاري والتاريخي والإنساني العريض، لأن النموذج التفسيري الذي يُركِّز على المصالح اليهودية والمرجعية اليهودية سيعجز عن تفسير كثير من جوانب هذا السلوك.

وفي مجموعة المداخل التي تلي هذا المدخل سنتناول سيَر بعض مشاهير اليهود ممن شغلوا مواقع مهمة تجعلهم في موضع التأثير في صنع القرار (ابتداءً من بيرنيكي عشيقة الإمبراطور تيتوس وانتهاءً بكيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة). وسنحاول أن نُبيِّن أن سلوكهم السياسي وغير السياسي (في معظم الأحيان) لم تكن تحكمه المصالح اليهودية وإنما مجموعة من العناصر الأخرى المرتبطة عادةً بمصالح الدولة التي ينتمي لها عضو الجماعة اليهودية.


بيرنيكـي (32م-؟ )
Berenice
«بيرنيكي» اسم يوناني معناه «حاملة النصر»، وتُنطَق «بيرنيس» في اللغات الأوربية الحديثة. وهي حفيدة أخت هيرود الأعظم «ملك اليهود » وابنة أجريبا الأول. وُلدت عام 33 ميلادية، وكانت مشهورة بجمالها وبتعدد أزواجها وعشاقها. تزوَّجت وهى بعد في الثالثة عشرة من ماركوس، ابن ألكسندر ليسيماخوس كبير موظفي (ألبارخ) الإسكندرية. وبعد موته، تزوَّجت عمها شقيق أبيها هيرود حاكم كالخيس. وبعد موت هذا الأخير، عاشت مع أخيها أجريبا الثاني. وقد انتشرت الشائعات بين الرومان أنها كانت على علاقة آثمة بأخيها هذا. ويُلاحَظ أن الجماع بالمحارم في فترة انحلال الإمبراطورية الرومانية لم يكن أمراً غريباً بين أعضاء الأرستقراطية التي كانت تنتمـي إليها بيرنيكي وأخوها. وربما لإسكات الشائعات، ونظراً لغيرتها من أختها دروسيلا التي تزوجت من ملك، أقنعت بيرنيكي بوليمون الثاني ملك كليكيه بأن يتهود ويتختن ويتزوجها فتزوجها في عام 69م. ولكن بيرنيكي لم تكن على مستوى عال من الأخلاق أو الوفاء الزوجي الأمر الذي أثار اشمئزاز بوليمون منها ومن عقيدتها فطلَّقها. وعادت بيرنيكي لتعيش مع أخيها، ووقفت إلى جواره في محاولته تهدئة الجماهير اليهودية الحانقة مع بدايات التمرد اليهودي الأول (66 ـ 70م)، ولكن الجماهير أضرمت النار في قصرها.

ومع سقوط القدس في يد المتمردين، فرَّت بيرنيكي إلى الإسكندرية عند أقاربها (تايبريوس يوليوس ألكسندر ابن عم فيلون السكندري، وغيره). وهناك، قابلت الجنرال تيتوس ابن الإمبراطور فسبسيان الذي كان يُعدُّ حملته لقمع التمرد اليهودي الأول وأصبحت عشيقته، وأعلن هو عن حبه لها وكان عمرها (حينذاك) تسعة وثلاثين عاماً. وقد صاحبته هي وأخوها أجريبا الثاني (الذي كان يقود جيشاً يهودياً صغيراً) أثناء حملته التي انتهت بسقوط القدس وتحطيم الهيكل. وحين عاد تيتوس إلى روما، انضمت إليه هناك عام 75م، واستمرا في علاقتهما، بل وكان يشار إليها باعتبارها «زوجة تيتوس». ويبدو أنه كان على وشك الزواج منها بالفعل، ولكن الأرستقراطية الرومانية عارضت ذلك. وحينما عادت بيرنيكي إلى روما مرة أخرى عام 79م، بعد أن أصبح تيتوس إمبراطوراً، وبعد أن بلغت هي الخمسين، تجاهلها عشيقها السابق، فعادت أدراجها إلى فلسطين حيث لم يُسمع عنها شيء بعد ذلك التاريخ.

ووجود بيرنيكي اليهودية (وجيش أخيها) إلى جوار تيتوس أثناء حملته على القدس لهدم الهيكل لم يُغيِّر شيئاً في خطته العسكرية التي كانت تمليها الاعتبارات الإسـتراتيجية الكبرى للإمبراطورية الرومانيـة. ربما لو كان تيتوس قد عدل عن تحطيم الهيكل في آخر لحظة (لاعتبارات خاصة بمصالح الإمبراطورية الرومانية) لانقض على هذه الواقعة أصحاب النماذج الاختزالية وتحدثوا عن نفوذ المرأة اليهودية، وكيف أن اليهود يستخدمون الجنس في تنفيذ مخططاتهم. بل ولأضافوا أن بيرنيكي، صاحبة الاسم اليوناني والسلوك الوثني والرؤية المنحلة، ظلت مع هذا يهودية تخدم المصالح اليهودية، وهو ما يدل (حسب رأيهم) على أن وظيفة اليهود ثابتة عبر الزمان والمكان. ولا تتحدث المراجع الصهيونية عن عبقرية بيرنيكي اليهودية في اصطياد الرجال بخاصة من فئة الملوك وقواد الجيوش.

ولم تكن بيرنيكي المرأة اليهودية الوحيدة التي لعبت دوراً في دهاليز النخبة الحاكمة. فقد تزوجت اختها دروسيلا من ملك يُدعَى عزيز في إميسيا (حمص). ويبدو أن إيزاط ملك حدياب في بابل (36 ـ 60م) تَهوَّد بسبب علاقته بامرأة يهودية.

ديفيـد باسيفيكو (1784-1854 (
David Pacifico
تاجر ودبلوماسي بريطاني يهودي وُلد في جبل طارق وأخذته أعماله التجارية إلى البرتغال حيث استقر عام 1812. ورغم أنه ظل من رعايا بريطانيا، إلا أنه نشط في السياسة المحلية البرتغالية وعُيِّن قنصلاً عاماً للبرتغال لدى المغرب في الفترة بين عامي 1835 و1837 ثم لدى اليونان في الفترة بين عامي 1837 و1842، ولكنه أُقيل من منصبه نتيجة خلافات مع الحكومة البرتغالية. كل هذا يدل على أن المارانو، حتى منتـصف القرن التاسع عـشر، وحتى بعـد ذلك التاريخ، كانوا لا يزالون يضطلعون بدورهم كممثلين للبلد الذي طردهم والذي ينتمون إليه لغوياً وحضارياً.

وقد ظل باسيفيكو في اليونان أعوام 1843 ـ 1847 مشتغلاً بالتجارة، ولكنه دخل عام 1847 في مواجهة خطيرة مع الحكومة اليونانية أسفرت عن مجئ الأسطول البريطاني إلى شواطئ اليونان وهو ما أثار ضجة كبيرة في أنحاء أوربا وداخل بريطانيا. ففي هذا العام منعت الحكومة اليونانية الجماهير المسيحية من إجراء الطقوس التقليدية لعيد الفصح، وهو إحراق تمثال خشبي يرمز إلى يهوذا، وذلك احتراماً لوجود أحد أفراد عائلة روتشيلد المالية اليهودية في أثينا لإجراء مفاوضات مع الحكومة اليونانية بشأن قرض. وقد استثار ذلك غضب الجماهير التي تظاهرت وهاجمت منزل باسيفيكو ودمرته وأحرقت أوراقه. وقد طالب باسيفيكو الحكومة اليونانية بتعويض قدره أكثر من 800 ألف دراخمة وأيده في ذلك ممثل إنجلترا لدى اليونان باعتبار أن باسيفيكو من رعايا بريطانيا. وقد رفضت الحكومة اليونانية طلبه بل قامت بمصادرة أملاكه. وإزاء ذلك، أمر بالمرستون، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، الأسطول البريطاني بفرض حصار على ميناء بيريوس اليوناني Piraeus كما استولى البريطانيون على 200 سفينة يونانية. واستمر هذا الحصار من يناير 1850 حتى أبريل من العام نفسه عندما رضخت الحكومة اليونانية ودفعت لباسيفيكو تعويضاً قدره 150 ألف دراخمة.

وقد أثارت هذه الحادثة، التي تضمنت تحريك الأسطول البريطاني لمعاقبة حكومة مسيحية لصالح يهودي، ضجة كبيرة في أنحاء أوربا وداخل بريطانيا، فأعربت كلٌّ من روسيا وفرنسا وبروسيا عن غضبها البالغ وتشكلت في إنجلترا جبهة معارضة لبالمرستون حاولت إقصاءه من منصبه. وكان من بين أفراد هذه الجبهة السياسي البريطاني دزرائيلي (اليهودي الأصل). وقد دافع بالمرستون عن نفسه قائلاً: « إن أي إنسان من رعايا بريطانيا يجب أن يتأكد أينما وُجد أن ذراع إنجلترا الطويلة ستحميه من أية إساءة أو ظلم. وهذا الموقف يجب أن يسري على جميع الرعايا وضمن ذلك من يعتنق اليهودية منهم ». ورغم حديثه الليبرالي المعسول كانت لبالمرستون دوافع أخرى جعلته يُحرِّك الأسطول البريطاني ضد اليونان، فقد كان يسعى لتأديب وإذلال الأسرة المالكة البافارية التي كان أفرادها يحكمون اليونان، على حين مثلت قضية باسيفيكو ذريعة مواتية لتبرير هذا الإجراء. والواقع أن يهودية باسيفيكو أو عدم يهوديته لم تمثل أي اعتبار حقيقي في هذه الحادثة التي خضعت أولاً وأخيراً، سواء بالنسبة إلى الحادثة نفسها أو بالنسبة إلى الاعتراضات التي أثيرت بشأنها، لاعتبارات سياسية دولية أو لاعتبارات السياسة الداخلية البريطانية وصراعاتها. وقد تحرك الأسطول البريطاني دفاعاً عن باسيفيكو، لا بسبب قوة اللوبي اليهودي (فلم يكن هناك مثل هذا اللوبي) وإنما دفاعاً عن المصالح البريطانية.

بنيامــين دزرائيــلي (1804-1881)
Benjamin Disraeli
سياسي ورجل دولة بريطاني شهير. لعب، بوصفه رئيساً لوزراء بريطانيا، دوراً مهماً في رسم سياستها الخارجية والاستعمارية وترسيخ مصالحها في الشرق الأوسط، وهو الدور الذي تحدَّد على أساسه فيما بعد مصير مصر وفلسطين، وقد حظيت مهارته بمكانة بارزة في تاريخ السياسة البريطانية الاستعمارية. ومما له دلالته أن هذا الإمبريالي القح الذي وسَّع نطاق الإمبريالية الإنجليزية في الخارج، قام في الوقت نفسه بتوسيع نطاق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية في الداخل.

وُلد دزرائيلي لعائلة بريطانية يهودية ذات أصول إيطالية سفاردية (مارانية). وكان اليهود السفارد في أوربا مختلفين عن الإشكناز، فرغم أن كليهما كان جزءاً من جماعة وظيفية، إلا أن السفارد كانوا يشكلون جزءاً من أرستقراطية مالية متقدمة مندمجة إلى حد ما في المجتمع، على عكس الإشكناز الذين كانوا جماعة وظيفية تضطلع بالوظائف الاقتصادية الوضيعة (الربا والتجارة الصغيرة) وتقف على هامش المجتمع. لكن اندماج السفارد أضعف هويتهم تماماً. ورغم أن اندماجهم في المجتمع لم يكن كاملاً (فالمجتمعات الغربية كانت لا تزال تدور في إطار مسيحي)، إلا أن عملية الاندماج، التي أدَّت في نهاية الأمر إلى الانصهار في حالة السفارد، كانت قد قطعت أشواطاً كبيرة. ويظهر ضعف الهوية في حادثة خروج والد دزرائيلي على اليهودية. فقد اختلف مع مجلس الماهاماد، الذي كان يتولى قيادة الجماعة اليهودية السـفاردية في لندن، حول مقدار الضرائب المقررة عليـه، فاستقال منه واعتنق المسيحية. وكان بنيامين في الثالثة عشرة من عمره، فعُمِّد ونُشِّئ تنشئة مسيحية.

وقد دخل دزرائيلي مجال السياسة وانتُخب عضواً في البرلمان عن حزب المحافظين عام 1837، كما تزعَّم حركة إنجلترا الشابة، وهي حركة رومانسية تستند إلى الإيمان بضرورة بناء قاعدة شعبية لحزب المحافظين الأرستقراطي واستقطاب الطبقات العاملة من خلال الإصلاحات الاجتماعية والسياسية. ومن الجدير بالذكر أن وضع دزرائيلي الاجتماعي والاقتصادي تَدعَّم بعد زواجه من أرملة مسيحية ثرية تكبره بنحو اثنى عشر عاماً وأصبح من ملاك الأراضي الأثرياء.

وفي عام 1852، أصبح دزرائيلي رئيساً لمجلس العموم. وفي عام 1868، أصبح رئيساً للوزراء، وهو منصب تقلده مرة أخرى في الفترة ما بين عامي 1874 و1880. وقد صدرت قرارات تشريعية عديدة في عهده ذات طابع ليبرالي مثل تنظيف الأحياء الشعبية والاعتناء بمؤسسات الصحة العامة وتحسين أحوال العمل في المصانع. وقد حقق دزرائيلي أهم إنجازاته في مجال السياسة الخارجية، فقد كان وراء الصفقة التي اشترت بريطانيا بمقتضاها نصيب مصر من أسهم قناة السويس في عام 1875، وذلك بمساعدة مالية من عائلة روتشيلد (اليهودية). وتُعتبَر هذه الصفقة من أهم خدماته للإمبراطورية البريطانية حيث حققت لها السيطرة الإستراتيجية على أهم الممرات المؤدية إلى الشرق. كما أعطت هذه الصفقة أهمية خاصة لمصر بالنسبة لبريطانيا والتي احتلتها في آخر الأمر. وقد أعقب كل هذا موافقة البرلمان الإنجليزي على منح الملكة لقب «إمبراطورة الهند». كما مُنح دزرائيلي لقب «إيرل أوف بيكونزفيلد» تقديراً لخدماته.

وقد تَبنَّى دزرائيلي سياسة تهدف إلى الحفاظ على الدولة العثمانية وإلى تأييدها في صراعها مع روسيا. وجاءت سياسته هذه في الواقع تعبيراً عن صراع القوى الأوربية الكبرى في تلك الفترة، ومن بينها بريطانيا وروسيا، للحصول على أكبر نصيب ممكن من تركة الإمبراطورية العثمانية. وبالتالي، جاء دعم بريطانيا لتركيا بهدف صد التوسع الروسي باتجاه الجنوب والذي كان يشكل تهديداً للممرات الحيوية المؤدية إلى الهند. وقد نجح دزرائىلي في مؤتمر برلين (عام 1878) في عدم المساس بوضع الدولة العثمانية، كما حصل لبريطانيا على قبرص التي كانت تُعتبَر البوابة لآسيا الصغرى. كما حصل للجماعات اليهودية في دول البلقان على بعض الحقوق والامتيازات. وقد اعتبر دزرائيلي هذا المؤتمر تتويجاً لحياته السياسية. وقيل إنه قدَّم، في هذا المؤتمر، مذكرة غير موقعة حول المسألة اليهودية تدعو إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين. وتبيَّن، فيما بعد، أن من قدمها شخص آخر.

لم تكن مسألة توطين اليهود في فلسطين غائبة عن ذهن دزرائيلي كما لم تكن غائبة عن أذهان الساسة البريطانيين المعاصرين له، وقد كانت أهمية فلسطين لبريطانيا تزداد مع تزايد مصالحها الإمبريالية وأطماعها في ثروات الشرق، ففلسطين كانت تشكل حلقة وصل برية بين الشرق والغرب، وبين آسيا وأفريقيا. وقد زاد ذلك من الأطماع البريطانية فيها، ومن ثم التوجه الصهيوني للسياسة البريطانية الخارجية، حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بين أعضاء الجماعة اليهودية.

كتب دزرائيلي عدة روايات ومؤلفات ليست لها أهمية أدبية كبيرة، ولا يتعرض معظمها للموضوع اليهودي مثل رواية سيبيل أو الأمّتان (1845) التي تصف الهوة الساحقة التي تفصل بين الفقراء والأغنياء في عصره ويُبيِّن أوضاع العمل غير الإنسانية في المصانع في ذلك الوقت. ومن بين رواياته التي تتعرض للموضوع اليهودي قصة داود الرائي المدهشة (1833) وهي عن ذلك الماشيَّح الدجال، ورواية كونينجسبي أو الجيل الجديد (1844) ويشرح فيها دزرائيلي أفكاره السياسية ويصف وضع اليهود (بشكل هامشي). أما رواية تانكريد أو الحرب الصليبية الجديدة (1847) فهي تدور حول حياة أرستقراطي بريطاني يسافر إلى القدس ليبحث عن شفاء لروحه من المادية الغربية. وفي السيرة التي كتبها دزرائيلي عن لورد جورج بنتتيك (1852) شرح نظريته الخاصة بتفوق العنصر السامي وروحانية اليهود التي تتبدَّى كلها في الكنيسة المسيحية! ولدزرائيلي روايات أخرى مثل إندميون.

ويمكننا الآن أن نتناول قضية هوية دزرائيلي اليهودية. ومن المعروف أن بعض معاصريه وجهوا له بعض الانتقادات حول سياسته الخاصة بمصير الدولة العثمانية إذ اتهموه بأنه يحدد هذه السياسة (وسياسة بريطانيا الخارجية بشكل عام) في ضوء موقفها من الجماعات اليهودية. وقد ساعد دزرائيلي بنفسه على ترسيخ صورته اليهودية، فقد كان يتباهى بأصله اليهودي العرْقي، كما أن دفاعه عن قضية إعتاق اليهود أمام البرلمان البريطاني كان ينبع من اعتقاده بأن اليهود يمثلون جنساً أكثر سمواً بين سائر الأجناس الأخرى في كثير من الصفات. ومن جهة أخرى تتخلل كتابات دزرائيلي فكرة صهـيونية مبهمة تدور حـول «الارتباط الأزلي لليهـود بأرض فلسطين». وقد اتهمه الروائي الروسي دوستويفسكي بأنه يُدبر مؤامرة يهودية لهزيمة روسيا ونصرة الدولة العثمانية. ومع هذا، يمكن أن نشير إلى ما يلي:

1 ـ كان دزرائيلي مبتعداً تماماً عن العقيدة اليهودية وشعائرها ورموزها، كما هو الحال مع بقية أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا، خصوصاً السفارد منهم. وقد خرج أبوه على الجماعة لسبب واه ـ كما تَقدَّم ـ وعَمَّد ابنه. ويُلاحَظ أن دزرائيلي يُعرِّف اليهود تعريفاً عرْقياً لا دينياً لا علاقة له بالدين اليهودي.

2 ـ وكان دزرائيلي يرى اليهود شعباً عضوياً متماسكاً، له شخصيته المستقلة وتفوقه (التجاري في العادة) وارتباطه الأزلي بفلسطين، وهذا الخطاب الصهيوني لم يكن خاصاً بدزرائيلي وإنما كان جزءاً لا يتجزأ من الخطاب الغربي بشأن اليهود.

3 ـ ولم تكن سياسة دزرائيلي تجاه الدولة العثمانية سوى تعبير عن المصالح الإمبريالية ودفاع ذكي عنها. وبالتالي، فإن هوية من قام بتنفيذ هذه السياسة ليس أمراً مهماً على الإطلاق.

لكل هذا، ورغم اتهام أعدائه له بتحيزه اليهودي (بل واتهامه بأنه «يهودي متخفي») ورغم إدعاءاته هو عن نفسه، إلا أن سلوك دزرائيلي لا يمكن تفسيره على أساس يهوديته وإنما على أساس انتمائه للتشكيل الاستعماري الغربي. ولعل أدق وصف لدزرائيلي هو وصفه لنفسه بأنه يشبه الصفحة البيضاء التي تفصل العهد القديم عن العهد الجديد، أي أنه فَقَد هويته اليهودية ولم يكتسب الهوية المسيحية رغم تَنصُّره. وهو في هذا لا يختلف عن كثير من يهود المارانو (السفارد) الذين فقدوا هويتهم الدينية وتحولوا إلى عنصر أساسي نافع في التشكيل الرأسمالي الغربي والتشكيل الاستعماري الغربي (بشقّيه العسكري والاستيطاني).

ومما له دلالته أن الموسوعة البريطانية (ماكروبيديا) أفردت مدخلاً كاملاً طويلاً لتناول حياة دزرائيلي الخاصة والعامة، ولم يُشر إلا بشكل عابر في بداية المدخل لأصوله اليهودية، ثم أهملتها تماماً بعد ذلك، لأنها ليست ذات قيمة تفسيرية تُذكَر.

إســحق كرمييـه (1796-1880(
Isaac Cremieux
رجل دولة فرنسي. تلقَّى تعليماً فرنسياً علمانياً في مدارس الليسيه الإمبراطورية حيث كان من أوائل الطلبة اليهود الدارسين بها، ثم درس القانون بعد ذلك، وأصبح خلال فترة دراسته من أشد المعجبين بنابليون. اشتغل عام 1817 بالمحاماة واكتسب سمعة طيبة في هذا المجال بفضل مهارته القانونية، وكان من أشد المؤيدين لقضايا الليبرالية حيث ترافع في عديد من المحاكمات السياسية أثناء فترة عودة الملكية. وبعد قيام ثورة عام 1830، انتقل إلى باريس حيث تعاون مع العناصر الليبرالية في نشاطها المعادي لحكم الملك لويس فيليب وطالب بحرية الصحافة. وفي الفترة بين عامي 1842 و1846 انتُخـب نائباً في البرلمان الفـرنسي حيث كان من قادة المعارضة. واشترك كريمييه في ثورة 1848، وتولى منصب وزير العدل في الحكومة الجديدة لعدة أشهر حيث عمل على إدخال عدة إصلاحات من أهمها إلغاء نظام الرق في المستعمرات الفرنسية وإلغاء عقوبة الإعدام في القضايا السياسية. ودخل البرلمان مرة أخرى خلال الجمهورية الثانية وظل نائباً حتى عام 1852، ثم ابتعد عن الحياة السياسية في فرنسا منذ ذلك العام نظراً لخلافه مع إدارة لويس نابليون، وبقي كذلك حتى عام 1869 حينما دخل البرلمان مرة أخرى. وقد تولى كريمييه منصب وزير العدل مرة أخرى عام 1870 في الحكومة الانتقالية التي حلت محل حكم لويس نابليون بعد هزيمته العسكرية في العام نفسه. كما انتُخب كريمييه عام 1871 نائباً ممـثلاً للجزائر، ثم انتُخب عام 1875 عضواً لمجلس الشيوخ مدى الحيـاة.

وظل كريمييه مهتماً بالقضايا الخاصة بالجماعات اليهودية سواء في فرنسا أو خارجها، فعمل منذ عام 1827 على إلغاء القَسَم اليهودي في فرنسا (الذي ألغي بالفعل عام 1846)، وتعاون مع موسى مونتيفيوري عام 1840 بشأن حادثة دمشق، واشترك عام 1866 في الدفـاع عن بعـض اليهـود المتهـمين في قضـية قتل في روسيا، كما اهتم بالقضايا الخاصة بحقوق يهود رومانيا، وعمل من خلال مؤتمر برلين عام 1878 على دعم قضية إعتاق يهود دول البلقان. وقد اختير كريمييه عام 1863 رئيساً للأليانس إسرائيليت يونيفرسل، وعمل بها حتى عام 1866، ثم مرة أخرى من عام 1868 وحتى وفاته. كما أصدر كريمييه عام 1870، عندما كان وزيراً للعدل، قانون كريمييه الذي منح الجنسية الفرنسية لأعضاء الجماعة اليهودية في الجزائر.

ورغم اهتمام كريمييه بالقضايا اليهودية، إلا أن هذا الاهتمام كان مرتبطاً في المقام الأول بمصالح الدولة الفرنسية. والواقع أن منحه الجنسية الفرنسية ليهود الجزائر، والذي اعتُبر من نجاحاته الكبرى في مجال القضايا اليهودية، كان إجراءً يهدف إلى تحويل يهود الجزائر إلى جماعة وظيفية استيطانية تزيد الكثافة السكانية الفرنسية، ومن ثم تخدم مصالح الاستعمار الفرنسي في الجزائر. كما أن نشاط الأليانس إسرائيليت، التي تولى رئاستها، كان يهدف أيضاً إلى صبغ أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي بصفة عامة، ودول المغرب العربي بصفة خاصة، بالثقافة الفرنسية وتحويلهم إلى جماعات وظيفية وسيطة تعمل في مؤسسات الاحتلال الفرنسي وتدين له بالولاء وتخدم مصالحه في المنطقة. ومن الجدير بالذكر أن كريمييه اضطر عام 1845 إلى التخلي عن منصبه كرئيس للمجلس الكَنْسي المركزي اليهودي في باريس بعد أن تبيَّن أنه سمح لزوجته بتنصير أبنائهما. وكان كريمييه نشطاً في الحركة الماسونية في فرنسا وكان من أبرز قياداتها.


ديفيــد يولــي (1810-1886(
David Yulee
سياسي أمريكي وأول عضو يهودي في مجلس الشيوخ الأمريكي. وُلد في جزيرة سانت توماس ببحر الكاريبي. وفي عام 1818، انتقل إلى الولايات المتحدة مع والده الذي كان من أوائل من استوطنوا ولاية فلوريدا الأمريكية. وقد أدار يولي إحدى مزارع والده ثم درس القانون وأصبح محامياً عام 1832، ثم انخرط في السياسة وانتُخب عام 1837 عضواً بالهيئة التشريعية الإقليمية. وفي عام 1838 اشترك يولي في المؤتمر الذي وضع دستور فلوريدا. وشارك بحماس في الحملة المطالبة بانضمام فلوريدا إلى اتحاد الولايات الأمريكية. وبعد انضمامها عام 1845، انتُخب يولي ليكون أول عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية فلوريدا، كما أصبح أول عضو يهودي به، وظل عضواً بالمجلس حتى عام 1851 وأعيد انتخابه مرة أخرى عام 1855 وحتى عام 1861. وقد أيد يولي نظام العبودية في الولايات المتحدة بشدة ورفض إلغاءه، كما رفض إلغاء عقوبة الجلد في البحرية الأمريكية، وكان من أشد من دافعوا عن حق البيض في الاستيطان (وخصوصاً خلال حروب السيمينول، وهي الحروب التي دارت بشكل متقطع بين عامي 1817 و1858 والتي شنها الجيش الأمريكي ضد قبائل السيمينول من الهنود الحمر لإرغامهم على التخلي عن أراضيهم وإفساح المجال أمام استيطان الرجل الأبيض). وقد أيَّد يولي انفصال فلوريدا عن الاتحاد عام 1861، واشترك في كونجرس اتحاد ولايات الجنوب أثناء الحرب الأهلية الأمريكية. وبعد هزيمة الجنوب، سُجن لمدة عام خرج بعدها ليعتزل السياسة ويتفرغ لأعمال إعادة بناء خطوط السكك الحديدية في فلوريدا، وهي عملية حقق من خلالها مكاسب كثيرة. وقد تزوج يولي عام 1846 من ابنة حاكم سابق لولاية كنتاكي، وبعد زواجه مباشرةً أضاف اسم يولي إلى اسمه الذي كان حتى ذلك الحين ديفيد ليفي فقط. وبرغم أنه لم يعتنق المسيحية بشكل رسمي، إلا أنه كان يذهب إلى الكنيسة كما قام بتنشئة أبنائه على العقيدة المسيحية.
ولا يمكن الحديث عن ديفيد يولي في إطار المصالح اليهودية الخاصة. فسيرته السياسية لا تختلف عن سيرة كثيرين غيره من رجال السياسة الأمريكيين الذين راهنوا على الجانب الخاطئ في الحرب الأهلية الأمريكية.
جوليوس فوجل (1835-1899)
Julius Vogel
رئيس وزراء نيوزيلندا. وُلد في إنجلترا لأسرة يهودية، واشتغل في تجارة جدِّه الثري، ثم انتقل إلى أستراليا عام 1852 بعد اكتشاف الذهب هناك. ولكنه لم ينجح في مجال التنقيب عن الذهب واتجهت اهتماماته بعد ذلك نحو السياسة والصحافة، فهاجر عام 1861 إلى نيوزيلندا حيث قام بتحرير أول جريدة يومية في المستعمرة. وفي عام 1863 انتُخب عضواً في مجلس مقاطعة أوتاجو، كما انتُخب في العام نفسه عضواً في مجلس النواب ليصبح أول عضو يهودي به. وقد عارض خلال عضويته في المجلس تعليم الدين في المدارس. كما ظهرت كفاءته في الشئون المالية، الأمر الذي أدَّى إلى تعيينه وزيراً للمالية بالمستعمرة عام 1869. وقد اكتسب مكانة واحتراماً كبيراً بفضل مفاوضاته الناجحة مع الحكومة البريطانية للحصول على القروض اللازمة لفتح البلاد للاستيطان وتمويل مشاريع بناء الطرق والسكك الحديدية. وفي عام 1873 أصبح رئيساً للوزراء حتى عام 1875. وفي الفترة ما بين عامي 1876 و1881 أصبح ****اً عاماً لنيوزيلندا في إنجلترا، ثم عاد إلى نيوزيلندا عام 1884 ليتولى وزارة المالية مرة أخرى، ولكن سياسته تعرضـت لانتقـادات حـادة الأمـر الذي دفعـه إلى الاستقالة عام 1887. وكان قد سبق أن تعرض للهجوم عام 1880 (أثناء وجوده في إنجلترا) بسبب تَورُّطه في فضيحة خاصة بشركة نيوزيلندا الزراعية التي كانت تقوم ببيع الأراضي للراغبين في الهجرة. وفي عام 1888 انتقل فوجل إلى إنجلترا حيث استقر بصفة دائمة حتى وفاته.

ويُعدُّ فوجل من أبرز رجال السياسة والدولة في نيوزيلندا، حيث نجح في تطويرها اقتصادياً وفي توسيع رقعة الاستيطان بها، وقد مُنح فوجل لقب «سير» عام 1875. وهو نموذج جيد لليهودي الغربي الذي يفقد ما يُميِّزه كيهودي أو يُهمِّشه ليصبح جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الحضاري الاستعماري الغربي، خصوصاً الأنجلو ساكسوني.

أيزاك أيزاكس (1855-1948(
Isaac Isaacs
رجل دولة أسترالي يهودي، عمل حاكماً عاماً لأستراليا. وُلد في ملبورن لأبوين من أصل بولندي هاجرا إلى أستراليا بعد اكتشاف الذهب بها. ودرس القانون في جامعة ملبورن وتَخرَّج ليشتغل بالمحاماة واكتسب سمعة طيبة بفضل كفاءته القانونية. وفي عام 1892 انخرط في العمل السياسي حيث انتُخب عضواً في البرلمان وظل عضواً به حتى عام 1901. وفي عام 1894 عُيِّن نائباً عاماً. وقد اشترك أيزاكس في المداولات التي مهدت لتشكيل الحكومة الفدرالية في أستراليا، وكان عضواً في اللجنة التي وضعت الدستور. كما انتُخب عام 1901 عضواً في أول برلمان فيدرالي وساهم في تنظيم النظام القضائي الفيدرالي. وفي عام 1906 عُيِّن قاضياً في المحكمة الفيدرالية العليا حيث خدم حتى عام 1930 حينما عُيِّن في منصب كبير القضاة في أستراليا. وفي عام 1931 عُيِّن أيزاكس حاكماً عاماً لأستراليا ليصبح أول شخص أسترالي المولد يتولى هذا المنصب الذي احتفظ به حتى عام 1936. وحصل أيزاكس على لقب «سير» عام 1928.

وقد عارض أيزاكس الصهيونية بشدة واعتبر اليهودية عقيدة دينية رافضاً أي مضمون قومي أو سياسي لها، ونشر عام 1943 سلسلة من المقالات في جريدة يهودية أدان فيها الصهيونية السياسية وأكد أن اليهود مواطنون عاديون يتجه ولاؤهم إلى أستراليا أو إلى غيرها من الدول التي ينتمون إليها واعتبر كل من يخالف هذا الرأي خائناً. وقد أيَّد أيزاكس سياسة الحكومة البريطانية في فلسطين واعتبر الاعتراضات التي أثيرت عام 1941 حول سياسة الكتاب الأبيض البريطانية في فلسطين عملاً يتنافى مع الانتماء لأستراليا. والبُعد اليهودي في تفكير أيزاكس وسلوكه كان قد تقلص تماماً واختفى، إذ أن ما كان يحركه هو انتماؤه لكلٍّ من إنجلترا والتشكيل الاستعماري الاستيطاني الأنجلو ساكسوني في أستراليا.

عمانويــل قاراصــو (1862-1934(
Emmanuel Carasso
محام وسياسي تركي من يهود الدونمه، من أعضاء حركة تركيا الفتاة وأحد قادة الحركة الماسونية. وُلد في سالونيكا، وحاضر في جامعتها، وانضم في عهد السلطان عبد الحميد إلى حركة تركيا الفتاة حيث كان واحداً من أبرز أعضائها ، وبعد استيلاء الحركة على السلطة عام 1908 انتُخب نائباً في البرلمان التركي كما ترأس اللجنة الرباعية التي تولت مهمة إبلاغ السلطان عبد الحميد بقرار خلعه. وفي عام 1912 كان عضواً في اللجنة البرلمانية التي تولت إجراء مفاوضات السلام مع إيطاليا. وخلال الحرب العالمية الأولى، لعب قاراصو دوراً سياسياً مهماً في إستنبول، ومُنح مقابل خدماته حق تصدير السلع التركية إلى ألمانيا، الأمر الذي مكَّنه من جمع ثروة ضخمة. ومع وصول كمال أتاتورك إلى الحكم عام 1923، فقد قاراصو مكانته، ويُقال إنه لعب دوراً مهماً في مساعدة الاحتلال الإيطالي نظير مبلغ من المال دفعته إليه إيطاليا واضطُر نتيجة خيانته للدولة التركية إلى أن يهرب إلى إيطاليا ويحصل على حق المواطنة الإيطالية حيث عاش في فقـر وعزلة حتى وفاته.

ويمكن ملاحظة ما يلي:

1 ـ أن قاراصو لم يكن يهودياً حاخامياً، وإنما كان من يهود الدونمه وهم جماعة خارجة على اليهودية، ولا يعتبرها الحاخاميون يهوداً، كما أن معظم أعضاء الجماعة اليهودية الذين لعبوا دوراً نشطاً في حركة كمال أتاتورك كانوا من يهود الدونمه.

2 ـ أن قاراصو فقد حظوته لدى كمال أتاتورك، ثم مات فقيراً، وهذا ما يُهمَل ذكره في كثير من الدراسات، حتى يبدو أعضاء الجماعات اليهودية كما لو كانوا المحركين لكل شيء والمسئولين عن سـقوط الخلافة العثمانية، مع أن أسباب سقوطها كانت أسباباً تاريخية مركبة. ومما لا شك فيه أن ثورة الأقليات والجماعات العرْقية والدينية والإثنية على الدولة العثمانية كانت ضمن مركب الأسباب الذي أدَّى إلى سقوطها. ولكن الجماعة اليهودية لم تكن سوى أقلية واحدة ضمن أقليات أخرى أكثر عدداً وفعالية. كما أن موقف أعضـاء الجمـاعات اليهـودية من الدولة العثمانية لم يكن موحَّداً، وإنما انقسموا بين مؤيد ومعارض، تماماً مثل بقية أعضاء المجتمع العثماني وطبقاته.

هربـرت صمـويل (1870-1963(
Herbert Samuel
سياسي بريطاني يهـودي، وأول مندوب سام بريطاني في فلسطين. وُلد لعائلة يهودية أرثوذكسية تعمل بتجارة الذهب والأعمال المالية (كان أبوه شريكاً في شركة صمويل ومونتاجو). وقد تلقَّى تعليمه في جامعة أكسفورد، وانضم إلى الحزب الليبرالي ورشح نفسه للانتخابات ونجح (عام 1902). وتدرج صمويل في عدد من الوظائف إلى أن أصبح وزيراً في الوزارة البريطانية، وكان بذلك أول إنجليزي يهودي يشغل مثل هذا المنصب.
بدأ صمويل اهتمامه بالأمور اليهودية حين عيَّنته الحكومة البريطانية في بعثة خاصة لتقصي أحوال يهود اليديشية الذين كانوا يتوافدون على إنجلترا بأعداد متزايدة. كما دخل في نقاش على صفحات الجرائد مع السفير الروسي في إنجلترا بشأن تهمة الدم التي وُجِّهت لليهودي الروسي منديل بليس. وقد اهتم صمويل بالشئون الاجتماعية وكان مسئولاً عن إصدار قانون تعويض العمال، كما كان مسئولاً عن إصدار ميثاق للأطفال.

كان صمويل، باعتباره يهودياً مندمجاً، يرى أن الحل الصهيوني حل غير عملي وضد مصالح اليهود، ولذا كان مشـهوراً بعدائه للصهيونية. ولكن، مع ظهور تلك البوادر التي دلت على أن الدولة العثمانية ستُهزَم، اكتشف صمويل، شأنه شأن جميع الصهاينة اليهود غير اليهود، إمكانية حل المسألة اليهودية عن طريق توطين اليهود في إطار الدولة الوظيفية التابعة للغرب، وهو تَغيُّر في موقف صمويل لم يتوقعه أو يلحظه وايزمان. ولذا، حين اقترح لويد جورج على وايزمان (بعد عودته من سويسرا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى) أن يجتمع بصمويل، رفض وايزمان ذلك ظناً منه أن صمويل لا يزال معادياً للصهيونية، ولكنه اضطر إلى أن يقبل على مضض ليفاجأ بأن صمويل يؤيد المشروع الصهيوني. بل والأدهى من ذلك أنه حينما تَقدَّم إليه وايزمان بالمطالب الصهيونية، أخبره صمويل بأنها مطالب متواضعة للغاية وأن عليه أن يفكر بشكل أكبر، وذُهل الزعيم الصهيوني (من شرق أوربا) وقال إنه لو كان مؤمناً بالعقيدة اليهودية لظن أن تَحوُّل صمويل هو إحدى علامات مَقْدم الماشيَّح.

وقد كتب صمويل مذكرة (عام 1915) مررها على أعضاء الوزارة البريطانية تنطلق من افتراض أن تركيا ستُهزَم، واقترح فيها إنشاء محمية إنجليزية في فلسطين بعد الحرب وتشجيع الاستيطان اليهودي فيها، وإعطاء الأولوية للهجرة اليهودية ولبناء مؤسسات استيطانية تساعد في نهاية الأمر على توطين جماعة يهودية يبلغ عددها ثلاثة ملايين تصبح مكتفية ذاتياً إلى أن تشكل دولة ذات سيادة تكون مركزاً لحضارة جديدة وتنظر في الوقت ذاته بعين الاعتبار للمصالح البريطانية في المنطقة. وقد جذبت المذكرة اهتمام لويد جورج، لكن رئيس الوزراء إسكويث لم يكن متحمساً بقدر كاف. وحين تولَّى لويد جورج رئاسة الوزارة (التي كانت تضم بلفور)، قرر تَبنِّي هذا المشروع الذي سُمِّي «وعد بلفور». وبسبب اهتماماته الاستعمارية، عُيِّن صمويل أول مندوب سام بريطاني في فلسطين عام 1920 (أي بعد وضعها تحت الانتداب). وفي أغسطس من العام نفسه، استصدر قانون الهجرة الذي سمح لـ 16.500 يهودي بدخول فلسطين. ولكن، بسبب رد الفعل العربي الرافض، عدلت بريطانيا عن سياستها قليلاً وبدأت تتحرك في إطار مفهوم القوة الاستيعابية للبلد. ولكن، ومع هذا، زاد عدد السكان اليهود في الفترة 1918 ـ 1925 من 105 آلاف إلى 118 ألفاً. وقد ساعد صمويل النشاط الاستيطاني الصهيوني على مستويات أخرى عديدة من بينها الاعتراف بالمؤسسات السياسية الصهيونية في فلسطين والاعتراف باللغة العبرية كإحدى اللغات المحلية في فلسطين. وقد زاد عدد المستوطنات الصهيونية في عهده من 44 إلى 100 مستوطنة.

وقد استمر اهتمامه بالمُستوطَن الصهيوني بعد تركه منصبه، فكان رئيساً لشركة فلسطين للكهرباء، ورئيساً للجامعة العبرية. وقد هاجم صمويل الكتاب الأبيض لعام 1939، كما هاجم سياسة بيفين المعادية للصهيونية.

وكان هربرت صمويل زعيماً للحزب الليبرالي في مجلس اللوردات بين عامي 1924 و1955، وله مؤلفات عديدة في الفلسفة الليبرالية.

وصمويل نموذج جيد للصهيوني اليهودي غير اليهودي الذي لا تختلف رؤيته لليهود عن رؤية أي منتم للحضارة الغربية، فهو لا يهتم بالإثنية اليهودية ولا بالمصالح اليهودية ولا بالتاريخ اليهودي ولا بالعقيدة اليهودية: إنه يهودي مندمج تماماً يود الحفاظ على وضعه. ولكنه، شأنه شأن أي سـياسي غربـي، كان ينظر إلى اليهــود من الخـارج ويراهم كمادة بشرية نافعة يمكن أن تُوظَّف لصالح الحضارة الغربية.

ويبـدو أن قطـاعات من أعضـاء الجماعات اليهودية في فلسطين وخارجها صنفت صمويل باعتباره أول حاكم يهودي لفلسطين منذ سقوط الهيكل. وهذا التصنيف لا يأخذ في اعتباره التكوين الثقافي أو السياسي لدى صمويل ولا الإطار الذي تم فيه تقليده منصبه. فقد كان صمويل، في واقع الأمر، مندوب الإمبراطورية البريطانية لدى اليهود، وليس مندوب اليهود لدى الإمبراطورية البريطانية.

ليــون بلـوم (1872-1950)
Leon Blum
رجل دولة وكاتب فرنسي، كان أول يهودي واشتراكي فرنسي يتولى رئاسـة وزراء فرنسـا. وُلد لعائلة يهـودية تجـارية ثـرية في باريس، ودرس القانون في جامعة السوربون ونجح في تحقيق مكانة مرموقة كرجل قانون حيث عُيِّن في مجلس الدولة عام 1895 ووصل إلى أعلى المناصب فيه. كما كان يُعَدُّ، وهو مازال في الثانية والعشرين من عمره، من الكتاب والأدباء الفرنسيين اللامعين في تلك الفترة. وقد كتب عدة مؤلفات من بينها كتابه في الزواج (1907) الذي أثار ضجة واسعة بسبب آرائه الجريئة حول الزواج وحقوق المرأة.

وقد تأثر بلوم بقضية دريفوس واشترك عام 1896 في الحملة من أجل إطلاق سراحه. وكانت هذه القضية من العوامل التي دفعته إلى العمل السياسي حيث انضم عام 1898 إلى الحزب الاشتراكي وساهم في جريدته لومانيتيه ككاتب وناقد أدبي. وقد أصبح بلوم بعد الحرب العالمية الأولى من الزعماء البارزين للحزب، وانتُخب في البرلمان الفرنسي عام 1919. وعمل بلوم على إعادة بناء الحزب بعد انشقاق العناصر الشيوعية عنه في عام 1920، ويُعتبَر بذلك أحد المؤسسين الرئيسيين للحزب الاشتراكي الفرنسي الحديث. وقد أعيد انتخابه في البرلمان عامي 1924 و1929. ونجح عام 1936 في أن يصبح رئيساً لوزراء فرنسا بعد أن نجحت جبهة واسعة من الأحزاب اليسارية في الانتخابات. وقد أدخلت حكومته بعض الإصلاحات الاجتماعية الواسعة واتخذت إجراءات تأميمية في قطاعي المال والتجارة. وقد اتُهم بلوم من جانب قوى اليسار الفرنسي بمهادنة دول المحور بسبب تَبنِّيه سياسة عدم التدخل في الحرب الأهلية الإسبانية، كما واجه معارضة شديدة من رجال الصناعة بسبب إصلاحاته الاجتماعية والعماليــة. وقــد اضطُــر بلوم عام 1937 إلى الاستــقالة من منصـبه وعمل نائباً لرئيس الوزراء في حكومة الجبهة الشعبية ثم رئيساً للوزراء مرة أخرى عام 1938.

وقد أُلقي القبض عليه بعد سقوط فرنسا في أيدي الألمان عام 1940، وظل في معسكر اعتقال ألماني حتى عام 1945. ولكنه عاد إلى فرنسا في العام نفسه، وشَكَّل عام 1946 حكومة انتقالية اشتراكية ظلت في الحكم شهراً واحداً فقط. وابتعد بلوم بعد ذلك عن الحياة العامة فيما عدا فترة قصيرة (عام 1948) عمل خلالها نائباً لرئيس الوزراء. ويُعتبَر بلوم من أبرز الشخصيات في الحركة العمالية الفرنسية ومن مؤسسي الدولية الاشتراكية خلال الفترة بين الحربين العالميتين.

وقد كان بلوم من مؤسِّسي اللجنة الاشتراكية من أجل فلسطين عام 1928، وقَبل دعوة وايزمان للانضمام إلى الوكالة اليهودية كممثل ليهود فرنسا، ولعب بلوم دوراً مهماً في التأثير على تصويت الحكومة الفرنسية في الأمم المتحدة والمؤيد لقرار تقسيم فلسطين. ولا يمكن تفسير سلوك بلوم في إطار المصالح اليهودية الخالصة أو النفوذ اليهودي، فباستثناء بعض التفاصيل اليهودية الهامشية في حياته، نجد أن حياته السياسية وتوجهاته الفكرية لا تختلف عن حياة وتوجهات أي سياسي اشتراكي فرنسي آخر.

بيـير منديــس فرانـــس (1907-1982(
Pierre Mendes-France
رجل دولة فرنسي وُلد في باريس لعائلة يهودية من المارانو، وتلقى تعليماً فرنسياً علمانياً. فدرس القانون في جامعة السوربون حيث كتب رسالته الجامعية عام 1928، ووجَّه فيها انتقادات حادة للسياسات المالية للحكومة آنذاك، وطالب باقتصاد أكثر عدلاً وبدور أكبر للدولة. وحظيت الدراسة باهتمام واسع بين رجال القانون والاقتصاد والسياسة في فرنسا كما نالت إعجاب الأحزاب اليسارية الفرنسية، وأصبح منديس فرانس من المستشارين الماليين للحزب الراديكالي. واتسم فكره بالعقلانية الشديدة وبابتعاده عن أية تصورات مثالية، كما تأثر بالفكر الاقتصادي لكينز. وقد انتُخب منديس فرانس عام 1932 ليكون أصغر نائب في البرلمان الفرنسي، وأُعيد انتخابه مرة أخرى في عام 1936. وعمل فرانس في حكومة الجبهة الوطنية تحت رئاسة ليون بلوم عام 1938 نائباً لوزير الخزانة حيث عمل على تطبيق سياساته الاقتصادية.

وبعد سقوط فرنسا في أيدي الألمان عام 1940، رحل منديس فرانس إلى المغرب حيث حاول تنظيم المعارضة ضد حكومة فيشي، ولكن تم إلقاء القبض عليه وترحيله إلى فرنسا حيث نجح في الفرار عام 1941 إلى إنجلترا، وانضم إلى حركة الفرنسيين الأحرار تحت قيادة ديجول الذي عينه فيما بعد في منصب المندوب المالي للجزائر. وقد تولى منديس فرانس منصب وزير الشئون الاقتصادية في الحكومة المؤقتة بين عامي 1944 و1945، إلا أنه استقال بسبب الخلافات حول السياسات الاقتصادية. وعُيِّن عام 1946 في منصب المدير الفرنسي للبنك الدولي للإنشاء والتعمير. وفي عام 1954، نجح منديس فرانس في الوصول إلى رئاسة الوزراء وعمل من خلال هذا المنصب على إنهاء الوجود الفرنسي في الهند الصينية بعد هزيمة قوات الاستعمار الفرنسي أمام قوى التحرر الوطني في المنطقة. ثم قدَّم استقالته عام 1955 إثر فشل سياسته الخاصة بمنح الاستقلال للمغرب وتونس. وعاد منديس فرانس مرة أخرى وزيراً بلا وزارة في حكومة الجبهة الجمهورية عام 1956، إلا أنه استقال بعد عدة أشهر بسبب خلافه مع رئيس الوزراء حول السياسة الفرنسية بشـأن الجـزائر إذ كان يرى ضرورة الاستمرار في ضم الجزائر إلى فرنسـا.

وقد ظل منديس فرانس شخصية مهمة في السياسة الفرنسية، كما كان من المؤيدين للصهيونية وإسرائيل. وقد أيَّد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ولكن موقفه هذا كان ينبع في المقام الأول من كونه سياسياً فرنسياً حريصاً على حماية المصالح الفرنسية والغربية في فترة اتسمت بانحسار الاستعمار ونمو قوى التحرر الوطني في بلاد آسيا وأفريقيا والعالم العربي. وقد كان منديس فرانس من المؤيدين لفتح الحوار بين العرب وإسرائيل في الفترة 1968 - 1973.

برونـو كرايسكي (1911-1990)
Bruno Kreisky
رجل دولة نمسـاوي وأول يهودي يتولى منصـب مسـتشار النمسـا. وُلد في فيينا وكان والده تاجر منسوجات ثرياً. انضم كرايسكي في سن مبكرة إلى الحزب الاشتراكي. وعندما مُنع الحزب من مزاولة نشاطه عام 1934، اشترك كرايسكي في نشاطه السري وتم إلقاء القبض عليه عام 1935 وحُكم عليه بالسجن ستة عشر شهراً. وفي عام 1938، تَخرَّج في جامعة فيينا. وبعد أن قامت ألمانيا النازية بضم النمسا إليها، طُرد كرايسكي واستقر في السويد حيث عمل كمراسل أجنبي. ومع نهاية الحرب، التحق بالسلك الدبلوماسي النمساوي واشتغل في سفارة بلاده في السويد. وفي عام 1951، عاد إلى النمسا حيث عُيِّن مساعداً للرئيس النمساوي الاشتراكي، ثم أصبح عام 1953 **** وزارة الخارجية ولعب دوراً أساسياً في المفاوضات التي جرت مع الاتحاد السوفيتي والتي أُبرمَت بمقتضاها معاهدة النمسا عام 1955 والتي أعطت النمسـا اسـتقلالها مقابل تعهدها بالحيـاد الدائم. ومنذ عام 1959، وحتى عام 1966، أصبح كرايسكي وزيراً للخارجية. وفي عام 1967، اختير رئيساً للحزب الاشتراكي وزعيماً للمعارضة، فقاد حزبه للحكم عام 1970 وتولى منصب مستشار النمسا. وقد حققت النمسا في ظل حكمه قدراً كبيراً من الرخاء الاقتصادي، كما لعب دوراً متميِّزاً في السياسة الدولية، خصوصاً في علاقة الشرق بالغرب والشمال بالجنوب.

كتب كرايسكي كتابه النمسا بين الشرق والغرب (1968)، الذي اتهم فيه إسرائيل باحتكار تعاطف الأحزاب الاشتراكية وتأييدها بسبب عقدة الذنب تجاه اليهود بعد الإبادة النازية، وبيَّن أن الوقت قد حان لتتخلص هذه الأحزاب من هذا الاحتكار الإسرائيلي وهذا الإحساس بالذنب. كما حثّ كرايسكي أوربا على ضرورة القيام باتصالات مع العالم العربي لتحقيق حل سلمي للشرق الأوسط. ورفض كرايسكي مفهوم الأمة اليهودية الواحدة، فاليهودية بالنسبة له عقيدة وليست انتماءً عرْقياً.

وقد لعب كرايسكي أيضاً دوراً بارزاً في قضايا الشرق الأوسط يتسم بقدر من التوازن، وهو ما جعله هدفاً لانتقادات حادة من جانب إسرائيل. ففي عام 1973 قَبل كرايسكي مطالب مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين الذين استولوا على قطار نمساوي يحمل عدداً من اليهود السوفييت المهاجرين إلى إسرائيل وطالبوا بوقف الهجرة اليهودية المارة عبر فيينا إلى إسرائيل. وقد أثار ذلك غضب إسرائيل ووصفت جولدا مائير كرايسكي بأنه يهودي كاره لنفسه. وفي عام 1980، كان كرايسكي أول زعيم غربي يلتقي بياسر عرفات ويمنح منظمة التحرير الفلسطينية اعترافاً دبلوماسياً على أرض الواقع (دي فاكتو). كما عمل على تخفيف موقف الدولية الاشتراكية (المتحيِّز) لإسرائيل وعلى تبنيها موقفاً أكثر حياداً. وفي الوقت نفسه، حثّ منظمة التحرير الفلسطينية على الاعتراف بوجود إسرائيل نظير اعتراف إسرائيل بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، أي أن الحل الذي اقترحه هو الاعتراف المُتبادَل بين الدولتين على أساس قرار 242. كما ساهم كرايسكي عدة مرات في بعض المفاوضات التي جرت من وراء الكواليس للإفراج عن الرهائن والأسرى الإسرائيليين لدى بعض المجموعات الفدائية الفلسطينية.

وقد استقال كرايسكي من منصب المستشارية ثم من رئاسة الحزب الاشتراكي عام 1983 بعد أن فشل حزبه في الحصول على أغلبية مطلقة في الانتخابات.

هــنري كيـسنجر (1923 (
Henry Kissinger
عالم سياسة أمريكي، وأول أمريكي يهودي يتولى منصب وزير الخارجية الأمريكية، وكذلك أول أمريكي غير أمريكي المولد يتولى هذا المنصب. وُلد في مقاطعة بافاريا في ألمانيا، وقضى صباه في ظل الحكم النازي حيث طُرد مع أخيه من المدارس الحكومية، كما طُرد والده من وظيفته كمعلم. وفي عام 1938، رحل كيسـنجر مع أسـرته إلى الولايــات المتحـدة حيث استقروا في نيويورك. وجُنِّد في الجيش الأمريكي عام 1943 ثم عمل في المخابرات حتى عام 1946، وخدم في ألمانيا كمترجم وكمدرس في المدرسة الأوربية لقيادة المخابرات.

وبعد الحرب، درس في هارفارد ثم انضم إلى هيئة التدريس وتدرَّج في السـلم الأكاديمي حتى حصل على درجة الأسـتاذية عام 1962. واكتسب كيسنجر مكانة مهمة كمفكر مختص في شئون الدفاع والأمن القومي وكتب عدة كتب مهمة في هذا المجال. وعمل كيسنجر مسـتشـاراً لعدة رؤساء أمريكيين (أيزنهاور، وكنيدي، وجونسون). وفي عام 1968، عمل بصفة دائمة في شئون الرئاسة الأمريكية. وحين عمل مستشاراً للرئيس نيكسون للأمن القومي، اتسمت علاقتهما بقدر كبير من التفاهم وأتاح نيكسون لكيسنجر مساحة كبيرة من حرية العمل. وقد اكتسب كيسنجر سمعة عالمية من خلال تمهيده للزيارتين التاريخيتين التي قام بهما الرئيس الأمريكي نيكسون إلى الصين والاتحاد السوفيتي عام 1972، وتدشينه سياسة الوفاق الدولي مع الاتحاد السوفيتي وتَوصُّله لمعاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية الأولى (سولت) عام 1972.

ومع انتهاء حرب فيتنام، وجَّه كيسنجر اهتمامه نحو الشرق الأوسط حيث كانت الإدارة الأمريكية تسعى إلى الحد من النفوذ السوفيتي في المنطقة وتقليصه في نهاية الأمر من خلال خلق وجود أمريكي متزايد في العالم العربي وضمان استمرار تدفق النفط العربي إلى الغرب. وبالفعل، لعب كيسنجر دوراً بارزاً في ترتيب وقف إطلاق النار في أثناء حرب 1973، ثم في عقد مفاوضات بين الجانبين العربي والإسرائيلي، وأخيراً في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر، الأمر الذي مهَّد بالفعل لتزايد الوجود الأمريكي بالمنطقة وتزايد دور أمريكا في قضية الشرق الأوسط وما انتهى إليه من معاهدة صلح بين مصر وإسرائيل.

وقد مُنح كيسنجر عام 1973 جائزة نوبل للسلام، كما عُيِّن في العام نفسه وزيراً للخارجية الأمريكية. ومع مجئ الرئيس كارتر إلى الحكم، انتهى عمله بهذا المنصب. وقد تولى كيسنجر بعد ذلك، مواقع مرموقة في المؤسسات الأكاديمية والمالية والتجارية الأمريكية، فعمل أستاذاً في جامعة جورج تاون، وعُيِّن نائباً لرئيس اللجنة الاستشارية الدولية لبنك تشيز مانهاتن، كما عمل مسـتشاراً للشـئون العالمية لشـركة إن. بي. سي. NBC وفي مؤسسة جولدمان ساخس للمال والسمسرة لتقديم المشورة حول تأثير التطورات السياسية الدولية على الشئون الاقتصادية والمالية للشركة وعملائها.
وفي عام 1983 اختاره الرئيس الأمريكي ريجان لرئاسة اللجنة الخاصة بشئون أمريكا اللاتينية المنوط بها مهمة تقييم السياسة الخارجية الأمريكية في هذه المنطقة.
ويتمحور فكر كيسنجر الإستراتيجي حول مفهوم النظام الدولي الشرعي والمستقر. فالاستقرار يصنع السلام (وليس العكس) وهو لا يتحقق إلا بوجود شرعية دولية تقبلها الأطراف الأساسية في النظام الدولي. والشرعية والاستقرار لا يتحققان إلا من خلال أداتين لا انفصال بينهما هما الدبلوماسية والقوة المسلحة. وهذا النظام لا ينفي الصراع تماماً بل يخفضه إلى نوع من التنافس والتوتر المحكوم بإطار مقبول من الترتيبات والقواعد حول السلوك والأهداف والوسائل المسموح بها. والمعضلة الأساسية بالنسبة لكيسنجر هي كيفية الحفاظ على النظام الشرعي المستقر في ظل عصر الأسلحة النووية وفي مواجهة النظم الثورية التي ترفض الإطار القائم وتشكل مصدراً للصراعات التي تعيق (في نظره) التطور، ومن هنا كان اقتراحه القائل بتَبنِّي إستراتيجية تعتمد على التزاوج بين الدبلوماسية والمفاوضات من جهة، والحرب المحدودة من جهة أخرى.

وقد كانت القضية الأساسية التي شغلت كيسنجر وحدَّدت مواقفه من القضايا الدولية كافة هي قضية العلاقة بين القوتين الأعظم والتوازن الدقيق بينهما. فأية مشكلة تمس هذا الميزان، وتهدد المصالح الأمريكية والغربية، كانت تثير اهتمامه وتَحرُّكه السريع، مثل مشكلة الأمن الأوربي وحرب فيتنام وأزمة الشرق الأوسط بخاصة بعد حرب 1973، في حين نجد أن اهتمامه يتراجع بمشاكل أخرى لا تمس هذا التوازن مثل غزو تركيا لقبرص عسكرياً عام 1974 وتحـديها لليونان، رغم أن كلتـا الدولتين عضـو في حلـف ناتو، وكذلك إهماله التام لأفريقيا وعدم اهتمامه بقضاياها إلا بعد دخول الاتحاد السوفيتي طرفاً في حرب تحرير أنجولا، فعندئذ جاء تَحرُّكه السريع لغلق الباب الأفريقي أمام السوفييت. وإلى جانب تَحدِّي الكتلة الشرقية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي كان كيسنجر يرى أن حركات التحرر الوطني والنظم الثورية الوطنية في العالم الثالث تشكل تحدياً آخر للولايات المتحدة والمعسكر الغربي؛ فهي تنزع نحو فرض نظام عالمي جديد يتسم بقدر أكبر من المساواة، وترى القوة الأمريكية المالية نوعاً من الاستعمار الجديد ومن ثم كان اقترابها أكثر من الاتحاد السـوفيتي وتأثير ذلك على العـلاقات والتوازن بين القوتين الأعظم. وهو يرى إمكانية احتواء هذه النظم الثورية "بالغواية والتخويف وكذلك ضربها بالحروب المحدودة حتى بغير اشتراك الولايات المتحدة. وعلى الولايات المتحدة أن تتأكد أنه يوجد لها في كل منطقة من العالم الثالث سوط مستعد في كل لحظة لأن يهوي على أي ظهر يحاول أن يرفع رأسه بعد حد معيَّن".

ومحاولة اكتشاف البُعد اليهودي في تفكير كيسنجر أمر لا طائل من ورائه، فطريقة تفكيره وأولوياته وإدراكه لمصالح العالم الغربي وإدارته للأزمات الدولية (سواء في الشرق الأوسط أو غيرها من المناطق) هي جزء لا يتجزأ من التفكير الإستراتيجي العام في الغرب بمنطلقاته الصراعية الداروينية والتي تعود إلى عصر النهضة، وفلسفة الدولة. وهو تفكير يسعى إلى حماية أمن الغرب والدفاع عن مصالحه من خلال استخدام كل أشكال القوة (من ضغط سياسي إلى نشاط استخباري إلى انقلابات عسكرية مُدبَّرة إلى استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر). وفي داخل هذا الإطار يرى كيسنجر أن الولايات المتحدة هي زعيمة العالم الغربي ويرى أن لمصالحها أسبقية على مصالح الدول الأخرى وضمن ذلك الدول الغربية واليابان. ومن هنا اهتمامه بالبترول العربي فهو أداة ضغط أساسية على الدول "الحليفة" التي تعتمد على البترول المستورد. وما يُحدِّد موقف كيسنجر من إسرائيل ليس يهوديته أو رغبته في الدفاع عن المصالح اليهودية أو زيادة النفوذ اليهودي أو حماية الدولة اليهودية، وإنما حرصه على أن تكون إسرائيل حليفاً إستراتيجياً للولايات المتحدة وسوطاً رادعاً في يدها. ومن ثم لا يمكن تفسير مواقف كيسنجر السياسية على أساس يهوديته، كما يفعل بعض المحللين العرب.


__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-20-2013, 12:57 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

المـال اليهــودي
Jewish Money
«المال اليهودي» عبارةتتواتر في الأدبيات المُتداوَلة عن أعضاء الجماعات اليهودية، وهي عبارة تفترض وجودثروة (ضخمة) يمتلكها اليهود ويوظفونها بالطريقة التي تروق لهم. ولعل أساس العبارةهو دور اليهود كجماعة وظيفية تجارية تمتلك رأسمال توظفه في التجارة البدائية والرباويدر عليها ربحاً (كان النبيل الإقطاعي يستولي على معظمه). ونظراً لوجود هذاالرأسمال خارج العملية الإنتاجية الزراعية، فقد بدا كما لو كان مستقلاً. أما فيالمجتمعات الرأسمالية المتقدمة، فقد تَركَّز أعضاء الجماعات اليهودية في قطاعاتاقتصادية بعينها، فكان يبدو كما لو كان اليهود عنصراً مستقلاً.

ويذهب البعضإلى أن هذا المال اليهودي هو سر قوة اليهود، فهم يوظفونه في شراء النفوذ وفي ممارسةالسلطة وفي تخريب الضمائر وإفساد العباد. وهذه أيضاً تهمة لها جذورها، فأعضاءالجماعات اليهودية كانوا يشترون المواثيق والحماية والمزايا من الملك أو الأمير،كما أنهم تركزوا في كثير من القطاعات المشينة في المجتمعات الحديثة (البغاء - المجلات الإباحية).

وكما هو واضح، فإن ثمة أساساً موضوعياً أو مادياً لكلالتهم، ومع ذلك يظل الواقع أكثر تركيباً من التهم الاختزالية البسيطة ومن الواقعالمادي المباشر. فالمال اليهودي في المجتمع الإقطاعي كان بالفعل في قبضة أعضاءالجماعات اليهودية، ولكنهم هم أنفسهم كانوا في قبضة الأمير الإقطاعي، وكانتالمواثيق الممنوحة لهم تتحدث عن تبعيتهم للأمير تبعية المملوك للمالك.وكانت بعضالمواثيق تشير إلى هذا بشكل مجازي، بينما كان البعض الآخر يشير إليه بشكل حرفي.

والمال اليهودي في العصر الحديث لا يختلف كثيراً عن المال اليهودي فيالعصور الوسطى في الغرب. فرأس المال اليهودي يتحرك حسب حركة رأس المال المحلي الذييتحرك بدوره حسب حركة رأس المال العالمي. ولعله بعد عمليات التدويل المختلفة التيخاضها العالم، وظهور النظام العالمي الجديد والشركات متعددة الجنسيات، زادت تبعيةالمال اليهودي وتناقصت مقدرة الرأسمالي من أعضاء الجماعات اليهودية على التحكم فيرأس ماله.

وكل هذا لا ينفي ما يلي:

1
ـ أن هناك رقعة من الحريةللرأسمال اليهودي يتحرك فيها، خصوصاً إذا تماثلت الظروف.

2
ـ أن كثيراً منالقرارات السياسية التي اتخذها غير اليهود كانت تَصدُر عن الإيمان بوجود هذا المالاليهودي، ومن ثم أخذه صانع القرار في الحسبان وهو يتخذ قراره، أي أن المال اليهودي (في هذه الحالة) عنصر مؤثر تأثيراً لا يتناسب بتاتاً مع قوته الفعلية.


العجز اليهودي (بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة(
Jewish Powerlessness
«العجز بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة» عبارة ظهرت مؤخراً في الأدبيات الصهيونية وغيرها، وهي عبارة تحاول أن تفسر المسألةاليهودية على أنها تتلخص في افتقار اليهود إلى السيادة القومية وعدم مشاركتهم فيصنع القرار. وتعود هذه الحالة (حسب التصور الصهيوني) إلى عام 70م عندما قام تيتوسبهدم الهيكل رمز السيادة القومية وأصبح اليهود جماعات مشتتة ليست لها سيادة قوميةمستقلة، يوجد أعضاؤها خارج نطاق مؤسسات صنع القرار بعيداً عن أية سلطة، وبالتاليأصبحوا غير متحكمين في مصيرهم. ويستند هذا النموذج التفسيري إلى عدة افتراضاتاختزالية من بينها تَصوُّر أن العبرانيين القدامى والعبرانيين اليهود، أي اليهودحتى عام 70م، كانوا يمارسون سيادة قومية كاملة. وهذا أمر مشكوك فيه. فلقد كانالعبرانيون ـ حسب ما وصلنا من معلومات - أقناناً أو عبيداً أو قبائل رحلاً. وبعدالتسلل العبراني في كنعان، ظل العبرانيون جيوباً متفرقة لا تمتلك كثيراً من السيادةالقومية. والاستثناء الوحيد من هذه الصورة العامة هو حكم كلٍّ من داود وسليمان (المملكة العبرانية المتحدة) الذي لم يدم أكثر من أربعين عاماً بسبب الغياب المؤقتللقوى العظمى في الشرق الأدنى القديم. ثم ظهرت الدويلتان العبرانيتان اللتان كانتاتتبعان في سياستهما إما آشور وبابل أو مصر أو آرام دمشق. وقد دام حكم الحشمونيينفترة قصيرة لا تزيد على مائة عام، بدأت بتوقيع معاهدة مع روما (القوة العظـمىالصـاعـدة) وانتهـت بتَدخُّل بومـبي في تعيين الملـك الحشموني.

ويفترض هذاالنموذج التفسيري أيضاً وحدة المصير اليهودي ووحدة أعضاء الجماعات. وهذا أمر يتناقضتماماً مع الحقائق التاريخية، فقد كان مصير كل جماعة يهودية يتحدد بآليات وحركياتالتشكيل الحضاري والسياسي الذي تواجدت داخله.

ويُنكر هذا النموذج التفسيريأن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا في كثير من الفترات، شأنهم شأن أعضاء الجماعاتالدينية والإثنية الأخرى، يشاركون في السلطة من خلال المؤسسات التقليدية للحكم. فالمجتمعات التقليدية كان لها نظامها الخاص في تقسيم السلطة بحيث تسيطر السلطةالحاكمة على الجيش والسياسة الدولية. أما الشئون الأخرى، وضمنها الأمن الداخلي،فكان تسييرها يتم عن طريق مؤسسات الإدارة الذاتية.

ثم يفترض هذا النموذجالتفسيري وجود إدارة وسيادة يهودية مستقلة، وهو افتراض خاطئ تماماً. ففي العصرالحديث، يشارك أعضاء الجماعات، منفردين أو مجتمعين، في السلطة وفي صنع القرار منخلال مؤسسات الدولة الحديثة (البرلمانات والأحزاب السياسية). فعلى سبيل المثال،يُعدُّ تعيين هنري كيسنجر وزيراً للخارجية الأمريكية، وهو من أهم المناصب السياسيةفي العصر الحديث، تعبيراً عن هذا الشكل من أشكال المشاركة في السلطة. وبالمثل فإناللوبي الصهيوني شكل آخر لهذه المشاركة؛ حيث يشكل بعض أعضاء الجماعة اليهودية قوةضغط داخل الكونجرس الأمريكي تقوم بممارسة الضغط لصالح الدولة الصهيونية. وهذه هيإحدى الآليات الأساسية للنظام السياسي الديموقراطي في الغرب.

وسيجد الدارسالمدقق لهذا النموذج التفسيري أن المفكرين الصهاينة، ومعظمهم من أصول إشكنازية شرقأوربية، حين يتحدثون عن العجز بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة، إنمايفكرون في تجربة أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا ابتداءً من العصور الوسطى حتىبداية القرن الحالي. ولذا، فإن المقولة تحمل شيئاً من الصحة إن تَحدَّد مجالهاالدلالي على هذا النحو.

ومن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية في العصورالوسطى في الغرب، كانوا تجاراً ومرابين وأقنان بلاط وأرندا ويهود بلاط، وكلها أشكالمختلفة من أنماط الجماعة الوظيفية، وكانوا كذلك قريبين دائماً من الحاكم ملتصقينبه، كما كانوا يشكلون أدواته الطيعة في عملية الاستغلال وامتصاص فائض القيمة منالجماهير. ولكنهم، مع هذا، لم يشاركوا في صنع القرار، فقد كانوا منبتي الصلةبالجماهير وتعوزهم القوة العسكرية، وهذا ما جعلهم في حالة عجز واعتماد كامل علىالحاكم الذي كانت ثقته بهم تتزايد لأنهم لا يشكلون أية خطورة عليه بسبب عجزهم عنالاستيلاء على السلطة أو لعدم وجود أساس من القوة يؤهلهم للمطالبة بنصيب فيها.

وقد طرحت الصهيونية نفسها على أنها الحركة التي ستحل هذه الإشكالية وتضعنهاية لعجز اليهود وعدم مشاركتهم في السلطة عن طريق تأسيس دولة يهودية مستقلة ذاتسيادة. وذلك على اعتبار أنه، مهما تكن مشاركة أعضاء الجماعات في صنع القرار، فإنهذا القرار يظل في النهاية غير يهودي، ويظل اليهودي بالتالي مهدداً في أية لحظةبسحب البساط من تحت قدميه. وفي هذا المقام، يُشار دائماً إلى ألمانيا النازية حيثكان كثير من يهود ألمانيا يشغلون، حتى ظهور النازية (عام 1933)، مناصب حكوميةوسياسية قيادية. وينسى الصهاينة أن النظام السياسي الألماني لم يَحرم أعضاءالجماعات اليهودية وحدهم من المشاركة في السلطة، فقد حَرَم قطاعات كبيرة من الشعبالألماني والشعوب الأخرى التي سيطرت عليها القوات الألمانية من أية سلطة أو إرادةمستقلة.

والأهم من ذلك كله أن الاستعمار الصهيوني كان استعماراً عميلاً منذبداية الاستيطان، كما أن شرعيته لم تكن تستند إلى قوة اليهود أو إلى حركة جماهيريةوإنما استندت إلى وعد أصدرته القوة الإمبراطورية الصاعدة في الشرق وإلى الضماناتالعسكرية التي قدَّمتها، أي أن النمط الذي ساد أوربا حتى القرن التاسع عشر، داخلالتشكيل السياسي الغربي، عاد وأكد نفسه بحيث أصبح المستوطنون الصهاينة عنصراًقريباً من القوة الإمبريالية الحاكمة لصيقاً بها، ولكن القرار الخاص بالسياسةالاستعمارية الدولية ظل من اختصاص الحاكم الإمبريالي، أي أن الصهاينة أسسوا فينهاية الأمر دولة وظيفية ليست لها إرادة مسـتقلة؛ بل وعاجـزة عن البقـاء والحركةبدون الدعـم الإمبريالي.

لكن الدولة، بعد إنشائها، تمتعت بشيء من الاستقلالالنسبي نتيجة تَصارُع القوى الإمبريالية فيما بينها على مناطق النفوذ في الشرقالأوسط. ومع صعود قوة الولايات المتحدة وتزايد اعتماد المستوطن الصهيوني على الدعمالأمريكي، تناقص الاستقلال اليهودي وتضاءل تحكم الإسرائيليين في مصيرهم، وأصبحتالمؤسسة الحاكمة الإسرائيلية تتخذ قراراتها وعيونها على الممول الموجود في واشنطن. ومن المتوقع أن يزداد هذا الاتجاه مع تزايد الرفض العربي للمُستوطَن الصهيوني.

وقد وجدت إشكالية العجز طريقها إلى التفكير الديني اليهودي، فيذهب ريتشاردروبنشتاين إلى أن اليهودية الحاخامية قد ولَّدت لدى اليهود استعداداً كامناًللاستسلام والخنوع والخضوع والعجز. ولا يمكن تفسير تعاون المجالس اليهودية في أوربامع القوات النازية واشتراكها في تسليم اليهود إلى النازي إلا بالتراث الحاخامي الذييجعل من العجز والسلبية فضيلة. أما إرفنج جرينبرج، فقد ساهم في تطوير ما يُسمَّى «لاهوت البقاء» الذي يجعل الحصول على السيادة هدف التاريخ اليهودي الزمنيوالمقدَّس، ويجعل دستـور إسـرائيل كتاب إسرائيل المقدَّس، ويجعل دولة إسرائيلالتجسد الحقيقي لهدف التاريخ اليهودي (تيلوس).

وتجدر ملاحظة أن مصطلح «عجزاليهود» يُستخدَم في الكتابات الدينية، وخصوصاً الأرثوذكسية، للإشارة إلى أن اليهودشعب مختار ذو صلة خاصة بالإله، وأن هذه العلاقة الخاصة تجعله يقف خارج التاريخليشهد على الأمم، ولذا فإنه لابد أن يظل خارج نطاق السلطة والسيادة. والمصطلح، فيهذا السياق، لا يحمل أية تضمينات قدحية، بل العكس هو الصحيح إذ أن العجز هنا يصبحعلامة من علامات الاختيار.

البابالثالث: إشكالية العبقرية والجريمة اليهودية


العـــبقرية اليهوديـة
The Jewish Genius
كلمة «عبقرية» تعني مجموعة من السمات الخاصة لا تفترض بالضرورة تَميُّزاً أو علواً مثلما نقول «عبقرية المكان» حيث لكل مكان عبقريته الخاصة، أو «عبقرية اللغة الإنجليزية» حيث لكل لغة عبقريتها الخاصة. وحينما تُستخدَم العبارة بهذا المعنى في الكتابات الصهيونية (أو غيرها) كأن يُقال «العبقرية اليهودية»، فهي تشير عادةً إلى «الخصوصية اليهودية» (انظر: «الخصوصية اليهودية»). ولكن هذا الاستعمال نادر، والاستعمال الشائع هو أن تشير كلمة «عبقرية» إلى درجة من درجات التَميُّز إلى جانب الخصوصية. وعبارة «العبقرية اليهودية» تفترض وجود عبقرية يهودية مستقلة، وأن العباقرة اليهود يتمتعون باستقلال عما حولهم، وأن وجودهم مؤشر على تَميُّز اليهود ككل، ولذا نجد حديثاً مستفيضاً عن فضل العباقرة اليهود على الحضارة الإنسانية وعن زيادة عددهم بالنسبة للعباقرة من الشعوب والأقليات الأخرى.

لكن الحديث عن «العبقرية اليهودية» لا يختلف بنيوياً، في واقع الأمر، عن حديث المعادين لليهود عن «الجريمة اليهودية» أو عن «عبقرية اليهود المتأصلة في ارتكاب الموبقات والسرقة والفساد». فالحديث عن العبقرية اليهودية، تماماً مثل الحديث عن الجريمة اليهودية، يَصدُر عن تَصوُّر أن اليهودي «يهودي» وحسب أو يهودي بالدرجة الأولى ثم أمريكي أو روسي بالدرجة الثانية أو الثالثة، وأن ما يحدد سلوكه (عبقريته في الخير والشر) هو البُعد اليهودي في وجدانه ورؤيته. كما يتفق الصهاينة والمعادون لليهود على اختزال اليهودي وتجريده من أي سياق اجتماعي أو تاريخي أو إنساني وعلى وضعه على هامش التاريخ أو خارجه، حيث يقف ليساهم فيه بعبقرية فذة، أو يحاول تخريبه بكل ما أوتي من قوة ودهاء وحيلة وعبقرية إجرامية.

ولو نظرنا إلى العباقرة اليهود، بعد أن نضعهم في سياقهم التاريخي المتعيِّن، سنكتشف على الفور أن مقولة «العبقرية اليهودية» لا تملك مقدرة تفسيرية عالية. وسيظهر قصورها التفسيري حينما نسأل عن تلك السمات "اليهودية المشتركة" بين عباقرة مثل فيلون (الفيلسوف الذي عاش في العصر الهيليني)، وشعراء العرب اليهود (في الجاهليـة)، وموسى بن ميمون (المفكر الديني اليهودي الذي عاش في العالم الإسلامي في القرن الحادي عشر)، وفرويد (المفكر النمساوي اليهودي الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر)، وشاجال (الفنان التشكيلي الذي عاش معظم حياته في النصف الأول من القرن العشرين)، وبرنارد مالامود (الروائي الأمريكي الذي عاش في النصف الثاني من القرن العشـرين). والإجابة الوحيـدة هي أن مثل هذه السمـات المشتركة غير موجودة. وإن اكتشف أحد عناصر يهودية مشتركة بين كل هؤلاء العباقرة، فإن تصنيفهم على أنهم يهود بالدرجة الأولى لا يفيد كثيراً في فَهْم فكرهم أو طبيعة مساهمتهم في التراث الإنساني. فيهوديتهم المشتركة ليست ذات مقدرة تفسيرية أو تصنيفية عالية، ولابد لنا أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كل واحد منهم حتى يتسنى لنا الإحاطة بها. فموسى بن ميمون كاتب عربي أندلسي كان يؤمن باليهودية وتفاعُل مع التراث العربي الإسلامي. ومن خلال هذا التفاعُل نضجت عبقريته العربية، ولم تكن اليهودية سوى أحد العناصر في تكوين هذه العبقرية (وحتى هذه اليهودية كانت قد اصطبغت بصبغة إسلامية). وقصص برنارد مالامود تنتمي إلى التراث الأدبي الأمريكي لأن كاتب هذه القصص تأثر بتقاليد هذا الأدب وأتقن اللغة الإنجليزية الأمريكية وكتب روايات أمريكية تعالج موضوعات أمريكية يهودية. وحين صرح شاجال ذات مرة لمجلة تايم بأنه غير مهتم باليهودية، قامت الدنيا ولم تَقعُد، وأرسل كثير من القراء برسائل احتجاج أوضحوا فيها تأثُّـر شاجال باليهودية الحسيدية. وقد يكون هذا أمراً صحيحاً، ولكن شاجال يظل نتاج الحركات الفنية في أوربا في القرن العشرين، وبخاصة في روسيا وفرنسا. وقد تكون لبعض لوحاته نكهة حسيدية، خصوصاً أنها تعالج موضوعات يهودية مثل التوراة والحاخام، ولكنها تظل مع هذا لوحات رسمها فنان روسي فرنسي متأثر وبعمق بالتراث المسيحي!

وإذا ما تركنا مجال الفنون والإنسانيات، يصبح الحديث عن العبقرية اليهودية عبثاً وهراء لا طائل من ورائه. فبأي معنى يمكننا أن نقول إن نظرية النسبية قد تَوصَّل إليها أينشتاين من خلال عبقريته اليهودية، وكأن أينشتاين كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشـافات باهـرة دون جهود من سبقه من علماء مسيحيين وبوذيين؟ وهل كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشافات دون وجوده داخل الحضارة الغربية الحديثة؟ وإلا فبماذا نفسر عدم ظهور علماء طبيعة متفوقين تَفوُّق أينشتاين بين يهود الفلاشاه الإثيوبيين؟

ويُلاحَظ أن نسبة المتعلمين والمخترعين بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي مرتفعة. ولكن هذا أمر طبيعي وينطبق على كل أعضاء الأقليات في أي مكان حينما تتاح أمامهم الفرصة. لكن أعضاء الأقلية يخضعون، مع ذلك، في معظم الأحيان إن لم يكن كلها، لدرجة تَقدُّم وتَخلُّف المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه، فإن تَقدَّم تَقدَّموا وإن تخلف صاروا متخلفين. ولذا لم يكن هناك عباقرة يهود بين العرب إبَّان فترات الانحلال في الحضارة العربية حين أُغْلقَت فيها الحلقات الفقهية والمدارس التلمودية العليا في العراق بسبب انتكاس الحضارة العربية، بينما ازدهر الفكر العربي اليهودي في الأندلس بسبب ازدهارها.

وحتى لو رصـدنا العبقرية اليهودية بشكل مطلق، كما يفعل الصهاينة، فإننا سنكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية، لم يلعبوا دوراً كبيراً في خلق الحضارة الإنسانية. فحينما ظهر العبرانيون على مسرح التاريخ منذ عام 1200 ق.م. رعاةً رُحَّلاً، كانت الإمبراطورية الفرعونية في مصر قد شيدت مئات المعابد والأهرامات والسدود، وكان الفن المعماري وعلوم الفلك المصريان قد وصلا إلى قمم شامخة. وحينما تأسست المملكة العبرانية المُوحَّدة على يدي داود وسليمان، لم تكن هذه المملكة سوى مملكة صغيرة ازدهرت في غياب القوى الإمبراطورية العظمى في الشرق الأدنى القديم، واعتمدت حضارياً على الدول والأقوام المجاورة اعتماداً كاملاً. أما في مجال الأدب والفن والفكر، فلا توجد أية مسـاهمة حقـيقية من جـانب العبرانيين في تراث العالم القـديم، ولا نسمع عن عباقرة يهود في فن الهندسة المعمارية (على سبيل المثال). ولا يأتي ذكر اليهود في الكتابات اليونانية أو الرومانية إلا بوصفهم شحاذين ومصدر ضيق لكُتَّاب مثل شيشرون. وإذا نظرنا إلى الحضارة العربية إبَّان فترة نهضتها، فإننا نجد أن دور اليهود كان مقصوراً بالدرجة الأولى على الترجمة والنقل من اللغات الأجنبية. وقد دفعهم اضطلاعهم بوظيفة الجماعة الوظيفية الوسيطة التي يعمل أعضاؤها بالتجارة الدولية في العالم القديم إلى معرفة العديد من اللغات، كما جعلهم ناقلين لحضارات الآخرين. ولم يكن يوجد شاعر كبير أو مفكر فلسفي عربي مشهور يعتنق اليهودية، فكنت ترى بينهم الأطباء والصيادلة والتجار حيث ظلوا مرتبطين بالإنتاج اليومي المادي، ولكن لم يُوجَد بينهم الفنانون أو المفكرون. وبعد أن انتقل مركز الحضارة إلى الغرب، ظل الأمر على ما كان عليه. ففي شرق أوربا، التي كانت تضم غالبية يهود العالم (يهود اليديشية)، ظلت الجماعات اليهودية غارقة حتى أذنيها في التأملات القبَّالية. وكانت الحـياة العقلية في الجيتو منفصـلة عن العـالم الخارجي، هذا في الوقت الذي كانت أوربا تعيش عصر نهضتها. ولذا لا نجد في أدب وحضارة العصور الوسطى أو عصر النهضة مفكراً أو رساماً أو أديباً يهودياً واحداً شهيراً. بل إن المفكرين اليهود الذين ظهروا خلال هذه الفترات الطويلة، مثل الحاخام عقيبا أو راشي أو موسى بن ميمون، كانوا مهتمين بأمور دينية يهودية ذات أهمية إنسانية محدودة. كما نعرف أنهم كانوا بلا ثقَل يُذكَر داخل مجتمعاتهم، فمـوسى بن ميمون لم يكـن معـروفاً باعتباره مفكراً دينياً، وإنما باعتباره طبيباً ومؤلف كتب في الطب وحسب. وما من شك في أن اقتصار نشاط اليهود على نشاطات إنسانية معيَّنة دون غيرها أمر طبيعي للغاية من أقلية تلعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة المنعزلة اقتصادياً ووجدانياً بسبب وظيفتها.

ونحن لا نسمع عن العباقرة اليهود إلا مع بدايات ظهور الرأسمالية والعلمانية. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن إسبينوزا، أول فيلسوف يهودي غربي في العصر الحديث، ظهر في هولندا مهد الرأسمالية الحديثة. ومما له دلالة بالمثل ظهور إسبينوزا من بين اليهود السفارد المتمتعين بمستوى حضاري مرتفع بسبب احتكاكهم بالحضارة الإسلامية، على عكس اليهود الإشكناز الذين تَدنَّى وضْعُهم الحضاري داخل الحضارة المسيحية. وقد كان إسبينوزا أيضاً من أوائل المفكرين العلمانيين الذين طرحوا انتماءهم اليهودي جانباً، فلم يكن إبداعه وبروزه نتيجة انتمائه اليهودي، وإنما تم هذا الإبداع وذلك البروز رغماً عن هذا الانتماء وبسبب رفضه (وذلك مع عدم إنكار أن التراث اليهودي القبَّالي لعب دوراً مهماً في تحديد معالم فكره أو في تأكيد الواحدية المادية الكونية والاتساق الهندسي عنده واللذين يشكلان جوهر نسقه الفلسفي).

العباقــرة مـن أعضاء الجماعـات اليهوديـة
Geniuses from the Jewish Communities
ظل العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية يساهمون في بناء الحضارة الأوربية باعتبارهم أوربيين علمانيين أولاً وأخيراً، أي أن يهودية العبقري لم تكن العنصر الأساسي في إسهامه. وقد زادت هذه المساهمة بازدياد انتشار القيم الليبرالية ثم الثورية في الغرب والشـرق، إذ أن هذه القيم فتحـت المجال أمام أعضاء الجماعات اليهودية.

ونحن لا نُنكر أثر البُعد اليهودي في تكوين العبقري اليهودي، فأثر القبَّالاه اللوريانية واضح تماماً على تفكير إسبينوزا وفرويد وجاك دريدا فيلسوف التفكيكية. كما نرى أن للمدرسة التفكيكية (في النقد والفلسفة) علاقة قوية بمدارس التفسير الدينية اليهودية، وأن اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تحوي داخلها عناصر كثيرة متناقضة (بعضها عبثي وبعضها عدمي أو غنوصي) تتيح للعبقري اليهودي استعداداً كامناً (أكثر من غيره) لاكتشاف مثل هذه التيارات في المجتمع والتعبير عنها بطريقة مباشرة. كما أن البُعد الحلولي الكموني القوي في اليهودية ولَّد استعداداً كامناً قوياً لدى أعضاء الجماعات اليهودية لتَقبُّل المنظومة العلمانية (وهي منظومة حلولية كمونية). ولكن يجب أن نشير أيضاً إلى أن البُعد اليهودي ذاته هو نتاج تفاعل اليهود مع ما حولهم من حضارات، فالغنوصية هي حركة سادت الشرق الأدنى القديم وتأثرت بها اليهودية. كما أن العبقري اليهودي قد يكون لديه استعداد كامن لاكتشاف شيء ما، لكن هذا الشيء سيظل جزءاً من تشكيل حضاري غير يهودي، بمعنى أن الحركيات النهائية هي حركيات الحضارة التي يعيش فيها اليهودي. فمهما كان علم فرويد مثلاً بتراث القبَّالاه، لا يمكن تَخيُّل أن بوسعه التوصل إلى نظرياته وهو في اليمن (التي يعرف حاخاماتها القبَّالاه اللوريانية بطريقة تفوق فرويد وحاخامات أوربا في عصره). ففرويد هو نتاج مجتمع فيينا في أواخر القرن التاسـع عشـر بكل ما كان يحويـه من إبـداع وانحـلال وتركيب وتَخثُّر.

ويُلاحَظ أن بعض المؤلفين والرسامين اليهود في الحضارة الغربية بدأوا، منذ نهاية القرن التاسع عشر، في تناول مضامين يهودية في أدبهم وفنهم. ولكن مثل هؤلاء لا يختلفون البتة عن المؤلفين غير اليهود الذين يتناولون مضامين يهودية، ذلك أن طريقة التناول ـ بكل مزاياها وعيوبها ـ تظل جزءاً من التشكيل الحضاري الغربي. إن سول بيلو وفيليب روث ـ وكلاهما كاتب أمريكي يهودي ـ يتناولان شخصيات أمريكية يهودية، إلا أن أدبهما لا يمكن أن يُصنَّف أدباً يهودياً، وعبقريتهما لا تُصنَّف كعبقرية يهودية إذ يظل هذا الأدب أدباً أمريكياً مكتوباً بالإنجليزية، ينتمي إلى التراث الأدبي الأمريكي ولا يمكن فهمه خارج هذا التراث، وتظل عبقريتهما نتاج تفاعلهما مع محيطهما الحضاري. وهما في هذا لا يختلفان عن جيمس جويس في رواية يوليسيس حينما جعل أحد أبطال روايته يهودياً، ومع هذا لم يصنفها أحد باعتبارها من عيون الأدب اليهودي، شأنها في هذا شأن رائعة شكسبير تاجر البندقية .

وفيما يتصل بالعبقريات التي تنتجها إسرائيل، فإن الأمر يتوقف على جنسية العبقري، فإن كان هذا العبقري إسرائيلياً فهو تعبير عن العبقرية الإسرائيلية، أما إذا كان من أصل روسي أو ألماني فهو عبقري روسي أو ألماني، أي أن العبقرية اليهودية تظل مقولة مجردة لا وجود لها إلا بين صفحات الكتب الصهيونية أو المعادية لليهود. وبدلاً من ذلك، يتعيَّن علىنا أن نتحدث عن «عباقرة يؤمنون بالدين اليهودي»، أو عن «عباقرة ذوي بعد إثني يهودي»، وينتمون إلى الحضارات الإنسانية المختلفة في مختلف الأماكن والأزمان.

ومن الأمور الجديرة بالدراسة نسبة العباقرة بين الإسرائيليين ومدى اختلافها عن مثيلتها بين الدول التي حققت معدلات التحديث والتصنيع والتقدم التكنولوجي والعلمي نفسها. وكل المؤشرات تدل على أنها غير مختلفة على الإطلاق، وإن كان الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة.

بـــــروز اليهـــــــود وتَمــيُّـزهـــم
Jewish Eminence and Distinctiveness
جاء في المعاجم العربية «تميَّز الشيء» بمعنى «بدا فضله وانفصل عن غيره»، و«برز بروزاً» بمعنى «فاق الآخرين في فضل أو علم»، و«برَّز الشيء» معناها «أظهره وبيَّنه». ومن الموضوعات الأساسية التي تتواتر في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود، موضوع «بروز أعضاء الجماعات اليهودية وتَميُّزهم» في كثير من مجالات النشاط والمعرفة الإنسانيتين بنسبة تفوق بمراحل نسبتهم إلى عدد السكان في المجتمعات التي يعيشون في كنفها. ودارس تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية سيجد قرائن على كلٍّ من البروز الإيجابي والتميز في الخير والإبداع، والبروز المشين والتميز في الشر والهدم والإجرام. أما البروز الإيجابي، فعليه من الأدلة الكثير، مثل: كثرة عدد العباقرة والمهنيين بين أعضاء الجماعات اليهودية، ونسبة التعليم المرتفعة بينهم، وارتفاع دخولهم. أما البروز المشين، فهناك أيضاً مؤشرات كثيرة عليه، مثل: اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بالربا عبر العصور الوسطى في الغرب بل واحتكار هذه المهنة في بعض المناطق، واشتغالهم بتجارة الرقيق في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ثم اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر، بتقطير الخمور والاتجار فيها، وتهريب البضائع والرقيق الأبيض، وبكثير من الأعمال الطفيلية غير المنتجة.

ويُلاحَظ أن أي مؤشر على بروزهم الإيجابي قد يُعدُّ مؤشراً على بروزهم المشين، فالثراء (وهو عادةً مؤشر على حركية الإنسان وذكائه) يُعتبَر من منظور آخر دليلاً على عدم الانتماء وعلى الرغبة في الثروة وفي مراكمتها دون أية تحفظات أخلاقية. كما أن التميُّز الوظيفي لليهود هو أيضاً من علامات البروز الإيجابي والمشين، بل إن الجيتو ذاته كان علامة من علامات البروز، إذ كان اليهود يسعون للحصول على إذن بإقامته والإقامة فيه ليتمتعوا داخله بالمزايا الممنوحة للجماعة اليهودية والمقصورة عليهم وليعزلهم عن بقية السكان الأمر الذي يُيسِّر لهم إدارة مؤسساتهم الدينية والقضائية والتربوية الخاصة. ولكن الجيتو أصبح بالتدريج هو المكان الذي يتعيَّن عليهم البقاء فيه، وهكذا تحوَّل من ميزة إلى قيد.

ويذهب كثير من الدارسين إلى أن بروز بعض أعضاء الجماعات اليهودية من أهم الأسباب التي ت*** عليهم عداء أعضاء الأغلبية من غير اليهود؛ وهو تعميم متعسف. فقد كان البروز يؤدي أحياناً إلى مثل هذه النتائج، كما حدث في ألمانيا النازية. ولكن، في إسبانيا الإسلامية أو أمريكا العلمانية، لم يؤد البروز والتميز إلى أي عنف أو تمييز ضد أعضاء الجماعة اليهودية. أما في بولندا، خصوصاً في أوكرانيا التي ضمت من منظور التطورات التاريخية اللاحقة أهم الجماعات اليهودية عبر التاريخ، فإن بروزهم قد أدَّى دون شك إلى استجلاب السخط عليهم لا بسبب البروز في حد ذاته وإنما بسبب طبيعته، إذ أن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا قريبين من الطبقة الحاكمة عملاء لها، في إطار الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا، وبذا أصبحوا عنصراً استيطانياً تجارياً يمثل الأرستقراطية البولندية في وسط فلاحي، وعنصراً يهودياً ينوب عن عنصر كاثوليكي في وسط أرثوذكسي أوكراني، يتحدثون اليديشية أو البولندية في وسط يتحدث الأوكرانية، أثرياء في وسط من الفقراء والمعدمين. وقد تَحوَّل أعضاء الجماعة اليهودية إلى أداة يمسك بها النبلاء في وارسو يعتصرون بها الفلاحين. وحينما يكون البروز على المستويات الطبقية والدينية والثقافية، فإن الانفجار الشعبي يكون ساحقاً ماحقاً، وهذا ما حدث مع انتفاضة شميلنكي.

وقد يتشابك التَميُّز المشين مع التَميُّز الإيجابي، فمع نهاية القرن التاسع عشر كان يهود البلاد الغربية قد حققوا صعوداً طبقياً ومكانة اجتماعيـة عالية وهو ما يعني تَميُّزاً يهودياً إيجابياً. ثم وصل يهود اليديشـية، وكانوا متخلفين فقراء تتفشى بينهم الأمراض الاجتماعية المختلفة كما تَفشَّى التعصب الديني، وكان هذا يعني تَميُّزاً يهودياً مشيناً، وحدث تَشابُك بين الجماعتين أدَّى إلى إحساس المجموعة الأولى بالحرج ثم إلى فَزَعها. ومن هنا فقد كان من أهداف الصهيونية أن تُبقي ليهود الغرب تميزهم الإيجابي، وأن تُريحهم من يهود اليديشية بتَميُّزهم المشين عن طريق توطينهم في فلسطين.

ويحاول الصهاينة تفسير بروز وتميُّز بعض أعضاء الجماعات اليهودية على أساس طبيعة اليهود والخصوصية اليهودية والجوهر اليهودي والعبقرية اليهودية، وهو منطق خطر للغاية لأن البروز والتميُّز اليهودي الإيجابي إن فُسِّر على أساس الطبيعة اليهودية، فلابد من تفسير البروز والتميز المشين على الأساس نفسه أيضاً. وهذا ما لا يحجم عنه أعداء اليهود بل وبعض الصهاينة (خصوصاً العماليين).

ويُلاحَظ أن اليهودي الذي يحقق اندماجاً في مجتمعه ويسلك سلوك الآخرين، لا يرصد أحد سلوكه باعتباره سلوكاً عادياً. ولكن حينما ينخرط بعض أعضاء الجماعات اليهودية في أنشطة مشينة أو متطرفة كأن يصبحوا أعضاء في جماعات ثورية أو ماسونية أو يحققوا قدراً عالياً من الثراء، فإن أعداء اليهود يتجاهلون اليهود العاديين والفقراء ويتناسون العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية ويرصدون بعناية فائقة الأنشطة المشينة وحدها. وحينما يحقق البعض الآخر من أعضاء الجماعات اليهودية بروزاً إيجابياً، فإن الصهاينة يؤكدون ذلك ويستبعدون كلاً من اليهود العاديين وهؤلاء الذين حققوا بروزاً مشيناً. وربما إذا أُخضعت الظاهرة للدراسة الإحصائية المتأنية لاكتشفنا أن بروز اليهود في الخير والشر إنما هو خاضع لآليات اجتماعية ليسوا مسئولين عنها، وأن نسبة المتطرفين بينهم، في الخير والشر، قد لا تختلف كثيراً عن النسبة السائدة في المجتمع، أو عن النسبة السائدة بين أعضاء الأقليات على وجه العموم في أي مجتمع.

ومما يُظهر عدد اليهود المتميِّزين أكثر من حقيقته أن دارسي الجماعات اليهودية ينظرون إليهم كما لو كانوا يُشكِّـلون كلاًّ واحداً. ومن هذا المنظـور، فإن يهود اليمن والولايات المتحدة والصين وإثيوبيا وجنوب أفريقيا وجنوب أمريكا، كلهم يهود في نهاية الأمر. ومن هنا، فإن البحث عن البارزين فيهم داخل أية جماعة يتم دون أية دراسة إحصائية تبيِّن العلاقة بين نسبة هؤلاء البارزين إلى المعدل السائد في كل مجتمع. كما يتجاهل الدارسون أن تَركُّز اليهود في قطاعات وعلوم بعينها يؤدي إلى كثرة البارزين فيها (مهنة الطب والعلوم الطبيعة وعالم التجارة والموسيقى وعلم الاجتماع). ولكن هذا يعني أيضاً غيابهم عن قطاعات وعلـوم أخرى كثيرة أو ندرتهم فيها. كما أنهم يتجاهلون اللحظة التاريخية، فبروز اليهود في مجتمع ما في لحظة تاريخية معينة لا يعني بالضرورة بروزهم الدائم في كل زمان ومكان.

ويتبنَّى أعداء اليهود منهجاً مماثلاً، فهم يركزون على اليهود الذين حققوا بروزاً مشيناً في بعض المجتمعات، وكأن جميع اليهود يُكوِّنون كلاًّ واحداً ولا يقارنون نسبة اليهود الذين حققوا مثل هذا البروز قياساً إلى المعدل الإحصائي السائد في المجتمع، كما أنهم يهملون أخيراً اليهود الذين حققوا بروزاً إيجابياً. ونحن نذهب إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية يحققون البروز والتميز داخل الحضارة التي يعيشون في كنفها وبسبب عناصر موجودة داخلها لا على الرغم منها. وتعود معدلات إبداعهم (وإجرامهم) لا إلى التراث اليهودي وإنما إلى العناصر الحضارية والاجتماعية التي تكوِّن محيطهم الحضاري والاجتماعي.
ويمكننا أن نحاول رصد أسباب بروز وتَميُّز أعضاء الجماعات اليهودية، مقسمين الأسباب إلى قسمين: أسباب عامة تسري على أعضاء معظم الأقليات في العالم، وأخرى مقصورة على اليهود في الحضارة الغربية الحديثة. ولنبدأ بالأسباب العامة:

1 ـ يتسم أعضاء الأقليات في جميع المجتمعات بشيء من البروز نظراً لاختلافهم في بعض النواحي أو في كثير منها عن أعضاء المجتمع.

2 ـ يتميَّز أعضاء الأقليات في المجتمعات التقليدية، بل وأحياناً في المجتمعات الحديثة، تَميُّزاً وظيفياً إذ يضطلعون بوظائف دون غيرها.

3 ـ يسكن أعضاء الأقليات في المجتمعات التقليدية في أماكن مقصورة عليهم وهو ما يساعد على هذا البروز، وقد قطن أعضاء الجماعات اليهودية في الجيتو.

4 ـ تتسم المجتمعات الغربية بأنها مجتمعات لا تضم أقليات كثيرة، وذلك على عكس المجتمعات الشرقية الفسيفسائية، ولذا فإن أقلية تكاد تكون وحيدة مثل الأقلية اليهودية تحقق بروزاً غير عادي.

5 ـ لا شك في أن من يوجد في المدينة يحقق بروزاً لا يحققه عادةً من يكون في الريف، وقد تركزت الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي في العصر الحديث في المدن.

6 ـ ولا شك أيضاً في أن ارتباط أعضاء إحدى الأقليات بالطبقات الحاكمة يساهم في زيادة بروزهم، وقد ارتبط أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الوسيط في الغرب بالطبقات الحاكمة.

7 ـ يكون أعضاء الأقليات دائماً واقعين تحت ضغط نفسي يدفعهم إلى إثبات تفوقهم أمام أنفسهم وأمام الآخرين، ومن ثم فهم يجتهدون في أن يُساهموا في الإبداع الحضاري بدرجة تزيد عن المعدل السائد في المجتمع. ولذا يُلاحَظ في معظم الأحيان أن نسبة المتعلمين والمخترعين (في قطاعات معيَّنة) من بين أعضاء الأقليات مرتفعة نوعاً (ويُلاحَظ الشيء نفسه بالنسبة للإجرام والانحراف).

8 ـ عضو الأقلية عادةً ما تكون لديه عقلية نقدية في رؤيته للمجتمع (بسبب عدم إحساسه الكامل بالأمن والاستقرار)، وهو ينظر لمنظومة المجتمع الدينية والقيمية نظرة شك. وهذه النظرة النقدية الحادة تخلق تربة خصبة للإبداع التفكيكي، وربما التركيبي أيضاً.

9 ـ عضو الأقلية يتسم بروح الريادة وبالحركية، الأمر الذي يجعله سبَّاقاً إلى الخير والشر.

أما بروز أعضاء الجماعات اليهودية وتَميُّزهم داخل الحضارة الغربية على وجه التحديد فيمكن تفسير كثير من جوانبه من خلال مُركَّب من الأسباب والنماذج التفسيرية المترابطة:

1 ـ يُلاحَظ ارتـباط تَميُّز أعضاء الجماعات اليهودية بتَصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع. وليس من قبيل الصدفة أن أول عبقري يهودي حقق تَميُّزاً وبروزاً لا داخل سياقه اليهودي وإنما داخل سياق الحضارة الغربية ككل هو إسبينوزا، فيلسوف الحلولية والكمونية. ويمكن القول بأن العباقرة اليهود في الغرب الحديث يحققون التميز والبروز لا بمقدار تعبيرهم عن يهوديتهم وإنما بمقدار تخليهم عنها. ولعل أصدق شاهد على هذا هو إسبينوزا نفسه الذي حقق بروزه وتَميُّزه بمقدار ابتعاده عن اليهودية، ثم تبعه ماركس وفرويد وأينشتاين وكلهم يهود ملحدون، أي يهود غير يهود، تبرأوا من يهوديتهم.

ويمكن القول بأن الجماعات اليهودية في أوربا كانت تُعَدُّ، مع اندلاع الثـورة الفرنسـية، أكثر قطاعات المجتمع تَخلُّفاً وهامشـية. إلا أن معظم يهود العالم الغربي كانوا مع انتصاف القرن من أكثر القطاعات علمانية وحداثة. وقد تبعهم وبسرعة يهود اليديشية من شرق أوربا، سواء من بقي منهم داخل الاتحاد السوفيتي أو من هاجر منهم إلي الولايات المتحدة.

2 ـ يُلاحَظ أن علمنة النخب اليهودية (قيادات اليهود الثقافية) تمت بسرعة فائقة وبشكل كامل وجذري، كما تمت علمنة الجماهير اليهودية بشكل كامل وقاس وفجائي ومخطط من قبَل الدول المطلقة المختلفة (الدولة الفرنسية أو النمساوية أو الروسية). واستمرت هذه العملية حتى بعد أن حكمت هذه الدول نظم ليبرالية أو ثورية. وقد أدَّى هذا إلى انقطاع واضح بين انتمائهم الديني وتراثهم من ناحية، ووجودهم في العصر الحديث من الناحية الأخرى، ولذا فإنهم لم يحتفظوا بقيمهم الدينية التقليدية إلى جانب الرؤية العلمانية التي اكتسبوها. ويُلاحَظ كذلك أنهم لم يحتفظوا بأية رواسب دينية من خلال الرموز العلمانية ذات الأصول المسيحية، إذ أنهم لا يشتركون أصلاً في هذه الرموز باعتبارهم يهوداً. كما أن غالبية أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربـا وجميع يهـود الولايـات المتحـدة وكندا وأمريكـا اللاتينيـة، عناصـر مهاجـرة، وبالـتالي فهـم عناصر حركية متحررة من القيم والمطلقات تبحث عن الحراك الاجتماعي.

وقد أدَّى كل هذا إلى علمنة اليهود بشكل حاد وبمعدل يفوق معدلات العلمنة بين معظم قطاعات المجتمع الأخرى. ولذا، أصبح أعضاء الجماعات اليهودية من أكثر العناصر تَحرُّراً من القيم التقليدية وغير التقليدية في المجتمعات الغربية، وأصبح الإنسان اليهودي في الغرب هو الإنسـان الحـديث بشـكل نماذجي متبـلور، لا انتماء له ولا جذور، لا يشعر بحرمة أي شيء وينزع القداسة عن الإنسان والعالم. ومن ثم أصبح أعضاء الجماعات اليهودية من أكثر العناصر مقدرة على التحرك في المجتمع العلماني الحديث وأصبح لديهم من الكفاءات اللازمة للتعامل مع المجتمع العلماني الجديد أكثر مما لدى بقية أعضاء هذا المجتمع من المسيحيين أو حتى العلمانيين ذوي الجذور المسيحية، فاستطاعوا أن يحققوا بروزاً وصعوداً بدرجة تفوق ما يحققه أقرانهم من القطاعات البشرية الأخرى في المجتمع، ولكنه صعود من يستطيع أن يسبح مع التيار بكل قوة، لا أن يسبح ضده فيعوقه ويصده.

وقد لاحَظ أحد وزراء داخلية روسيا القيصرية وجود اليهود بأعداد كبيرة في الحركات الثورية، فبيَّن له أحد الحاخامات أن الشباب اليهودي كان بعيداً كل البعد عن الحركات الثورية والفوضوية حينما كان يتلقى تعليماً دينياً تقليدياً، وأن هذه الظاهرة لم تَبرُز إلا بعد أن انخرطوا في المدارس العلمانية التي أسسها القياصرة.

3 ـ ويمكن أن نضيف إلى هذا أن اليهود كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة في المجتمع الغربي لعدة قرون، فأصبحت سمات الجماعة الوظيفية من سماتهم الأساسية. ويوجد أعضاء هذه الجماعات داخل المجتمع وخارجه في وقت واحد، فهم على هامشه لا يخضعون لقوانينه، ولكن عليهم التعامل معه، ولذا كان عليهم أن يفهموا هذه القوانين، حيث إن علاقاتهم بالمجتمع علاقات موضوعية غير حميمة، فهم ينظرون إلى المجتمع بطريقة تحليلية تفكيكية تعاقدية نقدية، وخصوصاً أنهم من القرب بحيث يمكنهم فهم آلياته، كما أنهم بعيدون بقدر يُمكِّنهم من الاحتفاظ بالمسافة النقدية. وأعضاء الجماعات الوظيفية هم من أولى القطاعات في المجتمع التي تتم علمنتها وتجريدها من القداسة، وصبغها بالصبغة الموضوعية. وبالتالي، فإن أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة هم أول من يحمل الفكر العلماني النفعي الدنيوي وينشره ويذيعه.

4 ـ يُقال إن النزعة المشيحانيّة عند اليهود، والتي أخذت شكلاً علمانياً عند المثقفين اليهود الغربيين، تساهم في إضعاف الأواصر التي تربط بين اليهودي وبين المعطيات التاريخية والاجتماعية، الأمر الذي يجعله أكثر رفضاً للمجتمعات التي يوجد فيها، وأشد عمقاً في نقده لها، وأكثر موضوعية. ويُلاحَظ أن المثقفين اليهود من أكثر العناصر تطـرفاً في الحـركات الثورية والفـوضوية والعدمية (تروتسكي ـ روزا لوكسمبورج... إلخ).

5 ـ ويمكننا هنا أن نحاول تقديم فرضية تلقي بعض الضوء على بروز المثقفين اليهود في الحضارة العلمانية، وهذه الفرضية تستخدم نموذج الحلولية الكمونية (وتَصاعُد معدلاتها داخل النسق الديني اليهودي وداخل الحضارة الغربية) لتفسير هذا التَميُّز. ويمكن القول أن ثمة تشابها بنيويا شبه كامله بين وحدة الوجود الروحية (لا موجود إلا هو، أي الإله) ووحدة الوجود المادية (لا موجود إلا هي، أي المادة). وهنا، فإننا نذهب إلى أن بروز المثقفين اليهود في الحضارة الغربية بدأ حينما بدأت هذه الحضارة في تَبنِّي أنساق فكرية حلولية كمونية (البروتستانتية - النزعة الإنسانية الهيومانية - النزعة العقلانية المادية). فهؤلاء المثقفون اليهود، بخلفيتهم الحلولية، وبإنكارهم إمكانية تجاوز المادة كانوا مهيئين بشكل كامل لامتلاك ناصية الخطـاب الحضـاري العلـماني، ومن ثم تحقـيق البروز من خـلاله. ولعل الأهمية المركزية لإسبينوزا تتضح من خلال هذا النموذج التحليلي. فهو أول مثقف يهودي حقق بروزاً واضحاً في العصر الحديث، ويعود هذا إلى أنه ربط بين النسقين الحلوليين، الروحي والمادي، وعادل بين الإلهي والطبيعي، ومن ثم فقد عَلْمَن الحلولية تماماً وجعلها تصب في الأنساق المادية والعلمية.

6 ـ يُلاحَظ أيضاً تَركُّز اليهود في حقل الإعلام، خصوصاً في الصحافة والإذاعة، وهو ما جعلهم في موقع يُمكِّنهم من تسليط الأضواء على الأنشطة التي يقومون بها وإعطائها من الأهمية ما تستحق وربما أكثر مما تستحق. كما أن اليهود الجدد متمركزون في المدن، وهي مراكز صنع القرار في كل أنحاء العالم. فضلاً عن أنهم بانتقالهم إلى الضواحي لم يبعدوا كثيراً عن هذه المراكز، إذ أن معظم أعضاء النخبة في الولايات المتحدة يوجدون في هذه الضواحي. ويمكن أن نضيف أيضاً أن ارتفاع دخل المواطن الأمريكي اليهودي بالنسبة إلى المعدل القومي قد زاد من بروزهم، وكذلك تمركزهم في بعض المهن البارزة، مثل الطب والجامعات والمراكز العلمية.

7 ـ ويجب التأكيد ـ كما أسلفنا ـ على أن بروز المثقفين اليهود في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا يعود إلى أنهم يهود، بل إلى أنهم أمريكيون يوجدون داخل الحضارة الغربية، وهي الحضارة المهيمنة على معظم المصادر الطبيعية في العالم، والتي نجحت في تأسيس بنيتها التحتية، وبالتالي بإمكان أي شخص ينتمي إليها أن يُحقِّق كل إمكانياته الفكرية والإبداعية.

كما أن الحضارة الغربية، بسـبب هيمنتها على معظم أرجـاء العـالم، تنسب لنفسها صفة العالمية وتسلط عليها الأضواء. والمفكرون البارزون من أعضاء الجماعات اليهودية يتمتعون بهذه المزايا. ولعل ظاهرة العرب من أصل مصري أو لبناني أو فلسطيني وغيرهم (فاروق الباز ـ إدوارد سعيد) ممن يُحقِّقون بروزاً في الحضارة الغربية تُلقي بعض الضوء على الظاهرة نفسها بين أعضاء الجماعات اليهودية. فلو قُدِّر لهؤلاء البقاء في بلادهم فلربما أُجْهضَت إمكاناتهم بسبب الحدود المادية. وربما حتى لو تحققت إمكاناتهم لما وُصفت بالعالمية ولما سُلطت عليها الأضواء.

هذه هي بعض العناصر التي تَصلُح في مجملها لتفسير معظم جوانب هذه الظاهرة. ومع هذا يجب ألا نَسقُط في الاختزالية والواحدية بألا نعطي أية قدرة تفسيرية للبُعد اليهودي في تَميُّز العباقرة (والمنحرفين) من أعضاء الجماعات اليهودية. وكل ما نفعله هنا هو أننا ننكر على مثل هذا البُعد أية أولوية أو مركزية تفسيرية. فالبُعد اليهودي لا يُفسِّر تَميُّز اليهود وبروزهم ولكنه يُساهم ولا شك في تفسير حدَّته ودرجته ونسبته.

ويمكننا أن نقول إن آليات المجتمع العلماني التي أدَّت إلى بروز اليهود هي ذات الآليات التي قد تؤدي إلى اختفائهم وانصهارهم، فالمجتمع العلماني يزداد ترشيداً وتطبيعاً ويتطلب من أعضائه كافة أن يُعيدوا صياغة ذاتهم حتى تزداد كفاءتهم في الأداء العام، وهو ما يعني ضرورة التخلص من كل الخصوصيات والنتوءات. فإنسان عصر الاستنارة والعقل المادي إنسان عالمي لا يتمتع بأية خصوصية. كما أن عملية الدمج في المجتمع العلماني لا تتم من خلال الدمج بين هويات دينية وإثنية مختلفة وإنما تتم من خلال نزع جميع الهويات أو إخفائها أو تهميشها حتى يكتسب الجميع هوية علمانية عامة تُزيد كفاءتهم في الأداء في رقعة الحياة العامة. وبما أن أعضاء الجماعات اليهودية ليسوا استثناء من القاعدة، فنحن نتنبأ بأن يتزايد اندماجهم وانصهارهم في الغرب إلى أن يختفي بروزهم ويصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الآلة ذات الكفاءة الكبرى.

الجريمة اليهودية
Jewish Crime
«الجريمة اليهودية» مصطلح يفترض وجود جرائم ذات خصوصية يهودية (أي جرائم مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية وتتبع نمطاً بعينه وتأخذ أشكالاً بعينها). ومن ثم، فإن يهودية اليهودي هي النموذج الذي يمكن من خلاله تفسير وتصنيف السلوك الإجرامي لبعض أعضاء الجماعات اليهودية. وحيث إننا لم نعثر على مثــل هذا النموذج، فإننا نؤثر استخدام مصطلح «المجرمون من أعضـاء الجماعات اليهودية» باعتبـار أن النمـوذج الكـامن وراءه ذو مقـدرة تفسيرية وتصنيفية أعلى، كما أنه ينطوي على دعوة إلى أن يدرس الباحث كل حالة إجرامية يرتكبها عضو من أعضاء الجماعات اليهودية على حدة، داخل ملابساتها الخاصة وإطارها الحضاري.

ولا يمكننا التحدث عن «الجريمة اليهودية» أو «خصوصية الإجرام اليهودي» تماماً كما لا يمكننا الحديث عن «الجوهر اليهودي» أو عن «التاريخ اليهودي» أو عن «العبقرية اليهودية»، إذ أن الجماعات اليهـودية في العالم لا تعيـش تحت ظروف خاصة بها مقصورة عليها. ولذا، فإننا نجد أن معدلات الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية لا تختلف بشكل جوهري عن المعدل السائد في المجتمع أو بين الأقليات الأخرى في المجتمع. ولذا، فنحن نتحدث عن «المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية».

المجرمــون مــن أعضــاء الجماعــات اليهوديـة
Criminal Elements from Jewish Communities
من المعروف أن النسق الأخلاقي الذي تطرحه العقيدة اليهودية (حينما تكون تعبيراً عن الطبقة التوحيدية الكامنة فيها) يشبه، في كثير من الوجوه، الأنساق الأخلاقية التي تطرحها الديانات السماوية. فالقتل والزنى والسرقة والشذوذ الجنسي والجماع مع المحارم، كلها أمور مُحرَّمة يعاقب عليها القانون الديني. ولتفسير السلوك الإجرامي لأحد أعضاء الجماعات اليهودية، لابد من العودة لحركيات وقيم المجتمع الذي يعيش فيه هذا اليهودي، ولابد من دراسة القوانين الاجتماعية والجنائية والظروف الاقتصادية والعناصر الأخرى كافة.

ومع هذا، يمكن ملاحظة أن بعض الأنماط المتكررة يمكن تفسيرها على أساس أن الجماعات اليهودية تُشكِّل أقليات وجماعات وظيفية، علماً بأن أعضاء الأقلية يخضعون عادةً لحركيات المجتمع ولكنهم يشعرون بها بشكل أكثر حدة، كما توجد بينهم دوافع وضوابط مختلفة إلى حدٍّ ما عن تلك التي توجد في المجتمع ككل. ولكن، قبل الاسـتمرار في الدراسة، تجب الإشارة إلى أن بعض الأرقام الموجودة لدينا غير موثوق فيها بسبب عنصرية النموذج الإحصائي والتفسيري الذي تم بمقتضاه جمع المادة. كما أصبح العكس صحيحاً الآن؛ إذ ترفض كثير من الدول الغربية أن تكشف عن الانتماء الديني أو الإثني للمجرم خوفاً من إشاعة صورة عنصرية كريهة عن أعضاء الأقليات. وبعد هذا التحفظ، يمكن القول بأنه قد لُوحظ، على سبيل المثال، أن نسبة الجريمة بين أعضاء الجماعة اليهودية تكون أحياناً أقل من النسبة العامة في المجتمع، وقد تكون مساوية لها أو أعلى منها، ولكن لكل وضع تفسيره. ويمكن استخدام الأحكام الصادرة ضد أعضاء الجماعة كمؤشر. ولكننا لن نقدِّم هنا عرضاً لأنماط الجريمة بين العبرانيين وأعضاء الأقليات اليهودية عبر التاريخ وفي مختلف المجتمعات، ذلك لأن مثل هذا العرض سيشغل حيزاً ضخماً، إلى جانب أن ما نهدف إلىه في هذا المدخل هو أن نُبيِّن مدى الخصوصية أو العمومية في ظاهرة الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية. ولهذا، فإننا سنركز على العصر الحديث وحسب.

ثمة تباين واضح بين معدل الجريمة بين أعضاء الجماعة اليهودية ومعدلها بين أعضاء مجتمع الأغلبية الذي يعيشون في كنفه، فمعدلات الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية كانت منخفضة قبل منتصف القرن التاسع عشر ثم أخذت في التزايد بعده إلى أن وصلت إلى معدلات ضخمة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ثم أصبحت معدلات الجريمة بينهم لا تختلف كثيراً عن المعدلات السائدة في المجتمع. ولتفسير هذا التباين، يمكن القول بأن أعضاء الأقلية يتمتعون عادةً بدرجة أعلى من التماسك العائلي والتضامن الاجتماعي، وأن هناك مؤسسات دينية واجتماعية (وهي عادةً مقصورة عليهم) تقوم بعملية الرقابة الداخلية والضبط الاجتماعي والأخلاقي. كما أن أعضاء الأقليات يخضعون دائماً لرقابة شديدة من أعضاء الأغلبية، خصوصاً في فترات التعصب والتمييز العنصري. وهذه الرقابة الخارجية الصارمة من شأنها أن تجعل عضو الأقلية حذراً يراقب سلوكه ولا يُقبل على ارتكاب الجريمة أو التفكير فيها إلا في أضيق الحدود وللضرورة القصوى. ولا شك في أن تَميُّز اليهود مهنياً ووظيفياً كان له دور في ذلك، وكان هذا يعني المزيد من البروز ومن ثم المزيد من الرقابة.

لكل ما تَقدَّم، نجد أن تَزايُد انعتاق أعضاء الجماعات اليهودية واندماجهم يؤدي إلى تَزايُد معدل الجريمة بينهم، وهذه مفارقة لاحظها أيضاً دارسو وضع المرأة. فكلما ازدادت مساواة المرأة بالرجل، في الحقوق والواجبات، زاد معدل الإجرام بين النساء، فكأن تحرير المرأة يعني أن تصبح مثل الرجل في الخير والشر، وأن تُتاح أمامها فرص متساوية للخير والشر على حدٍّ سواء. وقد لُوحظ أن معدل الجريمة بين يهود المجر في أوائل القرن العشرين مرتفع عنه بين يهود روسيا مثلاً. ولا يمكن تفسير هذا إلا على أساس أن يهود المجر كانوا أكثر الجماعات اليهودية انعتاقاً واندماجاً. وقد لوحظ أيضاً أن معدل الجريمة بين يهود ألمانيا (الذي كان منخفضاً) تَساوَى تقريباً مع النسبة العامة في المجتمع في الفترة ما بين عامي 1882 و1910، وذلك مع تَزايُد اندماج اليهود وازدياد معدل التعليم بينهم وتَحسُّن وضعهم الاقتصادي. وقد لاحَظ ليتشنسكي أن معدل الأحكام الصادرة ضد يهود النمسا من المتعلمين كان يزيد بواقع 50% مقارناً بمعدل الأحكام الصادرة ضد يهود جاليشيا الفقراء الجهلاء. أما في هولندا، فكان معدل الجريمة بين أعضاء الجماعة اليهودية أقل من المعدل على المستوى القومي في عام 1902. ومع تَزايُد انعتاقهم واندماجهم، أصبح المعدلان متساويين. أما في البلاد العربية، فيُلاحَظ أن معدل الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية قَلَّ بعد إعلان دولة إسرائيل، ربما بسب زيادة الرقابة وتشديد القبضة عليهم.

ولابد أن هناك استثناءات كثيرة من هذا النمط، ففي الولايات المتحدة يُلاحَظ أن معدل الجريمة بين المهاجرين اليهود يصل أحياناً إلى نصف المعدل على المستوى القومي في الجيل الأول ثم يتزايد بالتدريج مع الجيل الثاني، ومع الجيل الثالث يقترب معدل الجريمة من المعدل العام. ومن المعروف أن أعضاء الجيل الثالث في الولايات المتحدة من أبناء المهاجرين هم الذين يصلون إلى معدلات عالية من الاندماج والأمركة بحيث يصبحون أمريكيين مائة في المائة. وهذا النمط ينطبق كذلك على معظم الدول الاستيطانية.

ومع هذا، توجد ظاهرة عكسية وهي أن معدل الجريمة بين العناصر المهاجرة في قطاعات حرفية أو طبقية معينة قد يكون أعلى من نظيره بين أعضاء المجتمع المضيف. كما أن الجماعات المهاجرة تتخصص في أنواع من الجريمة غير معروفة في المجتمع أو كانت موجودة فيه بشكل جنيني وحسب. ويعود هذا إلى أن العناصر المهاجرة هي دائماً عناصر رائدة، وأعضاء الأقلية المهاجرة الباحثون عن الحراك الاجتماعـي لا يلتزمون بقيم خلقية ولا يشعرون بالولاء نحو المجتمع الجديد، كما أنهم في العادة شخصيات حركية قادرة على إدراك الثغرات في المجتمع وعلى التسلل منها. وبالفعل، نجد أن جماعات من المهاجرين اليهود كوَّنوا في الثلاثينيات عصابات جريمة منظمة (مافيا) في نيويورك تمارس نشاطات المافيا المختلفة من ابتزاز وتهريب مخدرات واغتيال نظير أجر والبغاء، واستمرت في ذلك حتى الخمسينيات. (وقد كُشف النقاب مؤخراً عن أن عصابات الجريمة المنظمة اليهودية قد دعمت الحركة الصهيونية مالياً وسياسياً، واشتركت في جمع التبرعات لها، بل واستخدمت نفوذها مع بعض حكام أمريكا اللاتينية المتعاونين مع عصابات الجريمة المنظمة لتهريب السلاح للمستوطنين الصهاينة(
وقد ظهرت الجريمة المنظمة أيضاً بين المهاجرين اليهود السوفييت والإسـرائيليين في الولايات المتحدة، وتُعَدُّ لوس أنجلـوس من أهم مراكزها. ولعل تَفشِّي الجريمة بين المهاجرين السوفييت هو أحد الأسباب التي دعت أمريكا لإغلاق أبوابها أمام المزيد من المهاجرين السوفييت. ومن الطريف أن أعضاء هذه العصابات اليهودية قد تخصصوا في ابتزاز أعضاء الجماعة اليهودية إلى جانب ممارسة النشاطات الإجرامية العادية والعامة. ويبدو أن هذه العصابات بدأت تمارس نشاطها في إسرائيل وفي بعض دول الشرق الأوسط. ومن الظواهر التي يجب تسجيلها أيضاً أن أفراد عصابات المافيا في الولايات المتحدة (وهم من أصل إيطالي في العادة) يستعينون في الغالب بمحامين من بين أعضاء الجماعة اليهودية للدفاع عنهم في جرائمهم ولإدارة أعمالهم المشينة.

وقد فوجئ الصهاينة بأن المهاجرين اليهود قادرون على ارتكاب جميع الجرائم الخطيرة مثل القتل والاغتصاب والسرقة في بلدهم. ولكن هذا يعود دون شك إلى إحساس المستوطنين بأنهم مواطنون يتمتعون بكل الحقوق السياسية والضمانات القانونية، ومن ثم تخف عمليات الرقابة الخارجية التي كانوا يخضعون لها كأعضاء أقلية. ومما لا شك فيه أن العقيدة الصهيونية التي تشجع على العنف والاغتصاب تلعب دوراً في استثارة الاستعداد الكامن أو القابلية لدى المستوطنين الصهاينة لارتكاب الجرائم بمعدل يفوق نظيره في المجتمعات الأخرى التي تعيش تحت الظروف نفسها.

وداخل هذه الأنماط العامة، يمكننا أن نكتشف نمطاً آخر وهو أن وضع أعضاء الأقليات قد يزيد قابليتهم لارتكاب جرائم دون أخرى. فعلى سبيل المثال، نجد أن أعضاء الجماعات اليهودية يرتكبون الجرائم ضد الملْكية وكذلك جرائم القتل بمعدل أقل من المعدل القومي. وربما يعود هذا إلى مستواهم التعليمي المرتفع وقلة استهلاكهم للمواد الكحولية، وإلى عملية الضبط الاجتماعي التي تمارسها الجماعة مع أعضائها ويمارسها المجتمع مع الجماعة ككل. وعلى أية حال، فالملاحَظ أن معدل الجرائم التي يرتكبها أعضاء الجماعة يرتفع مع تزايد معدلات الاندماج والعلمنة.

ولكن يُلاحَظ أن ثمة جرائم يزيد معدل ارتكابها بين أعضاء الجماعة عن المعدل العام السائد في المجتمع، وهي الجرائم التي يتم فيها انتهاك الحرمات والتي تتطلب من صاحبها التخطيط وإعمال العقل وتحقِّق لمرتكبها عائداً سريعاً (أي تتطلب المهارات نفسها التي يتطلبها الاضطلاع بوظائف الجماعة الوظيفية). ومن هذه الجرائم ما يُسمَّى «جرائم الآداب». ففي تونس، كان أعضاء الجماعة اليهودية يمثلون 1.7% من مجموع السكان، ومع ذلك كانت نسبة النساء اليهوديات المسجلات في جرائم الآداب تفوق هذه النسبة كثيراً. وكانت نسبة الأحكام الصادرة ضد أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا لارتكاب أعمال غير أخلاقية تفوق كثيراً (مرتين ونصف) نسبة الأحكام الصادرة ضد أعضاء الأغلبية.

ومن الجرائم المماثلة، جرائم التزييف والغش التجاري. ومن المعروف أن هذه الجرائم انتشرت بين أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر في الغرب إلى درجة اضطرت معها الحكومات إلى استصدار تشريعات خاصة. ويبدو أن تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في القطاع التجاري من المجتمع التقليدي ساعد على ذلك، فهو قطاع لم يكن يعرف نظام الضرائب ولم يكن يرتبط بشبكات الرأسمالية الرشيدة من مصارف ووسائل نقل أو غيرها. ولذا، كان التهرب من الضرائب، وكذلك تهريب البضائع، جزءاً عضوياً من مثل هذا النشاط التجاري، كما أن تَركُّز كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في المناطق الحدودية والمدن شجع على هذا الاتجاه. وقد استمر هذا النمط حتى الوقت الحاضر. ويبدو أن لأعضاء الجماعات اليهودية دوراً ملحوظاً في ترويج المخدرات في الولايات المتحدة، كما يوجد عدد لا بأس به من الجواسيس من بين أعضاء الجماعات اليهودية في الدول الغربية.

ويمكن هنا أن نسأل: ما الفعل الإنساني الذي يشكل جريمة؟ فعلى سبيل المثال، تُعَدُّ الثورة ضد نظام مُستغل عملاً بطولياً من منظور الثوار، ولكنها تُعَدُّ جريمة ضد أمن الدولة يعاقب عليها القانون من منظور القائمين على النظام. والعكس صحيح، فدعم نظام مُستغل ظالم جريمة من منظور المدافعين عن العدالة، ولكنه واجب وطني من منظور القائمين على النظام، أي أن مسألة المنظور في غاية الأهمية في دراسة الجريمة.

ويمكـننا الآن أن نتنـاول الجرائم المرتبطة بأمن الدولة والنظام العام. ويُلاحَظ أن معدل ارتكاب أعضاء الجماعات اليهودية لمثل هذه الجرائم يتناسب طردياً مع معدل التمييز العنصري ضدهم، ومن ثم فإن الأحكام الصادرة ضدهم تَصلُح مؤشراً على نوعية المعاملة التي يلقاها أعضاء الجماعات اليهودية وعلى معدل الإعتاق والاندماج. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كان حوالي 30% من المسجونين السياسيين في روسيا القيصرية من الشباب اليهودي. وفي عام 1907 كان اليهود يشكلون 4% من عدد السكان، ومع هذا نجد أن ما يزيد على 17% من الجرائم التي ارتُكبت ضد أمن الدولة والنظام العام ارتكبها أعضاء في الجماعة اليهودية. وفي بولندا (1924 ـ 1937)، كان 43.6% من الجرائم التي ارتكبها اليهود جرائم ســياسية، وتنخفض النسبة إلى 25% في ألمانيا (1899 ـ 1902)، وإلى 6.25 في هولندا (1931 ـ 1933). وقد لوحظ إبَّان الستينيات أن عدد الشبان اليهود في الولايات المتحدة الذين يشتركون في المنظمات اليسارية والتظاهرات يبلغ 30%، بينما كانت نسبتهم إلى عدد السكان لا تزيد عن 2.5%. ولكن هذه النسبة أخذت تتناقص مع زيادة هيمنة الجو المحافظ على يهود الولايات المتحدة.

ويمكن أن ننظر إلى المسألة من جانب آخر، وهو مدى مساعدة أعضاء الجماعات اليهودية للنظم المستغِلة والظالمة، باعتبار أن ذلك أحد أشكال الجريمة. ففي جنوب أفريقيا، في عصر التفرقة اللونية، على سبيل المثال، كان يُلاحَظ وجود أعضاء الجماعة اليهودية بشكل واضح في المؤسسات الأمنية. ويمكن أن نطرح هنا الدعم اليهودي للدولة الصهيونية باعتباره شكلاً من أشكال الإجرام. بل إن زيارة إسرائيل للسياحة، وهي شكل من أشكال الدعم الاقتصادي والمعنوي لها، تشكل دعماً للاستعمار الاستيطاني الذي استولى على أرض فلسـطين، ومن ثم يمكن تصنيفـها على أنها عمل إجرامي.

ويمكن النظر إلى الإجهاض أيضاً باعتباره قضية أخلاقية، فهو قد يكون (كما يرى البعض) حقاً مشروعاً للمرأة (إذا نظرنا إليها كفرد وحسب لا كأم وكائن اجتماعي)، وقد يكون جريمة يعاقب عليها القانون (إن أُخذ البُعد الاجتماعي والأخلاقي في الاعتبار). ويُلاحَظ هنا وجود عدد كبير من الأطباء اليهود بين أولئك الذين يجرون عمليات الإجهاض في الولايات المتحدة وفي غيرها من البلاد.

ولابد أن ارتكاب أعضاء الجماعة اليهودية جرائم الغش التجاري والآداب، وهي جرائم بارزة تمس حياة الجماهير الشعبية مباشرة، كان له أكبر الأثر في تغذية الأنماط الإدراكية السلبية التي تستند إليها أدبيات معاداة اليهود. ومما يجدر ذكره أن الأدبيات الصهيونية، بتأكيدها خصوصية اليهود، تَقبَل (نظرياً على الأقل) إمكانية أن تعبِّر هذه الخصوصية عن نفسها من خلال الجريمة اليهودية. ولابد أن نضيف هنا أيضاً أن الصهاينة يرون أن الشخصية اليهودية تصبح شخصية إجرامية مدمرة في المنفى لأنها شخصية مُقتلَعة لا انتماء لها، ومن هنـا فإن المفكرين الصهاينة يحذرون دول العالم من وجود اليهود فيها.

ويبدو أن المؤسسة الصهيونية تقوم في الوقت الحاضر بتصدير الجريمة إلى أنحاء العالم. فالشرطة الإسرائيلية تشجع المجرمين على الهجرة إلى خارج إسرائيل كوسيلة للتخلص منهم، فيستقرون في كل أنحاء العالم، خصوصاً في هولندا وألمانيا الغربية حيث يسيطرون على كثير من النشاطات الإجرامية التي من أهمها البغاء. وقد دخلت كلمات عبرية كثيرة على لغة الجريمة في العالم، خصوصاً لغة القوادين السرية في أوربا. ويُقال إن لغة القوادين في أمستردام هي العـبرية، ولعـلها لغة سرية خليط من الهولندية والعبرية. كذلك تُصدِّر إسرائيل مرتزقة إلى الخارج لتدريب قوات تجار المخدرات في كولومبيا أو حرس بعض رؤساء دول أمريكا اللاتينية.

وتوجد الآن مافيا إسرائيلية قوية مركزها لوس أنجلوس، ولكنها منتشرة في كل أرجاء الولايات المتحدة. وقد بدأت هذه العصابات نشاطها بفرض إتاوات على فقراء اليهود (عادةً من بقايا يهود معسكرات الإبادة)، ثم دخلت عالم المخدرات وجرائم الغش التجاري. ويبلغ عدد أعضاء قيادة المافيا الإسرائيلية نحو 100 عضو. وتعقد سلطات الأمن الأمريكية مؤتمراً قومياً كل عام لمناقشة نشاط المافيا الإسرائيلية.

عتاة المجـرمين من أعضـاء الجماعـات اليهـودية في العــصر الحـديث
Famous Criminals from Jewish Communities in Modern Times
يوجد الكثير من المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية ولا يمكن تفسير تَميُّزهم في الإجرام بناء على يهوديتهم، ولنبدأ بإدوارد ديفيس (1816 ـ 1841) وهو لص أسترالي يهودي وُلد في إنجلترا، وأدين عام 1832 بتهمـة السـرقة وحُكم عليه بالترحيل إلى أسـتراليا لمدة سبع سنوات. وفي أستراليا، نجح في الفرار من سجنه عام 1839 وكوَّن عصابة من السجناء الهاربين قامت على مدى عامين بالإغارة على المدن الصغيرة والقرى بقطع الطريق على المسافرين، الأمر الذي أثار الرعب في نفوس الكثيرين. وقد اتخذت هذه العصابة لقب «عصابة الولد اليهودي». وكان ديفيس يعتبر نفسه «روبين هود أستراليا »، لأنه كان يسرق من الأغنياء ويعطي الفقراء، كما كان يرفض استخدام العنف إلا دفاعاً عن النفس. وجاءت نهايته بعد أن قتلت عصابته صاحب متجر في إحدى غاراتها، الأمر الذي دفع السلطات لتكثيف البحث عنه. وقد ألقي القبض عليه، وعلى عدد آخر من أفراد عصابته عام 1840، وأدين بتهمة القتل وحُكم عليه بالإعدام.

وديفيس ينتمي إلى نمط من اللصوص يمكن تفسيره من خلال دراسة درجة السخط الشعبي والاستقطاب الطبقي، فهو ليس مجرماً بالمعنى المألوف وإنما مجرم يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء. ولكن النمط الأكثر شيوعاً هو المجرم المتميِّز من أعضاء الجماعات اليهودية الذي يمكن تفسـير سـلوكه باســتخدام نموذج العلمانية الشاملة والنيتشـوية.

ولنبدأ باثنين من أهم المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية وهما ريتشارد لويب (1905 ـ 1936) وفروينتال ليوبولد (1904 ـ 1975). كان لويب وليوبولد من خريجي الجامعة، وكانا أيضاً من أبناء الأسر اليهودية الثرية في الولايات المتحدة. وفي عام 1924، قررا أن يرتكبا جريمة بلا دافع فقاما باختطاف صبيّ في الرابعة عشرة من عمره ثم قتلاه. وقد حُكم على أحدهما بالسـجن مدى الحياة، وحُكم على الآخر بالسـجن لمدة تسـعة وتسـعين عاماً. وقد قُتل لويب في السجن وأُعفي عن ليوبولد. والجريمة التي ارتكبها لويب وليوبولد ليس لها مضمون يهودي واضح أو كامن، فدوافع المجرمين ليست إنسانية تقليدية، فهما لم يكونا مدفوعين بدوافع اقتصادية (فهما من أعضاء الطبقة الثرية في الولايات المتحدة) أو دوافع جنسية (فهما لم يغتصبا الصبي المخطوف). ولفهم هذه الجريمة، لابد أن نصنفها على أنها جريمة حديثة تماماً، فمرتكباها افتقدا المعنى في حياتهما الرتيبة وقررا استرجاع شيء من المعنى عن طريق شكل من أشكال الإثارة الشديدة. وقد وجدا الإثارة في ارتكاب جريمة بلا دافع، أي أن الأداء الإجرامي الكفء أصبح غاية في ذاته، فهي جريمة محايدة تتم بلا حب أو كره أو غاية، وهي جريمة كاملة، يفترض فيها أنها من الدقة والإحكام بحيث يستحيل اكتشافها (أي أنها نسق مغلق تماماً)، وكل هذا تعبير عن رغبة الإنسان الحديث في التحكم الإمبريالي الكامل في كل شيء بحيث يصبح الإنسان إلهاً يُحيي ويُميت دون مكافأة أو عقاب. وفي هذا لذة أيما لذة، فهنا يصبح اللامعنى هو المعنى، ويصبح العبث هو الغاية، وتصبح الصورة المجازية الحاكمة الكبرى هي أن الحياة بأسرها إنما هي لعبة أو مباراة وأن ذَبْح الأطفال إنما هو جزء من هذه اللعبة المسلية.

ويمكن أن نشير أيضاً إلى أرنولد روثشتاين (1882 ـ 1928)، وهو من رواد الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وُلد في نيويورك لعائلة يهودية تجارية متوسطة الحال، واتجه في سن مبكرة إلى القمار ثم المراهنات، ونجح في إقامة أكبر إمبراطورية للقمار في الولايات المتحدة، وامتد نشاطه إلى تهريب الخمور وتجارة المخدرات والابتزاز، ونجح في حماية نفسه وأنشطته الإجرامية من خلال رشوة رجال الأمن والقانون والسياسة ومن خلال استثمار أمواله في بعض الأنشطة المشروعة. وقد تَمتَّع روثشتاين بنفوذ واسع، وأصبح يُلقَّب بـ «قيصر عالم الجريمة»، وقد تتلمـذ على يديه عدد من مشـاهير المجرمين الأمريكيين، أمثال مائير لانسكي، والذين تعلموا منه أهمية التعاون والتحالف في عالم الجريمة بغض النظر عن الانتماء الإثني أو الديني. فاللص هنا، مثل الإنسان الطبيعي أو الأممي، لا جذور له ولا حدود، ولا تعوقه أية مطلقات غيبية أو إنسانية. وهو، مثل عضو الجماعة الوظيفية والإنسان الاقتصادي، لا يدين بالولاء إلا لصالح جماعته وما يحققه لها ولنفسه من ربح، « وليس للدولار سوى قومية واحدة ودين واحد وهو الربح » على حد قول روثشتاين، الذي اغتيل في أحد فنادق نيويورك نتيجة خلاف حول سداد دين قمار.

أما لويس بوكالتر « ليبكي » (1897 ـ 1944) فهو أحد زعماء الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وُلد في نيويورك لعائلة من المهاجرين اليهود، وانخرط في حياة الإجرام في سن الثامنة عشرة، حيث انضم إلى عصابة من الأحداث تحترف النشل وسرقة الباعة المتجولين. وقد اشتهر بوكالتر باسم «ليبكي»، وهو الاسم الذي أطلقته عليه والدته ويعني باليديشية «لويس الصغير».

وقد أمضى بوكالتر ثلاثة أعوام في السجن بتهمة السرقة، خرج بعدها ليتزعم عصابة من مائتي مجرم تخصصت في الابتزاز. ولم يكن بوكالتر يؤمن بالتخصص فحسب وإنما بالتنظيم والترشيد أيضاً. وقد استخدمت عصابته جميع أساليب الإرهاب للسيطرة على النقابات العمالية في قطاع صناعة الملابس والمأكولات في نيويورك، ثم ابتزاز أصحاب الأعمال « لحمايتهم » من الإضرابات العمالية. وجمعت علاقة وثيقة بين بوكالتر ومائير لانسكي، وكان من زعماء الإجرام الذين أسسوا الاتحاد القومي للجريمة، والذي تأسس بغرض تنسيق وترشيد النشاط الإجرامي على مستوى الولايات المتحدة. وقد تولى بوكالتر رئاسة الجناح التنفيذي للاتحاد والذي أطلقت عليه الصحافة الأمريكية اسم « شركة القتل المساهمة » لأنه قام تحت إشرافه بتنفيذ مئات الاغتيالات وجرائم القتل.

وفي عام 1933، ألقي القبض على بوكالتر بتهمة مخالفة القانون المناهض للاتحادات الاحتكارية، وحُكم عليه بالسجن والغرامة، إلا أن الحكم تم نقضه وأفرج عنه بكفالة. ثم قُدِّم للمحاكمة مرة أخرى عام 1939 في جريمة مخدرات، وحُكم عليه بالسجن لمدة أربع عشرة سنة. وأثناء ذلك، قُدِّم (عام 1941) للمحاكمة بتهمة جريمة قتل ارتكبها عام 1936 وحُكم عليه بالإعدام. ونُفِّذ فيه الحكم عام 1944.

ويمكن أن نشير أيضاً إلى بنجامين سيجل (1906 - 1947) الذي كان أعداؤه يلقبونـه باسم «بجزي Bugsy»، نسبةً إلى البجز (bugs) أي «الحشرات». وقد كان سيجل أحد زعماء اتحاد الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وُلد في نيويورك، وبدأ منذ سن الرابعة عشرة في الانخراط في الأنشطة الإجرامية. وكوَّن عصابة مع مائير لانسكي عُرفت باسم «عصابة بجز ومائير» قامت بحماية الملاهي الليلية نظير إتاوة منتظمة، كما قامت بعمليات السطو المسلح والخطف والقتل بالأجر لحساب عصابات تهريب الخمور. وقد تَورَّط سيجل في عدد من قضايا التهريب والاغتصاب والسرقة والاغتيال، حيث اتُهم بقتل بعض شركائه القدامى. كما اشترك سيجل مع عدد من كبار المجرمين الأمريكيين في تأسيس الاتحاد القومي للجريمة. وفي الثلاثينيات، انتقل سيجل إلى كاليفورنيا للإشراف على عمليات الاتحاد بها كما أشرف على عمليات القمار وتجارة المخدرات، ومد نشاطه إلى مجال السينما حيث قام بعمليات ابتزاز عديدة.

وقد عـاش ســيجل حياة مُترَفة مع كثير من أصدقائه نجوم السينما، جين هارلو وكلارك جيبل وكاري جرانت وغيرهم. وأثناء الحرب العالمية الثانية، اكتشف سيجل إمكانات ضخمة في القمار المشروع في نيفادا، فاقترض بعض النقود من اتحاد الجريمة وبنى فندق الفلامنجو الضخم في لاس فيجاس، وقد حاول أن يُبقي كل الأرباح لنفسه دون أن يشرك الاتحاد فيها. وكانت فلسفته في الحياة عملية داروينية إذ كان يقول دائماً: « كل ما نفعله هو أن يقتل الواحد منا الآخر »، وهذا ما حدث له في يونيه 1947 إذ كَلَّف اتحاد الجريمة قاتلاً صوَّب مسدسه إلى رأس سيجل وأفرغ فيه عدداً من الرصاصات.

أما فلاتو شارون، فهو من كبار المجرمين الفرنسيين. تهرَّب من الضرائب في فرنسا باللجوء إلى إسرائيل مستفيداً من قانون العودة. ورشح نفسه لعضوية البرلمان (الكنيست) كي يحصل على الحماية البرلمانية، ونجح مرتين في الانتخابات بشـراء الأصـوات صراحةً وعلانية، حيث موَّل حملته الانتخابية أحد زعماء الجريمة المنظمة. وبعد أن فرّ يعقوب الله كوهين زعيم الجريمة المنظمة في إسرائيل (وهو يهودي من أصل إيراني) إلى البرازيل، تردد اسم فلاتو شارون خلفاً له في الزعامة. ويوجد الآن في إسرائيل عطر ومساحيق تجميل تحمل اسم «فلاتو»، وهو ما يدل على تغلغل المُثُل الإجرامية في المُستوطَن الصهيوني (ويُلاحَظ أن فلاتو شارون هذا كان شريكاً لعزرا وايزمان في تجارة السلاح مع جنوب أفريقيا).

واستخدام نموذج الخصوصية اليهودية والعبقرية اليهودية والجريمة اليهودية في تفسير سلوك هذه الشخصيات الإجرامية لا يفيد كثيراً، فقيمته التفسيرية ضئيلة. أما إذا وضعناهم في سياق المجتمع العلماني الحديث الذي يتسم بتَزايُد تهميش القيم الأخلاقية والإنسانية المطلقة وتَصاعُد معدلات النسبية والنيتشوية، فيمكن إلقاء مزيد من الضوء على دوافعهم وسلوكهم.

عباقـرة ومجـرمـون مــن أعضـاء الجماعـات اليهوديـة
Geniuses and Criminals from Jewish Communities
في محاولة تفسير عبقرية العباقرة وإجرام المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية، لابد أن يبتعد الدارس عن نموذج الخصوصية اليهودية العالمية. وبدلاً من ذلك يمكن أن نضبط مستوى التعميم والتخصيص للوصول إلى النموذج التفسيري الملائم. ومثل هذا النموذج لابد أن تتم صياغته من خلال دراسة السياق الحضاري والاقتصادي والاجتماعي والديني الذي يوجد فيه العبقري أو المجرم من أعضاء الجماعات اليهودية. وفي المداخل التالية سنحاول أن نطبق هذا المنهج على مجموعة من العباقرة والمجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية عبر التاريخ مثل أينشتاين وتشومسكي ولانسكي، وعلى مجموعة من المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودي في العصر الحديث.

بنيامــين التُـطيـلــي (القرن الثاني عشر(
Benjamin of Tudela
رحالة إسباني يهودي في القرن الثاني عشر الميلادي لا نعرف الكثير عن حياته الشخصية. ترك سرقسطة في عام 1160، وقام برحلة استغرقت ما بين خمسة وثلاثة عشر عاماً، زار خلالها نحو ثلاثمائة موضع من بينها: إيطاليا واليونان ****يكية وفلسطين وبلاد الرافدين وإيران والهند، وعاد ماراً بعدن واليمن ومصر وصقلية. وقد دوَّن بنيامين التُطيلي ملاحظاته في كتابه رحلات الحاخام بنيامين وهي تتضمن عديداً من الروايات والتفاصيل الطريفة والمهمة. وقد انصب اهتمامه على حضارات البلدان التي زارها وعلى الجماعات اليهودية فيها من حيث أسلوب حياتهم ووظائفهم الأساسية وتنظيماتهم الاجتماعية وحياتهم الدينية. كما أورد إحصاءات عن عدد كل جماعة. ويُعَدُّ كتابه من المصادر الفريدة لعدد أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، وإن كانت بعض الأعداد التي يوردها تبدو غامضة أو مبالغاً فيها. وقد تُرجم كتابه إلى معظم اللغات الأوربية وضمنها اللاتينية.


داهيـــة الكاهنــة (أوائل القرن الثامن الميلادي(
Dahiya Al-Kahina
«داهية الكاهنة» (ويُقال إن اسمها هو «ضميا» أو «ضحيا») هي محاربـة من قبيلـة الجراورة في جبـال أوراس في الجنوب الشرقي للجزائر، وهي فرع من قبيلة زناتة البربرية الكبيرة تَهوَّد في القرن السابع بعد الميلاد، أي قبيل الفتوحات الإسلامية بقليل. قادت داهية القبائل البربرية وقامت بصد الزحف الإسلامي عام 688م حين دمرت جيش حسان بن النعمان الغساني واضطرته إلى الانسحاب إلى طرابلس. وكانت الكاهنة تظن أن القوات الإسلامية هي مجرد جماعات من البدو المغيرين الطامعين في الثروة، ولذلك قامت بحرق المدن والحقول حتى يرحلوا. ولكن أفعالها جعلت السكان يجأرون بالشكوى منها ويناصبونها العداء وانفض أتباعها من حولها وانضموا تدريجياً إلى جيش الإسلام. وفي الجولة الثانية مع القوات الإسلامية، يُقال إنها تنبأت بهزيمتها ومقتلها، وبالفعل نشبت المعركة في عام 695 وهُزمت داهية الكاهنة ولقيت حتفها خلالها.

ولا يمكن رؤية مقاومة داهية الكاهنة للزحف الإسلامي باعتباره جزءاً من العداء الأزلي بين المسلمين واليهود ولا يمكن فهمه من خلال نموذج تفسيري يهودي. ففي مناطق أخرى ومدن أخرى ساعد أعضاء الجماعات اليهودية المسلمين. ولذا، يجب أن تُوضَع هذه المقاومة في سياق أكثر عمومية وهو مقاومة القبائل الوثنية للزحف الإسلامي. ونحن لا نعرف كثيراً عن نوع اليهودية التي كانت تتبعها الكاهنة. بل إن بعض المؤرخين يشككون أصلاً في انتمائها اليهودي. لكل هذا يكون الحديث عنها باعتبارها عبقرية يهودية أمراً ليس ذا قيمة تفسيرية تُذكَر.

ابـن نغريلـة (993-1055(
Ibn Nagrila
هو صموئيل اللاوي بن يوسف بن نغريلة المشهور بين اليهود باسم «شموئيل هانجيد». وقد عرفه العرب باسم إسماعيل بن يوسف بن نغريلة. وهو رجل سياسة وشاعر وعالم وقائد عسكري عربي يهودي، ويُعَدُّ أهم شخصية يهودية في الأندلس.

وُلد في قرطبة من عائلة غنية، وأتقن العبرية والعربية واللاتينية ولغات البربر، كما درس القرآن الكريم والتوراة والتلمود على يدي حنـوخ بن موسى في قرطـبة. وكان يُشـيع عن نفسـه أنه من نسـل داود. فرَّ من قرطبة في القرن الحادي عشر الميلادي بعد غزو المرابطين لها وفتح دكان توابل في ملقا، ثم ألحقه الملك حبوس بخدمته حيث عَمل بجمع الضرائب، ثم كاتباً ومساعداً للوزير أبي العباس. وبعد أن أيَّد باديس، في معركته ضد أخيه على العرش، كافأه الملك الجديد وقرَّبه منه وعيَّنه وزيراً له بحيث أصبح ابن نغريله من أهم الشخصيات في المملكة. وحيث إن باديس كان مستغرقاً في لذاته ومسراته، فإن ابن نغريلة كان الحاكم الفعلي، فقاد جيوش غرناطة في معاركها الدائمة مع أشبيلية، وحقق انتصارات عسكرية عديدة فيها.

ألَّف ابن نغريلة عدة كتب في الشريعة اليهودية، من بينها مقدمة للتلمود، وحرَّر معجماً لعبرية التوراة. كما وضع كتاباً يطعن في الإسلام وكتابه الكريم، فرد عليه أبو محمد بن حزم في كتاب سماه الرد على ابن نغريلة اليهودي. ومع هذا، كان ابن نغريلة مندمجاً تماماً في الحضارة العربية الإسلامية، فقلَّد أمراء عصره باجتذاب الشعراء وكوَّن لنفسه حاشية منهم، وكان من بينهم عدد من الشعراء المسلمين. وكان هو نفسه يقرض الشعر باللغتين العربية والعبرية وله عدة دواوين. وتتناول قصائده العبرية موضوعات شتى. وقد طعم الشعر العبري بفنون جديدة اقتبسها من الأدب العربي، كالشعر القصصي والخمريات والغزل ووصف المعارك ووصف الطبيعة والرثاء. كما طرق فنون الشعر العبري التقليدية مثل قصائد البيوط والأدعية. ولم يكن الشعر الذي كتبه ابن نغريلة بالعربية أو بالعبرية متميِّزاً. ومهما كانت طبيعة إنجازاته فلا يمكن تفسيرها إلا من خلال نموذج تفسيري يضعه في سياق الحضارة العربية الإسلامية.

رودريجــو لوبيـز (1525-1594(Rodrigo Lopez
طبيب برتغالي من يهود المارانو انتقل إلى لندن نحو عام 1559، وتَخلَّى عن الكاثوليكية التي اعتنقتها أسرته منذ ستين عاماً لينضم إلى الكنيسة البروتستانتية الإنجليزية ولكنه ظل على يهوديته في حياته الخاصة. اكتسب سمعة طيبة في مجال الطب نظراً لعبقريته الفائقة في هذا المجال، وأصبح واحداً من أهم أطباء لندن، ودخل في خدمة أحد النبلاء البريطانيين المقربين للملكة إليزابيث، ثم أصبح رئيس أطباء الملكة عام 1586. ويُقال إن لوبيز حصل على احتكار استيراد العديد من السلع، كما منحته الملكة سفينة ملأى بصكوك الغفران أصدرها البابا وكانت في طريقها إلى العالم الجديد لتباع هناك، واستولى عليها الأسطول البريطاني وهي في طريقها. ولعل الملكة منحته حمولة هذه السفينة لأنه يهودي له اتصالات كاثوليكية ومن ثم ليست هناك مشكلة أخلاقية ولا عملية في بيعه هذه السلعة شبه المقدَّسة. ومع هذا، لم ينجح لوبيز في تسويق سلعته.

ولم يقتصر نشاط لوبيز في بلاط الملكة على الطب، إذ اتضحت عبقريته أيضاً في مقدرته على تدبير الخطط والمؤامرات بالاشترك مع وزراء الملكة، وساعدته على ذلك شبكة علاقاته بأقاربه من يهود المارانو في انتورب وليجهورن وإستنبول. فانضم إلى الدائرة البيوريتانية في بلاط الملكة التي كانت تسعى للحرب مع إسبانيا الكاثوليكية، ونجح من خلال شبكة علاقاته في توفير معلومات ساعدت في هزيمة الأسطول الإسباني عام 1588. وقد كان صهره سليمان أبنايس من مؤيدي السياسة البريطانية داخل البلاط التركي، حيث كان يعمل مستشاراً للسلطان. وعمل لوبيز على حث إنجلترا على تأييد دوم أنتونيو المطالب بعرش البرتغال، وساهم في كسب دعم الملكة إليزابيث لخطة تقضي بغزو دوم أنتونيو للبرتغال عام 1589، وهي خطة انتهت بالفشل.

ورغم كل ذلك، يبدو أن لوبيز كانت له علاقة مشبوهة بالحكومة الإسبانية. فرغم أن هذه العلاقة تمت بمعرفة الحكومة البريطانية ولصالحها، إلا أنه تبيَّن فيما بعد أنها كانت علاقة ذات أبعاد مريبة وغامضة، أثارت الشكوك حول لوبيز، ويبدو أن هذه العلاقة بدأت مع تَوسُّط لوبيز للإفراج عن أحد عملاء إسبانيا في إنجلترا، والذي كان قد ألقي القبض عليه بعد أن حاول استدراج دوم أنتونيو وإيقاعه في أيدي الإسبان. ومن خلال هذا العميل أبلغ لوبيز الحكومة الإسبانية استعداده للتوسط بينها وبين إنجلترا في التفاوض من أجل السلام. وقد تمت هذه الخطوة على ما يبدو بعلم وزير الخارجية البريطاني بغرض الكشف عن خطط إسبانيا واستدراجها للتخلي عن حذرها. ومع ذلك، اتُخذَت هذه الواقعة فيما بعد دليلاً على تورط لوبيز مع إسبانيا وعمالته لها. وقد فَقَد لوبيز صداقته مع دوم أنتونيو نتيجة توسطه للإفراج عن العميل الإسباني بسبب الخلاف الذي ثار بين دوم أنتونيو وسليمان أبنايس صهر لوبيز، حيـث اتهـمه دوم أنتونيو بخـداع الحكومة البرتغالية والإثراء من ورائها. وقد نجح دوم أنتونيو في الإيقاع بين لوبيز وأحد النبلاء البريطانيين وهو إيرل أوف إسيكس Earl of Essex، وهو ما دفع هذا الأخير للبحث عن دلائل تؤكد عمالة لوبيز لإسبانيا. وبالفعل، نجح إيرل أوف إسيكس في إلقاء القبض على ثلاثة من البرتغاليين من عملاء إسبانيا، وقد تبيَّن من أقوالهم والخطابات التي وُجدت في حوزتهم أن لوبيز كانت له علاقة سرية بإسبانيا بل وكان عميلاً لها يُسرِّب لها المعلومات ويخطط لاغتيال دوم أنتونيو بالسم وإرغام وريثه على الخضوع لملك إسبانيا، وأنه كان يعمل على دفع إنجلترا باتجاه السلام مع إسبانيا.

وعند تقديم هذه الأدلة للحكومة البريطانية، لم تتخذ هذه الحكومة أية إجراءات ضد لوبيز، حيث إنها كانت على علم باتصالاته بإسبانيا للأغراض التي سبقت الإشارة إليها. وقد رفضت الملكة إليزابيث هذه الاتهامات. ولكن، في أعقاب ذلك، ظهرت دلائل جديدة تشـير إلى أن لوبيز كان يخطط لوضع السـم للملكة إليزابيث نفسها، فتم إلقاء القبض عليه. وقد أكد لوبيز في البداية أن علاقته بإسبانيا كانت بغرض الحصول على معلومات لصالح إنجلترا، ولكنه اعترف فيما بعد بأنه وعد بالفعل بوضع السم للملكة، ولكنه في واقع الأمر لم يكن ينوي الإقدام على ذلك. وبرغم أنه سحب هذا الاعتراف فيما بعد، إلا أنه كان كافياً للحكم عليه بالإعدام. وقد لُقِّب لوبيز طوال فترة محاكمته بـ «اليهودي الخسيس». والتمس لوبيز العفو عدة مرات لـدى الملكة إليزابيث، كما تَدخَّل لصالحه سـليمان أبنايس ولكن دون جدوى، ونُفِّذ فيه حكم الإعدام عام 1594. وقـد نالت قضية لوبيز اهتمـاماً جماهيرياً واسـعاً في إنجلترا، واتخذها بعض الأدباء مادة لأعمالهم، واتخذوا لوبيز نموذجاً لشخصيات روائية مثل مسرحية يهودي من مالطة لمارلو ومسرحية تاجر البندقية، التي يُقال إن شكسبير كتبها نتيجة هذه المحاكمة وأن شخصية المرابي شايلوك اقتُبست عن نموذج لوبيز.

وقد بيَّنت الوثائق التاريخية فيما بعد صحة جوانب كثيرة من الاتهامات الموجهة للوبيز، لكنها بيَّنت أيضاً عدم وجود دلائل قاطعة تؤيد تَورُّطه في مؤامرة لاغتيال الملكة إليزابيث.

ولوبيز مثل جيد على العبقرية التي يتداخل فيها الشر مع الخير، والإبداع البناء مع القدرة على التدمير (الإبداع التفكيكي). وهو شخصية مكيافيللية كاملة كانت توجد بكثرة في بداية عصر النهضة في الغرب، وقد تناولها أدباء العالم الغربي في أعمالهم الأدبية. ولا يمكن تفسير عبقرية لوبيز في الخير والشر بناء على يهوديته، وإن كان انتماؤه ليهود المارانو يُفسِّر بعض الجوانب الخاصة، مثل اتساع نطاق حركته وزيادة مقدراته بسبب شبكة الاتصالات الدولية المارانية ومعرفته بعدد كبير من اللغات.

جوزيـــف أوبنهايمـــر (1635-1703(
Joseph Oppenheimer
يُسمَّى أيضاً «يود سوس» أي «اليهودي سوس». وهو يهودي بلاط ومموِّل، وُلد في هايدلبرج (ألمانيا)، لممثل يهودي متجول كان يقوم أيضاً بجمع الضرائب، ويُشاع أنه كان الابن غير الشرعي لفارس ألماني. تلقى في طفولته تعليماً دينياً حتى أصبح حاخاماً، ولكنه آثر العمل في الأمور المالية. ولم يكن مكترثاً كثيراً باليهودية، إلا أنه لم يَتنصَّر على عكس أخويه.

ويبيِّن أسلوب حياته مدى عمق التغير الذي طرأ على حياة الجماعات اليهودية في أوربا، أو على الأقل على قيادتها، وهي تغيرات لا تعدو أن تكون صدى للتغيرات التي لحقت بالمجتمعات الغربية. فأوبنهايمر لم يمارس أياً من شعائر اليهودية، إذ كان ربوبياً أي يؤمن بالرب الذي يحل في الطبيعة دون أن يؤمن بأي دين، شأنه شأن الكثير من مثقفي عصر الاستنارة. وكان يحيا حياة كبار نبلاء أوربا إبَّـان عصر الملكيات المطلقة ويرتدي زي النبلاء المسيحيين. وكانت مكتبته مُكوَّنة من أعمال ألمانية في السياسة والتاريخ والقانون. وكان له منزل في كلٍّ من فرانكفورت وشتوتجارت على الطراز الأوربي، عُلِّقت على حوائطهما لوحات لرمبرانت وغيره من الفنانين الغربيين. وكان أوبنهايمر إنساناً حديثاً بمعنى الكلمة، طموحاً، يبغي أن يحقق حراكاً اجتماعياً سريعاً. وقد تقدَّم للإمبراطور بطلب الحصول على لقب النبيل، ولكن لم يُستجَب لطلبه. ويبدو أنه كان إنساناً جسمانياً لا يكف عن ملاحقة النساء، سواء كن من طبقة النبلاء أم من الخادمات. ورغم كل هذا، كان أوبنهايمر يتباهى بيهوديته، وهو ما يدل على أنه عرَّفها تعريفاً إثنياً خالياً من أي مضمون أخلاقي، وهو التعريف الذي قُدِّر له الشيوع في العالم الغربي الحديث.

عمل أوبنهايمر مع قريبه يهودي البلاط صموئيل أوبنهايمر، وجمع ثروة كبيرة إلى أن أصبح هو نفسه يهودي بلاط (وهي وظيفة تشبه وظيفة وزير المالية أساساً، ولكن يدخل ضمنها أيضاً الشئون الخارجية والمخابرات) حينما أصبح الدوق كارل ألكسندر حاكماً لدوقية ورتمبرج، وكان الدوق كاثوليكياً في حين كانت جماهير دوقيته لوثرية. وكان يود تطوير دوقيته على أسس مركنتالية تجارية ومطلقة، ولكنه كان، في ذات الوقت، يحيا حياة شخصية فاسدة، ولذا نشأت عنده حاجة ماسة إلى المال. ومن هنا كان دور أوبنهايمر الذي كان إنساناً اقتصادياً بمعنى الكلمة يود تعظيم الربح بالنسبة للدولة ولنفسه، وكان يُعدُّ عبقرية في اكتشاف مصادر جديدة للريع. وبعد أن قام الدوق بعزل كل مستشاريه، أصبح أوبنهايمر مستشاره الوحيد تقريباً فبذل قصارى جهده لتقوية قبضة الدولة على كل المصادر المالية عن طريق فرض ضرائب جديدة. كما احتكر بيع الملـح والجلـد والخمـور والتبغ، وأسَّـس مصـنعاً للخزف وآخر للحـرير، وأنشـأ داراً لصـك النقـود، وأقـام أول بنك في جنوب ألمانيا. ولم يتوان أوبنهايمر عن توظيف كل من المسيحيين واليهود لتحقـيق الربـح، فضغط على الكنيسة لتودع أموالها في البنك المركزي، الأمر الذي أثار حقد وغيظ الكنيسة ضده. وقد قام بتوطين جماعة من اليهود في ورتمبرج، وأوكل إليهم حق توريد المعدات الحربية وحقق من خلال ذلك أرباحاً كثيرة.

وقد تَسبَّب فساد الدوق في إفقار جماهير دوقيته وتزايد السخط ضده. وحينما مات الدوق، ألقي القبض في اليوم نفسه على أوبنهايمر الذي دافع عن نفسه بقوله إنه لم يفعل شيئاً دون أمر الدوق، ولكن المحكمة حكمت بإعدامه شنقاً. وقد كُتبت عدة روايات عن حياته. ويشير النازيون في دعايتهم إلى أوبنهايمر باعتباره نموذج المموِّل اليهودي العبقري، ولكن عبقريته من النوع الإجرامي فهو يستغل المسيحيين وينهب أموال الدولة ويُفسد الإناث من جميع الطبقات.

وموقف النازيين من اليهود لا يختلف كثيراً عن موقف الصهاينة. فكلاهما ينزع العبقرية اليهودية من سياقها ويؤكد البُعد اليهودي على حساب كل الأبعاد الأخرى. فلا يمكن فهم أوبنهايمر باعتباره يهودياً خالصاً يُعبِّر عن جوهر يهودي، وإنما باعتباره نموذجاً لإنسان العصر الحديث الذي بدأت تتحدد ملامحه منذ عصر النهضة الغربية. فأوبنهايمر ربوبي، يضع نفسه خارج أية منظومة دينية، ولكننا نكتشف أنه ليس ربوبياً وحسب بل كان إنساناً طبيعياً يضع نفسه خارج أية منظومة أخلاقية. فقد كان أوبنهايمر إنساناً اقتصادياً حقيقياً يحاول تعظيم الربح، وإنساناً جسمانياً يحاول تعظيم اللذة، وهو في هذا ليس نموذجاً فريداً على الإطلاق، وإنما شخصية نماذجية: إنسان طبيعي لا تحده حدود أو قيود يعيش حسب قوانين الطبيعة/المادة.

أما يهوديته التي كان يتباهى بها فإنها لم تحدد سلوكه الإجرامي ولا عبقريته المالية، فهو ابن عصره، أداة في يد الدوق/الدولة، لا يختلف في هذا عن أيخمان وبريا وغيرهما من جزاري العصر الحديث البيروقراطيين، الذين يذبحون بمنهجية شديدة وحسبما يَصدُر لهم من تعليمات لا يتجاوزونها.


__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
اليهودي, الجوهـر


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الجوهـر اليهودي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 1 11-20-2013 01:13 PM
المسيح المنتظر في المعتقد اليهودي عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 09-26-2013 07:53 AM
فضائح المجتمع اليهودي الإسرائيلي Eng.Jordan أخبار الكيان الصهيوني 1 08-11-2012 10:16 AM
عيد المساخر ) البوريم اليهودي Eng.Jordan أخبار الكيان الصهيوني 0 04-17-2012 09:24 PM
متى وكيف اخترع الشعب اليهودي؟!! Eng.Jordan أخبار الكيان الصهيوني 0 02-24-2012 07:58 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 04:18 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59