#1  
قديم 11-03-2013, 10:16 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي دراسات فـي الفكر الاستراتيجي والسياسي




موسى الزعبي


مقدمة


إن تسارع العولمة، والبحث عن الهوية الذي سببه هذا التسارع قاد المجتمعات للبحث عن توسطات سياسية واجتماعية وثقافية تكون قادرة على أن تأخذ على عاتقها تحقيق وجهة النظر هذه، إذ تبذل جهود من أجل تحرير ما يمكن أن نسميه هنا مجال الوعي بين الإطار الوطني أو القومي الضيق، والإطار العالمي الواسع جداً. ويبدو هذا السعي في نظر البعض مستحيلاً لحد ما، في الوقت الذي تجري فيه العولمة.
فقليلة هي العصور التي شهدت كعصرنا، وبالوتيرة نفسها، وبالتراكيب الوثيقة، هذا القدر الوفير من الثورات العلمية في مجالات التقانة والمعلوماتية، وما أثرت به على السياسة والفكر الاجتماعي، وقد ازدادت المعارف من كل نوع، مما أدى إلى إعادة النظر أيضاً في العلاقات الدولية، في المجالات المختلفة، العسكرية والاقتصادية إلى درجة أن جرت بعض المراجعات للممارسات في مختلف الميادين. وما كان بالأمس من اهتمامات الفلسفة أو حتى التاريخ أصبحت له انعكاسات جدية على الاقتصاد وعلم السياسة.
وتاريخياً، شكلت القارة الأوراسية (أوربا- آسيا) موطن القوة الدولية، منذ أن بدأت العلاقات الدولية بالامتداد على النطاق الكوني كله بالكامل، وذلك منذ حوالي خمسمائة عام سابقة. ووطدت شعوب المنطقة الأوراسية- خصوصاً الأوربية الغربية منها- هيمنتها على مجمل مواطئ الكرة الأرضية، وركزت عليها سيطرتها، وقد أعطى هذا التوسع، طبقاً لنماذج مختلفة، وأحقاب متنوعة، أوضاعاً متميزة إلى دول أوراسية مختلفة، وترافق ذلك مع رفعة شأن دولية.
ثم حدثت انزلاقات في التغيرات البنيوية في الشؤون الدولية، خلال عشر السنوات الأخيرة من القرن العشرين. إذ تصبح للمرة الأولى قوة خارجية عن القارة الأوراسية، ليس فقط كونها ارتفعت إلى مرتبة الحكَم في العلاقات الدولية الأوراسية، بل أيضاً القوة الشاملة المهيمنة الكونية. فقد أكمل انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، الصعود السريع للولايات المتحدة كقوة خارجية وبالتالي جعلها القوة الحقيقية الأولى الدولية اليوم.
لكن هذا لا يعني أن القارة الأوراسية قد فقدت شيئاً من أهميتها الجيوسياسية. إذ لا يزال جزء كبير من القوة الاقتصادية للكرة الأرضية يتمركز على محيطها الغربي، في أوربا. وفي الطرف الآخر، أصبحت آسيا- وفي وقت قصير- موطناً ديناميكياً للنمو الاقتصادي، أكثر فأكثر تأثيراً ونفوذاً سياسياً، وهنا يجري التساؤل عن الموقف الذي ستتخذه الولايات المتحدة، والذي ستلتزم به، بعد الآن، على النطاق الدولي، تجاه الشؤون الأوراسية المعقدة؟ وكيف يتم توقع ظهور قوة أوراسية منافسة للولايات المتحدة، بشكل خاص، تقف في وجه هيمنتها وتسلطها، وتعارض نهبها للعالم، مثلما هي حالها اليوم.
ويؤكد منظرو السياسة الخارجية الأمريكية على فكرة أن السيطرة على المعدات الجديدة للسلطة "التكنولوجيا، والمعلوماتية، والاتصالات، وأجهزة الاستعلام، وكذلك التجارة والمال"، جميعها أمور لازمة حتماً للاستمرار في الهيمنة. لهذا، يجب أن تأخذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بالحساب، الأبعاد الجيوسياسية، وأن تستخدم كل نفوذها في الأوراسيا، لخلق توازن دائم في القارة، توازن تلعب فيه واشنطن دوراً أساسياً مهيمناً.
وستبقى أوراسيا من وجهة النظر الأمريكية، المسرح الذي يدور عليه الصراع بشأن الأولوية الدولية، لهذا فإنه من الضروري أن تتزود الولايات المتحدة بخط جيواستراتيجي من أجل المشاركة فيه، بعبارة أخرى، تحديد تنظيم استراتيجي لمصالحها الجيوسياسية.
ويرى بعض المهتمين بالشؤون الدولية، أن النظام الدولي الحالي، قد أصبح غير مستقر، فهو مشكل، في الواقع، من وحدات غير ثابتة، وجميعها في تطور، وتغير تحت أنظار العالم، ودون أن يعرف أحد إبراز قوانين له، وله القدرة على رسم المستقبل. ويدرك المشاهد الفطن، أن العلاقات الدولية، هي في الوقت الحاضر، في حالة من الفوضى الصاخبة، وتشكل جزيرات من عدم الاستقرار، لا بل محاولات الانفلات من هيمنة القطب الواحد، أخذت تبرز، وإن ببطء شديد. مع ذلك فإن المراقب اليقظ، يمكن أن يلحظ ذلك في جميع مجالات العلاقات الدولية على الرغم من محاولات السيطرة عليها، أو على الأقل إخفائها عن العلن مؤقتاً.
وكما بيَّنا في كتابنا هذا، تستهدف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بصورة رئيسة، تخليد هيمنة واشنطن، ودون منافس، منذ نهاية الحرب الباردة، ومنع ظهور منافسين جيواقتصاديين، على الأخص، في آسيا وفي أوربا الغربية، فهي إذن تمنع العالم الذي يمكن أن ينافسها، باستخدام كافة الوسائل، ولو بالقهر أو بطرق أخرى من تحقيق مصالحها. مع ذلك، فهذه السياسة محفوفة بالمخاطر، لأنها لا تلتزم بالشرائع الدولية، ولا ترى إلا من خلال مصالحها الجشعة.
ويعطي العديد من المحللين الأمريكيين تحليلات لافتة للنظر بخصوص مناطق المصالح الأمريكية الأساسية التي تساهم في تخليد هيمنة الولايات المتحدة على العالم. ويقومون بذلك دون الاهتمام بما يمكن أن يقوم به الزمن، من عنف وتغير، لا يحقق أحلام هؤلاء المحللين.
مع ذلك، ليس هنالك من أحد، من ذوي الخبرة الدولية، ممن يتابعون الأحداث الدولية، يشك في أن الولايات المتحدة أصبحت دولة متسلطة بشكل حاد، ويتحدث ساستها بصوت عالٍ، عن مصالح بلادهم، ويلوحون بقوانين وقرارات يفرضونها على العالم، وبتسويات بالقهر.
مما لا شك فيه، أن الولايات المتحدة، أصبحت القوة الدولية الأولى منذ عام 1991، وبهذا أصبحت تستحق اليوم لقب الامبراطورية الدولية، ويترافق هذا التعبير مع فكرة الهيمنة، التي تمارسها على الدول الأخرى، وبمقاييس القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية، وبالتقدم التكنولوجي، وفي التفوق العسكري.
لقد توقف العالم ثنائي الأقطاب عن الوجود، على نحو فظ، وبطريقة غير منتظرة. وهنا أصبحت الساحة مُهيَّأة أمام استغلال الولايات المتحدة لتحقيق هيمتنها. وأخذت تلعب أدواراً لم يكن باستطاعتها القيام بها من قَبْل، مع وجود المنافسة السوفياتية، كما لم تحلم دولة أو مجموعة دول، الآن، منازعتها زعامتها وهيمنتها، بشكل جدي، وهكذا، أخذت أساطيلها البحرية والجوية وقواتها متعددة المهمات تصول وتجول في مختلف بقاع الكرة الأرضية.
إن معرفة الأبعاد الاستراتيجية القريبة والبعيدة للسياسة الأمريكية في الوطن العربي، لا بد من أن تتعدى الاستقراء الوصفي للأحداث، والتجديد الشكلي لحركة هذه السياسة نحو أهدافها، ذلك أن الخطر، لم يعد مقصوراً على قطر عربي دون آخر، أو حتى جيل بعينه من أجيال هذه الأمة، لكنه بات في الواقع يهدد جوهر مقومات الأمة العربية بقوة، في جميع أقطارها، وعلى مدى أجيالها المتعاقبة. لذا تأتي مسؤولية الباحثين العرب التي يفرضها عليهم الانتماء القومي، أن يتعرضوا بالبحث والتحليل العميقين، لجذور هذه السياسة وأغراضها، وذلك لبناء الوعي القومي الجماعي على مختلف المستويات للتصدي لهذه الأخطار، بل والانطلاق على نحو خلق استراتيجية عربية موحدة مضادة قادرة على وقف عملية تفتيت الأمة العربية، وتمزيق شعوبها إلى وحدات متصارعة، وأنظمة متنازعة ومتقاتلة، لأن القوة الاستراتيجية المعادية، تحتاج إلى قوة استراتيجية قوية لمقاومتها.
ويجدر بنا القول، إن السياسة الأمريكية قد نجحت في المحافظة على الوضع الإقليمي في الوطن العربي، بل وتمكنت من تجميد تجارب الوحدة العربية، ودعم الوضع الاستراتيجي للكيان الصهيوني، بتأييدها لسياسته التوسعية على حساب الحقوق العربية، وسعيها بشتى الوسائل للحصول على اعتراف العرب بذلك الكيان، وهي في طريقها لتحقيق ذلك، خاصة في الظروف المأساوية التي يمر بها العالم العربي المجزأ المحطم. ولكي ندرك أبعاد هذه السياسة الحقيقية، ونتبين الأخطار التي تشكلها على مستقبل الوجود العربي كله، ثم نصل إلى التصور الاستراتيجي الذي وضعته الولايات المتحدة للمنطقة، والذي شرعت في تنفيذه بعد حرب الخليج الثانية، بالتعاون مع بعض الحكام العرب، لا بد لنا من أن نغوص في تحليل الأسس النظرية والأبعاد التاريخية والعوامل المتغيرة والثابتة التي تؤثر على اتجاهات السياسة الأمريكية كما تتأثر بها، وهذا ما فعلناه في كتابنا دراسات في الفكر الاستراتيجي والسياسي.
وهكذا، يحاول كتابنا الإجابة على بعض التساؤلات، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الدولية، وعلى الأخص انعكاسات هذه السياسة على منطقتنا العربية، حيث يتضمن بحوثاً وآراء تتصل بما يجري وما جرى في عالم اليوم، وما يمكن أن يحدث في الغد. وإنني أزعم بأنه يتضمن دراسات يحتاجها المثقف.


دمشق 25/1/2001
موسى الزعبي

¾





الفصل الأول :
آ- تاريخ العلاقات الدولية بين الحرب والسلم




1- قبل ظهور الدول

ƒ لقد عرفت العصور القديمة علاقات دولية
وجد قبل عصرنا طرازان من المجتمعات السياسية بصورة رئيسة: الامبراطوريات القارية التي شملت مناطق واسعة "مصر، الامبراطورية اليزنطية، بلاد ما بين النهرين، ثم أعقبتها الامبراطورية الآشورية، ثم الامبراطورية الفارسية، أخيراً، الامبراطورية الرومانية". كما شكلت بعض الحواضر، امبراطورية بحرية "صور، ثم قرطاجة، ثم أثينا".
ترجع الوثائق الرئيسية في العلاقات الدولية إلى تلك الحقبة: فكانت هناك معاهدات واتفاقيات دبلوماسية، وأخذت المجتمعات القديمة تحافظ على علاقات صداقة فيما بينها، وكذلك علاقات تجارية، أو منازعات. وكانت الاتصالات تجري بإرسال مبعوثين خاصين يُمنحون ميزات خاصة: سفراء. وتبرم المعاهدات بين الملوك على أساس من المساواة، وتكون مكتوبة، وتخضع لإجراءات تصديق، على شكل احتفالات رئيسة. وتؤدي المعاهدات خدمة في الإعداد للحرب "خاتمة التحالفات"، أو عند انتهاء مدة "معاهدة السلام". وتستخدم أيضاً في السلم. كالمعاهدة التجارية التي جرت بين آمينوفيس الرابع
(
Amenophis) وملك قبرص آلازيا (Alasia) في القرن الرابع عشر قبل المسيح، وهو اتفاق تجاري لإعفاء المنتجات القبرصية من الضرائب الجمركية، مقابل واردات كمية معينة من النحاس والخشب. كما عُقِدت معاهدة بين رمسيس الثاني، وملك الحثيين عام (1275)ق.م، تنص على أن ملك الحثيين لن يقبل على أرضه لاجئين مصريين، مقابل أن يتكفل الفرعون بالعهد بتسليم المجرمين الحثيين.
وعرفت الصين حرباً مستمرة "بين الممالك المحاربة" بين القرن الخامس والثالث ق.م، والتي كانت منظمة كدول، في الواقع، حديثه، ولقد تمت كتابة فن الحرب في تلك الحقبة من قبل سان تزو (Sun-Tzu). في الوقت نفسه، كان العالم اليوناني متجانساً في ثقافته، ومقسماً سياسياً إلى مدن، وذهب أبعد من ذلك في تنظيم العلاقات الدولية: فاخترع اليونانيون إجراءات التحكيم والحماية الدبلوماسية "شبه منظمات" دولية، مثل "منتدى المدن في اليونان، الذي كان يسمح بإدارة مشتركة دينية مقدسة، وكذلك إنشاء نظام دفاع جماعي بين المدن، مثل جامعة ديلوس (Delos) التي جرى تشكيلها بمبادرة من أثينا في القرن الخامس ق.م.
لقد كان للحضارات "اليونانية والرومانية والصينية" القديمة، جميع المظاهر المجسدة للحضارة والثقافة. أما الأجانب، فقد تمثلوا "بالبربرية"، إذا لم تصبح العلاقات مع اليونان محققة، وساهمت الجيوش الرومانية في توحيد حوض البحر الأبيض المتوسط. وأدى ذلك إلى إقامة عالم أكثر تجانساً، حيث قيس النجاح بإسناد المواطنة الرومانية إلى التابعية للامبراطورية، من القسم الأعظم الأكثر أهمية، فأسندت "للإيطاليين عام 88ق.م" ثم لجميع الأفراد العاملين كأجراء في الامبراطورية من قبل مرسوم أصدره كاراكالا في عام (212)ب.م" وتعهدت روما بعد ذلك بإقامة علاقات مع الخارج، خصوصاً الممالك الشرقية. وأُبرمت معاهدات غير متساوية، مع الشعوب المتحالفة مع روما، التي صانت استقلالها، مقابل مساهمتها بالرجال والمال. كما جرى عقد معاهدات بين المتآلفين من الشعوب البربرية التي أقامت على الحدود من أجل الدفاع عن الامبراطورية مقابل مزايا مالية واقتصادية "التموين بالقمح، السكن لدى أناس خصوصيين". ويتضمن القانون الروماني نفسه، أبعاداً دولية هامة، مثل قانون الـ(فيتيال) (Fetial)- يُعْهَد بتطبيقه إلى متعلقين بالدين، ممن هم سفراء روما. ويجب عليهم أن يقرروا، فيما إذا كانت الحرب عادلة أم غير عادلة- كذلك، يقررون "حقوق الناس" ويقومون بتسوية العلاقات العادية، بين الرومان وغير الرومان، الذين يسمون (بالمهاجرين)، وتتضح حقوق الناس أيضاً "كقانون قابل للتطبيق في مجال العلاقات بين الكائنات البشرية، بمعزل عن انتمائهم إلى جماعة مجموع الشعب المحدد سياسياً"1.

ƒ يهيمن العامل الديني على العلاقات الدولية، خلال جزء كبير من القرون الوسطى:
نأى العالم الروماني عن الفلسفة العقلانية الرواقية- التي تقول بأن كل شيء في الطبيعة، إنما يقع في العقل الكلي، ويقبل مفاعيل القدر طوعاً- اعتباراً من القرن الثالث ب.م. واستفادت من الأهمية المتزايدة للدين والتصوف من المسيحية التي أصبحت الدين الرسمي للامبراطورية اعتباراً من عام
(380)ب.م،
بعد اعتناقها من قبل الامبراطور قسطنطين عام (312)م. واستمرت الكنيسة كمؤسسة وحيدة شاملة في الغرب، عندما رزح العالم الروماني تحت الغزوات البربرية في نهاية القرن الخامس الميلادي، مع أسقف روما على رأسها. ونجحت الامبراطورية البيزنطية في البقاء على الحالة نفسها حتى عام (751)م في إيطاليا، "حتى سقوط رافين "Ravenne") ودامت الحضارة الرومانية في الشرق حتى عام (1453)م (سقوط القسطنطينية على أيدي العثمانيين). وتبتعد بيزنطة مع ذلك عن روما، على المستوى الديني، "الانشقاق بين الكاثوليك والأرثوذكس في عام (1054)م. ويشرع الإسلام في توسعه في عام (623)م "السنة الهجرية الأولى"، حيث اجتاح الجزء الأعظم من إسبانيا وصقلية. ولم يتوقف إلا في عام (732)م في بواتييه. ووجد الفضاء الأوربي، والبحر الأبيض المتوسط نفسه وقد تفجر أيضاً على المستوى الديني.
وحلت في الغرب الممالك محل المقاطعات الرومانية القديمة، وأعاد شارلمانيه توحيد الامبراطورية الرومانية الغربية للمرة الأولى عام (800)م، لكن مع الاعتراف بعلو شأن البابا. وتقاسم أحفاد شارلمانيه تركته حسب معاهدة فردان عام (843)م التي أدت إلى ولادة ثلاث ممالك: مملكة الفرنج الشرقية، ومملكة الفرنج الغربية، ولوثارنجي، سريعة الزوال، بين المملكتين. وقد أدّى الإعلان عن امراطورية جديدة عام (962) باسم "الامبراطورية الرومانية المقدسة" التي ستتخذ صفة "الجرمانية" عام (1512)/- إلى المجابهة بين الامبراطور مع البابا، والمعبر عنها بحادثة إذلال الامبراطور هنري الرابع تجاه البابا غريغۈري السا☨ع في كانوسا (Canossa) عام 8ı077)م. وأ٦شأĠالكابقسيون ,Les Capétiens) من Ьانبهم ف݊ عام (987) ؅ملكة فرنسا، التي تح䘧ول الๅᘭافظة على الادعاءات ڧلامبراطيرية وكذلك البابوية.
لم$تكن المملكة الكيان الأساس، Ȩل الإقืاع虊ة ١ي هظه الأوربا耠اɄسائرة نحو التجزئة:
كان الإقطاعي يمنح حمايته إلى تابعيه، الذين بدورهم، أن يقوموا بخدمة الإقطاعي، عن طريق الروابط في الإقطاعية، وتسبب استمرار القوانين البربرية وعاداتهم، إلى جانب القانون الروماني، في إيجاد الهوية الشخصية القانونية، وكون الأفراد يسجلون طبقاً لأصلهم، حسب القانون الروماني، أو حسب العادات الجرمانية. ورسمت هذه التعددية القانونية، الهوية العرقية لبعض السكان، حتى نهاية القرون الوسطى، دون إعاقة في عملية تجميع البربر مع الغالو-رومان.
ويجسد الملك أو الامبراطور في قمة الطبقة، وهما السيدان الإقطاعيان الأولان، نسقاً متمماً في سلسلة نظام الإقطاع، لكن ليس لهما في البداية أكثر من صورة السلطة، وليس السلطة نفسها، وكان الملك يفرض نفسه كمحارب على تابعيه وكقاض إقطاعي، يتعايش زمناً طويلاً مع القانون الإقطاعي. ثم تأكدت السلطة المركزية مع مرور الزمن ومع الحروب الخاصة مع الإقطاعيين الآخرين، وتوطدت بعد ذلك الممالك "فرنسا، انكلترا..." ويثابر القانونيون التابعون لملك فرنسا على إقامة الدليل أن "الملك هو الامبراطور في مملكته"، ويؤكدون أيضاً على سيادته ضد نير البابوية والامبراطورية المقدسة".
ثم تنتظم العلاقات الدولية بين الإمارات
لقد شجع الاتحاد الشخصي بين الملوك، على التحالفات "مثال زواج آن دوكييف، بنت الدوق الأكبر لروسيا، مع ملك فرنسا، هنري الأول في عام
(1049)، وكذلك عن طريق القواعد الميراثية، مما يوسع في المناطق. وتتبادل الممالك ومقاطعات الإقطاعيات الأخرى الرسل- لقب يرجع إلى البندقية- اسم "السفراء" وهم محميون طبقاً لوضع خاص. وكانت هناك علاقات بين الشرق والغرب: إذ يتلقى شار
لومانيه سفيراً من خليفة المسلمين عام (807)م، ويحاول ملوك فرنسا أخذ العدو من المسلمين من الخلف، وذلك بالتحالف مع المغول، في النصف الثاني من القرن الثالث عشر.
وأبرم الملوك معاهدات فيما بينهم، وأخذوا يسوون خلافاتهم عن طريق التحكيم أكثر فأكثر، من قبل شخص ملوكي ثالث- البابا أو الامبراطور في أغلب الأحيان-. وفسحت الحرب الخاصة بين الإقطاعيين المجال أمام الحروب بين الممالك شيئاً فشيئاً، وتطور قانون الحرب خصوصاً من أجل وضع حد للأعمال العدوانية: "الهدنة، وقف إطلاق النار، معاهدات السلام" ومن أجل تسوياتها "معاملة الأسرى". وحدث تطور في التجارة في أوقات السلم، مما أدى إلى ظهور القناصل اعتباراً من القرن الثاني عشر "من أجل السماح للتجار المغتربين بتسوية أمورهم الشخصية، مثل الزواج والميراث، طبقاً للقوانين المطبقة لدى دولهم" وظهور قانون البحار.
وتلعب الكنيسة دوراً جوهرياً خلال حقبة العصور الوسطى بالكامل
لم تكن تعرف المسيحية حدوداً، عندما يتعلق الأمر بالأديرة والجامعات "المُشكَّلة انطلاقاً من الطراز نفسه اعتباراً من نهاية القرن الثاني عشر"، وكذلك في الفن والمعارض التجارية. كانت اللاتينية اللغة المشتركة لرجال الكنيسة والمثقفين، ومن العلمانيين، حتى الشروع في تشكل اللغات الوطنية انطلاقاً من اللغات ذات المصدر اللاتيني، مثل "الإيطالية، الفرنسية، الإسبانية"، ومن اللغات البربرية [الانكليزية، الألمانية، الفلمنكية... الخ].
ولم يكن البابا ملكاً دنيوياً يحكم الدول الحِبْرِيَّة وحسب حول روما منذ القرن السابع، بل هو أيضاً حارس العقيدة الدينية، وبهذا كان يجسد سلطة عالمية، بهذا الاسم. فهو نفسه الذي كان يرسم الأباطرة، حتى عهد شارل مان، وعندما لا يحترم أمير ما قانون الكنيسة، يطبق البابا عليه شكلاً من "العقوبة الدولية": فيوجه ضربة لمملكته، بأن يوقع عليها حرماناً، بعبارة أخرى يمنع عنها كل خدمة دينية، على أراضي ذلك الإقطاعي "مقترف الذنب" والمحروم من رحمة البابا(2). وكانت المنافسة بين البابا والامبراطور تؤدي بهذا الأخير غالباً إلى الحرمان الكنسي- وهو لا يتردد بالمقابل بأن يختار "معاداة البابا" في عباداته. وهنا يبحث البابا عندئذ عن تحالف خصوم للامبراطور.
وكان البابا ينظم الحروب "العادلة"، ويجرب الحد من استخدام تلك الحروب. وبهذا كان يبحث عما يسمى بـ"سلام الرب" الذي يسمى بـ"الملاذ"، حسب القانون الدولي. وكان البابا يدفع الناس غير المؤمنين إلى اتباع كنيسته والإيمان بها، ويوجه عنف الإقطاعيين إلى هذا الهدف: وكذلك هدي السكان الوثنيين "حسب اعتقاده" في الشرق إلى اتباع كنيسته، حتى لو كانوا مسيحيين من أتباع كنائس أخرى. ومن هنا، زُعِم أن هدف الحروب الصليبية ومذابحها، هي عمليات هَدي، وعمليات إبادة ضد المسلمين. أُعلنت الأولى عام (1095). وسقطت عكا، آخر حصون الصليبية عام (1291). حيث سجل نهاية ذلك الاحتلال الصليبي، باسم المسيحية، للأرض المقدسة فلسطين، وكان البابا يرسل الفرانسيسكانيين والدومانيكيين لمطاردة الهرطقيين "هنا أصل محاكم التفتيش"، المشهورة بمذابحها. أخيراً، وعلاوة على دور البابا في التحكيم في النزاعات بين الأمراء المسيحيين، فإنه كان يمنح المناطق "بدون مالكين" لبعض أتباعه- ذلك القانون الذي اعترض عليه توماس الإيكويني.
2-مجتمع الدول المستقلة:

وتحدث قسمة المجتمع الدولي إلى دول مستقلة منذ نهاية القرون الوسطى: تطابقت نهاية القرون الوسطى مع تحول اقتصادي وسياسي وديني في أوربا، إذ حل اقتصاد السوق محل اقتصاد القوت: حيث أخذت السلع بالانتشار أبعد فأبعد. وبدأت الرأسمالية بالظهور في القرن الخامس عشر.
وفرض الكيان الإقليمي الأكبر نفسه على مستوى التنظيم السياسي: إنها الدولة. إذ توسعت الإقطاعيات التي قامت على الروابط الإقطاعية، إلى أن أصبحت دولاً، حيث جرى امتصاص بعضها وفقدت المدن التي حصلت على الاستقلال في القرن الحادي عشر والثاني عشر، في معظم الحالات، استقلالها، وأخذت كلمة الشعب أو الأمة تشير في البداية إلى مجموعة إنسانية من أصل واحد "ولادياً": ويتجمع المشاركون في الجامعة وفي الأسواق وفي المجامع الكنسية، في "الأمة" من جديد. ويتطور استخدام الكلمة اعتباراً من القرن الرابع عشر، وشجعت حرب المائة عام (1337-1453) على ظهور الوعي الوطني الكامل في فرنسا وفي انكلترا. ولم تعد كلمة "الأمة" مرجعاً علمياً في النصوص لدى رجال الدين، بل أخذت تتطابق مع إحساس أو عاطفة تعيش شرعياً حيث تشهد عليها نصوص كثيرة.
وتعَلْمَنت الدول [أصبحت غير دينية]، وأخذت شرعية السلطة السياسية تصبغ بالمهابة، وانخفضت قوة الكنيسة، وتراجعت اللغة اللاتينية، وحلت محلها اللغات المحلية، خصوصاً بين النخبة. وتقاسمت البرتغال والكاستي
(
Castilles) المناطق في العالم الجديد، مع تفضيل المفاوضات بشأن معاهدة تورديسيلاس (Tordesillas) عام (1494)، على احترام البراءة البابوية للبابا الكسندر التاسع عام (1493)، المفروض أن يوزع تلك المناطق "بدون المالكين". وتتحالف فرنسا مع القوى البروتستانتية ومع الامبراطورية العثمانية من أجل الصراع ضد هيمنة هابسبورغ الكاثوليكية. ويكتب (بيوسيولكس) Puysieulx وزير خارجية لويس الثالث عشر، عام (1620): "يجب علينا ككاثوليكيين جيدين، أن نميل إلى الجانب الكاثوليكي على الدوام، مع ذلك، إنكم تعلمون ما هي الهيمنة الإسبانية، كما أنها تتطرف من أجل تغطية نواياها الدنيوية، باسم هذا اللقب الديني"3.
ƒيغير ظهور الدول شروط ممارسة العلاقات الدولية
ففي حين كانت تمارس السلطة الإقطاعية على الأشخاص، كانت الدولة تمارس سلطتها على الأرض، وكان على الملك أن يعرف إلى أي حد تمتد سلطته. ثم كان عليه أن يقيم جبهة "للمحافظة على الحدود" ليحمي نفسه من التهديدات الخارجية. فالأرض المحددة بحدود، هي إذن مشاركة من قبل تابعيه في الدولة، من حيث الجوهر، وتدار الدولة من قبل عائلة أميرية، أسست قوتها على الحرب وعلى وسيلتها: الجيش. وكان الأمراء يلجؤون إلى الضرائب من أجل تمويل الجيش وشيئاً فشيئاً أدى ذلك إلى النقص في الترابط الإقطاعي الذي كان يشير إلى خصوصية العصور الوسطى. وسمحت الحرب بتوسيع أراضي الدولة، وكذلك في فرض ضرائب جديدة على السكان الذين يقطنون فيها، وهذا ما سمح للدولة بالعمل على احترام النظام الداخلي، وكذلك الحق في امتلاك العنف المشروع، وأكدت الدولة على احتكارها للوظائف التي كانت تسمى بـ"الحق الملَكي"، وفي "حق السلطة في تطيبق القانون وفي سك النقود".
كذلك جرى ترتيب العناصر التي تحدد الدولة حسب القانون الدولي: أرضاً ومكاناً وَطِراز الحكومة "السلالة الحاكمة". ويصبح مماثلة الدولة مع ملكها الطابع الملكي الأوربي من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر. وقام نيكولا مكيافيلي (Nicolas Machiavell) بتحليل الإقطاعيات، ووصف فن الحكم، في كتابه "الأمير" عام (1513). ويؤكد جان بودان (Jean Bodin) في ست كتب عن الجمهورية عام (1576) أن السيادة كونها لا تتجزأ وأبدية، يجب أن ترجع إلى ملك وراثي، منطقياً.
وتصبح المملكة- التعبير المشتق من كلمة الملك- الصفة الجوهرية للدولة بعد ذلك، وتصبح لازمَته المساواة القانونية، أساس المجتمع الدولي.
وتنتظم العلاقات الدولية في أوربا المجزأة إلى دول ملكية متساوية. وتحتل الحروب مكاناً هاماً في حياة الدول. ويصبح القانون الدولي مقسماً بين قانون الحرب وقانون السلم. وتستمر المعاهدة والتحكيم في الاستخدام. وجرى تأسيس الدبلوماسية عن طريق إنشاء وزارات الخارجية والسفارات الدائمة، كذلك عن طريق تنظيم وضع الدبلوماسيين والقناصل. وتتطور العلاقات البحرية، وتتأكد القوة التجارية التي كانت أولاً لـ(جين) (Genes) ثم للبندقية، ثم لاهانس، ثم هولندا، وأخيراً انكلترا، ونتج عن ذلك قانون البحار، الذي بات محدداً أكثر "مبدأ التكافؤ"- الشكل الأول لـ"نص الدولة الأكثر رعاية"- وقد ظهر في المجال التجاري. وتصدر الاستيلاء على الأراضي من قبل الملوك وسط تلك الحقبة من استعمار أمريكا كنظام احتلال حقيقي. وتحددت المبادئ الكبرى في "القانون الدولي" في نهاية القرن الثاني عشر- والقانون الدولي، تعبير اخترع من قبل جيرمي بنتام (Jeremy Bentham)، وتحدد مبادئه تماماً، وجرى تدوينها في النصوص العمومية.
لقد أكد إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عام (1776) على أن للمستعمرات "الحق في أن تصبح دولاً حرة ومستقلة"، وأنها بهذا "تملك السلطة المطلقة في شن الحرب، وفي إبرام السلام، وفي التعاقد من أجل التحالفات، وفي تنظيم التجارة، والقيام بجميع الأعمال الأخرى. والأشياء التي للدول المستقلة الحق، بالقيام بها"، كذلك فهي سيادة الدولة. وفي عام (1793) أخضع القس غريغوار (Gregoire) الاتفاق "الذي لم يصوت عليه" إلى تصريح "يتعلق بحقوق الإنسان"، ويوجز جميع المكتسبات الكبرى للقانون الدولي في تلك الحقبة: السيادة والاستقلال للدول، مبدأ عدم التدخل، التأكيد على أن البحر "شيء مشترك"، منع الحرب الهجومية، ضرورة الحصانة الدبلوماسية، الصفة المميزة للمعاهدات.
ƒوتحل الأمة اليوم محل الملوك كأساس للسيادة:
لقد حلت شرعية الأمة محل الشرعية الملَكيَّة كحق إلهي، مع إنجاز نظرية الدولة/الأمة، كنتيجة للثورة الفرنسية(4) يكمن مبدأ كل سيادة في الأمة، بصورة رئيسة "الفقرة الثالثة في تصريح إعلان حقوق الإنسان والمواطن"- لكن هذا المبدأ الثوري هو أيضاً مبدأ حافظ، فيما يتعلق بالمحافظة على الدولة كأساس لتنظيم المجتمع الدولي. وإذا كان "مبدأ الجنسية" قد سمح لبعض الأمم، تكوين الدول في القرن التاسع عشر "ألمانيا، إيطاليا، الدول البلقانية"، فإنه لم يمنع اضطهاد الجنسيات الأقلية من قبل الدول الجديدة (البولونيون، التشيكيون، والكروات... الخ).
إنه من الجدير بالملاحظة- أن نشير أن عبارة الأمة قد تغلبت على عبارة الشعب: ففي حين كانت السيادة الوطنية في قلب إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام (1789)، في فرنسا لم تفرض "سيادة الشعب" نفسها إلا في دستور عام (1793) في فرنسا أيضاً. ولم تدخل في التطبيق العملي مطلقاً. ويستدعي المفهوم في الحقيقة، في آن واحد، عضوية "الأمة كهيئة سياسية"، ومنتظمة "كهيئة يجب أن يكون لها رأس حكومة، إما ملكاً، أو نخبة (تمثيل وطني)"، وذلك في منتصف الطريق بين الصفة الدستورية للدولة، والصفة الفوضوية للشعب. هذه هي الحقيقة التاريخية للأمة التي تتفوق على فكرة الشعب، الأقل قابلية للأخذ بها. ويحاول الاتجاه الاشتراكي معارضة الفكرة القومية لكن دون نجاح، وذلك بالتضامن البروليتاري "العمال ليس لهم وطن، ولا يمكن أن نقتطع منهم، ما ليس لديهم [...]، ألغوا استغلال أمة من قبل أمة أخرى. وتسقط كذلك العداوة بين الأمم نتيجة صراع الطبقات داخل الأمة "بيان الحزب الشيوعي عام (1848).
يوجد في الواقع فلسفتان للأمة
ففي بلد مثل فرنسا، فالدولة هي التي اختلقت أمة انطلاقاً من عناصر ثقافية وعرقية غير متجانسة خلال عدة قرون. فالدولة سابقة الوجود عن الأمة، والذاتيات مدعوة لأن تمتزج في هذه البوتقة صيغة ابتدعها (ستانيسلاس دوكليرمون- تونير (Stanislas Declermont-Tonnerre) عام (1791): حيث يقول: "يجب رفض كل شيء لليهود كأمة، ومَنْح كل شيء لليهود كأفراد"). فالأمة محددة ذاتياً: يفترض أنها ناشئة عن مشيئة الأفراد في العيش معاً. وأعطى القس سييس (Sieyes) تحديداً قانونياً محضاً: "هيئة من المشاركين يعيشون في ظل قانون مشترك، وممثلة سلطة تشريعية". حسبما جاء في كتابه: "ما هي الدولة الثالثة؟ الصادر عام (1789)". ولاءم أرنست رينان Ernest Renan هذا المأثور من جديد في محاضرة بعنوان : "ما هي الأمة؟ عام 1882" أكد خلالها "أن أمة ما، هي الإرادة، بالعيش المشترك، هي استفتاء عام في كل يوم"، وهنا يكفي حقوق الإنسان ضمان الحرية لكل فرد.
وبالنسبة للعديد من الشعوب الأقل نزوعاً للعالمية المجردة "مثل الانكليز والأمريكيين الشماليين" أو المحرومين من بنية الدولة زمناً طويلاً، "الألمان والإيطاليين"- فالأمة مصممة لجماعة لغوية وثقافية وحتى عرقية". ونظَّرَ فخته (Fiechte) وهردر (Herder) لألمانيا، فكرة النزعة القومية الرومانسية التي تخاطب العواطف أكثر من مخاطبتها العقل. فالأمة موجودة باستمرار بهويتها وبروحها الجماعية. فكلمة (Volksgeist) تعني "روح الشعب" حرفياً، وفي هذا المفهوم الجماعي فالهوية الجماعية للأقليات معترف بها على نحو أفضل، وتقبل الدول التي تدخل في هذا التصنيف تنظيماً جماعياً للأقليات، بدلاً عن البحث عن المقارنة مع طراز دولة مجردة. ويمكن لهذا الطراز مع ذلك أن يتسبب في إحداث إزعاجات لتلاحم دولة ما "على سبيل المثال، تفجر المجتمع الأمريكي".
في الواقع، إن المفهومين للأمة ممزوجان، غالباً. وإن حق الجنسية في هذا هومثال جيد، فإذا كان المفهوم الشخصي للأمة يؤدي إلى الاستناد إلى حق الأرض، فإن المفهوم الشخصي متميز بقانون الدم. أما من الناحية العملية، فإن معيار قانون الأرض وكذلك قانون الدم متحدان.
يبدو أن الفكرة القومية قد دخلت مرحلة الهبوط
بعد الحرب العالمية الثانية:

تضع القوى الجديدة مفاهيم أخرى مقدماً، فقد تكيفت الولايات المتحدة مع طريقة أقل تشدداً في مفهوم الأمة من المفهوم الأوربي، على أثر عملية التحرر من الاستعمار. أما الاتحاد السوفياتي السابق فقد سَحَقَ التطلعات القومية بواسطة الطريق الايديولوجي سواء داخل حدوده، أم في البلدان التي كانت تابعة للكتلة الشرقية من بلدان أوربا الشرقية. أما ميثاق الأمم المتحدة، فلم يتحدث إلا عن "حق الشعوب في أن تتصرف نفسها بنفسها" وكذلك في "السلامة الإقليمية".
لقد جرى تطبيق مبدأ "حق الشعوب في التصرف نفسها بنفسها" بعد نزع الاستعمار. وهذا في الواقع عوضاً عن مبدأ الدولة- الأمة وفتحت الولايات المتحدة، في الغالب، الطريق بحصولها على الاستقلال عا (1776). وشجعت نزع الاستعمار في بلدان أمريكا اللاتينية في المرحلة الأولى، في القرن التاسع عشر- من ثم في المرحلة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية- في بلدان آسيا وأفريقيا. وانتشر الطراز الأوربي في مفهوم الدولة- الأمة في العالم أجمع بعد ذلك، لكن ليس دون صعوبات. حيث حدثت عدة أزمات بسبب عدم تلاؤم الخارطة العرقية مع الحدود التي فرضت من قبل الاستعمار. وأخذت نموذجاً سياسياً غربياً لا يتكيف مع الواقع بالنسبة للبعض من العالم الثالث، بل فرض حدوداً تعسفية تستهدف منع تشكل دول قومية حقيقية، كما جرى في تقسيم الوطن العربي، كما اشتمل حق الشعوب نفسه على غموض في مبدأ القوميات، في القرن الرابع عشر.
3- التوازن عن طريق القوة: النظرية الواقعية في العلاقات الدولية:

ƒيوضح الواقعيون المجتمع الدولي في حدود علاقات القوة بين الدول.
الواقعيون هم المؤيدون للعقلية في السياسة، ويستوحى تحليلهم من فلسفة مكيافيلي، وخصوصاً من هوبس (Hobbes) في كتابه (Leviathan)- الدولة ذات النظام الدكتاتوري- الصادر بالانكليزية عام (1651)- حيث وصف العالم في الوضع الطبيعي، أنه خلعة للغرائز النرجسية- المغرورة- للإنسان، وهنا، "حيث لا توجد قوة مشتركة، فلا وجود لقانون، وحيث لا وجود لقانون، فليس هنالك من ظلم". فبالنسبة للواقعيين، فإن المجتمع الدولي مشكل من دول، دون "قوة مشتركة". فهو فوضوي من الطبيعي. والدولة تتابع مصلحتها الخاصة، من الدفاع عن مصالحها إلى التعدي على أولئك الآخرين، وليس هنالك سوى خطوة لتجعل من الدولة قوة، ولقد وصف توسيديد (Thucidyde)، من قَبْلُ، عملية التطور في العالم اليوناني: تبدأ المدينة بتسليح نفسها من أن أمل أن لا تقع تحت طغيان مدينة أخرى. وما أن تصبح مجهزة بمعدات عسكرية قوية، فإنها تصل إلى الاستدلال بأن الهدف أن تكون محمية أكثر، وما أن تقوم بذلك، حتى تنتقل لوضع الدول المجاورة لها تحت وصايتها، وتصبح بالتالي امبريالية، لأنها لم تبحث إلا عن الدفاع عن مصالحها. وإن الموازنة الوحيدة لوقف هيمنة قوة كبرى تكمن في نتيجة تحالف الآخرين، ومن هنا البحث الدائم عن توازن القوى..
تقود هذه الرؤيا التي تسمح باستخدام القوة في العلاقات الدولية، إلى سياسة مجردة من القيم الأخلاقية، بسهولة، ولقد نظَّر كل من هيجل وهانس مرغانتو في كتابهما "السياسات بين الأمم" الصادر عام (1948) ورايمون آرون "سلام وحرب بين الأمم، الصادر عام (1962)، للواقعية في السياسة الدولية. فبالنسبة لهؤلاء الكتاب، لا يلعب القانون الدولي، سوى دوراً واحداً، رسوبياً. ويعتبر هيجل أن "حق الناس" يمكن أن يؤدي خدمة للمحافظة على ما يمكن أن يكون من حريات الأشخاص الخاصين في حال الأزمات، لكن لا يستطيع إلغاء النزاعات بين الدول، حيث فيها الحرب، هي الحل الطبيعي. ويتجنب رايمون آرون، الحديث عن دور القانون الدولي في العلاقات الدولية.
لقد سمح الواقعيون بممارسة الحرب في العلاقات بين الدول، ولزمن طويل:
تحافظ الدول على علاقات وصفها رايمون آرون بـ"الدبلوماسية الاستراتيجية"، والدبلوماسي والعسكري، هما الفاعلان في العلاقات الدولية، يأخذان الدور بالتناوب حسبما تكون عليه الدول في حالة حرب أم حالة سلم "أيضاً يجب أن لا تكون الدبلوماسية غائبة مطلقاً تماماً عن الحرب، وبحيث يكون للجيش دور الردع أو التهديد في زمن السلم".
فالحرب هي إذن "استمرار للدبلوماسية بطرق أخرى" طبقاً للصيغة المشهورة لكلوزفيتس، فما أن تعجز الطرق الدبلوماسية في تحقيق ما تصبو إليه دولة ما، عندئذ يجب أن تسمح الحرب بها.
ولقد فتح القانون الدولي الطريق أمام الحرب، كعلامة لهذا التطور، وعلى نحو متزايد، كما أن وضع الحياد الدائم، مُنظَّم أيضاً "سويسرا عام (1815)، بلجيكا عام (1831). كما أن شروط الحرب البحرية محددة بمعاهدة باريس لعام (1856). وقد توصل المسعى لتأنيس "من الإنسان Humanisation- قانون الحرب إلى العديد من الدلائل بعد حرب الكريمة. أولاً، إجراء التحكيم، ثم الأصول المُثبَّتة باتفاق لاهاي".
يفكر الواقعيون في حدود النظام الدولي
النظام هو مجمل عناصر مترابطة. ويمكن أن يكون مستقراً ونشطاً. ويتحرك طبقاً لقوانين محددة، والسلطة المحددة من قبل رايمون آرون، هي: "قدرة وحدة سياسية على فرض إرادتها على وحدات أخرى"، وهي توزع بين الدول تبعاً لعوامل مادية، بصورة رئيسة "مناطق، ثروات، سكان، جيوش". ولا تعتبر المنظمات الدولية فاعلة حقيقية عن طريق النظام، بل كانعكاس لتقاسم السلطة بين الدول. كما أن الموضوع الأساس للنظام بين الدول، هو معرفة قوانين النظام ومفاتيح استقراره: سواء عن طريق توازن القوى، أم عن طريق هيمنة قوة ما. ويتقارب هؤلاء الواقعيون في بعض الأحيان، بالتمسك بإقامة نماذج من القوانين الدولية(5). وعرَّف ستانلي هوفمان (Stanley Hoffman) (النظام الدبلوماسي الاستراتيجي) الخاص بنهاية الحرب الباردة، بالاستقرار في مستوى متوسط وشامل للنظام "طبقاً للتوازن الاستراتيجي النووي"، وبعدم الاستقرار في المستويات الأدنى "تطور الحروب في المناطق المحيطية(6).
ƒيبحث النظام عن التوازن بين الدول، منذ تكونه في القرن الرابع عشر.
لقد اخترعت القوى المُهدَّدة فكرة "التوازن"، والذي يطلق عليه اسم (الميزان) في القرن الثامن عشر، وذلك في مواجهة نزعات الهيمنة لدى القوى المسيطرة "لإسبانيا شارل مان، وفرنسا لويس الرابع عشر، ونابليون، وألمانيا غيوم الثاني وهتلر".
لقد حدد فاتل (Vattel) هذا التوازن كوضع ما من دولة فيه في موقف مهيمن، ولا تستطيع فرض قانونها على الآخرين في الواقع، فالتوازن غير مستقر على الدوام، ويعمل الإغراء من أجل خرقه من قبل القوى لصالحها ويؤدي ذلك إلى نشوب الحروب على الدوام.
ولقد حولت معاهدات ويستفالي (Westphalie) لعام (1648) الامبراطورية الجرمانية إلى موزاييك من الدول المستقلة وذات السيادة: وهذا هو مبدأ لاندهوهيت (Landeshoheit) الذي وضع حداً لسلطة الامبراطور، وجعل من الامبراطورية نوعاً من التنظيم الدولي، أي كونفدرالية، والتي ستبقى حتى حلها من قبل نابليون عام (1806). وضمنت فرنسا المعاهدات للاستفادة منها، بأن قادت سياسة توازن مع ألمانيا، ورتبت حلفاء ضد النمسا، وتصبح بريطانيا العظمى عندئذ، قوة سيِّدَه، وصنْعة التوازن الأوربي، الذي كان مهدداً من قبل لويس الرابع عشر، وعندما عجزت عن تحقيق طموحها بتأمين سياسة هيمنة قارية. ومنعت معاهدات أوترخت عام (1713) وراستارت (Rastart) عام (1714) من وضع فرنسا يدها على إسبانيا، وأقامت "حواجز" من التحصينات على حدودها الشمالية. وحافظت حربان أوربيتان كبيرتان "حرب الميراث النمساوي (1740-1748) وحرب السبع سنوات (1756-1763) على التوازن بين القوى. وفرض فاعلون جدد: روسيا وبروسيا، أنفسهم. وأضحى التوازن مهدداً من جديد من قبل فرنسا الثورية، من ثم من قبل فرنسا الامبريالية، حيث توصل المتحالفون في نهاية عام (1814) عام (1815) إلى نوع من الهدنة.
يتسبب الانسجام الأوربي في الاستقرار بأوربا
لقد أسس "مجلس إدارة أوربا" المؤلف من خمس قوى "انجلترا، فرنسا، بروسيا، النمسا، روسيا" مؤتمر فيينا، وإعادة تنظيم أوربا، بعد هزيمة نابوليون. وحافظ هذا النظام الأوربي على الشرعية الملكية والتوازن نتيجة معاهدات عام (1815). وقبلت انجلترا بالتوازن، لكن رفضت المبادئ الملكية. ورفضت النمسا وروسيا وبروسيا، من ثم فرنسا، المشاركة في "الحلف المقدس" الذي نُسِّق من قبل مستشار النمسا مترنيخ، ومارست سياسة "عزلة زاهية". وتسمح دبلوماسية المؤتمر بالتدخلات في الدول التي تخرق مبدأ الشرعية، حتى عام
(1830). وسُمِح لفرنسا التي كانت طرفاً في الحلف المقدس، منذ مؤتمر إكس لاسشبل عام (1818)، سمح لها في مؤتمر فيرون (
Verone) عام (1822) بالتدخل في إسبانيا من أجل إقامة سلطة البوربون فيها.
ويتتابع "الانسجام الأوربي" تحت شكل آخر، على الرغم من انهيار الأنظمة الملكية "بثورة عام (1830) في فرنسا، وثورة عام (1848) في النمسا". وأكدت القوى الكبرى على وجود "حق عام أوربي". ونظمت مؤتمرات ومحادثات حول المواضيع السياسية الكبيرة: في لندن عام (1831) بشان استقلال بلجيكا، وفي باريس عام (1856) بشأن وضع حد لحرب الكريمة. وتتدخل القوى الأوربية معاً لتحرير كريت من النير العثماني عام (1897) وكذلك التدخل لمعاقبة "القائمين على ثورة الملاكمين" في الصين عام (1900) ومؤتمر الجزيرة في المغرب عام (1906) للتسوية القارية الفرنسية- الألمانية. ومؤتمر لاهاي لتسوية قانون الحرب عام (1899) وعام (1907).
ويبذل بسمارك جهوداً بدوره للمحافظة على توازن القوى، وذلك باختلاقه "أنظمة" مختلفة من التحالفات، جرى فيها توريط النمسا وروسيا وإيطاليا، وذلك بعد الاضطرابات التي أحدثها توحيد إيطاليا عام (1860)، من ثم ألمانيا عام
(1871). وكان المستشار الحديدي يبحث عن المحافظة على الوضع الراهن الذي اعتقد أنه ملائم لألمانيا، وفي عزل فرنسا لمنعها من أجل أن لا تأخذ بثأرها، وذلك بهذه اللعبة البارعة التي يمكن مقارنتها بلعبة البهلوان، وهو يشعوذ مع خمس كرات منها ثلاث في الهواء، ولم يكن للامبراطور غليوم الثاني (1890-1918) الحذر هو نفسه، أن يلقي بألمانيا بـ"سياسة دولية" تؤدي إلى المجابهة مع انجلترا في حين تتحالف فرنسا مع روسيا. وانطلقت بلدان مثلثة الاتفاق "فرنسا وانجلترا وروسيا" والامبراطوريات الوسطى "ألمانيا والنمسا والمجر والامبراطورية العثمانية" لتنفيذ اختراق مسلح في عام (1714) في توازن غير م
ُسْتَقِرٍّ.
قلبت الحرب العالمية الأولى التوازن الأوربي، وذلك العمل على اختفاء النمسا وبإذلال ألمانيا دون محاولة لنزع وسائل قوتها. ثم بناء نظام أوربي جديد، لكن دون الإسهام بإحداث ضمانات للمحافظة على ذلك النظام. وعقدت معاهدات كانت تحمل فيها نفسها بذور نزاع جديد. ويحاول موسوليني إحياء مجلس الإدارة الأوربي، دون نجاح- وذلك باقتراح "الميثاق الرابع" لعام
(1933) الذي يجعل التعاون مؤسساتياً بين فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا، لتحقيق السلام. ففي حين اعتمدت فرنسا على شبكة من التحالفات مع البلدان الصغيرة في أوربا الوسطى والبلقان، بحثت ألمانيا وإيطاليا في الواقع، عن إعادة النظر في هذه المعاهدات.

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-03-2013, 10:18 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي

ويتعدل معنى مفهوم التوازن، أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها.
أخذت القوى المتحالفة "الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتي، المملكة المتحدة من ثم فرنسا" تعد الأوضاع الدولية لما بعد الحرب بعقدها مؤتمرات كبرى "طهران عام (1943)، مالطا وبوتسدام عام (1944). ولقد شغل التوازن المقبل بال تشرشل الذي اقترح على ستالين قسمة البلقان في خريف عام
(1944)، وبدل الجمود في المجابهة شرق- غرب، موضع التوازن، إلى مستوى كوني. ونشأ عن ذلك النظام ثنائي الأقطاب، ثم يصبح هذا العالم متعدد الأقطاب ابتداء من الستينيات (1960). واستخدم كيسنجر، وزير خارجية نيكسون والخبير الكبير في التاريخ الأوربي، التقارب الصيني-الأمريكي، ضد التحالف الهندي-السوفياتي، وفي الوقت الذي يتبدد مخطط فكرة الحرب الباردة، يحافظ قانون القوى على سريان مفعوله. ويستمر مجلس الأمن في منح مكان متميز للخمسة "الكبار". وحُدِّدت، في أوربا، المعاهدة الخاصة بالقوات التقليدية في أوربا، بقوانين توازن القوى. وبدا أن العلاقات التجارية والمالية الدولية، وقد تحددت بشكل آخر للقوة "بالمنافسات التجارية وبتمييز الدولار"، ولم تعد القوة وحدها كافية من أجل تمييز النظام الدولي الجديد في هذه الأثناء.

4-التحليل الليبرالي للعلاقات الدولية: السلام عن طريق الترابط


ƒيحُضُّ المثالي لسلام دائم، على القبول بآراء الفلاسفة:
لقد استند هؤلاء على القانون، تنظيم العنف بين الدول، بدرجات مختلفة، كما بين الأفراد، إذ يعتبر كونفوشيوس، الفيلسوف الصيني "من القرن الرابع ق.م" أن النظام الاجتماعي يجب أن يكون متناغماً مع نظام الطبيعة. ويجب أن تطبق هذه القاعدة، ليس فقط على الناس بالنسبة للشعب نفسه، بل أيضاً على الشعوب في العلاقات التي ترعى ذلك. ويدين الفيلسوف الصيني ما أوتسو Mao Tzu بشدة، بعد قرن من ذلك، في قلب حقبة الممالك المحاربة، الطبيعة الإجرامية للحروب.
ويقترح غروتيوس (Grotius) أحد مؤسسي القانون الدولي في أوربا، في القرن السابع عشر، إنشاء جمعية أمم، تسمح بالتحكيم وبالعمل على أن يسود النظام وضمان احترام حقوق الإنسان. ودعا الراهب إمريك كروسيه Emeric Crucé في عام (1623)، المسلمين والأفارقة والهنود إلى اتباع مشروعه الدولاتي الذي يضعه تحت إدارة البابا، وذلك في كتابه "Le Nouveau Cynée" على أن تكون البندقية كعاصمة، وبهذا يكون كنظام دولي للتحكيم الإجباري، وسيكون له كنتيجة طبيعية، القيام بإجراء تدخل جماعي ضد أي ملك يرفض التحكيم، ويعطي كروسيه لهذا المشروع بعداً اقتصادياً، يستند على حرية التجارة والنقد الموحد.
وصاغ العديد من المؤلفين مشاريع "خطط" من أجل جعل السلام محدداً، في عصر النور: فكتب غوتفورد ويلهلم فون ليبنتز- كتابه Consilion Aegyptianorum" عام (1670). وكذلك وليام بن William Penn" في كتابه "محاولة باتجاه السلام الحاضر والمستقبل في أوربا" بعام (1694). ثم القس سان بيير، كتابه بعنوان "مذكرة لجعل السلام دائماً في أوربا عام(1789) ثم جيرمي بنتام (مبدأ القانون الدولي" لعام (1789). وأمانويل كانت "Zum Ewigen Fridie" عام (1795). وهنري سان سيمون: "إعادة تنظيم المجتمع الأوربي، وضرورة وطرق تجميع الشعوب الأوربية في جسم سياسي واحد، بالمحافظة على الاستقلال الوطني لكل شعب عام (1814).
ƒيستبدل الليبراليون الحرب بالترابط
لقد جرى تفسير التقدم في العلاقات الدولية من قبل المدرسة الليبرالية بمأزق الحرب، في حين فكر الواقعيون "على رأسهم كلوزفيتز" بأن الحرب استمرار طبيعي للسياسة بين الدول، وجعل تحديث التقنيات وتعبئة الجماهير، الحرب، أكثر دموية، وأكثر كلفة، فتسببت الحرب العالمية الأولى
بـ(10) ملايين قتيل. وتسببت الحرب العالمية الثانية بمقتل (50)مليون. وتتحدى الحرب الشاملة، وتعبئة الأمم بالكامل التي تتناقض فيها الإيديولوجيات، كل استخدام عقلي للحرب، وانتهى الأمر بظهور السلاح النووي عام (1945)، حيث جعل الحرب الشاملة غير معقولة.

ويعارض الليبراليون الترابط و"التضامن الدولي"، طبقاً للرؤيا الواقعية للعلاقات الدولية، ويؤكدون: يجب أن تسهم ثلاثة عوامل في التقارب بين الشعوب: الديموقراطية والتجارة وعمليات المجتمعات الدولية المؤسساتية.
فالعالم سوف لن يعرف الحرب، إذا لم يكن مشكلاً إلا من الديموقراطيات في توقع مثالي، يمكن وصفه بـ"الكانتي"، وإذا حافظ الأفراد على علاقات سلمية داخل الدول. ويتساءلون، لماذا تحافظ الدول على علاقات أزماتية في نطاق المجتمع الدولي؟ وجعلت هذه الرؤيا المثالية للأزمات، المصالح بين الدول، سبيلاً للاتفاق من أجل السلام، وفي نهاية المطاف، بأن حدث في التاريخ؛ بأن الديموقراطيات هي التي شنّت الحروب.
لهذا يبني الليبراليون آمالهم على تنمية التبادلات بصورة رئيسة
إذن يجب أن ينجم التقدم الاقتصادي والتقني والتضامن بين الدول، لقد تم حدس النتيجة المهدئة للتجارة من قبل إمريك كروسيه، ثم جرى التخطيط لها من بعده من قبل العديد من المفكرين، أمثال بوسييه Bossuet وبواسغلبرت Boisguilbert وكوينسناي Quensnay، وقد كتب مونتسكيو Montesquieu: "لم تعد أوربا سوى أمة مشكلة من عديد من الأمم، وفرنسا وانجلترا بحاجة إلى غنى بولونيا وموسكو، وكل مقاطعة من مقاطعاتها بحاجة للأخرى"7.
أما نظرية الرهان- ذات الأهمية الكبرى لدى المحللين الأمريكيين- التي تُعتمد للمساعدة لتحقيق السلام، عن طريق التجارة والازدهار لكن من المعلوم، أن ما يكسبه أحد ما يخسره آخر، وتبرز الحرب من هذا المبدأ، مع أنه قد يكون رهاناً سلبياً في الحياة الإنسانية، ويأمل الرابح أن يعوض خسارته المحتملة الوقوع، بمضرة الآخرين من الخصوم.
وهناك عقائد اقتصادية تنفي فكرة التقدم، وتعتبر المالتوسية أن ندرة المصادر تحدد النمو السكاني، بشكل لا يمكن تجنبه، ولهذا يجب السيطرة على الخصوبة الإنسانية. أما المركنتيلية- أي النظام الاقتصادي الذي نشأ في أوربا أثناء تفسخ الإقطاعية وتعزيز ثروة الدولة، بتنظيم الاقتصاد، واعتبار المعادن الثخينة ثروة الدولة الأساسية- التي تطورت في القرن السابع عشر، واستهدفت التراكم في البلدان ذات الاحتياطات النقدية، وذلك بخفض الواردات، وفي زيادة الصادرات، وفي الخط نفسه، بالاكتفاء الذاتي، ويكون بالبحث عن خفض التبادلات مع الخارج، وبزيادة الإنتاج في الداخل، وهذا يعني إنتاج ما تحتاجه البلاد. وكانت مثل هذه السياسات مطبقة من قبل بلدان كانت تبحث عن خفض الاعتماد تجاه الخارج.
وعلى العكس من نظرية التبادل كدافع في "لعبة المجموع الإيجابي" طبقاً لليبراليين، حيث يربح كل واحد، وتغني التجارة الدولية التي تستند على نظرية الفائدة المقارنة، وعلى تخصص البلدان المصدرة، بحيث يغنى جميع المشاركين فيها. وتنسق الرأسمالية المكاسب الناتجة عن التبادل السلمي، وتسمح بعملية تراكم رأس المال، الشرط الضروري للثورة الصناعية التي بدأت في أوربا في القرن السابع عشر. ويتوضح نجاحها بإنتاج مواد وفيرة، مع ذلك، فالرأسمالية لا تنظر إلا للأرباح. يضاف إلى ذلك، فما من شيء يزيل المنافسة، بل كل شيء في الرأسمالية يغذيها. وهنا لن تكون السلطة السياسية "السلطة المتحكمة" كموضع رهان، بل الطاقة الاقتصادية "رأس المال الذي يميل دائماً لاجتياز الحدود بشكل أكثر".
ويطالب الليبراليون بالتعاون الدولي الذي ينجم عنه التقدم في التبادلات والتقنيات. ولقد تأسست المنظمات الدولية الأولى في القرن التاسع عشر من أجل إدارة التعاون الدولي في القطاعات التقنية "الاتصالات البعيدة، البريد... الخ". والقانون الدولي مدعو لإدارة العلاقات بين المنظمات الدولية. وتتوقف العلاقات الدولية عن كونها المحتكر للدبلوماسيين ورجال السياسة، وتفسح مجالاً متزايداً للخبراء والموظفين وللبيروقراطيات الوطنية.
على العكس من الواقعيين الذين يتحدثون عن النظام الدولي، يستدل الليبراليون بالتعبير عنه بواسطة المجتمع الدولي: يحلل الليبراليون المجتمع الدولي، كما يحللون المجتمع المدني. فهم يعترفون بخصوصيته، بعبارة أخرى، من واقع أنه مشكل من دول مستقلة. بل أيضاً يفسحون المجال أمام الفاعلين من غير التابعين للدول: المنظمات الدولية، المنظمات غير الحكومية، الشركات متعددة الجنسية، السلطات المحلية والإقليمية. ويبحث المنظرون الليبراليون عن تحديد القواعد التي تؤطر لعبة اللاعبين: المنظمات وسير عملها، و"الأنظمة" "نظام عدم تكاثر الأسلحة النووية، نظام حقوق الإنسان، نظام التجارة الدولية".. الخ.


ƒعرفت نظرية التضامن الدولي نجاحات وعكسها:
وصف الراديكالي الفرنسي، ليون بروجوا Leon Bourgeois "التضامن الذي يوحد الأعضاء في مجتمع الأمم المتحضرة"، من أجل تسوية سلمية للأزمات الدولية، عام (1899) في مقدمة لميثاق وضعه بقوله: لم يَكْفِ تطور التجارة الدولية من أجل ضمان السلام، بل على العكس، عرفت أوربا فترات توترات دولية، ترافقت مع مراحل ازدهار اقتصادي (1848-1873-1896-1920) في حين حدث التباطؤ الاقتصادي في السنوات (1873-1896) جنباً إلى جنب مع بعض خفض التوترات الدولية.
وجاءت المرحلة التالية، بعد الحرب العالمية الأولى بإقامة نظام الأمن الجماعي لضمان السلام بطريقة مختلفة عن توازن القوى. ولهذا اعترض وودرو ويلسون رئيس الولايات المتحدة آنذاك، اعترض على الواقعية والمثالية في السياسة الأوربية التقليدية، وذلك بتقديمه النقاط الأربع عشرة في مشروع السلام المقدم عام (1918). ولم يكن الحوار بين الواقعيين والمثاليين واضحاً أيضاً بمقدار ما كان عليه أثناء مؤتمر السلام عام (1919). وصرح كلمنصو Clemenceau لويلسون: "إن تاريخ الولايات هو تاريخ بهي، لكنه قصير، مائة عام، فترة طويلة بالنسبة لكم، أما بالنسبة لنا إنها أمر بسيط. لقد عرفت رجالاً ممن شاهدوا نابليون بأعينهم، لنا مفهومنا للتاريخ، الذي لا يمكن أن يكون كتاريخكم تماماً". وينتقد رئيس الوزراء الفرنسي المثالية الويلسونية بقسوة.
قررت الدول أن "تضع الحروب في مصاف الخارجة عن القانون" (ميثاق بريان-كيلوغ (Briand-Kellogg) لعام 1928). لكن لم يجر إكمال ذلك النظام الخاص بالأمن الجماعي، بنظام اقتصادي دولي صلب، وأدى الكساد الكبير عام (1929) إلى انكفاء الأمم على أسواقها المحمية، وانهارت التجارة الدولية، وظهرت الخصومات القومية من جديد.
ومن أجل معالجة هذا الفشل الذي حدث، فإن النظام الجديد للأمن الجماعي الذي وضع عام (1945)، يمنع اللجوء للقوة- باستثناء حالة الدفاع المشروع- وعُهد للقوى الممثلة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مهمة المحافظة على الأمن الدولي، وأضيف إلى هذه الأسس المحدَّدة إقامة نظام اقتصادي ليبرالي، انضم إليه جميع الدول الغربية الحليفة للولايات المتحدة. أما الاتحاد السوفياتي، فقد نأى بنفسه، مع ذلك، فقد قبل بتكثيف مبادلاته التجارية خلال مرحلة الانفراج شرق- غرب في السبعينيات (1970). وصمم الأوربيون، من جانبهم، استبدال المجابهة بين القوى بالترابط في اقتصادهم: حيث طُرحَت خطة شومان كحجر أول في البناء الأوربي- من أجل المشاركة في إنتاج الفحم الحجري والصلب- كبداية، بانتظار إقامة "تضامن حقيقي" بين الدول الأوربية.
وبدا أن العَوْلمة المتزايدة في الاقتصاد، أصبحت السياج الوحيد في تحليلات العلاقات الدولية المعاصرة، مع انهيار الكتلة السوفياتية. مع ذلك، لم تختف النزاعات من أجل المصالح، كما تؤكد على ذلك الحروب التجارية، التي تنخرط فيها القوى التجارية الكبرى "الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، الاتحاد الأوربي" لكن جرى تسييسها على طراز تعاوني، لأن قواعد التجارة الدولية، تخلصت من ليبرالية أكثر حتى الوقت الحاضر.
فإذا كانت الحروب لم تختف في نهاية القرن العشرين "تقدر منظمة الأمم المتحدة أنه قد حدث حوالي مائة نزاع مسلح رئيس منذ عام 1945 حتى نهاية القرن العشرين، نتج عنه حوالي (20) مليون قتيل، فإن الحروب بين القوى العظمى أصبحت ليس فقط مُتجنَّبة، بل أيضاً بعيدة الاحتمال. فهل يجب اعتبار الحوار لهذا السبب، على أنه قد أصبح الميزة لصالح الليبراليين؟ وأصبحت العلاقات الدولية مسيطر عليها بالتوازن شرق- غرب، طيلة فترة الحرب الباردة في عواملها المختلفة "توازن الرعب، توازن القوى العسكرية، المنافسة الاقتصادية، المجابهات في المحيط الخارجي". واليوم أيضاً، لم تغرس الديموقراطية جذورها في كل مكان، ويجب على المجتمع الدولي الاعتماد على القوة في كل مرة يتعرض السلام الدولي للخطر.

ب-القانون الدولي: بين "أرضية متعفنة"
و"طموح سلمي" بين "النزعة الإنسانية والسيادة"
(8):


ليس القانون الدولي سوى "الفاصل بين القوى" طبقاً للصفة الجميلة لبول فاليري Paul Valery9. ولا ينجُ القانون الدولي من المشاكل التقليدية الصعبة التي تنشأ في العلاقات الدولية بين الحق والقوة والعدل. والقانون الدولي معرض لخطر أكثر من أي قانون آخر، من واقع أن القانون الدولي يستند بصورة رئيسة على الدول ذات السيادة. ويعتقد باسكال (Pascal): "لا يمكن القيام بالعدل إلا بالاستناد على العمل القوي، ولا نعمل إلا العمل القوي العادل". وتكمن كل الصعوبة في مواجهة نظام القانون الدولي، بالاستحالة النظرية، خارج السيادة الدولية، وفي استحالة العملية مع احترام القانون الدولي، دون سلطة حقيقية مع الموافقة على المستوى الدولي. والبعض يستخلص باستحالة انطولوجية في تطبيق القانون الدولي.
1ً-تناقضات القانون الدولي:

تلازم التفكير بالقانون الدولي، مع ظهور الدول المستقلة. وكما فكر أرسطو، فالدولة في اليونان، سياسياً، تجمع، وتجانس ثقافي، ويقابل رجال القانون سيادة الدولة بالقانون في أوربا المقسمة، في العصر الحديث، مع أنها تتقاسم الثقافة نفسها والقيم نفسها والسلوك نفسه، وهذا أيضاً هو واقع العالم العربي.
ƒالقانون الطبيعي: يُعتبر أرسطو أنه الأب لمدرسة القانون الطبيعي. بالنسبة له، الطبيعة اجتماعية، والإنسان كائن اجتماعي بالسليقة- "حيوان سياسي"- يطمح للعيش في مجتمع. ودمج القِس توماس الكويني Thomas D’Aquin "من القرن الثامن" هذا المفهوم في رؤيا مسيحية وأسس عقيدة من العدل الاجتماعي أيضاً. وجرت عَلْمَنة القانون الطبيعي في العصر الحديث "القرن السادس عشر- القرن الثامن عشر. ووجَّه النظام الديني من جديد الاتهام "بواسطة البروتستانتية"، بصورة رئيسة، وبالحجج اللاهوتية التي تفقد تأثيرها في المجال السياسي. إذ تتحقق الطموحات الجديدة من أجل السلام والنظام عبر الدولة، في نطاق القانون الطبيعي، والذي لم يعد يعتمد على الدين بل على العقل، حتى إذا كان بإمكانه أن يكون له وجود في "الدول البروتستانتية، وفي النظام الملكي الفرنسي، وكذلك في فلسفة هوبس "Hobbes"، نتيجة الغموض بين ما هو ديني وروحي.
وطبق الراهب الإسباني ألدو مينكاني، فرنسيسكو دوفيتوريا Francisco De Vitoria (1480-1546) مدرسة القانون الطبيعي "على مجتمعات الدول ذات السيادة". فالدول ذات السيادة حرة، لكنها بحاجة للعيش في مجتمع، كما هو الحال بالنسبة للأفراد. فمجتمعات الدول ذات السيادة هي ضرورة- تماماً كحق الناس الذين يسوسونها، والذين يشكلون جزءاً متكاملاً من القانون الطبيعي. ويفرض قانون العنف العقيدة المسيحية على الهنود الحمر، لكن يجب أن تكون الكرامة الإنسانية معترفاً بها. وهو بالمقابل يسمح بحق الإسبان بالإقامة في مناطق الهنود الحمر، وكذلك بحق هؤلاء الأخيرين بالمجيء إلى إسبانيا، باسم حرية الانتقال، ويسمح أيضاً بحق البعثات التبشيرية الإسبانية بالوعظ بالعقيدة المسيحية، دون أن تقبل هذه العقيدة بالتبادل باسم حرية التبشير.
ويعتبر الهولندي هوغو دوغروت Hugo De Groot- المسمى غروثيوس Grotius (1583-1645) الأب للقانون الدولي. وأثره الرئيس المعاهدة باسم "الحق في الحرب وفي السلم"، المكتوبة باللاتينية عام (1652)، وترجمت إلى جميع اللغات الأوربية عام (1758)، لكون الدول ذات سيادة، يجب أن تكون هذه السيادة محددة بقوة وحيدة هي القانون، إذا لم توجد منظمات عالمية للدول. لكن، وبخلاف أسلافه، فقد عَلْمَن غروتيوس الحق الطبيعي الذي "يشكل، في بعض مبادئه الرئيسة، القانون العقلي، الذي جعلنا نعترف بأن عملاً ما أخلاقياً هو شريف أو غير شريف، طبقاً لتلاؤمه أو عدم تلاؤمه مع ماله طبيعة معقولة أو اجتماعية بالضرورة". ويتميز هذا القانون الطبيعي عن القانون الإرادي الذي ينتج عن إرادة الأمم، يتوضح بطريقة الاتفاقيات بين هذه الأمم. وتُحدَّد القواعد العلمية للقانون الإرادي العلاقات الدولية، لكن يجب أن تكون متطابقة مع مبادئ القانون الطبيعي، خصوصاً باحترام الكلمة المعطاة "مبدأ العالم الألماني بوفندورف (Pufendorf) (1632-1674) ويكمل عمل غروتيوس بالاعتماد على القانون الطبيعي، أكثر، مع التقليل من دور الحق الإيجابي.
ويحاول واضعو القانون الطبيعي تحديد حدود سيادة الدول، وذلك بإخضاع هذه الدول إلى القانون الطبيعي، لكن يبقى التحديد ذاتياً، على الرغم من كل شيء في الحقيقة، وتبدو العلاقات الدولية أنها ***ت عنصراً دائماً لهذا البناء النظري، مع ذلك عرف القانون الطبيعي مكسباً مشجعاً، في عالم متضامن أكثر، حيث تختفي ممارسة الحرب بين القوى، كما أن حقوق الإنسان مسجلة في هذا التَّوقَّع نفسه، إذا نحن رأيناها في عالميتها، إذا نظرنا إليها من هذه الزاوية.. ويستمر العديد من علماء القانون في ترجمة القانون الطبيعي، دون تجنب الغموض الموجود بين الأخلاق والقانون على الدوام..
ƒالوضعية: "الوضعية هي فلسفة أوغوست كونت، التي تقصر عنايتها على الظواهر والوقائع اليقينية، مهملة كل تفكير تجريدي في الأسباب المطلقة. في حين تعتمد كل فلسفة على معرفة الوقائع، وعلى التجربة العملية مثل فلسفة سبنسر وستيوارت ميل ورينان.. الخ".
القانون الإيجابي في معارضته للقانون الطبيعي هو القانون مهما يكن وليس ذلك الذي يجب أن يكون. إنه قانون كيفي وعارض، دون تفوق، ودون وحدة. وإذا كان كذلك، فهو دون منطق، ويستطيع السفسطائيون والكلبيون، أن يعتبروا المخترعين للقانون الإيجابي: فبالنسبة لهم كل شيء هو شأن من المشاركة أو الاتفاق والدولة هي تشكل مصطنع، وليس طبيعياً. فإذا استفادت سيطرة الدين المسيحي من مدرسة القانون الطبيعي زمناً طويلاً "أكثر انسجاماً مع فكرة التفوق" فقد جعلت الاكتشافات الكبيرة، انطلاقاً من نهاية القرن الخامس عشر، من تجزئة أوربا سياسياً، بأن يتم وعي التنظيم الاجتماعي بصورة نسبية وتشجيع عملية تجديد الأفكار الوضعية. وحصل المفهوم الوضعي على نجاحات وبسرعة كبيرة في القانون الدولي، وعلى نحو أكثر من مدرسة القانون الطبيعي، وإنه يتطابق أكثر من مصالح الملوك المستبدين.
أما بالنسبة للجزويتي الإسباني فرنسيسكو سوواريتز (1548-1617) فإن حق الناس هو تطوري وعارض، ويختلف عما هو للشعوب، حسب مفهوم القانون الطبيعي. فهو إذن قانون إيجابي. لكن يعترف سوواريتز، مع ذلك، أنه يجب أن يكون تابعاً للقانون الطبيعي على الدوام: من ثم، استرجع العديد من القانونيين هذه النظرية لكن تحرروا من تفوق القانون الطبيعي. إذ يعتقد الانجليزي سلدن Selden (1548-1654) أن قانون الناس، هو نتيجة وحيدة للمعاهدات والعادة. وهناك انجليزي آخر يدعى زوش Zouch (1590-
1660)، الذي لم يعترف إلا بالأعمال التي يعترف بها بصورة مشروعة. أما الهولندي بنكر شوك
Bynker Shook (1673-1743) فقد اقتصر على القانون الطبيعي الناتج عن العادة.
ووسع السويسري أمريش دوفاتل Emmerich De Vattel
(1714-1786)، وكان دبلوماسياً في خدمة ملك الساكس، وسع هذه المفاهيم، فأقام الوضعية على الإرادية- وهذه الأخيرة مذهب يجعل الإدارة تتدخل في كل حكم، وتستطيع أن تعلق هذا الحكم- في كتابه: حق الناس، أو مبادئ الحق الطبيعي المطلق في سلوك وشؤون الأمم والملوك (1758). ويسمح بوجود حق طبيعي، لكن مع فارق دقيق "هام" حيث أن الدول هي ذات سيادة في تفسير هذا الحق، والمجتمع الدولي مختلف بالطبيعة إذن عن المجتمع المدني: على عكس الأفراد، فالدول ليست بحاجة للتخلي عن السيادة من أجل الدخول في المجتمع، فلا يوجد عقد اجتماعي في المجتمع الدولي. وبما أن الدول معرضة لخطر الدخول في نزاع إذا لم يتم الاتفاق على تفسير الحق الطبيعي، فهذا هو بالضبط الحق الإرادي الذي يجب أن يعدل من الحق الطبيعي من أجل تسهيل القبول المشترك، حسب الحالة الراهنة. وما من أحد يتبع قانون الحرب، أي الحرب العادلة بالضبط، والتي تتطابق مع القانون، لكن، لما كان مفهوم العدل نفسه، ليس واحداً لدى جميع الدول، فالحرب هي إذن عادلة مهما تكن مبرراتها، ويجب فقط أن تخضع لبعض الأشكال "سواءً أكانت حرباً مفتوحة أم (خفية)، على سبيل المثال.

وهناك كاتبان آخران يُنَهّجان القانون الدولي الإيجابي في عصر النور وهما موزير (Mozer)، في كتابه "مبدأ حق الناس الحالي" (1750-1752)، وجورج فريدريك دومارتن Georges Frederic de Martens "ملخص حقوق الناس الحديث في أوربا القائم على المعاهدات والاستخدام" عام (1788). ويعتبران، مثلهم مثل فاتل، أن المجتمع الدولي مجتمع مشكل من دول ذات سيادة ومتساوية، والقانون الدولي لا يهتم بالأفراد، وهو نتيجة إرادة وموافقة الدول ذات السيادة "الموضحة بالمعاهدات ضمناً بالعادة، وتقدر الدول التزاماتها في العلاقات الدولية فقط، وتستطيع استخدام الحرب من أجل تسوية خلافاتها.
ووصل الوضعيون الإراديون إلى قمتهم في القرن التاسع عشر، وتخلصوا من ورقة التوت التي كانت المرجع للقانون الطبيعي. ولم يعد باعتبارهم سوى الحق الإيجابي، والدولة مصدر القانون، والقانون يصدر إذن عن إرادة الدولة، بالنسبة للمدرسة الإيجابية الألمانية وعلى رأسها (جيلنك تريبيل)
(
Jellinek Triepel)، ويعمق تريبيل تحليل القانون الدولي الإيجابي في المنطق الإرادي لفاتل. وينظم الإيطالي أنزيلوتي (Anzilotti)10- الذي سيصبح قاضياً في محكمة العدل الدولية الدائمة- بشكل جيد، القانون الإيجابي الذي يجب أن يكون، حسب رأيه، الموضوع الوحيد في دراسة القانون الدولي.
وانتهت العقيدة الوضعية، إلى القانون الدولي، المسمى بـ(الكلاسيكي): وهو ذلك النظام، الذي يشكل حجر الزاوية في مبدأ سيادة الدولة بين الدول. وقدرت محكمة العدل الدولية العليا، بأن القانون الدولي، يؤدي خدمة لـ"تسوية التعايش" بين الدول، "بهدف متابعة الأهداف المشتركة" و"تربط التسويات في مجال القانون، الدول، وهي الصادرة عن إرادة هذه الدول". كما يجب أن لا يؤدي هذا العرض الخاص بالتبرير عن الدول، للفوضى". وتوجه المحكمة اهتماماً من أجل توضيح أن "الحدود الأساسية التي تفرض القانون الدولي على الدولة، تلك التي تستعيد كل ممارسة لقوتها على دولة أخرى"، وتتوقف حرية دولة ما إذن عند بدء حرية دولة أخرى، وإن التأكيد على هذا المبدأ، هو إذن، أقل ما نستطيع انتظاره من القانون الدولي.
-ويحاول رجال القانون تجاوز هذه التناقضات في الحقبة المعاصرة:
يتساءلون عن العظمة بأنها الرغبة الوحيدة للدول، وأقل من تساؤلهم عن القانون، وعن أساسه الايديولوجي، وأقل من وظيفته: ويوجد القانون الدولي خدمة لتأطير عمل الدول والفاعلين الآخرين في العلاقات الدولية، وتحليلاتهم تميل نحو الذرائعية لإثبات بسيط للوقائع: فالدول هي ذات سيادة، ومع ذلك فإنها تخضع للقانون الدولي. ويتعلق معظم القانونيين المعاصرين إذن بوصف القانون كما هو.
يرفض هانس كلسون ومدرسته "المعيارية- Normativiste" المؤسسة في فيينا، اعتبار أي شيء آخر غير القانون. "إنها النظرية الخاصة بالقانون" ولا تتميز الدولة عن القانون، هي إذن القانون: "هي الآمر بالدفع القانوني"، والقانون الدولي مندمج فيه. وانتهت سيادة الدولة عن طريق الذوبان في المعايير التي ساهمت الدول في إقامتها. ويصبح القانون الدولي تتويجاً لنظام القانون الوطني، في حدوده القصوى.
وتتقارب عقيدة "الموضوعية- الاجتماعية" الممثلة بجورج سيل Georges Scelle، مع مدرسة القانون الطبيعي، مع ذلك: "إذ ينتج المجتمع الدولي، ليس عن التعايش، ومن تجمع الدول، بل على العكس، من تداخل الشعوب بالتجارة الدولية "بالمعنى الواسع". وسيكون عجباً، بالتأكيد، أن تتوقف الظاهرة الاجتماعية في الدولة، في حدود الدولة". لأن القاعدة القانونية، هي "آمر اجتماعي يترجم ضرورة تولدت عن التضامن الوطني، فلماذا لا تؤدي خدمة لأمور القوانين الدولية التي تطبق على المجتمعات الدولية؟ طبقاً لرأي المؤلف نفسه. وسوف لن يكون "حق الناس" قانونياً بين الدول- كما كان على الدوام- بل أصبح قانوناً بين الأفراد مطبق في نطاق دولي، وسيحل محل المجتمع الدولي"، التجميع الدولي: ويتحول الرابط الاجتماعي بين الأفراد إلى شعور حقيقي بالانتماء المجتمعي. وأعاد جورج سيل الربط إذن بالتحليل الليبرالي بين المجتمع الدولي، وعقيدة القانون الطبيعي، ويبقى جزء كبير من القانونيين مع ذلك، مترددين في قبول مفهوم "المجتمع الدولي" ويبدون شكوكاً أكثر.
ولوحظ أيضاً، خلال العديد من السنين، في فترة المنافسة شرق- غرب، الاجتياح الايديولوجي للقانون الدولي. ووجه آخرون النقد إلى القانون الدولي، سواء لإفراطه في الاستخفاف بدول العالم الثالث، أم لأنه يؤدي خدمة لهيمنة دول الغرب. واعترض رجال القانون الماركسيون جميعهم، على القانون الدولي، مع تكهنهم بـ"سقم الدولة" عندما أرادوا تحديد "قانون التعايش السلمي" من أجل مصارعة الحرية الليبرالية. كما اعترض قانونيو العالم الثالث من جانبهم على القانون الدولي، محددين بصورة رئيسة عن طريق البلدان النامية، وبحثوا عن نزع الاستعمار عن طريق القانون المشروع "حق الشعوب في تنمية نفسها بنفسها" وأشادوا نظاماً اقتصادياً دولياً جديداً، وأصبح لهذه النظريات ميل لكي تزال اليوم، أمام هيمنة القيم التي يطلق عليها اسم الليبرالية.
2-احترام القانون الدولي

ƒتفوق القانون الدولي على القانون الوطني ضرورة نظرية
تعتمد طبيعة القانون الدولي، على العلاقة بين القانون الدولي والقوانين الداخلية للدول.
ويشكل القانون الدولي والقانون الداخلي، خطاباً قانونياً واحداً، حسب عقيدة الواحديين (Monistes): بعبارة أخرى، لا يطبق القانون الدولي إلا إذا اندمج بالنظام القانوني الداخلي للدولة، والتقارب الثنائي، ليس مفاجئاً فقط، بل هو شكل عام محفوظ من قبل الوضعيات.
نظرياً، فلا يمكن أن يكون له صفة القانون الدولي، دون أولوية على القانون الداخلي. ولأن الدولة ذات سيادة، يجب أن يكون لديها قانون ولأنها تلتزم بالقانون الدولي، يجب أن تحترم التزاماتها، إذن فإنه منطقي بأن تتكيف مع حقها الخاص بالالتزامات التي اتخذتها حيال الدول الأخرى. ولا تستطيع دولة ما الادعاء بعدم كفاية تشريعاتها الداخلية من أجل إعفائها من مسؤولياتها الدولية. واعترفت محكمة العدل الدولية بالقانون الداخلي كـ"مبدأ معترف به بشكل عام". وأعادت محكمة العدل الدولية عام (1945) التأكيد على هذا المبدأ، كـ"مبدأ أساس ـ"مبدأ أساس في القانون الدولي"، بصورة منتظمة. بالمقابل لا يطبق القانون الدولي على الأشخاص، كما اعترفت بذلك محكمة العدل الدولية الدائمة في مسودة محاكمات دانزيغ عام (1928). واعترفت أن الدولة تقوم كوريثة بين القانون الدولي وتابعيها.
تعترف معظم الدول بتفوق القانون الدولي، وهذا حسب التوازن الأنجلو-ساكسون بأن "القانون الدولي جزء من قانون الأرض" طبقاً للعقيدة المقترحة من قبل بلاكستون Blackstone (1765). وهذه قاعدة معترف بها في البلاد التي فيها دستور مكتوب: وهنالك صعوبة بإنكار القانون الدولي العام، "خصوصاً القانون غير المكتوب" مع ذلك، ويمكن أن يتردد ذلك بالالتزام على الأرض التي لا تعترف به، ويجب عليها أن تخضع للتفسير الإداري.
فالمعاهدة إذن ليست مقبولة شرعاً إلا إذا طبقت بطريقة متبادلة، وليس تقدير شرط التبادل من شأن القاضي الذي يمكنه أن يرد الموضوع إلى مستوى وزارة الخارجية. ولقد أكد المجلس الدستوري، بأن ليس هنالك من شرط من أجل مطابقة القوانين مع الدستور. وهنا، على السلطة التنفيذية أن تستخلص النتائج من غياب التبادل "على سبيل المثال، بإلغاء المعاهدة".
بالمقابل، فعلى القاضي أن يبطل المادة المخالفة للمعاهدة، فالقانون الدولي يجب أن يطبق على الأفراد عند غياب قابلية التطبيق المباشرة، وعلى القاضي الداخلي أن يضمن هذا التطبيق. فالقاضي القضائي، يقبل تفسير اتفاق ما عندما يكون خالياً من الغموض11؛ أو عندما تكون بعض المصالح الخاصة موضع رهان، ويطلب القاضي الإداري من جانبه تدخل وزارة الخارجية أحياناً، لكن بعد أن يعتبر هذا التفسير كـ"عمل حكومي" غير قابل لأن يعترف به من قبل قسم قضايا الدولة.
الطبيعة الإجبارية للقانون الدولي، تفترض مشكلة التصديق: نادراً ما تقبل الدول تحديد سيادتها في النقطة التي يمكن أن يصبح خرق القياس مقراً من قبل المجموعة الدولية. والإقرار ضد الدولة التي تعتدي على السلم الدولي، خاضع لمزلاج مزدوج، تستطيع القوى وحدها رفعه إما سياسياً بالتصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وإما عسكرياً ومالياً بوضعه موضع التنفيذ- هذا ما حدث في كوريا عام (1950) والعراق عام (1990)، وسمح بشن مثل تلك الميكانيكيات في شروط مطابق لميثاق الأمم المتحدة، لحد ما "من الفصل الثامن.
يضاف إلى ذلك، تكون الإجراءات التقليدية، نتيجة الاتهام عن مسؤولية الدولة، وآليات التصديق، متوقعة في المنظمات الدولية، في بعض الأحيان: حوارات متناقضة، نشر التقارير، آليات قانونية، إمكانية الطرد من معظم المنظمات الدولية، تعليق حق التصويت "خصوصاً في حالة عدم رفع المساهمة المالية"، وهذا من الأمور النادرة لتكون فعالة. لهذا، تفضل الدول استخدام الدبلوماسية واتخاذ إجراءات معاكسة، يراد بها الإقرار.
ج-تحليل المجتمع الدولي: بين النظام والقوة

يقسم المؤرخ جان بابتيست دو روزيل Jean Baptiste du Roselle العلاقات الدولية إلى بابين: السياسة الدولية التي هي حصة الدول "حرباً أم سلماً"، والحياة الدولية التي هي من فعل الفاعلين الخاصين "سياحة، رياضة، تجارة دولية" يبدو أن هذا التمييز يخفي ما يفعل القانون الدولي العام "أو بين الدول" عن القانون الدولي، الخاص "حيث تتواجه الأنظمة القانونية الداخلية، دون تدخل الدول".
والحالة هذه، فإنه في تناقض من حيث الملاءمة بين معارضة العلاقات الدولية العامة والخاصة. وتؤدي العولمة إلى تعزيز التعاون الدولي في جميع المجالات، في حين تنظم الدول الحياة الدولية، ويجب على مفهوم (القوة) معاد التقييم أن يؤخذ بالاعتبار على ضوء هذا التطور.
1- هل نهاية التاريخ هي نهاية التقدم

لقد أدت نهاية الحرب الباردة، كما في جميع الانقلابات التاريخية، إلى فقدان المعالم، وفتحت حقبة ش****ة، ويبدو أن رجال السياسة، وكذلك المثقفون، حائرون في مواجهة "العولمة" التي تغير العالم دون أن يتغيروا. ربما هذه الاستفهامات الحياتية الخاصة بحياة الإنسان ليست سوى العودة الأزلية للتفكير حول صيرورة الإنسانية ومصير الإنسان.
ƒوالتنبؤ "بنهاية التاريخ" ليس جديداً، كما يعتقد، طبقاً للضجة التي أثيرت حول فرضية فرانسيس فوكوياما: بعد سقوط جدار برلين بوقت قصير، هذا الأستاذ الأمريكي، هو الذي أطلق أن القيم الليبرالية "الديموقراطية، السوق، حقوق الإنسان" هي من الأمور التي لا غنى عنها، ويجب أن تحكم العالم بعد الآن. بالنتيجة، إن التاريخ قد ينتهي12. إذا أعطيت هذه الفرضية سبباً لليبراليين الذين يتوقعون السلام السرمدي عن طريق التضامن الدولي والأمن الجماعي. ومن قَبْل، في القرن التاسع عشر، رأى الفيلسوف الألماني، هيغل، في التاريخ العام تقدماً في وعي الحرية. ويجب أن تكون عبارته عن الدولة الحديثة، هي التي سينمي فيها الإنسان وعيه كمواطن حر ومناسب. وإذا كان مفهوم الدولة لدى هيغل قريب من نماذج عصره "امبراطورية نابوليون، بروسيا"، فإنه من الواضح، أنه سوف لن تحدث "نهاية التاريخ" فجأة، إلا عندما تصبح الدولة نموذجاً.
وتنبأ الأب تلهارد دو شاردان Teilhard de Chardin، الفيلسوف والعالم الفرنسي، تنبأ عام (1955)، بنهاية دينية وجماعية للتاريخ، فقد خرج الجنس البشري من الكائنات الحية "منطقة الحياة غير المُعْقلنة" من أجل الدخول في النوسفير (Noosphere) أي "منطقة الحياة المعقلنة"، وهنا ستبلغ مرحلة الإنسانية المتفوقة. بعبارة أخرى، سيطرة وتطور الكائنات الحية، ستصل بجميع الأرواح والكون في المسيح.
يجب أن تكون هيمنة القيم نسبويَّة مع ذلك: لقد خلق القرن العشرون نوعاً مختلفاً من الايديولوجيات العالمية الثلاث الكبيرة، الموروثة عن القرن التاسع عشر: التحررية والقومية والاشتراكية. والتحررية هي الرابح الأكبر على الساحتين في السياسة مع دَمَقْرطة أكبر اتساعاً، وأكثر على الساحة الكونية، وفي الاقتصاد. منذ زوال الفرضيات الكنيسة (Keynesienne) والمتعلقة بمذهب كَينِس الاقتصادي القائل بالتدخل الرسمي لإنماء الإنتاج والوظائف- وتعرضت الاشتراكية للإخفاق كتنظيم سياسي، مع أنها استرجعت جزئياً من قبل الديموقراطيات الليبرالية، حتى ابتعدت عن الكينسية، وهي تحافظ على بعد اجتماعي غاب عن البلدان الرأسمالية الليبرالية من القرن التاسع عشر.
ƒتوجيه الاتهام للتقدم ليس جديداً أيضاً: لقد قدر بول فاليري Paul Valery القول: "نحن، الحضارات، إننا نعلم أننا ميتون، من بعد" وذلك غداة الحرب العالمية الأولى.
ووصف زكي العائدي، العالم بأنه "محروم من الإحساس" بعد الآن في حين دوَّن كل واحد من المتخاصمين في الحرب الباردة- الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي- عملهما مع توقع غائي- حسب النظرية القائلة بأن كل شيء في الطبيعة، موجه لغاية معينة- وأدى انتصار ديموقراطية السوق، إلى اختفاء كل توقع لـ"أفق للتوقع"13. وأصبحت فكرة التقدم التي أدخلت بواسطة القديس أوغسطين، في القرن الرابع من عصرنا، التي تجسد فيها "الدولة الأرضية، دولة الرب"، أصبحت موضع شك، وحلت العولمة محل النظام بين الدول (Interétatique) الكلاسيكي بواسطة "نظام اجتماعي عالمي"، نزعت فيه الدولة عنها حيازة سلطتها، ومن أجل أن تحافظ الدولة على شرعيتها، وجب عليها التقشف.
ƒجرى الإعلان عن انحطاط الغرب منذ مطلع القرن العشرين:
نشر الفيلسوف الألماني أوزوالد سبينغلر Oswald Spengler في عام
(1918) كتاباً بعنوان: "انحطاط الغرب"، يعلن فيه، أن أوربا قد اجتازت مرحلة "الثقافة" المتميزة بالنشاط العفوي للروح، خصوصاً في "الفن" إلى مرحلة "الحضارة" المسيطر عليها بالثقافة العقلية والمَكْننة.

وعدلت نهاية الحرب الباردة من العلاقة بين الغرب والعالم. ولاحظ كلود ليفي- ستراوس Claude Levi-Straus، في كتابه "النسب والتاريخ" الصادر عام (1968) أن الماركسية والتحررية، طريقتين لفرض الفكر الغربي على العالم14. ويؤكد جان كريستوف روفان Jean Christophe Rufin، أن المنافسة شرق- غرب، قد نظّمت الحرب، التي ستحددها وعينت لها الأسس15 في كتابه "الامبراطورية والبربريات الجديدة" الصادر عام (1991)، حيث انطوى (الجنوب) على نفسه، واسترجع أحياناً بعض نشاطه- لكن على شكل نزاعات داخلية.
ويطرح البروفيسور صامويل هانتنغتون Samuel Huntington في مقالة داوية، نشرت في مجلة شؤون خارجية Forein Affairs ، طرازاً جديداً من النزاعات. فبعد الحرب بين الإمارات، من ثم بين الدول/الأمم، ثم بين الايديولوجيات "الفاشية، الشيوعية، الرأسمالية"، جاء دور "صدام الحضارات".
والحضارة هي كيان أو جوهر ثقافي، يتميز بالتاريخ وباللغة والتقاليد، وخصوصاً الدين ويُعْتبر صِدام الحضارات، كنتاج لتقسيم الحضارات، وسيحدث بين الدول الممثلة للحضارات المختلفة. ويُعدّد صامويل هانتنغتون، سبع حضارات أو ثمانية: الغربية، الكونفوشيوسية، اليابانية، الإسلامية، الهندية، السلافية-الأرثوذكسية، الأمريكية-اللاتينية، أخيراً، الأفريقية. ويعتبر الأزمة البوسنية، بأنها تعارض أو تصادم، بين المسلمين "مدعومين من قبل البلدان الإسلامية" على سبيل المثال، مع الأرثوذوكسية "مدعومين من الصرب وروسيا". ويعتبر الأزمة في القوقاز، على أنها صراع بين المسلمين والمسيحيين، وسيقود الصعود القوي للكونفوشيوسية إلى صراع يؤدي إلى تصادم حضارتين: الحضارة الهندية "البوذية" واليابانية الشنتوويك Shintoique. ويذهب هانتنغتون بعيداً بالتذكير بالتلاحم "الإسلامي"- "الكونفوشيوسي" ضد الغرب، الذي يتوضح في مجال الأسلحة، خصوصاً: ستصبح سياسة عدم تكاثر الأسلحة ذات الدمار الشامل، المصممة من قبل الغرب، مُعارضة من قبل الصين وستتصدى لها ببيع الأسلحة للبلدان الإسلامية دون تحفظ.
2-وينتظم العالم في أربعة أبعاد:

أصبح تعبير "النظام الدولي الجديد" موضع احتقار، بسبب خيبات الأمل التي أعقبت نهاية الحرب الباردة. وبهذا يجب إعادة التفكير بالعلاقات الدولية" ولقد أحدث تحطم الكتلة الاشتراكية، كأن عاصفة كانسة أتت على كل إبراز للعالم بواسطة طيف الأزمة شرق- غرب. وأصبح الترابط في الأبعاد الدولية والإقليمية، وحتى في مجال الهوية، يخضع لنظام معقد، لم يتحدد بعد حسبما تصوره أمثال هانتنغتون.
ƒوقادت العولمة إلى إقامة حيز كوني تجاري:
تميل العلاقات الاقتصادية تلقائياً للتحرر من الإرغامات الخاصة بالدول وبالحدود، وقد شكلت لاهانس (la Hanse) "شبكة" من المدن التجارية بين القرن الثاني عشر، والسابع عشر، ويرجع ظهور الظروف الأوربية، في توحيد الأسعار، إلى تاريخ القرن الخامس عشر، وظهرت أسواق المواد الأولية الكبيرة الدولية والمنتجات الزراعية، في القرن التاسع عشر. إذن، ليست ظاهرة "العولمة" الاقتصادية جديدة كما يبدو.
ويبدو أن الفضاء أو المجال الكوني للتجارة، المميز بقوانين السوق، مدعو الآن ليتوحد، إذ توصلت المشروعات إلى استراتيجية "إجمالية" بعبارة أخرى، إلى سياسة تجارية ومالية على نطاق السوق الدولي. ولم يعد تنظيم الاقتصاد الدولي ينحصر اليوم في تحريره من الضرائب الجمركية، بل بالتناغم مع شروط التنافس في مجالات "النقد، والتشريع الخاص بالاستثمار، وبالشروط الاجتماعية، وبالملكية الثقافية... الخ" والسرعة هي الدينامية المشاركة في جوهر العولمة. فقد شجع تطور النقل، على انطلاقة التبادل في البضائع، وفي رؤوس الأموال، والأفراد، منذ عدة قرون. وعرفت الثمانينات (1980) ثورة في الزمن الحقيقي، المتميز بالتحام المعلوماتية مع الاتصالات. وتلاقت النظريات الليبرالية في المطابقة مع تسارع في المكننة المنتظمة للأسواق "المالية، أسعار البضائع... الخ". فالحَيِّز قد نقص، والزمن قد انضغط، ويصبح رد الفعل الرهان الأساسي في المنافسة الاقتصادية الدولية وبسرعة.
وينتظم الحَيِّز المُعَوْلم على شكل شبكة. وتصبح التبادلات الاقتصادية الدولية، على نطاق الكرة الأرضية، مِثْلَل جريان الدم في جسم الإنسان. وأصبحت المدينة، المكان للاستقرار، ومكان للتبادلات، في آن واحد، منذ ثورة العصر الحجري المصقول، كما أصبحت المدينة الملاذ، وعقدة الاتصالات، والشبكات العالمية، التي أقامت علاقات هي هذا العقد للاقتصاد العالمي، وهي الموانئ والمطارات ومحطات القطارات، وأمكنة الإنتاج، ومناطق الاستهلاك الحضرية. ولم يعد المعيار المحدد، من أجل مكان معطى، يرجع إلى بلد غني أو بلد فقير، بل كونه مرتبط بالشبكة الاقتصادية الدولية أم لا. وللبلدان الغنية مناطقها المحددة في ثروتها، كما للبلدان الفقيرة أمكنتها المتطورة "الموانئ لتصدير المواد الأولية، المناطق الحرة" ولم تعد شبكات المواصلات محاور نقل فقط، بل يمكن أن تصبح "طرق سريعة للمعلومات"، أو تجمعات اجتماعية مثل "الدياسبورا الصينية".
ولا تزال المؤسسات الدولية، متخلفة التجهيز من أجل تأطير الحيز الكوني الواسع للسوق، وإذا توطدت المنظمة الدولية للعمل، منذ إنشائها عام (1919) لأصبح هدف تحسين شروط العمال، جعل شروط العمل متساوية، لتجنب الاعوجاجات في المنافسة الناشئة عن التفاوت في الأجور. ولم تنجح المنظمات الدولية المختلفة في فرض ضوابط مشتركة، أو في جعلها محل احترام. وشكل تحول الغات (Gatt) (الوكالة العامة للتعرفة والتجارة) إلى منظمة دولية للتجارة (OMC) التي أسندت إليها عملية تأطير العلاقات التجارية الدولية مشكلة بذلك خطوة هامة نحو تحديد إطار تنظيمي دولي، لا يزال فيه العديد من الثغرات.
ƒيبقى البعد في العلاقات الدولية بين الدول أساسياً:
تبقى الدولة من الأمور التي يتعذر أن يحل محلها أحد ما، كما تظهر ذلك المقارنة بين مكانة المناصب الوطنية العامة والمناصب العامة الدولية. ويتم الإحساس بضرورة الدولة في ثلاثة مستويات: تقوم الدول وحدها في وضع الأسس الخاصة بأطر العولمة، قبل كل شيء، مع الأخذ بالاعتبار الفوائد الجماعية في "مجال البيئة"، على سبيل المثال، وكذلك، القيام بالفصل عند نشوب الأزمات التجارية "على سبيل المثال بين المشروعات الأمريكية وتلك الأوربية أو اليابانية". ويبقى كل قانون دولي، جوهر العلاقات بين الدول، ثم تجسد الدولة، توطيد المكانة الإقليمية الخاصة بها، فالحدود تزال لكنها لا تختفي. وتبقى اليد العاملة، الباعث الأقل في عوامل الإنتاج في الاقتصاد العالمي. ويبقى السكان متعلقون بالعيش في أماكن عيشهم، ويدفعون الضرائب لسلطاتهم العامة، ويريدون أن يكونوا محميين ضد المشاكل المختلفة "الإجرام، المخدرات، البطالة"... الخ. ويرغبون بتحقيق أمنهم في نطاق إقليمي، ويتركز ذلك على الدولة عفوياً. وتصبح حتى المشروعات الدولية متأثرة بالروح القومية للمجمتع الأم وبحكامه.
ويحافظ المنطق الإقليمي على ملاءمته في المجال الدفاعي، حيث أصبح إنتاج الأسلحة دولياً أكثر فأكثر، كما أضحى الأمن جماعياً أكثر فأكثر، وذلك في المناطق التي يتوجب استدلال المسؤولين عن الدفاع عنها.
أخيراً، فالدولة/الأمة، هي الكيان السياسي الوحيد الذي يمكن أن يزدهر فيه الحوار العام والديموقراطية، حيث يتضاعف التلاحم الاجتماعي مع التلاحم الوطني، مما يسمح بإحساس جماعي "المصير المشترك".
فالإحساس الوطني هو طبيعي لدى جميع الشعوب، وفي جميع البلدان، وما من شعب يمكن أن يمثل كياناً مستقلاً إذا لم تُشكَّل أمة مستقلة.
ƒبعد الهوية الذاتية، ثابتة هامة للنظام الاجتماعي والسياسي الدولي:
فإذا كانت الدولة تبقى من الأمور التي لا غنى عنها، فإنها لم تضعف عن طريق العولمة. والحالة هذه فإنها "عولمة الذاتيات" التي تنسجم مع ضعف سلطة الدولة، ويشجع ذلك على ظهور الحركات الذاتية التي كانت مقهورة، أو تعمل بالخفاء، حتى ذلك الوقت، كل ذلك يجري كما لو أن العولمة قد أدت إلى ارتخاء في التلاحم الاجتماعي، ومؤدية إلى العودة إلى زيادة في طلب الذاتية Identitaire.
وينشأ التحول نحو الحرب من قلب هذا التطور. إذ أصبح من الصعب التفكير بالحرب بين القوى العظمى اليوم، سواء أكان التفسير الذي يعطى، أكان هو الردع، أم التعقيد في المعدات العسكرية، أو الديموقراطية، والحالة هذه تبقى الحرب في قلب هوية الدولة؛ فالحرب هي كَدالَّةٍ على الحق الأسمى للدولة، وكوسيلة لزيادة قوة الدولة.
وتعتمد ظاهرة الهوية على القبلية والعرق والذاتية الثقافية، وإنها حاضرة في المناطق المنزوعة الاستعمار بصورة سيئة في العالم الثالث، حيث لا تتطابق الحدود بين الشعوب مع الحدود العرقية. وفي البلدان الشرقية لم تطفئ الاشتراكية، النزعات القومية، وحتى في البلدان الغربية، أجج ضعف الدولة المركزية، أجج الذاتية وجعلها أكثر صلابة مما يعتقد: "الإيكوس، كيبك، الفلمنك، والوالون في بلجيكا... الخ".
وتميل دينامية الهوية بالاعتماد على العولمة الاقتصادية إلى التجزئة في الدولة، ويمكن أن يفسر ذلك من واقع أن تبقى الدولة الحامية ضد النتائج السلبية للعولمة.
ƒتتأكد العملية الإقليمية Regionalisation بالغموض
يستطيع العديد من المديات الإقليمية أن يصبح متميزاً: إذ يؤكد الإقليم بصعوبة على وجوده، بين النظام الاجتماعي الدولي، ومستوى الدول، بالإجمال في أوربا وأمريكا وآسيا والعالم العربي-الإسلامي، وأفريقيا السوداء.
فالأقاليم، هي أجزاء من العولمة الاقتصادية، بالدرجة الأولى وإنه من المنطق تماماً، أن تكبر التبادلات مع الجوار بسهولة أكثر من التبادلات البعيدة- على الرغم من الانخفاض المستمر في تكاليف النقل، ويمكن أن تشاد العمليات الإقليمية بالاستناد إلى الهوية الثقافية كونها أقوى من الروابط الاقتصادية أحياناً، كما في حالة العالم العربي الإسلامي.
هذا، وتبقى العملية السياسية الإقليمية أقل ثباتاً، على الرغم من وجود منظمات إقليمية دولية في كل مكان تقريباً في الوطن العربي، كالجامعة العربية، وفي أفريقيا منظمة الوحدة الأفريقية... وفي أمريكا وفي آسيا... الخ. لكن ليست هذه المنظمات سوى شكل معد للتعاون بين الدول في أغلب الأحيان، وبالنسبة لعدد كبير منها ليست سوى قشور فارغة، والجماعة الأوربية وحدها، هي التي حددت مشروعاً حقيقياً سياسياً، ينزع إلى تخطي الحدود القومية.
3-يجري تبني القانون حسب تطور المجتمع الدولي:

ƒويغطي القانون الدولي جميع المجالات في العلاقات الدولية بعد الآن:
يقسم القانون الدولي، تقليداً، إلى قانون السلم، وقانون الحرب. ويلاحظ أن الثاني قد هبط من حيث الأهمية عن الثاني "الذي دُشَّن تحت اسم قانون الأزمات المسلحة" من جديد، وتترجم الكثرة من المعاهدات، بالنسبة للأول، حاجات المجتمع الدولي ليعيش في استقرار قانوني، وفي التأطير عن طريق ضوابط ترابطها المتزايد. ولقد سجل القرار النهائي لمؤتمر فيينا عام (1815) ترتيبات وضع الدبلوماسيين، وكذلك الوضع القانوني لبعض الأنهار، وما يتعلق بإلغاء العبودية، وأدت القوانين الدولية التقليدية المدونة، خصوصاً القانون الدبلوماسي والقنصلي اتفاق عام (1961) وعام (1963)، وقانون المعاهدات (اتفاق عام 1967)، وحماية حقوق الإنسان، أدت جميعها إلى ظهور القانون النوعي.
ƒالقانون الدولي لا يتَدوَّل: لقد حطمت المنظمات الدولية مَحْظور المجتمع الدولي، المشكل حصراً من الدول، ووجب أن تكون النتيجة النهائية للعملية، التحول التدريجي للمجتمع الدولي، حيث نعيش لإتمامها، والمشكل من كيانات مترابطة ومتضامنة. ويرسم تطور المفاهيم الخاصة بـ"الميراث المشترك للإنسان" توقع نظام دولي عام، ينعش مجرى النزعة الطبيعية.
ƒيميل القانون الدولي للتأقلم:
تشهد مضاعفات المنظمات الإقليمية، وتطور القانون الدولي والضعف الإقليمي للحماية القضائية لحقوق الإنسان، على أقلمة القانون الدولي. ويعزز هذا الميل، ويسبب المنافسة، في آن واحد- التأكيد على القانون الدولي على النطاق الكوني، وسيكون خطراً تماماً أن يستخلص من ذلك حجة لإثبات نظرية صدام الحضارات.
ƒبمقدار ما يكون القانون الدولي أداة اليوم فهو رهان بين أيدي الدول:
تبقى سيادة الدول المحرك الحقيقي، وليست المنظمات الدولية المزودة من قبل الدول بالاستقلال الذاتي النسبي، ذات سيادة حقيقية. ولقد وضح غوي دو لا شاريير (Guy de la Charriere) أن للدول "سياسة خارجية قانونية"، بعبارة أخرى، سياسة تجاه القانون الذي ليس محدداً بالضرورة بالقانون، بعبارة أخرى، سياسة لتجعل القانون أداة لتأمين مصالحها. حسبما جاء في كتابه "السياسة الخارجية القانونية" الصادر عام (1983).
4ً-القوة وحدودها:

ƒتبقى القوة الحافز الأساسي في العلاقات الدولية، على الرغم من العولمة، وضعف الدول، وفتح الحدود: يتكرس مبدأ المساواة السامية بين الدول، قانونياً، كمبدأ مؤسس للقانون الدولي، مع أنه يتناقض مع الحقيقة الدولية. فالدول غير متساوية في عدد السكان، وفي المساحة، وفي المصادر الطبيعية، لكن عدم المساواة الأشد بروزاً في عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية.
كل شيء يحدث كما لو كنا نعيش في عالم من ثلاث مراحل: في المرحلة الأولى، توجد مجموعة الأمم التي لها المساواة السامية بين الدول، من حيث المبدأ، من أجل التعبير عن المنظمات الدولية، لنظام الأمم المتحدة. ويراد بالجمعية العامة للأمم المتحدة- التمويه بأنها تمثل "الديموقراطية بين الأمم"، لكن العديد من النصوص الادعائية التي يتم تبنيها كل عام، هي دون القدرة على تطبيق ما يجب من قانون على القوة الاقتصادية والسياسية.
المستوى الثاني محفوظ فقط لمجموعة صغيرة من الدول، في الواقع البلدان الرأسمالية الصناعية ذات المستوى العالي؛ ولهذه البلدان مؤتمراتها المحافظ عليها، مثل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE)، ونادي باريس، ونادي لندن.. الخ. وهي تنظم في المجال الاقتصادي في عدة تنظيمات مثل "الاتحاد الأوربي، ومؤتمر التعاون الاقتصادي لدول آسيا، المحيط الهادي
(
APEC)... الخ. وهي تسيطر على المنظمات الدولية الشاملة عبر تنظيماتها الرئيسة، وفي المنظمات الأكثر أهمية. وتتطلب أن يكون التمثيل متوازناً بين البلدان، "صندوق النقد الدولي، البنك الدولي" وينزع هذا النادي الصغير، المشكل من عدة بلدان، من البلدان الرأسمالية الغربية في غالبيتها: "أوربا الغربية، أمريكا الشمالية، اليابان" إلى التوسع نحو الكتلة الشرقية السابقة، ونحو بعض البلدان (البارزة) "المكسيك، الأرجنتين، كوريا الجنوبية، تايوان...الخ". وفي نطاق هذه المجموعة نفسها، لبعض البلدان فيها ذاتها، امتياز أكبر، ولها وحدها الإمكانية للانتقال إلى المستوى الثالث في النظام الدولي. وتقسم هذه المرحلة إلى شقين، الشق السياسي، لا يحتفظ به إلا للفئة المخصصة للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن حصراً فقط؛ خمس دول تملك مفاتيح هذه الفئة. والذين هم- عن طريق الصدفة الغريبة- المالكون للأسلحة النووية رسمياً وعلناً. والشق الثاني، هو شق اقتصادي، وهو مجموعة الـ(7) المشكلة من سبعة بلدان الأغنى في الكرة الأرضية والتي تميل لأن تصبح "مجلس إدارة للعالم"، وتفرض وجهات نظرها على شؤون اقتصادية متعددة، بل أيضاً سياسية.
وهناك نوع خاص، يجب أن يكون محتفظاً به من الطبيعي للأقوى من بين الدول على الكرة الأرضية، كونه قوة اقتصادية، وأيضاً سياسية، وعسكرية في آن واحد. وللولايات المتحدة، بالتأكيد، الوسائل لفرض إرادتها على العالم، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. مع ذلك تمتلك قدرات ونفوذاً لا يجاريها فيها أحد. ويعطيها دورها الأساسي في الأمن الأوربي، وفي الشرق الأوسط، وفي آسيا، لحماية مصالحها، أيضاً مسرحاً سياسياً في المنافسة الاقتصادية الدولية.
ويقدم القلق والهم المستمرين لدى الدول الصغيرة، من أجل حماية نفسها من هيمنة الكبار، استدلالاً بأن ظاهرة القوة المهيمنة لم تختف. إذ يسكن في ثلثي الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة أقل من عشرة ملايين مواطن في كل واحدة منها. وهذه الدول الصغيرة، تتعلق بدبلوماسية متعددة الجوانب، لحد أقصى، التي سمحت لها بالوجود، وفي توضيح أفكارها، وفي مقاومة ظاهرة "التبعية" للقوى العظمى، وجدت بعض الدول الصغيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الطريقة للتأكيد على وجودها نظرياً على الأقل، وتعتبر أنه يمكن للمنظمة أن تضمن سير عمل أكثر مساواةً، وأكثر عدلاً في المجتمع الدولي.
ƒتبدلت عوامل القوة في الحقبة الراهنة: قوة الدولة محددة بطاقاتها على التأثير على العلاقات الدولية، وفي قوة تأثيرها على الحياة الداخلية. وهذا يعني، قبل كل شيء، بأن تجد أمة ما المصادر التي تسمح لها بالظهور على المسرح الدولي. فالقوة مفهوم نسبي، يشتق إذن من مقارنة جملة عوامل داخلية من القوة، ويمكن محاولة تحليل نوعي لعوامل متعددة دون الادعاء بتسوية معادلة للقوة.
يبدو أن الأرض فقدت مدلولها كعامل قوة:
قديماً، وجدت الدولة الأساس لسيادتها في الأرض، فكانت الأرض مصدراً للثروة: الزراعة، ثم الصناعة "في المراكز الحضرية، ثم الثروات الطبيعية". ولم تكن الأرض مكاناً دارت عليه الحروب ومن هنا "الأهمية الاستراتيجية"، بل كانت رهاناً لازماً. أما اليوم، فلم يعد مجدياً لبلد ما أن يمتلك مساحة واسعة مزود بإنتاج زراعي ومواد أولية في عالم مفتوح ومتغير أكثر فأكثر. فلم يتمكن الاتحاد السوفياتي السابق من تجنب انهياره الاقتصادي، على الرغم من اتساعه الهائل السابق، في حين وطدت كل من ألمانيا واليابان اقتصاديات قوية على أراضٍ ضيقة بعد الحرب العالمية الثانية. كما لم تعد المنافذ على البحر تشكل عاملاً حاسماً، فأصبحت الموانئ مشروعات عالمية غاطسة في عالم شديد التنافس، مثلها مثل الشركات البحرية الكبرى.
فهل أصبح الاقتصاد العالمي، لا وطن له (Aterritoriale)، ليس فقط في الحالة التي بقي على أساس اقتصاد مجسد فيها. إذ تكشف المعامل واليد العاملة والنقل، الضغط الطبيعي. مع ذلك، تبقى إحدى الرهانات الكبرى للعولمة، المحافظة على المنافسة على المناطق، وستبقى المناطق الغنية والواسعة أوراقاً رابحة دوماً. ويتحدث فرانسوا جوايو (Fransois Joyaux) عن الصين كـ"قوة إقليمية لها قابلية القوة".
باختصار، فالأرض ليست متغيراً، بل ثابتاً في معادلة القوة، فبدون الأرض، لا شيء، لكن لا تضمن الأرض الواسعة القوة له، بالنسبة لبلد ما.
إن الجغرافيا السياسية كما يشير اسمها، هي تنمية الوسط الجغرافي الذي تسجل فيه السياسة الدولية. وقد عرفت الجيوسياسة، ساعة انتصارها، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويعتبر الألماني فريدريك راتزل Friedrich Ratzel عالم الجيوسياسة الكبير، وكذلك الألماني كارل هوشوفر karl Haushofer أن الدول كمنظمات أو هيئات جغرافية، حيث الحدود مدعوة لأن تتغير، ويجردانها من مفهوم "المجال الحيوي". ويعتبرها ليبنسروم Lebnsraum على أنها ضرورة من أجل بقاء الأمة؛ ومن أجل أمنها، في آن واحد. فالجغرافيا السياسية هي "ضمير الدولة الجغرافي" بالنسبة لهؤلاء. ويعرض البريطاني هالفورد ماكندر Halford Mackinder عام (1919) أن الجيوسياسية، هي التَّمَفْصُل بين الأرض المركزية "قلب الأرض" "Heart Land" والجزيرة العالمية (World Island). ومن يسيطر على الجزيرة العالمية أوراسيا "أوربا وآسيا"، يمكنه أن يتسبب في فشل القوىا لبحرية "الولايات المتحدة، المملكة المتحدة". ويطري هوشوفر، الذي يتقاسم هذا التحليل، موضوع إعادة بناء أوراسيا، بواسطة تحالف ألماني- الاتحاد السوفياتي- اليابان، من أجل إفشال سياسة الأنا كوندا Anaconda- أفعى ضخمة من فصيلة البُوا- أي القوى البحرية التي تخنق ضحاياها.
لقد جرى توجيه الاتهام للجغرافيا السياسية على أنها هي التي أوحت للنازية سياستها الخارجية منذ زمن بعيد، مع ذلك، تجد اليوم بعض التشجيع ثانية، وهناك لا زالت بعض المفاهيم، كالمعارضة بين القوى القارية والقوى البحرية، تحتفظ بملاءمتها، ومطبقة في العلاقات الدولية المعاصرة. مثال ذلك، المعارضة بين الصين واليابان، وكتب كتاب آخرون، مثل ميشيل فوشيه Michel Foucher وإيف لاكوست Yves Lacoste، أعمالاً عديدة حول الجغرافيا السياسية. ودرس جويّو الجيوسياسية للشرق الأقصى ببراعة.

ƒتنتج الثروة الاقتصادية من الديموغرافيا بواسطة مستوى التنمية، وهي من الطبيعي العامل الحاسم للقوة: إن قياس الثروة الاقتصادية صعب للغاية: يمكن حسابها بالناتج الداخلي الخام. وهذا ما يميز القوى الاقتصادية "المُعَوْلمة" بقوة. وأدخل صندوق النقد الدولي دليلاً أو مرشداً آخر، عام (1993)، سماه (الناتج الداخلي الخام) (PiB) المتكافئ مع القوة الشرائية التي تأخذ بالحساب الظواهر الأكثر قابلية للقياس "مثل الاستهلاك الذاتي، مقارناً بمستوى الأسعار بالنقد".
إن التنمية الصناعية والتكنولوجية، هي عامل نسبي للقوة، لأنها تقاس بالتقدم الذي حققه بلد ما على بلد آخر، والحالة هذه، فمن الصعب جداً، المحافظة على التقدم التكنولوجي. وتلعب نتيجة اللحاق لبلد ما ببلد آخر لصالح البلدان المتنافسة: فكانت الولايات المتحدة في موقع ملائم لدرجة قصوى عام
(1945)، ثم أصبحت مُجابَهة بمشاكل المنافسة منذ مطلع الستينيات (1960).

ويؤثر تشكل الثروة، على القدرة في الوقت نفسه وتترجم القوة الاقتصادية لبلد ما في أغلب الأحيان، بالقدرة المالية. فقد استفادت الولايات المتحدة زمناً طويلاً وتستمر للآن من دور الدولار كعملة مرجع، وأصبح اليابان، الدائن الأول عالمياً ويملك سيطرة نسبية على تطور نقده، وربما ستربح أوربا غداً إذا توصلت إلى تحقيق الوحدة النقدية.
ƒتؤثر الديموغرافيا في البلدان المتطورة أكثر مما تؤثر في البلدان الفقيرة:
لا تزال الصين والهند بلداناً نامية، وتتأثر بالتأكيد من خلال سكانها، لكن لا تشكل الجموع القوة بعد الآن. بل إن تضافر رقم السكان ومستوى التطور هما المعتبران. فقد استطاع كل من الاتحاد السوفياتي السابق، والولايات المتحدة أن يتساويا من حيث عدد السكان، لكن اليوم، ففي حين لا تمثل روسيا سوى عدد من السكان انخفض إلى (150) مليون مواطن، أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الأولى على الكرة الأرضية، فهي البلد المصنع الأكثر، والأكثر سكاناً حوالي (270) مليون.
ويجب أن يكون الرقم المجرد للسكان متناسباً مع النسبة المائوية للعاطلين عن العمل، الذين يشكلون أرقاماً لا يستفاد منها، بل عبئاً على الاقتصاد الوطني، كذلك هي حال النشاط الديموغرافي. وتعرف معظم البلدان الصناعية، خصوصاً اليابان وألمانيا، نقصاً في عدد الولادات حالياً، مقترناً بإطالة مدة العمر. وقد نمَّى العجز في عدد الأطفال حصة البالغين في سني العمل وفي نسبة الأشخاص المسنين، ويمكن أن تقود الشيخوخة الديموغرافية إلى ضعف اقتصادي، وذلك نتيجة الأعباء المتزايدة، لإعاشة المتقاعدين.
ƒتعتمد القوة العسكرية على القوة الاقتصادية لكن يمكن أن تصبح عاملاً ذاتياً للقوة مستقلاً على المدى القصير: يجب توفر الزمن لتحقيق القدرة الاقتصادية وتحويلها إلى قوة عسكرية في الواقع، وتُفسّر نجاحات ألمانيا واليابان في الفترة (1939-1942) بسبب البطء في حشد خصومهما لمصادرهم المتفوقة جداً. ثم رجح التفاوت في القوى الاقتصادية ضمن مدى قصير، عندما بدأ الحلفاء في إنتاج دبابات أكثر بأربع مرات، وكذلك الأمر في الطائرات، مما كان ينتجه أعداؤهم، بعد عام (1942)، عندها لعبت النتيجة دورها تقريباً.
وإذا كان التوازن في الترسانات النووية قد فقد مدلوله منذ نهاية الحرب الباردة، تهيمن الولايات المتحدة اليوم في مجال الأسلحة التقليدية، فليس هنالك من بلد يعادل قدرتها على الانتشار خارج حدوده، وهذا يعطي الولايات المتحدة قدرة على التدخل خارج حدودها، في الشؤون الدولية، كما يعطيها قدرة على التدخل في شؤون البلدان الأخرى، ويكشف ذلك، أن لا تعتبر هذه القوة مكتسبة بصورة نهائية، فإن تجمع الوسائل الأوربية، وصعود الاقتصاد الصيني السريع وبقوة، وكذلك في بعض بلدان آسيا، سيضاعف من سباق التسلح من جديد، ويمكن أن يتسبب ذلك الأمر تهديداً للرجحان المطلق الذي تستفيد منه واشنطن اليوم، في هذا المجال.
ƒالقاعدة السياسية والاجتماعية في بلد ما، هامة في الوقت نفسه
يمكن لبلد ما موجه بنوع من الحزم، ومستقر سياسياً واجتماعياً، أن يفرض نفسه على المسرح الدولي، بسهولة أكبر.
وتلعب العلاقة بين الرأي العام والحكومة دوراً لا يمكن إنكاره في مجال الأفكار عن السياسة الخارجية. وتتخذ بعض القرارات بسبب أثرها المسبق الحاسم على الرأي العام الداخلي. في الوقت نفسه يمكن أن يصبح الرأي العام عائقاً أمام سياسة حكومته.
ƒأخيراً تحدد العوامل التاريخية والثقافية استخدام القوة أيضاً لكل من فرنسا والمملكة المتحدة، سياسة خارجية ذات نزعة دولية، عن طريق روابطهما التي نسجاها خلال الحقبة الاستعمارية مع عديد من البلدان. فتستخدم فرنسا اللغة الفرنسية كأداة سياسية، وتلتزم كل من ألمانيا واليابان، على العكس من سلوك الدولتين السابقتين، بسبب آثار الماضي، وتلتزم (بالتصرف كقوى مدنية)، ويبدو أن تعدد الجوانب في سلوكها، هو السبيل المضمون الأكثر من العودة لسياسة القوة.
ƒتُمارَس القوة في نطاق متعدد الجوانب اليوم: ترجع تعددية الجوانب، في العلاقات الدولية، إلى مؤتمر فيينا، "ولادة حكم المديرين في أوربا"، وإلى أول منظمة دولية "الاتحادات الإدارية، من ثم عصبة الأمم، فالأمم المتحدة". ثم جعلت الولايات المتحدة من تعددية الجوانب محوراً لسياستها الخارجية، بعد عام (1945). ويتعلق الأمر بفَدْرَلة "من الفدرالية" حلفاء واشنطن حول قيم وقواعد مشتركة. إذ تتجنب القوة الأمريكية الفائقة- في بعض الحالات- السبيل الفظ، لكن "ليس دائماً" من أجل الهيمنة، وتحقيق مصالحها، وتفضل بعض الطرق الأكثر براعة لتحقيق هيمنتها. فعلى سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة نفسها في أمريكا الوسطى وفي الحرب الكورية وفي فيتنام التي تحولت إلى عار وهزيمة منكرة لحقت بواشنطن. ثم استفادت من فرصة تفردها كقوة أعظم وحيدة لتشن حرباً مدمرة على العراق، واستقرت بقوات كبيرة وفاعلة في منطقة الخليج العربي، وتعطيها هذه الأدوار هيمنة على حلفائها أحياناً، تفرض عليهم ما تريد، خاصة تؤمن لها منظمة حلف شمال الأطلسي تواجداً قانونياً مستمراً في أوربا16، كما تستخدم الولايات المتحدة شبكة التنظيمات الدولية، مثل "صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية (OMC) وحلف شمالي الأطلسي، ومنظمة معاهدة جنوب- شرقي آسيا (OTASE)... الخ، ومجلس الأمن" لتحقيق مطامعها. وسوف تزداد مقاومة هيمنة الولايات المتحدة مع الزمن، إذ أخذت بوادر ظهور عالم متعدد الأقطاب لتحل محل الهيمنة المفردة للولايات المتحدة.
ويجب أن يصبح النظام الدولي، نظاماً نتيجة لثمرة تعاون بين الدول، بعد اليوم، لا هيمنة بعض منها على البعض الآخر. ويجب أن تأخذ المنظمات الدولية دورها وكذلك القوى الإقليمية، وتمارس نفوذاً حقيقياً" وهكذا يجب أن تتضاعف العمليات المؤسساتية في العلاقات الدولية من أجل التعايش السلمي بين الدول17، وليس فقط طبقاً لمصالحها الأنانية.
إذ يفرض التاريخ والنظرية، دواماً وتطوراً في العلاقات الدولية، لا عملية جعل القانون الدولي أداة مرتبطة بمفهوم قديم جداً عن الدبلوماسية.
ويشهد التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والعولمة والتحول الجذري في شروط اللجوء للقوة في العلاقات الدولية تشهد على التطور المستمر في المجتمع الدولي، ويجب أن يأخذ كل تحليل للعلاقات الدولية هذين المظهرين بالحساب ومحاولة التوفيق بينهما.

¾¾

¡ الهوامش:


1-J.Combacus- S. sur, Droit International Public, Montchrestien, 1995.
2- Par Exemple au Début du XIIIe Siecle, Lorsque le Roi de France Philippe Auguste Repudie sa Femme Isambour.
3- Cité par Victor L. Tapié, la Guerre de Trente ans, Stedes 1989.
4-“Le Principe de Toute Souverainete Reside Essentiellement dan la Nation (Article 3 de la Declaration de Droits de l’Homme et de Citoyen.
5- Morton Kaplan, System and Process in International Politics, 1957.
6- In M. Grawitz et Jern Leca, Traité de Science Politique, puf, 1985.
7- Reflexion sur la Monarchie Universelle en Europe.
8- Ces Expressions sont Respectivement Employées par Vattel, F. Attar et M. Chemillier- Gendreau.
9- Regards sur le monde Actuel (1931).
10- Le Fonctionnement de la Cour Permanente de Justice Internationale, de la cour Internale de Justice Et des Tribunaux Arbitraux.
11- La cour de Cassation est L’instance Supreme de L’ordre Juridictionnel Judiciaire, Comme le Conseil d’Etat est l’Instance Supreme de l’Ordre Juridictionnel Administratif.
12- Francis Fukuyama a developpé sa these dan la Fin de l’Histoire ou la Dernier Homme.
13- Z. Laidi un Monde Prive de Sens Fayard 1994.
14- R. Koselleck, le Futur Passé ehess, 1990.
15- Claude Levi- Strauss, Race Histoire, 1968.
16- L’Empire Etles Nouveaux Barbares Lattes 1991.
17- CF. Kenneth Waltz, Theory of International Politics 1979.

¾¾¾

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-03-2013, 10:20 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي

الفصل الثاني :
عولمة وتصدع شمال- جنوب




جاء في كتاب روبر ريش Robert Reich "الاقتصاد المعولم" ما يلي: "نشرع اليوم بالعيش في تحولات ستعيد تركيب الناس والاقتصاد في القرن الواحد والعشرين. وسوف لن يكون بعد الآن منتجات وتكنولوجيات وطنية، ولا شركات وطنية، ولا صناعات وطنية. كما سوف لن يكون هنالك اقتصاد وطني حسب المفهوم الذي نتمسك به اليوم، على أقل تقدير. وسيبقى العنصر المُتجذِّر الوحيد داخل حدود البلاد: الأشخاص الذين يشكلون الشعوب، وستصبح الكفاءات وأصحاب البصر النافذ لدى مواطنيها، هم النشيطون الرئيسون لكل شعب".
فهل أصبح الاقتصاد في طريقه إلى تغيير العالم، والعمل على إزالة مفهوم الدولة/الأمة؟. مع ذلك، لا يتماثل المسرح الاقتصادي العالمي مطلقاً مع هذا العالم المتنافس الصريح، حيث يعمل فيه الاقتصاديون كمرجع لإثبات شرعية نظرياتهم، وإن التصدع العميق بين ثروات "الشمال" الأكثر ازدياداً فأكثر، وجماهير "الجنوب" ذوي الناس الأكثر فأكثر، يثير هذا التصدع تحدياً حقيقياً أمام أجيال المستقبل.
آ-نطاق متعدد الجوانب

أصبحت المملكة المتحدة حتى الحرب العالمية الأولى، قطب السوق الدولية الأول، بعد إلغاء القوانين المتعلقة بالحنطة (corn laws) عام (1846) ووسمت ذلك التحول في حرية التبادل، وعرفت التجارة الدولية حينئذٍ ارتفاعاً حقيقياً، إذ تضاعف حجمها مرات خلال الفترة (1860-1913). ثم اخْتلَّت تلك السوق بين الحربين العالميتين من واقع عدم الاستقرار النقدي، ومن واقع الحمائية المتزايدة، والكساد الكبير الذي أدى إلى انكفاء الأمم على نفسها، وحماية أسواقها.
وتُطْرح مسألة التنظيم الاقتصادي من جديد، في نهاية الحرب العالمية الثانية. حيث جرى عقد مؤتمر في بريتون وودز Bretton Woods، المدينة الصغيرة في الولايات المتحدة الأمريكية في تموز عام (1948) ضمَّ (44) بلداً- منها الاتحاد السوفياتي السابق- الحليف ضد ألمانيا النازية واليابان. وتقرر تلك البلدان، إنشاء نطاق متعدد الجوانب، سيسمح ببلوغ أهداف ميثاق منظمة حلف شمالي الأطلسي، وميثاق الأمم المتحدة، بحجة المحافظة على السلام، وانطلاقاً من الفرضية القائلة: إن الكساد الكبير عام (1929) هو أصل الحرب العالمية الثانية، وأرادت الولايات المتحدة، من خلال ذلك المؤتمر، إبدال التسويات الطوعية للاقتصاد الحر، بتعاون دولي أكثر طوعية، حيث خرجت واشنطن من حقبة أصبح التقليد الليبرالي مهماً فيها بشكل شديد، نتيجة تدخل الدولة (حسب مفهوم التوزيع الجديد (New Deal).
وتوجب أن تكون المؤسسات المتوقعة، ثلاثة أعداد: بنك دولي لتسهيل إعادة إعمار أوربا والتنمية فيها، ثم خدمة نقد دولي لضمان استقرار تبديل العملات. وأخيراً منظمة دولية للتجارة، تسمح بتنمية أو تطوير التبادلات. وإذا كان ذلك النظام لم يعرف النجاح الذي وعد به مُنْشِئوه، فإنه مع ذلك شجَّع على تنمية الاقتصاد العالمي.
1-تقدمت قواعد التبادل الحر منذ عام 1945

ƒوأصبحت الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة (الغات G.A.TT) مخلدة على شكل منظمة دولية للتجارة: واجه المشاركون في مؤتمر بريتون وودز، إنشاء منظمة دولية للتجارة بهدف تأطير التبادل الحر عن طريق المراقبة البنيوية، وبالاستخدام الكامل للاستثمارات الأجنبية، حسب قانون المنافسة، ومن أجل الاستقرار في أسعار المواد الأولية، وذلك استناداً إلى اقتراح من كينس (Keynes) والمتطرفين (Maximalistes) من إدارة الرئيس الأمريكي روزفلت، جرت المفاوضات في نطاق المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة خلال الفترة (1946-1948)، ثم تم التوقيع على اتفاق تحرير المبادلات في تشرين الأول عام (1947) على نحو "مؤقت"، سرى مفعوله منذ الأول من كانون الثاني عام (1948): وكان ذلك ما سمي بـ"الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة- General Agrement on Tariffs and Trade". ولم يتم التصديق على ميثاق هافانا، الذي تم بموجبه إنشاء منظمة دولية للتجارة بالمقابل عام 1948، من قبل الولايات المتحدة التي خشيت تآكلاً في سيادتها، حسب ادعائها، وجرى دفنه بسرعة.
ومع أن (الغات) لم تكن سوى اتفاق دولي بسيط، لكنها أصبحت مزودة بأمانة عامة، وأصبح لها مقر في جنيف، احتشد فيه (400) شخص مع الزمن، تحت قيادة وتوجيه أمين عام تنفيذي، الذي أصبح تحت اسم (المدير العام) منذ عام (1960): ولما كان نظام (الغات) محدداً كـ"تحريري مؤسساتي" فإنه يترك حرية الأسعار وتحرير المبادلات، دون تأطير العمليات المالية الدولية، وأُنشئت آلية مؤسساتية من أجل ضبط المنافسة الدولية- بدائية بالتأكيد- وشكل ذلك فرقاً رئيساً بالنسبة إلى نظام الاتفاقيات ثنائية الجانب للتبادل الحر في القرن التاسع عشر.
ƒحددت (الغات) قواعد التبادل الحر دون فرضها، وساهمت في سرعة التصرف التجاري الذي حدد بثلاثة مبادئ:
مبدأ عدم التمييز: يتضمن بنداً بشأن الشعب ذو الأفضلية الأكثر، يجبر كل طرف من المتعاقدين على التوسع نحو جميع الأطراف الأخرى في الاتفاق، آلياً، مع تسهيلات تتعلق بالتعرفة، أو غير المتعلقة بها، والتي جرت الموافقة عليها لطرف ما من بينهم. كذلك حدود القيود المقرر غرضها، والمتوافقة مع قواعد (الغات)، وهذه القواعد هي التي أسست طبيعة تعدد جوانب (الغات)، مع قطيعة مع الاتفاقيات التجارية الليبرالية (بين بلدين)، والتي كانت متواترة قبل عام (1945). وتمنح قاعدة التعامل الوطني بفضل المبدأ نفسه، للطرف الموقع، تطبق مبدأ المعاملة الأقل ملاءمة من تلك المطبقة على إنتاجها الخاص، على منتجات مشابهة قادته من أطراف أخرى.
ويجبر مبدأ المبادلة: كل دولة تستفيد من نقض التعرفة، أو غير التعرفة تطبيق المبدأ نفسه بدورها. ويجب عدم الخلط في هذا المبدأ مع التساوي في التعرفات التي يمكن أن تتسبب بالارتفاع.
أخيراً مبدأ الشفافية: يجبر الدول أن تُحِلَّ محل إجراءات الحماية غير المتعلقة بالتعرفة "كوتا، سعر الحد الأدنى... الخ" بتعرفات قليلة للتبادل بشكل أكثر سهولة.
تتضمن كل من هذه المبادئ استثناءات: يمكن استبعاد مبدأ عدم التمييز لأسباب تتعلق بالأمن القومي، أو من أجل إنشاء منطقة تبادل حر، أو اتحاد جمركي، ويجب أن لا يمنع مبدأ المعاملة بالمثل بلداً نامياً من الشروط الملائمة للتصدير أو من أن يمنح نفسه حمايات تعرفية، أو غير تعرفية خاصة، وقد تمت ترجمة هذا الحق الخاص بالبلدان النامية اعتباراً من عام (1964)، عن طريق انضمام طرف رابع إلى منظمة (الغات) مستثنى من البلدان النامية من الالتزام بالمعاملة بالمثل عن طريق "تبني نظام أفضليات مصمم"، مؤقتاً حتى عام (1971) ونهائياً حتى عام (1979)، وجرى ذلك التعديل في مؤتمر طوكيو راوند. مع ذلك، بقيت كل دولة من الدول المتطورة، سيدة في توسيع أفضلياتها التي تمنحها لائحة البلدان التي ينتظر أن تستفيد منها.
ولم يمنع مبدأ الشفافية اتخاذ إجراءات تتعلق بتحديد الكمية للبلدان التي تواجه صعوبات في ميزان مدفوعاتها، من المحافظة على النظام، وعلى الصحة العامة وعلى المصادر الطبيعية، خصوصاً البلدان النامية، ولأسباب تؤثر عليها.
أخيراً، سمحت (الغات) بإجراءات حماية وحيدة الجانب في حال المنافسة (المخادعة) "إغراق الأسواق بالبضائع أو تلقي مساعدات مالية للتصدير1، أم في حالة "الاستعجال" كشرط للحماية من أجل تنمية طارئة ناشئة عنها ضرر كبير بالنسبة للصناعة الوطنية، أو في حال نقض التصويت بأغلبية الثلثين من قبل الأعضاء في (الغات) في حال "ظروف استثنائية". ولا يمكن أن تصبح الإجراءات الثأرية متخذة، إلا بعد تسمية "جماعة تحقيق" من خبراء يكلفون بتحديد فيما إذا كان هناك خرق للاتفاقيات التجارية والقرارت أم لا. وليس لقرارات جماعة التحقيق أي تأثير إجباري.
لقد خلقت (الغات) دينامية نتيجة تحرير المبادلات، وذلك بتنظيم دورات للمفاوضات التجارية متعددة الجوانب: لقد جرت المفاوضات التجارية متعددة الجوانب الأولى في ظروف إعادة البناء "في جنيف عام
(1947)، ثم أنيسي
Annecy عام (1949)، ثم تركاي Torquay2 عام
(1951)، ثم جنيف من جديد في الفترة (1955-1956)". وتوصلت إلى إجراء خفض انتقائي على التعرفات، خصوصاً في حصة الولايات المتحدة على بعض المنتجات، على نحو قوي.

ثم جرى خفض هام وشامل على التعرفات على مجمل المنتجات، وليس فقط على بعض منها، نتيجة تسارع المبادلات في الستينات (1960)، على أثر ديلون راوند (Dillon Round) (1960-1961) ثم كندي راوند (1964-1967)، وبالإجمال، فقد خُفِّضت التعرفة الجمركية من 40% إلى 7% في عام
(1967)، كما جرى تبني قانوني حول الإجراءات المضادة للإغراق
(
Antidumping)، وعلى الضوابط من أجل الكفاح ضد الروح الحمائية بواسطة الضوابط والمعايير.
ثم أججت الأزمة الدولية، انطلاقاً من مطلع السبعينات (1970)، التوترات التجارية، وتفاقمت نتيجة عدم الاستقرار في المبادلات، وتوصلت طوكيو راوند (1973-1979) مع ذلك إلى خفض السعر المتوسط على المنتجات المصنعة بمقدار (4.7%)، وامتصت العديد من "عوامل هدم التعرفة Picstarifaires" "أي الأسعار المرتفعة جداً في بعض المنتجات"، وثبتت في الوقت نفسه، إجراءات جديدة مضادة للإغراق، لكنها أخفقت فيما يتعلق بإلغاء التقييدات الكمية.
وبدأت دورة جديدة في تشرين أول (1988) في بونتادل إشي Punta del Este، في الأوروغواي، ومنها اسمها أوروغواي راوند، أتاحت الفرصة لمفاوضات حية، لم تنته إلا في كانون الأول (1993). وأصبح حقل المفاوضات مفتوحاً أمام الخدمات والزراعة هذه المرة. وانتهت المفاوضات بشأن الخدمات إلى "اتفاق عام حول تجارة الخدمات- (GATS) Accord General Sur le Commerce de Services، ثم أجّلَت المفاوضات الشائكة بشأن السمعيات البصريات والخدمات المالية والنقل إلى جولات أخرى، وتضمنت الـ(GATS) اتفاقاً عاماً في مجال الملكية الثقافية (TRIPS) “Trade Related Intellectual Property Rights”، يحمي في المستقبل والدفعات"حتى إذا لم يعترف بأسماء المصادر" والشهادات لمدة عشرين عاماً".
في الوقت نفسه، تابعت جولة أوروغواي خفض الرسوم الجمركية، معيدة النسب المتوسطة للرسوم على المنتجات الصناعية إلى 3% كما لم يعد هناك رسوم كلياً على بعض المنتجات "البيرة، المشروبات الكحولية، مواد البناء، المواد الطبية، المنتجات الصيدلانية، الأثاث المنزلي، الحديد، المعدات الزراعية"، في حين حافظت بعض المواد على رسوم تصل إلى (10%) كحد أقصى "ذاكرات معلوماتية، السيارات، الألمنيوم، المنتجات الكهربائية". وتوجب أن تصبح اتفاقيات التقييدات غير الجمركية "على المنسوجات والسيارات بشكل خاص" ملغاة، خلال عشر سنوات، حتى إذا كانت إجراءات الحماية ستبقى ممكنة. وجرى تحديد قانون الإعانات المالية الخاصة بالصادرات بشدة.
وحددت (الغات) قليلاً من القواعد، بصدد المواد الزراعية، إذ سمحت بتقييدات كمية "بشرط إقامة مراقبة على الفوائض المُشَوِّشَه بالنسبة للسوق العالمي". كذلك الإعانات على الصادرات "منذ أن لا تسمح بربح أكثر من حصة معادلة للتجارة الدولية"، وأصبح بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية فرض نظام الحصص "الكوتا" على بعض وارداتها، مثل "السكر، لحوم البقر، الحليب، القطن، الفول السوداني". وتَمَّ قبول السياسة الزراعية المشتركة للأوربيين "حسومات على الواردات، استعادة على الصادرات" في الوقت نفسه، مقابل حرية دخول الزيوت والمنتجات البديلة عن الحبوب، ولم تمنع هذه الحمائية
(
Protectionnisme)، لا التحديث في قطاع الزراعة، ولا التنمية السريعة في التبادلات، في المرحلة الأولى. ووجه لها الاتهام اعتباراً من الثمانينات (1980) بسبب الفائض المتزايد وعدم التوازن في الأسواق الزراعية.
وأنجزت التسوية في الأوروغواي راوند مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي- بعد مفاوضات صعبة، وقد مثلت معاً 40% من الصادرات الزراعية- الغذائية العالمية. ويُتوقَّع خفض 20% على الدعم المقدم للزراعة، وخفض 36% من حجم الإعانات المالية، والمحافظة على المساعدات المباشرة "الاتحاد الأوربي عن طريق إعفاء متعلق بالسياسة الزراعية المشتركة (PAC) لعام (1992)، وإعادة التوجه في دعمها للصادرات وذلك بنظام مساعدات مباشرة"، على أنه يجب أن لا يتجاوز الحجم الكلي للمساعدات، مستوى الفترة
(1992-1993) حتى عام (2003)، وتمت المحافظة على الإجراءات المتعلقة بالواردات.

وقبل الاتحاد الأوربي وضع سقف للمساحات المخصصة لزراعة نباتات الزينة. وقد طور إنتاجه في الواقع، وذلك بخرق التسوية التي تمت في ديلون راوند3، بعد الحظر المقرر من قبل الولايات المتحدة عام 1973 على صادرات الصويا، الذي جرت إدانته من قبل (الغات).
ƒأنهت المنظمة الدولية للتجارة، النظام الدولي للتبادل الحر: أنشئت المنظمة الدولية للتجارة (Organisation Mondiale du commerce)(OMC) طبقاً لاتفاقيات أورواغواي راوند، بناء على اتفاق مراكش بتاريخ 15 نيسان 1994. وولدت في الأول من كانون الثاني (1995)، و"استولت" على الأمانة العامة التابعة "للغات" في جنيف، وكُلِّفت بتسهيل استخدام وسير عمل جميع الوسائط الفضائية، وجميع الاتفاقيات الخاصة بالتبادل الحر: الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة (الغات)، والاتفاق العام المتعلق بتجارة الخدمات (GATS) والاتفاقية العامة في مجال الملكية الثقافية (TARIPS)، والاتفاقيات متعددة الجوانب، التي لا ترتبط إلا بعدد محدود من الأعضاء "الاتفاقيات حول تجارة المناطيد المدنية الموجهة، الأسواق العمومية، منتجات الحليب ولحوم البقر". وأصبحت أصالة المنظمة الدولية، وإنشاء آلية لتسوية الخلافات إجبارية، لأن الدول التزمت أن لا تتخذ إجراءات ثأرية تجاه شريك يعتبر مخادعاً.
2- تـنشر المؤسسات المالية الدولية، التحريرية في البلدان المتطورة على الرغم من فشل النظام النقدي الدولي:

ƒلقد تفجر النظام النقدي الدولي.
وتتجابه فرضيتان مع بروتون وودز: اعتُبرت الطريقة لضمان استقرار المبادلات، بأنها العامل لتقدم المبادلات التجارية. إنها طريقة كينس فقد تبنى عالم الاقتصاد الانجليزي، آلية للتعويض عن العجز في موازين المدفوعات، التي لم تنقصها عقبة لِتُطِلَّ برأسها، نتيجة لتحققها في بلدان بسبب الحرب العالمية الثانية، وجرى تمويل هذا التعويض من قبل الدول التي كانت تمتلك فائضاً، بشكل لتسمح للاقتصاديات التي أُضعفت من أن تنهض، ويمثل الأمريكي وايت (White) أمة قوية اقتصادياً، نفضل ترك السوق للقيام باللعبة، حسب قواعد السوق التي تجبر الدول العاجزة أن تتبع سياسة تقييد تستهدف تقويم حساباتها.
صندوق النقد الدولي قائم بشكل كبير حسب الفرضيات الأمريكية، وتكون العملات محددة بالنسبة للذهب- إذن بالنسبة للدولار- وتتغير بالنسبة للذهب طبقاً لقيمة ثابتة- ضمن هامش من التقلب محدد بـ(1%) في حال عدم التوازن المؤقت في ميزان المدفوعات بالنسبة لدولة ما- والتي يجب أن تدفع حصة محددة منذ البدء، تساوي وزنها في الاقتصاد الدولي- ويمكن اللجوء إلى "حق السحب"، باقتراض يصل إلى 125% من العملات القوية من حصتها، من أجل دعم عملتها الخاصة، والتعديل في التكافؤ يمكن في حال فقدان التوازن (الأساس)، لكن يخضع كل تخفيض يزيد عن 10% إلى إذْن.
ويجب أن يسمح النظام بتطوير التجارة وتنميتها: إذ يمكن لبلد ما، بحاجة إلى نقد أجنبي لتمويل وارداته، الحصول عليه، وذلك بالاقتراض من صندوق النقد الدولي، لكنه يجب عليه اتخاذ إجراءات تسمح له بإصلاح وضعه- ويوافق على حق السحب من قبل صندوق النقد الدولي مقابل تبني سياسة تستهدف توازن الحسابات الجارية "تقشف في الميزانية".
ولقد دخل صندوق النقد الدولي في العمل منذ عام (1946)، وأصبح يشتمل على (181) عضواً في مطلع عام (1996)، ويدار صندوق النقد الدولي من قبل مجلس حكام، يجتمعون مرة كل عام، ويضم جميع الدول. ومن قبل مجلس إدارة مكون من (24) عضواً، منهم سبعة أعضاء دائمين: "الولايات المتحدة، اليابان، ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة، روسيا، سويسرا"، وتصوت الدول طبقاً لحصتها، ويجب أن تؤخذ معظم القرارات بالأغلبية المؤهلة "85% من أجل تعديل النظام الأساسي أو القوانين وزيادة الحصص" والحصص الأكثر أهمية، هي تلك الخاصة بالولايات المتحدة "18.2% وهذا يمنحها حق النقض على القرارات الأكثر أهمية"، وكذلك اليابان وألمانيا (5.7% لكل منها"، ثم فرنسا والملكة المتحدة "5.1% لكل منها".
والنظام النقدي الدولي قائم على الذهب، ولم يعمل به مطلقاً كلياً حتى عام (1958)، وكان الدولار وحده القابل للتبديل (Convertible). ثم جرى تحقيق قابلية التبديل للعملات الأوربية منذ عام (1958)، أما الين الياباني، فمنذ عام
(1964). ولقد أحْدَث العجز في ميزان مدفوعات الولايات المتحدة منذ عام
(1951)، زيادة في الدولارات، وخلق هذا مضاربة في الحصص، مقابل هذه العملة، ثم دُعِم بصورة مصطنعة من قبل الدول الغربية "بإنشاء تجمع الذهب
(
Pool) عالمياً عام (1960). ثم تمَّ الإعلان أن العملة الأمريكية أصبحت غير قابلة للتحويل في آب (1971) ثم تعرضت الولايات المتحدة في كانون أول من العام نفسه، من ثم في شباط (1973) إلى خفض قيمة عملتها، ودخلت اتفاقيات جامايكا الموقَّعة في كانون الثاني (1976) في التطبيق في نيسان (1978)، أعيد بموجبها الحرية النقدية للدول.
وجرى تأسيس حقوق السحب الخاصة (DTS) Droits de Tirage Spéciau في عام (1969)، حيث أصبحت القيمة محددة بالنسبة للدولار بموجبها، من ثم كسلَّة نقود، هي في الأول وحدة حساب "كل واحد من حق السحب يساوي (1.4) دولار في عام (1997): لكن تلك هي العملة الدولية: وأصدر صندوق النقد الدولي، عدة تخصيصات لحقوق السحب الخاصة، دون عوض من العملات الوطنية. وحقوق السحب الخاصة الممنوحة هي المخزون من الاحتياطات الرسمية، ويمكن لهذه أن يجري تبديلها، مع ذلك، مقابل العملات القوية لدى صندوق النقد الدولي، وفي هذه الحال، أصبح هناك تكوين عملة، والحسنة بأن هذا النظام لا يُشجِّع التضخم النقدي، وأدى بالدول إلى تحديد حصص لحقوق السحب الخاصة "وقد تم خلق (21) مليار حق سحب خاص".
قرعت نهاية النظام النقدي الدولي أجراس استقرار المبادلات:
أصبح هذا الوضع مكسباً، بالنسبة لبعض الاقتصاديين الليبراليين، فإن نسب الصرف، عامل توازن في موازين المدفوعات، إنها ثمن توازن سوق المبادلات مثل الأجرة، يجب أن تكون ثمن التوازن في سوق العمل، وثمن بضاعة في السوق حيث يجري تبادلها. والحقيقة أن الأمر أكثر تعقيداً: فالتبدلات على نسب المبادلات عنيفة جداً أحياناً، وتتسبب في إرباك حسابات الشركات الاقتصادية، حتى إذا عرضت الأسواق أوراقاً مالية من أجل حمايتها.
وحاولت البلدان المصنعة "مجموعة الـ[7]" دون نجاح مستمر في تحسين عملياتها، "اتفاقية بلازا (Blazza) عام )1985)، واللوفر عام (1987)، للكفاح ضد عدم الاستقرار هذا، في الحقيقة، تستخدم نسب التبادل كأداة سياسية واقتصادية وتجارية، خصوصاً من قبل الولايات المتحدة واليابان.
ƒأعيد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للوضع الذي يسمح بتقديم المساعدات للتنمية: أصبح صندوق النقد الدولي أداة سياسية لمساعدة البلدان النامية. ولم يعد يقدم خدمة لمساعدة البلدان هي في عجز أمام المحافظة على سعر عملاتها الخاصة، بل منح "تسهيلات" للبلدان التي تواجه صعوبات: فإذا كانت الشريحات الأولى للقروض غير مشروطة، وتتطلب الشرائح الأعلى إبرام اتفاق "إثبات" أو"إيفاء بالوعد" بواسطته تلتزم البلدان المستفيدة باتباع سياسة استقرار. فصندوق النقد الدولي قد خلق آلية ملائمة ومشروطة بشروط أشد فأشد: آلية توسعت في الاعتمادات عام (1974)، وتسهيلات في الأحكام أو التسويات البنيوية (1986)، وتسهيلات بنيوية مفرزة عام (1987)، وتسهيلات للتحول التدريجي موجه للبلدان في أوربا الشرقية (1993). ويجب على الدولة أن تلتزم برسالة إقرار من وزير المالية، حول سياستها النقدية والميزانية والأجور، ونسب الربح، ونسب التبادل، وإدارة الدين العام، والاتصالات والمعلومات... الخ.
ولم يتوقف دور صندوق النقد الدولي عن أن يتعزز: إذ جرى عقد (13) اتفاق مشروط في عام (1975) و(20) عقد في عام (1979) و(42) عقد في عام (1990). ويميل صندوق النقد الدولي إلى اتباع سياسة مُواكبة أو مُلازمة على المدى المتوسط "ثلاث سنوات حتى عشر سنوات، لتسهيل التسويات البنيوية المعزَّزة" بدلاً من التسبب في مساعدات منتظمة، كما تتطلب نزعته الأساسية. لهذا، فقد أصبح (الدّرَكي الاقتصادي) بالنسبة للبلدان النامية، وعلى الرغم من لاشعبيته القوية، نتيجة الآثار الاجتماعية غير الحسنة، بسبب شروطه، فإنه مفتاح القنطرة بالنسبة للمؤسسات المالية الدولية، فهو الذي يسمح بإعادة جدولة الديون: تخضع المؤسسات الأخرى الخاصة في تدخلها، إلى تلك التي تخص صندوق النقد الدولي- ولقد وافق صندوق النقد الدولي على (15) مليار حق سحب خاصة حسب الالتزامات في السنوات (1994-1995).
البنك الدولي: وجب عليه في البدء، تعبئة رؤوس أموال على المدى الطويل من أجل إعادة البناء في البلدان المدمرة نتيجة الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه المهمة، مكلفة بها الولايات المتحدة مباشرة في الواقع، حسب خُطَّةِ مارشال عام (1947)، وأعيد توجيه البنك عندئذ، نحو مساعدة التنمية. فمنح قروضها على المدى الطويل للبلدان ذات الدخل الضعيف بالنسبة للفرد من أجل تحويل مشاريع قطاعية.
ومع الزمن، أصبح يهتم أكثر فأكثر، بالبيئة الاقتصادية الجمعية MACRO ECONOMIQUE للمشاريع، حيث يعتمد على سلوكيتها. ولقد حدد عام (1980) قرضاً بتسوية بنيوية لتمويل البرامج الإصلاحية الجمعية، التي تكمل غالباً بقروض تسوية قطاعية. ويفرض عندئذٍ (شروطاً عامة) على البلدان ذات العلاقة، ويلعب أيضاً دور الوسيط أو الحافز بالنسبة لمساعدة المنظمات المتخصصة الأخرى: "مثل منظمة الصحة العالمية (OMS ومنظمة التغذية والزراعة و(FAO) والمؤسسات المالية العامة أو الخاصة).
ويتقارب البنك الدولي أيضاً في مجال التدخلات من قبل صندوق النقد الدولي، في حين يقتصر أفقه الزمني بين "ثمانية عشر شهراً وثلاث سنوات". وجرى رفع الالتزامات الجديدة لمجموعة البنك الدولي، بالنسبة للعام (1994) وعام (1995) إلى (45.5) مليار دولار.
تضم مجموعة البنك الدولي خمسة كيانات في الواقع: البنك الدولي لإعادة البناء والتنمية (BIRD)، وقد أُنشئ عام (1947)، ويدار مثله، مثل صندوق النقد الدولي، من قبل مجلس حكام، الذي يستقر فيه، ممثلو جميع الدول الأعضاء، ومن قبل مجلس إدارة شكل من (24) عضواً ولا يمكن لدولة ما أن تصبح عضواً في البنك الدولي، إلا إذا كانت عضواً في صندوق النقد الدولي، ولكل دولة حق التصويت جزئياً، طبقاً (للحصص) التي تمتلكها، بعبارة أخرى، الحُصَّة من رأس مال البنك التي سجلت لها جزئياً فيها، حسب أهميتها الاقتصادية. والحصص قابلة للمقابلة إلى ما يشبه ما لدى صندوق النقد الدولي: (17.5%) للولايات المتحدة و(7.9%) لليابان و(6.1%) لألمانيا، و(5.9%) لكل من فرنسا والمملكة المتحدة.والبنك الدولي لإعادة البناء والتنمية (BIRD) مثله مثل صندوق النقد الدولي، مقره في واشنطن، ويرأسه رئيس أمريكي تقليدياً ويسهم البنك الدولي لإعادة البناء والتنمية بـ (16.8) مليار دولار، قروضاً جديدة في الفترة (1994-1995) .
أنشأ البنك فرعان: الشركة المالية الدولية: ساهمت في عام (1956) في مشروعات أنشئت بمساهمة منها، وساهمت بحوالي (13) مليار دولار كمساعدات في أكثر من (400) مشروع خلال الفترة (1994-1995) ثم الشركة المالية للتنمية (A-I-D) التي أُنشئت عام (1960) وتحول بمساهمات طوعية من قبل الدول- لكن دون التمتع بالشخصية القانونية، وتمنح "اعتمادات" دون فوائد- "في حين يصل البنك الدولي لإعادة البناء والتنمية (BIRD) على فوائد حسب نسب السوق) تسدد ضمن شروط مربحة لتمويل مشاريع ليست مربحة في البلدان الأشد فقراً. ولقد دفعت (5.7) مليار دولار، في الفترة
(1994-1995) وتعتبر الولايات المتحدة المساهم الرئيس في صندوق الشركة المالية للتنمية، إلا أنها قررت خفض مساهمتها بحدود النصف عام (1996).

يشتمل البنك الدولي، أخيراً، على تنظيمين لتسهيل الاستثمار في الخارج: المركز الدولي لتسوية الخلافات، المتعلقة بالاستثمارات عام (1996) والوكالة متعددة الجوانب لضمان الاستثمارات عام (1988).
وتكمل البنوك الإقليمية للتنمية عمل البنك الدولي: حيث تتابع شروط سير عملها، من جانب آخر. فهناك البنك الخاص بالأمريكيتين INTERAMERICAINE للتنمية، مقره في واشنطن، وأنشئ عام (1960) ثم البنك الافريقي للتنمية، مقره في (أبيدجان) والبنك الآسيوي للتنمية، مركزه في (مانيلا) في عام (1966) ثم البنك العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا، مركزه في (الخرطوم) والبنك الإسلامي للتنمية مركزه في (جدة) عام (1973) هذه البنوك مزودة برؤوس أموال من قبل الدول، تعود بالضرورة، إلى المنطقة ذات العلاقة، ويجب عليها تحقيق الأرباح، إذن، يجب أن تُموّل مشاريع مربحة، وهذا يوضح التناقض بين انطلاقة البنك الآسيوي للتنمية والبنك الخاص بالأمريكيتين للتنمية، من جهة، ومصاعب البنك الافريقي للتنمية من جهة أخرى.
في أوربا، أنشئ البنك الأوروبي للاستثمار "حسب معاهدة روما، أعيد تحديده، حسب معاهدة ماستريخ" مقره في لوكسومبورغ يمول الاستثمارات ضمن مجال الاتحاد الأوروبي، وأعمال التعاون في البلدان الأخرى "بلدان الاتحاد الأوربي، ثم بلدان أوربا الشرقية، ثم بلدان البحر الأبيض المتوسط، وينافس جزئياً من قبل البنك الأوربي لإعادة البناء والتنمية (BERD) الذي أنشئ عام (1990) لتمويل التحولات الاقتصادية في بلدان أوربا الشرقية، ويرجع ضعف التمويل في هذا البنك (10 مليار ECUS) إلى القطاع الخاص المساهم في نسبة تقل عن 60%.
وقرر المؤتمر الاقتصادي حول الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية، الذي اجتمع في الدار البيضاء في تشرين الثاني عام (1994)، إنشاء بنك للتنمية في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا.
ب-العولمة

1-حركية وتأحيد UNIFORMISATION في قلب العولمة

ƒلقد جعلت تنمية النقل، الحركية صفة الاقتصاد العالمي: إنه التوسع التقني الكبير للإنسان الذي اجتاز المسافات بالتدريج، إذ ترافقت ثورة النقل مع الثورة الصناعية. وسمح اختراع المركب البخاري في مطلع القرن التاسع عشر، والسكك الحديدية ابتداءً من عام (1840)، والسيارة في ثمانينات
(1880)، والطيارة في أقصى نهاية القرن التاسع عشر، سمح كل ذلك، بانطلاقة هامة في تبادلات البضائع والأشخاص، فاستخدمت الطائرة ذات المحرك النفاث منذ عام (1945) مما زاد في طاقات النقل وجرى تحديث النقل البحري في سنوات (1965-1975) عن طرق المعلوماتية واستخدام المحركات الحديثة، ذات الدفع الذاتي في البواخر، والزيادة في حجم السفن وأصبح يؤمن ثلاثة أرباع حجم التجارة الدولية "يأتي النفط في المرتبة الأولى بالنسبة للبضائع المنقولة بحراً" وتضمن النقل بالطرق البرية الذي جرى تسهيله بالطرق السريعة، التي استخدمت من قبلُ في الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، تطورات الحد الأقصى في مجالات النقل، وكذلك غاطس النقل البحري.

وأدى التقدم التقني إلى خفض تكاليف النقل، وشجع أيضاً على التوسع في المبادلات، وفي التقليل من فائدة القرب، والتخصص المتزايد لبعض البلدان في التجارة الدولية.
وانتظم الاقتصاد الدولي على شكل شبكات وعُقد مواصلات واتصالات التي ترتسم في مجالات متكاملة، بشكل قوي جداً "أوربا الغربية، والشواطئ الشرقية والغربية لأمريكا الشمالية، وضفاف المحيط الهادئ الجنوبية الشرقية الآسيوية ، وتصدر بعض المنتجات الأولية من بعض المناطق الشاطئية للبلدان النامية، في حين بقيت بلدان أخرى هامشية "بلدان العالم الثالث بشكل عام، وداخل البلدان المتطورة، والمناطق الريفية حيث بقيت في حالة من التخلف" وأصبحت الحركية الصفة نفسها للاقتصاد الدولي أيضاً.
ƒالإعلام، العنصر الأكثر حركية على الكرة الأرضية اليوم: الإعلام مرتبط بشروط الحياة الإنسانية نفسها، قبل أن يصبح خدمة يدفع من أجلها: اللغة، التعبير هو مصدر كل شيء، والإعلام جوهري للحياة الاقتصادية، حيث بدونه، لا يمكن للمقاول أن يتوقع، وبالتالي لا يمكنه أن يتحرك عندئذ إن سير عمل الأسواق "المواد الأولية" أو المنتجات المالية، لا يمكن أن يتفاعل إلا عن طريق الانتشار السريع للإعلام".
في الوقت نفسه فالإعلام، هو أساس الحياة الديقمراطية: إذ تطمح المجتمعات بـ "تنوير" أكثر وبـ "شفافية" أكثر وإلى (رعاية) أكثر في الفلك العام، منذ الثورة الثقافية في القرن السابع عشر والثامن عشر. وإن المعركة من أجل حرية التعبير هي أساس الاستحقاق الديمقراطي.
الإعلام هو الثقل المتزايد لوسائل الإعلام، في آخر الأمر. وانطلقت الصحافة التي ظهرت في القرن السابع عشر، وانطلقت في القرن التاسع عشر، وانتشر الراديو ما بين الحربين العالميتين وتعمم التلفاز خلال مرحلة التنامي لما بعد الحرب العالمية الثانية. وتشكل المجموعات الإعلامية ووكالات الأنباء، وسلاسل آقنية التلفاز العالمية، جميعاً، بعداً جوهرياً للعولمة، ولم تتوقف تكاليف الاتصالات عن الانخفاض. مثلها مثل تكاليف النقل، وسهلت التطور الأسّي في تبادل المعلومات. فتسارع البريد بسبب ثورة النقل، قبل كل شيء، الذي لم يسمح بنقل المعلومات "مباشرة" خلال مدة طويلة جداً، ولقد فتحت الأساليب القديمة للاتصالات "كالإشارات الضوئية، التلغراف البصري لمخترعه شاب CHAPPE عام (1827)، ثم أعقبه التلغراف الكهربائي عام (1837)، ثم الكابل البحري "الخط ما بين دوفر كاليه) عام (1852)، وتلفوبِل (1876)، التلغراف دون خطوط عام (1890) فتحت جميعها الطريق أمام الراديو، والتلفاز أطيراً عام (1924) ومرت معالجة المعلومات بعمليات ميكانيكية قبل الحرب العالمية الثانية "معالجة الخرائط المثقبة" إلى ثورة الإلكترونيات فبعد الحاسوب الالكتروني الأول عام (1945) وهو حاسوب قادر على تنفيذ
(1000) عملية ضرب بالثانية)، إلى الحاسوب المترنز
(
TRANSISTORISE) (من الترانزيستر)، عام (1958)، من ثم الحاسوب الإلكتروني ذي الدارة المتكاملة عام (1964) زادت جميعها من التحليلات بشكل كبير. وسهل استخدام الأقمار الاصطناعية اعتباراً من عام (1960) والفيبر البصري، انطلاقاً من ثمانينات (1980) الاتصالات، وتوصل التقارب في المعلوماتية والاتصالات اليوم (وسائل الإعلانات المتعددة" إلى تكامل طرق مختلفة من الاتصالات على الدعامة التقنية نفسها"، من ثم الشبكة الدولية للانترنيت التي توصف بأنها الطريق السري للمعلومات" والتي ربطت ملايين، وغدا مليارات المستخدمين من جديد، على كامل الكرة الأرضية.
وتتطابق العولمة مع الآنيّة، وأصبح الحدث يُعرف بسرعة أيضاً، في مجمل أطراف العالم، وفي نقاط أخرى من البلدان، التي يتم انتاجه فيها.
إننا أصبحنا نعيش في "قرية كونية"، طبقاً لتعبير شائع ومشهور، واستخدم من قبل المارشال ماك لوهان MAC LUHAN وأصبحت الأحداث السياسية أو الكوارث الطبيعية آنيّة ومضخَّمة بشكل لا يقاس في هذا الصندوق الواسع من الرجع أو الصدى.
ƒتميل الثقافة لأن تصبح عالمية: يجب فهم الثقافة هنا بمعناها الواسع، التي تشتمل على سوق الحاجيات الثقافية أيضاً "الكتب، الدسكات.. الخ" وكذلك في مجال الممارسات. والأمر يتعلق بالتأكيد بالثقافة للنخبة كذلك في المجال الفني، حيث اغتنت بالتأثيرات الخارجية دون انقطاع في أي مكان من العالم. ويستمر العالم، مثل العالم العربي، بالاستفادة من تراثه المدهش، في هذه العولمة في مجال الذوق الثقافي، ليرد على هيمنة الثقافة الشعبية ذات الأصول الأمريكية، مثل هولي وود، ووالد ديزني، والجاز، والروك، والهامبرغر، والكوكاكولا وهي الرموز العالمية اليوم لأذواق السينما والموسيقى، وحتى الأغاني المصدرة من الولايات المتحدة لباقي العالم، مثال ذلك النجاحات التي حققها ماك دونالد MAC DONALD بمطاعمه المتنشرة في أطراف العالم، والبالغة (12000) حتى اليوم، أما في مجال الاقتصاد الدولي فهو في الواقع، الأكثر تأثراً بالعولمة والأكثر فعالية.
2-تمُسّ العولمة رؤوس الأموال والبضائع والخدمات والناس، ضمن نظام متناقض:

العولمة، هي المرحلة الأخيرة في التطور الاقتصادي الذي انطلق من الرأسمالية. ويترافق الترابط مع ظهور أحوال دولية ويظهر، عن طريق التقارب في أسعار البضائع.
أما التدويل INTERNATIONALISATION، فهو المتأخر الأكثر، فهو المرحلة التي يظهر فيها الممثلون للشركات متعددة الجنسيات ويتأصلون في أسواق مختلفة، مع ذلك، كانت توجد أسواق عالمية في القرن التاسع عشر، للمنتجات الأولية "الزراعية، أو المنجمية"، ويتدخل فيها الفاعلون الدوليون: أما في المجال الصناعي، فكان ظهور الشركات متعددة الجنسيات السريع" فقد تأصل فورد في بلدان أوروبية عديدة ما بين الحربين العالميتين. وتوسعت الظاهرة مع تزايد المبادلات خلال ثلاثينيات (1930) الرائعة، كانطلاقة متعددة الجنسيات المعاصرة هي في ستينيات 1960.
والعولمة MONDIALISATION: فهي المرحلة النهائية التي تتوافق مع سوق وحيدة، مع أسعار وحيدة.ويستخدم الأنجلو ساكسون، بالأحرى تعبير "الكلياتية- GLOBALISATION"‍ بحيث كون المشروعات كلياتية وإنها تؤدي إلى استراتيجيات كلياتية. وبهذا، يصبح اعتبار السوق العالمي كمجموع وتتم المتاجرة في منتوجات هذه المشروعات في جميع أطراف العالم، وقد وصف روبر ريش طراز هذه الشبكات بأنها المشروع الذي يضاعف من الشركات، وبحيث تلعب التكنولوجيا دوراً متزايداً في هذه السوق العالمية. وبحيث يميل التمييز بين المادة، التي هي "البضائع" واللامادة التي هي "الخدمات" إلى التلاشي. ولا تمثّل قيمة الدعم في مجال المعلوماتية أكثر من 20% من الكلفة الإجمالية لتجهيزها، مقابل 80% "للوجسييل" "كانت النسبة معكوسة حتى عام (1970)، وتهيمن شركات الطيران المُمَولة، لصناعات الطائرات على قطاع صناعة الطائرات.
ƒعولمة رؤوس الأموال، هي الأكثر مشهدية: كان لتطور الأسواق المالية، منذ البداية، عندما انطلق قبل الحرب العالمية الثانية، قصدية تجارية رِبْحْيَّة. وتطور سوق العملات(4) الأوربية، مع تطور المبادلات التجارية وظهور عدم التوازن في موازين المدفوعات، وعلى نحو هام، خلال الثلاثينات الباهرة (1930) وترافق عدم التوازن الجديد الذي حدث بسبب الصدمة النفطية عام (1973)، بتقلبات نقدية أعقبتها تقويماً عاماً للعملات، أدى إلى انطلاقة في سوق رؤوس الأموال العائمة، وعرفت ثمانينيات (1980)، تحقيقياً حقيقيان لصالح عاملين: الشمولية GLOBALISATION أو الكلياتية، من جهة بعبارة أخرى، ظهور شركات أخذت تعتبر السوق الدولي كمجال وحيد وموحد، فيه تركز الإنتاج ويباع في كل مكان رؤوس الأموال، على نحو هام. ويتجاوز تدفق رؤوس الأموال اليومي، على الأسواق المالية الـ (1000) مليار دولار(5)
هذا، وإن الاستثمارات في مجال المستندات المالية، والتي تشكل التوظيفات غالباً ما تكون طيارة، وتقدمت الاستثمارات المباشرة في الخارج أيضاً على نحو هام منذ عام (1980) ويمثل التدفق السنوي كثر من 1% من الدخل الداخلي العالمي الخام في عام (1993) مقابل .0.5%في عام (1980)، أما المخزونات، فقد تجاوزت الرقم من 5% إلى 8%. وتضاعف مخزون الاستثمارات المباشرة في الخارج ثلاث مرات أيضاً في الفترة (1985-1993) أي متجاوزة المبلغ من (700) مليار إلى (4100) مليار دولار (6)
تعتبر اليابان اليوم، المستثمر الأول في مجال التدفق السنوي، تتبعه الولايات المتحدة. أما البلدان المستقبلة الرئيسة، فهي الولايات المتحدة، ثم المملكة المتحدة. وأخيراً الصين منذ عدة سنوات. وقد تلقت مجمل البلدان المتطورة ثلث الاستثمارات العالمية في عام (1993)- وهذا يعني، أعلى مما بلغته في السبعينات (1970) والثمانينات (1980)، بشكل واضح، وتعتبر المملكة المتحدة البلد الذي يستثمر الجزء الأكبر من ثروته في الخارج 25% من الدخل القومي الخام "مقابل 7% بالنسبة للولايات المتحدة" وتحتل الولايات المتحدة، المكان الأول في القيمة المطلقة: (550) مليار دولار، مستثمرة في الخارج، حتى عام (1993)، في حين استقبلت (450) مليار دولار للفترة نفسها، ويستثمر اليابان (250) مليار دولار في الخارج، أي أكثر مما يُستثمر عنده من الخارج.
تشهد هذه الأرقام على تطور الشركات متعددة الجنسيات، حيث تدّعي الكثير منها، كون هذه المشروعات "شاملة"، تُصنع وتوزع إنتاجها على نطاق الكرة الأرضية، وكانت في الماضي، تهتم باستغلال العالم الثالث وتستفيد الشركات متعددة الجنسيات، من صورة أكثر إيجابية، منذ السنوات الأخيرة، وتحاول الدول اجتذابها، وذلك بتبني تشريعات ملائمة للاستثمارات الأجنبية. وتسمح الخصخصة PRIVIATISATION والتشوشات DEREGLEMENTATION نتيجة الاتفاقيات المالية بتشجيع التنمية في المبادلات بين الشركات، لقد أصبح عدد الشركات متعددة الجنسيات (83000) شركة في عام (1993) طبقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والصناعة
(
CNUCED)، تستخدم (73) مليون موظف "أي 3% من مجموع الاستخدام العالمي" وتحقق فروع هذه الشركات في الخارج، وعددها (200000) فرع، 10% من الدخل الداخلي الخام العالمي، وتسيطر الشركات متعددة الجنسيات، على القسم الأعظم من التجارة العالمية: وستصبح (30%) من المبادلات الدولية، طبقاً لأرقام الأمم المتحدة، مبادلات بين الشركات(7) فإذا كان لهذه الشركات متعددة الجنسيات هذا النفوذ الهام في العلاقات الاقتصادية فيجب الاعتماد على سلطتها أيضاً في الفلك السياسي ومثال ذلك الدور الذي ساهمت به شركة (ITT) في قلب نظام أَلّلندي في التشيلي عام (1973).
ƒتقدمت المبادلات التجارية بسرعة أكبر، مما تقدم الناتج القومي الخام الداخلي منذ عام 1945: لقد تجاوزت نسب نمو التجارة الدولية، نَِسَب نمو الناتج القومي الخام الداخلي، بمقدار النصف: إذ بلغ إجمالي الصادرات الدولية الـ (5000) مليار دولار تقريباً عام (1995).
لقد اتجهت حصة البلدان المتطورة نحو التزايد من تجارة السوق في التجارة الدولية، وحصل الجوهري في هذه المبادلات بين البلدان المتطورة، فوصل إلى "56%" في عام (1990) مقابل (40%) في عام (1950)، وحصلت الحصة الأقل أهمية في التجارة شمال- جنوب، فبلغت "28% في عام 1990 مقابل 40%في عام (1950) وتوافق الباقي مع البلدان ذات الاقتصاد المخطط قديماً، وبين بلدان الجنوب، وشهدت الصادرات الدولية، هبوطاً في حصة الزراعة من المنتجات" "من 35% عام (1955) إلى 12% عام (1992) في حين أثبتت المنتجات المصنعة رجحانها "47%من الصادرات العالمية في عام 1990" وتقلبت حصة المنتجات المعدنية تبعاً لتغيرات الأسعار.
ƒلقد تأثرت الخدمات ببطء بالعولمة: تقدمت المبادلات في مجال الخدمات منذ الثمانينات (1980) بشكل هام، وأصبحت تمثل "1200" مليار دولار في عام (1995 وبقيت تجارة الخدمات متواضعة، في التجارة الدولية "أقل من 25% بالنسبة إلى وزن الخدمات في الاقتصاد ولدى البلدان المتطورة "67% من الناتج القومي الخام الداخلي في بلدان الاتحاد الأوروبي" والخدمات أقل سهولة من حيث كونها لا مركزية في الواقع: ويتعلق الأمر في أغلب الأحيان لدرجة ما بـ "الأطباء" المطاعم المهندسين، الحلاقين.. الخ" وتتعلق الحصة الأكبر في هذا القطاع "بالخدمات الاجتماعية والتعليم والعدل والشرطة" أما الخدمات الرئيسة المتبادلة، فهي الخدمات البنكية والمالية، التي تصل إلى (37% من الحجم الإجمالي) أما في مجال نقل البضائع فتصل إلى (33%) والأشخاص إلى 30% والولايات المتحدة هي المصدر الأول للخدمات، تتبعها فرنسا.
ƒالعالم الإنساني، هو العامل الأخير في الاقتصاد الدولي.
يبقى الفرد، على الرغم من تأَحُّد UNIFORMISATION الثقافات وتطور المبادلات الاقتصادية مرتبط ببلاده وبلغته، على الأغلب والأكثر بأرض وطنه، ولا يمكن إهمال نسبة العمال المبعدين عن أوطانهم، لكنها تبقى الأضعف في مؤشرات العولمة. ففي فرنسا يعدون بـ (1.7) مليون مبعد، على سبيل المثال، "حيث نصف هؤلاء المبعدين إجمالاً، هم في أوربا الغربية" وتصل نسبة المبعدين إلى (2.5%) من عدد السكان الإجمالي" وهذا الرقم هو أدنى مما هو عليه الحال في المملكة المتحدة، حيث يصل إلى 6% وفي اليابان إلى 8% وفي إيطاليا إلى 10% وفي سويسرا إلى 12%.
ولم تتوقف الهجرة بالكامل، على الرغم من تطور البطالة في البلدان المتطورة. فقد تزايد عدد السكان الأجانب في ألمانيا بمقدار (800000) شخص، في الفترة (1980-1990) ومن (7.4) مليون شخص في الولايات المتحدة، خلال الفترة نفسها، أما في فرنسا، فقد انخفض العدد قليلاً، "حيث يمثل 6% من مجموع عدد السكان، عام 1990) لكن يجب الأخذ بالحساب، عدد من يتجنسون، لأن تدفق المهاجرين لم ينضب.

أخيراً، يجب الأخذ بالحساب- أن عدد السكان من المهاجرين، يصل عددهم إلى (125) مليون شخص ممن يعيشون خارج بلادهم، بعبارة أخرى أقل بقليل من 3% من سكان الكرة الأرضية.
وهناك ظاهرة أخرى في التحرك الإنساني، يجب أخذها بالاعتبار، وهي السياحة التي تطورت بشكل هام: إذ تواجد (30) مليون سائح عام (1950)
و(130) مليون عام (1970) و(520) مليون عام (1994) بالتحديد "فإنها مع ذلك، لا تشكل سوى خمس إجمالي المتنقلين في العالم" ويتعلق الأمر بتدفق الأوربيين- إذ ينتقل القسم الأعظم من بينهم في البلدان الأوربية الأخرى. ويشكل السائحون اليابانيون والأمريكيون حركات هامة أيضاً.

3-مع ذلك، تبقى العولمة غير تامة.

ƒويبقى النطاق التنظيمي للمبادلات العالمية ناقصاً: إنه من المنطقي والمرغوب فيه أن تكون قواعد التبادل الدولي محدودة، على المستوى الدولي. لكننا بعيدون عن ذلك. فمن جهة لم تنته شمولية –UNIVE RSALITE (الغات): (120) دولة الأعضاء في تلك الاتفاقية فقط وإن الانتساب لهذه المهمة شرط مسبق للانتساب إلى منظمة التجارة الدولية OMC. فلا تزال البلدان الاشتراكية السابقة خصوصاً روسيا والصين مستبعدة ولا تزال حالة الصين مقلقة، بسبب مبادلاتها المتزايدة، وكذلك "مشكلة الإعانات المالية والحماية الخاصة بالرسوم وشهادات المنشأة".
من جهة أخرى، لقد جرى إعداد مبادئ (الغات) بالنسبة إلى بيئة منافسة، والحالة هذه، ليس حسب شروط التجارة الدولية، كما أن تقلبات أسعار العملات، تخالف حساب الوكلاء التجاريين، ويؤثر التبدل في أسعار الدولار، على أسعار البضائع المصنعة والمواد الأولية، حيث يحرر فيه الجزء الأعظم من المبادلات الدولية، ولقد فاقم سعر الدولار المرتفع من تأثيرات الصدمة النفطية الثانية وغمر العالم في أزمة (1979-1985) وشجع خفض قيمة الدولار على صادرات الولايات المتحدة وكذلك اليابان حيث النقد فيها يتبع الدولار.
ولقد تسببت الاختلافات في التشريعات في المجالات المالية والاستثمارات والحماية الاجتماعية، في تشوشات العلاقات الاقتصادية الدولية وليس هنالك من أسس دولية تقر بالاحتكار والتعسفات في المواقف المهيمنة للشركات، في مجال التنافس، وترك موضوع المساعدات العامة لتقديرات الحكومات، باستثناء الإعانات المالية الخاصة بالتصدير، إذن، يجب تحديد الاتفاقيات ثنائية الجانب في مجال التنافس أو الضرائب، لكن مشكلة التوافق هذه لا تحل على المستوى الدولي، حيث لا يوجد أي وضع في القانون الدولي للشركات متعددة الجنسيات، ولقد أظهر الحوار حول الشرط الاجتماعي حساسية في الموضوع في المنظمة الدولية للتجارة: إذ تخشى البلدان المتطورة من عدم التمركز DELOCALISATION، وتريد بذلك إجبار البلدان النامية، على التصديق على الاتفاقات الرئيسة للمنظمة الدولية للعمل: وعلى العكس، تريد البلدان النامية، الاحتفاظ بيد عاملة رخيصة، والتي تعتبرها الحَسَنَة أو المكسب الوحيد المقارن القابل بأن يسمح لها بالتنمية الاقتصادية.
ƒيشتهر التكامل الإقليمي بعدم كفايات الاقتصاد العالمي للعلاج.
ƒالحمائية LE PROTECTIONNISME لم تستأصل بعد: لقد استخدمت الدول الحريات التي تركتها لها (الغات) بشكل واسع، وليس من المؤكد أن تشاهد هذه الممارسات وهي تختفي بالكامل في عصر المنظمة الدولية للتجارة (OMC) حتى إذا لم تمنع قوانين الكتل التجارية، الحرية في الاستمرار في المبادلات الدولية، لأن الحمائية لم تختف بعد.
ولقد أدى ذلك الأمر خدمة بشكل كبير للولايات المتحدة، بسبب محاولتها معالجة عجزها التجاري. ويسمح الكونجرس، للرئيس الأمريكي، بالرد على الأفعال "متعذرة التبرير" أو "غير المعقولة" أو التمييزية" حسب تعابير ذلك الكونجرس- ويفرض على الدول اتفاقات فيها "تعقيدات إرادية على الصادرات" مثل الحديد عام (1968)، وتُعَمّم الاتفاقيات ثنائية الجانب، على واردات المنسوجات عام (1971)، في مجال نظام الحصص، وتسمح الفقرة (301) من ميثاق التجارة لعام (1974) للحكومة الأمريكية باتخاذ تدابير ثأريه وحيدة الجانب، في حال انتهاك بيان قواعد (الغات)، أو ممارسة ما ترى فيه الولايات المتحدة، بأنها مخادعة. ويمكن لهذا التشريع أن يستخدم من قبل واشنطن في كل مرة ترى أن مصالحها معرضة للتنافس. كما يسمح المقطع (301) (supper) للكونجرس عندئذٍ "وليس فقط للرئيس" اتخاذ تدابير ثأريه. كما توسعت الفقرة
(301) "الخاصة"، بالإضافة إلى المقطع (301) (
SUPPER) لتشمل الممارسات المتعلقة بحقوق الأفضليات الفكرية وأرجأت الولايات المتحدة تطبيق ذلك التشريع، بعد إنشاء منظمة التجارة الدولية. ويسمح اتفاق (كلنتون- دول) الموقع بشهر تشرين الثاني (1994)، أن تستطيع الولايات المتحدة، من الانسحاب من المنظمة إذا جرى الإعلان عن ثلاثة آراء سلبية، خلال ثلاث سنوات ضدها.
أما في أوربا، فاللجنة الأوربية، هي المسؤولة عن استخدام العقوبات في المجال التجاري. وهكذا، جعلها طول الإجراءات، غير فعال، ولا يمكن للاتحاد الأوربي إعطاء الضمانات نفسها، كما لو كان الأمر متعلق بطرف واحد، يمارس من قبل طرف، وهو الولايات المتحدة، ولهذا السبب، فإن مصلحة البلدان الأوربية، هي بشكل عام حماية بعيدة عن المنافسة الدولية في مجالات "الزراعة والسمعيات- والبصريات".
واليابان، هي إحدى البلدان الأكثر انفتاحاً في مجال الخطة المتعلقة بالتعرفة، فهذا البلد، مفرط في مبادلاته التجارية من حيث الفائض منذ زمن طويل، من الناحية البنيوية، ويعتبر مع ذلك، على أنه البلد الأكثر حمائية. والأسباب المثارة متنوعة، وهي: نظام التقيد في التوزيع، وهيمنة اقتصادية للمجموعات الكبرى، ثم التحفظات الثقافية من قبل المستهلكين اليابانيين تجاه المنتجات الأجنبية، أخيراً التعقيدات الإدارية. ويطرح دنيس كليرك (DENIS CLERC) المشكلة الحقيقية التي خلقت هذا الوضع بقوله: "لماذا سيخشى بلد ما ممارسة التبادل الحر إذا كان سكانه لا يجدون مصلحتهم في هذا التبادل وإذا سيطر توافق معاد للانفتاح بالأحرى؟ على كل حال، فالمشكلة من جهة أخرى: أن بلداً ما أعد ديناميته الاقتصادية من أجل غزو السوق العالمي، أو في جزء كبير منه، عندئذٍ لا يمكنه ممارسة اللاتناسق، ويرفض أن يلعب الآخرون الورقة نفسها، مقابل تلك الانفتاحات الخارجية، فلا يمكن أن نكون مقايضين أحراراً في الصادرات وحمائيين في الواردات". وقامت الولايات المتحدة ودول السوق المشتركة بإجبار اليابان على عقد اتفاقات حصر ذاتي، خصوصاً في مجال السيارات، في مواجهة هذا الوضع. وهذا الأمر لا يمكنه أن يسير دون ترك آثار ضارة "زيادة الأسعار وعدم حصر جزئي للإنتاج".
ج-التكامل الصعب للجنوب في الاقتصاد الدولي الجديد:

1-يبدو أن مفهوم العالم الثالث قد تم تجاوزه:

لقد استخدم الاقتصادي ألفرد سوفي ALFRED SAUVU، الكاتب في الأُبزرفاتور OBSERVATEUR، تعبير العالم الثالث، مقارنة مع الدولة الثالثة، في نهاية النظام القديم، للمرة الأولى، عام (1952) ويبدو اليوم، أن هذا المفهوم الثوري، قد أبطل، بعد قمة النظام الاقتصادي الدولي الجديد عام
(1974).

ƒلقد ضاق نفس المطالبة بنزع الاستعمار: حيث تصدعت الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، بعد عام (1945)، بعد نزع الاستعمار في بلدان أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر، وكذلك فيما يسمى بالشرق الأوسط ما بين الحربين العالميتين، عموماً، وكذلك الهند عام (1947)، وحتى فلسطين عام (1948)، لكن المأساة الاستعمار الجديد قد حلت بها. واندنوسيا عام
(1949) الهند الصينية عام (1945)- حيث تحررت بالتدريج. أما في افريقيا السوداء- فقد بدأ عام (1957) مع غانا "ساحل الذهب سابقاً، المستعمرة- البريطانية"، وانتهى بشكل واسع عام (1960)، وانقضى مع استقلال المستعمرات البرتغالية في الفترة (1974-1975) "عينيابيساو، الرأس الأخضر، موزامبيق، ساوتومي، أنغولا" وجيبوتي عام (1977)، من ثم نهاية العنصرية في جنوب أفريقيا.

ƒلقد اخفقت العولمة اقتصادياً في العالم الثالث LE TIER- MONDISME:
لقد وَعَتْ البلدان منزوعة الاستعمار القديم كونها بلداناً متخلفة انطلاقاً من إثبات مثلث الجوانب: الاحتدام الديموغرافي، والثنائية والاستغلال.
لقد تضاعف عدد سكان العالم الثالث في الفترة (1965-1995): هذا التزايد المتفجر للسكان، لم يعقبه تزايد سريع في الإنتاج أيضاً، حيث نقص دخل الفرد في عدد كبير من البلدان، خاصة في بلدان أفريقيا، إذ انخفض إنتاج الحبوب بالنسبة للفرد بمقدار 16% خلال الفترة (1952-1983)، ويقدر أن هناك (500) مليون شخص يعانون سوء التغذية في آسيا، و(160) مليون في أفريقيا، خاصة في المناطق شبه الصحراوية، وإذا كان عدد سكان أفريقيا قد يتضاعف خلال الفترة 1990-2010) كما تدعي الإحصائيات الدولية التي لا تأخذ بالحساب، تأثير فقدان المناعة "الأيدز أو السيدا" على الديموغرافيا، "لا يزال ذلك الأثر محدوداً نسبياً"، فإن ثلث الأفارقة "حوالي (300) مليون فرد، سيعانون الجوع، خلال الخمسة عشرة عاماً القادمة.
الثنائية LE DUALISME: تتوضح غالباً في اقتصاد العالم الثالث بالتناقض بين قطاع مربح وموجه نحو الخارج، "مرتبط باستغلال المواد الأولية الموروث عن الفترة الاستعمارية وباقي اقتصاد متخلف، وغير مدرج في التجارة الدولية، وتترجم هذه المعاينة، جغرافياً غالباً، "كالتعارض بين السواحل مع الموانئ الهامة ووسائل الاتصالات الكبيرة من جهة، والبلدان المتخلفة من جهة أخرى". وهناك انفساخ آخر، يفصل جزءاً صغيراً من السكان، الذي أصبح ثرياً، مع كتلة الجماهير الفقيرة، التي تميل إلى التجمع في المدن أكثر فأكثر، كما في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث تتمنّى إيجاد الوسائل للوصول إلى الأفضل. ويزيد هذا التوسع في مدن الصفيح، في تفاقم الأزمة، حيث من المتوقع أن يزداد عد سكان المدن في البلدان النامية، من 37% عام (1995) ليصل إلى 57% عام (2025).
تعتمد البلدان النامية على البلدان الغنية:
من جهة، تعتمد في صادراتها "ضرورة كمنفذ" وفي وارداتها "خصوصاً من المواد المصنعة"، وفي استثماراتها "الحاجة لرؤوس الأموال" والعديد من هذه البلدان، خاضع لمنتج وحيد، لأكثر من 50% من دخل الصادرات، النفط بالنسبة للبلدان المنتجة للنفط، الأورانيوم بالنسبة للنيجر، النحاس بالنسبة لزامبيا وكاليدونيا الجديدة، القهوة بالنسبة لأوغاندا ويورندي، وأثيوبيا وسلفادور، السكر بالنسبة لكوبا، والتبغ لملاوي الخ.
ولقد أدى الهبوط في أسعار المواد الأولية، على المدى الطويل (-40%) في الفترة (1950-1990) على الرغم من تزايد حصة المنتجات المصنعة في صادرات البلدان النامية على حساب المواد الخام أدى إلى تشوش في علاقات التبادل بالنسبة لهذه البلدان(9).
وتحركت البلدان النامية في اتجاهين لمواجهة هذا الوضع، فمن جهة عبرت عن مطالبها، خصوصاً في نطاق الجمعية العامة للأمم المتحدة، تجاه البلدان المتطورة. وقد حصلت، على تبني معاملة تفضيلية في التجارة الدولية، من مؤتمر الأمم المتحدة، حول التجارة والتنمية: ويتعلق الأمر بنظام أفضليات مطلق، أقيم مؤقتاً عام (1971)، ونهائياً عام (1979)، لكن البلدان المصنعة، عارضت اتخاذ إجراءات استثنائية، عندما تهدد هذه الإجراءات صناعتها الوطنية أمثال ذلك "الاتفاقات الخاصة بالمنسوجات متعددة الخيوط التركيبية المعقودة اعتباراً من عام (1973) بهدف تحديد واردات المنسوجات القادمة من البلدان المصنعة حديثاً.
في الوقت نفسه، حصلت البلدان النامية، على تبني "برنامج متكامل" يستهدف استقرار أسعار المنتجات الأساسية، من خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والصناعة (CNUCED) الذي انعقد في نيروبي عام (1976) كذلك الحال بالنسبة لاستقرار الكارتلات أي اتحاد شركات المصدرين- من أجل استقرار أسعار المواد الأولية، باستثناء حالة واحدة. إبقاء أسعار الكاوتشوك على حالها بهدف استقرارها وتلقي الصندوق المشترك، التابع للأمم المتحدة الخاص باستقرار أسعار المنتجات الأولية المنشأ عام 1989) تخصصات غير كافية لتمويل المخزونات المنظمة وكذلك من أجل التدخل في الأسواق بهدف دعم كل منتج من المنتجات الأساسية الثمانية عشرة. لكن لم يتوصل الحوار شمال جنوب إلى أية نتيجة. وكان مؤتمر باريس، حول البلدان الأقل تقدماً، عام (1977)، وقمة كانكون CANCUN عام (1981) المظاهر الأخيرة في الوساطات، في هذه المجالات.
من جهة أخرى، بحثت البلدان النامية، تحديد سياسات اقتصادية بديلة:
"تنمية مركزية ذاتية" "النموذج التانزاني" و"الصناعات البديلة" عن الواردات "البرازيل، الجزائر" ثم التدخل العام من قبل الدولة في حال العجز المالي بالمساعدة العمومية والمديونية. لقد سمحت هذه السياسات للبلدان النامية بالحصول على نمو أقوى خلال الستينيات (1960) والسبعينيات (1970). لكن وصلت في الثمانينات إلى ساعة الحقيقية: ففي حين واجهت الدول التي اختارت طريق الإدارة الحكومية، العجز المالي، مما دعاها إلى مجابهة أزمة مديونية على نحو فظ، وكذلك الأمر بالنسبة للاقتصاديات الجديدة، التي ظهرت نتيجة تنمية صادراتها. أما تلك البلدان التي نجحت فهي تلك التي نجحت في الاندماج بالتجارة الدولية"، وقد أكد ذلك على انتصار روستو ROSTOW "صاحب نظرية الإقلاع" على بريبيش PREBISCH صاحب نظرية "معارضة المركز والمحيط".
أنذرت أزمة الاستدانة بنهاية الآمال الاقتصادية في العالم الثالث: لقد زادت الصدمات النفطية من فواتير النفط في البلدان الفقيرة وحيث الحاجات فيها، غير قابلة للانضغاط، على عكس البلدان الغنية"، أما المصادر المالية من مدخولات النفط، فقد أودعت في البنوك الغربية، وأخذت هذه البنوك في إقراض البلدان النامية، وفي هذه الحال، تضافر تحلق الدولار، نتيجة السياسة النقدية المقادة من قبل الولايات المتحدة اعتباراً من عام (1979)، مع هبوط أسعار المواد الأولية، في "التسبب في نزف مدخولات صادرات البلدان الفقيرة، مع النقص الدولي في رؤوس الأموال الناتج عن العجز في الميزانيات الأمريكية. وأدى كل ذلك، إلى وضع بعض البلدان النامية في مواقف صعبة. وتعلن المكسيك، عن التوقف عن دفع ما عليها من ديون عام (1982) وإذا كانت أزمة المكسيك، قد جرى حلها، عن طريق إسهام صندوق النقد الدولي، أصبحت ديون العالم الثالث، المشاكل الرئيسة في الاقتصاد العالمي، ويفرض صندوق النقد الدولي سياسات استقرار تمر عبر خفض العجوزات، وعبر تخفيض قيمة النقد الوطني، ورفع نسبة الفوائد وتحرير الاقتصاد، ولوضع هذه البرامج موضع التنفيذ تكاليف اجتماعية، ولا يسمح للبلدان النامية أن تتحرر دوماً من نيرها هذا.
وجرى وضع حلول أكثر جذرية، شيئاً فشيئاً خطة بيكر عام (1985) التي اكتفت "بتوقيع مشاركات جديدة مع أموال جديدة. وأصبح يقود تشخيص إفلاس البنوك التجارية، إلى التجاوزات في المؤونات في ميزانياتها لاستباق النقص في اعتماداتها في البلدان النامية، وذلك اعتباراً من الفترة (1987-1989) وتوقعت خطة برادي BRADY عام 1989 إعادة توزيع الدين "خفض في الحجم، وتأجيل في تاريخ سداد الدين" مقابل خطة تسوية بنيوية في البلاد. إنها "عنونة" الدين، باستبدال الديون، مقابل الدين: باستبدال الديون مقابل صكوك قيمة وجهته أدنى، لكنها مضمونة من قبل الخزينة الأمريكية. واستفاد العديد من البلاد من هذا الإجراء "المكسيك، فنزويلا، البرازيل، الأرجنتين، الفلبين بولونيا.. الخ" من جهة أخرى، فإن سوق صكوك الديون مُنزَّلة القيمة، متطور. فضلاً عن ذلك. فقد حصل مستثمرون على صكوك الديون هذه، بسعر منخفض من أجل استبدالها مع البلدان المدينة، مقابل مشاركات في مشروعات عمومية أصبحت مخصخصة. ويصبح نير الدين، أكثر قابلية للحمل، كذلك، مع أن قيمته المطلقة تستمر في الزيادة "1700 مليار دولار في نهاية عام (1994)، وتتجاوز أربعة بلدان رقم الـ (100) مليار دولار المكسيك الصين، أندنوسيا، البرازيل".
لقد قررت قمة الدول الصناعية السبع، التي انعقدت في تورنتو عام
(1988) إضافة إلى ما سبق، إلغاء جزء من الدين العام، أو خفض نسب الفائدة على بعض البلدان، فاستفادت مصر وبولونيا من هذه الإجراءات كما كانت البلدان الأشد فقراً، هدفاً لإجراءات الخفض، خصوصاً تلك المدينة تجاه المنظمات العامة.

لقد فقد مفهوم عدم الانحياز سماته: انعقد المؤتمر الأول في نيسان عام
(1955)، في باندونغ "أندنوسيا"، وضم (26) دولة "ولم تشكل الصين واليابان جزءاً من حركة عدم الانحياز" الذي كان هدفه انطلاقة جديدة في التاريخ البشري، وفي ختامه، أدان الاستعمار، في جميع مظاهره"
وكان ذلك تعبيراً استهدف الاتحاد السوفياتي آنذاك- وأطرى التعايش السلمي، حسب المبادئ الخمسة المحددة من قبل الهند والصين في ديباجة معاهدتهما حول التيبت: سلامة الأراضي الوطنية من التجزئة والانتقاص والسيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وعدم الاعتداء، وتبادل المكاسب في العقود، والتعايش السلمي. ثم فتح لقاء عبد الناصر وتيتو ونهرو، في جزيرة بريوني (يوغوسلافيا)، في تموز (1956) الطريق أمام حركة عدم الانحياز، التي تمفصلت حول ثلاث كلمات: التأكيد على وجود عالم ثالث، ثم الحيادية. أخيراً نزع الاستعمار.
ثم تأسست حركة عدم الانحياز عام (1961) في بلغراد وضمت عندئذ
(25) دولة
: فوضعت حركة عدم الانحياز شرطاً للانتساب إليها، ألا وهو: "إن انخراط أي عضو جديد في الحركة، يجب أن يخضع لاحترام الشروط الخمسة التالية: إتباع سياسة قائمة على التعايش السلمي. ثم تقديم الدعم لحركات التحرر، وأن لا ينتمي إلى أي تحالف عسكري، وأن لا يعقد أي اتفاق مساعدة عسكرية مع قوة أعظم، وأن لا يحمي قاعدة عسكرية أجنبية. وأصبح يجري تبديل رئاسة الحركة كل ثلاث سنوات: يتضمن البلدان التي تستقبل قمة الحركة كل ثلاث سنوات الرئاسة الثلاث سنوات التالية. وعرفت الحركة أيام انتصاراتها في ستينيات (1960) وسبعينيات (1970). ثم أخذت تتوسع تدريجياً، حتى بلغ عدد البلدان المنتمية للحركة (100) عضو ولقد وضح مؤتمر عام (1964) أهداف الحركة بالصراع ضد الاستعمار والإمبريالية ومساعدة حركات التحرر الوطني. وأضاف مؤتمر لوساكا عام (1967) إلى أهدافه، الصراع ضد الصهيونية، وفكرة التضامن الاقتصادي والسياسي، وأعد مؤتمر الجزائر عام (1973) إقامة نظام اقتصاد دولي..
لقد فشلت حركة عدم الانحياز ابتداء من سبعينيات (1970) بصورة مضاعفة:
في المقام الأول، لم تتوصل إلى تحديد طريق للتآلف قابل للتنفيذ بين الشرق والغرب. كما أن حركة عدم الانحياز، لم تتوصل إلى فرض مبادئها جميعاً على أعضائها، فكان العديد من أعضائها ينتمون إلى هذا المعسكر أم ذاك، في الواقع، مع ذلك، فقد عززت حرب فيتنام من عزلة الولايات المتحدة، في المجتمع الدولي، كذلك، فشل الطراز الاشتراكي ليكون بديلاً للمرور إلى الاستقلال عن الغرب الرأسمالي، على المستوى الاقتصادي. وازدادت الهوة، بين أولئك الذين انضموا إلى المعسكر الاشتراكي، باسم المعركة ضد الإمبريالية- وأولئك الذين يريدون المحافظة على مسافة متساوية بين الكتلتين، في قمة الجزائر عام (1973)، أما مؤتمر هافانا عام (1979) فزاد في تلك القسمة.
الفشل الثاني لحركة عدم الانحياز، عجزها عن تحقيق وحدة العالم الثالث، وعجلت النزاعات الاتحادية لدى البعض، في خطا المنافسة بسرعة بين الدول، فتقاربت الهند من الاتحاد السوفياتي، للوقوف ضد الصين التي حافظت على ابتعادها عن الحركة، ثم نيجريا التي مزقتها حرب بيافرا (1967-1970) وزادت في قسمة حركة عدم الانحياز. أخيراً، تكشف صعود الروح الأصولية عن قوة رجعية وردود فعل ضد العولمة والتهميش الاجتماعي.
ثم فقدت حركة عدم الانحياز، التي أصبحت تضم (113) عضواً، تلاحمها أيضاً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية. حيث لم يعد لحركة عدم الانحياز من معنى، في الوقت الذي بدا فيه أن الأيديولوجية الغربية قد انتصرت ولو مؤقتاً. واختفت الخطابات المعادية للامبريالية والاستعمار، كما لم يعد لحركة عدم الانحياز من وجود، لتنجح في فرض خط مشترك في المواضيع السياسية الكبرى. كما أظهرت عجزها في تسوية الأزمات التي تخص أعضاءها، وفقدت كل نشاط لها، فقد عجزت عن إجراء تسوية لإنهاء الحرب العراقية- الإيرانية وعاصفة الصحراء، أو ثعلب الصحراء أو العدوان الأمريكي البريطاني المستمر على العراق، حتى لدرجة أن شارك بعض دول عدم الانحياز في تدمير العراق وكذلك الحال، عدوان منظمة حلف شمالي الأطلسي- على العضو البارز في حركة عدم الانحياز، وأحد مؤسسيها، يوغوسلافا السابقة أما المطالب الاقتصادية فقد بقيت مواضيع لا حل لها، على الرغم من أن أكثر من 51% من سكان الكرة الأرضية، ينتمون لحركة عدم الانحياز، لكن أعضاؤها، لا يشكلون سوى 7% من الدخل القومي الخام العالمي.
ففي قمة بلغراد عام (1989) اتخذت حركة عدم الانحياز خطاً معتدلاً في لهجتها تجاه العالم الإمبريالي، حسبما جرت العادة، فلم يوجه الاتهام للولايات المتحدة، ولا للصهيونية. وتقوم الحركة ضمناً، وللمرة الأولى بتبني طروحات الولايات المتحدة، بشأن حقوق الإنسان.
ƒوأخذ العالم بالتفجر إلى شظايا أكثر فأكثر: إجمالياً، يمثل الدخل القومي الداخلي الخام بالنسبة للفرد مقارناً بالقوة الشرائية (10) في مجمل البلدان النامية 15% من مثيله في المستوى لدى البلدان المتطورة. وبقي الرقم عام (1992) هو نفسه كما في عام (1960) وتحجب هذه الاستمرارية التباينات الكبرى
2-الانشقاق بين الشمال والجنوب، يتأبد:

أصبح التمييز بين مجموعة البلدان الغنية والأخرى المتخلفة أكثر وضوحاً فأكثر. وتتشكل الأولى من البلدان الغربية، التي تتجه الآن إلى ضم بلدان أوربا الشرقية، من جهة، ومن كتلة البلدان ذات الدخل الضعيف التي تأسن وتغوص في التخلف، خاصة في معظم بلدان أفريقيا وأمريكا الجنوبية، وبعض بلدان آسيا، من جهة أخرى.
ƒيتوجه الشمال نحو التوسع: لقد أقام الشمال أجهزته ومؤسساته الخاصة للتشاور والتواطؤ، فضلاً عن قدراته التي غالباً ما تكون اصطفائية في معالجة بعض القضايا، وتهيمن البلدان المصنعة، ذات اقتصاد السوق، على التجارة الدولية في مجال المنتجات المصنعة، إذ يصل إلى 75% أما في المنتجات الزراعية فتبلغ 63%.
تجمع مجموعة السبعة، التي تأسست عام (1975) سبعة بلدان هي البلدان الصناعية الرئيسة: تزداد شهرة هذه المجموعة نتيجة الأصداء التي تعقب قممها السنوية، والتي تجمع رؤساء الدول والحكومات فيها، كما تتفرع عنها مجموعات واجتماعات متنوعة لمسؤولين كبار: لقاءات وزراء المالية، و/ أو حكام البنوك المركزية في المجموعة "ومستشارين دبلوماسيين لرؤوساء الدول أو الحكومات" مع ذلك، فإن مجموعة السبعة لا تزال بعيدة عن تحقيق نجاحات في تسوية جميع المشاكل التي تعرض عليها لكن القدرات التي تملكها، تمنحها دوراً موجهاً رئيساً في العلاقات الدولية. وأصبحت القرارات التي تصدر عن المجموعة أكثر أهمية عما يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية: لقد توسعت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لتشمل بلداناً غير أوربية، "الولايات المتحدة، كندا، اليابان، استراليا، زيلاندا الجديدة" تلك المنظمة، التي أعقبت المنظمة الأوربية للتعاون الاقتصادي، عام 1960)، والتي أنشئت عام (1948)، من أجل إدارة مساعدات خطة مارشال، للبلدان الأوربية الغربية، على أثر الحرب العالمية الثانية. للسماح لهذه البلدان بتطوير مبادلاتها بمساعدة طراز من التعويض متعدد الجوانب، مع ذلك، فلم تعد تلعب سوى دور تنسيق وتحليل اقتصادي. كذلك إعداد قوانين دولية وتدير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، الوكالة الدولية للطاقة، وكذلك، وكالة الطاقة الذرية، كما أنشأت مجموعة الـ (24) لتنسيق المساعدات لبلدان أوربا الشرقية.
ثم أصبحت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، مدعوة للتوسع، مع تطور البلدان الناشئة، وهكذا، استقبلت المكسيك عام (1994)، ثم الجمهورية التشيكية عام 1995، والمجر وكوريا الجنوبية عام (1996)، والتحقت بولونيا عام
(1997) وستهبط حصة الـ (25) بلداً، الأعضاء في المنظمة من الإنتاج العالمي الخام من 54% عام 1990 إلى 44% عام (2010)، طبقاً لدراسة قامت بها المنظمة وذلك نتيجة ازدياد حصة البلدان النامية في آسيا: "هونغ كونغ، كوريا الجنوبية، ماليزيا، سنغافورة، تايوان، تايلاند" بمقدار (10%-14%) وتلك حصة الصين من 11% إلى 19% وللمنظمة التي أصبحت تضم اليوم (29) دولة عضواً، جميع الحظوظ، لأن تستقبل البلدان الغنية الجديدة، للالتحاق بها.

بنك التنظيمات الدولية: هو قبل كل شيء، مؤسسة أوروبية، مثل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وقد جرى إنشاؤه عام (1930) لأداء عمليات الدفع لإعادة تعمير ألمانيا، في نطاق خطة يونغ YOUNG. ثم أخذ يقوم بتسهيل التسويات الخاصة بالمدفوعات بين الدول الأوربية في نطاق الاتحاد الأوربي منذ عام (1945) ويسمح لحكام البنوك المركزية الأوربية بالاجتماع دورياً، لمعالجة القضايا المطروحة. ولقد انضمت الولايات المتحدة واليابان وكندا إلى هذا البنك، في ستينيات (1960) وشكلت مجموعة الـ (10) التي تضم في الواقع (11) بلداً: "ألمانيا، بلجيكا، فرنسا، المملكة المتحدة، كندا، السويد، اليابان، الولايات المتحدة، هولندا، إيطاليا، سويسرا" وتؤدي مجموعة الـ (10) خدمة في ميدان التشاور لاتخاذ القرارات في نطاق صندوق النقد الدولي، وكذلك في بنك التسويات الدولية، حيث أن جميع المدراء هم، فضلاً عن ذلك، من مواطني بلدان مجموعة الـ (10). كما لَعِبَ بنك التسويات الدولية، دوراً من الدرجة الأولى أيضاً، في إنقاذ الجنبه الإسترليني عام
(1968)، من ثم تحديد قواعد الملاءة لتوقع إفلاس المؤسسات البنكية‍: لجنة بال (
BALE) التي تضم حكام البنوك المركزية لمجموعة الـ (10) منذ عام
(1975). وتبنت نسبة كوك (
RATIO ****) في نهاية الثمانينات 1980، فارضة أن تصل الصناديق المختصة إلى نسبة لا تقل عن 8% من الموجودات لتفادي الأخطار.
لقد اقتصر بنك التنظيمات الدولية على (32) بلداً عضواً، مدة طويلة، ثم استقبل تسعة أعضاء جدد عام (1997)، ويعكس ذلك الأمر الصعود القوي للنمو، للأعضاء الجدد، في البلدان التالية روسيا، الصين، كوريا الجنوبية، هونغ كونغ، الهند، سنغافورة، المكسيك، البرازيل العربية السعودية"، وستصبح الاتفاقيات العامة للقروض مضاعفة وهي نوع من صناديق النقد تخصص للحالات العاجلة، حيث قُرِّرت من قبل بلدان مجموعة الـ (10)، وذلك من 25 مليار دولار إلى 50 مليار"، كما تستخدم أيضاً لمواجهة الأزمات المالية الدولية، كما حدث مع المكسيك عام (1994)، وستصبح مدارة بطريقة أوسع من مجموعة الـ (10) بفضل هذا التوسع، عما كان عليه الحال من قبل. وستترجم إعادة توزيع القوة الاقتصادية والمالية، على النطاق الدولي، بطريقة غير ملموسة، وذلك بالتطابق بين آليات القرارات.
كما يملك الشمال منظمات تشاور أخرى لإدارة القروض، مثل لجان نادي باريس، الذي يضم الدائنين العموميين تحت رئاسة مدير المالية الفرنسي، ثم نادى لندن، الذي يجتمع عندما يطلب الدائنون الخاصون. أخيراً، مجموعات مراقبة الصادرات، ويلعبون دوراً رئيساً.
للشمال وللجنوب مصالح متضاربة: يريد الشمال المحافظة على مستوى من الرخاء، ويعمل ضد تشوش البيئة، وضد تدفق الهجرات القادمة من الجنوب، وضد المخدرات والسيدا "فقدان المناعة المكتسبة" (11) والتكاثر النووي. ويتمنى الجنوب، على العكس، أن يتمكن من التطور، بل أكثر نزوعاً إلى أن تغلق العيون عن تلك المحظورات الشمالية، بهدف الحصول على العملات الأجنبية- كما يريد الحصول على منافذ تكنولوجية غربية.
إنه من المفيد الإقرار ، بالتأكيد على وجود منافسة بين الشمال والجنوب، إذ تسببت المصالح بالتباعد في مواضيع عديدة، كما هو الحال مثلاً بضرورة السيطرة على الديموغرافيا، وكذلك الصراع ضد الأوبئة، ولا شك أن الغرب يحاول إبعاد مشاكل الجنوب، التي خلفها الاستعمار في معظمها، عن كاهله، وهو يحاول بطرق شتى للقيام بذلك، كإنشاء منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. لكن القليل من البلدان المتطورة، هي التي تخصص 0.7% من ناتجها القومي الخام للمساعدة العامة للتنمية في البلدان النامية، كما يطالبها بذلك المؤتمر الدولي للتجارة والصناعة (CNUCED) منذ عام (1968) في حين لم تقدم معظم البلدان المانحة سوى 0.3% عام (1996) من دخلها القومي الخام، باستثناء البلدان السكاندينافية "النرويج، الدانمارك، السويد"، وتقدم هولاندا مساعدات تتجاوز الـ (0.7%) في حين لا تقدم الولايات المتحدة أكثر من 0.1% فقط، وهو الحد الأدنى المقرر. والمساعدات التي تقدم، هي مساعدات مشروطة بمعنى مقابل تجاري تستفيد منه صادرات البلدان المانحة بالتأكيد. ويؤدي عدم كفاية رأس المال العمومي لدى البلدان النامية، إلى لجوئها، إلى رؤوس الأموال الخاصة التي تجبرها على الخضوع لشروط الدول المانحة بشأن إصلاح اقتصادها وانفتاحه.
أضحت الحدود شمال جنوب، جبهات أكثر من كونها حدود: الجنوب مجموعة رحبة من البلاد، غير متجانسة، تضم 80% من سكان الكرة الأرضية، مقابل 20% فقط من الناتج الداخلي الخام الدولي. ولا يسير هذا التفاوت نحو الانخفاض، بل على العكس، بازدياد مستمر، فكان للعشرين بلداً الأشد فقراً على وجه الكرة الأرضية، دخل يساوي (30) مرة أدنى مما لدى الـ (20) بلداً الأغنى، وأصبحت العلاقة في بداية التسعينيات (1990)
(1/60).

كذلك، يعرف الاقتصاد العالمي ميلاً متزايداً للتكامل، مع تهميش في بعض المجالات، في آن واحد. فإذا كان الاتفاق حول مبادئ التحررية أكثر اتساعاً، ينقص الانفتاح، الانتصار الدولي أيضاً في نطاق من الاستقرار النقدي التنافسي ليضمن للتبادلات قاعدة صلبة، كل ذلك يسمح بإدماج البلدان الفقيرة في التجارة الدولية، ويمكن التساؤل، في الوقت الذي تصل فيه العولمة إلى نهاية طريقها، إذا كانت الميول السياسية والثقافية، تسير نحو التجزئة، ولم تنته بعد، وذلك بتعريض ذلك التطور للخطر.

¾¾
¡ الهوامش:


(1) يشتمل إغراق الأسواق على البيع بسعر أقل من سعر السوق الداخلي، في الخارج
(2) مدينة صغيرة في المملكة المتحدة، على بحر المانش
(3) قبلت الولايات المتحدة مبدأ السياسة الزراعية التي بدأت عام (1962) مع السوق المشتركة، مقابل دخول بعض صادراتها، مثل الصويا، إلى الأراضي الأوربية دون ضرائب
(4) موجودات من القطوع المودعة لدى البنوك غير المقيمة
(5) يمثل التدفق التطور في العام الواحد، المخزون والوضع في وقت ما محدد "إذن هو مجموع التدفق في الماضي"
(6) تحقق الشركة متعددة الجنسية ربع مجموع مبيعاتها عن طريق الفروع في الخارج، على الأقل.
(7) بين الشركات الأم وفروعها، أو بين الشركات الفرعية نفسها
(8) المذهب القائل أن الكون خاضع لمبدأين متعارضين أحدهما الخير والآخر الشر.
(9) تقل علاقات التبادل لبلد ما- عندما تقل العلاقة بين السعر المتوسط للمنتجات التي يصدرها والسعر المتوسط للمنتجات التي يستوردها.
(10) من أجل حساب الدخل القومي الخام الداخلي للفرد، مقارنة بالقوة الشرائية: نأخذ بالحساب أسعار المنتجات والخدمات في مستواها "غالباً منخفضة جداً" في البلدان النامية، لكن مستوى الفرد أدنى بكثير مقارناً مع بلد متطور، والدخل القومي الداخلي الخام، في البلدان الفقيرة، يجب إعادة تقديره.
(11) أصبح عدد المصابين بجرثوم الأيدز، من الملونين (30) مليون، حسب إحصاء عام
(1997)، وحيث أن أكثر من 90% من هؤلاء من البلدان النامية، 75% منهم في أفريقيا، ويتأثر أكثر من 90% من المجموع بالوقاية والمعالجة في بلدان العالم الصناعي.


¾¾¾

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11-03-2013, 10:22 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي


الفصل الثالث :
المسرح السياسي الأوراسي "أوربا آسيا" الكبير من وجهة نظر الولايات المتحدة:




"إن الرهان الجيوسياسي الرئيس للولايات المتحدة، هو الأوراسيا، (أوربا- آسيا) حيث هيمنت قوى وشعوب القارة الكبيرة التي تنافست، من أجل الهيمنة الإقليمية، والتفوق الشامل على العلاقات الدولية، منذ خمسة قرون، واليوم- هذه قوة خارجية عن القارة تتغلب على غيرها في الأوراسيا، وتعتمد هيمنتها الشاملة على قدرتها في المحافظة على هذا الموقع بشكل دقيق.
إنه من الواضح أنه لن يكون لهذا الوضع سوى زمن واحد، لكن ستعتمد مدته ونتيجته، ليس فقط على الرفاه في الولايات المتحدة، بل أيضاً، وبشكل أكثر عمومية، على الهيمنة الكاملة لمصالح الولايات المتحدة على ما عداها وتفوقها. ولقد خلق الظهور السريع لقوة دولية وحيدة، الفرصة أمام الولايات المتحدة لبناء نظام دولي جديد، تتكفل فيه واشنطن بتحمل المسؤولية الكاملة، التي تؤمن لها القيام بذلك الدور، بواسطة قوتها الشاملة، وإلا فالفوضى ستعم العالم، وبالتالي عدم الاستقرار، يفتح أبوابه على كل الاحتمالات".
هذا المقطع، هو من كتاب زبيغنيو برزنسكي، مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، بعنوان: (اللاعب الكبير، أمريكا وباقي العالم" وهكذا ينطلق منظرو الاستراتيجية الأمريكية الإمبريالية، وذلك لتبرير دور الولايات المتحدة من أجل بناء إمبراطورية جديدة، تضمن لها مصالحها إلى أبعد مدى، وبالطبع من بين هؤلاء، البروفسور "ب. هانتنغتون" الذي أكد في مقالة داويه، بعنوان صراع الحضارات الذي تحول إلى كتاب فيما بعد، تحت ذلك العنوان، أكد فيها: "في عالم لا يكون فيه للولايات المتحدة الأولوية، سيعرف هذا العالم العنف والفوضى أكثر، وديمقراطية أقل، ونمواً اقتصادياً أدنى، إلا إذا استمرت الولايات المتحدة، كما هو الحال اليوم، أن يكون لها نفوذ أكثر على الشؤون الدولية الشاملة، وأكثر من أي بلدٍ آخر. كما أن المحافظة على الأولوية للولايات المتحدة، أمر جوهري، ليس فقط من أجل مستوى العيش والأمن للأمريكيين، بل أيضاً من أجل مستقبل الحرية والديمقراطية والاقتصاديات المفتوحة والنظام الدولي"(1).
ويريد هذا المنظر الإمبريالي، من هذا النص الدعائي المزيف بالقول أن الطريقة التي "تدير" فيها الولايات المتحدة، القارة الأوراسية، هي أمر حاسم، لنهب خيرات شعوبها لصالح الإمبريالية الأمريكية، لأنها القارة الأكبر، على سطح الكرة الأرضية، وكأن شعوبها لا يحتاجون لشيء، سوى حاجتهم لوصاية وهيمنة الإمبرياليين الأمريكيين. ولهذا فهم يعتبرون القارة الأوراسية- المحور الجيوسياسي الأساس، للهيمنة، وكل قوة تسيطر على شعوبها وتنهب خيراتها، تسيطر بواسطتها على منطقتين من ثلاث مناطق في العالم، الأكثر تطوراً والأكثر إنتاجية. وإن نظرة بسيطة على خارطة الكرة الأرضية تكفي من أجل فهم، كيف أن السيطرة على الأوراسيا، تقوم بصورة آلية تقريباً، حماية سهلة للقارة الأفريقية- كما تمنح موقعاً جيوسياسياً محيطياً للأمريكيين، وللمحيطين الكبيرين، الأطلسي والهادي وحيث يعد حوالي (75%) من السكان في العالم، في القارة الأوراسية، كذلك، فيها الجزء الأكبر من الثروة الطبيعية على شكل مشروعات أو مناجم معدنية من المواد الأولية. ويصل مجموع الإنتاج الوطني الخام لهذه القارة إلى (60%) من مجموع الإنتاج العالمي. وإن ثلاثة أرباع مصادر الطاقة المعروفة موجودة مجتمعة فيها أيضاً.
ولقد نشأت في تلك القارة، معظم الدول السياسية الدينامية القادرة على القيام بالمبادرات الخلاقة. وتوجد فيها، الاقتصاديات الست الأكثر ازدهاراً، والست الأضخم، من حيث الميزانية في مجال الدفاع بعد الولايات المتحدة بالطبع. كذلك، تمتلك جميع هذه البلدان الستة السلاح النووي "رسمياً" كمفترضة" مع استثناء من كل حالة. وتقع فيها الدولتان ذات السكان الأكثر عدداً، في القارة الأوراسية، كما يقع فيها جميع المنافسين السياسيين و/ أو الاقتصاديين، للولايات المتحدة. وتتجاوز قوتها المتراكمة، بعيداً، تلك التي لدى الولايات المتحدة، كما لحسن حظ منافسيها، فهذه القارة واسعة شاسعة جداً، مما يجعل من الصعب جداً تحقيق وحدتها السياسية.
وتبقى القارة الأوراسية، بالنتيجة الرقعة التي دارت عليها المعارك من أجل الوصول للتفوق المطلق والشامل، ويمكن مقارنة الجيواستراتيجية بعبارة أخرى، التنظيم الاستراتيجي للمصالح الجيوسياسية، كرهان في لعبة الشطرنج هذه، مع ذلك- فهذا المسرح الأوراسي، ذو الشكل البيضوي غير الكامل، يتضمن كل اللاعبين، كما يمتلك كل لاعب سلسلة من القطع- وإذن رأسمال من القوة- مختلفة ومتنوعة ويمثّل اللاعبون الأساسيون المركز والجنوب والشرق والغرب من ساحة تلك اللعبة. وتوجد على الجانبين الأخيرين الاثنين، مناطق ذات كثافة سكانية، مؤلفة من عدة دول قوية، وفي الغرب، تمارس الولايات المتحدة سلطتها مباشرة على الحواشي المحيطية الضيقة، وإلى الشرق الأقصى من الكتلة القارية، فتشتمل على لاعب مستقل، ذو نفوذ يبرز أكثر فأكثر، وذو عدد سكان ضخم- ونصف شبه جزيرة تقدم نقاط دعم للولايات المتحدة.
ويمتد بين هذين القطبين، مساحة مركزية واسعة، وسكان مبعثرون. وتنظيم متفجر، مجرد اليوم من التوجه السياسي الصلب والمتماسك، يشغلها منذ عهد قريب، خصم حازم، يريد أن يتفوق على الولايات المتحدة، وحيث هدفه، على المدى البعيد، أن ينتهي به الأمر، إلى إنهاء وجود الولايات المتحدة في القارة الأوراسية، وفي جنوب هذه الهضبة الكبرى المركزية، تمتد منطقة تشتهر بالفوضى السياسية القوية، لكنها غنية بمصادر الطاقة، وتكتسي من هذا الموقع، أهمية كبيرة من حيث القوة بالنسبة لجميع دول أوراسيا، إلى الغرب كما إلى الشرق، ذات كثافة سكانية كبيرة. ويصبو الهدب الأكبر الجنوبي من هذه المنطقة إلى الهيمنة الإقليمية.
وتدور "اللعبة" على هذه الرقعة المشوهة الشكل والضخمة، الممتدة من لشبونه إلى فلاديفوستك. ومن الممكن أن يصبح الفضاء المركزي منجذباً نحو المجال الغربي "حيث تلعب الولايات المتحدة فيه دوراً راجحاً".
لكن إذا لم يخضع الجنوب لهيمنة تقتصر على لاعب واحد، وإذا حقق الشرق وحدته، بحيث تجد الولايات المتحدة نفسها مستبعدة أو مطرودة من قواعدها الجزيرية، عندها ستحافظ هذه الأخيرة على مواقع متفوقة، أما إذا انقطع الفضاء المركزي عن الغرب، وشكل كياناً دينامياً، قادراً على المبادلات الخاصة به، وإذا ضمن عندئذ سيطرته على الجنوب، أو شكل اتحاداً مع الفاعل الرئيس الشرقي، عندئذٍ، فإن موقع الولايات المتحدة في أوراسيا، سيصبح معرضاً للضعف بشكل مرعب، وكذلك، إلى الشرق، سيكون للاتحاد بين لاعبين رئيسين- نتائج مشابهة. أخيراً، ستؤدي نهاية استحقاق الولايات المتحدة عن طريق شركائها، في الأطراف الغربية، إلى نهاية مساهمة الولايات المتحدة في لعبة الشطرنج الأوراسية، حتى إذا كان سيعني هذا التغيير المفاجيء، دون شك، خضوعاً للتخوم الغربية لفاعل يصبح قوياً من جديد، في المنطقة الوسطى.
وتبقى هيمنة الولايات المتحدة سطحية، وهي تمارسها بآليات متعددة من النفوذ، على الرغم من أبعادها الكونية، لأنها تمارسها، بعكس إمبراطوريات الماضي، ليس عن طريق السيطرة المباشرة، لما يلجم اتساع وتنوع قوة عدد من دول القارة الأوراسية، نفوذ الولايات المتحدة ويقلل من سيطرتها على مجرى الأحداث. فهذا العدد الكبير من صفات القارة الأوراسية- ناتج عن اتساعها جداً وعن العدد الكبير من السكان، وغناها الفخم بعدد ثقافاتها وعقائدها وتاريخها، وقوية بدولها، وبدينامياتها السياسية والتاريخية، وبطموحاتها من أجل البرهنة على عدم لين عريكتها حيال أي كان. وهل تتطلب هذه القوة المهيمنة الشاملة والاقتصاد الأكثر ازدهاراً، حذاقة جيواستراتيجية كبيرة في هذا السياق، إذن على الولايات المتحدة أن تستخدم مصادرها بدراية جيدة دائماً، وبطريقة اصطفائية وحذرة على الرقعة الأوراسية بالكامل، إذا أرادت فرض هيمنتها.
فضلاً عن ذلك، تدعي الولايات المتحدة أنها بلد ديمقراطي كثيراً، وتدعي أن هذه الصفة تتنافى مع إظهار نفسها استبدادية، وهذا يعني الحد من استخدام قوتها العاتية أثناء ما تقوم به لحماية مصالحها، لكن ذلك الإدعاء لا ينطبق على سلوكها، خاصة طاقتها في المجال العسكري والمخابراتي وبالتالي إرهاب أي شعب يقف في وجه تحقيق مصالحها باستخدام العنف الشديد بالوسائل المختلفة. علماً أن أية ديمقراطية ليبرالية يفترض فيها أن لا تتبع تلك الأساليب المزيفة، خاصة إذا كان باستطاعتها الهيمنة على المؤسسات الدولية لاتخاذ قرارات تعطيها لبوساً بعيداً عن حقيقتها. وهكذا، فالسباق إلى القوة لن يكون هدفاً قابلاً أن يعبِّئ الانفعالات الشعبية، إلا في الحالة التي تكون فيها الأوضاع مهددة بأخطار وشيكة الوقوع أو مداهمة كما تتعارض التضحيات الاقتصادية "بعبارة أخرى ارتفاع في الإنفاق العسكري" والإنسانية "بما في ذلك الضحايا بين الأفراد المجندين أو المحترفين"، مع الديمقراطية الحقيقية، كما تستبعد الديمقراطية، كل تصرف إمبريالي.

وبطريقة عامة، من المفروض أن لا يعتبر الأمريكيون أن وضعهم الجديد كقوة دولية عظمى، ودون منافس، أن ذلك يمنحهم ميزات خاصة، إذا كانوا يدعون أنهم ديموقراطيون. وأن لا يغتروا بما يسمونه هم "بروح الطفرة" السياسية المتولدة عن انهيار الكتلة الاشتراكية. مع أن ما حدث، استقبل ببرود في البداية، حتى أُثيرت تكهنات من قبل المعلقين والطبقات الرجعية المتعارضة في الولايات المتحدة، حول مستقبل دور واشنطن بعد انهيار ذلك المنافس. مع ذلك، لا يمكن إنكار النجاح التاريخي للولايات المتحدة الذي تحقق بالنتيجة، خاصة على المستوى الداخلي، ومهما كانت أسباب المجابهة مع الاتحاد السوفياتي السابق، مع أنه أثار العديد من الحوارات، لكنه أبرز وجهتا نظر متعاكستين: تقول الأولى، إن نهاية الحرب الباردة إذا كانت قد انتهت، على المستوى الدولي- مع الاتحاد السوفياتي السابق، فإن ذلك يقتضي تخفيضاً هاماً في التزامات الولايات المتحدة الدولية، ومهما كانت النتائج بالنسبة لموقعها الشمولي. أما أصحاب الفرضية الثانية، فيقولون حان الوقت لتحقيق تعددية حقيقية، يجب على الولايات المتحدة فيها أن تشجعها، ويتم ذلك، عن طريق تخلي الولايات المتحدة عن جزء من هيمنتها. ويتلقى كل من هذين التيارين (الفكريين) الدعم من أطراف الرأي العام بشكل واسع.
وفي النتيجة، لقد عدّلت المعطيات الجديدة بمجملها، الوضع الدولي، وفرضت على الولايات المتحدة أن تندمج مع توقعات الأوضاع المستجدة. وبحيث يصبح استعمال القوة مباشرة أقل يُسْرةً عما كان عليه في الماضي. مع أن السلاح النووي قد قلل من مفهوم الفائدة من الحرب أو حتى التهديد بالحرب، باعتبارها امتداد للسياسة بنسب خيالية، مما جعل الترابط بين الشعوب، أكثر فعالية من الابتزاز الاقتصادي. كذلك أضحت المناورات الدبلوماسية وتشكيل التحالفات واختيار الحلفاء، واستخدام جميع المكاسب المتاحة، مفاتيح للنجاح، وذلك بالممارسات الجيواستراتيجية على الساحة الدولية.

الجيوسياسية، والجيواستراتيجية: وهنا يجب على الولايات المتحدة كقوة مهيمنة، أن لا تهمل الجغرافيا السياسية للمحافظة على أولويتها الدولية، ويبقى هذا الأمر معطية أساسية في الشؤون الدولية، وكان نابليون يقول ويؤكد أن معرفة الجغرافيا لشعب ما تكفي لفهم سياسته الخارجية، مع ذلك يجب تبني هذا التحليل للحقائق الجديدة للقوة العاتية.
أصبحت السيطرة على المناطق الرهان الأساسي في النزاعات السياسية. وكان تمجيد الإباء الوطني، عن طريق إلحاق مناطق جديدة، أو كبتٍ ناتج عن خسارة أرض "مقدسة"، الأسباب والأمل لمعظم الحروب الدموية التي جرت منذ انطلاقة الروح الوطنية. ويمكن القول، دون مبالغة، إن الضرورات الإقليمية" كانت الدافع الرئيس الذي أوحى بالتصرفات العدوانية للدول /الأمم. ورسخت الإمبراطوريات أمنها بالطريقة نفسها، وذلك بالعمل على اغتصاب النقاط الحساسة، الجواهر الجغرافية الحقيقية، مثل جبل طارق، قنال السويس، سنغافورة، حيث أدت خدمات كبرى كمراصد أو مفاتيح قناطر، في نظام السيطرة الإمبريالية، في آن واحد، والحال اليوم أيضاً، فيما يجري من محاولات الهيمنة على منطقة الخليج العربي.
وتقدم لنا ألمانيا النازية واليابان الإمبريالي، مثلان، وإلى أبعد الحدود عن الرابط بين النزعة القومية والحيازة الإقليمية. وينطبق ذلك أيضاً على سلوك معظم الدول الاستعمارية. فقد استهدف المسعى الألماني "لاقامة رايخ جديد" في برنامجه إعادة وحدة الشعوب الناطقة باللغة الألمانية تحت السقف نفسه سياسياً، واستهدف أيضاً رغبة أخرى: امتلاك إهراءات أُكرانيا، والبلدان السلافية الأخرى، حيث نذر السكان أنفسهم لتقديم يد عاملة رخيصة، والقيام بأعمال السخرة في المجالات الإمبريالية، وبالطريقة نفسها، اعتبرت اليابان أن ضم منشوريا- وفيما بعد أندنوسيا، المستعمرة الهولندية آنذاك، والغنية بالنفط- كشرط جوهري لتحقيق نزعتها كقوة عظمى قادرة على اللعب على المسرح الدولي، وفي خط مشابه، ألا ينطبق ذلك على ما تقوم به الولايات المتحدة، من حشد لقواتها في منطقة الخليج العربي، وتهديد شعوب تلك المنطقة، من أعمال القرصنة الدولية بحجة المحافظة على مصالحها، أليس وجود قواتها على أرض معظم دول الخليج العربي يمثل صورة الاستعمار القديم. وفي نهب خيرات تلك المنطقة كما كان يجري في الماضي في عهد الاستعمار، أو أليس ما قامت به الولايات المتحدة من حشد أكبر مجمع عسكري لتدمير العراق- ينطبق عليه ما ينطبق عما قامت به النازية بحجة شعار المناطق الحيوية؟ وتبرير ما قامت به، أنه أمر مشروع حيث كونها قوة عظمى، ويسير عملها هذا جنباً إلى جنب مع هيمنتها.
وهكذا، تبقى الدول / الأمم. الوحدات الأساس في النظام الدولي. في حين خفف زوال النزعة القومية المتطرفة لدى القوى العظمى وخسوف الأيديولوجيات، من المضمون العاطفي للسياسة الشاملة كما قلل السلاح النووي، وإلى حد بعيد، من اللجوء للقوة، في هذه الأثناء- وحدثت المجابهات والخصومات الإقليمية، التي تهيمن على العلاقات الدولية اليوم، على مناطق النفوذ. وتأخذ المجابهة مظهر العداوة عادة في أغلب الأحيان، تجاه جار رفض أن يمنح حق تقرير المصير لإخوة في الدم، أو اقتطاع جزء من الوطن الأم، أو التعبير عن الظلم في حال سوء معاملة الأقليات العرقية. ونشاهد في هذه المعادلات التقليدية، أن الرابط للوجاهة، هو نتيجة لهذه المشاكل المتنوعة.
وتميز النخبات الحاكمة، العوامل الجديدة في تحديد الوضع الدولي لدولة ما ودرجة نفوذها، ويتقدم النجاح الاقتصادي، ونتائجه الطبيعية والتجديد التكنولوجي، على المعايير الأخرى، وتمثل اليابان أفضل مثال. مع ذلك، يحدد الوضع الجغرافي لبلد ما، أفضلياته المباشرة وثقله العسكري والاقتصادي والسياسي، على الدوام، وكلها على علاقة مباشرة، مع قدرته على العمل عند ترويج مصالحه الجيوسياسية، وفي اللعب من أجل نفوذه، واتخذ المبادرات الحديثة أيضاً. وقدَّر المختصون في الجغرافيا السياسية، الفوائد النسبية للقوة البرية والقوة البحرية. كما جدّوا في تحديد المنطقة التي تسمح بالسيطرة على مجمل القاره الأوراسية ولقد افتتح أحد كبار الخبراء، وهو هالفورد. ج. ماكندر halford j. Mackinder هذا الحوار، منذ بداية القرن العشرين، عندما حدد مفهومين جديدين: فقد طور، قبل كل شيء ذلك المفهوم المسمى "المجال المحوري" في القارة الأوراسية "مضمناً فيها كامل سيبريا والقسم الأعظم من آسيا الوسطى" من ثم، قلب القارة (heartland) أي أوربا الوسطى المعتبرة كمقفزين ضروريين للسيطرة على القارة الأوراسية. ولقد عمم مفهوم قلب القارة، الميادين الأساسية المشهورة التالية:
-من يحكم أوربا الشرقية يهيمن على قلب القارة.
-ومن يحكم "قلب القارة" يهيمن على الجزيرة العالم
-ومن يحكم الجزيرة العالم، يهيمن على العالم.
ولقد استند مختصون ألمان مشهورون في مجال الجيوسياسية على هذه المبادئ لتبرير الـ (drang nach osten) لبلادهم، بصورة خاصة منهم كارل هوشوفير (karl haushofer) الذي تبنى مفهوم "هالفورد ج. ماكندر، للحاجات الاستراتيجية الألمانية. كما أوجد الصدى المعمم لمفهوم "المجال الحيوي" الضروري للشعب الألماني والذي وضع في مقدمة اهتمامات هتلر مع الإصرار على تنفيذه. وتوقع منظرون أوربيون، انتقال مركز الجاذبية، الجيوسياسية، إلى الشرق خلال النصف الأول من القرن العشرين، وفهموا أن منطقة المحيط الهادي الولايات المتحدة واليابان خاصة تستعدان لوراثة التفوق، والقيام بالهيمنة الإمبريالية خاصة الولايات المتحدة، حالما يصيب الضعف أوربا وتصبح غير قادرة على ممارسة تفوقها، بعد ذلك.. ودافع بول دوما نجون paul demangeon، والعديد من زملائه، جميعهم مختصون في مجال الجيوسياسية، دافعوا عن قيام وحدة كبرى بين الدول الأوربية، قبل البدء بالحرب العالمية الثانية.
واليوم، لم تعد الجيوسياسية تعلق كبير الأهمية، على الهوية. ويمكن لأية منطقة جغرافية في الأوراسيا، أن تؤدي خدمة كقاعدة من أجل الهيمنة على القارة، وليس من أجل المقارنة بين الفوائد النسبية للقوة البرية مع القوة البحرية، وتطرح الجيوسياسية، أن التفوق على القارة الأوراسية يؤدي خدمة كمنطقة رسو للهيمنة الشاملة، مروراً من المستوى الإقليمي إلى المستوى الكوني. وتتمتع الولايات المتحدة بالتفوق الدولي، مع أنها قوة خارجية بالنسبة للقارة الأوراسية، ويرجع ذلك إلى حضورها المباشر في ثلاث مناطق محيطية في القارة الأوراسية، مع موقع يمتد فيه شعاع عملها، حتى على دول المنطقة الخلفية (hinterland) القارية، لكن، تبقى القارة الأوراسية، المسرح الوحيد، الذي يمكن أن تظهر فيه، قوة منافسة محتملة للولايات المتحدة، أما إذا أرادت واشنطن تحقيق طموحاتها، بإعداد قواعد عمل جيواستراتيجي، بعبارة أخرى تحديد الوسائل التي يجب أن تؤمن لها إدارة مصالحها الجيوسياسية في القارة الأوراسية، على المدى الطويل، عندها يتحتم الخضوع لتحليل العاملين الرئيسين، والاعتراف المناسب بقيمة الأرض.
وللقيام بذلك، يلزم مرحلتان ضروريتان:
-قيام تطابق بين الدول التي تمتلك دينامية حقيقية جيواستراتيجية، قادرة على إحداث انقلاب هام في التوزيع الدولي للسلطة في المقام الأول، ثم الكشف عن الأفضليات التي تظهر في مجال السياسة الخارجية، في الحركة نفسها، ولدى النخبة في البلاد ذات العلاقة بالموضوع، ومواجهة النتائج التي ستحدث نتيجة جهودها لبلوغ ذلك الهدف، والتعرف على الدول التي تستطيع أن يكون لها تأثير حافز على الفاعلين الجيواستراتيجيين الأكثر أهمية، أو على الشروط الإقليمية، والأكثر حساسية حيال وجهة النظر الجيوسياسية.
-في المقام الثاني، صياغة سياسات نوعية، محددة لموازنة الجهود المشؤومة لسياسات ناتجة عن مبادرة من قبل بعض الدول، ثم تحديد الوسائل للربط والمشاركة والسيطرة عليها، بطريقة المحافظة على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وتشجيعها، وإعداد تأملات جيواستراتيجية شاملة تكمل وتطابق السياسات المتنوعة الإقليمية للولايات المتحدة، على المستوى الكوني.
باختصار، يتطلب تحديد التوجه الجيواستراتيجي حيال الفكرة الأوراسية بالنسبة للولايات المتحدة، وضوحاً في الطريقة، قبل كل شيء، وإنه من الضروري إقامة سياسات موطدة العزم تجاه دول مزودة بموقع جيواستراتيجي ديناميكي، لمعالجة الدول الحافزة مع الحذر، وفي العمق، لن يكون لهذا التقارب من معنى، إلا بمقدار ما يؤدي خدمة لمصالح الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، المحافظة على وضعها، كقوة كونية عظمى، على المدى القصير، ثم التطور نحو تعاون دولي، قائم على المؤسسات على المدى الطويل، وتتلخص الصيغ الثلاث الجيواستراتيجية في المصطلح الفظ لإمبراطوريات الماضي في: تجنب التواطؤ لإلحاق الأضرار "بالتابعين" ثم المحافظة على حالة التبعية، التي تؤمن أمنها، ثم زرع الطاعة لدى المواطنين في الدول التابعة، ومنع البرابرة من تشكيل تحالفات هجومية.
فاعلون جيواستراتيجيون وأقطاب جيوسياسيون:
يعتبر الفاعلون الجيوسياسيون من الدرجة الأولى، تلك الدول المزودة بقدرة ورغبة وطنية كافية من أجل ممارسة قوتها ونفوذها خارج حدودها. ومن هذا الواقع، فهي على قدرة على تعديل العلاقات الدولية، التي من الممكن أن تتعرض للتسبب بإلحاق الخطر والتأثير على مصالح الولايات المتحدة. والكل يملك قدرة ما وبدرجة ما، و/ أو النزوع لتبني موقف متفجر في الشأن الجيوسياسي، ولأسباب متنوعة، مثل عظمة وطنية، وارتياح أيديولوجي، أو اعتقاد ديني، أو إدعاء اقتصادي، كما تبحث بعض الدول عن بلوغ موقع إقليمي مهيمن أو نفوذ دولي. وإذا كان هذا الأمر مربكاً، في مجال التعليل المعقد له، فما من شيء يلخصه على نحو أفضل من الجملة التي قالها روبرت برووننيغ robert browning: "على الرجل أن يتوخى أكثر مما يمكن أن ينجزه، لكن ما جدوى أن تحلم بالجنة؟" فهذه الدول تتفحص جميع مظاهر قوة الولايات المتحدة، وتقدر في أي وضع منسجمة مصالحها مع ذلك الشريك المستفيد، الذي يعد أهدافه الخاصة، وذلك بالاضطلاع بمسؤولية المجابهة مع الولايات المتحدة، إذا كان ذلك ضرورياً. فيجب على الولايات المتحدة أن تعير اهتماماً خاصاً تماماً لمثل هؤلاء الفاعلين.
ويدل مفهوم الأقطاب الجيوسياسية، على تلك الدول، التي تعتمد على قوتها الحقيقية على نحو أقل، من تعليلاتها لوضعها الجغرافي الحساس بشكل أكثر، وتكون قابليتها للتأثر قوية، وتؤثر على سلوك فاعلين جيواستراتيجيين، ويمنحها تمركزها في أغلب الأحيان، دوراً أساسياً من أجل الوصول إلى بعض المناطق، بحيث تستطيع فصل فاعل من الطراز الأول عن المصادر الضرورية له، وقد يحصل أيضاً أن يعمل قطب جيوسياسي، كترس دفاعي لدولة أو منطقة ذات أهمية أساسية، وأحياناً، فإن الوجود البسيط لقطب جيوسياسي، له آثار سياسية وثقافية هامة، من أجل دولة مجاورة، ولها فاعلية في المجال الجيواستراتيجي، وإن مطابقة وحماية الأقطاب الجيوسياسية الرئيسية لما بعد الحرب الباردة أمر أساسي بالنسبة للاستراتيجية الشاملة للولايات المتحدة.
ولنشير أيضاً بتمهيد. إذا كان الفاعلون الجيواستراتيجيون هم من بلدان قوية من الدرجة الأولى بشكل عام، فإن جميع البلدان القوية لا تشكل فاعلين جيواستراتيجيين بصورة آلية، كذلك، فالمشكلة الوحيدة التي يمكن أن تثيرها لائحة الفاعلين، تتعلق بإهمال عدد معين من البلدان، ذات الأهمية، ويتطلب ذلك بعض التوضيح.
في الوضع الحالي، يمكن التمييز على الخارطة السياسية الجديدة للقارة الأوراسية خمسة فاعلين جيواستراتجيين، وكذلك خمسة أقطاب جيو سياسيين، على الأقل، "ويملأ اثنان من بين الأخيرين، مهمة الفاعلين جزئياً" فإن الهند والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا هي دول فاعلة من الدرجة الأولى، في حين أن بريطانيا العظمى واليابان وأندنوسيا، هي بلدان هامة جداً دون شك، لكنها لا ترقى إلى هذه الفئة، وتشكل أكرانيا وأذربيجان وكوريا وتركيا وإيران أقطاباً جيوسياسية حاسمة. وتلعب هاتان الأخيرتان، أيضاً في بعض الحالات دوراً جيواستراتيجياً، على الرغم من وسائلها الأقل..
في هذه المرحلة نكتفي بالقول، إنّ الفاعلين الجيواستراتيجين الأساسيين في الطرف الغربي للقارة الأوراسية، هما فرنسا وألمانيا. وكلا الاثنان مولعان بالعمل لرؤية أوربا موحدة، حتى إذا اختلفا في تقدير الروابط التي يتوجب أن يحافظ عليها مع الولايات المتحدة في هذا الكيان الجديد. مع ذلك، يثابر كل من الطرفين، على تحقيق ذلك المشروع الطموح، ببذل جهود، لتعديل الوضع الراهن، بعبارة أخرى. وتمتلك فرنسا تصوراً جيواستراتيجياً، خاصاً بأوربا، وهو تصور خاص بها، والذي يختلف عن التصور الخاص بالولايات المتحدة، في مظاهر متعددة، من جهة أخرى، لدى فرنسا بعض النزوع الطبيعي لتأخذ على عاتقها القيام بمناورات تكتيكية، أو لديها الإرادة لتلعب دور روسيا ضد الولايات المتحدة، بطيبة خاطر، أو حتى ضد بريطانيا العظمى، أو ضد ألمانيا، لكن تقوم بكل ذلك، بالاعتماد على التحالف الفرنسي الألماني للتعويض عن ضعفها الخاص بها.
ففرنسا وألمانيا، قويتان، على نحو كافٍ، وديناميتان من أجل أن يكون لهن نفوذ إقليمي أبعد من مجاوريهن المباشرين، كذلك، فإن لدى فرنسا، اعتقاد بتشكيل نواة لمجموع دول من دول البحر الأبيض المتوسط ومن شمالي أفريقيا، من أجل تقاسم المنافع المشتركة، بالإضافة إلى دورها السياسي المركزي في توحيد أوربا. وأخذت ألمانيا تعي الأوراق الرابحة التي تمتلكها، والخاصة بها، أكثر فأكثر، على أنها الدولة الأكثر أهمية في أوربا، فهي القاطرة الاقتصادية الإقليمية ورئيسة رتل القوة الاقتصادية في الاتحاد الأوربي، وتشعر بنفسها أن عليها أن تتولى مسؤولية خاصة حيال بلدان أوربا الوسطى الجديدة، وذلك ليس دون التذكير بالمفهوم العتيق (mittel europa) الذي يتوضح تحت الحماية الألمانية. يضاف إلى ذلك، فإن فرنسا وألمانيا تعتبران نفسيهما، أنه مسموح لهما، التفاوض باسم أوربا مع روسيا. ومن هذا الواقع، تستطيع ألمانيا، أن لا تستبعد إمكانية إجراء اتفاقيات ثنائية الجانب مع روسيا، اعتماداً على وضعها الجغرافي ونظريّا على الأقل.
وينقل السير روي دونمان (sir roy denman) الذي مثل بريطانيا العظمى لدى المجلس الأوربي، في أعلى مستوى، ينقل في مذكراته، كيف أنه صرح أمام مهندس أوربا الموحدة، أثناء المؤتمر التحضيري للسوق المشتركة عام (1955) قائلاً:
إنكم تُعِدُّون معاهدة للمستقبل، التي سوف لن تكون مصدقة مطلقاً ،وإذا صُدّقت، فإنها سوف لن تطبق مطلقاً، وإذا طُبّقت، فإنها سوف لن تكون مقبولة بالنسبة لبريطانيا العظمى [] إلى اللقاء وحظ سعيد(2).
ومرت أربعون عاماً، لكن حدد ذلك التصريح، الموقف البريطاني أيضاً فعلى العكس من ترددها حيال الاتحاد الاقتصادي والنقدي الذي أصبح نافذ المفعول منذ كانون الثاني (1999) فإن بريطانيا رفضت ربط مصيرها بمصير أوربا للآن. وما من شيء يمكن أن يلخص هذا الموقف على نحو أفضل من ذلك التحليل في بداية سنوات التسعينات (1990).
-بريطانيا العظمى ترفض احتمال قيام وحدة سياسية أوربية
-بريطانيا العظمى تفضل تنسيق سياساتها الخارجية في الأمن والدفاع خارج نطاق الجماعة الأوربية.
-بريطانيا العظمى تميز طرازاً للتكامل الاقتصادي قائم على التبادل
الحر(3)

-تبقى بريطانيا العظمى الشريك الهام بالنسبة للولايات المتحدة، بلا منازع، ويجب أن لا تمثل سياستها ومواقفها أية صفة تحدّي وتمارس المملكة المتحدة نوعاً من النفوذ الشامل عن طريق الكمونويلث، لكن سلطتها قد انخفضت. وإنها لم تعد تميل إلى رؤيا طموحة. وتقول إنه يجب عليها أن تكون روابط الصداقة مع الولايات المتحدة محافظ عليها، مع دعم حاسم وقوي، كحليف وفي، وبأن تبقى كقاعدة عسكرية حيوية، وأن تتعاون في مجال المعلومات، عن قرب، لكن ما من شيء يتطلب في سياستها اهتماماً مدعوماً، وإن المملكة المتحدة، فاعل جيواستراتيجي، لكن في حالة تقاعد، وهي تستند على انتصاراتها المشهورة، وعلى مسافة جديرة بالاحترام في مواقفها حيال المغامرات الأوربية الكبرى المعتادة من فرنسا وألمانيا.
وتلتزم الدول الأوربية الأخرى من ذوات القياس المتوسط، الأعضاء في حلف شمالي الأطلسي و/أو الجماعة الأوربية، في معظمها، بتوجيهات الولايات المتحدة، لكنها كثيراً ما تتبنى المواقف الألمانية والفرنسية وتبقى العقبة في سياساتها الإقليمية، وليس لديها للآن من سبب لمراجعة تحالفاتها. وهي لا تدخل في فئة اللاعبين الجيواستراتيجيين، في هذه الشروط ولا في فئة المحاورين الجيوسياسيين، كما أن الاعتبارات نفسها، تنطبق على أوربا الوسطى. فبولونيا، هي الأكثر أهمية من بين المرشحين الأقوياء للانضمام إلى منظمة حلف شمالي الأطلسي، وكذلك للاتحاد الأوربي. لكن لا تزال بولونيا ضعيفة جداً لإبراز دورها في وضع اللاعب الجيواستراتيجي، وليس أمامها من خيار، سوى التكامل مع الغرب. ويقدم اختفاء النظام الاشتراكي سبباً لربطها مع التحالف الأطلسي، وأوربا الموحدة، بشدة، ويعطيها ذلك ضمانات أمن لا سابق لها، وكذلك تحديد خياراتها الاستراتيجية.
أما روسيا، فتبقى اللاعب من الدرجة الأولى، وهل هناك حاجة لتوضيح ذلك؟ فعلى الرغم من ضعف الدولة للآن، والقلق الدائم بسبب الأوضاع الداخلية، فإن وجودها، مع ذلك، يمارس نفوذاً رئيساً على معظم الدول المستقلة حديثاً، والتي كانت تشكل جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق لكن لروسيا طموحات، جيوسياسية عالمية، وتوضحها على نحو مكشوف أكثر فأكثر، ويجب على مجمل جيرانها، في الشرق والغرب، أخذ نفوذها بالحسبان، إذا ما استردت بعض قواها من جهة أخرى، فإنها لم ترسم للآن خيارها الاستراتيجي الأساسي: فهل يجب اعتبار الولايات المتحدة، كشريك أم كخصم؟ كما تعتمد خياراتها في القارة الأوراسية على ما يمكن أن تختاره من أجوبة معلّقة للآن، حتى تتوضح سياستها الداخلية، خاصة توجهها الذي ستقرره من بين اختياراتها، هل تكون تبعية للولايات المتحدة، تحت شعار الديمقراطية الغربية، أم تسعى لتعيد أمجاد الماضي، كامبراطورية أوراسية؟ وفي جميع الحالات، لن يعرف وضعها كلاعب، حتى بعد خسارتها العديد من أجزائها، وهجرها للسيطرة على بعض المناطق الأساسية في الساحة الأوراسية.
وما من أحد يعترض على الدور الرئيس للصين، فهي الآن قوة إقليمية هامة، وإن لها طموحات أكثر رفعة، مع الأخذ بالاعتبار ماضيها كقوة دولية، وكذلك المفهوم الملائم للصينيين، على الدوام، كـ "إمبراطورية وسط" وقد عدلت خياراتها الآن، من التوزيعه الجيوسياسية كقوة في آسيا بتناغم مدعوم من تطورها الاقتصادي، ويسير ذلك من التخفيف من وسائلها وطموحاتها للآن، وسيطرح موضوع تايوان، وبسرعة كانطلاقة لبداية "الصين العظمى" وقد يعرضها ذلك، أن يصبح لهذا الأمر انعكاسات ذات دلالة خطرة، على موقع الولايات المتحدة في الشرق الأقصى. وكان لتفكيك الاتحاد السوفياتي، آثار كبيرة على الجناح الغربي من الصين، بإنشاء سلسلة كاملة من الدول المستقلة، لم تحدد بكين بعد سياستها المتلاحمة حيالها. وسوف لن يكون الموقف الصيني موقف اللامبالي حيال هذه الأوضاع الجديدة. وكما أن روسيا، ستكون متأثرة بعمق، عند بروز الصين كقوة عظمى على المسرح الدولي.

ويعتمد التوازن، في الطرف الشرقي من القارة الأوراسية، على التناقض فاليابان ، قوة دولية، دون شك، من الدرجة الأولى، ولليابان الحق باعتبار أن التحالف الأمريكي الياباني، كعلاقة ثنائية، الأكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة، لكون اليابان، أحد كبار القوى الاقتصادية الدولية، وبأنها تمتلك وسائل الضغط للتأثير على السياسة الدولية. مع ذلك، يتخلى اليابان، عن التفكير بكل نفوذ إقليمي للآن، ويتخذ مبادرات وكأنه تحت وصاية الولايات المتحدة، ولا يتمنى للآن أن يتورط في السياسة القارية في آسيا، على غرار تصرف بريطانيا في أوربا، ومن بين الأسباب الأخرى، فإنه من الواضح، سيوقظ أي تردد لإرساء تفوقه، ريبة وعداوة جيرانه.
وتمنح السياسة المتواضعة لليابان، دوراً أساسياً، للولايات المتحدة، في مجال الأمن في الشرق الأقصى، ويجب أن لا يغيب عن البال، أنه، إذا لم يكن اليابان لاعباً جيواستراتيجياً، الآن، فإنه يمتلك القدرات الضرورية لكي يصبح كذلك وبسرعة، على سبيل المثال، إذا عدلت الولايات المتحدة أو الصين خطّها في تصرفاتها والمحافظة على علاقات جيدة مع اليابان أمر ضروري بالنسبة للولايات المتحدة، ليس بوضع عينيها مفتوحة على سياستها الخارجية، بل بزرع الاحتراس الدولي في هذا البلد مع العناية، وسيكون لضعف الروابط السياسية بين الولايات المتحدة واليابان، أثر حاسم ومباشر على الاستقرار الإقليمي.
ولن تعرف إندنوسيا أن تصبح معتبرة كلاعب جيواستراتيجي ديناميكي لجملة كاملة من الأسباب. حيث بقي نفوذ هذا البلد الأكثر أهمية في جنوب شرقي آسيا، محدوداً جداً في النطاق الإقليمي. فهو يعاني من مشاكل اقتصاد نام نسبياً، ومن عدم استقرار سياسي بنيوي، ومن تبعثر جغرافي لأرخبيلها، ومن قابلية للنزاعات الاثنية، هامة تثار من قبل الموقع الذي تحتله الأقلية الصينية في القطاع المالي. وباستطاعة أندنوسيا أن تشكل عقبة ذات أهمية أمام التطلعات الصينية، باتجاه الجنوب. ويمكن مع ذلك، التأكيد أن فترة ضعف الإرادة التوسعية الأندنوسية، قد انتهت. أما استراليا التي أصابها القلق منذ عهد قريب، فقد شدت من روابطها، فيما بعد، في مجال التعاون والأمن مع أندنوسيا، ويلزم فترة من الاستقرار والنجاح الاقتصادي حتى تصبح اندنوسيا فاعلاً إقليمياً مهيمناً.

وحصلت الهند على وضع القوة الإقليمية، وتتصرف بالمقابل كلاعب دولي من النسق الأول. فإنها قد جعلت من نفسها كمنافس للصين، وإن كان مثل ذلك التقدير مبالغاً فيه، مع ذلك، فلا جدال بأن الهند تشكل الدولة الأقوى في آسيا الجنوبية، وتشكل القطب الوحيد للسلطة الإقليمية، فزودت نفسها بالسلاح النووي، وبطريقة شبه رسمية ليس فقط من أجل تخويف الباكستان، بل أيضاً من أجل إقامة التوازن في مواجهة الترسانة النووية الصينية، وقد أعدت الهند رؤيا جيواستراتيجية لدورها الإقليمي، يمتد على مجمل المحيط الهندي، بناء عليه فإن طموحاتها لا تتناقض مع مصالح الولايات المتحدة في القارة الأوراسية، ومن هذا الواقع، لا يشكل هذا اللاعب الجيواستراتيجي، مشاكل جيوسياسية على المستوى نفسه، كروسيا أو الصين.
وقد عدل استقلال أُكرانيا من طبيعة الدولة الروسية نفسها. ومن هذا الواقع، يصبح الوضع الجديد والهام على الساحة الأوراسية، كمحور جيوسياسي. ولقد توقفت روسيا عن كونها إمبراطورية في أوراسيا بدون أكرانيا، حتى لو أنها بذلت جهوداً لكي تخفي تماماً مثل هذا الوضع. وعندها سيصبح مركز الجاذبية محولاً عندئذٍ.. وستصبح هذه الإمبراطورية آسيوية بصورة رئيسة، ومكرسة للضعف لكن سيقود مثل ذلك الوضع لنزاعات دائمة مع تابعيها الثائرين في آسيا الوسطى، وسوف لن يقبل هؤلاء خسارة استقلالهم دون أن يقاوموا، ذلك الاستقلال الذي حصلوا عليه حديثاً. كما سيضمنون لأنفسهم الدعم من حلفائهم المسلمين في الجنوب، في حين تعارض الصين، التي تبدي اهتماماً متزايداً بالدول الجديدة ، في آسيا الوسطى، وبإصلاحات وضع اليد الروسية دون شك. كما ستضمن عودة السيطرة على أكرانيا من قبل موسكو بلد من اثنين وخمسين مليون نسمة، مزود بمصادر عديدة، ومن ممرّ إلى البحر الأسود، الوسائل لتصبح روسيا دولة إمبريالية وقوية من جديد تتوسع باتجاه أوربا وآسيا، وسيكون لانتهاء استقلال أكرانيا من آثار فورية على أوربا الوسطى، وستصبح بولونيا، عندئذ المحور الجيوسياسي، على الطرف الشرقي لأوربا الموحدة.
أما أذربايجان، فإنها تغطي منطقة حساسة، لأنها تسيطر على المنافذ نحو الثروات الغنية في حوض الكاسبيان وآسيا الوسطى، على الرغم من ضعف أبعادها وعدد سكانها المحدود. وسيكون لأي تهديد لاستقلالها نتيجتان: من جهة، فإن موسكو ستبدل اتجاهها نحو مكاسبها من الثروات النفطية الضخمة في هذا البلد، ومن جهة أخرى، فإن أي دور لآسيا الوسطى، سيفقدها كل قدرة على المبادرة حتى إذا حافظت على استقلالها الشكلي. وسيسمح كون أذربايجان مستقلة، بأن ترتبط ثانية بالأسواق الغربية، عن طريق الأنابيب النفطية التي تجنبت المرور بالمناطق الخاضعة للنفوذ الروسي، ومما يسمح بالربط بين الاقتصاديات النامية، ذات الاستهلاك القوي للطاقة، وحقول النفط المطموع فيها من قبل جمهوريات آسيا الوسطى وإن مصير أذربايجان وآسيا الوسطى، مشابه للمصير الأكراني، وقد يؤثر ما سيكون عليه مصير روسيا في المستقبل.
وستحاول كل من تركيا وإيران، العمل على تعزيز نفوذها في آسيا الوسطى خاصة في منطقة بحر الكاسبيان، نتيجة للضعف الروسي، ويكفي حضورها، لكي يؤدي إلى تضمينها في لائحة اللاعبين الجيواستراتيجيين غير أن الصعوبات الداخلية، لكل منهما، تحد من قدراتهما للتوزيع الإقليمي للسلطة، والجهود التي تتجاوز الحد، المخصصة لإبطالها بسبب المنافسة، وسيقلل نفوذهما المتبادل من هامش مبادراتهما. وقد حققت تركيا، نفوذاً ذا دلالة في أذربايجان، وقدم الموقف الإيراني الموجه لخدمة المصالح الروسية على حياء، نتيجة للتحرك في نطاق أقليتها الآذرية.
وتشكل كل من تركيا وإيران محورين جيوسياسيين، مع ذلك، ومن الطراز الأول. إذ تشكل تركيا عامل استقرار في منطقة البحر الأسود كما تشكل حاجزاً، على المحاور المؤدية للبحر الأبيض المتوسط، كما تؤدي خدمة كعامل موازنة مع روسيا في القوقاز، وترياقاً واقياً ضد الأصوليين الإسلاميين ونقطة رُسُوّ للحلف الأطلسي في الجنوب. وتشجع الاضطرابات في تركيا على العنف في جنوبي البلقان، وبالتالي عودة الحضور الروسي إلى الدول المستقلة حديثاً في القوقاز، وتؤدي إيران خدمة أيضاً كعنصر استقرار وإعادة توزيع السلطة في آسيا الوسطى، على الرغم من موقفها الغامض تجاه أذربايجان. وتؤكد إيران على هيمنتها على الجناح الشرقي للخليج العربي /الفارسي، مع رغبتها بالاستقلال، حتى لو ترافق ذلك بالعداء الظاهر للولايات المتحدة، وبالعمل على منع روسيا من تهديد المصالح الأمريكية في منطقة الخليج العربي.
أخيراً، كوريا الجنوبية، المحور الجيوسياسي في الشرق الأقصى، فهي تقدم خدمة كدرع ضد اليابان، من واقع روابطها الوثيقة مع الولايات المتحدة وذلك بردع اليابان عن تشكيل قوة عسكرية ذات استقلال ذاتي، وتسمح بالحد من الحضور العسكري للولايات المتحدة في الأرخبيل. وسيشوش أي تبديل هام في وضع كوريا الجنوبية، سواء عن طريق الوحدة مع كوريا الشمالية، أو الاندماج مع الفلك الصيني، سيشوش من دور الولايات المتحدة في الشرق الأقصى، وبالنتيجة دور اليابان، يضاف إلى ذلك تزيد "الخانة" التي تشغلها كوريا الجنوبية على الساحة الدولية من نموها الاقتصادي، أولاً بأول، وتصبح بالتالي السيطرة عليها أكثر أهمية وقيمة، فأكثر.
وهكذا، فاللائحة المقامة لدور اللاعبين الجيواستراتيجيين، وكذلك لدور المحاور الجيوسياسية، ليس لها صفة الدوام والاستمرار، ولا حتى لها صفة الحزم، ويمكن أن يصبح وضع العديد من الدول، موضع بحث في الظروف الراهنة. فيمكن أن تدخل تايوان وتايلاند وباكستان وربما حتى كزخستان وأوزباكستان في صف المحاور الجيوسياسية، في بعض الجوانب، بناء عليه، ليس هنالك من ذريعة واضحة مع ذلك، تبرر أن لا تشملها تلك اللوائح، لكن سيشكل أي تبدل للأوضاع لأي بلد من تلك البلدان، حدثاً ذو أهمية حاسمة، مما يؤدي إلى تغيير توزيع القوة لكن ليس من المؤكد، بأن ذلك سيؤدي إلى ردود فعل متسلسلة. فقط موضوع تايوان، هو الموضوع الصعب، وإذا اعتبرت هذه الجزيرة على أنها كيان مستقل عن الصين، عندها يمكن اعتبار ذلك استثناءً. فهل يجب أن تلتزم الصين القاريه بإخضاع تلك الجزيرة بالقوة ؟ مطلقة بذلك العمل تحدياً للولايات المتحدة وكذلك قابلية مصداقيتها في الشرق الأقصى، يبدو أن هذا الاحتمال لمثل ترتيب الظروف بهذا الشكل ضعيف للغاية، لكن يجب وضع هذا الاحتمال تحت النظر من أجل ترسيخ سياسة الولايات المتحدة
تجاه الصين.

خيارات كبرى، وتحديات في المستقبل:
سمح تطابق اللاعبين من الدرجة الأولى والأقطاب الأساسية وتوافقهم، بحَصْر المآزق الكبرى التي تجد الولايات المتحدة نفسها فيها في مجابهة معها. وتتركز التحديات الرئيسية المتوقعة التي يمكن أن تبرز في القارة الأوراسية حول خمسة أمور نعرضها فيما يلي:
1-نوع الوحدة الأوربية، وأثرها على الولايات المتحدة وكيفية تشجيعها
2-ما هو المظهر الذي يمكن لروسيا أن تتبناه، والذي يحفظ مصالح الولايات المتحدة، على نحو أفضل؟ وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تضغط في هذا السياق، بشكل أفضل؟
3-إلى أية درجة يمكن للبلقان أن يبرز من جديد في أوراسيا، وكيف يمكن للولايات المتحدة التقليل من أخطار الانفجارات فيه؟
4-أي دور يجب أن يكون للصين مشجعاً لها لتتبناه في الشرق الأقصى، وماذا ستكون عليه النتائج بالنسبة للولايات المتحدة بل أيضاً بالنسبة لليابان؟
5-ما هي التحالفات الجديدة القابلة لأن تتشكل على القارة الأوراسية، والتي يمكن أن تهدد مصالح الولايات المتحدة وما هي الوسائل التي يمكن اللجوء إليها من أجل تجنبها؟
لقد أعلنت الولايات المتحدة، على الدوام، عن تعلقها بالوحدة الأوربية، وقد جرى تأكيد الأساس الدائم لهذا المطلب منذ إدارة الرئيس كندي. وكان ذلك المبدأ يعني "المشاركة" في الاتحاد "على قدم المساواة" ويسجل الموقف الرسمي لواشنطن على دعم ظهور كيان جديد، قوي على نحو كافٍ، في أوروبا من أجل تقاسم المسؤوليات مع الولايات المتحدة من جهة، وكذلك التكاليف من أجل التفرد على سطح الكرة الأرضية، وحماية المصالح المشتركة لكن، ينقص موقف الولايات المتحدة، الوضوح والمنطق، فهل تتمنى واشنطن حقا ًمعالجة الشؤون الدولية على قدم المساواة مع غيرها ، أم أنها تفضل تحالفاً مع أوربا أقل توازناً؟ وهل الولايات المتحدة جاهزة لتقاسم تفوقها في الشرق الأوسط، المنطقة التي ليست أكثر قرباً من أوربا جغرافيا فقط، بل فيها للعديد من الدول الأوربية مصالح حيوية، وتدافع عنها منذ زمن بعيد، وهي مصالح خاصة هامة جداً، ولنذكر على سبيل المثال، القضية الفلسطينية- وما تقوم به الولايات المتحدة حيالها فهي تقدم الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني في جميع المجالات والمستويات وترفض واشنطن، حتى مجرد ابداء الرأي لأي كان، يتعلق بتلك القضية. كما أن هناك خلافات عميقة حول الموقف من العراق- والموقف من الحظر الظالم الذي يتسبب في قتل مئات آلاف الأطفال العراقيين، وتمنع الولايات المتحدة عنه حتى الطعام والدواء، وتعالج الولايات المتحدة مثل تلك الأمور بروح الهيمنة وليس كخلاف بين أنداد.
ويعتبر الأوربيون، فقدان الحماسة تجاه الوحدة الأوربية من قبل الولايات المتحدة، عملية غدر، وغموض في المواقف، خاصة تجاه البلدان التي تتخذ قرارات قد لا ترضى عنها واشنطن في بعض الشؤون الدولية. فواشنطن لم تقم فقط بإضعاف عزيمة لندن للعب الدور المخرب في كثير من الأمور المتعلقة بالاتحاد الأوربي، بل تشجع ألمانيا وتتحيز لها بشكل بارز لتتولى برلين زعامة أوربا بدلاً من فرنسا- في عملية التوحيد وهذا الايثار واضح، وعلى مشهد من التوجهات التقليدية في السياسة الفرنسية كما لها تأثير على التقاربات التكتيكية الفرنسية- البريطانية التي تتعارض مع المواقف الألمانية. كما أنها تشجب سراً وعلناً، المغازلات التي تقوم بها فرنسا حيال روسيا، والموجهة لموازنة التحالف الألماني الأمريكي.
ويستوجب ظهور أوربا موحدة- خصوصاً إذا استفاد من دعم بنّاء من جانب الولايات المتحدة ، أن يترافق مع تعديلات هامة على الهياكل الخاصة بمنظمة حلف شمالي الأطلسي، الرابطة الأساسية لنفوذ الولايات المتحدة في أوربا، بل أيضاً الكادر الخاص لحضورها العسكري في هذه القارة، والرهان الحاسم فيها، ولقد انطوى التحالف كمركز هيمنة، إذا استخدمنا حقاً المصطلح الكلاسيكي للعبارة، وقد يصبح قائماً على اتفاق بين شريكين متساويين تقريباً، مع الوحدة الأوربية. ولم تفلح للآن محاولات التسوية الضرورية، في نطاق منظمة حلف شمالي الأطلسي، المستهدفة أن يصبح الدور الأوربي فاعلاً، كما لم تفلح المحاولات لإنشاء قوة أوربية خاصة بأوربا فعلاً وعملاً، وهو خيار لصالح أوربا ولا شك، وبالتالي إجبار الولايات المتحدة على إعادة النظر في تنظيم منظمة حلف شمالي الأطلسي، على أسس جديدة، يكون للكلمة الأوربية مكان في قرارات الحلف، ومن أجل الحد من استعلاء الولايات المتحدة في نطاق الحلف.
باختصار، إذا أرادت الولايات المتحدة إعداد فكرة جيواستراتيجية ملائمة حقاً لأوربا، فعليها مواجهة الوحدة الأوربية، دون تهرب، كما عليها أن تسمح بشراكة حقيقية مع أوربا، وعليها أن تدرك كل ما يعنيه هذا المفهوم، فإذا كانت الولايات المتحدة ترغب حقاً بهذه الوحدة وبناء على ذلك بأوربا أكثر استقلالية يجب أن تضع كل ثقلها في الميزان من أجل دعم البلدان ذات الالتزام الأكثر بنجاح التكامل الاقتصادي والسياسي في أوربا وتقتضي مثل هذه الاستراتيجية، المراهنة ثانية، بشأن آثار التحالف البريطاني الولايات المتحدة، ذو الأهمية كأمر مقدس منذ زمن بعيد:
كما يجب أن تأخذ السياسة المتلاحمة بالحسبان وهذا يعني الإشارة إلى إثارة حوار مشترك مع الأوربيين- موضوع عملية توسيع الاتحاد الأوروبي المعقد: خاصة، فيما يتعلق بالمدى الذي يمكن لأوربا أن تتوسع فيه باتجاه الشرق؟ وهل يجب أن تتوافق الحدود للاتحاد الأوربي مع حدود منظمة حلف شمالي الأطلسي؟ فإذا كان الجواب، على السؤال يخص الأوربيين وحدهم، فله مع ذلك توريطات مباشرة مع قرارات منظمة حلف شمالي الأطلسي، وبطبيعة الولايات المتحدة، التي تلعب هذا الدور الراجح حتى هذا اليوم، ويبدو ان توافقاً قد توطد لصالح السماح لشعوب أوربا الوسطى، في الالتحاق بهذين الكيانين الاتحاد الأوربي ومنظمة حلف شمالي الأطلسي- لكن، يبقى الحوار مفتوحاً، بهذا الشأن، أما ما يتعلق بمستقبل الجمهوريات البلطيقية وأكرانيا، فسيكون انضمامها ضمن أمد ليس بقريب.
ويلاحظ أن الموضوع المشكوك بأمره من الناحية الجيواستراتيجية، هو إعادة البحث فيما يتعلق بروسيا الاتحادية، ويطرح مستقبل هذا البلد، العديد من الأسئلة، ولا يمكن الاكتفاء بالإعلان عن أفضلياتها بالرد عليها في سبيل حل ديموقراطي وتعزيز الروابط الوثيقة مع أوربا. وإنه من المحتمل أن تلعب روسيا دوراً تلتزم فيه بالقيم التي يتقاسمها الأمريكيون والأوربيون. بالنتيجة أن تلعب روسيا دوراً لا يمكن إهماله في سبيل المشاركة في بناء أوراسيا أكثر استقراراً، بحيث تتعاون فيها الأمم المختلفة بشكل أكثر انسجاماً، لكن لا تضع إقامة نظام ديموقراطي في روسيا، حداً للطموحات الروسية الأخرى، بالضرورة، ويستمر المفهوم الراسخ بعمق بين أوساط النخبة الحاكمة "المشكلة بشكل واسع من الكوادر السوفياتية القديمة، في مجال السياسة الخارجية، كما في المجالات الأخرى" بأن لروسيا دوراً عالمياً يجب أن تلعبه، دوراً من الدرجة الأولى، وتقتضي هذه النزعة تبعية دول جديدة لموسكو، خاصة تلك التي استقلت نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي، وتتجلى بادرة الصداقة من الغرب، في نظر عدد متنفّذ من الطبقة الحاكمة، بأنها طريقة لانكار حق روسيا في وضع دولي متميز، وأنه من المفيد ذكر ما علق به خبيران روسيان في الجيوسياسية:
"بالرغم من أن الولايات المتحدة، والبلدان الأعضاء في منظمة حلف شمالي الأطلسي، تتجنب لحد ما، عمل ما يمكن أن يتسبب في إهانة الشرف الوطني الروسي، إلا أنها تتمسك بتفتت روسيا، وتدمير الأسس الجيوسياسية التي يمكن لموسكو، أن تأمل، نظرياً على الأقل استعادة وضعها كقوة دولية، واحتلالها تلك المكانة التي كانت للاتحاد السوفياتي السابق".


خصوصاً، فإن الولايات المتحدة مشكوك بنواياها عملياً، تجاه المنظمة الجديدة في الحيِّز الأوربي، وتعمل واشنطن على جعل مجموعة الدول الضعيفة من دول أوربا الشرقية، قابلة للحياة، في هذا الجزء من العالم، مقدمة لها عرضاً للاقتراب من منظمة حلف شمالي الأطلسي، ومن الاتحاد الأوربي أو مؤسسات غربية أخرى.
يعرض هذا التنويه المآزق التي تواجه الولايات المتحدة بشكل جيد. كما يعرض إلى أي مدى تنسجم فيه المساعدة الاقتصادية لروسيا، التي تعزز من قوتها السياسية والعسكرية في يوم ما مع المساعدة المقدمة للدول المستقلة حديثاً. وهل تستطيع روسيا بالحركة نفسها، أن تصبح قوية وديموقراطية؟ وهل أنها سوف لن تبحث عن إصلاح مجالها الإمبريالي، عندئذ، إذا زادت من قوتها؟ وهل يمكنها أن تزدهر باعتبارها إمبراطورية وكونها ديمقراطية؟
فلا يمكن لسياسة الولايات المتحدة تجاه الأقطاب الجيوسياسية المحسوسة، مثل أكرانيا، أدربايجان، أن تتجنب طرح مثل تلك المواضيع، لكن تتلخص العقبة في الاختيار بين التوازن التكتيكي والنية الاستراتيجية، ويشترط التجديد الداخلي لروسيا، التقدم في عملية الدمقرطة، وأن تصبح أوربية
(
europesation) "أي تتأرّب" وستكون الآثار الناتجة عن استعادة قدراتها الإمبريالية، مشؤومة على هذين الهدفين: الدمقرطة والتأرّب، وهنا يمكن أن تتولد عنها مشاكل تؤدي إلى خلافات بين الولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية، وستؤثر هذه النتائج على الاتحاد الأوربي في المقام الأول، وكذلك، على منظمة حلف شمالي الأطلسي، فهل إن ترشيحاً محتملاً لروسيا لواحدة من هاتين المؤسستين، من الأمور التي يمكن مواجهتها؟ وفي هذه الحالة ماهو دور أكرانيا؟ وهل سيكون لاستبعاد روسيا نتائج خطيرة- فهذا سيؤكد التنبؤات الروسية الأشد كآبة لكن سيكون لإضعاف الاتحاد الأوربي أو حلف الأطلسي آثاراً قوية تتسبب في عدم الاستقرار.
وتحوم شكوك أخرى، في المجال الواسع من آسيا الوسطى، المجرد من السمات الجيوسياسية الراسخة، وتتحرك تلك الشكوك بقابلية التأثر بالمحورين الإقليميين، تركيا وإيران. ويعيش في المنطقة الممتدة من الكريمة، وعلى طول الحدود الجنوبية الجديدة لروسيا، حتى الإقليم الصيني في غرينغجيانغ
(
xinjiang) وتنزل من جديد نحو المحيط الهندي، لتتابع باتجاه الغرب نحو البحر الأحمر، قبل الصعود من جديد نحو الشمال، نحو الهدب الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ثم تنغلق ثانية، على البحر الأسود، يعيش أكثر من أربعمائة مليون من السكان موزعين ما بين خمس وعشرين دولة، وعلى مزيج عرقي وديني غير متجانسين، ومحرومة من الاستقرار في معظمها، ويمتلك العديد من هذه الدول الأسلحة النووية، أو تسعى للحصول عليها.
تحتضن هذه المنطقة، نزاعات متفجرة، سريعة الالتهاب ومحاطة بقوة مجاورة هامة. ويدل كل ذلك على أنه يمكن أن تصبح ميدان مجابهات عنيفة بين الدول/ الأمم. ومن المحتمل أن تصبح مسرحاً لنزاعات عرقية ودينية على نحو أكثر، عسيرة على الحلول وسيحدد الموقف الهندي مدى العداوات، فالهند تمتلك الوسائل لتخويف خصومها الأكثر حباً للحروب، ويمكن أن تختار تأجيج النزاعات إذا وجدت في ذلك مناسبة للتأثير على الباكستان، كما سيؤثر تفاقم التوتر الداخلي في كل من تركيا وإيران، على دورهما في عملية الاستقرار، لحد ما، وسوف لن تُسهّل مثل هذه التطورات تكامل الدول الجديدة في آسيا الوسطى، مع المجموعة الدولية، كما ستؤثر على الأمن في منطقة الخليج العربي الفارسي، الذي سيبقى في دائرة اختصاص الولايات المتحدة، ويمكن للولايات المتحدة، مثلها مثل القوى الإمبريالية الأخرى، أن تُصبح مجابهة في المنطقة، وتدخل في نزاع على نطاق أقوى بكثير من تلك الحرب التي جرت في يوغوسلافيا السابقة.
وتستغل الأصولية الإسلامية والنزعة القومية المتزايدة، اللتان توجهان الاتهام للغطرسة والهيمنة الأمريكية في المنطقة لحماية مصالحها الجشعة، والتي تشكل عامل عدم، استقرار فيها، خاصة في دعمها اللامحدود للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وكذلك دعمها لبعض الأنظمة في المنطقة، على حساب المصالح القومية، مما يؤدي إلى تفجرات من حين لآخر تزعزع استقرار تلك المنطقة الحساسة من العالم. غير أنه مع غياب سياسة متلاحمة في معظم دول المنطقة، لتصبح قادرة على فرض سيطرتها على التيارات المختلفة، وغياب الديمقراطية، كل ذلك يقود أيضاً إلى احتكاكات تؤثر أيضاً على الاستقرار في تلك المنطقة، فالتحدي الذي تمثله النزعة الأصولية، الدينية أو القومية، لا يشكل تحدياً استراتيجياً مطلقاً من وجهة النظر الجيوسياسية، بل يجب البحث جدياً عن أسباب العنف المنتشر ومعالجتها.


هذا، وتفرض القوة التي تتمتع بها الصين، مسائل جيواستراتيجية حاسمة، مع ذلك، لا يمكن استبعاد الاحتمالات الأكثر تفاؤلاً، مثل احتضان الصين للمبادئ الديمقراطية، وتطبيق قوانين السوق وعندها ستندمج الصين مع ميثاق تعاون إقليمي، لكن لا شيء يضمن أن يترافق نموها الاقتصادي، وتعزيز قدراتها العسكرية، بدَمَقْرَطةٍ واسعة، ومهما تكن الحسابات والمناورات المعروضة ما من أحد من جيرانها، لن يكون على قدرة لمعارضة (صين عظمى)، يضاف إلى ذلك، النزوع لدى بعض دول المنطقة إلى خلق النزاعات والتوترات. مع ذلك سيكون لمثل تلك الأوضاع نتائج خطيرة، خاصة على العلاقات الأمريكية اليابانية، إذ من المحتمل، ولو قليلاً للآن، أن لا تقف طوكيو في الصف الأمريكي، إذا قررت معارضة الطموحات الصينية. ويمكن لمثل ذلك الموقف، أن يؤدي بطوكيو لمراجعة رؤياها ودورها بشكل جذري في المنطقة وبالتالي العمل على إنهاء الوجود الأمريكي في الشرق الأقصى.
فإذا أريد التعامل مع الصين يجب القبول عندئذ بدفع الثمن. وسوف لن تكون الموافقة على ذلك، وقبول فرض هيمنتها، مقتصرة على افتراض ما يُطلب إثباته، بل ما هي الحقائق التي تؤكد على تفوقها؟ بل السؤال الأكثر وضوحاً، ما هو فلك النفوذ المتضمن بلداناً، ويبقى مقبولاً للولايات المتحدة، وملائماً في الوقت نفسه لاندماج الصين في الاذعانات الدولية؟ وما هي التنازلات التي يمكن أن يُوافق عليها من قبل الإمبراطورية السماوية المتجددة؟
في هذا السياق، تكتسي المحافظة على الوجود الأمريكي في كوريا الجنوبية، أهمية حاسمة، وبدلاً من ذلك، يتوجب مواجهة مراجعة الاتفاقيات العسكرية الأمريكية اليابانية، من أجل أن يعهد لطوكيو بالوسائل اللازمة لدفاعها. وكل حركة تستهدف صالح توحيد كوريا، قابلة لأن توجه الاتهام للوجود العسكري الأمريكي على شبه الجزيرة الكورية، ويمكن التفكير أيضاً باحتمال أن تختار كوريا الموحدة الاستغناء عن الحماية الأمريكية، ولم لا، أن لا يكون هو الشرط للثمن المُعْلَن من قبل الصين، بدلاً عن دعمها القاطع لإعادة الوحدة، وعندها يتوجب على الولايات المتحدة، أن لا تنسى، وبكل وضوح أنه سيكون للسلوك بشأن علاقاتها مع الصين نتائج خطيرة على الاستقرار والأمن الأمريكي- الياباني- الكوري، بشكل محتوم.


لإنهاء هذا الأمر، لنتذكر أيضاً، احتمال تحالف أطراف من بلدان مختلفة فكان يهيمن على الشؤون الدولية في الماضي، القضايا بين دولة ودولة، إلى حد كبير، وتبحث كل دولة عن ضمان لها بالوصول إلى الهيمنة الإقليمية، لهذا، من المحتمل أن تواجه الولايات المتحدة تحالفات إقليمية، تستهدف دفع أمريكا خارج القارة الأوراسية، وهذا ما يؤدي إلى تهديد وضعها كقوة شاملة، وإننا نستطيع أن نشير منذ الآن، أن ظهور تحالفات من هذا الطراز، سيعتمد على الطريقة التي سوف تصمم طبعاً للبراهين التي أتينا على ذكرها، على نطاق واسع.
وسيمثل السيناريو الثاني خطراً قوياً جداً‍ ولادة تحالف كبير، يضم الصين مع روسيا، وربما إيران ليكون تحالفاً موحداً ضد "هيمنة الولايات المتحدة" وكان في الماضي هذا الاحتمال ضعيفاً عن طريق الصلات الأيديولوجية مع أنه مشابه الآن من حيث الاتساع والمدى لما كانت عليه الكتلة الصينية السوفياتية. لكن سيكون موجهاً هذه المرة من قبل الصين. ولتجنب هذا الاحتمال اليوم يجب على الولايات المتحدة، بسط كل مهاراتها الجيواستراتيجية على جزء كبير من المحيط الأوراسي، خاصة إلى الغرب على الأقل، وإلى الشرق وإلى الجنوب.
كما سيكون لمحور صيني ياباني، مع أنه أقل احتمالاً، ثقلاً أكثر من حيث آثاره. وإنه لن ينبثق إلا عند ظهور بداية انهيار التفوق الأمريكي في الشرق الأقصى، وبالتالي، إعادة في توجه السياسة الخارجية اليابانية. وسيسمح مثل هذا المحور، تبرير وحدتها، التي ستقوم على العقيدة "الآسيوية" ضد هيمنة الولايات المتحدة بمشاركة شعبين ديناميين جداً. مع ذلك، يجب النظر إلى المستقبل بشكل سيِّئ، خاصة إذا نجح هذان البلدان، في صرف النظر عن نزاعاتهما التاريخية لتشكيل تحالف بينهما. وسوف يتوجب على واشنطن أن تتمكن من حماية نفسها من مثل هذه التوقعات، إذا كانت تريد لعب دور الحرص والبصيرة في الشرق الأقصى.
كما لا يمكن استبعاد نشوء تحالفات في أوربا، على الرغم من كونه بعيد الاحتمال، كما يبدو اليوم، وقد يكون التحالف مثلاً على شكل ميثاق ألماني روسي، أو اتفاق فرنسي- روسي، وتعرف سوابق مماثلة مشهورة، وستكون الفرضيتان معقولتان، إذا قضت التعقيدات على الوحدة الأوربية، إذا استعصت على أي حل، أيضاً إذا فسدت العلاقات بين أوربا والولايات المتحدة، بشكل خطير، فهل يمكن تخيل إمكانية التوافق بين أوربا الغربية وروسيا، يستهدف طرد الولايات المتحدة من القارة كلها، لكن لا تبدو إمكانية حصول تغييرات كبيرة في الظروف الراهنة، محتملة، ويجب على الولايات المتحدة، أن لا ترتكب سلسلة من الأخطاء الكبيرة، لكن يجب أن يعاد النظر في السياسة الأوربية من جديد، تكون فيها شريكاً للولايات المتحدة، على قدم المساواة.
ومهما يكن المستقبل وما يخبئه، يمكن أن نستخلص، على نحو معقول، أن أولوية الولايات المتحدة في القارة الأوراسية، ستكون خاضعة إلى اضطرابات قوية، حتى قد تصل إلى المجابهة مع حوادث عرضية من العنف ويمكن أن يتسبب طامعون جدد، أو تحالفات جديدة بجعل موقع الولايات المتحدة ومكانتها، قابلة للتأثر، فالنظام الدولي الذي تمارس فيه الولايات المتحدة دوراً مهيمناً، وتجعل من التهديد المسلح وسيلة سوف لن يؤدي إلى الاستقرار. وإذا دام زماناً، فسيكون دوامه في أجزاء من العالم، بسبب الأولويات الأمريكية الموجهة فقط للتوقعات الجيواستراتيجية، على المدى الطويل، وعلى الولايات المتحدة الاعتماد على أنظمة اجتماعية وسياسية مشروعة عندئذ من أجل أن تخفف من العداوة الرئيسة ضدها. كما سيكون مثل هذا الأمر مشروطاً، في أن تندمج الدول في مجموعات متعددة الجوانب وتعيد الارتباط فيما بينها.


¾¾
¡ الهوامش:

(1) صامويل ب هانتغتون "لماذا الشؤون الدولية أولاً" الأمن الدولي، ربيع عام 1993-
ص(83).

(2) روي دنمان roy denman (الفرص الضائعة) لندن، كاسل 1996.
(3) روبرت سكيدلسكي robert skidelski "بريطانيا العظمى، وأوربا الجديدة"، من الأطلسي إلى الأورال، دافيد ب كاليو david p. Calleo وفيليب هـ غوردون، philip h. Gordon طبعة أرلينغتون، فرجينيا 1992 ص(145)
(4) آ بوغاتوروف a. Bougatourov وف كرفيوك v.kreme njovk "بروفيسور في معهد الولايات المتحدة وكندا" "الوضع الحالي وتوقعات العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة" في مجلة "nelavismaya gazeta" 28 حزيران 1996.


¾¾¾

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 11-03-2013, 10:24 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي

الفصل الرابع :
النظام الدولي الجديد، معاد النظر به




بدا للإمبرياليين وعلى رأسهم حكام الولايات المتحدة، أنهم حققوا النصر على الاشتراكية، في فجر العقد الأخير من القرن العشرين، واعتقدوا أن الأيديولوجية الاشتراكية والجيوسياسية للبلدان الاشتراكية قد هزمت على الساحة الدولية وإلى الأبد. ولقد أصيب العالم بالدهشة عند سماع بوش، رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت، وهو يؤكد بعبارات النصر، وبصورة تمثل رعاة البقر، أنه سيقيم نظاماً دولياً جديداً تحقق فيه بلاده دور السيادة والريادة، والمحافظة على مصالحها، عندما قال: "لدينا رؤيا جديدة، حول مشاركة أمم أخرى شاركتنا لتحقيق النصر في الحرب الباردة، من أجل قيام شراكة تقوم على التشاور مع هؤلاء والتعاون معهم، ولنمارس التدخل بعد إصدار القرارات من المنظمات الدولية والإقليمية لغطاء ما نقوم به. وكذلك للمشاركة في التكاليف بصورة عادلة"(1) أما خليفة بوش في البيت الأبيض، كلنتون العتيد فقد وصف أهداف الولايات المتحدة بعبارات قريبة جداً من عبارات سلفه، عندما قال:
"في عصر متميز بالأخطار الجديدة، وبالإمكانات الجديدة، يجب أن يكون هدفنا الأول، تعزيز دور المجموعة الدولية التي تساندنا، والقائمة على حرية السوق، لقد كنا مجبرين على القيام بعمل ضد أخطار الاشتراكية وما يهدد مؤسساتنا الحرة، خلال الحرب الباردة، ونريد اليوم توسيع دائرة الشعوب التي تعيش تحت سقف هذه المؤسسات، لأننا نحلم باليوم الذي يمكن للرأي العام أن يُعبر بحرية في عالم ديمقراطي مزدهر عما يعتقده وليعيش بسلام". وتؤكد الولايات المتحدة، "وللمرة الثالثة خلال قرن من الزمن، على نيتها في قيام نظام دولي جديد، وفرض قيمها على العالم. وللمرة الثالثة أيضاً، بدا أن الولايات المتحدة، تريد السيطرة على المسرح الدولي، بكل الوسائل، كالتدمير والقتل، والتهديد والتخويف، وبالخطر وتجويع الشعوب، فقد ألقى ويلسون بظلاله عام
(1918) فارضاً شروطه، على مؤتمر السلام، بعد الحرب العالمية الأولى، حيث اعتمد حلفاء الولايات المتحدة في تلك الحرب، على آرائه كثيراً، من أجل العمل على إسماع أطماعهم، وأظهر فرانكلين روزفلت وترومان قدراتهما، على فرض طراز الولايات المتحدة في المجالات الأخرى، على حلفائها في نهاية الحرب العالمية الثانية(2).

وفي نهاية الحرب الباردة، لوحظ بالممارسة عن انبثاق نزعة جديدة للولايات المتحدة متكيِّفة مع الصورة الجديدة للعالم، في محاولة من قبل واشنطن السيطرة على الأحداث الدولية، باستخدام العنف، إذ أصبحت الولايات المتحدة القوة الأعظم، ولها القدرة على التدخل في الزوايا الأربع من عالم اليوم. والحالة هذه، فقوة الولايات المتحدة أصبحت أكثر انتشاراً، ويتطلب أي ادعاء بتهديد لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها وفرض إرادتها على الشعوب، تدخل القوات العسكرية في العديد من المناطق من العالم سواء باستخدام الصواريخ متعددة الأشكال والمهمات، أو من مثل الطائرات العملاقة التي تحمل الدمار والخراب. وهكذا تجد الولايات المتحدة نفسها، بأنها تسير في عالم يفرض عليه، أن يميل إلى التماثل مع أنظمة الدول الغربية، في الحقبة الاستعمارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بعد أن اعتقدت بنهاية الحرب الباردة، وخُلُو الساحة الدولية إلا منها، وقامت واشنطن بممارسات هيمنة مكشوفة تفرض قوانينها على العالم أجمع، إلى درجة أخذ بعض حكامها واستراتيجيوها يتنازعون الآراء، حول دور بلادهم والهيمنة على الأوضاع الدولية، وهم يعتقدون أن غياب التهديد الأيديولوجي أعني الاشتراكية، أعطى للأمم الأخرى حرية اتباع سياسات خارجة تقوم على مصالحها الوطنية، وكأن المصالح الوطنية لا تتحقق إلا بممالأة الولايات المتحدة والخضوع لاسترتيجيتها. ويزعمون أنه يجب التعايش مع نظام دولي جديد، يدير شؤونه، بعض الدول الغربية في معظمها، تحت قيادة الولايات المتحدة ويجب على الدول الثانوية أو الثالثية الانصياع إلى كل ما يصدر عن تلك القوى، وبأن تتعايش وتتوازن المصالح الوطنية المتنافسة.
وتبارى كل من بوش ولحقه كلنتون في الحديث عن النظام الدولي الجديد، وكأنه أصبح في متناول الأيدي، مع أنه لا يزال في وضع الحمل لم يولد بعد، وإن بدت معالمه تظهر شيئاً فشيئاً، وسيأخذ شكله النهائي مع الزمن بالطبع، وقد يخرج عن بعض تصورات الإمبريالية الحالية، وقد يكون استطالة لما حدث في الماضي، أو قد يتخذ شكلاً جديداً، تنخرط به قوى جديدة، مع ذلك، ومهما كان شكل النظام الجديد وعناصره المؤلفة له سيحمل معه أسئلة وأجوبة عما هي الدول الأساسية التي ستكون ذلك النظام الدولي العتيد؟ وكيف ستمارس فعاليتها؟ وما هي الأهداف التي سترسمها؟
من المعلوم أن الأنظمة الدولية تتمتع بصفات الحياة العارضة. مع أنه يعبر عن كل نظام دولي ناشئ بالتمني عن الرغبة باستمراره ودوام بقائه، مع أن العناصر التي تشكل من ذلك النظام هي في حالة تغير ولا تأخذ صفة الدوام، حسبما يقر بذلك تاريخ البشرية، والدليل على ذلك، فقد استمر النظام الدولي، الذي ولد نتيجة سلام ويستفالي (WESTPHALIE) مائة وخمسين عاماً، أما النظام الدولي الذي وُلِد نتيجة مؤتمر فيينا، مائة عام فقط، ثم اختفى، أما النظام الدولي الذي تميز بالحرب الباردة، فقد اختفى بعد أربعين عاماً، ويلاحظ هنا تناقص الفترات الزمنية التي تعيشها الأنظمة الدولية المتلاحقة "أما تسوية فرساي، فلم تُقِمْ نظاماً جرى احترامه من قبل القوى العظمى في تلك الحقبة بل لم يكن أكثر من هدنة بين حربين عالمتين ". وقد حدث نتيجة تفاعل من المؤسسين لذلك النظام، لكن لم تكن أهدافهم قد تحولت إلى النطاق العالمي بسرعة وبعمق كبير.
وتنجم عادة جملة من المشاكل في كل مرة تشكل الكيانات الأقوى نظاماً دولياً، مع إجراء تبديل على النظام السابق، مما تتسبب العديد من المشاكل التي لا يمكن تجنبها، فحرب الثلاثين عاماً، نتجت في جزء كبير منها، بسبب انتقال المجتمعات الإقطاعية القائمة على التقليد، والادعاء بالعالمية، إلى النظام الدولي الحديث، المستند على حق الدولة في السلطة، وتميزت حروب الثورة الفرنسية بالانتقال نحو الدولة /الأمة/ التي تحددت بوحدة اللغة والثقافة، أما ما حدث في القرن العشرين، فكان مبرره، تفكك امبراطورية هابسبورغ والامبراطورية العثمانية، ومعارضة الهيمنة الأوروبية، وانتهاء حقبة الاستعمار بشكله العسكري. ويصبح كل انتقال، وما يمكن الحصول عليه من مكاسب الدول متعددة الجنسية في القرن التاسع عشر، والنزعة الاستعمارية منطوياً على مغالطات تاريخية هامة.
وتكرست السياسة الخارجية للدول بأن تخصص جزءاً منها لربط الأمم مع بعضها، منذ مؤتمر فيينا ـ ومن هنا ـ تعبير "العلاقات الدولية" كما أن ظهور أمة واحدة جديدة في القرن التاسع عشر ـ كألمانيا الموحدة ـ كان يكفي لإحداث اضطرابات تستمر عقوداً زمنية. وظهر حوالي مائة أمة جديدة، بعد أن تحررت من الاستعمار العسكري، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي تختلف فيما بينها كثيراً، عما هو عليه حال الكثير من مفهوم الدول/ الأمم الكلاسيكي ذي الأصول الأوربية. وتولد عن انهيار الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي .. وتفجر يوغوسلافيا، حوالي عشرين أمة أخرى، وحيث تعرضت عدة دول منها لتفجرات دموية.
لقد استندت الأمم الأوروبية إلى جماعة اللغة والثقافة، في القرن التاسع عشر، مع الأخذ بالاعتبار تكنولوجيا العصر، وتزودت بكوادر أفضل من أجل الأمن والتنمية الاقتصادية نتيجة الاستعمار، ونهب خيرات الشعوب المستعمرة، يضاف إلى ذلك، نشاطها على المسرح الدولي، ثم فقدت الدول/ الأمم التقليدية، في عالم ما بعد الحرب الباردة، وهي البلدان التي شكلت الانسجام الأوربي حتى الحرب العالمية الأولى ـ المصادر المطلوبة للعب دور عالمي. وسيحدد نجاح الجهود التي تبذل نفوذها المستقبلي، من أجل أن تتجمع في الاتحاد الأوربي. وستصبح أوربا الموحدة قوة أعظم، لكنها ستتراجع إلى المرتبة الثانية، إذ بقيت مقسمة إلى دول/ أمم..
تأخذ الاضطرابات التي ترتبط بظهور نظام دولي جديد، بواقع ثلاثة نماذج، من الدول على الأقل جزئياً، التي تنعت نفسها "بالأمة"، وتتحرك بتفاعل. كل ذلك، مع أنها لا تمثل سوى بعض الخصائص التاريخية للدول/ الأمم... كتلك التي أعقبت التفجرات التي أدت إلى الاضطرابات ثم إلى تفتتها، كما حدث في يوغوسلافيا السابقة، وكذلك الاتحاد السوفياتي السابق، حيث استبدت بتلك الشعوب اعتراضات تاريخية، والتماساً للهوية القديمة، وبالتالي بذلت جهوداً ليكون لها الكلمة الأخرى، في المنافسة العرقية القديمة، بصورة رئيسة، خاصة لأن الأنظمة المركزية قد تجاوزت حقل مصالح تلك الشعوب، وحتى تمثيلها. وكما حدث أيضاً بالنسبة للدول الثانوية التي انخرطت في حرب الثلاثين عاماً، عندما أرادت المحافظة على استقلالها وزيادة قوتها، دون أن تهتم بالاعتبارات الدولية.
لقد شكلت بعض الأمم ظاهرة متميزة بعد نزع الاستعمار، وذلك برسم حدودها الحالية التي فرضت من قبل قوى الاستعمار من أجل تسهيل إدارتها، دون النظر للأمور الأخرى، كما حدث أيضاً في أفريقيا عندما كانت المستعمرات الفرنسية القديمة المزودة بساحل ممتد طويلاً مجزأة إلى سبع عشرة وحدة إدارية وشكلت من كل منها اليوم دولة مستقلة، في حين لا تتمتع المستعمرات البلجيكية في إفريقيا "الكونغو السابقة، ثم زائير، ثم الكونغو من جديد". بسوى منفذ ضيق جداً على البحر، وتحكم كأنها وحدة واحدة. من هذا الواقع، على الرغم من أنها كانت تشكل منطقة واسعة بمقدار مساحة أوربا الغربية. وأدّت هذه الشروط، لأن تصبح أوربا مرادفة لجيش في أغلب الأحيان، ومثلت فيها المؤسسة الوطنية الوحيدة. وعندما اختفى هذا اللقب من الملكِّية، نتج عن ذلك، حرب أهلية غالباً. فإذا جرى تطبيق المعايير المحددة للأمة في القرن التاسع عشر على هذه الأمم، وكذلك حق الشعوب في أن تتصرف بنفسها، ستنشأ عندئذٍ حالة لا يمكن بحثها، تقتضي إعادة ترسيم الحدود الأساسية، وعندها ستكون النتائج صعبة على التوقعات. ولهذا ومن أجل هذه المفاهيم، يكمن البديل للوضع الراهن الإقليمي، في نشوب أزمة مدنِيَّة حادة، ودون نهاية.
أخيراً، هناك الدول القارية ـ التي تشكل الوحدات الأساسية للنظام الدولي الجديد، حسبما هو محتمل ـ إذ يجمع الشعب الهندي، وفرة من اللغات والأديان والقوميات، وقد تحرر من السلطة الاستعمارية البريطانية. ويظهر قابلية أكثر للتأثر بالتيارات الدينية والإيديولوجية للدول المتاخمة، كما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر بالنسبة للشعوب الأوربية، لهذا فإن خط الحدود بين سياسة الهند الخارجية والداخلية مختلة، وأكثر دقة أيضاً، في آن واحد. وبالطريقة نفسها، فإن الصين مكونة من اندماج لغات مختلفة، ومرسخة بكتابة مشتركة وثقافة مشتركة، وتاريخ مشترك. وإنها كأوربا، لو استطاعت أن تصبح كالصين، لو لم تكن هناك الحروب الدينية في القرن السابع عشر. لكن، هذا مايمكن أن يكون عليه حال الاتحاد الأوربي، إذا تحققت توقعات أنصار ذلك الاتحاد. والأمر كذلك، بالنسبة لحال القوتين الأعظم، في حقبة الحرب الباردة، حيث أنهما لم تكونا دولاً/ أمة بالمعنى الأوروبي للعبارة مطلقاً. وتوصلت الولايات المتحدة، إلى تشكيل ثقافة موحدة لحد ما، انطلاقاً من أتربة خليطة وطنية متعددة اللغات، بالرغم من تعدد الجنسيات والعروق المشكلة لشعبها. في حين كان الاتحاد السوفياتي امبراطورية اندماجية للعديد من القوميات. والدول التي أعقبته ـ خصوصاً الاتحاد الروسي ـ ممزقة بالتفتيت، أو العودة للطراز الامبريالي، كما كان عليه حال الامبراطورية العثمانية، أو امبراطورية هابسبورغ، في القرن التاسع عشر.
لكن تبدلت هذه العوامل جذرياً من حيث الماهية والطريقة، خصوصاً في حقل العلاقات الدولية، وحتى في العصر الحديث، تابعت القارات المختلفة نشاطاتها في عزلة نسبية. إذ من المستحيل مقارنة قدرات فرنسا مع تلك الصينية، إذ لا توجد وسيلة للتفاعل بين البلدين، على سبيل المثال. وسيحدد التوسع في المدى التكنولوجي "الانسجام" بين القوى الأوروبية، المستقبل في القارات الأخرى. وليس من نظام دولي، امتلك في السابق، مراكز كبرى جاهزة على نطاق الكرة الأرضية. ولم يكن لدى رجال الدولة مايمكنهم من قيادة عملهم الدبلوماسي في ظروف تنعكس فيها الأحداث على القادة ولدى الرأي العام لديهم، بطريقة فورية ومتزامنة.
وبمقدار ما يتضاعف عدد الدول، بمقدار ما تتزايد طاقاتها في التفاعل، فعلى أية مبادئ يمكن إقامة تنظيم دولي جديد؟.. وفي هذه الحال، فهل يمكن أن يصبح بإمكان هيمنة الولايات المتحدة أن تؤدي إلى سياسات خارجية تحل محل استراتيجية الاحتواء التي طبقت خلال حقبة الحرب الباردة من قبل واشنطن، مع الأخذ بالاعتبار تعقيدات النظام الدولي الجديد؟ فهذه المفاهيم لم تعرف خطأ عجيباً، ولا فشلاً كلياً، بكل وضوح، وقد رست بعض أفضل المبادرات الدبلوماسية في القرن العشرين، باستخدام أسلوب التوترات حتى حافة الحرب، من قبل الولايات المتحدة، كالقيام بأعمال استهدفت منع توسع الكتلة الاشتراكية في بعض المناطق وإنشاء الأحلاف العسكرية، ونتيجة للأعمال التي قامت بها وكالة المخابرات المركزية....
في الوقت نفسه، فقد تسبب هذا السلوك الامبريالي للولايات المتحدة، بحدوث مشاكل عديدة، إذ أخذت واشنطن بالتدخل في الشؤون الداخلية للعديد من البلدان، بحجة تقرير المصير للأقليات العرقية، دون الأخذ بالاعتبار أن مثل هذه المواقف تؤدي إلى التأثير على العلاقات الداخلية للشعوب وبالتالي التسبب في عدم استقرارها. كما وضح أن غياب آلية لتطبيق القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، تؤدي إلى تهديد الأمن الدولي. وفسح المجال أمام بعض القوى للتدخل في العديد من المناطق بحجة الأمن والاستقرار الدوليين. وكأن الولايات المتحدة قد أخذت بتبني النظرية الهتلرية القائلة: "إن مدفعاً جاهزاً للإطلاق، غالباً ما يكون أقوى بكثير من وثيقة حق. وهذا المبدأ، يطبقه أيضاً الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة..
لقد وصلت نهاية الحرب الباردة ـ إلى ما يسميه بعض المراقبين إلى عالم "وحيد القطب" أو "القوى الأعظم الوحيدة". لكن لا تجد الولايات المتحدة نفسها بوضع أفضل كطرف وحيد، من أجل فرض إرادتها كشرطي عالمي، مع ذلك فقد اتخذت بعض مواقف الهيمنة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يكن بإمكانها القيام بها قبل عدة سنوات، كما أصبحت قوتها العسكرية أكثر انتشاراً وتدخلها أشد عنفاً ووحشية.
مع ذلك، فهذا لا يعني أن الولايات المتحدة قد أصبحت قادرة على تحقيق كل ما تصبو إليه لكي تتّفرد بالشؤون الدولية، بصورة مطلقة، وتحت ذريعة الأمن الجماعي والاستقرار العالمي، فليس لدى بعض الأمم القناعة نفسها التي لدى الولايات المتحدة في معالجة العديد من القضايا التي تطرح على المسرح الدولي وإن كانت الولايات المتحدة ترغب بالتفرد في معالجة مثل تلك الأمور، حيث تأخذ على عاتقها القيام باستخدام قوتها العسكرية الجبارة، كما حدث في العراق وفي يوغوسلافيا، وفي الصومال.... الخ. وهناك دول أخرى تتخوف من نوايا الولايات المتحدة، وتخشى التعرض لأخطار لا تعرف مداها، لهذا كثيراً ما تجد واشنطن نفسها معزولة في اتخاذ بعض القرارات من أجل تحقيق مصالحها الخاصة.
غير أن القوة العسكرية الأمريكية لا مثيل لها بالتأكيد، ولن تكون هناك قوة توازيها على المدى المنظور. من جهة أخرى، فإن رغبة الولايات المتحدة في عرض واستعراض هذه القوة في الأزمات الدولية المتعددة حقيقية، وحتى على مستويات صغيرة، كما تنعم الولايات المتحدة، باقتصاد هو الأقوى في العالم، للآن. وكذلك الحال في التكنولوجيا المتقدمة في جميع مجالاتها. لكن هذا لا يعني أن الأمور ستبقى إلى أبد الآبدين، إذ ستعرف الولايات المتحدة نهوض أمم أخرى تنافسها في المجالات المذكورة، وتدخل معها عندئذٍ في صراع نفوذ. فهناك احتمال لصعود مراكز قوى أخرى ـ أوربا الموحدة، الصين، اليابان ـ. وبالتالي سيحتدم صراع النفوذ ويتكشف في النهاية عن ضياع وتفسخ القوة الأمريكية، في مجالاتها المتعددة. وهناك من يراهن على تفتت المجتمع الأمريكي غير المتجانس والذي يرجع إلى أصول وأعراق عديدة، قد تدخل في صراع داخل ذلك المجتمع، يؤدي إلى إضعاف تلك القوة الجبارة.
عندئذٍ، سيصعب على حكام الولايات المتحدة التفرد في معالجة القضايا الدولية. وستعيد واشنطن حساباتها من جديد، وتقبل بالواقع المفروض، والدخول في المنافسة على قدم المساواة مع القوى الجديدة أو المتجددة، وحينئذٍ لن تستطيع الاستمرار في فرض ذلك النظام الدولي الذي تلعب فيه دور الهيمنة والواحد الأحد، ولا يقدم التاريخ عندئذٍ هادياً ولا حتى تماثلاً مرضياً. مع ذلك يعلمنا التاريخ الأمثلة، ولا يزال نجاح الولايات المتحدة يسير في أرض مجهولة المعالم والمصير.
ويدرك قادة الولايات المتحدة، أن المصالح الامبريالية تبرر الوسائل المستخدمة لبلوغها، وقد مارسوا هم هذه المبادئ منذ بداية تاريخ بلادهم، وترجع إلى عصور تشكيل تلك الدولة على أيدي الآباء المؤسسين خلال العقود الزمنية الأولى للجمهورية، مع متابعة موطدة العزم والعزيمة على التوسع نحو الغرب. ويعترف بعضهم أنهم تابعوا مكاسبهم على مدى تاريخ الولايات المتحدة...
ومن المعروف أن تاريخ الولايات المتحدة يبدأ مع هجرة الأوروبيين الأوائل إلى القارة الجديدة، ويبدو أن مفهوم توازن القوى كان حاضراً على الدوام من الناحية العملية، بالنسبة لكل من يدرس التاريخ الأوربي. وكما هو الحال أيضاً في إدراك مفهوم الدولة، الذي يرجع إلى القرنين الأخيرين، التاسع عشر والعشرين، وقد نشر من قبل غليوم الثالث ملك إنجلترا الذي أراد أن يراقب بدقة وصلابة الأهداف التوسعية الفرنسية. وقادته الفكرة إلى تشكيل تحالف من الدول الضعيفة من أجل العمل على الموازنة مع دولة قوية. وليس في الأمر ما يدهش أو عجيب في حد ذاته. مع ذلك، يتطلب توازن القوى اهتمامات دائمة، لهذا يتوجب على الدول المهيمنة، والتي تريد فرض إرادتها. كالولايات المتحدة، في توضيح نواياها، في القرن القادم، مع إدراك مصالح حلفائها، كما يتوجب توضيح كيفية المحافظة على توازن القوى أيضاً، لكي يؤدي خدمة للوصول إلى هذه المكاسب ـ في أوربا وفي آسيا: وستكون الولايات المتحدة بحاجة عندئذٍ إلى شركاء لا يمكن أن يكونوا مختارين حسب اعتبارات ودية دون مراعاة مصالحهم على الدوام. ويستوجب مثل ذلك الأمر تحديداً واضحاً للمصالح الامبريالية، كما يجب توجيه السياسة الخارجية ضمن هذا الاعتبار أيضاً.
وكان النظام الدولي الذي دام أطول مدة، ودون أن يصادف أزمات كبيرة، ذلك الذي أعقب مؤتمر فيينا، وقد سار نحو جعله شرعياً ومتوازناً، مع قيم مشتركة، ودبلوماسية تعمل لتوازن القوى. ومن المعلوم أن القيم المشتركة تقلص من حقل متطلبات الأمم، مع ذلك فقد حد التوازن من قدرات عملها. وفي القرن العشرين، حاولت الولايات المتحدة، إصلاح النظام الدولي، ليصبح قائماً طبقاً لمصالحهما، وتوسيع نفوذها، خلال جولتين، إلا أن تلك الجهود فشلت في تطبيق مبادئها، وإنها لن تستطيع أن تفرض مفاهيمها على العالم.
غير أن الانطلاقة الجديدة التي بدأتها الولايات المتحدة، بعد تدمير العراق شرعت في محاولة إقامة نظام دولي جديد. تراعي فيه بالتأكيد هيمنتها على الأحداث الدولية، قد اصطدمت بعقبات كثيرة، ومعوقات شديدة، شملت أطراف الكرة الأرضية، وهكذا وجب على واشنطن تحديد العقبات التي وقفت أمامها، في الوقت الذي كانت تعتقد أنها حققت انتصارات ترضي نزعتها وغرورها وتحقق مصالحها.
وهكذا، ضاق صدر منظري السياسة في الولايات المتحدة، علماً أنها جندت العديد من كتابها لتدافع عن أطروحاتها، إلى درجة أن أخذ الحماس ببعضهم، ليسمى القرن الواحد والعشرين بالقرن الأمريكي. ومامن منطقة أخرى في العالم، إلا وشعرت بنوايا الولايات المتحدة، حتى حليفاتها في منظمة حلف شمالي الأطلسي، ضاقت ذرعاً بسياسة واشنطن المتعجرفة.
وسوف لن يخضع التقدم الذي يجب أن ينشأ عن المعطيات الاستراتيجية والاعتبارات الأخلاقية، للتقدم، بصورة مجردة، لكن تتكون بداية الحكمة من فهم ضرورة هذا التقدير، وما من بلد له القدرة على فرض أفضلياته على الآخرين، في باقي العالم، مهما بلغت قوته، فيجب إذن تحديد الأفضليات بطريقة لا تتعدى على حقوق الآخرين، وإلا فلن تجد الدعم من الرأي العام العالمي، حتى إذا توفرت المصادر الضرورية لتحقيق تلك الأهداف. وقد يصبح بالإمكان الاستغناء عن تلك الأفضليات عندما تقتصر على صيغة تسمح بتجنب الخيارات الجيو سياسية الصعبة وباتخاذ مواقف دون نتائج مباشرة..
وهكذا، فإن تحقيق الأهداف الجيوسياسية لدولة ما، لها القدرة على السيطرة على الأحداث الدولية، يحتاج لبوصلة جيوسياسية من أجل التوجه ضمن المجالات المتاحة، مع الاعتبار للتعقيدات الدولية المعاصرة. وهنا سوف لن يكون الأمر سهلاً، خاصةً إذا تطلب الأمر التأكيد على التفوق، في حال التمتع باحتكار سلاح فتاك، ولها القدرة على تحقيق توازن القوى، وامتلاك القدرة والمعرفة، على نحو أكيد، باتباع دبلوماسية أفلاك المصالح. ويجب على قوى الهيمنة الجديدة، مثلها مثل قوى الهيمنة في الماضي، أن تتعلم الإبحار بين الضرورة والاختيار وبين المثابرة الثابتة في العلاقات الدولية ومايمكن أن يكون في تقدير رجال الدولة، في القرن الواحد والعشرين.
وهنا يجب أن تبدأ السياسة الخارجية، بتحديد ما يمكن أن يشكل المصلحة الحيوية، في كل مرة ينشأ فيها توازن جديد للقوى، بعبارة أخرى متابعة التغييرات في الظروف الدولية القابلة لأن تعرض الأمن القومي للخطر، إلى حد يقتضي أن يصبح من الضروري مقاومتها مهما يكن الشكل الذي يكتسبه، عن طريق التهديد أو الأسلوب المشروع الذي يمكن أن يتسبب في حدوث ذلك التغيير...
وتشكل الولايات المتحدة جزيرة، في مواجهة القارة الأوراسية، من وجهة النظر الجيو سياسية، ويستمر التفوق لقوة وحيدة على أحد الفلكين الأوراسيين الكبيرين، في تقديم تحديد جيد للخطر الاستراتيجي المرغوب به من قبل الولايات المتحدة .. وكتلة من هذه الطبقة، لها القدرة في الواقع على التجاوز في المجال الاقتصادي، ومن ثم العسكري، للولايات المتحدة. وهذا خطر يقتضي من الولايات المتحدة تجنبه، وإذا قدر لمثل هذا الوضع أن يحدث، عندها، تجد القوة المهيمنة نفسها، وقد تقلصت قدرتها على المقاومة إلى حد كبير، وقد تفقد السيطرة على الأحداث مستقبلاً..
لقد ألقت الولايات المتحدة بنفسها في الحرب الباردة بكامل ثقلها، تحت ذريعة مقاومة تهديد الخطر السوفياتي، كما بنت توقعاتها في الجزء الأعظم من فترة الحرب الباردة، على حجة التهديد الشيوعي، ومن هنا، وبالطريقة نفسها، تحددت المواقف الأمريكية تجاه النظام الدولي الجديد ـ من وجهة نظر الاحتواء ـ وهكذا، تركزت الجهود الخاصة للولايات المتحدة على التفكير بالإصلاحات الروسية الداخلية لما بعد الحرب الباردة، فحددت واشنطن خطة عملها انطلاقاً من مبدأ أن تأخذ روسيا إقامة نظام اقتصاد السوق، وترسيخ طاقاتها وتوجهاتها على ذلك، وأن تسير بهدي الغرب في هذه المجالات، وأن لا تعارض روسيا الدور الأمريكي العالمي. ويصبح دور الولايات المتحدة تجاه روسيا، وتحت هذه الزاوية، التركيز على تعزيز الإصلاحات الروسية بشكل رئيسي، عن طريق إجراءات مستوحاة من خطة مارشال التي طبقت في أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وليس باتباع النماذج التقليدية في السياسة الخارجية.
ويحتار هؤلاء الذين تنصب جهودهم على الجيوسياسي والتاريخ أمام هذا، المواقف من المشاركة، ويخشون أن تبالغ الولايات المتحدة في تقدير قدراتها بالتأثير على التطورات الروسية الداخلية. وينصحون أن لا تلتزم واشنطن بطريقة غير مفيدة لإزالة التناقضات مع موسكو، خشية من إثارة الروح الوطنية لدى الروس، وأن تتركز الجهود للسياسة الخارجية الأمريكية ضمن خطة شهدت التعديل على الاتجاهات العدوانية التقليدية الروسية، وتشجيع مشاريع المساعدات الاقتصادية والتعاون في حل المشاكل المرتبطة بالأمور الدولية، وهذا ما يؤكد الموقع الروسي، بأن روسيا تقع على الأرض التي يسميها هالفورد ماكندر HALFORD MACKINDER بالجيو سياسية، كما أن روسيا، الوريثة للتقاليد الامبريالية الأقوى فيها.
وعلى الولايات المتحدة أن لا تعتمد فقط على المساعدات الاقتصادية التي تقدمها لتحصل من روسيا على نتائج تلبي رغبات واشنطن كما حصلت على نتائج عند تطبيق خطة مارشال في أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، لأن لروسيا مصالح جيواستراتيجية، وليس بالضرورة أن يبقى التهديد العسكري والإيديولوجي الذي كان للاتحاد السوفياتي السابق على حاله، والذي كان موجهاً بالدرجة الأولى، لمقاومة التطلعات الامبريالية الأمريكية وتحقيق مطامعها في العالم، مع العلم أن التغيير في البنية الاقتصادية يؤدي إلى حقائق جيو سياسية عميقة. ولهذا يجب محاولة تغيير البنية الاقتصادية للاتحاد الروسي الجديد جذرياً لأنه الوسيلة الجذرية أيضاً في التأثير على الاتجاهات السياسية، ويجب أن تكون مثل هذه الأفكار الهامة الهدف المستوحى في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه موسكو، وقد لا تحل مثل هذه الأفكار محل القيام بجهود حقيقية متعددة من أجل المحافظة على توازن القوى، لمواجهة بلد توسعي تقليدياً..
ويستشهد منظرو السياسة في الولايات المتحدة، بأن الاتحاد السوفياتي استطاع أن يتوسع في الفترة (1917-1923)، من جديد، كما أنّ روسيا، استطاعت أن تبطئ من تفكك امبراطوريتها في القرن التاسع عشر، من الناحية الجيو سياسية. وكذلك الأمر، ينطبق على ما قامت به الامبراطورية العثمانية الخربة، والتي مثلت إحدى الرهانات الدبلوماسية الكبيرة، كما تكشفت الرهانات الدبلوماسية عن عجزها عن احتواء نتائج تفكك الامبراطورية النمساوية ـ المجرية. وتاريخياً، يولد انهيار الامبراطوريات سببان للتوتر: الجهود التي تبذل من قبل جيرانها لاستغلال ضعف المركز الامبريالي من جهة، ويستفيد هؤلاء الجيران من الانحطاط الحاصل في الامبراطورية لإقامة مراكز نفوذ لهم في المحيط، من جهة ثانية..
وهذا ما حدث فعلاً، على أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ أخذت كل من تركيا وإيران، بالبحث عن زيادة أدوارهما في جمهوريات آسيا الوسطى، في الوقت الحاضر، بين سكان غالبيتهم من المسلمين، لكن الاندفاعة الجيوسياسية المهيمنة، كانت المحاولة الروسية لإعادة تفوقها في جميع المناطق التي كانت تسيطر عليها من قبل. وتحاول روسيا، باسم المحافظة على السلام في المنطقة، استعادة شكل ما من الوصاية، في الوقت الذي تراهن فيه الولايات المتحدة مد نفوذها هي، باستخدام حلفائها للقيام بمهمات لحسابها وتحقيق مصالحها. كما أخذ العديد من المسؤولين في واشنطن، القيام بزيارات متكررة لتلك المنطقة، ودفعت واشنطن بشركاتها للعمل هناك أيضاً، وكما حصل أيضاً في الجمهوريات البلطيقية.
ويأخذ هذا الوضع بالحسبان واقع أن الولايات المتحدة تعالج الأمور جزئياً كما لو أن الأمر يتعلق بظاهرة وحيدة، لكنها تمارس عملها باتجاهين متعارضين في الحقيقة، فمن جهة، إن الشعب في الجمهوريات غير الروسية الجديدة، قليل العدد لدرجة قصوى، وتشعر الجماعات في السلطة بنفسها أنها مستثمرة على المستوى التاريخي في مهمة "تحضير"، من جهة ثانية، كما ترفض الغالبية الساحقة من هذه الوجوه ـ ومهما يكن انتماؤها السياسي ـ القبول بانهيار الاتحاد السوفياتي، ولا حتى بشرعية الدول التي أعقبتها، خصوصاً في أكرانيا، مهد الأرثوذوكسية الروسية. وليس جميع المعادين للشيوعية، على أرض الاتحاد السوفياتي السابق، ليسوا بالضرورة ديموقراطيين، كما لا يعادي جميع الديموقراطيين الامبريالية الروسية.

نحو حرب باردة جديدة

"إذا أردنا أن نُبقي كل شيء كما هو، يجب أن نبدل كل شيء"(1).
توماسو دي لامبوردوزا (TOMMASO DI LAMPERDUSA) لقد شكلت حرب كوسوفو انعطافاً حاسماً في عالم ما بعد الحرب الباردة، نحو عصر جديد من التوترات والمجابهات، بين تحالفين كبيرين عالميين، أي نحو حرب باردة جديدة إجمالاً، وسوف لن يدوم التحول من عصر إلى آخر، حتى عشر سنوات.
جيلبر أشقر (GILBERT ACHCAR)(2).


"يجب شن حرب شاملة ضد ميلو سوفيتش" حسب رأي زبيغنيو برززنيسكي، الذي يشكل مصدراً للخيارات السياسية الاستراتيجية، والتأثير على الأوساط الدبلوماسية والسياسية الأمريكية، ليس فقط لأن ميلوسوفيتش قام بـ"مذبحة شاملة بلقانية"، بل لأن مجازفاته تجاوزت الحدود المقبولة، فيما يتعلق بمصير كوسوفو (....). وليس من المبالغة، التأكيد أن فشل منظمة حلف شمالي الأطلسي، سيعني نهاية المصداقية بهذا الحلف، ثم التقليل من أهمية القيادة الأمريكية، وعندها ستكون النتائج كارثية بالنسبة للاستقرار على كوكب الأرض"(3).
أيضاً، هل استجابت حرب عملية الحلفاء في كوسوفو للأهداف الاستراتيجية الأوسع، كون السياسية الأمريكية في البلقان وفي أوربا، هي إحدى الحلقات الأساسية للاستراتيجية الشاملة للقوة الأعظم، التي تستهدف متابعة الهيمنة الكونية.
وتتمنى واشنطن أن تبقى "قوة أوروبية". إلى الأبد، ويعترض رتشارد هولبروك RICHARD HOLBROOKE، وبحزم وتصميم على كل بنيان لدفاع أوربي مستقل، ويعقب، لهذا السبب وحده، على التحليل الأمريكي، بهذا الخصوص، إنه سيتحتم المحافظة على منظمة حلف شمالي الأطلسي، وسوف لن يكون ذلك، إلا من أجل "منع أي تطور استراتيجي أوربي منافس لذلك النظام، لا يكون تحت تصرف الولايات المتحدة الأمريكية"(4).
ويلاحظ جورج سار (GEORGES SARRE) "أن هذه تبرز العملية (....) كشهادة ميلاد، لأوربا الاتحادية، مع ذلك، لما كنا لا نرى سوى الولايات المتحدة، هي المستفيدة الحقيقية من هذه الحرب، لهذا من المفروض أن نعتقد بعجز الدول الأوروبية في تسوية شؤونها بنفسها، في حين كان بإمكان الأوروبيين إيجاد حل تفاوضي وحدهم، وتخرج الولايات المتحدة عندئذٍ من هذا التدخل مجابهة بإحساسها كونها لا تملك الحق الكامل كقوة أوروبية (...). مع أنها ساهمت في جعل البلقان منطقة عدم استقرار، في آخر الأمر مبررة ذلك، وبطريقة غير مباشرة(....). إن هذا يعني توسع منطقة عمل سلطات منظمة حلف شمالي الأطلسي، كذلك في المجالات الأوربية الخاضعة للسلطات القانونية للولايات المتحدة"(5).

يسمح التصور الاستراتيجي الجديد لمنظمة حلف شمالي الأطلسي لواشنطن، التدخل في كل مكان، وفي أي زمان، دون تفويض
من الأمم المتحدة.
يأخذ إعلان روما حول السلام والتعاون المعتمد أثناء قمة المجلس الأطلسي الشمالي، في تشرين الثاني (1991)، التبدلات التي طرأت مابعد الحرب الباردة، التي نتج عنها "تصور استراتيجي جديد، لمنظمة حلف شمالي الأطلسي (OTAN) (NATO)، وعمل الأمريكيون كل شيء، لإعطاء المنظمة، سبباً جديداً، ومن جديد، عنصراً لتصبح ذات فائدة على الرغم من اختفاء التهديد الشيوعي، والتي حامت ضده كل المبررات على أنّه التهديد الحقيقي ضد العالم الغربي، وذلك خشية أن تفقد واشنطن أداتها الأساسية لنشر قوتها في القارة الأوراسية، وفي البحر الأبيض المتوسط. ولهذا نتبين أن هدف الولايات المتحدة، هو إقامة قوة عسكرية استراتيجية ولايات متحدية بإلقاء نظرة إلى الماضي، بهدف تحويل حلف الأطلسي، بالتدريج، إلى منظمة سياسية ـ عسكرية، من أجل تحقيق "الأمن الشامل" القادر على اتخاذ قرارات وحيدة لتنفيذ عمليات عسكرية، إذا كان ضرورياً، مع غياب حتى أي تفويض من منظمة الأمم المتحدة وموافقة مجلس الأمن، ولقد صرح الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون (BILL CLINTON). في خطابه "عن حالة الاتحاد"، الذي ألقاه بتاريخ (19) كانون الثاني (1999) بمايلي:
"يجب علينا العمل كذلك بمواجهة التهديدات الإرهابية، وتهديدات الشعوب الخارجة على القانون ـ وهي الشعوب التي ترفض الخضوع لإرادة الولايات المتحدة ـ وسندافع عن أمننا ومصالحنا، في كل مرة نتعرض فيها للخطر، كما عملنا في هذا الصيف، عندما وجهنا ضربات إلى مصادر الرعب التي يطلقها أسامة بن لادن، في حين أننا نعمل من أجل السلام والاستقرار"..
لقد جرى تبني التصور الاستراتيجي الجديد للحلف (6)، رسمياً بتاريخ
(23) و(24) نيسان (1999) من قبل الدول الأعضاء، في مؤتمر قمة واشنطن، بمناسبة العيد الخمسين لإنشاء منظمة حلف شمالي الأطلسي، وأصبحت موجهة، في هذه المرة، تحت اسم قانون الأقوى، بمناسبة الحرب في كوسوفو، وهي رغبة الأمريكيين، التي تستهدف اجتياز الوصاية الشرعية، علىعمل منظمة حلف شمالي الأطلسي، من قبل الأمم المتحدة، وبأن ترى ذلك بالاعتراف الذاتي (
AUTO - SAISING) من قبلها بحق تسليم التركة لها، حيث يشترط التصور الاستراتيجي الجديد "المحافظة على السلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية ـ الأطلسية، ويكتسي هذا العمل أهمية جوهرية، ويتشكل الهدف الهام للحلف ولقواته، من استبعاد الأخطار، وذلك بالعمل على المواجهة السريعة للأزمات القوية (....)، إذ يمكن أن تستدعي قوات الحلف العسكرية الحليفة في حالة نشوب أزمة ما تضع الأمن الأمريكي ـ الأوروبي الأطلسي في خطر (....). للقيام بعمليات ضرورية كرد على الأزمة". وبعبارات أكثر وضوحاً، يعني هذا، رسمياً، أن منظمة حلف شمالي الأطلسي مخولة من الآن وصاعداً، بالتدخل عسكرياً، ما أن تعتبر أن الاستقرار مهدد في أوربا، من خطر ما ضد أحد أعضاء الحلف". مثل ذلك يوغوسلافيا، السابقة، التي لم تعْتد على أية دولة ذات سيادة، عضو في منظمة حلف شمالي الأطلسي، أم لا، العنصر كشرط لذلك التدخل، طبقاً للنصوص المؤسسة للمنظمة الأطلسية، التي تستدعي
التدخل(7)، ويمكن، في هذه الحالة، وضع هذا الانحراف للمنظمة بشكل موازٍ، مع انحراف آخر، تعلق أيضاً، بالنسبة للسلام العالمي:

السرعة التي تؤثر بها الولايات المتحدة استخدام الحلول العسكرية، بممارسة الضربة الجوية، باستبدالها عن الآلية الدبلوماسية. فقد قصف الأمريكيون، السودان وأفغانستان، باستخدام القوات الحليفة، بشهر آب عام
(1998)، على أثر الاعتداء على سفارات الولايات المتحدة في أفريقيا، وفي البوسنة عام (1995)، من قبل.

وخصوصاً في العراق، مابين عام 1990 وعام (1999)، ومستمرة للآن، ابتداء من بداية حرب الخليج، وبطريقة متواترة، شبه يومية، ويجب التذكير أيضاً، استمرت الطائرات الأمريكية والبريطانية، بلا مبالاة، أيضاً هذه المرة، في قصف المواقع العراقية، حتى طالت العديد من أماكن السكنِ وقتل الأبرياء من الأطفال والنساء وتدمير البنى التحتية، فكيف توصلت واشنطن إلى مثل ذلك القرار.
في الواقع، لقد تبدلت الأمور تدريجياً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، في المرحلة الأولى، تم اجتياز نحو التوسع في المجال الجغرافي لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، بإنشاء مجلس تعاون شمالي أطلسي
(
COCONA) ((CONSEIL DE COPERATION NORD ATLANTIQUE))، ثم أعيد تعميده، تحت اسم الشراكة الأوروبية الأطلسية (CPEA) (PARTENARIA EURO - ATLANTIQUE). لقد أصبح الهدف الأطلسي ضمان الأمن على مجمل القارة الأوروبية، وسيصبح تشكيلها موسعاً سريعاً ليشمل (38) عضواً، إذن مع إلحاق بلدان أوربا الوسطى والشرقية، باستثناء يوغوسلافيا، التي استأنفت روابطها، من جديد، مع الشقيقة الكبرى، روسيا، وسمحت النصوص المؤسسة لمجلس تعاون شمالي الأطلسي، لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، بمعالجة أزمة البوسنة ـ الهرسك وكوسوفو، والأزمات الأخرى التي حدثت في يوغوسلافيا السابقة، كما سمحت بمعالجة الأزمات والنزاعات في القوقاز ومولدافيا، وحتى الحرب الأهلية في طاجكستان كنوع من الإقرار بالتصريح النهائي الذي صدر عن الاجتماع الذي جرى في بروكسل بتاريخ (18) كانون أول عام (1992)، في مقر الحلف، وقامت واشنطن بمبادرة تهدئة، من أجل خفض المعارضة المتوقعة من قبل موسكو، في عهد بوريس التسين الذي احتج بشدة، ضد توسع منظمة حلف شمالي الأطلسي نحو أوراسيا، تركزت المبادرة على عقد تأسيسي بين روسيا ومنظمة حلف شمالي الأطلسي بتاريخ (27) أيار (1997)، في باريس، جرى بموجبه إنشاء مجلس مشترك دائم بين روسيا ومنظمة حلف شمالي الأطلسي، كون موسكو مسموح لها المشاركة نظرياً في مداولات أعضاء الحلف، لكن، لم يكن كل ذلك، سوى "مظهر خادع". إذ ليس لروسيا في الواقع، الوسائل، ولا الجدارة، لمقاومة قرارات البلدان الأعضاء في منظمة حلف شمالي الأطلسي.
من جهة أخرى، لم يستمع أحد لموسكو، لإجراء تحقيق أثناء أزمات البوسنة وكوسوفو، حتى أنها لم تُسْتَشَرْ من قبل "شركائها الغربيين"، في أي أمر بهذا الخصوص. وستكون المرحلة التالية، توسيع منظمة حلف شمالي الأطلسي باتجاه جميع أنحاء أوربا الشرقية، بلا شرط، وحتى ضمن مهلة ليست طويلة، كما سيواجه الاستراتيجيون الأمريكيون ذلك الأمر في جميع أنحاء القارة الأوراسية. وبهذا الصدد، فقد خلق انضمام بولونيا وجمهورية التشيك، ثم المجر سابقة، ثم ستلحقها بلدان البلطيق، مع أنها مسكونة في الجزء الأعظم منها من قبل الروس (استونيا، لتوانيا)، وحتى أكرانيا، فقد فزعت أبواب منظمة حلف شمالي الأطلسي "ميثاق منظمة حلف شمالي الأطلسي ـ أكرانيا عام
(1997)، في حين أن هذه الأمور تتساوى كـ"مبرر للحرب" بالنسبة لموسكو، وبصورة موازية، الحوار مع بلدان البحر الأبيض المتوسط، باسم الحوار الإقليمي، الذي بدئ به عام (1995)، ستصبح معظم البلدان البلقانية، مثل مقدونيا، وحتى آسيا الوسطى، والقوقاز، مثل أذربايجان، التي تتقارب مع منظمة حلف شمالي الأطلسي، عبر بنية وسيطة أخرى، ستصبح جميعاً، لهذا الغرض، أعضاء في الشراكة من أجل السلام، عما قريب..

ولوحظ تحول حقيقي في تاريخ العلاقات الدولية، نتيجة "التصور الاستراتيجي الجديد"، الذي جرى تبنيه في نيسان (1999) لصالح الحرب ضد الصرب، وبفضل نوع من "قانون الأمر الواقع الإيجابي"، لكنه وضح القواعد التي كانت من قبل منذ عام (1991): "إن المنظمة الأطلسية، هي في طريقها لكي تصبح أداة دائمة للتدخل في الأزمات والنزاعات، بإيجاد مبررات جديدة أيضاً بشأن وجودها وتخليدها"(8)، ويُلاحظ وللمرة الأولى، منذ عام (1945)، أن الشرعية الدولية الوحيدة المعترف بها، من قبل الدول، أعني منظمة الأمم المتحدة، تصبح مستبعدة ودون التعويض عنها ببنية معادلة لها، لكن لصالح نظام دولي أمريكي جديد، وحيد الجانب، إنه ثقيل النتائج حقاً، ذلك الانقلاب في مستوى النظام الدولي، لأنه يقيم شكلاً جديداً للقانون ضمنياً: "حق الأقوى". ويقول البعض، إنه بالأحرى، (قانون الأقوى الولايات المتحدة الأمريكية)، كونها الأقوى فعلاً، وبعيداً في مجالات القوة الأساسية الخمسة: السياسية، والاقتصاد، والقوات المسلحة، ووسائل الإعلام والاتصالات، والتكنولوجيا العالية. ويقدر البعض أنه مع تكريس مبدأ "التدخل" الجديد، تمَّت قطيعة حقيقية في تاريخ الدبلوماسية، كون مبدأ حق سيادة الأمم، أصبح لاغياً، من الآن وصاعداً، بالنسبة للشعوب التي ليس لها القوة الضرورية لردع الولايات المتحدة والتحالفات (الغربية)، على الأقل، لمنعها من التدخل في شؤونها الداخلية باسم "واجب التدخل". وجرى تحطيم مسلمة السيادة بضربة قاسية بتاريخ 24 آذار عام 1999 (......). ومسلمة أخرى قد اخُتُلِقَت: تلك هي، التدخل [الثاني] المستند (....) على الفكرة الخاطئة على نحو واضح، القائلة، إن القوة الأكبر، والمنفعة الأفضل، تتواجدان في المعسكر ذاته، بالضرورة. التدخل (...) مقدس، مقدس، باغٍ وزنديق ـ الاعتقاد ـ أن قانون الأقوى، هو القانون الحقيقي (...) ـ حيث أصبح كل شيء مسموحاً به للأقوى اعتباراً من (24) آذار عام
(1999)، حيث جرى اتخاذ الاحتياطات للقول إنه الأفضل أيضاً فقط، وأصبحت جميع التقنيات الإعلامية تحت تصرفه لإقناع العالم (.....). أن هذه المعالجة تعمل على تشويش الديمقراطية، حتى يمارس هذا التدخل باسمها (9).

وتحركت الولايات المتحدة عبر المنظمات الدولية التي تسيطر عليها كثيراً أم قليلاً "منظمة الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، لإعادة البناء والتنمية (BIRD)... الخ"... قبل وقت ليس ببعيد، لتنفيذ ما خططت له، ويوضح الأمريكي ميكائيل ت.كلير (MICHAEL T. KLARE) إن الافضلية، تعطى في الوقت الراهن لممارسة متوحدة للقوة وللأعمال وحيدة الجانب. ويتابع ذلك البروفيسور في كلية هامشاير، HAMPSHIRE في ماسا شوسيت: "يتذبذب الاتجاهان في السياسة الخارجية الأمريكية، منذ وقت قريب، بين تعددية الجوانب، ووحيدة الجانب، وهما متوازيان".
فتقوم واشنطن بالقصف الجوي على العراق دون تفويض من الأمم المتحدة، ضد أهداف استراتيجية عراقية، نتيجة أيضاً لاتخاذ مواقف متذبذبة، من قبل فرنسا والصين وروسيا، بالنسبة للغارات التدميرية الجديدة على العراق، خاصة في ثعلب الصحراء. وهكذا، يختفي كل غموض، منذ ذلك الوقت: "حيث يؤكد جيمس روبن JAMES ROBIN، بأن كلنتون ومادلين أولبرايت، يقولان بصوت عالٍ وقوي، إن الولايات المتحدة ستتدخل من الآن وصاعداً، بشكل وحيد الجانب، حيث تريد، وكما يحلو لها، مع أو بدون موافقة "الحلفاء" والمنظمات الدولية"(10).
في الواقع، سوف لن تكون الولايات المتحدة راضية، بأن لا تقوم منظمة الأمم المتحدة، بما يجب أن تقوم به، منذ عام (1995)، وإنها لم تعد تخفي وحدانيتها، ولا يعني هذا أنها سوف تتخلى عن "التحالفات الغربية"، فهي ثمينة دوماً، ومخصصة لشعشعة التبريرات الاستراتيجية. والمسؤوليات الأمريكية داخل النظام الدولي متعدد الجوانب، على نحو صريح، والمفترض أنها تمثل "المجموعة الدولية". ويقول الجنرال جان سالفانJEAN SALVAN، يبقى استخدام "التحالفات الغربية" ثابتة في السياسة الأمريكية، من أجل ممارسة عمليات وحيدة الجانب، منذ عدة سنوات، وتشارك فيما تسميه "استراتيجية المُتَصّيدْ" فيها الصياد "خواف من ابن مُقْرض"(11) ـ ابن مقرض، حيوان من رتبة اللواحم، يُصاد به، ولقد حدد روبن ليرد ROBBIN LAIRD المستشار السابق لبرززنسكي، حدد في نيسان عام (1996)، زد على ذلك، دور "المُتَصَّيد"، الممثل بصورة رئيسية بـ"الحلفاء الأوروبيين في منظمة حلف شمالي الأطلسي: يجب على الولايات المتحدة أن تدرك كيف تستخدم استراتيجية متعددة الجوانب، بحيث تشكل شبكة تحالفات وبالعمل بشكل وثيق مع حلفائها"، أيضاً، وضع لائحة للشركاء المتميزين المختلفين، أو "المُتَصِّيدين"، الإقليميين، للولايات المتحدة: بريطانيا العظمى، في الأطلسي وشمالي أوربا، ألمانيا، في أوربا الوسطى، فرنسا في أفريقيا الناطقة باللغة الفرنسية، الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وتركيا في الشرق الأوسط، اليابان وكوريا الجنوبية في الشرق الأقصى.
كذلك، يتكون التصور الاستراتيجي الجديد لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، تحت غطاء "التحالف الدولي"، بحيث تستخدم القوات الأمريكية، وتلك التابعة لمنظمة حلف شمالي الأطلسي في كل مكان، هذا هو ما قرره البيت الأبيض، حيث سيكون ذلك ضرورياً للدفاع عن المصالح العسكرية والاقتصادية ـ الصناعية والاستراتيجية للولايات المتحدة . "وتسمح هذه الطاقات للولايات المتحدة، بالسيطرة على الأزمات الخارجية وبالرد عليها، حتى في الحالة التي لا يكون لها وجود دائم في المنطقة، وليس لها فيها سوى مجموعة المنشآت الضرورية المحدودة (...)، لكون الولايات المتحدة، هي القادرة على القيام بعمليات متكاملة [متعددة التكافؤ] على نطاق واسع، على مسارح عمليات بعيدة جداً عن حدودها، وبهذا تشغل الولايات المتحدة موقعاً فريداً، إذن، يجب على الولايات المتحدة أن تكون قادرة أن تخضع كل أشكال المقاومة، في كل مكان تريد التدخل به، وحيث ليس بالإمكان الاعتماد دوماً على الحلفاء المحليين من أجل حماية المصالح الأمريكية في الخارج"(12)، هذا ما يعترف به الرسميون في البنتاغون. مصمم وموجه من واشنطن للقيام بالأفضليات والمصالح الجيو سياسية الأمريكية تحت غطاء هؤلاء الذين هم أكثر "قبولاً" للمشاركة في الغرب كبريطانيا العظمى، ومنظمة حلف شمالي الأطلسي، حيث استولت واشنطن عليها بنفسها، وتستخدمها للتحرك كما تريد ومتى تريد، وفي كل مكان تقريباً ذلك، ضد كل من يتجرأ على تحدي الهيمنة الأمريكية، مموهة خلف إبراز (للغرب)، ومرجعة، تلك العولمة أو "المواطنة العالمية"، الأكثر حلماً،
بالنسبة لها.

نزعة انعزالية وتدخلية: الحوار الخطأ
تتذبذب الدبلوماسية الأمريكية منذ نشأتها باتجاهين كبيرين متناقضين حسب الظاهر، لكنهما في الحقيقة، متكاملان؛ فمن جانب، الذرائعية PRAGMATISME، الأكثر استخفافاً أحياناً ["الأكثر فعالية بالنسبة لنا أولاً"] [ EFFICIENCY FOR US FIRST] والمثالية الأكثر تهذيباً والأكثر ملائكية من جانب آخر، ويؤكد هنري كيسنجر في كتابه "الدبلوماسية": ليس هناك من أمة أظهرت كونها الأكثر ذرائعية في السلوك العادي لدبلوماسيتها، وفي الايديولوجية أثناء متابعة قناعاتها الأخلاقية التاريخية من الولايات المتحدة (.....). لقد تذبذب الفكر الأمريكي بين الانعزالية والالتزام"(13). لكن على العكس من تلك الفكرة المنتشرة بين الأوساط المتعاطفة مع الأمريكيين من الأوربيين، القائلة، بأن وجود "مدرستين فكريتين"، لا يعني أن السياسة التدخلية، الموجهة باسم النظام الدولي الجديد منذ بداية التسعينات (1990)، تكون العمل الوحيد "للويلسونية" المثالية، والمفترض على أنها ديموقراطية، في حين يُفتَرض أن الجمهوريين المحافظين هم أصحاب النزعة الانعزالية"، وبأنهم ينتقدون السياسة الخارجية الامبريالية، لإدارة كلنتون. بالتأكيد يوجد في الولايات المتحدة، أنصار للتدخلية في جميع الاتجاهات باسم [المبادئ] الأخلاقية، ينضوون تحت أصولية الرئيس ويلسون، بصورة رئيسة، الذي كان يعتقد أن لجمعية الأمم نزعة لكي تصبح الصورة المنقولة عن دستور الولايات المتحدة، على المسرح الدولي، فهي القادرة وحدها أن تقود الإنسانية نحو "السلام الأبدي"، الذي نادى به، لكنهم لم يفقدوا وجهات النظر القائلة، إن النظام الدولي الجديد ("هو هيمنة كونية متسامحة من قبل الولايات المتحدة") ـ و"دبلوماسية القصف الجوي والحَظر" الذي، يميزه ـ وكان أن جرى الإعلان عنه تحت إدارة الجمهوريين، في عهد جورج بوش، وتدمير العراق، باسم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والكتاب المقدس، "التوراة" وتستند سياسة الهيمنة، على المسلمة التدخلية نفسها، والمسيحية الملازمة، على السواء، سواء أكانت موجهة من قبل المسالم السابق الديموقراطي كلينتون، أو المحافظ بوش، وذلك منذ أكثر من عشر سنوات، كما تستند هذه أيضاً، على "البيان المخصص للولايات المتحدة"، ولقد جرت أمور بالطريقة نفسها، قبل بوش وكلنتون، ودون الرجوع حتى لويلسون: فهل لم يفتخر جون فوستر دالاس، رئيس إحدى الجمعيات البروتستانتية الكالفانية ـ كونه، رجل السياسة والذي يعرف التوراة، على نحو أفضل، موضحاً الجذور الأخلاقية والمسيحية في عقيدته الخاصة باحتواء امبراطورية الشر في خطابه في الكونجرس؟ وستصبح هذه السياسة، المستندة على الصراع ضد الشر، متابعة من قبل الديموقراطي، القس، جيمي كارتر في نهاية ولايته الرئاسية، من ثم، من قبل الممثل السينمائي السابق، بشكل خاص، الجمهوري والرجعي المتطرف، رونالد ريغان.(14)، تلك السياسة المعتمدة على استراتيجية ذرائعية تبدأ بتسليح المتطرفين من الأفغان المتعصبين ضد السوفيات حيث جرى تدشينها في عهد كارتر، خصوصاً بمبادرة من ويليام كاسي WILLIAM CASY وزبيغنيو برززنسكي، من ثم، أعيدت ملاءمته بالكامل، من قبل إدارة ريغان. ومن وجهة نظر السياسة الخارجية شبه الرسمية الأكثر، على المسرح الأوراسي بصورة رئيسة، الاستمرارية هي في النواحي الرئيسة، تكرار للاعتبارات بين الديموقراطيين والجمهوريين إجمالاً، وإن ذلك منطقي تماماً..
في الحقيقة، لم تعد معارضة النزعة التدخلية / الانعزالية الحوادث الجارية حقاً، واليوم يعمل الانعزاليون على إسماع أصواتهم دوماً بشأن المعارضة المحافظة المتطرفة في حزب الإصلاح المشكل من قبل الملياردير روس بيروت ROSS PEROT، حيث الشخصية البارزة في هذا الحزب، هوبات بوشانان PAT BUCHANAN، أحد رجال السياسة الأمريكيين، من المعارضين الأشد للنزعة التدخلية، على نحو مكشوف، من جهة أخرى، فهو لا يقبل الجدل، في حوار حقيقي، بحيث يبقى في الولايات المتحدة في هذه النقطة، ويوضح عدد من المثقفين، من السياسيين أومن المراقبين الآخرين، وخاصة فيما يتعلق بجماعات من الكونجرس، من الجمهوريين، أو من الممثلين (ولبعض اليسار المعادين للامبريالية)، يوضحون في الصحافة بصورة منظمة ـ The WALL STREET JOURNAL خاصة ـ شكواهم، ضد الحصار في العراق مثلاً ـ ويبدون معارضتهم الشديدة للتدخلات المسلحة الأمريكية في العالم، كما حدث ذلك، خلال عمليات القوات الحليفة في حرب الخليج، وتدمير العراق. لكن أُدينت الولايات المتحدة لمتابعتها سياسة الهيمنة ونزعتها التدخلية. لأسباب استراتيجية أساسية واقتصادية وجيوسياسية، وهي الأساس في الانفساخ السياسي، وفي الوقت الحاضر، ليس لجماعة النزعةِ الانعزالية الجارية أي حظ للوصول للسلطة ويبقون مستبعدين كلية عن المراتب العليا عن مراكز القرار: نوادي النفوذ "مجلس العلاقات الخارجية، اللجنة ثلاثية الجوانب... الخ"، جماعات الضغط العسكري ـ الصناعي، الأوساط المالية ـ والطاقية "من الطاقة" التي تحدد السياسة الخارجية الأمريكية على ضوء الأوامر الاستراتيجية الشمولية، والمفهومة كحقل عمل فسيح للقوة الأمريكية. ويؤكد المؤرخ الأمريكي هـ.دبل يو.براندز H.W.BRANDS: "ليس هنالك من انعزاليين في أمريكا"، ويضيف: "إذا كان الأمريكيون موافقون ومتفقون على شيء ما، فهذا الشيء هو أن مهمة بلادهم، هي تحسين الشروط الإنسانية في العالم، وهنا فالآراء متشعبة، حول الطريقة لضمان هذه المسؤولية"، ويوضح دنيس أرتود DENISE ARTUD ، المختص في الولايات المتحدة في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، ((هل يتعارض الحوار مع هؤلاء الذين يرغبون بالتدخل في كل مكان، دون الأخذ بالاعتبار للإسقاطات الاستراتيجية، أمثال بيل كلينتون ومادلين أولبرايت، وساندي بيرغر، وزبغنيو برززنسكي، الذين يعتقدون أنه يجب التدخل فقط، هناك، حيث توجد مصالح رئيسة للولايات المتحدة، عندما تكون مهددة"(15)، وحيث لدى واشنطن الوسائل للتدخل حقاً، بعد إنهاك الحلول الدبلوماسية وهذا الرأي مُدافع عنه ببراعة، من بين الآراء الأخرى، التي يدافع عنها هنري كيسنجر وصامويل هانتنغتون، وبالنسبة لهؤلاء، فإن نزعة التدخل "خطرة جداً ضمن مدى "بالنسبة للولايات المتحدة والغرب، وينطبق ذلك الرأي أيضاً على نظرية ادوارد لوتواك EDWARD LUTWAK في الاستراتيجية التي تطري بالأحرى النزعة التدخلية INTERVENTIONNISME كحد أدنى للولايات المتحدة.
وعلى العكس من هذه الأفكار المتلقاة، لا يعارض الكونجرس، حتى المحافظين فيه، دوماً، التدخلات الخارجية، خصوصاً ـ كما لوحظ ذلك أثناء حرب كوسوفو، عندما سمح الكونجرس بالمبررات الهادفة لزيادة الاعتمادات العسكرية، ولدرجة يكون مجلس الشيوخ الأمريكي حتى في بعض الأحيان أكثر ميلاً إلى النزعة التدخلية، من البيت الأبيض، وكان قبل حرب الخليج معادياً لحد ما نسبياً لكل تدخل في الخارج، خشية من "فيتنام جديدة".
لكن رفعت التحفظات تلك الانعزالية. بمناسبة عملية عاصفة الصحراء. بل كانت هناك موافقة ضمنية، في آخر الأمر، هذه الموافقة حدثت بين جورج بوش والكونجرس والتي قضت بإرسالِ قوات ضخمة إلى منطقة الخليج العربي/ الفارسي. وماهو أكثر وضوحاً للكشف عن هذه الأفكار، فهو الكونجرس الذي دفع البيت الأبيض عام (1992)، للتدخل في يوغوسلافيا السابقة، وكان دور بعض أعضاء مجلس الشيوخ، مثل بوب دول BOB DOLE هاماً جداً في عام (1995)، فهنا أيضاً، إذ أن الكونجرس هو الذي يصوت على قانون، يطلب من الرئيس تعليق الحظر المفروض على الأسلحة باتجاه البوسنة، بل ويلح على التدخل الأمريكي ضد الصربيين. أخيراً، وفيما يتعلق بأزمة الكوسوفو، فالكونجرس، هو الذي سنَّ قانوناً سابقاً بتاريخ (17) كانون أول عام (1997)، أثناء التصويت على القانون رقم (539)، حول الموضوع، ويشترط ذلك القانون أي "لشعب كوسوفو الحق أن يكون له تنمية خاصة مستقلة"، وفي أن "يُجَهّزَ نفسه بطريقته الخاصة"، في "انتخاب ممثلية الشرعيين". وبهذا لم ترفض الغالبية الجمهورية اليمينية مبدأ التدخل في جميع الاتجاهات في الخارج (....)، هذا ما أكده فيليس بينيس PHYLLIS BENNIS عندما رفض مجلس الشيوخ التصديق على المعاهدة التي تقضي بالمنع الشامل للتجارب النووية (CTBT)، بل ويؤكد على الرغبة بالتدخل من جانب واحد، من قبل الولايات المتحدة، ويرفض كل تعددية بهذا الشأن".(16).
ويوضح هنري كيسنجر الأمر بصراحة ودون لبس، بأن: "التقريبيين الاثنين، الانعزالية والتبشيرية متناقضان جداً على السطح ولكنهما يعتمدان على القناعة نفسها"، عندما يقول: "تمتلك الولايات المتحدة أفضل نظام حكومة في العالم. ويمكن لباقي الإنسانية التوصل إلى السلام والرفاه، بالتخلي عن الدبلوماسية التقليدية وباحترام مُثُل أمريكا والقانون الدولي والديموقراطية (...). وبأن الزعامة الدولية عطاء متلازم مع القوة والقيم الأمريكية"(17). مع ذلك، من المعلوم، كم من الجنرالات المغرورين، يخفون غالباً النوايا الأشد هيمنة، أولئك الجنرالات الذين ينتمون إلى الجانب الغربي من الأطلسي.
أيضاً، يكشف ذلك الدبلوماسي الأمريكي المشهور، الحجاب، عن الخبث والرياء التّحْتِيّين في الحوار الآخر الخاطِئ، الذي يدور بين "المثاليين" و"الذرائعيين": "الأمريكيون لا يحبون مطلقاً الاعتراف بشكل مكشوف، بأنهم يلاحقون منافعهم الأنانية (...). ويؤكد زعماؤهم على الدوام، خلال الحروب العالمية، كما في النزاعات المحلية، بأنهم يقاتلون فقط كذباً، للدفاع عن المبادئ، وليس عن المكاسب"(18)، ومن بين هذه المبادئ، الدفاع عن حقوق الإنسان والديموقراطية والحرية، وهي أمور تثار باستمرار من قبل وزارة الخارجية، لكن الذي تأكد نجاحه هو مبدأ "التدخل الإنساني" أم "حق التدخل" أثناء حرب كوسفو، وهل نجح المبدأ نفسه في حرب الخليج وتدمير البنى التحتية العراقية، وتجويع شعب بالكامل نتيجة الحظر المفروض عليه؟..
يشكل "حق التدخل" عامل حرب وعدوان
تسمى التدخلات من الطراز "الإنساني" تقليدياً، بوجه الاحتمال، بـ"رسالة بطرسبورغ"، كما هو الحال فيما حدث في كوسوفو، معرضة أن تصبح عملية جارية في مستقبل قريب، وبشكل أن تستخدم، أكثر فأكثر لإعطائها شرعية الحروب العقابية، كما حدث في الصرب، وحروب الاستعمار في العراق، فهي حروب لا تقال بأسمائها الحقيقية، مع أنها تحمل كل علامات الهيمنة القهرية الأمريكية. لقد كشفت الزيادة في عمليات إضفاء الشرعية المتزايدة على هذا الطراز من التدخل عن "الاستراتيجية الشاملة" للولايات المتحدة، بصورة مباشرة، وما تستهدفه عملية تطوير منظمة حلف شمالي الأطلسي وتحويله من ميثاق للدفاع الجماعي ضد التهديد السوفياتي ـ الشيوعي، إلى منظمة هجومية قابلة للاستخدام الذاتي، لضمان الأمن الشامل" الولايات المتحدة، عندما تستر مصالحها خلف المصالح الغربية، وبأنها مهددة: "التزود بالطاقة، مرور بحري، إرعاب السكان المدنيين، هدوء جيو استراتيجي...."الخ..
تبقي المبادئ المُؤَسِّسة للقانون الدولي، التي منها المبادئ ميثاق الأمم المتحدة كالاختلافات في هيئات المحاكم الدولية، تبقي حق سيادة الأمم، حتى اليوم الموضوع الأساس في القانون الدولي، كقدوس للسيادة الوطنية، مما جعله يصبح عقبة حقيقية أمام نزعة التدخل لمنظمة حلف شمالي الأطلسي والاستراتيجية الأمريكية الجديدة الشاملة. ويعلق الفيلسوف الاستراتيجي بول فيريليو (paul virilio): "أمام هذا الانحطاط الجيو استراتيجي الطويل في التاريخ المعاصر، والذي يهدد السلام بشكل كبير، بسبب عدم الاستقرار أيضاً، ويضاف إلى هذا الانحطاط، الرغبة الجديدة في تجاوز سيادة الشعوب والأمم، باسم هذه الوظيفة المشهورة، السيادة، تحت ذريعة التدخل الإنساني، ويؤدي بالتالي إلى التهديد بعدم الاستقرار الجيو سياسي في العالم"(19)، وبأن النتائج المتوقعة لعملية تطور الامبريالية الجديدة، والمضادة للسيادة، في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتشجيعها على الانشقاقات الداخلية، خاصة في روسيا، وفي آسيا الوسطى، وفي الصين، وفي العراق، وفي يوغوسلافيا السابقة، وأماكن أخرى، لتصبح معرضة لخطر أن تتجلى بحدوث أعمال عدم استقرار، تظهر على شكل سلسلة في العالم أجمع، وتؤدي إلى تكاثر في الدول، وإلى دول مكروية"، التي تشاهد منذ بداية التسعينات (1990)، لأن جرثومة العصيانات والنزعات الانفصالية والادعاءات الأخرى، بشأن "تقرير المصير"، العزيزة على قلب واشنطن منذ حقبة الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون WOOD ROW WILSON ـ "تصريح ويلسون" ـ عام (1915)، حول: "حق تقرير مصير الشعوب"، يمتلك دينامية حربجية خاصة، ويمكن أن تنعكس هذه الدينامية المعادية للسيادة "حق التدخل"، على الولايات المتحدة نفسها وحلفائها، وتعرضها لخطر الانشقاقات تحت تلك الذريعة، وتطال تركيا، والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، هذا ما وضحه الجنرال أرييل شارون، أثناء حرب كوسوفو. وكتب بول فيريليو: "لقد دَشَّنَت الحرب الأولى لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، في أوربا الشرقية بصورة سَيِّئة قدرة الولايات المتحدة على ضمان السلام في عصر التكاثر الدولي للأخطار، بصورة مستمرة، إن لم توجد سلطة قادرة على إزالة هذه القنبلة، ويقرر إذن القضاء على الدولة/ الأمة(...). من الآن وصاعداً، مكلَّفة من جميع العيوب السيادية، ومن جميع الجرائم القومية"(20)، ما عدا النزعة القومية الأمريكية، وأكثر من أي وقت مضى بالتأكيد، مُعزَزة بعالمية المعركة نفسها، كسائر عَوْرة "الهيمنة القومية" الكونية للولايات المتحدة، التي ربحت حرب البيانات، والمستفيد الوحيد من العملية الشمولية أو العولمة.
فإذا لم يتحقق السلام في البلقان، أو بالأحرى المساهمة في إحياء مصادر الآلام والأحقاد بين الجماعات المتقاتلة، عندها ستعيد التدخلات العقابية التي قامت بها منظمة حلف شمالي الأطلسي في كوسوفو، إشعال الحروب في القوقاز على شكل مسلسل وفي العديد من النقاط الحساسة في العالم. في الواقع، جرت معارك، حدثت في مجابهات بين أذريين وأرمن، بعد ثلاثة أسابيع فقط من نهاية الغارات الجوية على صربيا. ويصرح الوزير المستشار للرئيس الآذري، عالييف، بدوره:
لقد بدا تدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي... ضد أرمينيا، بأنه ناجم عن ذلك، التدخل في كوسوفو "من الغرب"، كون ذلك أصبح آلياً، من الآن وصاعداً ضد السلاف الأرثوذوكس، من الشيوعيين السابقين، وهذا هو في الواقع، بالضبط المطلوب، استسلام بلغراد أمام منظمة حلف شمالي الأطلسي، وإذن النتيجة من ذلك استراتيجية عولمة منطقة البلقان. من جهة أخرى يتضامن الغرب مع الشيشان لأسباب بترو استراتيجية، إذ عزز الشيشانيون من أعمالهم اليومية في حرب عصابات، وضاعفوا من الأعمال التخريبية فيها، كإغلاق الأراضي الشيشانية أمام مرور أنابيب النفط للمرور بغروزني.
ويطرح سؤال جوهري، منذ ذلك الوقت: كيف يمكن "للغربيين"، أن يكونوا أهلاً للثقة من الآن وصاعداً، وأن يجيزوا لأنفسهم ، تدمير يوغوسلافيا السابقة، ويتسببون في قتل أكثر من مليون عراقي سواء نتيجة الغارات الجوية المتواترة، بالإضافة إلى الحظر المفروض على العراق، الذي زاد عن عشر سنوات، في حين يترك الكيان الصهيوني يصول ويجول، دون التعرض لأي نوع من العقوبات بالرغم من كل ما يقوم به من أعمال ضد الإنسانية، من قتل وتدمير وطرد. وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا، التي تضطهد الأكراد الذين يزيد عددهم عن (15)، مليون نسمة في تركيا، ويقوم الجيش التركي بعمليات إبادة ضد هؤلاء الأكراد، باستخدام مختلف أنواع الأسلحة الأمريكية التي تزودها بها، كما يترك للعديد من الحكام الدكتاتوريين الذين يتصرفون، كما كان يتصرف حكام القرون الوسطى، أو ما قبلهم، دون توجيه كلمة لوم لهؤلاء الحكام، إنها شريعة الولايات المتحدة، الكيل بمكيالين..
وتتلقى حرب كوسوفو السابقة تشجيعاً مضاعفاً، في نهاية الأمر، ممن أُطْلِقَ عليهم اسم "الذرائعيين الحربجيين": فمن جهة، إن الاستقلاليين من جميع البلدان معرضون لخطر أن ينطلقوا باتباع "استراتيجيات الأسوأ"، وواشنطن ليست مستعدة لإنفاق مليارات الدولارات لدعم جميع الانفصاليين على وجه الكرة الأرضية مطلقاً، من ناحية أخرى، أن ترى وتعي بعض البلدان خطر تعرضها لفقدان سيادتها، بسبب تهديدها بموجات من الانفصاليين، والتوسع في "حق التدخل"، لهذا أصبحت الدول القوية مقتنعة في العالم أجمع أن الولايات المتحدة لا تقوم بأي شيء من أجل وقف هذه الظواهر، لا بل هي التي تمارسها بفظاظة، معرضة العالم للخطر بسبب استغلالها لمثل هذه الأوضاع من أجل "تسوية"، مشاكلها، كما هو الحال مع روسيا، بخصوص حرب كوسوفو، والهجمات الجوية التي قامت بها منظمة حلف شمالي الأطلسي، ومنذ ذلك الحين أصبح العالم أجمع ينظر بقوة أنه بعيد عن إقامة عالم أفضل ونظام دولي "سلمي"، جديد، وأكثر عدلاً لصالح الشعوب المضطهدة في العالم أجمع والوصول لإعادة الدول الإقليمية إلى صوابها، وهذا نوع من "قانون الأقوى الإقليمي"، "وذلك باستخدام كل دولة محورية القوة بأن ذلك أمر حسن بالنسبة لها كما يبدو، في محيطها الخاص ليحل ذلك محل النظام الدولي التقليدي فعلاً، والذي تطريه الأمم المتحدة، في الحقيقة، إن الأمر يتعلق بدول محورية موالية للأمريكيين المستفيدين من تلك الأوضاع، مثل تركيا، العربية السعودية، الباكستان، أو القوى "المعادية للهيمنة"، والعاصية على القيم الغربية، مثل روسيا، الهند، الصين، العراق... الخ..
فهذه الاختلافات بين الزعماء، جرى الإحساس بها بصورة مضاعفة، وشجّعت في ذبذباتهم والاستراتيجيات وحيدة الجانب بسبب أزمة كوسوفو السابقة. وقد فهموا جميعاً الرسالة: خاصة الدول غير المزودة بأسلحة استراتيجية وحدها، وضعيفة نسبياً، مثل العراق أو الصرب و/أو التي يمكن أن تتسبب بإلحاق الضرر للمصالح الاقتصادية الأمريكية. فقدرها أن تتعرض للعقوبات والغارات الجوية، تقوم بها، منظمة حلف شمالي الأطلسي، بزعامة الولايات المتحدة، وإن بعضها مثل "تركيا"، مشيخات الخليج...."، ليست موضع انتقاد من قبل الآخرين: "الصين، روسيا....الخ، بل تجد نفسها تتقارب بطريقة خاصة في أفعالها، وهذا سبب آخر من أجل التماسك بأسرع مايمكن،
ودون شهود.

تزامن الأعراض في كوسوفو:
تعتبر القوى التي لا تخشى أعمال الانتقام في الوقت الحاضر، من "الغرب" تعتبر نفسها، وأكثر من أي وقت مضى، بأنها متبنية لقيادة جميع التدخلات العقابية، المشابهة لعمليات القوات الحليفة، في مناطق نفوذها الخاصة، آخذة ذريعة انتهاك مبادئ القانون الدولي من قبل الأمريكيين، والتغييرات الحادثة فعلاً ـ غير الشرعية ـ من قبل منظمة حلف شمالي الأطلسي، ومنظمة الأمم المتحدة، ومن المحتمل جداً، أنه سيكون لحرب كوسوفو السابقة، نتائج بخلق عدم الاستقرار بالنسبة للسلم العالمي، بمعزل عن طبيعة التدخل القابلة للمنافسة، من قبل منظمة حلف شمالي الأطلسي، بحد ذاتها، وخلال زمن طويل جداً، وقد تتسبب في تعريض العالم لخطر شن دينامية "تفتيت" وعدم استقرار، على شكل سلسلة، في العديد من الدول غير المتجانسة والهشة في العالم، حيث وحدتها الوطنية مهددة، بالمطالب الانفصالية، حقاً، عندما سيحاول الغربيون، رد موسكو إلى الصواب، أثناء قصف غروزني الجوي خلال فصلي خريف وشتاء عام (1999)، كان رد فعل روسيا الأول: لقد وضع هؤلاء الذين دمروا صربيا، خلال (78)، يوم من القصف الجوي، أنفسهم بطريقة غير ملائمة لتوجيه النقد وإعطائنا دروساً في الأخلاق...".
ويعلق سيرجيو رومانو SERGIO ROMANO السفير الإيطالي السابق في موسكو: "إن من بين العوالم التي ساهمت في عدم الاستقرار لدى الدول متعددة الجنسيات، وماهو أكثر أهمية هو الإلحاح، على التلويح بأعلام حقوق الإنسان، من قبل الولايات المتحدة وأوربا، ونسي الغرب أن حقوق الإنسان، التي تستند إليها المجتمعات متعددة الجنسيات في أوربا الوسطى. والشرقية، تعني في الحقيقة حقوق الجماعات العرقية ـ القومية.
ويعتقد الغرب أنه يدافع عن حقوق الأفراد، ويرسل إشارات أن الأقلية وزعماءها يدركون ذلك، على أنه تشجيع لهم، موضوعياً، للإصرار على مطلبهم بالحكم الذاتي، والاستقلال.
ويعتقد أنه يدافع عن الديموقراطية، وينفخ في رياح القومية لا إرادياً. ويظن أنه يدافع عن قيمه الأساسية، لكنه على العكس، يعرض مصالحه الأساسية للخطر: "عدم الاستقرار"(23).
فهل لا يكتسي تعبير "حقوق الإنسان"، معنى الاستقلال بكل وضوح. وقد استخدمت "حقوق الإنسان"، أو "واجب التدخل" في موسكو وفي بكين وفي بلغراد كوسيلة مرادفة إلى التفتيت والعدوان الغربي، من قبل الحركات الانفصالية في القوقاز. وفي غرينجيانغ xinjiang وكسوفو وكشمير، ويوضح سرجيو رومانو أن معظم الأقليات الانفصالية، غالباً ما تستخدم أسلوب العنف لتحقيق أهدافها، وديموقراطية قليلاً ـ كما يقال بشكل عابر ـ وتبحث الحكومات التي تقمعها، عن وضعها في قالب دراماتيكي مثيرة ردود فعل عنيفةعن قصد، إذا كان ضرورياً، وإن بعض الدول والحركات المعارضة، تقوم بأعمال تحريضية لإثارة العنف أحياناً، وردود فعل دموية مختلفة، لهدف وحيد تعزيز صورتها("ضحية بريئة")، بهدف تحضير الجو للتدخلات الغربية، وبالاتفاق معها، وذلك باسم "الدفاع عن حقوق الإنسان"، وباسم حق التدخل الإنساني"، كما يحدث في العراق وفي السودان. وتتحرك الدول المركزية مثيرة الإحساسات القوية لدى الرأي العام. وترد الأقلية المقموعة بدورها بنزعة قومية راديكالية أيضاً، كما هو الحال لدى بعض الأقليات العراقية أو في السودان، ويكفي حينئذٍ إطلاق شرارة ولو صغيرة في البارود. وعلى نحو متناقض، فالحملة لصالح حقوق الإنسان، تولد النزعة القومية، وتجعل من الاستقرار الدولي في مهب الريح"(24). ويستخلص رومانو، أن الأمر لا يتعلق هنا بظاهرة عالمية، بالتأكيد ـ ويرجع ذلك، إلى وضع الضحايا والجلادين في مستوى واحد ـ وهناك العديد من الأقليات في العالم، وقعت ضحايا اضطهاد مرعب تقوم به الأنظمة الكلياتية والمتسلطة، لكن يتحتم على خبراء الجغرافيا السياسية، مهمة صعبة للتمييز، بقدر الإمكان، بين الحقيقة والخطأ، أو بالأحرى الأعمال الفظة الصادرة عن بياناتهم الذاتية إجبارياً، والحالة هذه، فما هي الطرق الرئيسة للمراقبة التي يملكها المواطن ووسائل الإعلام.
في الواقع، ليس المبدأ الأخلاقي ـ السياسي الجديد "الداعي إلى التدخل العسكري والإنساني"، لصالح الأقليات "الانفصالية"ـ "المضطهدة"، مطبقاً بطريقة شاملة، وبإنصاف في المناطق المختلفة من العالم، وهنا نقطة ضعف ذلك المبدأ، فمثلاً لم يكن هناك تدخل في الصين أو في روسيا، ويفسر ذلك بالثقل العسكري والاستراتيجي في هاتين القوتين، وليس هنالك من قياس مشترك عما حدث في العراق الذي يسكنه أكثر من عشرين مليون نسمة. كذلك، فالغربيون لم يبادروا بتطبيق ذلك المبدأ كمخطط إجمالي، وبالتالي بعمل وقائي أو عقابي، كما حدث في إفريقيا رواندا، بورندي، سيراليون، الكونغو"، حيث ارتكبت مجازر أكثر دموية وأشد عنفاً، وكذلك ما يقوم به الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، بقمع شعب بالكامل، من قتل وتدمير وأعمال إبادة وطرد وتهجير، متجاوزاً كل الأعراف الدولية، ومتجاهلاً كل القرارات الصادرة عن المنظمات الدولية. كذلك الحال في تركيا، حيث قتل أكثر من [20000]، كردي بالأسلحة الأمريكية، والدعم الأمريكي، خلال هذا العقد الأخير من القرن العشرين، ولا تزال قوات أنقرة تقوم بعمليات تنظيف وتهجير. إذن تتدخل "الديموقراطيات بحجة حماية حقوق الإنسان، عندما تتطابق هذه الحجة مع المصالح السياسية والاستراتيجية الخاصة"..
وبهذا الصدد، يستمر الأمريكيون والبريطانيون بقصف جوي شبه يومي لمناطق مختلفة من العراق، طوال العقد الأخير من التسعينات دون تفويض من الأمم المتحدة، مع استمرار الحظر على شعب بالكامل مما أدى إلى قتل ملايين الضحايا، أهذه الأعمال تتوافق مع حقوق الإنسان؟.. أم أن تلك الأعمال الإجرامية تتطابق مع المصالح الاستراتيجية، طبقاً "لقانون الأقوى"، و"قانون التدخل الإنساني"..
طبقاً للاستراتيجية الأمريكية للهيمنة الشاملة، فهي استراتيجية تستهدف منع كل خصم منافس أو عدو قوي ينازعها التفوق "الشامل" للولايات المتحدة. فهذه التدخلات المختلفة التي جرت في البلقان، أيضاً خلال العقد الأخير من القرن العشرين، لها فوائد مثلثة: أن تسمح للولايات المتحدة إضعاف التنافسية البنيوية للاتحاد الأوروبي كل ذلك، مع متابعة الهدف القائل "بطرد" روسيا وتحذير الصين ـ وكل معاند قوي آخر ـ وبالتالي أن تستطيع الولايات المتحدة الاحتفاظ بـ"الزعامة العالمية"، إلى أبعد مدى. أيضاً، التخلص من منظمة الأمم المتحدة، من طرف واحد، بشكل يسمح لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، والولايات المتحدة خصوصاً من كل خطر روسي أو صيني، وحتى الفرنسي والبريطاني، باستخدام حق النقض، في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو في الحالة التي يبدي فيها حلفاء واشنطن رغبة باتخاذ مواقف، تظهر عليها علائم الاستقلال الذاتي، أو إذا تحالف منافسون للقيام بأعمال "ضد الهيمنةِ" الأمريكية، وهذا ما يخشاه برززنسكي كثيراً في كتابه "اللاعب الكبير"، حيث يخشى المطالبة بنظام دولي "متعدد الأقطاب"، مع أن حرب كوسوفو، وما يجري الآن في العراق من قصف شبه يومي وحظر، كل ذلك قد رسخ انتصار مبدأ القطب الوحيد، في العديد من الاعتبارات، على تعدد الأقطاب. وفي هذا الإطار، فإن المعطيات الجديدة التي تُسجّل على أنها قرارات جيو استراتيجية أخرى للولايات المتحدة، خصوصاً ما تسميه وسائل الإعلام، بخطاب "حرب النجوم الجديد"، أو استراتيجية الوسائل"، خصوصاً التوجهات في مجالات الأسلحة الجديدة، والتكنولوجيا الجديدة، جميعها، على اتفاق مع "الاستراتيجية الشاملة"
للولايات المتحدة.

السيطرة على الفضاء والطواف حول الأرض والتفوق الشامل
وانطلاق سباق متسلح جديد:
تبنى مجلس الشيوخ، ذو الأكثرية الجمهورية، خلال شتاء عام (1999)، برنامجاً مضاداً للصواريخ جديداً، تأكيداً للاستراتيجية القومية الجديدة الخاصة بالأمن الأمريكي: وهو يستهدف ضمان أمن جزء من الأرض الأمريكية وبعض البلدان الحليفة في المنطقة الآسيوية، فإذا جرى الأخذ به من قبل البيت الأبيض، سيصبح هذا البرنامج مخصصاً لمصراعين أساسيين: قبل كل شيء، الدفاع الصاروخي القومي (NMD)، المخصص للدفاع عن الأرض الأمريكية، والقابل أن يكون قادراً على مقاتلة، الصواريخ البالستية المطلقة من قبل بلد عدو قبل أن يخترق الطبقات الإتموسفيرية العليا(25)، وثانياً، هناك الصاروخ الضارب الدفاعي (TMD)، وهو برنامج مشابه ومخصص ليسمح بالدفاع على المسارح الخارجية، وبصورة رئيسة في آسيا.
إذن يتوقع البنتاغون، إنفاق أكثر من عشرة مليارات دولار على هذا المشروع مابين عام (2000 و2005).
وسيتعلق الأمر، بالنسبة لبعض المراقبين، قبل كل شيء، بطريقة تبرير منح الصناعات الأمريكية اعتمادات مالية هامة لضمان تفوقها، وطبقاً للزعيم الجمهوري في مجلس الشيوخ تِرْنْتْ لوت TRENT LOTT، سيصبح البرنامج الجديد المضاد للصواريخ، أحد الأفضليات الاستراتيجية للولايات المتحدة، كونها في حالة عجز لحماية نفسها من هجمات متزامنة "من دول سوقية"، مثل: كوريا الشمالية، إيران، باكستان، الهند، العراق، ليبيا.....الخ، ولها القدرة على إطلاق صواريخ، يصل مداها مابين (1500-8000)، كم في الوقت الحاضر لكن ستتحسن النتائج في السنوات القادمة، وإن هذا المشروع هو أقل طموحاً من "مشروع حرب النجوم"، الذي أطلقه رونالد ريغان، حيث كان هدفه، تدمير صواريخ الخصم المكتشفة في الطبقات العليا من الجو، بإطلاق صواريخ من قواعد فضائية، أما مشروع الدفاع الصاروخي القومي، سيكون هذه المرة، على قواعد أرضية، ستعتمد على كشف صواريخ الخصم على شبكة أقمار صناعية أمريكية للمراقبة، ومن هنا تتوضح أهمية السيطرة على تكنولوجيا الأقمار الصناعية. ولقد كتب الجنرال راندي ويدنهايمر (RANDY WEIDENHEIMER):"يعتبر الفضاء، مسرحاً لرهانات عسكرية، حتى الوقت الحاضر، تتعلق بالاتصالات وأعمال الاستطلاع والمراقبة، وهذا الجنرال هو من القوات الجوية الأمريكية، ويضيف: "فاليوم ـ يجب علينا التمكن من استخدام أقمارنا الصناعية كسلاح حقيقي"..
لكن البرنامج الأمريكي الجديد للصواريخ المضادة ، قد تجاوز الرغبة السياسية الدولية التقليدية، بأن لا يستخدم فضاء الجو الأرضي. حيث يصبح معرضاً لخطر أن يطلق سباق التسلح النووي، بلا قيد ولا شرط في الواقع، بحيث أنه يؤدي إلى استئناف سباق التسلح الاستراتيجي، كما ذكرت موسكو، التي انتقدته بشدة، وهذا يعني حسب رأيها، إلغاء المعاهدة الروسية، الأمريكية الخاصة بالحد من أنظمة الصواريخ المضادة للصواريخ (ABM) "الصواريخ البالستية المضادة للصواريخ"، لعام (1972)، وكذلك الاتفاقيات الأخرى الخاصة بخفض الأسلحة الاستراتيجية.
من جهة أخرى، وفي الشروط نفسها، موقف من جانب واحد، الخاص بالعودة إلى سباق التسلح الاستراتيجي، حيث رفض مجلس الشيوخ بتاريخ (13) تشرين أول(1999)، معاهدة المنع الشامل للتجارب النووية (ETBT) على الرغم من عظات ونصائح الرئيس كلينتون.
وتؤكد الباحثة فيليس بينيس PHYLLIS BENNIS في معهد الدراسات السياسية التابع للولايات المتحدة(26)، "إن الولايات المتحدة، تطلق من جديد، برنامج سباق تسلح في مجال الصواريخ المضادة للصواريخ، الذي يهدد مجمل اتفاقيات نزع الأسلحة، الموقع منذ عدة عقود زمنية".
رسمياً، فبرنامج الصواريخ الضاربة الدفاعية (TMD)، من المأمول أن يتم نشرها في آسيا، في اليابان، وحتى في تايوان، وهو نظام دفاع مضاد للصواريخ، مخصص لتوقع عدوان قادم من دول داعرة، مثل كوريا الشمالية. لكن خلف هذا المحور الاستراتيجي، ينقلب ضد هذه الأخيرة، حيث لم تر فيه بكين أي شيء آخر، سوى، تشكل غربي، مخصص لاحتواء الصين وتطويقها من قبل منظمة حلف شمالي الأطلسي، انطلاقاً من "الأرض المؤطرة
(
RIMLAND)" الآسيوية ومن الجزر القريبة، كذلك الأمر بالنسبة للمشروع الأمريكي، الشراكة من أجل السلام، فهو مخصص لتطويق روسيا وطردها إلى الشرق، لكن كون الصين مصممة على إلحاق تايوان، إلى الحضن الصيني من جديد، فإنها تعتبر نشر نظام صاروخي مضاد للصواريخ، في جزيرة وطنية، سبباً للحرب حقيقي من جانب الولايات المتحدة. يضاف إلى ذلك، لابد لعدم الثقة هذه، إلا أن تتعزز، بعد مرحلة قصف السفارة الصينية في يوغوسلافيا من قبل الطائرات الأمريكية، أثناء عمليات القوات الحليفة، والتي فُهِمَتْ في بكين وفي موسكو كتحذير أُطلق إلى العمالقة الأوراسيين. ولتذكر الوقائع باختصار: أُطلقت ثلاثة صواريخ أمريكية على سفارة الصين في بلغراد، تسبب في مقتل ثلاثة صحفيين صينيين، كما تسبب في جرح حوالي العشرين، بتاريخ (8)أيار عام (1999)، أثناء القصف الشديد من قبل منظمة حلف شمالي الأطلسي ضد صربيا، وَعَبَّرَتْ أجهزة اتصالات منظمة حلف شمالي الأطلسي وواشنطن عن "اعتذارها"، مُفَسِّرَةً ذلك العمل وأرجعته في المرحلة الأولى إلى قيام الصرب بتمرينات عسكرية.
"كشفت" الأنباء أثناء مرور الطائرة الأمريكية (B2). لكن ما أن مرت ثلاثة أيام، حتى وضحت المخابرات الفرنسية الخارجية (BGSE) أن ذلك التوضيح غير قابل للتصديق. أيضاً عُلِمَ على الأثر في تفسير آخر، أن "الخطأ"، نتج عن استخدام "خرائط سيئة"، أمريكية، مما تسبب في ذلك القصف، لأن وضع السفارة الصينية، كان حسب عنوانها القديم. لكن من المعروف أن العديد من الدبلوماسيين الأمريكيين قد دعوا لزيارة مقر السفارة هذا، وإذن، يعرف الاستراتيجيون الأمريكان، ومنهم الملحق العسكري في بلغراد، العنوان (الجديد)، تماماً، أيضاً، لقد قصفت السفارة الصينية من قبل الطائرة (B2) الاستراتيجية الأمريكية وهي توجه مباشرة من مقرات تابعة للبنتاغون، وليس لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، ويطرح كل ذلك أسئلة جادة... عن السبب الحقيقي لذلك القصف. لأنه أثناء حرب كوسوفو، جرى تنفيذ أكثر من نصف القصف الاستراتيجي انطلاقاً من سفن حربية أمريكية، التي لا تعير اهتماماً لمنظمة حلف شمالي الأطلسي.


ودوماً، هل تقبل بكين التوضيحات الأمريكية وتفسر قصف سفارتها، معتبرة ذلك كتحذير، واضعة ذلك الحدث، بشكل موازٍ لمشروع نشر الصواريخ في آسيا، من قبل الولايات المتحدة، عندها ستقرر الصين، مضاعفة جهودها، في مجال التسلح الاستراتيجي، خصوصاً في مجال التعاون مع روسيا، كما أطلق الروس من جانبهم، منذ ذلك الوقت، أبحاثهم بالتركيز على تكنولوجيا الصواريخ المضادة للصواريخ، في حين يُنْتَظر أن تستثمر الصين حوالي عشرة مليارات دولار لتحديث تسلحها النووي، وأن تصبح على مقدرة في إنتاج حوالي (100) صاروخ ذات المدى البعيد، قادر على التخلص من كل عدوان نووي، من الآن، وحتى عام (2010). واليوم، يلاحظ ب.م.غالو
(
P.M.GALLOIS) أن الصاروخ (DF31) الذي جرت تجربته حديثاً، بلغ مداه (8000)كم. والحالة هذه، فلن تبقى الهند ولا الباكستان غير مكترثتين بتسلح الصين.
أيضاً، فلا يمكن لبرنامج الصواريخ الأمريكي من طراز (NDM) إلا أن يشجع كافة القوى النووية "المعادية للهيمنة"، على التعاون بشكل أوثق للعمل سوية، لزيادة عدد أسلحتها النووية وقدراتها في مجال المديات المتوسطة، من ثم الطويلة، سواء المحور الكونفوشيوسي ـ الإسلامي ، الذي يخشاه هانتنغتون، أو المحور بكين ـ موسكو ـ طهران، أيضاً، الهند، عن طريق روسيا ـ وكما يوضح بيير ماري غالوا PIRRE – MARIE GALLOIS، أصبح المشروع الأمريكي للدفاع في الفضاء يشجع هذه البلدان على إنتاج مجموعة أسلحة محدودة، لكنها كافية لتكون مرعبة ضد خصومها، من ذوي نزعة الهيمنة، وفي زيادة عدد أسلحتها من أجل أن تبلغ أهدافها، عند القيام بانتقامات عنيفة (....)، في الحالة التي تشعر بأنها بحاجة إلى كمية جوهرية أيضاً، وهذا هو ما يشجع على التكاثر النووي "عمودياً" و"أفقياً"، أيضاً، بطريقة غير مباشرة، لأنه يتوجب القيام بتجارب جديدة، ويؤدي ذلك إلى زيادة المخترعين الوطنيين المعتدلين، كما يؤدي إلى استعادة الاختيارات ضمنياً"(27). ويجب أن لا ننسى أن كوريا الشمالية تمتلك الصاروخ (TAEPODO NO1) الذي جرى تطويره محلياً، يمكنه التدخل على مسافات كبيرة، وبأن إيران، كما يبدو، قد شرعت السير بالطريق نفسه، سواء من حيث "المتفجرات"، وكذلك الأمر بالنسبة "للنقل"، كما تسير الهند والباكستان على خطى الصين حيث شرعتا بتطوير قدراتهما النووية، وأصبح التهديد بالنسبة للسلام العالمي، بسبب سباق التسلح الجديد هذا، المؤسس لحرب باردة جديدة، شرق ـ غرب/شمال ـ جنوب، معرضاً الكرة الأرضية لخطر ثقيل النتائج على البشرية وعلى الاستقرار وعلى السلام خلال السنوات القادمة. بالتأكيد، تصر الولايات المتحدة على أن تفوقها التكنولوجي والعسكري المطلق، سيردعان جميع القوى الأخرى، من أن تستخدم قواتها الاستراتيجية ضد "الغرب"، أو ضد الولايات المتحدة، على الأقل، خصوصاً، إذا كانت هذه الأخيرة مجهزة بـ"مظلة نووية فضائية"، لكن ينسى أصحاب هذا الرأي، أن الخطر نتيجة الضربات النووية بين القوى المتوسطة، مضروبة بعشرة بالنسبة لها: "استراتيجية القوي إلى الضعيف"، وحتى "استراتيجية المجنون إلى القوي"، فهي لا توفر أحداً، في أوربا والولايات المتحدة نتيجة الهجمات النووية بسبب الإشباع، فضلاً عن كون النظام الدفاعي المضاد للصواريخ، بعيد أن تكون له الإمكانية للحماية 100%.
لكن تخفي انطلاقة سباق التسلح "بين القوى الأعظم"، في (مجال الفضاء والذرة)، في الواقع، الحرب الحقيقية، كـ"سباق الإنهاك الاقتصادي"، للأمم، كما حدث في الحرب الباردة السابقة، إذ ضيقت الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي، وذلك برهن هذا الأخير باتفاق عسكري غير مثمر مرتبط بحرب النجوم (IDS) الذي تسبب في دمار اقتصاد الاتحاد السوفياتي وساهم في "إركاع امبراطورية الشر"، كما كان لهذه الاستراتيجية الجيو اقتصادية في مجال السباق التكنولوجي الاستراتيجي هدفاً أخيراً، تدمير القوى الاقتصادية للعدو الحقيقي أو المفترض، مثل "الحليف المنافس"، و"إنهاك هؤلاء واحداً فواحداً في اقتصادياتها المنافسة لسوق وول ستريت الكبير"(28).
ويوضح بول فيريلو، أن الحدود التي تفصل بين هذه المفاهيم المختلفة: "المنافسون، الأعداء، الخصوم، الحلفاء، الأصدقاء". كونها قد أصبحت مختلطة، حتى بالكامل، وقابلة للنفوذ في ظروف الحرب الاقتصادية.
ختاماً، تنتظر الولايات المتحدة، بلوغ الهدف الذي يتابعه الاستراتيجيون الأنجلو ـ ساكسون، على الدوام: إخضاع القوى الإقليمية، وتحييد منطقة قلب القارة الأوراسية، بشكل نهائي، إنطلاقاً، من المنطقة الهامشية المحيطية ـ لفتح المجال أمام الهيمنة على العالم ـ لبلوغ الهيمنة الكونية الشاملة والسيطرة على قلب الأرض.
وهذا ما يذكرنا بعبارة الاستراتيجي جون كولينس JOHN COLLINS بشأن التفوق الفضائي: شرح ماكندر، رأيه أن "من يقود أوربا الشرقية، يقود الأوراسيا، ومن يحكم الأوراسيا، يقود الجزيرة العالمية"، ويوضح كولينس رأيه أن "من يحكم فضاء المحور الأرضي، يقود الأرض، ومن يملك القمر، يقود مجال المحور الأرضي ومن يقود الـ(L4 وL5) يقود النظام أرض ـ قمر"[الـ(L4 وL5) هي نقاط الفضاء، حيث تتكافأ نقاط الانجذاب بين القمر والأرض، تماماً]. ولقد كتب إيثان ب.كابستان (ETHAN B.KAPSTEIN)، مقالاً في مجلة "شؤون خارجية FOREIGN AFFAIRS العدد الصادر بـ"أيار ـ حزيران"، (1994)، حيث يستطيع أن يجذب اهتمام العديد من حكامنا، جاء فيه: "للمرة الأولى، في التاريخ، المعاصر، يصبح بلدنا في طريقه إلى احتكار تجارة الأسلحة الدولية، وتمارس الزيادة في التكاليف وفي خفض ميزانيات الدفاع، ضغطاً على المنتجين للأسلحة غير الفعالة معظمهم واقعون تحت هذا الضغط... وستصبح الولايات المتحدة، منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، المنتج الوحيد للأسلحة المتقدمة الأكثر، أولاً بأول، بحيث ستكتشف البلدان الأخرى المنافسة، أن تكاليف المشاركة، في البرامج الجديدة للتسلح، ثقيلة جداً على الحمل... وسيصبح هذا الاحتكار مواتياً للولايات المتحدة، لكن أيضاً للجماعة الدولية، فقد أظهر الماضي أن الدول التي تعتمد على الأسلحة الأمريكية، أقل ميلاً نحو الدخول في حرب مع جيرانها مع الآخرين.... لكن يا لسخرية القدر، أن يصبح احتكار الولايات المتحدة للأسلحة جيداً بالنسبة للاقتصاد العالمي، حيث ستخرج الصناعات غير الفعالة من بؤسها المكلف ذات يوم لتتمكن الحكومات من تخصيص مصادرها الهزيلة لأهداف أكثر إنتاجية". في الواقع، تلقي الميزانية العسكرية الأمريكية لعام (2000)، في مجال الدفاع، التي تبناها الكونجرس بتشرين عام (1999)، الضوء بالكامل على الرغبة الأمريكية بالحصول على التفوق الشامل المُسلَّم به، وفي السبق في المجال التكنولوجي، بشكل نهائي، أمام الأعداء والمنافسين وحتى الحلفاء. فمع
(267.8)، مليار دولار، في الواقع، وهي الميزانية العسكرية الجديدة للدفاع العام (2000)، الغربية بارتفاع مقداره (+7%) بالنسبة للعام (1999)، لكنها أيضاً، التي تمنح أكبر أفضلية لتحديث المعدات، حتماً، ستنتهي البرامج الخاصة بالصواريخ المضادة للصواريخ (
NTD) إلى بلوغ مرحلة الإنهاك اقتصادياً، ليس فقط بالنسبة للأعداء المعلنين للولايات المتحدة [مثل الصين، روسيا، الهند، كوريا الشمالية....]، بل وبالمناسبة نفسها الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة أنفسهم. أيضاً، هل سيكون التفوق التكنولوجي والعسكري الشامل للولايات المتحدة، هو مفتاح خضوع القوى الأخرى في العالم لامبراطورية
الولايات المتحدة، في الختام؟...

التقارب الروسي ـ الصيني، رجوع إلى معاداة الغرب
و(حرب باردة جديدة): النتائج الرئيسة لحرب كوسوفو والشيشان:
ينطلق جيلبير أشقر GILBERT ACHCAR (29)، في كتابه "الحرب الباردة الجديدة"... من واقع لا يقبل المنازعة: الميزانية العسكرية للولايات المتحدة التي تتزايد بطريقة ذات دلالة، هي في طريقها إلى أن تبلغ القمم التي عرفتها في الثمانينات(1980)، وتعادل اليوم تلك التي خصصتها الصين وروسيا وإنجلترا وألمانيا بالإجمال مجتمعة، والحالة هذه، بين المؤلف، أن المجهود الحربي الأمريكي ليس موجهاً فقط ضد تهديد "الدول المزعجة" كما تدعي، بل أيضاً وبطريقة محجوبة بالكاد، ضد المجموع الاستراتيجي الأوراسي، يعني روسيا والصين. ويذكر الأشقر، أن الولايات المتحدة لم تتوقف ومنذ نهاية الحرب الباردة عن متابعة هدف رئيس منع ظهور قوة تُقارب ماكان عليه حال الاتحاد السوفياتي السابق، أوكل مجموع أوراسي آخر قابل أن ينازع تفوق القطب الوحيد، للولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا الواقع، أصبح ينظر للمفهوم الاستراتيجي لمنظمة حلف شمال الأطلسي، والزيادة المذهلة في ميزانية الدفاع الأمريكية وخصوصاً التدخلات العسكرية المختلفة الأمريكية ـ الغربية والتي تتم دون موافقة أعضاء مجلس الأمن، غير الغربيين، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي "العراق، البوسنة، كوسوفو.... الخ"... ينظر إلى كل ذلك، من قبل موسكو وبكين، ونيودلهي، "كإعلان حرب" باردة، حقيقية والأكثر كأنواع من التحذيرات..
ويصرح بيير ماري غالوا: أن المجابهة شرق ـ غرب، أصبحت موضع تساؤل، بسبب العدوان الأمريكي في كوسوفو، كذلك فإنه يوسع الهوة، بين العالم الغربي المُؤَمْرَك، وحكومات الأمم الأخرى، التي يتجمع فيها عدد سكان يزيد عن (3) مليارات نسمة، لكن ذات مستوى حياة أدنى، بل وفقر بشكل واضح.
ويعتقد لهذا، أن أزمة كوسوفو والطريقة التي عولجت بها، يجب أن تكون العلامة لنذير المستقبل في انشقاق ضخم"(30). وعلى نحو متناقض مع حال القوتين النوويتين الأعظم في الأوراسيا الصين وروسيا، ويلاحظ الجنرال غالوا قائلاً: "لقد انتهت دبلوماسية القصف الجوي التي تمارسها مادلين أولبرايت إلى المسعى، الذي لم تعد تخشاه الإدارة الأمريكية أكثر [تقارب بين موسكو وبكين] الذي أصبح يستحق النظر فيه"، في الواقع، فقد قام بوريس التسين بعد عدة أشهر بالكاد من عمليات قوات الحلفاء، أي بتاريخ (9) كانون أول (1999)، بزيارة لبكين، من أجل وضع حد لخلاف حدودي قديم. ولقد صرح في تلك الزيارة "أن روسيا ـ مثل الصين ـ كانتا ضد امتلاك الأسلحة النووية، وبأن الغربيين يرفضون مساعدة هاتين الدولتين لتحقيق ذلك، لكن مع الحذر الشديد من التدخل في شؤونهما الداخلية"، مثل التدخل في القوقاز بالنسبة لروسيا، وحقوق الإنسان وتايوان وجزر سبراتلايز (SPRATLEYS). فيما يتعلق بالصين: لكن يبدوأنه من المفيد تماماً أن نقدم هنا خطاب التسين الذي نُقلَ على قنوات التلفاز الصينية والروسية، كونه يكشف عن انطلاقة نوع جديد من الحرب الباردة.
"بالأمس، سمح كلنتون لنفسه، ممارسة ضغط على روسيا، وقد اعتقد خلال دقيقة "صمت مطول"، أن بإمكانه أن يمارس هذا الضغط. لقد نسي أن روسيا تمتلك ترسانة نووية كاملة(....) حينما بدا على خلاف عما أقوم به في كوسوفو، وهو لم ينسَ أن الولايات المتحدة، هي قوة عظمى(...)، وأن على العالم أن يكون متعدد الأقطاب(....)، وبأننا لا نستطيع أن نسمح لأنفسنا أن تفرض الولايات المتحدة إرادتها على العالم. وهذا ليس بيل كلنتون هو الذي يذهب حتى فرض سلوكه على العالم، فهذا أيضاً جيانغ زيمين (JIANG ZEMIN)، والتسين". وصرح الرئيس الروسي السابق ضد الامبرياليين، بعد قليل من لقائه زميله الصيني جيانغ زيمين، وبحماسة: "أريدأن أقول لكلنتون أن لا ينسىَ في أي عالم يعيش، وليس بإمكانه أن يفرض على العالم أجمع، كيف يجب أن يعيش ويعمل ويستريح".. ثم يتابع كلامه: "وهذا أيضاً جيانغ زيمين، وأنا نفسي، سنقول للعالم أجمع، كيف يتصرف، وليس هو وحده". ثم يتابع اليتسين تصرفاته، وذلك بالتأكيد على قناعة موسكو وبكين، وبحماسة، يجب أن يعملا من أجل عالم متعدد الأقطاب، ومع إدانة وبحماسة، مرة أخرى، الانطلاقة الجديدة الداعية إلى التسلح بصواريخ مضادة للصواريخ، وكانت ستكون أول القرارات الاستراتيجية للرئيس فلاديمير بوتين VLADIMIR BOUTINE، وبعد قليل من استقالة بوريس التسين، بشهر كانون الثاني عام (2000)، مراجعة العقيدة الروسية في مجال استخدام الأسلحة النووية، إذ ستحتفظ موسكو، من الآن وصاعداً بحقها في اللجوء لاستخدام الأسلحة النووية، في أكثر من حالة عدوان، رئيس ضد "وجود الاتحاد الروسي نفسه" بل أيضاً، إذا حدث نزاع مسلح، باستخدام جميع الوسائل الأخرى الممكنة، ويقرر بوتين بطريقة موازية، زيادة حوالي (5%) على الميزانية العسكرية الروسية.
ويؤكد أناتولي زيوغانوف (ANATOLI ZIOUGANOV) زعيم الحزب الشيوعي الروسي، ومؤلف عدة دراسات مختلفة جيو سياسية، بقوله: "لقد حدثت مؤامرة حقيقية جيو سياسية عالمية ضد الاتحاد السوفياتي السابق"، ويضيف، "ينبعث التهديد الرئيس بالنسبة لأمن روسيا، من عدوان الآلة العسكرية للتحالف الأطلسي باتجاه الحدود الغربية لبلادنا"(31)، ويؤكد زيوغانوف، أن معاهدة باريس هي "تأكيد على انتصار الغرب من الناحية القانونية، نتيجة الحرب الباردة"، باعتبار أن التوقيع على تلك المعاهدة في باريس بتاريخ 27 أيار (1997)، اعترف بانتصار حلف شمالي الأطلسي على روسيا، على الرغم من أن ظاهرها هو التهدئة مابين الكتلتين السابقتين. ويضيف زيوغانوف القول: "يفرض علينا الإحساس البسيط الجيد، تعزيز روابطنا مع الصين ومع الهند، وبعض البلدان العربية"(32)، ويتابع المؤلف، بعد أن ذكر أن دعوات ماكندر قلبت الهيمنة الروسية على النواة الأوراسية، وأصبح مُسْتَوْلى عليها من قبل من كانوا يرتعبون من الروس، أمثال برززنسكي وكيسنجر"(33)، وكتب دوستويفسكي Dostoivski، من قَبْلُ، في جريدته، "الكاتب"، روسيا ليست أوربية فقط، بل آسيوية أيضاً، والأفضل، ربما يوجد لنا أمل أكثر في آسيا بالنسبة لنا مما لنا في أوربا. والأفضل أيضاً أن يرتبط مصيرنا في آسيا في المستقبل، وربما انفتاحنا الأساسي"(34)..
ويمكن تقريب هذه التصريحات ـ من ناحية ثانية، إلى تصريحات رئيس وزراء الهند فاجبايي VAJPAYEE، فمع إدانته ضربات منظمة حلف شمالي الأطلسي الجوية، وبشدة، فإنه أعلن، فيما بعد، بعد الشروع بعمليات قوات الحلفاء، أن بلاده "ستفكر جدياً بإمكانية تشكيل محور، مثلث الجوانب، مع روسيا والصين، للعمل على إظهار الضغوط الدولية ضد الهجمات الجوية على يوغوسلافيا"(35)..
وتطلب الحكومة الصينية من منظمة حلف شمالي الأطلسي "الوقف الفوري لتدخلاتها العسكرية"(36)"منذ البدء بعمليات القوات الحليفة، على العكس من موقفها، أثناء حرب الخليج، الذي أزيل بالتدريج، كما صرحت الحكومة الهندية من جانبها، في الثاني من القصف، بتاريخ (25) آذار، أن مثل تلك الأعمال وحيدة الجانب، التي جرت دون إذن طبقاً للأحوال الواجبة من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حتى إذا كانت قد اتخذت في ظروف مناورة إقليمية، تقوض سلطة نظام الأمم المتحدة في مجمله، على نحو خطير"(37). ووضحت جريدة التايم الهندية، الموقف الرسمي لنيودلهي، بعد قليل من إعلان الموقف الرسمي، بالقول، "تستطيع الولايات المتحدة باستخدام أداتها الطيعة، منظمة حلف شمالي الأطلسي، التدخل عسكرياً، اليوم، ضد أية أمة أخرى، لا تمتلك صواريخ ذات مديات بعيدة، ولا قدرة نووية"(38)..
ثم أجرت الهند تجربة بإطلاق صاروخ بالستي من ذوي المدى المتوسط، بعد أسبوع (.....) وأعربت عواصم أخرى عن عدم موافقتها، وحتى سخطها تجاه تلك العمليات: ولقد وصف نلسون منديلا، القرار الغربي، بالاحتيال على مجلس الأمن، بـ"اللا مسؤول" وباتهام منظمة حلف شمالي الأطلسي بالعمل، كما قام به ميلوسوفيتش بالضبط، وذلك بقتلها المدنيين، ومُدمِّرة البنية التحتية والجسور في يوغوسلافيا"(39). ويطري عالم الجغرافيا السياسية الكسندر دوغين (ALEXANDRE DOUGUINE)، رئيس جمعية الجغرافيا السياسية في الدوما، بقوله: "لا تستطيع روسيا إعادة التأكيد على سلطتها إلا بالاعتماد على الشرق، كذلك معارضة الغرب الامبريالي، والمعادي للسلاف ـ الأرثوذكس"، معضداً رأيه بالدروس المستفادة من حرب كوسوفو. ويشير دوغين أن أصل كل بلاء لروسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، هم هؤلاء الذين يتسترون بتدمير يوغوسلافيا، وأفضل الحلفاء الأقوياء لموسكو، هم الإيرانيون الأصوليون، والقوميون العرب اليساريون، من طراز صدام حسين، وكذلك الصين، ويتحدث الروس، أكثر فأكثر، عن شراكة استراتيجية مع الهند، حليف مثالي، لمواجهة المحور الاستراتيجي الأمريكي، الباكستاني الوهابي، الموروث عن الحرب الباردة، كما أن إدانات الامبريالية الأمريكية من قبل نيو دلهي، وبكين، وموسكو، أثناء تدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي ضد صربيا، جعلت وزير خارجية روسيا ايفانوف (IVANOV)، يقول: "لا يمكن لروسيا أن تصبح زعيمة لجميع القوى الحية والنظيفة في العالم"، بعبارة أخرى "التحالفات ضد الهيمنة" طالما أنها تخشى الاستراتيجيين الأمريكان..
لقد تحرك الشعور المعادي للغرب من قبل الروس، بشكل أكيد وبكثرة منذ الأزمات في كوسوفو والشيشان. ولقد اعترف 49% من الروس، في مطلع نيسان عام (1999)، "بأن لديهم نظرة سلبية تجاه الغرب"، كما كشفت عن ذلك مجلة (LE POINT) الصادرة بتاريخ (17) نيسان (1999)، كذلك، لم يتوقف الشعور الذي بحسبه، أنه توجد "مؤامرة جيو سياسية ضد روسيا من قبل الغرب"...، عن التزايد، وأصبحت إبرازات راسخة بعمق لدى العديد من النخبة، خصوصاً المثقفين منهم، بما في ذلك المنشقين الذين عادوا الشيوعية من القدامى، أمثال سولجنتسين وزينوفييف. ولنستمع إلى ما يقوله، بالأحرى إلى الكسندر زينوفييف، وهو يصرح للصرب أثناء حرب كوسوفو: "لقد أنقذنا الإنسانية من التهديد الأشد رعباً‍! الفاشية، وفي الوقت الحاضر نُهاجم من قبل عدو جديد مشترك، الامبريالية الأمريكية، التي تبحث عن السيطرة على العالم. النوايا نفسها، تنشط ضدنا، نحن الروس، وأنتم الصربيون! لقد تحطمنا بتحطيم بلادنا، وتجزئة الشعب الهدف النهائي، كونه القضاء علينا (.....)، لقد استسلمنا، نحن الروس، أمام هذا العدو، من قبل (...)، في حين تقاومون وحدكم، إنكم تصارعون من أجل استقلالكم (....)، وأنكم تصارعون من أجل الروس، حيث تركنا حقل معركة التاريخ بجبن. إنكم تصارعون من أجل الإنسانية كلها، التي تهددها الامبريالية العدوانية، الولايات المتحدة
الأمريكية"(40).

وطبقاً لرأي زينوفييف، ستصبح الإنسانية، في الواقع، وقد دخلت تحت نفوذ الهيمنة الأمريكية، في "عصر مابعد الديموقراطية"، حيث تمارس الولايات المتحدة، هيمنة شاملة، لا ينازعها أحد في الوقت الحاضر، كون الكرة الأرضية قد أصبحت "دولة واحدة" أو "قطب وحيد"، و"أصبحت الديموقراطية بالتالي، بعد الآن غير محبوبة بالنسبة للحكام في العالم الغربي، فضلاً عن ذلك، فقد أضحت هذه الديموقراطية تزعجهم، وذلك لأنهم يبحثون عن السلطة العالمية". أيضاً لم يتردد المنشق الروسي السابق، عن التأكيد، أن الغرب "يتوجه نحو كلياتية من نوع خاص" (.....)، بعد أن خرج منتصراً في الحرب الباردة. كلياتية محبة للحرب، وشرسة، وتتقدم تحت قناع الإنسانية والديموقراطية والكفاح من أجل حقوق الإنسان. ومن أجل العدل"(41).
والحالة هذه، لقد وجدت هذه المعاداة الروسية للغرب أرضاً من اليمين كما في اليسار، كذلك ملائمة مع اندلاع الحرب الروسية ـ الشيشانية الثانية".. بشهر آب (1999)، حيث اقتنع العديد من الروس، "أن هذه الحرب، ليست سوى وسيلة لخدمة المصالح الغربية"...
لقد أدان الحكام الغربيون روسيا بشدة، بعد اجتماعهم في قمة هلسنكي، وذلك أثناء القصف الجوي الأول على الشيشان، ودعا هؤلاء الحكام موسكو لرفع التحذير الموجه للسكان المدنيين في غروزني، واصفين الإصرار الروسي على متابعة الهجوم ضد الشيشان على أنه "تَحَدٍّ موجه للغرب". وهددت بروكسل من جانبها "بتعليق"، بعض بنود اتفاق الشراكة والتعاون الذي يربط الاتحاد الأوروبي بروسيا، وأدان الخمسة عشر وزيراً للخارجية في الاتحاد الأوروبي، روسيا بشدة، بسبب استخدام القوة عديمة التناسق"، من قبل موسكو، "لقد تَحَدَّت القوات الروسية، الغرب"، في الشيشان، وذلك بالاستيلاء على المدينة الرمز "باموBAMOUT"... وتستمر في قصفها على غروزني، على الرغم من النداء الداعي إلى المفاوضات قبل افتتاح قمة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي (OSCE) وعَنْوَنت جريدة "لوموند" بتاريخ (15) تشرين الثاني (1999)، مرددة التصريح الرسمي الذي صدر عن بروكسل ـ وماهو أفضل أيضاً، أن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، والمجلس الأوروبي، كانا على وشك استثناء روسيا من إلحاحاتهما، متهمين موسكو بـ"أنها سَخِرَتْ من قيم الغرب"، وذكر وزير الدفاع الفرنسي آلان ريشار Alain Richard، من جانبه، أن لأوربا دور إقناع وتحذير تلعبه، لكي تصبح السلطة الروسية في وضع تقبل بالقول: "احذروا من العزلة والتهميش، والظهور بمظهر القوة التي لا تقبل التوافق مع قيمنا"(42)، وبدا الوزير الفرنسي، أنه يخشى من توسيع الهوة الإيديولوجية والحضارية التي تفصل الغرب عن روسيا من جديد، منذ حرب كوسوفو. والحالة هذه، فإذا أخذنا مكانه ليس من وجهة نظر أخلاقية، بصورة مستقلة عن الدراما الإنسانية، التي أحدثها القصف الجوي الروسي عملياً، بل من وجهة نظر التحليل الجيو سياسي "للبيانات"، فإن التعبير "روسيا تتحدى الغرب"، هو كاشف رأي مُبْتَسَر معادٍ لروسيا الذي يحتوي على مفهوم الإساءة أكثر فأكثر لعمل "الغرب"، وقد تشوش. لأنه إذا كان شعور الشفقة أو الرحمة هو الذي شجع "الغربيين" وحده، فهؤلاء الذين انتقدوا "الدرامات، أو "الكوارث الإنسانية"، "فالتقصير في حقوق الإنسان"، كونها كما هي، من قبل الجميع، فذكر "تحدي الروس ضد الغرب"، يكشف عن التوجهات الاستراتيجية، ضد السلاف ـ الأرثوذكس، "وهذا يعني احتواءً جديداً"، هو الذي يدفع الغربيين للوم الروس بسبب موقفهم في الشيشان، في حين ما يقوم به الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة من قتل وتدمير، ليس فقط في فلسطين المحتلة، بل في لبنان، وفي الجولان السوري.... الخ.. وكذلك المذابح ضد السكان الأكراد، من قبل أنقرة، منذ عدة سنوات، وإصرار تركيا على رفض الاعتراف بمذبحة الأرمن، فهو لا يعني "تحدياً للغرب"، من وجهة نظر هؤلاء الغربيين، وإن ما يلاحظ أن الجغرافيا السياسية الخاصة بالبيانات لا تحتوي على حجب أو ستر للدرامات الإنسانية، أو في تبييض أو عدم تجريم معسكر، دون معسكر آخر، بل بالأحرى إن حجب الأهداف الجيو استراتيجية. هي التي تدفع الدول بطرح بعض الأضابير أكثر من أضابير أخرى...
ففي الشيشان، كما في كوسوفو، فإن الاستراتيجية الأمريكية لحماية مصالحها، وهي التي تقضي بحرمان الروس، من الطريق نحو منابع النفط ومشتقات الطاقة، والتي تفسر في جزء كبير منها، توسط الأحداث والوقائع. ويعلق الجنرال ويسلي كلارك (WESLEY CLARK): "أعتقد أن الروس في طريقهم إلى العمل من طهران ما حاول ميلوسوفيتش أن يعمله في كوسوفو"، وجاءت هذه التصريحات منذ بدء "الضربات الجوية".. الأولى على غروزني من قبل الروس...
ويرد وزير خارجية روسيا، على الجنرال كلارك، القائد الأعلى السابق لمنظمة حلف شمالي الأطلسي قائلاً: "كان من الأفضل لكلارك أن يمتنع عن إعطاء المواعظ"، ثم يتعجب: "كيف يمكن لأمثال ويسلي كلارك، أحد الجناة الرئيسيين في عدوان منظمة حلف شمالي الأطلسي ضد يوغوسلافيا، أن يدلي بتصريحات معادية لروسيا"(43). ولم تتورع مادلين أولبرايت من جانبها من توجيه تحذير للرئيس فلاديمير بوتين، بعد قليل من استقالة بوريس التسين، قائلة: "هناك لقد حل الشؤم وتم توجيه إهانة لنا، بمقدار ما وجه للشيشان من المدنيين، وفي آن واحد عسكرياً، مما تسبب في حدوث أمواج من اللاجئين (....)، وستدفع روسيا الثمن على المستوى الدولي، وستجد نفسها معزولة أكثر، فأكثر"(44)، ونسيت مادلين أولبرايت ما تقوم به مع كوهين وزير دفاع حكومتها، من أعمال إبادة للشعب العراقي، بحصار جائر، وضربات جوية مستمرة منذ أكثر من عشرة سنوات، لكن يوضح بعض المعلقين الأمريكيين، الأسباب الحقيقية للأزمة الروسية ـ الأمريكية من نواح معينة مشابهة لأزمة كوسوفو، خلافاً لأن الأمريكيين لم يستطيعوا أن يسمحوا لأنفسهم، هذه المرة، التدخل عسكرياً، ولنستمع مرة أخرى، من جديد، ما يقوله زبيغنيو برززنسكي: "إن نجاحاً عسكرياً خالصاً [للروس] سينعش التطلعات الامبريالية الجديدة لموسكو، أكثر قليلاً، كل ذلك سيزيد من احتمال عودة العناصر الأسوأ أو الأردأ من بين الحكام الروس (....)، وأن نصراً عسكرياً روسياً في الشيشان سيعرض العالم للخطر. وذلك بإعطاء أنصار الخط المتشدد في موسكو الرغبة، من أجل الحفاظ على إبقاء جورجيا تحت السيطرة الروسية، أو استبعاد شيفار ناتزة عنها، وبالضربة نفسها العمل على خفض التأثير الأمريكي على السياسة الجورجية. وعندها، فجورجيا الخاضعة لروسيا، يعني أيضاً التقليل من الأهمية الأمريكية تجاه القوقاز الجنوبي، وآسيا الوسطى، وهذا يؤدي إلى التسبب في قطع أذربايجان، وكذلك آسيا الوسطى عن الغرب. وهذا أيضاً السيطرة السياسية على خط أنابيب النفط ـ باكو ـ سوبسا (....)، عندئذٍ يجب أن تعلم روسيا دون مواربة أن سياستها هذه متعارضة مع المصالح المشتركة لأمريكا وأوربا، ويجب فرملتها بالاعتماد على فرملة المساعدات المالية"(45)، ويعتقد أن وراء هذا السخط الغربي المشروع في مواجهة القتلى من الأبرياء المدنيين، أحد الأسباب للوساطة القصوى، في شؤون الشيشان، في الوقت الذي أكدت فيه واشنطن على رفضها وقف الغارات الجوية شبه اليومية على العراق، والتدخل في شؤونه الداخلية، وإصرارها على مواصلة الحظر على الشعب العراقي بالرغم من مئات آلاف الأطفال الذين يموتون بسبب فقدان المعدات الطبية والأدوية اللازمة للشعب العراقي... ويأتي هذا القلق الأمريكي، من واقع أن عودة انتشار موسكو في القوقاز وفي آسيا الوسطى، سيعرض المصالح الأمريكية للخطر، "وذلك بمعارضتها"، والتي ساهمت بشكل واسع في تفاقم الأزمة الشيشانية؛ كما يقال بصورة عابرة، لأن الخصوم الرئيسيين، الذين يدفعون موسكو لشن عمليات الانتقام، هم من المجاهدين القدامى، الذين دربتهم ومولتهم المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) لمقاتلة القوات السوفياتية في أفغانستان، والمدعومين حالياً من قبل مخابرات بعض الدول العربية الموالية للولايات المتحدة. إذن أليس من المدهش أن يتابع برززنسكي أيضاً تحليلاته: "يجب على الحكومة الأمريكية أن لا تعطي كل شيء في السياسة، لكي تبدأ، "كل شيء موحد ضد بن لادن".. لكي يعتقد بالكلام المنمق الروسي السابق ـ "التسين ككلنتون منقذ الاتحاد".. والإرهاب ليس مسألة جيو سياسية أساسية، وليست المشكلة الأخلاقية التي يجب إثارتها"(46)، ولقد ذهب رسميون أمريكان آخرون، أبعد من ذلك أيضاً، أي تجاوزوا برزنسكي، فبعضهم جعلنا نصغي. أنه يجب دعم الشيشان، ويجب صراحة لكون ذلك يؤدي خدمة لمصالح الولايات المتحدة. ويوضح الماجور رايمون ث.فينتش PAYMOND CFINCH، في أعمدة المجلة العسكرية MILITARY REVIEW، الرسمية جداً، بالقول:"لقد حقق الشيشانيون استقلالهم وحريتهم، بفضل الإدارة الشجاعة لشامل بيساييف. ويبدو أن الجيش "الأمريكي" يريد الحفاظ على التمييز بين العمليات العسكرية والعمليات الإجرامية.

بل يجب تطوير عقيدة قادرة على كشف تنوع كبير جداً في أعمال التركيز والتحديات. ولقد استخدم باساييف طرقاً غير شريفة، تتناقض مع القوانين الموضوعية للحرب. لكن، وعلى ضوء استقلال الشيشان، فإن أعمالهم كانت شجاعة وتستحق التقدير"(47)، وهنا نعثر من جديد على الوقاحة والفظاظة النموذجية لدى بعض أوساط السلطة الأمريكية، إذ يقومون بكل شيء من أجل الوصول إلى غاياتهم، والنظر إلى ذلك، فهذا يعني أن عملية احتواء روسيا من قبل الأوساط الأمريكية، بطريقة الإرهاب، هو بمضرة الأمن الأوروبي، وحتى الغرب عموماً، على المدى الطويل في مجمله، إذا لزم الأمر. وهكذا، يتحرك ماسخادوف بإعلان استقلال الشيشان، بسبب شدة التشجيع الأمريكي، وبعد أن تبين له نزوع واشنطن العجيب في مساعدة الأقليات تقريباً في كل مكان في أوراسيا، وجرى ذلك بعد حرب كوسوفو وتدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي، على أساس معايير النظام الدولي الجديد الذي تقيمه"(48)، في الواقع، لقد دعمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، الثوار الشيشان منذ بداية الأزمة الروسية ـ الشيشانية في الفترة (1993ـ 1994)، حسب بعض أجهزة المخابرات والمراقبين الغربيين، إذ من المعلوم أن المحاربين الإسلاميين القدماء في أفغانستان، مثل الخطاب، أصبحوا مكلفين بقيادة الثوار الإسلاميين في القوقاز، في صراعهم في موسكو، كونهم قد شُكِّلوا ودعموا من قبل وكالة المخابرات المركزية (CIA) خلال الحرب في أفغانستان، وهكذا، يبدو واضحاً، أن الثوار الشيشان، يلعبون دوراً أساسياً في الاستراتيجية التركية ـ الأمريكية، وبعض الأنظمة العربية، هذا الدور، يستهدف منع نفط بحر قزوين من المرور عبر روسيا، بأي ثمن، ومهما سالت الدماء غزيرة، والحالة هذه، أصبح من المعروف أن الثوار الشيشان يتزودون بالأسلحة التركية بصورة رئيسة، عن طريق أذربايجان، كما يتلقون التمويل من بعض الأنظمة العربية، حبذا لو كان هذا الدعم يطبق على الثورة الفلسطينية. لكن ، كيف يحدث ذلك، إذا كان يعرف بأن ما يجري في الشيشان، أحد التيارات المتحدرة من تيار جرى تأسيسه سابقاً من قبل وكالة المخابرات المركزية والباكستانية وبعض الأنظمة العربية، كعلامة لإحداث القلاقل على الأقل، خصوصاً عندما يطرح السؤال الجيو سياسي... لصالح من تحدث هذه الأحداث؟.. والجواب، إنه يدل على السلوك الملتوي والمظهر الآخر لهذا السلوك، بهدف تحقيق المصالح الأمريكية، مهما كان عدد الضحايا، ومهما سالت الدماء: وَيُدْعَم الثوار الشيشان في صراعهم ضد السلطة المركزية الروسية، خاصة خلال الحرب الشيشانية الأولى، وخاصة من قبل راديو ليبرتي القوي جداً، الذي يبث برامجه خلال (24) ساعة/24)، ذات مضامين دولية ايديولوجية عالية المستوى، بإشراف خبراء من مستويات عالية، تحت إشراف أجهزة المخابرات الأمريكية، وبهذه المناسبة، يتهم ايغور سيرغييف IGOR SERGUEIEV وزير الدفاع الروسي، وعلى نغمة التذكير بالحرب الباردة، يتهم الولايات المتحدة ، على أن لها "مصلحة في تدهور الأوضاع، بسبب النزاعات في شمالي القوقاز"، من أجل تعزيز هيمنتها على المنطقة"، وذلك بدعم شامل لـ(باساييف). ويصرح وزير الخارجية الروسية إيغور إيفانوف، بخشونة للصحافة الغربية، قائلاً "كل محاولة تدخل في الشؤون الداخلية الروسية، ستكون مرفوضة بالطريقة الأكثر حزماً". ويكرر الرئيس الروسي السابق بوريس التسين أيضاً، النغمة نفسها، أثناء قمة اسطنبول، محذراً الغرب، "من أن روسيا ستسوي مشاكلها الداخلية كما يجب عليها"، وبأنها "ليست بحاجة لدروس تعطى لها من الخارج"، خاصة من قبل هؤلاء "الذين دمروا العراق ثم يوغوسلافيا". حتى دون الاهتمام بأخذ الموقف الروسي بالاعتبار. أما وزير الخارجية الروسي الكسندر ايفداييف ALEXANDRE AVDEIEV، فلم يتردد بتوجيه تحذير قائلاً:"تستطيع روسيا والولايات المتحدة، أن تجدا نفسيهما على حافة أزمة عسكرية جديدة، إذا ألحت أمريكا على رغبتها باختراق معاهدة الصواريخ البالستية المضادة للصواريخ (ABM) الموجهة لتحديد تكاثر الصواريخ المضادة للصواريخ. وكما يمكن التأكد من أن الأحداث المختلفة، الموصوفة بهذا الفصل، حرب كوسوفو، الشيشان، الأزمة العراقية، تفرد الولايات المتحدة بشأن القضية الفلسطينية... الخ. ماهي إلا عملية "احتواء جديدة".. و"مفهوم استراتيجي جديد"... لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، مفهوم يطلق من جديد، يؤدي إلى سباق تسلح نووي جديد، وحرب باردة جديدة، وهي أحداث وعمليات مترابطة، بصورة وثيقة فيما بينها، وهي ثمرات الاستراتيجية القومية، لأمن الولايات المتحدة. ويبقى الآن، ماذا يجري أو سيجري بعد هذه الأحداث، وفي الإجابة على الأسئلة التالية:
1 ـ هل أن التصدع بين الأوروبيين الذي أحدثته حرب كوسوفو وأيقظته من سباته، وكذلك الاستراتيجية الأوراسية، للولايات المتحدة، محتوماً ولا مفر منها؟ وهل تتوافق مع ما طرحه صامويل هانتنغتون في كتابة صدام الحضارات العميقة، وغير قابلة للعلاج، بين أوربا الغربية والعالم السلافي ـ الأرثوذكسي؟...
2 ـ وهل ينجح التصميم على بناء أوربا قارية كبرى، بناءً قوياً ومستقلاً، تجمع "رِئَتَيْه"، كذلك بناء سياسة دفاعية وأمن حقاً مستقلة ذاتياً، وهل يمكن أيضاً ذلك؟... وما هي الأوربا المتفق على بنائها؟؟.
3 ـ وهل للمكونات الثلاثة الكبرى للحضارة الغربية الأوربية؛ أعني أوربا الكاثوليكية ـ معادة التنظيم ـ وعالم ما بعد البيزنطية، والبروزات الأمريكية والاسترالية ذات الأساس الانجلو ـ ساكسوني والايبيري، هل لكل هؤلاء مصلحة، أن يبقوا متخاصمين ـ وحتى أعداء، أم على العكس، أن يتحدوا من أجل العمل على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية في القرن الواحد والعشرين التي تبدأ بالنواحي الاجتماعية والأخلاقية... الخ..
4 ـ وأخيراً، وعلى ضوء ما تقدم، أن يسعى العالم العربي، أو الإسلامي، أن يأخذ دروساً مستفادة من الغير للسير في الطريق نفسه، الذي يسلكه الآخرون، لمواجهة التحديات في القرن الواحد والعشرين؟...


¾¾
¡ الهوامش:


1- “Si nous voulons que Tous reste pareil. Il faut que TouT change” Le Guepard, Tommaso Di Lampedusa.
2- Gilber Achcar , La Novel guerre froide. Lemonde apres le cosovo. Puf novembre (1999).p.103.
3- “guerre totale contre milosevic. Le monde 17 avril 1999
4- william pfaf “what good is nato if America intends to go it alone? “international Herald Tribune 20 Mai 1999.
5- Georges Sarr, Politis. 21 Octobre 1999.
6- “LE Concept strategique de l’allianc”
7- Le Charte de l’otan se Declare elle meme comme une organisation defensive n’ayant recours ALA force que si l’un de ses membre est Attaque.
8- P.M. DE LAGORCE “L’OTAN. CADRE DE L’HEGEMONIE” LE MONDE DIPLOMATIQUE MAI – JUIN 1999
9- VLADIMIR VOLKOFF, D’UN MONDE A UN AUTRE, LA RUPTURE. SENAT, ERE DECEMBRE 1999.
10- LE MONDE DIPLOMATIQUE OP CIT.
11- GENERAL JEAN SALVAN “QUELQUES REFLEXIONS SUR LA CRISE DE KOSOVO.
12- RAPPORT ANNUEL DU DEPARTEMENT AMERICAIN DE LA DEFENSE POUR L’ANNEE FISCALE 1999. P17.
13- HENRY KISSINGER. DIPLOMATIE FAYARD 1996 P. G –10.
14- ALEXAND RE DEL VALLE ISLAMISE – ETAS – UNIS UNE ALLIANCE CONTRE L’EUROPE 1999.
15- ALEXANDRE DEl VALLE ISAMISME.......
16- “L’EMPIRE CONTRE L’ONU” “LES ETATS – UNIS SAPENT LE ‘DROIT INTERNATIONALE’ LE MONDE DIPLOMATIQUE DECEMBRE 1999.
17- KISSINGER IBID P10-763
18- ID IBID P 739.
19- VIRILION OP CIT P 65.
20- ID IBID P 65.
21- LE MONDE 14 SEPTEMBRE 1999.
22- LE MONDE IDEM 14 SEP 1999.
23- SERGION ROMANO “IPOCRICiA DEL NO STORO UMANITARISMO” LIMES , ROME JANVIER – FEVRIER 1999.
24- ID IBID.
25- LE MISSILE AMERICAIN UTILISE POU LES ESSAIS DU NOUVEAU PROGRAMME EST L’EXO L’EKV.
26- PHILLIS GENNIS OP CIT.
27- P.M. GALLOIS “LE COURSE AUX ARMEMENTS . LA NEF DECEMBRE 1999.
28- OP CIT PN – 51.
29- LA NOUVELLE GUERRE FROIDE. LEMONDE APRES KOSOVO. PUF. PARIS 1999. P112.
30- GENERAL PIERRE – MARIE GALLOIS ELLIPSES 2000 .
31- A ZIOUGANOV OPCIT P 134-135.
32- ZIOUGANOV P 78
33- LAQUELLE LA RUSSIE ASPIRERA TOUJOUR A’ S’EMPARER DES REGIONS COTIERES POUR AVOIR ACCES AUX MERS CHAUDES.
34- DOSTOIEVSKI EUVRES COMPLETES EN 30 VOLUMES.
35- TIMES OF INDIA 1ERE AVRIL 1999.
36- XINHUA. PEKIN 6 MAI 1999.
37- DECLARATION DU MINISTERE DES AFFAIRES. ETRANGERES A DELHI DU 25 MARS 1999.
38- IN FRANSOI CHIPAUX. “L’INDE HOSTILE AUX FRAPPES DE L’OTAN. LE MONDE 3 AVRIL 1999.
39- BUSINES DAY. JOHANNESBURG 4 AVRIL 1999.
40- RUJIZEVEN NOVINE 5 AVRIL 1999.
41- LE MONDE 24-25-MAI 1999.
42- ALAIN RICHARD. LE FIGARO. 14 DECEMBRE 1999.
43- LE FIGARO 14 DECEMBRE 1999.
44- LEMONDE 2 FEVRIER 2000.
45- “GENOCIDE RUSSE EN TCHETCHENIE “ZBIGNIEW BRZENZISKI LEMONDE 18 NOVEMBRE 1999.
46- BRZENZISKI OPCIT.
47- RAYMOND C. FINCH (FOREIGN MILITARY STUDIES OFFICE . MILITARY REVIEW JUIN 1997.
48- LE FIGARO 18 NOVEMBRE 1999.



¾¾¾

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 11-03-2013, 10:26 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي

الفصل الخامس :
"الاستراتيجية الشاملة" للولايات المتحدة الأمريكية
حرب على المنافسين: أعداء وحلفاء




الاستراتيجية هي فن توزيع واستخدام الوسائط العسكرية من أجل إنجاز الغايات السياسية. ليدل هارت..
"الهيمنة المتسامحة "التي تأخذ بالحسنى".. والتي تمارس من قبل الولايات المتحدة، هي حسنة بالنسبة إلى نسبة عالية من سكان العالم"..
روبرت كاغان، مستشار جمهوري للشؤون الخارجية..
التفوق المطلق، بالرضى أو بالقوة:
يوضح الاستراتيجي برونو كولسون BRUNO COLSON في بحث باهر(1)، أنه ومنذ خمسين عاماً، بقيت الأهداف الاستراتيجية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ثابتة: القضاء أو إضعاف الخصوم، والخصوم الأقوياء ـ سواء أكان هؤلاء من "الأصدقاء" أم من "الأعداء" ـ من أجل أن تحافظ أمريكا، وأطول مدة ممكنة، على وضعها المتفوق الوحيد، سواء أكان منافسوها أو خصومها "غربيين"..أم لا.. وسواء أكانوا أعضاء سابقين في حلف وارسو أم حلفاء مقربين من واشنطن، في نطاق منظمة حلف شمالي الأطلسي، ولقد ظهرت هذه العقيدة الاستراتيجية "الشاملة"(2)، للولايات المتحدة، بجلاء في المفهوم الأمريكي الجديد "للاستراتيجية القومية للأمن"، حيث قد تم الكشف عن محتواها، أمام الجمهور الكبير، بمناسبة صدورها في النيويورك تايمز بتاريخ (8) آذار عام (1992)، بترجمة عن توجيه للخطط الدفاعية
للبنتاغون (3): "وزارة الدفاع في الولايات المتحدة". وجرى إعدادها بالتعاون مع مجلس الأمن القومي، أعلى مؤسسة أمريكية للأمن والسياسة الدولية. وإننا نفهم من ذلك، أنه يجب على الولايات المتحدة القيام بكل شيء من أجل "ردع كل خصم محتمل، من بين البلدان المتقدمة والمصنعة، يحاول تحدي هيمنتنا، بحيث سوف لن يكون أمامه أمل بدور أكبر، على النطاق العالمي أو الإقليمي (...)، وستكون رسالة الولايات المتحدة، أن تضمن لنفسها بأن لا تسمح لأية قوة منافسة بالظهور في أوربا الغربية، أم في آسيا أم في مناطق مجموعة الدول المستقلة حديثاً (
CEI)، باختصار، يتعلق الأمر، بمنع أوربا واليابان "الحلفاء" ليني العريكة نسبياً، وكذلك، روسيا التي أُضعفت لكنها لا تزال مرعبة، من أن ترفع رأسها في يوم من الأيام، وتوحي بالقلق "للهيمنة الناعمة" لواشنطن، لا أكثر ولا أقل، وذلك من واقع الآلة الاقتصادية التجارية الأمريكية الهائلة: "إذ يجب على السياسة الخارجية الأمريكية أن تعطي لنفسها هدفاً، هو إقناع الخصوم المحتملين، بأن لا حاجة بهم أن يلعبوا دوراً كبيراً. ويجب أن يكون وضعنا كقوة أعظم وحيدة أبدية، بالقوة العسكرية الكافية من أجل ردع أية أمة أو مجموعة أمم عن تحدي تفوق الولايات المتحدة، أو في البحث عن اتهام النظام الاقتصادي والسياسي القائم (.....)، ويجب علينا منع ظهور نظام أمن أوروبي حصراً، والذي يمكنه أن يخلق تشويشاً لمنظمة حلف شمالي الأطلسي (OTAN). ويجب أن نبقى حذرين، في الشرق الأقصى، أمام الأخطار نتيجة عدم الاستقرار الذي يمكن أن ينشأ عن دور متزايد لحلفائنا، وخاصة من اليابان"، وهذا ما يوضحه التوجيه الخاص للتخطيط الدفاعي.
ولهذا، فإنه من المؤكد، أن ليس هنالك من أوهام حول دور الأمم المتحدة، أو أي شكل، سواء أكان دوراً "دولانياً جماعياً"، حيث ليس في الخطابات الرسمية الأمريكية، بهذا الشأن، من لبس بشكل عام..
في الواقع، يوضح التقرير "السري" بجلاء، أبعد من ذلك. "إن ماهو هام، فهو الإحساس، بأن النظام الدولي، هو في نهاية الأمر مدعوم من الولايات المتحدة، والتي يجب أن تكون في موقع تكون فيه قادرة على التحرك بشكل مستقل، عندما يكون هناك عمل جماعي ليكون مُجَوَّقاً"..
ونفهم بشكل أفضل، على ضوء هذه الوثائق، الاستراتيجية التي بحسبها، لماذا تتحرك الولايات المتحدة تحت غطاء التفويض من الأمم المتحدة في العراق، عندما تكون قرارات المنظمات الدولية مناسبة للمصالح الأمريكية، وقومية بحصر المعنى، وجرى الأمر كذلك، بالنسبة ليوغوسلافيا السابقة، عندما لا يمكن "للدولانية" أن تستخدم كواجهة لـ"سائر الصور الاستراتيجية"، الدولانية الجيو اقتصادية الأمريكية، ولا يتوقف حكام الولايات المتحدة عن التأكيد أن "التفوق الشامل" لبلادهم ضروري للإنسانية، لأنه موجه من أجل "ضمان الديموقراطية والسلام"‍!... في العالم، ومن أجل حماية "اقتصاد السوق"...
فمنذ عهد الرئيس ويلسون، فقد استترت المصالح "والرغبة بالقوة" الامبريالية للحكومات الأمريكية المتعاقبة، ببراعة، خلف قناع من الحجج الأخلاقية، شبه /الروحية، مجبرة بقية العالم على الخضوع للطريقة الأمريكية للحياة تحت طائلة أن يصبح مُقْصيَّاً في معسكر "الأشرار" أو "البرابرة". في الواقع، لم يتوقف الأمريكيون مطلقاً عن الاعتقاد بأنفسهم على أنهم "حماة الديموقراطيات"، "شعب الله المختار"، الجديد، حيث مباركة المشروعات الدنيوية من قبل الإله. فضلاً عن ذلك، فهي محددة لمعاقبة "الخونة الجدد"، الرافضون للخضوع "للديموقراطية المثالية".. وليس لمفهوم النظام الدولي الجديد، أثر يترجم لأي تغيير رئيس، لأنه راسخ، كما يبين ذلك، فرانسيس فوكوياما، انتصار واستمرار "العالم الحر"، في الماضي، المعارض، الكتلة الشرقية الرهيبة، واليوم "مهددة"، من قبل "الدول السوقية" والقوى حيث هي متحالفة ضد التسلطية "الصين، روسيا، الهند،....الخ"...
وأبعد من إلباسها الأخلاقي، فإن الاستراتيجية القومية، المتعلقة بالأمن، مُصممة، كاستراتيجية متكاملة، أو كلية، تمتزج فيها المصالح الاقتصادية والعسكرية والعلمية والسياسية ـ الثقافية. وحسب هيرفيه كوتو ـ بيجاري HERVE COUTEAU – BEGARIE مدير معهد الاستراتيجيا المقارنة: "الاستراتيجيا الشاملة"، الأمريكية، هي متلاحمة، على نحو لافت للنظر، ومرتبة حول ثلاثة محاور: استراتيجية عامة اقتصادية واستراتيجية عسكرية، واستراتيجية عامة ثقافية، كذلك، فإن الهيمنة المسلم بها، حتى الساعة، لواشنطن، على باقي العالم، قائمة على الانسجام في مجالات أربعة رئيسة للقوة الشاملة: قوة عسكرية، بالتأكيد، تسيطر الولايات المتحدة على اليابسة وعلى البحار، وبدونها، لا يبدو أن قليلاً من النزاعات المسلحة في العالم قادرة على حلها. قوة ثقافية وإعلامية "القوة الضاربة الثقافية"، لواشنطن كونها قائمة على السيطرة الكاملة تماماً، على وسائل الاتصالات التلماتيك TELEMATIQUE، والتوابع الكوكبية، والقوة التكنولوجية، إذ ليس من حاسوب في العالم، يستطيع أن يعمل دون اللوجسييك الأمريكي، ولا حتى إقامة الاتصال عن طريق الانترنيت، وخصوصاً أخيراً، قوة اقتصادية عجيبة. فأمريكا كونها، البلد الأغنى، من بعيد، في العالم، "ثلث الإنتاج الخام العالمي"، وتحتل المشروعات الأمريكية، بفضل دينامية مدهشة، بهذا الصدد، نظاماً اقتصادياً شبه ليبرالي فعال لأبعد حد، المكان الأول العالمي في عديد من قطاعات النشاط "سيارات، مواد غذائية زراعية، صناعات جوية، بنوك، تكنولوجيا جديدة سمعية، بصرية...الخ".. تذكروا مروراً أن السوق المالي الأمريكي يتجمع فيه حوالي ثلثي التوظيفات العالمية"...
وتنطلق العقيدة الأمريكية الجديدة، والمرتبطة بشكل وثيق مع مفهوم الثورة في المجالات العسكرية (RMA) بأن الاستراتيجية، لا تستند فقط على الحرب العسكرية، وذلك منذ الحرب العالمية الثانية، بل في الوقت نفسه، على الاقتصاد، ومن هنا المصلحة في "الجيو اقتصادية"، وفي الثقافة "الإعلامية"، "INFOMATIONNEL" "INFORMATION WRRFARE" وحتى "الانسانية" "HUMANITAIRE". ويوضح زبيغنيو بززنسكي، ZBIGNEW BRZEZINZKI ، بوجه خاص، ماهي " الاستراتيجية الشاملة"، الأمريكية: بقوله: "ممارسة القوة [الامبريالية] الأمريكية، لتتحول "...."، إلى تنظيم متفوق للقوة لتحرك المصادر الاقتصادية؛ والتكنولوجية، ذات الأهمية، دون تأخير، لغايات عسكرية، ومن إغراء غامض، لكن، ذو أهمية، في ممارسة طراز الحياة الأمريكية، كذلك، الدينامية التي تعترف بها النخبة السياسية (....)، باختصار، ما من قوة، تستطيع الادعاء، بأنها تستطيع منافسة الولايات المتحدة، في المجالات الأساسية الأربعة ـ (العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، والثقافية)، التي تشكل القوة الشاملة (4)، حتى إذا كانت أمريكا، هي الأكثر امبريالية، وذات نزعة هيمنة، بحيث ليس لها مثيل مطلقاً، وأن استراتيجيتها الشاملة؛ بالأحرى، الكلياتية، في بعض الاعتبارات، لا تقتضي لهذا، تنظيماً سياسياً كلياتياً، بالمعنى القطعي للكلمة، فهو تنظيم متكامل، في الواقع، متعدد الأشكال، ومنتشر، خصوصاً عبر أبعاده المتوسطة الثقافية، حيادية حسب الظاهر، وبحيث أن الهيمنة الأمريكية، شكل جديد للامبريالية "ديموقراطية استبدادية" أو "دكتاتورية من نموذج ثالث"، كلما كسب هذا الطراز، منطقة في العالم، فينشئ قرينة ملائمة للممارسة غير مباشرة، وحسب الظاهر، ومتوافقة للهيمنة الأمريكية، هذا ما يوضحه برززنسكي، وتنطوي هيمنة الولايات المتحدة على بنية معقدة من المؤسسات والتوسطات، المصممة من أجل إحداث التوافق (....)، مع التفوق الدولي للولايات المتحدة، وهذا التفوق وحيد، سواء من حيث أبعاده، أم من حيث طبيعته (.....) ويتعلق الأمر بهيمنة لنموذج جديد(5). فأمريكا أصبحت الأمة التي لا غنى عنها على الكرة الأرضية".. ونشاهد ذلك، حيث يبين الاستراتيجيون الأمريكيون، على طريقتهم، الفكرة المشهورة عن "المصير الواضح" للولايات المتحدة، راسخ على الدوام، بعمق في العقلية الأمريكية، منذ أن أطلقها جون سوليفان JOHN SULIVAN عام (1850)، كما استطاع الرئيس ايزنهاور أيضاً القول "من بين الأمم التي نذرت نفسها للعدل والحرية، فقد خصنا القدر، بدور قيادة الآخرين"(6). أيضاً أن طابع الهيمنة في الدول الاتحادية
(
ETATSUNIENNE) يكمن في الثقة، التي بحسبها، فيها "نموذج الحياة أمريكياً". وتشكل المفاهيم الاقتصادية والسياسية الأمريكية، وحتى الأفعال القهرية للولايات المتحدة "غارات، ضربات جوية".. حظر... الخ" حسنات بالنسبة للإنسانية بالكامل. فلنستمع إلى رتشارد نيكسون، وهو يقول: "الرب يريد أن تقود أمريكا العالم"، أو أيضاً، ما قاله روبرت كاغان ROBERT KAGAN: "إن الهيمنة المتسامحة، الممارسة من قبل الولايات المتحدة، هي جيدة بالنسبة لجزء كبير من السكان في العالم"، (7)، كذلك، "تمتزج"، مصالح الولايات المتحدة "الاقتصادية والإيديولوجية والاستراتيجية....الخ"، مع تلك الإنسانية نفسها، وفي ضمان "حقوق الإنسان"، من هذه الهيمنة المسيحية، تنجم الشراسة العجيبة، حتى الغطرسة المرحة لدى المسؤولين الأمريكيين، كما الروح "مقومة الخطأ"، ودون تشكك من رعاة البقر. يحدثون من الآن وصاعداً هنا، جواباً مشهوراً للجنرال مايك شورت MIKE SHORT القائد الأمريكي للقوات الجوية في منظمة حلف شمالي الأطلسي لمنطقة جنوب أوربا، عندما جاء للتفاوض مع ميلو سوفيتش MILO SEVIC، بشهر تشرين أول عام
(1998)، مجيباً على سؤال للرئيس اليوغوسلافي: "لدي الـ(ب ـ 52)، (القاذفات) في يد، والـ(
U-2) "طائرات تجسس" في الأخرى، آمل أن تختاروا الأفضل"(8)..
في هذه القرينة للهيمنة الكونية الشاملة، وقانون الأقوى إلى ذلك كله، يجب إرجاع الاستراتيجية الأمريكية لما بعد الحرب الباردة..
وتحديد العدد الوافر من "الأعداء"، من قبل الولايات المتحدة، أحياناً، هؤلاء "الأعداء" حقيقيون، لهم على نحو خاص، نزعة أيضاً لا وزن لهم، مثل البوسنة، الصرب، العراق، السودان، كوبا، ليبيا.. فقد بررت استخدام القوة كبديل عن الدبلوماسية، وكإنذار نهائي واضح.. وتوجد هنا، ظاهرة "العدو المفيد"، أو "العدو المرعب".. تصرف استخدام منذ زمن طويل من قبل واشنطن من أجل تبرير مشاريعها الهيمنية و/أو أعمال القهر، ومن أجل إقناع منافسيها، ولقد أعد الأمريكيون "استراتيجيات غير مباشرة"، حيث فيها الوقاحة والصلافة والذرائعية القصوى، لا مثيل لها سوى المثالية التي تتذرع بها..
عدو حقيقي لها، هو الشيوعية، حيث أنها لم تكن أيضاً أقل فائدة كبيرة لواشنطن، التي منعت الجنرال باتون PATTON من أن ينهي علاقته بالتهديد السوفياتي، الذي بالغ كثيراً في وصف قدرات الأضرار التي يسببها الاتحاد السوفياتي السابق، وذلك من أجل ترسيخ وتبرير تفوقها في أوربا وفي العالم. على نحو أفضل، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة، وامبراطوريته، فهذا صدام حسين الذي يلعب دور "العدو المفيد"، ويفضل الأمريكيون أن يبقى في مكانه، ليبقى حجة لهم، من أن يقتل أو يطرد من منصبه، أيضاً من الأمور العجيبة، أن يستطيع أن يتكرر هذا الأمر نفسه، ويجري في يوغوسلافيا السابقة، إنه سلوبودان ميلوسوفيتش SLOBODAN MILOSEVIS "جزار البلقان".. حيث كان يعامل بصورة حسنة نسبياً حتى بداية أزمة كوسوفو، ولم تقم الولايات المتحدة بأي شيء من أجل القضاء عليه جسدياً، أيضاً، فإنها كانت قد اقترحت أهداف الحرب المعلنة خلال عملية كوسوفو من قبل القوة الحليفة..
لأن "تجسيد الشر".. كانت الرواية البلقانية عن "صدام"، المرعب، تبقى المبرر الرئيس المتوسط لتدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي، ومن أجل الموافقات الدولية ضد الصرب، فالولايات المتحدة من عادتها شخصنة العدو إلى أبعد حد، والأمر الآخر، تقوم بعملية شيطنته. "وليس هنالك من ست وثلاثين طريقة تباشرها. وتتكون في أغلب الأحيان من إثارة الرعب من هذا العدو المرعب، في كل مكان على وشك أن يسحقنا. في الوقت نفسه، هذا ما يوضحه ناعوم شومسكي NOAM CHOMSKY. وكان هذا، في الوقت نفسه، فإن أحداً ما يحترم خوفاً حيال حكامنا المدهشين، الذين سينقذوننا من كارثة في الوقت المناسب تماماً، وكان هذا الاقتراب المتبني على مدى الثمانينات (1980)، فإنه يستلزم كنوزاً من المهارات عندما تصبح الفزاعة المستخدمة، التهديد السوفياتي، أكثر صعوبة فأكثر، اتخاذها أكثر صعوبة بصورة جدية، وهنا أيضاً، كان وجودنا مهدداً، حيناً من قبل القذافي، وعشيرته من الإرهابيين الدوليين، وحيناً آخر، من قبل غرناطة، وحيناً آخر، من قبل الساندينيين، المتجهين نحو تكساس، أو أيضاً من تجار المخدرات من الهسبانيين الذين يقودهم نورييغا"(9)، وكما يجري تقديره أخلاقياً، إنها وقاحة استراتيجية، إنها شيطنة، وقانون الأقوى، وهذه ليست إلا التعابير المختلقة "بالرغبة القوية" الأمريكية نفسها، للهيمنة"..
وليست "دبلوماسية الغارات والحظر".. التي يجري تنفيذها، في هذه السنوات الأخيرة، في جزيرة غرناطة، وفي بناما، في ليبيا، في العراق، أم في السودان، في أفغانستان، في البوسنة، وفي الصرب، ليست إذن ظاهرة جديدة، فالقادة الأمريكيون لا يعملون، إلا متابعة للسياسة التقليدية "العصا الغليظة"، التي جرى تدشينها منذ عام (1898)، من قبل الرئيس وليام ماكنلي WILLIAM MCKINLEY أثناء الحرب ضد إسبانيا من أجل كوبا. من ثم أصبحت رسمية من قبل الرئيس تيودور روزفلت THEODORE ROOSEVELT، منذ مطلع القرن العشرين، وتستهدف "الدبلوماسية القهرية".. المغلفة بالتدخلية الأمريكية، إعادة الصواب للأمم العاصية، باستخدام القوة، ولكل من يقف أمام الهيمنة الأمريكية وله قابلية لأن تتسبب في إزعاج اقتصاديات الولايات المتحدة، وهي تستند على تبريرات أخلاقية واقتصادية، في آن واحد، والأسباب الأخلاقية قائمة على حجة التفوق الحضاري الشامل أمريكياً. ودور الهيمنة "المتسامحة"، التي تدعي من أجل أن تلعب في العالم، باسم "حقوق الإنسان"، وباسم "الديموقراطية الليبرالية"، الشرعية الوحيدة في "المجموعة الدولية". و"سيكون مشروعاً ومتسامحاً، فرض المؤسسات الجمهورية، في العالم أجمع".... وضع روزفلت، الأسباب الاقتصادية، بأنها تبقى، مع ذلك، الأكثر أهمية، حتى إذا أصبحت مستترة، خلف الأسباب الإنسانية...."..
"فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، وما أن تم احتلال الغرب الأقصى، [والتخلص من المسألة الهندية، عن طريق الإبادة الجماعية، والتي جرى التطبيل لها بصورة مجوقة]".. وهذا ما كتبهُ المؤرخ جاك سورو JACQUES SEUROT، والسوق الداخلية مرضية، وتصبح الولايات المتحدة بحاجة لمستهلكين خارجيين من أجل امتصاص ما طفح من إنتاجها الضخم (10)، مقدراً في الواقع، أن المعاملة الأمريكية، كانت تنتج آنذاك أكثر من حاجة الشعب الأمريكي، ولا يستطيع استهلاكه، وبرر الاقتصادي الإنجليزي المشهور، السير وليام بيفريدج .SIR WILLIAM BEVERIDGE أيضاً روح الهيمنة الأمريكية: "تنتج التربة الأمريكية أكثر مما يمكن استهلاكه، وإن القدر خطط لنا سياستنا: التجارة الدولية، يجب أن تكون تجارتنا، وستكون. وإننا سنقيم مكاتب صرافة تجارية على سطح الكرة الأرضية كمراكز لتوزيع الإنتاج الأمريكي، وإننا سنغطي المحيطات ببواخرنا التجارية (....)، وستخرج مكاتب الصرافة التجارية التابعة لنا من المستعمرات الكبرى لننشر علمنا وتتاجر معنا، وستتبع مؤسساتنا علمنا على أجنحة التجارة والقانون الأمريكي، والنظام الأمريكي، والحضارة الأمريكية، وسيصبح العلم الأمريكي مغروساً على الشواطئ حتى هنا، في مأمن من العنف والظلامية، وإن هذه الملحقات من الرب، تجعلها رائعة وساطعة، في المستقبل"(11)، ويبين زبيغنيو برززنسكي ZBIGNIEW BRZEZINSKI، وبلغة عصرية أكثر، لكنها واضحة وامبريالية، إنه إذا كان ويجب أن يختفي التفوق الأمريكي، فإن ذلك سيؤدي إلى نهاية السلام في العالم، والنظام الدولي، قطعاً.."في النظام الدولي الحالي، فإن البديل الوحيد للقوة الأمريكية، هو الفوضى الدولية (....)، من واقع خطورة النتائج التي يمكن أن تجرها في حال انسحاب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية، ومن الخليج العربي/ الفارسي، أو من البوسنة، دون الحديث عن منظمة حلف شمالي الأطلسي، وهذا أمر لا يعقل، عملياً، ويظهر هذا، أنه لا توجد أية قوة أخرى، في الوقت الحاضر، ذات أهمية موازية، وحتى لعب دور مماثل"(12)...
وتكمن قوة "الاستراتيجية الشاملة" للولايات المتحدة، في هذا الميل الذي لدى الأمريكيين، الذي ينطوي على رغبة في وضع قناع على نواياهم العجيبة ورغبتهم بالقوة خلف حجج أخلاقية، بالأحرى مسيحية، وإننا نجد هنا، المسألة الجيوسياسية المركزية للتصورات، مثل "قوات قابلة للتعبئة".. و"مشروعية ذلك".. وذلك من التاريخ والعمل السياسي. مع أنه لم يكن ذو أصول أنجلو ـ ساكسونية، بل أوربياً، مثل برززنسكي، كما تماثل وزيرة خارجية الولايات المتحدة،مادلين أولبرايت MEDELEINE ALBRIGHT بالكامل، الفاتحين الأوائل من البوريتانو ـ البروتستانت PURITANO – PROTESTANTS من نوفل انجلترا NOUVELES – ANGLETERRE وشريط ـ الحماسة الدينية نفسها بطراز مسيحي تقريباً، مع المصالح الاقتصادية الأمريكية، وبأن لها (مهمة) حضارية (سلمية) و(ديموقراطية) وتبين بتاريخ (20) أيار (1999)، خلال كلمة موجزة حول السياسة الخارجية أمام مجلس الشيوخ "هدف أمريكا، إنها الحرية، نحن الأمريكيون، إننا نؤمن بالقانون، ونتعلق بالسلام، وإننا نتوخى الرفاه، ونعمل مع آخرين من أجل أن نقرب الشعوب حول مبادئ أساسية من الديموقراطية والقانون وأسواق مفتوحة.
إننا نقوم بذلك، لأن ذلك هو العدل. لكن أيضاً، إنه من الأمور الأساسية، لحماية أفضل لمصالح شعبنا وأمتنا. أحد الأهداف الأولى لسياستنا الخارجية، هي تشجيع، اقتصاد عالمي سليم، فيه النبوغ والإنتاجية الأمريكية تتلقى مستحقها، اضطلعوا دون أن تشكو منا، لكن استقبلونا الاستقبال الحسن عند القيام بدور الزعامة التي أقامها أسلافنا..."..
السيطرة على أوربا، مثابرة للجيو سياسية أنجلو ـ ساكسون:
يوضح برززنسكي في كتابه "اللاعب الكبير LE GRAND ECHIQUIER" إن الرهان الرئيس بالنسبة للولايات المتحدة، هو السيطرة على "الأوراسيا"، المجموع الرحب، انطلاقاً من أوربا الغربية، حتى الصين، عن طريق آسيا الوسطى... أيضاً، تعتبر الولايات المتحدة آسيا الوسطى والأقطار النفطية المسلمة والغازية، من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق ـ كمنطقة استراتيجية، والأكثر أهمية في العالم، فيجب على الولايات المتحدة بالنتيجة، أن تقوم، بكل شيء من أجل أن تبقى القوة المهيمنة الوحيدة على القارة الأوراسية "إنه من الأمور الجوهرية أن تتابع استراتيجية تستهدف توازناً لمجمل الأوراسيا".. هذا ما يوضحه مستشار الرئيس كارتر السابق "قارة حيث أهميتها حاسمة، لأن جميع الدول النووية المعلنة ما عدا واحدة، هي فيها، وكذلك جميع الدول النووية غير المعلنة، ماعدا واحدة أيضاً، توجد فيها، وإذا أخذنا هذه الأمور جملة، فإنها تمتلك جميع أبعاد القوة لتتجاوز الولايات المتحدة"(13)، ويدعو الجيو سياسي الكلاسيكي برززنسكي، منطلقاً من أن التفوق على القارة الأوراسية، يؤدي خدمة كنقطة انطلاق من أجل "الهيمنة الشاملة"، بالتأكيد، الولايات المتحدة، قوة خارجية عن الأوراسيا، لكنها، ومنذ الآن، القوة الأولى، حتى الوحيدة، القوة الأعظم العالمية، بفضل حضورها المباشر على ثلاث مناطق محيطية، في القارة "موقع يمتد شعاعه في العمل حتى دول المنطقة الخلفية القارية (HINTERLAND). مع ذلك "تبقى الأوراسيا المسرح الوحيد الذي توجد عليه قوة منافسة لأمريكا، يمكنها أن تظهر حسبما هو محتمل"..
وهنا يوجد مفتاح جميع العقائد الجيو استراتيجية الأمريكية، إجمالياً، يمكن القول، في محاولة عمل تصنيف غير شامل لدرجات مختلفة لاستراتيجية ما، بأن الاستراتيجية الأمريكية الشاملة، على المستوى الكوني، تتكون من تعزيز نقاط الانطلاق للولايات المتحدة في أوربا الغربية والوسطى... وعلى مدى ما، إذا كان ذلك ممكناً. وذلك بإقامة كتلة أوروبية ـ أطلسية موحدة، ثلاثية الهدف من أجل تحييد بناء الوحدة الأوروبية، المنافس الجيو اقتصادي القوي، إنها "منطقة رخوة" ومقطعة، وتكون أكثر حتى للتحرك على الجبهة الأوراسية، فآسيا كونها، الأساس، "المنطقة الصعبة"، من العالم، والمنافس الجيو اقتصادي مستقبلاً، وتأخذ بالسيطرة على الطرق الجديدة للطاقة في آسيا الوسطى ـ وفي الشرق الأوسط والقوقاز. ويتضمن هذا الهدف الثالث، استراتيجية إسلامية خاصة، وفصل نسبي عن الأعضاء الآخرين عن الحضارة الغربية والأوروبية، بصورة رئيسة العنصر السلافي ـ الأرثوذوكسي، المتاخم مع الإسلام الأوربي الآسيوي "المنطقة الأكثر أهمية في العالم"...
في الحقيقة، إن فكر برززنسكي، يُسَجَّلُ في التقليد الجيو سياسي البريطاني ويبرز التطور التاريخي ـ السياسي في العالم، كنتيجة للخصومات بين "القوى القارية"، و"القوى البحرية" أو "THALASSOCRATIES" "في المياه الدافئة" ولقد نشر، الأب للجيو سياسية الكلاسيكية، الجغرافي الإنجليزي هالفورد جون ماكندر HALFORD JOHN MACKINDER (1861-1947).. وهو طالب في النظرية العامة في مجال التفرع الثنائي للنزاعات بر/ بحر، نَشر في الجريدة الجغرافية عام (1904)، محاضرة داوية تحت عنوان: "المحور الجغرافي للتاريخ"، بين فيها ماكندر وجود "محور أو قطب عالمي" أو ("منطقة محور") تقع في قلب أوراسيا، وتشتمل إجمالاً على روسيا الحالية، الصرب، القوقاز، وجزءاً من أوربا الشرقية، وهي مقافز غير قابلة للإحاطة للسيطرة على القارة الأوراسية. ويبين عالم الجيو سياسية البريطاني في كتابة الذي نشر عام (1919) تحت عنوان "الديموقراطي فكراً وواقعاً DEMOCRATIC IDEAS AND REALITY، نظريته حول المنطقة "المحور" التي يسميها قلب الأرض (HEARTLAND)(14)..
"المفهوم الجيو سياسي لماكندر، وبأنه يقع في الأوراسيا، وهذا ما يسميه بـ"الهلال الهامشي الداخلي"، هدب غربي، جنوبي، وشرقي، من قلب الأرض، أو منطقة الاتصال بين القارة والبحار "شبه الجزيرة الايبرية، ايطاليا، البلقان، اليونان، تركيا، الشرق الأوسط، الخليج العربي ـ الفارسي ـ الباكستان ـ الهند، اندنوسيا الجزر الصينية الجنوبية.....الخ".. ويقع في أطراف "الهلال الهامشي الداخلي"، أرخبيلان أساسيان، هما بريطانيا العظمى واليابان وقد عُمَّد تحت اسم "مجموعة (جمع أرخبيل) الجزر الخارجية" لأنها تبلغ قمتها بالسيطرة على البحار. أخيراً، توجد حول هذه "الكتلة المحور" وأطرافها البحرية "الجزر الكبيرة": أمريكا، أفريقيا، اندنوسيا، وأستراليا، التي تشكل "الهلال الجزيري الخارجي"، مع منطقة توسطية في الوسط، مشكلة من الصحراء، وأن ماكندر يخشى بأن تتوسع منطقة "المحور" "قلب الأرض" في الأطراف الخارجية وتتوصل إلى السيطرة كلياً على القارة الأوراسية، بسبب مدى مصادرها الضخمة، وبفضل تنمية الطرق والسكك الحديدية، ثم تتوسع على الأثر بغزوها على مجمل البحار واليابسة للكرة الأرضية ((فماذا سيحدث لقوى بحرية، إذا، توحدت القارة الكبرى سياسياً، في يوم من الأيام، من أجل أن تصبح قاعدة لأرمادا لا تقهر))(15)، ويتساءل الجغرافي البريطاني أيضاً، ويعتقد، بأنه من المحتم أن تتحالف "القوى الجزيرية" من [الهلال الخارجي]، مع تلك في [الهلال الهامشي الداخلي]، لمنع أن تلعب قوة وحيدة لتأخذ السيطرة على الأوراسيا".. ومنظمة حلف شمالي الأطلسي، وهو ذلك التحالف، وهذا ما يوضحه الجنرال غالوا (GALLOIS)، وهنا يكمن أساس العقيدة الاستراتيجية الأمريكية، نفسه، في الأوراسيا، خلال الحرب الباردة أيضاً، وكذلك منذ سقوط جدار برلين، في المرحلة الأولى، اعتبر ماكندر، أن الأسوأ في التهديدات هي ممثلة بالاندفاع نحو الشرق من قبل ألمانيا غليوم الثاني "DRANG NACH OSTEN"،حتى من قبل تحالف قاري، روسي، ألماني، محتمل.
وهناك سيناريوهان قابلان لأن يُحدِثا الوحدة الجيو سياسية للقارة الكبرى، وَوَضْعِ حَدٍّ للتفوق الدولي الأنجلو ـ ساكسوني. في عام (1919)، يصرح ماكندر، إذن، يجب إقامة "حزام من الدول"، في أوربا الشرقية، قابل لأن يشكل منطقة سطم بين ألمانيا وروسيا، من أجل تجنب أن تدعو ألمانيا الغازية إلى الوحدة "في منطقة المحور".. باستخدام السلاح، لكن الاضطراب الايديولوجي والجيو سياسي الذي تسبب بالثورة البلشفية، فأعاد ماكندر تحديد مفهوم "قلب الأرض HEART LAND" منذ عام (1943): "إنه الطرف الشمالي والداخلي من الأوراسيا"، بعبارة أخرى، الاتحاد السوفياتي السابق أو مجموعة الدول المستقلة (CEI) “COMMUNAUTE DES ETATS INDEPENDATS” الحالية مع بروز بشكل خفيف باتجاه أوربا الوسطى والشرقية.. ويَظْهر الاتحاد السوفياتي الشاب كـ"قوة قارية".. في غاية الجودة، بسبب المطالبات العالمية والامبريالية، حيث هو أوسع وأكثر قوة من ألمانيا، وأكثر رغبة أيضاً بالتقدم والتوسع نحو أوربا الشرقية والبحار الدافئة من أجل السيطرة على مجمل القارة وطرد "القوى البحرية" منها. ويلخص ماكندر الرهان في صيغة مشهورة آنذاك، بهذه العبارات "ذلك الذي يسيطر على أوربا الشرقية، يتحكم في "قلب الأرض"، وذلك الذي يسيطر على "قلب الأرض" يتحكم في "جزيرة العالم"، وذلك الذي يسيطر على "جزيرة العالم" يتحكم في العالم"، وفي تلك الحقبة، شكلت أوربا الشرقية ـ المناطق الاستراتيجية الأكثر أهمية في العالم: ليس فقط بالنسبة لروسيا، بل أوربا الوسطى والشرقية، هي الجسر، مفتاح القنطرة في الوحدة المحتملة للقارة الكبرى.
ويفهم من ذلك، على نحو أفضل أيضاً، لماذا بذلت بريطانيا العظمى من ثم الولايات المتحدة، وهي قوى بحرية، على الدوام، جهوداً جبارة من أجل حرمان روسيا من عمقها الاستراتيجي ومن منافذها نحو البحار الدافئة في القوقاز، وفي آسيا الوسطى وفي البلقان..
والمنظر الأنجلو ـ ساكسوني الكبير الآخر في النموذج أرض/بحر، هو بروفيسور العلوم السياسية، الأمريكي نيكولاس سبيكمان NICHOLAS SPYKMAN في كتابه جغرافية السلام THE GEOGRAPNY OF PEACE الصادر عام (1944)، إذ يقدم هذه الفكرة التي بموجبها، أنها "المنطقة المحورية" الحقيقية التي تتمفصل حولها المنافسات بين القوى البحرية والقارية وهي الـ(RIMLAND) هذا التطور الرئيس الكبير الثاني للجيو سياسي الكلاسيكي محدداً "المنطقة الوسيطة" بين "قلب الأرض HEART LAND" والبحار المشاطئة، نظير سبيكمان من "الهلال الهامشي الداخلي" لماكندر، بالنسبة لسبيكمان، سوف لن يكون للاتحاد السوفياتي الوسائل، عما قريب، من السيطرة على العالم. طالما أنه لم ينجح باستحواذ على
الـ (
RIMLAND) والجزر الخارجية، على أي حال، وكان نيكولاس سبيكمان أكثر تفاؤلاً من ماكندر، فكان يفكر أنه إذا أظهرت القوة البحرية نفسها قادرة على تنظيم ودعم شعوب الـ(RIMLAND) من أجل حجز أو محاصرة الزحف نحو البحار للقوة الرئيسة لليابسة، أو غزو العالم من قبل قوة من قلب العالم (HEART LAND)، سيبقى نظرياً تماماً. أيضاً، تسقط صيغة البروفيسور الأمريكي الخاصة بسلفه، كل ذلك، مع إعادة التأكيد على الفكرة الأساسية الخاصة بالمنافسة بر /بحر، وذلك بالإعلان أيضاً عن القاعدة العقائدية والاستراتيجية لمنظمة حلف شمالي الأطلسي: "ذلك من يهيمن على الـ
(
RIMLAND) يهيمن على الأوراسيا، ومن يهيمن على الأوراسيا يضع مصير العالم بين يديه"، ويذكر المؤلف أن نصر الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، كان قد تحقق على الشواطئ واليابسة في الـ(RIMLAND) حسب نظرية سبيكمان بشأن الـ (RIMLAND) متضمنة هنا القوى القارية، والتي لها، دون شك، "نفوذ كبير على إعداد السياسية الخارجية الأمريكية"(16)، وكانت في الواقع من أصل العقيدة الأمريكية بشأن الحجز والاحتواء، التي أعدت من قبل واشنطن خلال الحرب الباردة. إن تلاحم الـ(RIMLAND) شكل من الولايات المتحدة، وأوربا الغربية وآسيا البحرية، ومن المفترض أنها تشتمل على الأهداف التوسعية أو العائدة إلى منطقة قلب العالم الروسية ـ السوفياتية، أيضاً، تتطابق الثوابت الجيو سياسية، في نطاق الحرب الباردة، مع الايديولوجيا المتنوعة، فقد وجب على روسيا أن تصبح في حالة احتواء، ليس فقط من أجل وقف توسع الايديولوجية الثورية و(الهدامة) السوفياتية ـ الشيوعية، بل، بوجه خاص، بسبب المطالب الخاصة بالهيمنة الروسية القارية. الاتحاد السوفياتي، من جانبه، حاول أن يتوسع في أوربا الوسطى والشرقية، ونحو الجزر الخارجية في "آسيا، أمريكا اللاتينية، إفريقيا الخ" من أجل إضعاف المواقع ونقاط الاستناد الخاصة بالقوى البحرية" كونها، من ناحية أخرى، الممثلة "للقوى الرأسمالية والاستعمار" بواسطة المنظرين الروس السوفيات.
ذلك، هو أصل نظرية، منظمة حلف شمالي الأطلسي، حيث كان الهدف لا أكثر ولا أقل، بأن يشكل سلسلة من المواثيق والأحلاف مع البلدان الواقعة على الـ (RIMLAND) من أجل احتواء الـ (HEARTLAND) الروسي-السوفياتي، ويشاهد في المعاهدة الأطلسية الشمالية، وبهذا يرد منحدر "القارة الكبرى" على مشاغل سبيكمان، حيث كان له مؤلفان رئيسان منشوران في الأعوام (1942) و (1944)، هذا ما يستخلص الجنرال بيير ماري غالوا PIERRE-MARIE GALLOIS (17).
وتستعير عقيدة الاحتواء، ليس فقط أعمال ماكندر وسبيكمان، التي أُشير إليها سابقاً، بل في الوقت نفسه، من أولئك البريطاني هومرليا (HOMER LEA) ومن الأمريكيين كولن. س. غراين COLIN.S.GRAY وجورج كينيانGEORGE KéNNAN وجون فوستر دالس JOHN FOSTER DULLES. ويؤيد، ليا المعارضة الأساسية بر/ بحر في مؤلفه يوم الساكسونيين THE DAY OF THE SAXONS ، التي عرضت أسس الاستراتيجية البريطانية بشأن نظرية "احتواء" الإمبراطورية الروسية، من البوسفور إلى الإندوس (INDUS). بالنسبة له، يجب على الروس، وبأي ثمن، أن يستولوا على الدردنيل والبوسفور، ولا حتى السيطرة غير المباشرة عليهما. وقد وضع الأمور بالممارسة الفعلية خلال حرب الكريمة، لهذه النظرية. وهو يسمى اليوم "الغرب" "بريطانيا العظمى، وفرنسا"، فكانتا حليفتان لتركيا ضد روسيا. وهكذا كان رهان النزاع يدور في البحر الأسود وبحر آزوف- للسيطرة على المضائق التركية. حيث يعي الغربيون وتركيا، أن أهداف الإمبراطورية القيصرية الأرثوذوكسية، كانت "تحرير الأرض المقدسة"، ومن خرق المضائق التركية، و "استعادة" القسطنطينية، وكان أن حدث القيام بكل شيء من أجل منع القديس بطرسبورغ من أن يستقر في البحر الأبيض المتوسط وفي البحر الأسود، ولم يكن تحرير شواطئ هذه المنطقة سوى مقفز باتجاه البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. أيضاً، فُرِضَ على الروس، أن لا يجتازوا القوقاز، أو تجاوزهم الخط طهران-كابول، وذلك أثناء معاهدة باريس عام (1856). جورج كينان مساعد سفير الولايات المتحدة في موسكو أفريل هاريمان AVERELL HARRIMAN ، أصبح قلقاً، عندما تغير الاتحاد السوفياتي، بالنسبة له، عام (1945) ليصبح قوة عسكرية هائلة، الأقوى حينذاك. وفكر كينان بالوسائل لوقف تقدم السوفيات نحو قلب القارة. خلال السنوات (1946)- (1947)، بعبارة أخرى، قبل انقلاب براغ "23 كانون الثاني 1948". ويقترح آنذاك (احتواء) الاتحاد السوفياتي عن طريق إعادة تجمع بعض بلدان الـ (RIMLAND)، تحت زعامة الولايات المتحدة. كذلك، عن طريق تنوع نقاط الاستناد للولايات المتحدة، بالسير باتجاه قلب الأرض، المفهوم السبيكماني الخاص بـ (RIMLAND)أي الأرض المؤطرة وجب عليه في بعض الحالات إخفاء إضعاف (العجز) الأوربي، إلى الغرب، واليابان، -على الأقل بالتحييد لزمن ما- إلى الشرق"(18). ويجب أن لا ننسى أن ألمانيا، حتى عام (1941)، واليابان عام (1905)، قد حصرتا الإمبراطورية الروسية، في طرفيها. ويُجيز النذير الثالث لعقيدة الاحتواء، كولن س. غراي، مؤلف الكتاب حول الجيوسياسي في العصر النووي GEOPOLITIQUE DE L’ERE NUCLEAIRE، مع ما كندر، أن السيطرة على "الجزيرة العالمية"، ستؤدي إلى السيادة على باقي العالم، وكسبيكمان، فإنه يضع منطقة النزاع الرئيسة في الـ (RIMLAND) أي الأرض المؤطرة الهدف السوفياتي كونه، ضمن مدى منع، قوى البحر أي الولايات المتحدة- من العبور إلى القارة الأوراسية، وذلك بإقصاء كل انغراس أمريكي في البلدان الساحلية. بالتأكيد، جميع شعوب الـ (RIMLAND) ليست حاسمة من الناحية الجيوسياسية، بالنسبة للأمريكيين، كما بالنسبة للسوفيات.
لكن فشل أي كان في جزء من الـ RIMLANDالأرض المؤطرة سيؤثر على أماكن أخرى "بعد الهزيمة الأمريكية في فيتنام، حيث هل كان الأمريكيون يقاتلون وهم في حالة تراجع؟" تساءل غراي الذي، كتب في (EX ANTE) ويشاهد في نظرية الدومنيو، في الواقع، "لم تكن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، على الدوام خرقاء- يعلق بيير ماري غالوا استهدف تنفيذ سياسة واشنطن، من توقيع معاهدة واشنطن وإنشاء منظمة حلف شمالي الأطلسي، لازمتها العسكرية، إرساء منطقة الـ (RIMLAND) بقوة، إلى الغرب من أوراسيا. والدفاع عن كوريا الجنوبية بعد عدة أشهر، فهذا يعني تعزيز دولة صديقة إلى الشرق من أوراسيا، كذلك، فإن مساعدة فرنسا في فييتنام- بعد الهزيمة السياسية- كانت تستهدف المحافظة في (RIMLAND)، في الجنوب الشرقي الآسيوي، على وجود حليف. والسياسة نفسها، مع مواثيق المساعدة المشتركة المعقودة بين واشنطن وعواصم بعض عدد من بلدان الـ (RIMLAND) . وأمريكا لا تستطيع الاستغناء عن المحافظة على مواقع وطيدة، بواسطة حلفاء مفروضين في محيط قلب القارة، وهنا، يتدخل المرشد الكبير الرابع في عقيدة الاحتواء، جون فوستردالس. في الواقع، فهو الرجل الذي ارتبط اسمه بالتعبير (الاحتواء) نفسه، والطرد لروسيا السوفياتية، لم يكن سوى استعادة لنظريات أسلافه، خاصة جورج كينان(19) وكان الأمر يتعلق بالنسبة للدبلوماسي الأمريكي المشهور، تطويق الاتحاد السوفياتي، بواسطة الـ (RIMLAND) والجزر الخارجية إلى الجنوب وإلى الشرق من قلب الأرض، وذلك بتنفيذ سياسة أحلاف متلاحقة، من بريطانيا العظمى إلى اليابان، من أجل محاصرة "إمبراطورية الشر"، والرد يتكفل بشمالي "منطقة المحور". ويقدر فوستر دالاس، أنه بتشكيل مثل هذه "المواثيق بالمساعدة المشتركة" "منظمة حلف شمالي الأطلسي (OTAN) ومنظمة معاهدة جنوب شرقي آسيا (OTASE) والحلف المركزي (CENTO) و (ANEUS).. الخ" يتم الحصول على حزام يحيط بالاتحاد السوفياتي على طول أهدابه الشاطئية بالكامل. لكن لم يرضَ على ذلك الثقب الصيني، الشوكة الوحيدة في تشكيل ذلك التطويق- الحجز، المشكل على طول الـ (RIMLAND) بالكامل.. واليوم أيضاً، تبقى الصين- اللغز الاستراتيجي الرئيسي، الأكثر إرعاباً ضمن مدى- من روسيا، بسبب كثافتها وقوتها في آن واحد، كثيفة ومحورية.
فإذا بدلنا النظرية الكلاسيكية الخاصة بالاحتواء على المسرح الجيو سياسي المعاصر فيجب على واشنطن، توقع ظهور قوة أوراسية- قابلة مجدداً أن تضع "هيمنتها الشاملة العطوفة" موضع تساؤل، وفي الحصول على موقع مهيمن على الأوراسيا بأي ثمن. إن صعود القوة الصينية وآسيا كونها مستحيلة تماماً في الوقت الحاضر، أن يتم حصرها، فعلى أمريكا التخلي عن الهيمنة على مجموع القارة الأوراسية، وفي التركيز على جزئيها الغربي والأوسط: الاتحاد الأوربي- أوربا الوسطى والشرقية-البلقان القوقاز، آسيا الوسطى. تعتبر واشنطن إذن، أفضليتان على المدى القصير: الأولى: تخليد تبعية/ التحالف الأوربي "الغربي"، منطقة "أكيدة".
ثانياً، متابعة سياسة إضعاف عزل روسيا، ومن هنا الرغبة الواضحة المعلنة من الولايات المتحدة "بوضع حزام" حول روسيا، و "الكتلة الأرثوذوكسية"، وذلك بالامتداد نحو "المنحدر المحيطي وداخل الإسلام-الغربي" عن طريق (RIMLAND) جديد، حيث يبقى الجهاز العسكري- الاستراتيجي المشترك، منظمة حلف شمالي الأطلسي. ومن هنا أيضاً الاستمرار الأمريكي في ممارسة متكررة للضغوط على بروكسل من أجل أن تنضم تركيا للاتحاد الأوربي. ومن هنا جاء توسيع منظمة حلف شمالي الأطلسي نحو أوربا الوسطى، وخصوصاً تعزيز التعاون التركي- الأمريكي "عن طريق الاتفاقيات الاستراتيجية التي تسمح لأنقرة الحصول على التكنولوجيا المتطورة العسكرية الأمريكية"، داخل هذه.
يكشف دانييل بنساعيد (DANIEL BENSAID) في كتاب تحت عنوان "حكايات وأساطير عن الحرب الأخلاقية" الأهداف الحقيقية لعملية قوات الحلفاء في يوغوسلافيا السابقة، ويظهر كيف، وضعت الولايات المتحدة يدها في آخر الأمر، على منطقة استراتيجية في العالم، تحت غطاء "الحماية الدولية" و "حقوق الأقليات"، واكتشفت أنه عليها السيطرة عليها من أجل منع كل توقع لعودة روسيا لأوربا والبحر الأبيض المتوسط. بالنسبة لبنسعيد، يتطابق هدف الولايات المتحدة مع الجيو سياسية الأنجلو- ساكسونية منذ القرن التاسع عشر، وتتألف من تعزيز استمرار الجيو استراتيجية بين "جسرها الأوربي"، وذلك الذي قد شرعت بإقامته في القوقاز وفي آسيا الوسطى، في مواجهة الخصم الجيو سياسي التقليدي نفسه، لا أكثر ولا أقل: روسيا. ويتعلق الأمر، بصورة إجمالية، كما نظر جون فوستر دالاس، من أجل "دفع أو طرد" روسيا والعالم الأرثوذوكسي حيث "المعايير غربية السمة"، حيث ارتأى أن التعلق بالطراز السياسي والجيو سياسي الأمريكي غير كافٍ، وحيث أنه "مهدد" "القيم" والمصالح الأمريكية- الغربية. وهي حيوية بالنسبة لواشنطن، لمنع بناء دفاع أوربي مستقل حقاً، وقاري، والذي يمر عن طريق تحالف الخمسة عشر مع روسيا لمواجهة الهيمنة الأمريكية والاندفاعة التركية- الإسلامية في الجنوب، والتي ستعمل على ظهور انبثاق شبح "الاستقلال الذاتي" في الأوراسيا حول قلب القارة، في روسيا، هلع وذعر حقيقيان- حتى إذا بقي محتملاً قليلاً في الاستراتيجيتين الأمريكيتين.
ويوضح برززنسكي "في مصطلحات فظة، عن إمبراطوريات الماضي، الثلاث، أوامر جيو استراتيجية [للولايات المتحدة]، وتتلخص في: تجنب تواطؤ الأتباع للإضرار، والمحافظة على حالة الاعتماد الذي يبرر أمنهم، زرع الانقياد والطاعة لدى المواطنين المحميين، ومنع البرابرة من تشكيل تحالفات
هجومية"(20).

في الواقع، لم يغير انهيار الاتحاد السوفياتي من الثوابت الجيو سياسية الأساسية المدروسة سابقاً. خصوصاً في البلقان، أضحت روسيا حاضرة بعد سقوط جدار برلين، الذي كان أثناء الحرب الباردة، والأساس في التشكيل العسكري الدفاعي ليوغوسلافيا، كونه قد تحول ضد الاتحاد السوفياتي، الذي تشوش بصورة خطيرة في عهد تيتو. أيضاً فإن هجمات منظمة حلف شمالي الأطلسي على يوغوسلافيا السابقة، استهدفت بصورة رئيسة تحدي أو معارضة "عودة" روسيا إلى هذه المنطقة، التي كانت في طريقها إلى استئناف نزعتها الإمبريالية كروماً ثالثة لحماية الأمم السلافية والأرثوذوكسية الأخوات. "أمام هذه العودة، [الإمبريالية] لروسيا، أليست الولايات المتحدة في طريقها لإقامة سياسة جديدة "للاحتواء"، ومن أجل الاعتماد على عدد معين من الحلفاء من أجل حجز روسيا في بعض المناطق؟ هكذا يتساءل الجيو سياسي فرانسوا ثويال(FRANSOIS THUAL). والسؤال يستحق أن يطرح، لأن واشنطن تعتمد، من بين آخرين، على التشكيل العام لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، ضمن ثلاث دوائر تحالف كبرى من أجل مقاومة الروس في البلقان، في القوقاز وفي الشرق الأوسط وفي آسيا. تتضمن الدائرة الأولى، ألمانيا، اليابان، وتركيا، والثانية، شرق أوسطية، مصر، العربية السعودية، الكيان الصهيوني، الباكستان. أما الثالثة، فهي في إفريقيا، نيجيريا، جنوب إفريقيا، وبلدان الغرب الإفريقي [أوغاندا، كينيا، أثيوبيا].
إذ يؤكد الجيو سياسي والقائد الشيوعي الروسي غينادي زيو غانوفّ GUENNADI ZIOUGANOV ، في بحثه روسيا بعد عام الـ (2000)، رؤيا جيوسياسية، لدولة جديدة، بخصوص الصراع الروسي- الأمريكي من أجل السيطرة على قلب الأرض، بأن "المخرج من هذا الصراع من أجل هذا المجال، سيقرر نوع العالم، ويجب على الغرب إذن، بصورة إجبارية، القضاء بجميع الوسائل على "الضحية الروسية" على النواة الأوراسية(21)، أيضاً، هل تستخدم الولايات المتحدة استراتيجية حجز جديدة خالية من كل أيديولوجية تستهدف تقليل نفوذ موسكو على مجموعة الدول المستقلة (CEI)حتى الحد الأدنى- وإبعادها عن البحار، الأسود والقزويني.. وطبقاً لرأي هنري كيسنجر "إن تفوق قوة وحيدة على إحدى الفلكين الأوراسيين الكبيرين أوربا أو آسيا- يستمر ليقدم تحديداً جيداً للخطر الاستراتيجي المرغوب من قبل أمريكا، مع أو بدون حرب باردة. إن كتلة من هذا النوع، سيكون لها تأثير، في الواقع، على القدرة من أجل تجاوزه، على المستوى الاقتصادي، وفي آخر الأمر، العسكري. وهذا خطر، يجب تفاديه، حتى إذا لم يتم الإعلان من قبل القوة المهيمنة، عن نوايا سيئة "" أيضاً. فهل يجب تشجيع روسيا لكي تركز جهودها على أراضيها الوطنية‍ على منطقة زمنية تمتد من بطرسبورغ إلى فلاديفوستك، وليس هنالك من معاناة في رهان الحجز"(22).
ولم يستبعد الاستراتيجيون الأمريكيون، في تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية لعام (1992)(23) "الأخطار التي يمكن أن تشع أمام الاستراتيجية الأوربية، في حال صعود الروح القومية الروسية من جديد، أو بذل جهود من أجل ضم الجمهوريات المستقلة حديثاً، ثانية، إلى روسيا، مثل أكرانيا، بلاروسيا، وحتى الجمهوريات الأخرى". أيضاً، يؤكد التقرير أن الأسلحة النووية الأمريكية ستستمر لتكون موجهة إلى أهداف أساسية في الآلة الحربية السوفياتية "لأن روسيا ستبقى القوة الوحيدة في العالم القادرة على تدمير الولايات المتحدة"(24).
وتعرض الوثيقة بكل بساطة، على الأمم التابعة إلى معاهدة وارسو السابقة، أن تعيد تنظيم نفسها ضد روسيا، وعلى الولايات المتحدة مواجهة "أن تنشر وسائط بهدف إجراءات أمن قومية مشابهة لتلك التي جرى تبينها بحجة الدفاع عن العربية السعودية والكويت، ودول الخليج الأخرى، في أوربا الوسطى والشرقية". ويبدو أن ذلك قد تم الإعلان عنه في الوقت الحاضر، بشأن أوربا الوسطى والبلقان، وفي أوراسيا، إذا فرض ما افترض أن ذلك هو ما يهدف إليه توسيع منظمة حلف شمالي الأطلسي الجاري حالياً، وفي توسيع جهازها الملحق، باسم الشراكة من أجل السلام.
وتستغل وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون"، في الواقع، التراجع في الدور الدولي الروسي، من أجل غزو مجالات نفوذ موسكو السابقة شيئاً فشيئاً "حتى قربها القريب"، لا سيما، الاستراتيجيات التي تشكلها المناطق التي توجد فيها الاحتياطات الهدروكاربونية القابلة لأن تقلل من اعتماد الولايات المتحدة على الطاقة، ضمن مدة، وكذلك الغرب، تجاه بلدان الخليج العربي- الفارسي، كون أن تنوع مصادر التزود بالطاقة قد أصبح أحد الأفضليات الأمريكية. وسيكون من الخطأ، الكشف عن بعض المبادئ الأمريكية مهما تكن، خلف هذه التحاليل، لأن هؤلاء هم المسؤولون الأمريكيون أنفسهم، أمثال برززنسكي، أحد القادة من ذوي النفوذ، والمستشار في العلاقات الخارجية، الذي كتب: "يجب توسيع منظمة حلف شمالي الأطلسي، لأن ذلك سيزيل خطر كل عودة للتهديد الروسي، تجاه أوربا الشرقية ()، إنه إذن هام العمل، بحيث لا يبرز أي قاري قديم مستبد، على الحدود الإقليمية لروسيا، على سبيل المثال، وبطريقة يمكن لهذه القوة أن تتوصل لتقديم المساعدة لدول أخرى، من دول الاتحاد السوفياتي السابق، ومساعدتها على أن تترسخ، وفي نمو قدرتها على أن تتحرر من كل وصاية لموسكو"(25). وتأخذ الاستراتيجية، الأمريكية الخاصة بالاحتواء ضد الإمبراطورية الروسية، خصوصاً بواسطة "الحزام الأخضر"، سواء أكان مسلماً أم إسلامياً، على السواء، تأخذ مكانها، وتستهدف منع الإمبراطورية الروسية، كما في السابق، من الحصول على ممر إلى البحار الدافئة "القزويني، البحر الأبيض المتوسط، الأدرياتيكي"، وإلى المضائق، ومن ثم حرمان موسكو من ممتلكاتها المسلمة القديمة، في آسيا الوسطى والقوقاز، أو طريق النفط "طريق الحرير الجديد"، وهذه تشكل حجر عثرة أساسية أمام القوى العظمى.
"في الواقع، يتعلق الأمر، بتطويق جديد تماماً، مشابه إلى ذلك الذي جرى في خمسينيات (1950)، حيث كانت أمريكا، تطوق التوسع الشيوعي السوفياتي والصيني. هذا ما كتبه فرانسوا ثووال، وبأنها على خلاف اليوم، الذي فيه الاستراتيجية الأمريكية-فارغة من كل أيديولوجية. وسيتكون الجهاز الجيو سياسي الأمريكي من خفض القدرات الروسية، حتى الحد الأدنى الممكن، وفي طردها نحو الشمال، بإبعادها عن البحر الأسود، وعن البحر الكاسبي، ومن آسيا الوسطى.
بالنسبة لواشنطن، بقدر ما تكون روسيا بعيدة عن البحار الدافئة "المحيط الهندي، والخليج العربي الفارسي"، سيكون ذلك أفضل.(26).
ووضح الجنرال غالوا أن عملية توسيع الاتحاد الأوربي حتى فنلندا وتركيا، تسمح في الواقع للأمريكيين وإلى تابعيهم الأوربيين في منظمة حلف شمالي الأطلسي "من تطويق روسيا، جيو سياسياً، في الشمال وفي الجنوب". في الوقت الحاضر، في الواقع، فإن البحر البلطيقي وبحر الشمال وبحر البارنت (BARENTS) ، ثلاثة بحار رئيسة بالنسبة لموسكو، هي تحت السيطرة الأمريكية- الألمانية. أما ما يتعلق بتركيا، فإنها ستنضم عما قريب، إلى الاتحاد الأوربي "فهي تشكل حجر الزاوية في الهلال الهامشي الداخلي" وتسمح بالتسلل نحو الصين ونحو الجمهوريات النفطية الإسلامية، في آسيا الوسطى. إذن فالاتحاد الأوربي أصبح بعد الآن على بعد بضعة كيلو مترات من بطرسبورغ. وحاولت روسيا من جانبها، عبثاً، إقامة سياسة "معاكس- تطويق"، وذلك بالاعتماد على صربيا، أرمينيا، اليونان، إيران، الهند، لكن الضعف المالي والوضع العام للفوضى الاجتماعية-الاقتصادية، ليست من الأمور التي تسهل المهمة الاستراتيجية الروسية، في محاولاتها تزويد روسيا باستراتيجية جديدة دفاعية وإمبريالية جديدة، في آن واحد، في الأوراسيا. وفي وقت معين، حلمت ألمانيا في عهد كول KOHL بأن تتفاهم سراً مع روسيا، من أجل أن تتقاسما "بعدل"، أوربا الوسطى والشرقية، وفي إعداد طرق مواصلات ألمانية- روسية داخل القارتين. لكن يخشى الاستراتيجيون الأمريكان على الدوام من تحالف من هذا القبيل، ألماني- روسي- قابل لأن يسيطر على مجمل أوربا عن طريق أو نتيجة أن يجعل من غير المفيد التواجد الأمريكي. وكتب هنري كيسينجر: "إذا فشلنا في توسيع منظمة حلف شمالي الأطلسي، نحو الشرق، هذا يمكنه أن يؤدي، سواء، إلى صدامات، أم إلى خطر إقامة اتفاقيات سرية بين ألمانيا وروسيا"(27). كما طالب البروفيسور الأمريكي أوجيه روستو EUGENE ROSTOW ، في تصريح بشهر نيسان (1995)، روته الوكالة الرسمية الأمريكية (U. S. INFORMATION) ، ومستنداً إلى تقليد دبلوماسي للرئيس ترومان، طالب بتدخل أعظم من واشنطن في البلقان من أجل مواجهة "تهديد جديد". أتبعه بحجاب كثير غالباً:
إذ يصرح روستو، ويطرح بعداً هاماً جداً آخر، يبين فيه "توجد مصالح أمريكية في البلقان إبان النظام غير المستقر في الدول الضعيفة في هذا الجزء من العالم، التي ليس لها من ممرات تسمح لها بتحالف جديد معاد، يستهدف الهيمنة على مجمل أوربا () والاحتمال الأكثر دون شك، كونه تحالف ألماني- روسي من أجل السيطرة على قلب أوربا"(28).
"طريق الحرير الجديد" أو الوضع الجيو استراتيجي الفعلي
للبلقان والقوقاز.
يمكن القول، بصورة إجمالية، أن الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في البلقان والقوقاز هي التالية:
-منع كل انتشار لروسيا في البلقان وفي قطع من البحر الأبيض المتوسط.
-حجز الممرات الأوربية والروسية نحو مصادر النفط في الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق. إذن السيطرة على "طريق الحرير الجديد" للغاز والنفط حتى مخارجها الغربية.
-توسيع وتعزيز دور منظمة حلف شمالي الأطلسي كشرطي لخدمة الولايات المتحدة
-إنشاء تشكيل إجمالي من القواعد الأمريكية في الجنوب- الشرقي لأوربا، يصبح من السهل التدخل، انطلاقاً منه، باتجاه ثلاثة اتجاهات سياسية:
أوربا الغربية، الشرق الأوسط، مجموعة الدول المستقلة (CEI) ، البلقان ملتقى طرق استراتيجي بالنسبة لواشنطن".
يتم عادة الإقلال من الدور الاستراتيجي للبلقان وجميع المناطق الجنوبية- الشرقية الأوربية، غالباً، كونها، نقطة عبور أساسية بين أوربا الغربية والقوقاز وآسيا الوسطى. في الواقع، تحتل يوغوسلافيا السابقة موقعاً استراتيجياً بالنسبة لطرق المواصلات البلقانية. فهي تقع على مفترق ثلاثة طرق أوربية استراتيجية: الدانوب، الطريق نحو الشمال- الجنوب عبر الجبال البلقانية، من ثم الطريق شرق- غرب، عبر هذه الجبال نفسها. وكون هذين الطريقين الاثنين، يسيطر عليهما بواسطة مقدونيا، وهذا ما يدفع واشنطن للتخلي عن يوغوسلافيا منذ عام (1992)، وبأنها منذ ذلك الوقت تصبح مقدونيا أحد قواعد منظمة حلف شمالي الأطلسي، وشريك للسلام في البلقان. إن التجارة وحركة المرور النهرية- الدانوبية، هي في الواقع، أحد الطرق القارية، الاستراتيجية داخل أوربا الأكثر أهمية، وحيث أن جزءاً مكملاً لسياسة أوربية كبرى مستقلة، مقيَّدة احتكار النقل البحري، الممارس من قبل مجهزي السفن من البحر الأبيض المتوسط، من قبل إنجليز، أو ممولين من قبل لندن، فالدانوب بطولة
الـ (2850) كيلو متر، هو النهر الأطول في أوربا، ليس روسيا.

ويشكل، دون أدنى شك، طريق النقل في المستقبل تجنباً لمشاكل التلوث والإشباع الذي يزيد بشكل هام من الفائدة من النقل النهري، في الواقع، إذا اشتركت ألمانيا، إلى درجة ما، في تفتيت يوغوسلافيا السابقة، مساهمة تجعلها قاعدة رئيسة، مع الولايات المتحدة في البلقان، وهذا جزء، لأن تفضل القنال الجديد الذي يربط نهر الراين بالدانوب، وبأنها تحسب أنها ستحصل على طريق اتصالات رخيص ويسمح لبواخرها من (3000) طن، ربط بحر الشمال والبلطيق بالبحر الأبيض المتوسط، من ثم بالبحر الأسود، إنه لأمر جيد أيضاً، بأن أدى إلى الاستفادة من طريق مباشر واقتصادي نحو منابع النفط في الشرق الأوسط، وفي البحر القزويني وكازاخستان، أيضاً، نشير باختصار أن قصف الجسور الرئيسة الاستراتيجية على الدانوب أثناء عمليات منظمة حلف شمالي الأطلسي في كوسوفو في يوغوسلافيا السابقة، قد ساهم في الواقع، ليس بإحداث خطأ أو أشياء أخرى "أضرار جانبية" بل إرادة متعمدة من جانب الولايات المتحدة، لإلحاق الأذى والضرر بالطريق النهري في الدانوب بانتظار الحصول على مكان هناك، لصالح خطة مارشال بلقانية لاحقاً".
لقد قدر قليل من المراقبين الغربيين أهمية المؤتمر الذي جرى في رودس تحت رعاية الأمم المتحدة بتاريخ (6 و 7) أيلول (1991) حول موضوع البلقان، تعلمنا دراسة التقرير الصادر عن ذلك المؤتمر الذي جاء تحت عنوان الأمن الأوربي في التسعينيات (1990)، ومشاكل جنوب.. شرقي أوربا، إنه يجب أن يعتبر السيطرة على ملتقى الطرق الاستراتيجية هذا كضرورة حيوية "فالبلقان مناطق مجاورة للاتحاد السوفياتي السابق، والشرق الأوسط، وشمالي إفريقيا، ثلاثة مجالات ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للغرب () وتقدم شبه الجزيرة البلقانية، والمضائق التركية، وامتداداتها، التي هي الجزر اليونانية في بحر إيجه، تقدم موقعاً استراتيجياً يسمح بالسيطرة على مخارج الأسطول السوفياتي من البحر الأسود () ويوغوسلافيا هي طريق العبور الطبيعي بين أوربا الغربية وأوربا الشرقية، بل أيضاً لاجتياز اليونان وتركيا عبر شمالي إفريقيا والشرق الأوسط".
هذه بعض الخطوط وهي غنية بالمعلومات حول الطريقة التي تستمر بها روسيا لتكون معتبرة كخطر الذي يجب على الغرب أن "يحتويه". لكن التالي، يوضح بصورة أكثر خاصة للقارئ حول الدور الذي ينتظره "الغرب" الذي ستكلف به ألبانيا في البلقان والأسباب التي يخصص لها جهد هام جداً عسكرياً لكوسوفو وأكثر من أي مكان آخر في العالم، حيث الكوارث الإنسانية، هي أكثر رعباً أيضاً: "ألبانيا يمكنها أن تقدم خدمة كقاعدة من أجل حصر حركة المرور البحرية في الأدرياتيك وفي البحر الإييونوني، بل أيضاً لانطلاق عمليات ضد اليونان ويوغوسلافيا () إن استراتيجية منظمة حلف شمالي الأطلسي هي المحافظة على السيطرة على جميع هذه البلدان التي هي بمقدار ما تكون أمكنة استراتيجية". ونهاية التقرير مخصصة للمصادر المعدنية والاستراتيجية. لا تقود التوقعات لرؤية روسيا وهي تعود إلى البلقان عن طريق الصرب، وذلك باعتمادها على البنسلفانيا معادة التجديد، وعلى التعاون الأرثوذوكسي، ليس هو المبرر الحقيقي لتدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي في جزء قليل الفائدة من البحر الأبيض المتوسط.
وكذلك الأمر، لا ينظر إلى تعزيز محور ألماني- تركي- أمريكي في البلقان من قبل موسكو كتهديد على المدى القصير، والذي يجب تداركه بدعم يوغوسلافيا وحلفائها في المنطقة"(29). هكذا يتساءل فرانسوا ثووال.
لقد كشف برززنسكي، الاستراتيجية الأمريكية عند المباشرة في حرب كوسوفو، أثناء مقابلة في التلفزيون الأمريكي، في حوار مع مؤسسة سوروس (SOROS) والبلقان، بقوله: "الواقع، هو أن الرهانات هي أكثر أهمية للغاية من مستقبل كوسوفو". فبالنسبة للمستشار السابق لكارتر، فإنه يوافق على تقسيم روسيا إلى ثلاث مناطق: أوربية، وآسيوية، ووسطى، وفتح ممر شرق- غرب، عبر البلقان، القوقاز، وتركستان. أيضاً، هذا السائل الثمين المستخرج من البحر القزويني، هل يمكنه أن يصل مباشرة إلى الغرب، بفضل أنبوبين جديدين، يجتاز واحد القوقاز أو تركيا، ويقطع الآخر البلقان، خصوصاً عن طريق مقدونيا، كوسوفو، ألبانيا.
في الواقع، لقد استهدفت التأكيدات التي يحسبها أن البلقان المحروم من النفط، سوف لن يصبح منطقة استراتيجية، الحجة المقدمة خلال حرب كوسوفو استهدفت بصورة رئيسة التأكيد، على "عدم اهتمام" الغربيين، إذن من أجل أن يصبح التدخل الأمريكي ضد الصرب أمراً مشروعاً، وفي اعتماد الفرضية القائلة "الحرب باسم الأخلاق". بالتأكيد، كان الربط بين الغارات الجوية والمصالح النفطية الأمريكية أكثر صعوبة على الحجب مما كان عليه الأمر في حرب الخليج وتدمير العراق. فالعراق، من الدول التي تمتلك تقريباً ما يساوي ما تمتلكه السعودية من الاحتياطات الطبيعية، لكن باعتبار البلقان كطريق بري ونهري وبحري أساسي، ماراً على طول حدود مضطربة من ثلاث حضارات غالباً ما تكون في نزاع فيما بينها، وباعتبار البلقان ملتقى طرق لصراعات نفوذ بين القوى العظمى، لهذا فالبلقان منطقة استراتيجية في غاية الكمال، بالنسبة لموسكو كان باستطاعة يوغوسلافيا، مقدونيا، بلغاريا أن تشكل مع اليونان، طريقاً لمرور تبادل النفط القادم من البحر القزويني ومن المناطق الروسية باتجاه الغرب، عن طريق نوفوروسيسك NOVOROSSISK ، خصوصاً منذ أن أغلقت تركيا مضائقها، عملياً، مع أنها تشكل خرقاً فاضحاً لاتفاقيات مونترو (MONTREUO). في الجانب الغربي، فإن (الهدروكاربور)، المشتقات النفطية، من البحر الكاسبي، ومن آسيا الوسطى، إذن، يراد بها حرمان موسكو منها، ويجب على العكس تجنب روسيا بأن تمر من أراضيها، بل عبر تركيا وأذربيجان، ولم لا ضمن مهلة، ومرة أخرى، في المنطقة "التي ستنبع منظمة حلف شمالي الأطلسي"، مقدونيا، كوسوفو، ألبانيا، المصب الغربي "لطريق النفط"، إذن هذا هو المطموح به من قبل موسكو، كما هو الحال بالنسبة لواشنطن. بالتأكيد، فإن تحقيق أنبوب النفط باكو- سيهان "أحد الرهانات النفطية"، منذ التوقيع عليه بتاريخ (18) تشرين الثاني (1999)، على أنه مشروع ينافس الخط الشمالي باكونوفو روسيبسك الكسندر وبوليس “ALEXANDRO POULIS” ، الذي تريد روسيا أن تمده نحو بلغاريا ويوغوسلافيا السابقة، من أجل الوصول للأسواق الغربية- دون المرور بالبوسفور، التهديد بالنسبة لواشنطن وأنقرة، ويبدو كون السيطرة على الطرق النفطية من قبل روسيا واليونان، والقوى الأرثوذوكسية الإقليمية، قد استبعدت. ويفهم على نحو أفضل، على ضوء هذا التوضيح، لماذا ستبقى يوغوسلافيا السابقة، التي كانت تسيطر على طرق المرور الدانوبية "المحور الأساسي لجميع الاقتصاد الدولي في أوربا الوسطى والشرقية" سيبقى كونها حليف جديد لروسيا ومقاوم لتوسع منظمة حلف شمالي الأطلسي في أوربا الجنوبية، وتشكل عقبة لا تحتمل أمام التوسع الأمريكي على طريق "الحرير الجديد" "ولهذا يجب أن تصبح معاقبة بقسوة"(30)، هذا ما توضحه عالمة السياسة الأمريكية ديانا جونستون DIANA JOHNSTONE الاختصاصية بشؤون البلقان، لأن الحرب الجيو اقتصادية كانت الوجه الآخر المخفي في البعد الآخر "للتدخل الإنساني" في كوسوفو، مع امتداد دور منظمة حلف شمالي الأطلسي في أوراسيا.
حرب خطوط أنابيب النفط "الرهان الكبير" الجديد:
لقد تميز النصف الثاني من القرن التاسع عشر بالتعبير "اللعنة الكبرى" بالصراعات الدبلوماسية البريطانية والروسية، بشأن أفغانستان والنفط في "ذلك الوقت" من آسيا الوسطى والقزوين، واليوم، لقد أصبح بحر القزوين، من جديد، رهاناً نفطياً وغازياً أقنية تنقل نحو الأسواق الغربية والآسيوية. ويوضح فرانسوا تووال:
"ما من روسيا التي تتمنى المحافظة على وجودها المباشر كثيراً أم قليلاً، وأمريكا التي تتمنى طرد هذا الحضور إلى أبعد ما يمكن، وذلك بالاعتماد على حلفائها في الباكستان وتركيا الخ وآسيا الوسطى، ترى أن هناك توسع في "لعبة كبيرة" بين القوتين العظيمتين القويتين منذ زمن الحرب الباردة ()، هو المجابهة الروسية- الأمريكية من أجل السيطرة على قلب القارة
الأوراسية"(31). فمن سيصدر مليارات الأطنان من النفط المستخرج من بحر قزوين، إلى الغرب، والذي تتخاصم القوى المتخاصمة من أجله؟، ذلك هو الموضوع الأساسي بشأن (اللعبة الكبرى) الجديدة، أيضاً، فلماذا أقامت الحكومة الأمريكية مجموعة عمل وزارية
داخلية- مخصصة بشكل خاص لطاقة البحر القزويني في هذه السنين الأخيرة. وتجّتمع مجموعة العمل هذه بصورة منتظمة، وهي مرؤوسة من قبل (NSA) (مجلس الأمن القومي) “NATIONAL SECURITY COUNCIL” ، وهي منظمة رفيعة المستوى في السياسة الخارجية والأمن الأمريكي، تتجمع من أجل تحقيق دراسات للأسواق، خصوصاً إقامة استراتيجية حقيقية بشأن الحرب الاقتصادية بالنسبة للنفط"(32).
فحسب تقديرات هذه المجموعة، فإن احتياطات المواد النفطية من بحر قزوين- (الخليج العربي- الفارسي الثاني) سيكون الخزان العالمي الثالث تماماً بعد الشرق الأوسط "600 مليار برميل، 35% من مخزون الكرة الأرضية" وسيبريا(33). وتحتوي منطقة القزوين على احتياطات ممكنة" من (178-200) مليار برميل من النفط (88 مليار طن 16% من الاحتياطات العالمية" ومن
(1000) إلى (7340) مليار متر مكعب من الغاز، حسب الاختصاصيين الأمريكيين(34).

ولقد حسنت الولايات المتحدة، علاقاتها مع سبع جمهوريات سوفياتية سابقة. "أذربيجان، جورجيا، كازاخستان، كيرخيستان، طاجكستان، تركمنستان أوزباكستان" بشكل هام، هذه السنوات الأخيرة، بسبب رغبتها بشأن كسر العزلة على الصعيد الاقتصادي عن الثروات الآسيوية الوسطى وإعادة النشاط لـ (طريق الحرير) مع إبعاد روسيا، وأقامت مع معظم تلك الدول شراكة مع منظمة حلف شمالي الأطلسي، باسم "الشراكة من أجل السلام".
أيضاً، هل وقعت هذه الدول المنتجة للنفط من هذه البلدان اتفاقيات استثمار وبحث وفي رسم قنوات ومتاجرة مع شركات أمريكية- ففي كازاخستان، تقدر الاحتياطات النفطية بأكثر من (5) مليار طن.
وأنشأ الأمريكيون فيها تيكساكا بنك TEXAKA BANK (بنك تكساس وكازاخستان، وشركاتها النفطية "شفرون وأونيكال" (UNOCAL) وتبعتها توتال وبرتش غاز، ومن المقدر أنها ستستغل حقول النفط في القزوين، وفي إدارة أنابيب النفط تنغيز/ نوفوروسيسك (TENHUIZ) ، الشركات الأمريكية تتأصل أيضاً في تاتارستان وفي تركمنستان وفي أذربيجان- حيث توجد أيضاً احتياطات هامة من الهدروكاربور. وتصل العقود النفطية الموقعة منذ عام
(1994) ما قيمتها إلى (30) مليار دولار بالنسبة لأذربيجان وحدها. وتعتبر الأوزباكستان، المنتج الثاني للغاز من بين دول مجموعة الدول المستقلة
(CEI)، بعد روسيا، منذ عام (1994)، مع حجم استخراج سنوي يصل إلى (50) مليار متر مكعب. أيضاً، تتوقع شركة إكساكسون (EXXON) للنفط والغاز، استثمار مليار دولار في مشروع استثمار مشترك لمدة ثلاثين عاماً مع شركة أوزبك أوزبكنفطغاز OUZBKNEFTEGAZ وتنظم تكساكو، على نحو مواز تصنيعاً مشتركاً للزيوت، وتساهم موبيل ودلتا وأونيكال، باستثمار طاقة قوي أوزبك، بفضل استثمارات مباشرة وأعمال تحديث للبنيات القائمة. فالولايات المتحدة هي إذن المستثمر الأول في أوزباكستان اليوم، مع إجمالي سنوي من (2) مليار دولار، تحقق في الاقتصاد منذ عام (1995).
وتلعب الحكومة الأوزبكية، التي كانت حتى عام (1993)، أفضل تلميذ مقرب من روسيا من دول مجموعة الدول المستقلة، تلعب الآن بورقة توسع منظمة حلف شمالي الأطلسي في آسيا الوسطى(35). كما أن تركمنستان التي تجذب انتباه الشركات النفطية الدولية أيضاً- أوتوكال، دلتا أويل، موبيل، مونيمان، بريداس، بتروناس، نيوك، مرتبطة بمشروعات مختلفة في أنابيب النفط، لنقل النفط التركماني نحو الباكستان والهند- ستحتوي على احتياطات من النفط مع كاراكوم يقارب الـ (6) مليار برميل.
أخيراً، يواجه رهان النفط الأوراسي، كونه كوكبي، فيه مشروعات يابانية وصينية، وتواجه بناء "جسر أرضي أوراسي"، يربط الموانئ الغربية في الشمال من الصين، إلى طوكيو، وهناك دراسات لقابلية العمل لشبكة خطوط نفط جديدة تلتف حول الأراضي الروسية، فهي في موضع دراسة، خصوصاً "مشروع القرن" بكلفة (22) مليار دولار، الذي ستشارك فيه اليابان (ميتسوبيشي) والصين "ناسيونال بتروليوم كوربوريشن" "الهيئة الوطنية للنفط"، ومن الولايات المتحدة فرع من (تكساكو)، من أجل مد خط أنابيب للغاز بطول (8000) كم، ويخصص لنقل الغاز التركماني إلى اليابان "حيث ستتضاعف حاجات الصناعات اليابانية من الغاز، من الآن وحتى عام (2010)، وستستقبل مرور غاز كازاخستان أو أوزباكستان وحوض تاريم، في الصين، في المنطقة المسلمة من كسينغيانغ. يضاف إلى ذلك، يقدر الخبراء، أن سيبريا، التي تحتوي ثروات معدنية ضخمة، هي تحت الاستغلال حالياً، تشكل منطقة حيث ستصبح الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية أساسية خلال عدة سنوات.
وحسب معلومات نشرت بوساطة وكالة المعلومات التابعة للولايات المتحدة، (U. S. I.A) U. S- INFORMATION AGENCY كانت إدارة كلنتون ستبذل جهوداً هامة من أجل إقامة مشروع طموح بالنسبة لأوراسيا: "مبادرة حوض الكاسبيان"، تستهدف تطوير البنية التحتية في المنطقة الوسطى- الآسيوية، حول قزوين، ففي خطاب ألقي أمام جمعية كامبردج لوكالة البحوث (CERA) (CAMBRIDGE ENERGY RESEARCH ASSOCIATION) بتاريخ (7) كانون أول (1998)، عدَّد المستشار الخاص للرئيس كلنتون المتخصص في الدبلوماسية الخاصة بالطاقة القزوينية، ريتشارد مورنينغستار (RICHARD MORNINGSTAR)، عدد الأهداف الأربعة الرئيسة التي تلاحقها واشنطن في هذه المنطقة من العالم.
-تعزيز استقلال الدول الجديدة في آسيا الوسطى.
-دعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية فيها.
-تكثيف الروابط الاقتصادية بين هذه البلدان، التي لم يتم التعاون معها في الماضي مطلقاً، على الرغم من الروابط الثقافية بهدف خفض احتمال نشوب نزاعات إقليمية.
-ضمان استقلال المصادر الطاقية في هذه الأصقاع، في سبيل مصلحة الولايات المتحدة، وهذه أهداف رئيسة، حسب مورنينغستار، لأن الهدروكاربور "المشتقات النفطية" التي تنتج منها ستمكنه من ربح الأسواق الدولية دون كثير من العقبات:
يضاف إلى ذلك، فمن أجل ضمان أن تستطيع المشروعات الأمريكية أن تزيد من نشاطاتها، يعتقد مستشار الرئيس كلنتون بأنه من الضروري، التفكير بأنه ما من دولة مشاركة تستطيع أن تشكل احتكاراً وطنياً قابلاً لأن يتعارض مع الشركات الأمريكية القائمة. ويعتقد رئيس تحرير (U.SIA) فيليب كوراتا PHILIP KURATA مثله كمثل برززنسكي تماماً، بأن إنشاء خط أنابيب شرق- غرب، منطلقاً من الحقول الهدروكاربورية في القوقاز وآسيا الوسطى من أجل أن تنتهي في تركيا، هي العنصر الأساس في الاستراتيجية الأمريكية في أوراسيا وفي القزوين. وفي هذه الظروف، فقد صمم الاستراتيجيون الأمريكيون وكذلك الشركات الأمريكية، ومنذ عدة سنوات مثلاً، مشروعاً طموحاً، سمي "الممر الأوراسي للنقل"، وسيشتمل على نظام كامل من الأنابيب منطلقة من آسيا الوسطى حتى البحر الأبيض المتوسط، في (CEYHAN) ، مروراً بالقوقاز، إذن بأذربيجان، وهذا يشكل مركزاً عصبياً في "لعبة كبرى" نفطية، في القرن الواحد والعشرين، وستواجه واشنطن "بناء خط أنابيب للتصدير رئيس " (MEP)، وذلك كرد على القلق حيال فعالية ذلك المشروع، الذي سيكون قادراً على الانطلاق من آسيا الوسطى إلى الأسواق الغربية، عن طريق تركيا، وحقول أذربيجان النفطية في القوقاز- وآسيا الوسطى. وبهذا الصدد، ستكون أذربيجان البلد الرئيس "المحوري" في الاستراتيجية الجيو اقتصادية الأمريكية، لأنها نقطة العبور الإجبارية لخطوط نقل النفط الرئيسة التي يجري بناؤها.
وإنه يتضمن من جهة أخرى حقولاً نفطية لا تحصى حول شبه جزيرة أبشرون (APCHERON)، نقطة الانطلاق لخطين من أنابيب النفط نحو البحر الأسود، مكان وصول النفط والغاز التركماني، ولقد وقع الرئيس الآذري حيدر عالييف، بشهر آب (1997)، حيث قام بزيارة رسمية لواشنطن، وقع خلالها بروتوكولا لاتفاقيات نفطية مع الرئيس كلنتون، وزعماء شركة آموكو (AMOCO) . وقررت الولايات المتحدة عندئذ أن القوقاز "منطقة مصالح استراتيجية أمريكية". وجرت دراسة مشروعين خططا لأنابيب نفط مخصصة لنقل النفط من القزوين:
أحدهما في (الجنوب): باكو- تبليسي-سايهان، بطول (1730) كم.
بحيث يبقى الجزء تبليسي- سيهان في وضع الاستعداد للعمل به، أما في (الشمال)، باكو- غروزني، نوفوروسيسك، فقد آثرت الولايات المتحدة إتمام العمل في الجنوب، على أنه الأقل مردودية من الكل ويقترح بعض البلدان العربية خطأ ثالثاً، فقد دفعت الرياض والكويت اللتان لا تنظران بعين راضية لهذه المنافسة النفطية في القزوين، لذلك، دفعتا منظمة الدول المصدرة للنفط (OPEP) للعمل على رفع حصص الإنتاج بمقدار 10% من أجل العمل على هبوط الأسعار، وجعل خط الجنوب خاسراً، وعلى نحو موازٍ، سيقوم الخطّاب، الزعيم الإسلامي "الأردني-الشيشاني"، وهو على صلة بالعربية- السعودية، حيث أنه يحمل جنسيتها، سيقوم بغارات على البويناناكسيك BOUINAKSK بهدف نقل الثورة (الإسلامية) إلى داغستان، ويوجه الثوار الإسلاميون الشاشانيون ضربة جدية إلى خط الشمال، كما لو أن الأمر عفوياً، مع ذلك، يجب أن يكلف تحديث خط الأنابيب الروسي- الأكثر مردودية من ذلك في الجنوب، المدعوم من قبل أنقرة وباكو، حيث سيكلف أقل من مليار دولار كتكاليف للضخ، بمعدل (20-25) دولار للطن الواحد، في حين، يقدر للمشروع باكو- تبليسي- سيهان بأنه سيكلف ما بين (2.7-3.3) مليار دولار، وبكلفة ضخ ما بين (42-110) دولار للطن الواحد. وألحت الشركة النفطية الإنجليزية الساكسونية، من جانبها(36) على واقع أن خط الأنبوب الشمالي هو أقل كلفة. من جانب آخر. لن تقبل واشنطن وباكو وأنقرة وتبليسي و(المقلقون) الإسلاميون المدعومون من قبل الرياض، بخدمة المصالح الروسية، التي يعتمد عليها، وذلك بالحراسة والسيطرة على طرق النفط أيضاً، أغلقت الشيشان بتاريخ (30) آذار(1999)، من جانب واحد سكور خط الأنابيب الشمالي، بحجة أنه يتوجب على موسكو دفع (100) مليون روبل، ولم تعد إلى المفاوضات مع غروزني، وشرعت موسكو بالعمل على نقل النفط بواسطة خط السكك الحديدية منذ تاريخ (7) تموز، مجتازة داغستان، وملتفة حول الشيشان، وذلك من قبل شركة ترانسنفط TRANSNEFT المالكة لكل خط الأنابيب الروسي، ويعتقد أنه بإمكانها بناء تحويلة باتجاه الداغستان، وهذا ما يمكنها من "إنقاذ" وتأمين خط الأنابيب الشمالي عبر الشيشان، الذي كان من قبل في حالة غليان وهذا هو في الواقع، في هذه اللحظة، وبعد "المعركة من أجل خط الأنابيب"، يدخل الثوار الوهابيون التابعون للخطاب وياساييف وهم المعارضون الإسلاميون للرئيس ماسخادوف، الذي تفاهم سابقاً مع موسكو، يدخلون في المسرح من جديد، ويبدو بأنهم يقادون ويوجهون ويطلب لهم من قبل المخابرات السرية السعودية والأمريكية لخلق عدم الاستقرار في الداغستان، وذلك بالإعلان عن "الجمهورية الإسلامية" وإبعاد الروس "غير المخلصين"، "زعيم الحرب الشيشاني شامل باساييف، وحليفه السعودي خطاب، فهل يوجد في رأسيهما، سؤال بشأن قطع طريق النفط في أذربيجان، وذلك بعد أن أطلقا غاراتهما في الداغستان، هذا ما تساءلت عنه صوفي شهاب، فهذه الغارات بدأت بالأول من آب، تماماً بعد أن نجحت الترانسنافت في تنظيم نقل هذا الخام عن طريق سكة الحديد(37)" وعلى الدوام، هل وقعت الاضطرابات في زمن محدد، لأن موسكو لم يعد باستطاعتها، العمل على تبديل رأي الشركات الأمريكية، وبصورة أقل أنقره وباكو، لتقرر هجر خط الشمال بشكل نهائي، على الرغم من الجهود الدبلوماسية المبذولة بعد ذلك. وسيصبح الاتفاق باكو-تبليسي، أنقرة، موقَّعاً عندئذٍ على هامش قمة منظمة الأمن والتعاون الأوربي (OSCE) في أسطنبول بتاريخ (18و 19) تشرين الأول تحت الرعاية العالية لبيل كلنتون. وستعتبر واشنطن الحدث بأنه نصر أساس في "معركة أنابيب النفط". ولقد اقترح جون وولف JOHN WOLF المستشار الجديد للرئيس كلنتون لشؤون القزوين، أثناء زيارته الأخيرة لأنقرة، اقترح أنه يجب أن يكون خط أنابيب باكو- سيهان مستخدماً من أجل تصدير الذهب الأسود المستخرج من بلاد أخرى في المنطقة، بصورة رئيسة من كازاخستان، التي صرحت بأنها تلتزم بتصدير جزء من نفطها عن طريق هذا الخط للأنابيب، في الوقت نفسه، وعلى نحو موازٍ، وقعت البلدان عبر القوقاز والمحيطة ببحر قزوين مشروعاً يتعلق بأنبوب غاز عبر قزوين، أثناء قمة منظمة الأمن والتعاون الأوربي، وبطول (2000) كم وتقدر تكاليفه بـ (2.2) مليار دولار، ويسمح لتركمنستان بتصدير غازها نحو تركيا، وهو مشروع ينظر إليه في الوقت نفسه بعين غير راضية تماماً من قبل موسكو، وهي تحجب على استحياء البعد الاستراتيجي المعادي لروسيا، وأطلق بيل كلنتون، صيحات كاذبة- قائلاً: "سيساهم الاتفاق بتعزيز الاستقلال الوطني لتركمنستان" ويضيف، "إن الاتفاقيات التي جرى توقيعها، منذ وقت، هي في الواقع، تاريخية () وإن هذه الخطوط النفطية، ما هي إلا شرطة أمان لضمان أن تمر مصادر الطاقة عبر طرق متعددة، وليس عن طريق مضيق
ضيق"(38).

وهذا ما أطلقه أيضاً، وبوضوح أكثر مرادنيازوف صابرMOURAT NIAZOV SAPAR، الرئيس التركماني.
لكن المستفيد الكبير الآخر، من هذا النصر، هو تركيا، دون أدنى شك التي سيمر عبر أراضيها خط أنابيب النفط الجديد والذي طور نشاطاً دبلوماسياً كثيفاً منذ عام (1997) لإقناع باكو، مع ذلك، كانت على عجلة من قبل موسكو لكي تختار الطريق، تركيا- جورجيا، الطريق الوحيد، القابل للعمل لكي يتوافق مع المصلحة التركية الآذرية والأمريكية، لأن استبعاد روسيا وإيران من هذا الجزء "من طريق الحرير الجديد"، وبهذا تكون أنقرة قد ضمنت بأنها ستكلف بالتكاليف التي ستتجاوز التوقعات الحيوية من (2.4) مليار دولار، وذلك بإقناع الشركات النفطية الأنجلو- ساكسونيه المهتمة B. P، آركو، EXXON) بدفع هذه التكاليف، ولقد أشار الرئيس التركي سليمان دوميريل، الذي حضر إلى باكو بعد عدة أيام بمناسبة العيد الثامن لاستقلال أذربيجان، والذي اسْتُقبل بهتاف من جماهير آذرية، وهي تصرخ (ليعش قادة العالم التركي)، أشار علناً، في اللحظة نفسها، عند تدشين المطار الآذري الجديد، إلى البعد الاقتصادي والجيو سياسي للمشروع- باكو- سيهانو "سيساهم بطريقة رئيسة في تنمية العالم التركي وأذربيجان". لكن، لن يتوقف دور تركيا هنا، لأن الاستراتيجية الأمريكية، كونها "شاملة ومتكاملة"، طبقاً لكلمة آرنود آآرون أوبنسكي ARNAUD AARON UPINSKI ، فالولايات المتحدة تقدر بأن تعهد إليها السيطرة العسكرية، على أنابيب النفط والغاز، المهددة غالباً بالمستقبل من قبل هزات تتعلق بالهوية والطائفية، وسيتوجب على تركيا، حجر الزاوية في السنوات القادمة في الجناح الجنوبي لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، سيتوجب أن تلعب الدور الأوراسي الأساس لصالح الولايات المتحدة، والأكثر أهمية أيضاً، من ذلك الدور الذي يعهد إليها لتلعبه اليوم. وسيكون لدى تركيا نزعة تنظيم البلدان الناطقة بالتركية TURCOPHONIE في أوراسيا، من شمالي الصين حتى الجمهوريات الإسلامية من الاتحاد السوفياتي السابق،
جمهوريات انفصالية من الاتحاد الروسي، عاصية في الوقت الحاضر
على موسكو، أو غير معلنة ذلك"

الشيشان، باخور ستان، أنغوشيا، كاباردينو، بالكاري، داغستان.. الخ"، ويجري ذلك بالتعاون مع أذربيجان التي وضعت منذ زمن قليل القاعدة الجوية التي كانت الأكثر أهمية بالنسبة للجيش الأحمر في أوزباكستان، بالقرب من بحر قزوين، تحت تصرف منظمة حلف شمالي الأطلسي، وبأنها بلغت بأنها قد تخلت عن الميثاق الذي كان يربطها بروسيا في نطاق مجموعة الدول المستقلة.
وأصبحت تركيا تمتلك بعد الآن حدوداً داخلياً وخارجياً محاذية لروسيا باسم منظمة حلف شمالي الأطلسي، بفضل الروابط الإسلامية، مع الناطقين باللغة التركية. يضاف إلى ذلك، لواشنطن وأنقرة، وعن طريق الرياض وإسلام آباد، الوسائل لإعادة تنشيط بؤر التوترات العرقية أو الوفرة من المجاهدين أو القوميين المتطرفين الآخرين العصاة، القادرين أن يصبحوا محرضين ومستخدمين كأكباش فداء ضد روسيا، في كل مكان، في الحالة التي ستبحث هذه الأخيرة عن فك الموانع الأمريكية، التركية، وفي استعادة (طريق الحرير الجديد) مجدداً، من الأدرياتيك إلى الصين.
فمنذ حرب الخليج، وتدمير العراق، يشاهد أن الدبلوماسية الأمريكية، هي بصورة أساسية محددة، بالأوامر الاقتصادية- النفطية، منذ تاريخ (6)نيسان
(1995) بلسان مساعد وزيرة الخارجية المكلف بشؤون الشرق الأوسط، روبرت بلترو
(ROBERT PELLETREAU) أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس: "الأفضليات الأمريكية في المنطقة هي:
التفاوض وتطوير اتفاقيات الأمن في منطقة الخليج العربي الفارسي، بهدف تأمين الاستقرار فيها والوصول إلى الاحتياطات النفطية الحيوية بالنسبة لرفاهنا الاقتصادي،وضمان الوصول إلى المشروعات الأمريكية في المنطقة(39). تدخل السياسة الأوراسية للولايات المتحدة، إذن، في نطاق "الاستراتيجية الشاملة" تماماً، وهنا يوجد أصل توجه السياسة الدولة الأمريكية التي هي حربجية أكثر فأكثر وقهرية. فهي لا تتردد أبداً في أن تحل محل "منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون الأوربي الخ"، بلا قيد أو شرط، منذ حرب الخليج، وكذلك في كوسوفو، مروراً بالقصف الجوي، أو الغارات الأخرى، في الصومال وفي ليبيا، وأفغانستان، وفي السودان، وهي موجهة تحت ذريعة تنظيم عمليات "للمحافظة على السلام"، أو باسم الأعمال المسلحة الدفاعية في العالم. ولنستمع بالأحرى لروبرت دول أحد الزعماء الجمهوريين، وهو يقول: "وهو أشد أنصار التدخلات المسلحة الأمريكية، في الخليج وفي يوغوسلافيا السابقة: "لقد كانت حرب الخليج رمزاً لقلق الأمريكيين بالنسبة للأمن الخاص باحتياطات النفط والغاز، وتتوجه الحدود لهذا القلق بسرعة أكثر نحو الشمال، ويتضمن ذلك القلق، القوقاز والصرب والكازاخستان"(40).
الواقع، لم تتوقف الغارات الأمريكية والبريطانية، على العراق منذ عام
(1991)(41) هذا ما أشير إليه، كثيراً من قبل المسؤولين الأمريكيين، بأن الأمر يتعلق برهان استراتيجي أساسي بالنسبة لواشنطن، استراتيجية على المدى الطويل، تنفذها مختلف الإدارات، جمهورية أم ديموقراطية، وتدخل في نطاق حرب حقيقية جيو اقتصادية شاملة. إنه من الأمور الحيوية بالنسبة للولايات المتحدة، تعزيز حضور شركاتها، في كامل المناطق التي تحتوي على احتياطات نفطية معروفة وملائمة تقريباً، وهذا ما يسمح لها المحافظة على استقلال نسبي في مجال الطاقة الضروري لهيمنتها الدولية. وكذلك الحال بالنسبة للمصادر النفطية الأمريكية التي بلغت مرحلة النضوب تقريباً، خلال العقود القادمة، كذلك عرقلة عملية التطوير الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي والصناعي في الدول العربية-الإسلامية، خاصة تلك التي يمكن أن تسبب إزعاجاً للمصالح الأمريكية الأكثر في العالم، وكذلك لحلفائها السعوديين والكويتيين والأتراك، وخاصة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وإننا نجد هنا استراتيجية "البطن الطري"- المطورة من قبل بيير ماري غالوا التي تستهدف إظهار خشية الولايات المتحدة من التطور المحتمل في الوطن العربي خاصة والعالم الثالث عامة، لهذا فإنها تدعم، في كل مكان لحد ما الأنظمة القابلة أن تحافظ على تخلفها، وبالتالي اعتماد هذه الدول تجاه المزود والسيد الأمريكي- الغربي، بهذا، أصبح العراق فجأة معاداً إلى خمسين عاماً إلى الوراء وذلك بعد عشرات السنين من الغارات عليه وكذلك الحظر، ومنعه من التطور، وهو البلد العربي الوحيد الذي كان
سائراً في طريق التصنيع، وعملية الدَنْيَوَة (SECULARISATION) والتحديث.
سابقاً، فالعراق كان لا أدريا، وتشرب الأساليب الاشتراكية، لكنه اليوم، أصبح يبحث عن صلاح الدين جديد، ليحارب "الصليبية الغربية" الجديدة المعادية للقضايا القومية العربية، لهذا ونجد اليوم الكثيرين من المثقفين العرب أيضاً يؤمنون بأن الأمريكيين خصوصاً والغربيين عموماً يحملون أحقاداً وضغائن للعالم العربي، لذا فهم وكرد فعل يعادون الولايات المتحدة، لا بل الحضارة الغربية عموماً، لذلك نجد النظام في العراق قد عمل على زيادة عدد الجوامع والمراكز الدينية مؤخراً، وكتب الصيغة القرآنية (الله أكبر) على علمه، وأدخل العلوم الدينية اليومية في البرامج التلفازية وفي المدارس الخ". وتطلق مآذن بغداد نداءات بلا انقطاع إلى الصلاة خلال النهار. يضاف إلى ذلك فالوضع الاجتماعي والطبي والاقتصادي كارثي في العراق، ويشكل ذلك كتلة رائعة للحقد المعادي للغرب، وبالتالي عملية إقرار شرعي للحركات الإسلامية العراقية"(42) ولقد حذر البعض من النتائج المرعبة لسياسة الإبادة التي تتبعها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد العراق، حيث تزايدت نسبة الوفيات بين الأطفال ثلاث مرات. "تشير الإحصاءات إلى أكثر من مليون ضحية بين الأطفال"، كما تشير إلى تراجع مرعب في جميع الوسائل الصحية والطبية والاجتماعية، وخفض هائل في معدات المستشفيات بسبب الإجراءات الخاصة بالحظر والإجراءات الخاصة المدانة دولياً بسبب التعقيدات التي تفرضها- خاصة وإن معظم أعضاء اللجنة هم من الولايات المتحدة وبريطانيا أو الدول التابعة لهما، وقد تم الكشف عن الكثير من تجاوزات هذه اللجان وكأنها فعلاً تتبع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (cia) أو أحد أجهزة البنتاغون، كما جرى الكشف عن أعمال تجسس من قبل أعضاء بعض اللجان المكلفة بالكشف عن الأسلحة.. وهكذا ازدادت الوفيات في العراق، خاصة بين الأطفال، ومضاعفتها عشرة مرات، و كذلك في مجالات تلوث البيئة والسرطانات لعدم موافقة اللجان على تزويد السلطات العراقية بالمعدات اللازمة، حتى ما يتعلق منها بمجاري المياه العادمة وغير ذلك من الفضائح التي انتشرت في كل أنحاء العالم، حول تصرفات تلك اللجان اللا إنسانية- لا بل وكانت تلك اللجان مخصصة للإضرار بالشعب العراقي والحكم عليه بالإبادة، وهناك أمر استمرار القصف الجوي اليومي تقريباً، علماً أن ذلك الأمر، لا يرتبط بقرارات من الأمم المتحدة، وتقوم به كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث تقوم قواتهما الجوية في معظمها من قواعد في السعودية وفي الكويت، لقصف بعض ما تبقى سالماً من البنية التحتية للإيذاء بالعراق وشعبه، وجرى نتيجة هذا القصف تدمير شبكات المياه العادمة في المدن، وكذلك أنابيب التزود بالمياه الصالحة للشرب، وهذا مما زاد من انتشار الأوبئة. أخيراً، أصبح الحظر المفروض على العراق غير مبرر أمام الرأي العام الدولي مهما كانت الأسباب ويمنع على الشعب العراقي مثلاً استيراد واستهلاك عشرات المنتجات الاستهلاكية والتي لا يمكن أن يكون لها علاقة بصناعة الأسلحة، كأجهزة الراديو، وأجهزة خاصة بالهواتف، أشرطة الفيديو، وأجهزة الأوديو، وال******، سيارات الإسعاف، الباصات، الدراجات، السلال، الحقائب، البطاريات، الكؤوس، القناني، النحاس، المطارق، أنابيب الماء، أدوات الطبخ، الكتب، المجلات، الألبسة، الصابون، معجون الأسنان، لعب الأطفال الخ، أيضاً، وصل الأمر ببعض المسؤولين عن برامج التفتيش التابعين للأمم المتحدة في العراق، بأن احتجوا بشكل علني ضد سياسة الاستبداد الأمريكي في العراق، وبصورة متزايدة: فطبقاً للرأي الذي أعلنه دنيس هوليداي DENIS HALLIDAY المدير السابق للجنة الأمم المتحدة لمراقبة التسلح في العراق (UNSCOM) ، والذي قرر الاستقالة عام (1997) من مهمته في الأمم المتحدة، وحيث كان المسؤول من الدرجة العالية منذ (34) عاماً، بأن الوضع في العراق هو ضد كل حقوق الإنسان وضد الإنسانية جمعاء، وأضاف لقد روّعَ الحظر العالم نتيجة البؤس والمأساة الإنسانية والكارثية الناتجة عن الحظر)(44). وهذا هانس فون سبونيك HANS VON SPONECK ، مُنسِّق المساعدات الإنسانية التابع للأمم المتحدة في العراق الذي قدم استقالته أيضاً، بعد أن شاهد المأساة وتعسف الولايات المتحدة حيال الشعب العراقي وتقديم شكوى نتيجة "الدراما الحقيقية". وأخيراً وليس آخراً السيدة جوتا بورغارت JUTTA BURGHART ممثلة برنامج الأمم المتحدة المسماة "النفط مقابل الغذاء"، وقد دقت الأبواب معربة عن مخاوفها، وأضافت أن الوضع أصبح لا يطاق، وأن بعض الدول المتنفذة في مجلس الأمن هي التي تستمر في فرض الحصار مخالفة بذلك كل الأعراف الدولية وذلك بأن تحكم على شعب بالكامل بالهلاك، دون مبرر، وذكرت أنه يموت كل عام حوالي (110000) طفل بسبب تلك الجريمة النكراء.
إنها حصيلة مقلقة جداً، وجريمة إنسانية، سببها (الدبلوماسية القهرية) التي تمارسها الولايات المتحدة، ويزيد ذلك التصرف من عقدة يعاني منها الشعب العراقي بكامله بمعاداته للغرب، ويطل ذلك من حلقة مفرغة، في معاداة الغرب، ويزيد من الحقد بين الشعوب، ويخلق حالة من عدم الاستقرار الدولي، خاصة في تلك المنطقة الحيوية من العالم التي تسمى "الشرق الأوسط"، فمن هو بحاجة لأن يصبح العراق أفغانستان جديدة؟ ومحلَّ مجابهات وعداوات إقليمية ومصادمات بين مصالح القوى العظمى(45). سؤال طرحه الاختصاصي الجيو سياسي فرانسوا تووال. والجواب هو لدى الفكرة القوية القائلة الولايات المتحدة الأمريكية، وحتى بعض المحللين من رجال السياسة الأمريكية أنفسهم، أمثال صامويل هانتغتون إلى ناعوم شومسكي، مروراً بـ "بات بوشانان PAT BUCHANAN ، يعتقدون أن هذه "السياسة المتعجرفة" تنتهي، ضمن مدى ما، إلى أن تتحول ضد الشعب الأمريكي.
رسمياً، تقاد تلك السياسة، باسم الدفاع عن حقوق الإنسان، والقانون الدولي، وقيم "العالم الغربي"، لكن تعلل بصورة رئيسة، بالسياسة النفطية، والغربية للولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، لكن لم يكن بالإمكان شن حرب الخليج مطلقاً قبل سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة التي تبعته، إن الأمر يتعلق باستراتيجية الولايات المتحدة الثابتة التي من أولوياتها "حماية الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة" وهناك أسباب أخرى، للدعم الغربي قدمته بعض الدول العربية، للتحالف الغربي ضد العراق، ومن تلك الأسباب أيضاً، استخدام تركيا التي تحتل جزءاً من قبرص، وبصورة غير شرعية منذ عام
(1974) كقاعدة عمليات لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، وقد أدى ذلك أيضاً إلى إيقاظ موجة معادية للغرب في جميع أنحاء الوطن العربي لا سابقة لها. ومن المتوقع، وحسبما كان يجري في الماضي، أن تصمم الولايات المتحدة وتصر على تدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي في نطاق حرب جيو اقتصادية، كون واشنطن ولندن احتفظتا بإلهام من الحصص الربحية في "العقود" التي قد تجري في المستقبل نتيجة احتلال إمارات الخليج الغنية من قبل القوات الأنجلو- ساكسونية.

والأمر ذاته، بالنسبة لتدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي في يوغوسلافيا السابقة، المبررة بحجج "قيم الغرب" و "حقوق الإنسان"، والمسجلة في نطاق استراتيجية، جيو اقتصادية تهدف منع مرور روسيا للوصول إلى البحار الدافئة وحرمان موسكو من السيطرة على طرق النفط وتقاطع الطرق الاستراتيجية التي تربط الغرب بأوراسيا الإسلامية التي هي القوقاز، أو بلدان البلقان.
والحاصل تعرض بناء أوربا مستقلة للخطر. كل ذلك باسم "حقوق الإنسان" وباسم "القانون الدولي" والاستشهاد بـ "القيم الغربية" وشارك في الأمر هنا أيضاً "كلام حربجي متصنع" في العراق، كما في كوسوفو، إننا نشاهد الحرب الاقتصادية لا تنفصل عن حرب الإعلام، لا بل بالأحرى حرب اللا إعلام، حرب من أجلها، فإن الصور والكلمات والبيانات هي أسلحة حقيقية، أحياناً، أكثر فعالية من القنابل التي تكسبها الشرعية.
¾¾
¡ الهوامش

1-برونو كولسون BRUNO COLSON الاستراتيجية الأمريكية وأوربا، ECONOMICA 1998.
2- ظهرت في مجلة شؤون دولية.
3-توجيه الخطة الدفاعية للسنة المالية (1994-1995)، واشنطن، شباط، (1992).
4-برززنسكي، اللاعب الكبير، أمريكا وباقي العالم، بايارد BAYARD (1997)
5-برززنسكي، المصدر السابق، الصفحات (249-251).
6-مشيل بونيون-موردان MICHEL BUGNON-MURDANT، أمريكا المستبدة TOTALITAIRE L'AMERIQUE، الولايات المتحدة والسيطرة على العالم، 1997.
7-ذكرت في جريدة اللوموند(30) حزيران (1998).
8-ذكرت في جريدة اللوموند (16) تشرين أول (1998)
9-نوعام شومسكي NOAM CHOMSKY ما تحت سياسة العم سام.
10-جاك سورو JACQUES SEUROT "أمريكا للأمريكيين".
11-المرجع السابق.
12-برززنسكي "القوة الأمريكية والاستقرار الدولي" "المؤسسة الخاصة بالبحث الاستراتيجي".
13-المرجع السابق.
14-ماكندر هو الذي اقتبس عبارة (HEARTLAND) من الجغرافي البريطاني جيمس فيرغرييف JAMES FAIRGRIEVE، التي نشرت عام (1915)، الجغرافيا والقوة الدولية.
15-المرجع السابق.
16-باسكال لورو وفرانسوا لوثال.
17- P.M غالوا، جغرافيا، الجغرافيا السياسية، والقوة البحرية والبرية، المدرسة الإكليريكية الوطنية العالية الحربية (11) أيار (1978).
18-غالوا، الجغرافيا السياسية، طرق القوة (بلوم) 1990.
19-ملاحظة بناءة بقوة، جورج كينان، يؤكد في تشرين أول (1945) ليست القوة العسكرية الروسية- السوفياتية التي تهددنا، بل بالضبط، القوة السياسية الروسية.
20-برززنسكي، اللاعب الكبير، أمريكا وباقي العالم. ص (68).
21-غينادي زيو غانوف، روسيا بعد الـ (2000)، رؤيا جيو سياسية.
22-كيسنجر، الدبلوماسية ص (743).
23-كونون، ص (129).
24-ميشيل أوبرسكالسكي "بعض التوقعات لما يسمى بالنظام الدولي الجديد" بروكسل (2-4) أيار 1996) ليبر بلجيك.
25-برززنسكي "قوة أمريكية واستقرار دولي"، مرجع سابق، ص(23).
26-تووال، غاسبيان الجديدة، والرهانات بعد الاتحاد السوفياتي السابق. ص(39) (1998).
27-كولون، مصدر سابق، ملاحظة (58) (كيسنجر).
28-مرجع سابق، ص(151). انظر الملاحظة (50)روشو.
29-ثووال، الرغبة بالأرض، 1999 ص (17).
30-ديانا جونستون، سيد العالم، كوليكتيف 1999 باريس.
31-ثووال، الرغبة بالأرض، "الترتيبات الإمبريالية" ص (30).
32-الشخصيات الرئيسة الأمريكية المتورطة بالشأن القزويني: منهم بيل كلنتون وألبرغور مروراً بمادلين أولبرايت الخ.
33-النفط في القزوين وتعقيداته الجيو سياسية والدولية بالنسبة لروسيا (1992-1999) (الذهب الأسود في القزوين)، تموز 1998. الصفحات (19-22).
34-(بحر قزوين) ومصادره، مجلة الأوبك (5) أيار (1997).
35-منذ زيارة طشقند من قبل وزير الدفاع الأمريكي ويليام بيري، شهر نيسان (1995)، يصبح التعاون العسكري الأمريكي، الأوربي البارز .
36-الشركات النفطية الأعضاء في الكونسورسيوم المكلف باستقلال ثلاثة آبار نفط الأكثر أهمية في بحر قزوين.
37-صوفي شهاب "المصالح النفطية الروسية، رهان آخر في الأزمة"
38-ذكرى في اللوموند 20 تشرين الثاني 1999.
39-مجلة السياسة الخارجية، مرجع سابق ص (427).
40-فاز (15) حزيران 1992.
41-بالنسبة للعام 1999 وحده، قامت القوات الجوية الأنجلو- أمريكان أكثر من (500) غارة جوية "ألف طلعة جوية" النتائج، أكثر من (200) قتلى، آلاف الجرحى، خلال الخمسة أسابيع الأولى لذلك العام، والـ (70) غارة التي شنت ضد العراق، تسببت بإلحاق أضرار أكثر مما تسببت عملية ثعلب الصحراء بشهر كانون أول 1998.
42-الكسندر دل فال إسلاميون- والولايات المتحدة (1999).
43-نيكولابيليه "جمعية الصداقة فرنسا-العراق"
44-" تكاليف الحظر غير مقبولة، إذ نتج عنها (6000) قتيل إلى (7000) من بين أطفال العراق شهرياً، بسبب سوء التغذية 30% من الأطفال من عمر أقل من خمس سنوات، تصريح لجنة حقوق الإنسان (3) شباط (1999).
45-أندريه دوليه، بغداد عام (2000)، أي مستقبل للعراق، تموز 1999.

¾¾¾

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 11-03-2013, 10:27 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي

الفصل السادس :
معركة الاقتصاد، وحرب الاستعلام




لقد أعلنت الولايات المتحدة حرباً اقتصادية على العالم، فهل هذا العالم على استعداد حقاً لمواجهة هذه الحروب الجديدة؟ قليل، بل قليل جداً من زعماء العالم، والحالة هذه، يأخذ الأمور بجدية، إذ ليس لمعظمهم أية ثقافة حول المعلومات الخاصة بالاقتصاد، إذن فإن الأمر يقتضي العجلة من قبل مسؤولينا في المستقبل في دراسة الاقتصاد، خاصة من يهتم بالمشروعات الاقتصادية، من المنتجين ومن الموظفين. وإن الأمر لحيوي جداً، وسيصبح ضرورة بشكل لا يمكن تجنبها عاجلاً أم آجلاً، خلال العشرة سنوات القادمة، حيث سيمثل الاقتصاد أحد الأخطار الرئيسة(1).
الحرب الاقتصادية موضوع البحث
كما هو الأمر في أن يجادل البعض من الاختصاصيين في الاستراتيجية الملائمة للتعبير، المطابقة لذوق العصر اليوم، منذ حرب الخليج، ينكر آخرون، تلك "الحرب الاقتصادية"، كون الحرب مرتبطة حصراً باستخدام القوات المسلحة، طبقاً لرأيهم، "الحرب ليست الشيء نفسه كالمنافسة التجارية"، ويوضح آخرون، مثل لوران موراوييك LAURENT MURAWIEC مدير الخدمات الجيو سياسية، بالقول: "لا يمكن الحديث عن الحرب خبط عشواء"(2)، ويعتبر آخرون، بالمقابل، خصوصاً الجنرال بيشو-دوكلو PICHOT DUCLOT وإدوارد لوتواك، رئيس رتل الفكر الاستراتيجي الأمريكي، أن الحرب الاقتصادية، هي أحد الأشكال الرئيسة للنزاعات الحديثة.
ويمكن تعريف الحرب الاقتصادية، على أنها العملية التي تستخدم فيها دول أو مجموعة دول، الحق الملكي "قوى عسكرية، وزارات، خلايا استخبارية، مساعدات مالية دولية، قوانين، الدبلوماسية، دوائر خاصة الخ"، وأمور غير مباشرة "وسائل الإعلام"، منظمات دولية، منظمات غير حكومية، منظمات إنسانية الخ"، من أجل إخضاع الأسواق، أو المحافظة عليها، لصالح الشركات الوطنية". ولم يعد امتلاك العديد من الرؤوس النووية، في ظروف العولمة، والمنافسة العنيفة بين ثلاثة من الأقطاب الرئيسة للقوى الاقتصادية: البلدان الصناعية في آسيا- بما في ذلك اليابان والصين- الولايات المتحدة، وبشكل أوسع بلدان أوربا الغربية، وبلدان اتفاق التبادل الحر في شمالي أمريكا (ALENA) ، لم يعد يعبر عن القوة، بل الحصة في السوق الدولي، وبنسبة النمو، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي بزعامة الولايات المتحدة في العراق وتدميره، وفي يوغوسلافيا السابقة، ويشهد مفهوم الحرب الاقتصادية، من واقع، أنه لم تعد الكتل الأيديولوجية السياسية، هي التي تتصارع في العالم، بل الدول أو الكتل الجيو- سياسية "وهذا لا يبتعد مطلقاً، كونها حضارية في الوقت نفسه"، هي المتخاصمة والمتزاحمة.
فهل لم يصرح الرسميون الأمريكيون، أنفسهم، أن العالم بعد الآن هو في حرب اقتصادية. وهذا ما اعترف به رسمياً وارن كريستوفر WARREN CHRISTOPHER، أمام مجلس الشيوخ الأميركي في (13) كانون الثاني
(1993) بقوله: "يجب أن يكون الأمن الاقتصادي الأمريكي، مرفوعاً، إلى مرتبة الأفضلية الأولى في السياسة الخارجية الأمريكية (
)، ويجب العمل على تقدم الأمن الاقتصادي بتوفير أكبر قدر من مصادر الطاقة، كما كان عليه الحال في زمن الحرب الباردة". كما لم يتوقف الرئيس بيل كلنتون، من جانبه عن التكرار، وعلى مدى فترة رئاسته أن الأقدمية في سياسته تبقى الدفاع عن المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة". كما أكدت مادلين أولبرايت في (8) كانون الثاني (1999) أمام مجلس الشيوخ، سواء أردنا أم لا، أصبحت التنمية الاقتصادية إلى جانب الأشياء الحضارية، الأرض الرئيسية للمجابهة بين القوى الكبرى والمتوسطة، لما بعد الحرب الباردة، خصوصاً بين الولايات المتحدة وبين منافسيها التجاريين المرعبين الأكثر الاثنين: الاتحاد الأوربي والبلدان المصنعة في آسيا. استمعوا إلى ما يقوله إدوارد لوتوك (EDWARD LUTTWAK): "إننا لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي أمام مبدأ [دعهم يعملون] والعولمة الاقتصادية، في حين تمارس آسيا، وربما أوربا غداً، ما أسميه بالجيو اقتصادية، بعبارة أخرى، المعركة الاقتصادية لصالح بلد واحد، أو مجموعة بلدان واحدة(..). لقد يَسَّر الاقتصاد العالمي، وعلى مدى عملية توحيد طويلة، أو عولمة مشجعة، بواسطة السلم الأمريكي، هو في طريقه اليوم إلى التجزؤ من جديد إلى كتل اقتصادية متنافسة"(3).
لقد أعطت العولمة، في الحاصل، ولادة إعادة انتشار قوى اقتصادية بعيداً عن السماح ببناء مجتمع كوني موحد، وانحصر التوحيد في الأسواق فقط، بعبارة أخرى، في حقل المعركة، وليس الفاعلين فيها، كون الهدف هو الغزو الشامل للأسواق، أيضاً، أو حتى ارتقت "الاتحادات الاقتصادية الإقليمية" إلى مرتبة أفضل من المرتبة الثانية، وحتى وصلت الأسواق المتكاملة تحت علم منظمة التجارة الدولية (OMC) إلى المرتبة الأولى، وتستمر السوق في معارضة الفاعلين الذين يتصرفون في نطاق منافسة محتدمة، لا سيما أنه لم تعد توجد أسواق محمية، وبحيث لم يعد الرهان، الحصول على جزء من منتج معطى، جدير بالاحترام، على غرار ما كان يواجه آنذاك في الثمانينيات
(1980)، ومن كونه الأول، ما عدا واحداً من الجميع الآخرين، كما توضح حالة الميكرو سوفت
(MICROSOFT) في مجال المعلوماتية. ففي أذهان أصحاب القرار من الأمريكيين، وممثلين في منظمة التجارة الدولية، ومن لم يقع هذا موقع الاستحسان لدى المصالح المعادية للتروستات- أي الاتحاد الاحتكاري بين عدد من الشركات للحد من منافستها- التي تتزعزع في أمريكا نفسها، سوقاً هي معتبرة "مفتوحة" وإذن "ليبرالية". مع وجود "احتكار فعلي"، ما أن تصبح الإمكانية النظرية، والاتهامات، معترف بها. وسيستفيد المستهلك أيضاً أكبر فائدة، في مستوى أنظمة الاستغلال، لمكروسوفت MICROSOFT المهيمن، المحرض بجهاز (APPLE) المتخلف(4) وجهاز (LINUX) المُفْترض، بحيث تدخل القسمة العادلة لسوق اللوجيسييك بين المصنعين العديدين، وسمح هذا الطراز الجديد الليبرالي للهيمنة في فهم شراسة الأمريكيين لفرض المنتجات الزراعية، في منظمة التجارة الدولية، من المنتجات معدلة الجينات (TRANSCENIQUES) ، وهي معيار غذاء جديد من أجل الغد والذي سيتغلب بالكامل، وبالتالي للدول الأخرى كالأوربيين، الأسواق الرافضة والهامشية من أجل المنتجات الحيوية (BIO). وفي مثل هذه الظروف من الإفلاس الليبرالي، والتنافس التقليدي، أو نظريات التبادل الحر، وحق المنافسة، لم تعد جميعها أكثر من أسلحة في فن الخطابة موجهة للأوربيين والبلدان المصنعة حديثاً، من أجل تبرير المفهوم الجديد "للحرب الاقتصادية"، و"اقتصاد المعركة". ويبين لوتواك (LUTTWAK) أن الولايات المتحدة مدعوة إلى تحويل نظامها الإنتاجي إلى آلة حرب اقتصادية، إذا أرادت المحافظة على احتلالها المكان الأول في العالم.
فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تسرع في هذه الحرب من أجل المحافظة على وضعها كقوة أعظم، في ظروف عديمة الشفقة من العولمة والمبادلات، وكيف العمل لتطوير مجتمعها بصورة جذرية خلال عشرة سنوات-في وقت هي مهددة بالانطلاقة الآسيوية بشكل خطير- نحو اقتصاد المعركة الحقيقية والوصول إلى مرتبة النصر من جديد على جميع الجبهات، وترتبط من جديد بالنمو والمنافسة؟(5) في الواقع، لقد بدأ كل ذلك منذ نهاية السبعينيات (1970)، عندما تأكد للولايات المتحدة بأنها في الطريق لتصبح محتلة من قبل السيارة والمعلوماتية اليابانية. وهكذا، طُلبَ إلى وكالة المخابرات المركزية (CIA) ، منذ مطلع رئاسة الرئيس بوش، تقديم التقرير المشهور عن اليابان عام
(2000)، مما بيَّنَ العوز إلى المعلومات الفدرالية- أيضاً غطى المعلومات الخاصة بالخطر السوفياتي- فيما يتعلق بالذكاء الاقتصادي، والمشروعات الأمريكية، أيضاً دارت كثيراً حصراً نحو السوق الداخلي. فأعاد كلنتون توجه آلة الدولة نحو المساعدة لغزو الأسواق والسيطرة التكنولوجية المتقدمة، مع الوعي بضرورة الهجوم المعاكس وفي التركيز على التآزر بين آلة الدولة وعالم المشروعات.

ولقد أدى ذلك لإنشاء "مجلس اقتصادي قومي “NATIONAL ECONOMIC -COUNCIL NEC ، النظير الاقتصادي للمجلس القومي للأمن، أيضاً إلى ولادة شبكة دفاع (ADVOCACY NETWORK) (شبكة "للمشورة") وضعت تحت إمرة نائب الرئيس آلغور (AL GORE)، الاختصاصي الكبير بالحرب الاقتصادية، وعلى نحو مبسط، أصبح للمجلس الاقتصادي القومي كمهمة تقديم المعلومات الضرورية لرئيس الولايات المتحدة من أجل استخدامها في الاستراتيجية القومية للتصدير التي انطلقت منذ عام
(1993)، وضمنت للقوة الأعظم الأمريكية، الزعامة التكنولوجية العالمية. وينسق مجلس الأمن القومي الاقتصادي، أعمال الوكالات الاتحادية
وكالة المخابرات المركزية" CIA و مجلس الأمن القومي و مكتب التحقيق الفيدرالي الخ" مع وزارة الخارجية من أجل الكشف عن التكنولوجيات الجديدة التي ستتحكم بالمستقبل، ومن أجل اختيار العروض الدولية الأكثر أهمية، أيضاً، التأكد من أن المشروعات الأمريكية ليست متروكة لنفسها بنفسها، وتستفيد اليوم، من دعم جدي من جانب الدولة الأمريكية، على الرغم من قدوس الليبرالية الأنجلو-ساكسونية. أما مركز شبكة الدفاع فهو مكلف بتحليل المعلومات القادمة أيضاً من إدارة الدولة أي وزارة الخارجية، كذلك من وزارة التجارة. ويقوم ذلك المركز بمراقبة كل شيء، خصوصاً فيما يتعلق بأن الشركات الأمريكية تحافظ على موقع مهيمن ما أن تصبح مشاركة في رهان مهم في مجال الدفاع عن المصالح الأمريكية، مزودة إياها بالمعلومات الأساسية التي هي بحاجة إليها. وطبقاً لرأي نيكولاس هاربيلو NICOLAS HARBULOT وسمح هذا النموذج الجديد من المشاركة بين الحكومة الأمريكية، فيما يقال "غير التدخلية"، وعالم الأعمال، في خلق فرص عمل جديدة يصل إلى (400000) فرصة، وفي زيادة الصادرات بمقدار (25.9) مليار دولار، وتقدر بعض الإحصاءات الأحدث، أنه نشأت (2) مليون فرصة عمل جديدة، أو جرى المحافظة عليها، كما أن مجمل النموذج الجديد، يُكلِّف بإزالة "العوائق" أو الإقلال منها، التي يمكن أن تواجهها شركات التصدير، بفضل تدخل السلطات المركزية، والبيت الأبيض "فقد أقنع كلنتون شخصياً الملك فهد لشراء البويينغ بدلاً من (الإيرباص)، كما وجه رسالة شخصية لرئيس البرازيل لكي يرسو عطاء الرادارات للأمازون من أمريكا". وكون الولايات المتحدة، قوة كونية، فإن الضغوط الممارسة عبر المؤسسات الدولية أيضاً، حيادية نظرياً، هي في الحقيقة موضوعة تحت تصرفها، وتقوم بتنفيذ
ماتطلبه منها:
- المنظمات الدولية للتجارة [منظمة التجارة الدولية، الغات سابقاً، التي تشكلت على أربع مراحل خلال الفترة [1964-1994]، من التبادل الحر، المعمم تماماً والذي جعل السياسة الزراعية المشتركة الأوربية باطلة وجعل من السوق المشتركة مؤسسة دون هدف، والتي توجب عليها أن يحل محلها الاتحاد الاقتصادي والنقدي، والمرور إلى اليورو، أو النقد الأوربي.
- صندوق النقد الدولي [FMI] حيث انتهت البرامج المالية في أوربا الشرقية، وفي جمهوريات آسيا الوسطى إلى أن يعرض عليها كما كان عليه الحال في أوربا الغربية في السابق، إجابات المنظمات المالية للولايات المتحدة والتي منها سيصبح ممكناً بيع النصائح والخدمات والمنتجات الأمريكية بسهولة أكبر).
- بنك التنظيمات الدولية (BRI)مؤلف التقارير العديدة حول أوهام الخطر المنهجي- الذي ينتج عن أنظمة الدفع بسبب أفكار حمقاء لعام (2000) و الذي يعمل من أجل المعايرة المالية، خصوصاً وحدة النقد الأوربي (VEM)، على الطراز الأمريكي.
- منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE)، وهي الشعاع الموجه لنشر المفهوم الأميركي للتبادل الحر، منذ زمن طويل.
- البنك الدولي (المخصص لبلدان العالم الثالث).
- منظمة الأمم المتحدة "الأقل أهلية اقتصادياً، لكن تستخدم أحياناً بهدف مدمر من قبل واشنطن، كما حدث في تقرير عام (1999) حول الهجرة وسوق العمل في أوربا، الذي استهدف إعادة تنظيم سوق العمل، والنظم الاجتماعية الأوربية ضمنياً، وتمتدح فيه أهمية الـ (40) مليون تقني متوسط المؤهلين في الجامعات الباكستانية والهندية.
وفي المستوى اللا شكلي الأكثر، الأقل إرغاماً، والأيديولوجية حصراً، الدعاية الاقتصادية الأمريكية مبدلة بطريقتين رئيسيتين:
- الصحافة الأنجلو- ساكسونية: صحف ومجلات دولية، موالية لأمريكا، بلا قيد أو شرط، لا تقرأ مطلقاً خارج حدود الأنجلو-ساكسون، بطريقة الاشتراك الدولي، مثل الايكونومست ECONOMIST وأسبوع الأعمال BUSINESS WEEK، أو القنال التلفازية (CNN) التي تسكب الأيديولوجية الأمريكية الرخيصة، بلهجة متحذلقة في آن واحد، وهي في الواقع أفضل مصدر لرأي (النخبة) الوطنية في الطريق إلى الأمركة.
ثقافة المشروع الأمريكي، المبثوثة في المجتمعات عبر القوميات الكبرى، ومجالس الاستشارة، لتدقيق الحسابات أم عن طريق المحامين الدوليين، الذين يفرضون أنفسهم شيئاً فشيئاً بالتدريج، على الرغم من ضعف الرواتب والخيارات- على أية حال مرهقة بالتكاليف الاجتماعية- وتفرض بالتدريج كعلامة على النجاح الاجتماعي خارجياً. ولهذه الدعاية الأمريكية كضحية أساسية- في الوقت نفسه للجلادين، لأن الضحايا مدعوين بدورهم للعب هذا دور التقادم في الرأي لدى "الطبقات الدنيا"- والأعضاء هم ما يصفهم جاك أتالي JACQUES ATTALI بـ "الطبقة الأعظم"، أعني، الفضالة من النخبة القومية، ليست أمريكية بالكامل، نذرت نفسها لخدمة اقتصاد الولايات المتحدة، هذه النخبة، جرى تطبيعها أمريكياً، بطريقة ما، لأنها تستفيد من دسم ملائم، من أجل الحصول على بطاقة الإقامة (GREEN CARD)، للعب الدور نفسه لهؤلاء، خارج حدود الولايات المتحدة، الذي يلعبه سكان البلاد والبرابرة الذين منحهم كاراكالا حق المواطنة من أجل ضمان دور الناشر للأخبار أو المخبر في المستعمرات الشرقية في الإمبراطورية الرومانية.
ويجري الدفاع عن فحص الأضابير من قبل الولايات المتحدة، أمام المنظمة الدولية للتجارة(6) "بشأن الموز، والاستثناءات الثقافية، الصويا، والذرة، ولحوم البقر المغذاة بالهرمونات، وكذلك المنتجات الزراعية المعدلة جينياً (TRANSGENIQUE)…الخ"، ضد المنافسين الأوربيين الذين تسببوا بفشل مؤتمر شبيتل (SEATTLE) في كانون أول (1999) فاتحاً الطريق أمام مفاوضات في الدورة الألف لمنظمة التجارة الدولية، والتأكيد على الالتزام والتصميم الأكيد من الإدارة الأمريكية في البحث عن استعلامات اقتصادية لصالح مشروعاتها. ويوضح الأسلوب فيما يتعلق بالصناعات الجوية والصناعات الاستراتيجية من التكنولوجيا العالية المرتبطة بـ (لوكهيد مارتان LOCKHEED MARTIN، مع نورث روب غرومان NORTHROP – GRUMAN (مطلع تموز (1997)، يوضح تماماً الأسلوب المستخدم من قبل الأمريكيين من أجل العمل على خدمة اتفاقيات منظمة التجارة الدولية لصالحها"
(7). في الواقع، ففي حين تعلن واشنطن بصورة منهجية، اغتصاب الأوربيين، تدوس مبدأ التنافس الحر، بحجة أن المساعدات الممنوحة إلى الإيرباص
(AIRBUS) هي (20) مليار دولار. فإن الحكومة الأمريكية "البنتاغون" تساهم في كل عام بـ (140) مليار دولار إعانات مالية، للبطل الجديد، على شكل عقود عسكرية. في المجال الزراعي، كان الأوربيون مجبرين، باسم منظمة التجارة الدولية، على خفض إنتاجهم من المواد الزيتية والحبوب، في الفترة (1991-1992)، في الوقت الذي يزيد فيه الأمريكيون من الحصة المخصصة لهم، والتي يحتفظ بها للتصدير للسوق الدولي. ثم يصلون بعد ذلك بوقت قصير، بأن يشتري الأوربيون من الولايات المتحدة، طعام حيواناتهم، على حساب الإنتاج المحلي، ودون الخضوع للقوانين الجمركية. "ويملك الأمريكيون الآن 50% من السوق الدولي للقمح، مقابل 20% للأوربيين، ويطالب الأمريكيون بحصة أكبر، كل ذلك، مع الهجوم، على ما يسمونه بـ "الحمائية الأوربية"، أثناء المفاوضات، فإنهم لا يخطئون إذا شنوا حملة على هذه الحمائية، هم أنفسهم"(8). وإن مساعداتهم للزراعة ضعف ما تقدمه أوربا، كما أن الأجور لكل مزارع، هي أكثر أهمية للغاية في الولايات المتحدة.
في الواقع، تلعب الولايات المتحدة بمهارة، وذلك بأسلوب الاحتجاج لدى منظمة التجارة الدولية بشان المساعدات التي تقدمها بروكسل أو الاتحاد الأوربي للمشروعات الأوربية، لأن المعونات المقدمة للمشروعات المصدرة الأمريكية، التي يشكو منها الأوربيون، لدى منظمة التجارة الدولية منذ عام
(1998)، ذات قيمة أكبر، مما هي الإعانات المالية الأوربية، وخلافاً قريباً من التجاوز بصورة رئيسة في الخفض الهام الذي يصل إلى حجم أعمال سنوي من حوالي (150) مليار دولار. في الواقع، ربع الصادرات الأمريكية مدعومة بصورة غير مشروعة، عن طريق نظام مالي تفضيلي. وتشجع واشنطن المشروعات التصديرية الأمريكية، بلا قيد أو شرط، بالتهرب الضريبي، ويؤدي هذا إلى انتشار شركات وهمية باسم اتحاد برامج الـ
(WELFARE) (أي الرفاه)، وهي (ستائر)(9) تنشأ في الجنات المالية "الجزر العذراء، بارباد، غوام". وت*** هذه المساعدات المخفية، كل عام، مساعدة مباشرة معادلة
إلى (2) مليار دولار للمصدرين الأمريكيين، من منظمة التجارة الدولية "كوداك، بويينغ، جنرال موتورز، كاتربيلار، كلايزلر، رنيولدز، موتورولا، يونيون كاربايد
الخ".
وعلى نحو موازٍ، فالولايات المتحدة التي توجه النقد اللاذع للمواقف الحمائية من قبل الآسيويين أو الأوربيين، باستمرار، فهي نفسها تنفذ حمائية شديدة، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، فبالنسبة للحمائية المباشرة، تتم بواسطة مجموعة قضائية تسمح للولايات المتحدة بإتباع تلك السياسة: قانون آماتو-كندي، وهلمز- بورتون، يهدف إلى منع استثمار غربي، ليس أمريكياً في بلدان معينة مثل إيران، كوبا، ليبيا، وأقام قانون كوهن(15) عوائق لا تتعلق بالتعرفة فقط، بل تبرر باسم "الأمن القومي" باسم المادة (301) (SUPER)، ويسمح ذلك للكونجرس الأمريكي إصدار مراسيم تؤدي لإجراءات حمائية وحيدة الجانب ما أن يتم اعتبار أي منافس أجنبي أنه ضار للمصالح الاقتصادية الأمريكية الخ". وهناك عدة تشريعات فدرالية، في قطاعات الأسواق العامة، تميز بواسطتها الشركات الأمريكية الحصرية، في حين تمنع عدة دول في الخدمات، بلا قيد ولا شرط، من إقامة فروع لشركات تأمين برؤوس أموال عامة، أو أنها تفرض شروطاً قاسية من أجل تشكيل مجالس إدارة. ولنذكر، مع ذلك، بأن الضرائب على الواردات التي ترغب الولايات المتحدة بخفضها إلى أدنى من مرتبة الـ 10% من أوربا- تتجاوز الـ (15% بالنسبة لسبعماية منتج وخدمات "محمية"(11). أما في الحمائية غير المباشرة، أو "الخفية" فهي أكثر انتشاراً وأصعب على التشكي منها لدى الدعاوى الدولية. في صيغتها المتميزة، كونها عديدة التنظيمات وتشكل حواجز فعالة في عدد من القطاعات، مثل الهواتف النقالة وكذلك الألياف البصرية، مروراً بأجهزة الراديو تلفون، والمعادن غير الخالصة. وهنا أيضاً، أضحت ترسانة مرعبة "مضادة لإغراق الأسواق بتجارة ما" معبأة من أجل تحديد الصادرات الأوربية من الحديد، وذلك بخفضها إلى 10.5% في الفترة (1998-1999). وعلى نحو موازٍ، على الشركات الأجنبية الراغبة في اتخاذ حصص في مشروع الاتصالات TELECOMMUNICATIONS في الولايات المتحدة، أن تجيب على أسئلة إجبارية من (60000) صفحة مكتوبة بالإنجليزية، وتبلغ النية السيئة الأمريكية أحياناً قمماً من الخبث متعذرة الاتهام. أيضاً، في هذا القطاع نفسه، في الاتصالات لا يمكن للشركات غير الأمريكية، المشاركة، في أي حال من الأحوال بنسبة مائوية تتجاوز الـ 20% ، حيث لا يسمح للجنة الاتصالات الفدرالية (FEDERAL COMMUNICATIONS COMMISSION)(FCC) ، المنظمة الرئيسة لتنظيم الاتصالات الهاتفية، بأية مشاركة أكثر أهمية(12)، لأسباب بحجة "الأمن القومي" "وبالإجمال، يوضح الجنرال بيشو-دكلو (PICHOT-DUCLOS) ، بأن كل شيء يجري كما لو أن تحليلاً شاملاً للوضع قد انطلق على جهاز منهجي من الهيمنة الاقتصادية الدولي"(13)، أخيراً، يوجد إلى جانب عملاء المخابرات المركزية القدماء من المسرحين في نهاية الحرب الباردة، فهناك منشآت مثل (NEC) أو مركز الدفاع (ADVOCACY CENTER) ودواوين استماع مثل الـ (BIGG) المشهورة. وتتحرك المهارات الاقتصادية الأمريكية عبر مجموعات لوبي. في بروكسل، تستخدم الولايات المتحدة مئات الأشخاص حيث مهمتهم التنسيق مع اللجنة الخاصة بالاتحاد الأوربي UNION EUROPEEN COMMITEé، فرع من غرفة التجارة الأمريكية المشهورة والمرعبة، أمشام (AMCHAM) المكلفة بالدفاع عن مصالح مئات المشروعات الأمريكية في العالم.
ليست الحرب الاقتصادية منفصلة عن الأشكال الأخرى من الحرب (الإعلامية) والنفسية الخ. وبعيداً عن أن تحل محل النزاعات، فإنها ترافقها، بمقدار ماتبررها، كذلك شوهد ذلك الأمر في حرب الخليج الثانية، بل أيضاً وبطريقة أقل وضوحاً، أثناء تدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي في يوغوسلافيا السابقة، كذلك، تملك القوات المسلحة الأمريكية اليوم، كل شيء، كالسفارات، وخلايا حربية في المعلوماتية (INFO-WAR) كذلك الحرب الاقتصادية. ومن هنا، يتضح أن كل طارئ عسكري أمريكي في العالم يترافق مع مفرزة من "ضباط الشؤون المدنية".
وتساعد الشؤون المدنية على الانطلاق ومساعدة البلدان التي تتعرض للمشاكل والأزمات للخروج منها "كما للولايات المتحدة مراكز مراقبة لمراقبة الاقتصاد المحلي، تسمح باستقبال المعلومات بدقة كبيرة على الأرض، تسمح للمشروعات المدنية على الأثر أن تتمركز في منشآت متنوعة في المستقبل
(
) ، فكانت البوسنة مختبراً جيداً جداً للتجارب الإدارية. وعمل المجلس الاقتصادي القومي، وإدارة الدولة، أو وزارة الخارجية، انسجاماً مع وزارة الدفاع الأمريكية، البنتاغون، من أجل إقامة المشروعات الأمريكية () كما جرى إنشاء روابط وثيقة مع النخبات المحلية"(14). هذا ما يوضحه هاربولو (HARBULOT) وبيشو دوكلو PICHOT- DUCLOS .
في الواقع، القطاعات الأساسية في الاقتصاد الدولي هي سر القوة العظمى الأمريكية، حيث تمر المحافظة على الزعامة الشاملة عبر سيطرة "القطاعات الأعظم" على الأسواق الدولية: النفط، الحبوب، صناعة الأسلحة، التكنولوجيات الحديثة، الصناعات الجوية، التوابع- المعلوماتية، المنتجات السمعية- البصرية، أخيراً الاتصالات.
وتحتل هذه (القطاعات الأعظم)، ومساعدة الشركات الأمريكية للتمركز أو الارتقاء في المقام الأول الدولي، إذا كان ممكناً، تحتل في ذلك وضعاً احتكارياً، وتجري مساعدة هذه المهمات الرئيسة للعقل الاقتصادي الأمريكي، الذي تنفق الولايات المتحدة من أجله (26) مليار دولار سنوياً، وتجرى مساعدة الانتظام الجديد بالتكنولوجيات المتقدمة [التوابع، أنظمة التنصت، التجسس على الانترنيتالخ]، مما يسمح كل ذلك لـ "اقتصاد.. المعركة جمع معلومات استراتيجية، وحتى في تنفيذ "هجمات معلوماتية" تستهدف إضعاف مواقع المنافسين. وكما يبين هاربولو:
"إن ذلك ليس وليد الصدفة، إذا كانت المنتجات والشركات التي تحقق نتائج صناعية مثل آريان (ARIANE)، والميراج، والفالكون، وقطارات الـ (TGV) وطائرات الإيرباص الكهرباء المنتجة نووياً، () هي جميعاً، هدف للهجمات الأمريكية، حسب الأصول، جبهية، أم غير مباشرة ().
ويجب التساؤل أيضاً عن السلطة المذهلة المتحدة الاتجاه التي ظهرت خلال عدة سنوات أمام القضاة البلجيك الذين يملكون أضابير عن طراز وكالات المخابرات المحترفة، التي تهاجم بالتتابع (الرؤساء-المديرين العامين)
(P. D. G) التابع لمؤسسة شنايدر، وداسو (DASSAULT) والكاتل (ALCATEL)، بحجة الفساد"
وهناك أمثلة عديدة أمريكية عن "هجمات النفوذ" أو "الالتفاف" وهي جارية، وبالطبع تشمل نشاطاتها اليابان: ويمكن الإشارة هنا إلى قضية تومسون-الكاتل/- إيتيون، حيث كانت هذه الأخيرة على وشك الفوز بعقود هامة في البرازيل "تغطية بالرادار لمنطقة الأمازون"، لحساب منافسين أمريكيين، كانت اتهمت بالفساد من قبل الصحافة الأنجلو-ساكسونية، الرئيس البرازيلي من أجل نسف المواقع الفرنسية، بحيث يسمح للمنافس رايتيون (RAYTHEON) للحصول على العقود بقيمة (7) مليار دولار، عندما كانت تومسون (THOMSON) وألكاتل ALCATEL على وشك التوقيع مع الحكومة البرازيلية عليها، ويمكن التذكير أيضاً بـ "موضوع بيرييه PERRIER " الشركة التي كانت فرنسية سابقاً وتصدر المشروبات للولايات المتحدة، ثم اتهمت بأن تلك المشروبات تحتوي على مادة البانزين (BENZENE) ، وكما لو أن الأمر كان صدفة وحيث كان المخبر الذي اكتشف آثار البنزين، يحول من قبل المنافس لبيرييه. ودائماً، فهل هذا يعني أن بيرييه قد فقدت مبالغ ضخمة، وبأنها لن تستطيع الانتعاش من جديد، وهكذا انتهى الأمر بأن أعيد شراؤها من قبل نستله NISTLE وأغنيلى AGNELU ولنذكر أخيراً مثال طائرات الميراج الفرنسية، حيث دمرت في البوسنه، طائرة، من قبل الصربيين عام (1995). وفي الساعات التي تلت الحدث، أنتجت أكثر من أربعين قناة تلفاز بالتنافس صوراً للطائرة، وهي غاطسة في الأرض، مع تفسير رئيس "أن أدوات وأجهزة الخداع لم تعمل" في الواقع، إن إصرار الصحافة الأنجلو ساكسونية حول "اختلال" أجهزة الخداع في الميراج، كانت مرتبطة بالمفاوضات الاستراتيجية الجارية في الوقت نفسه مع الباكستان بهدف توقيع عقد ضخم لبيع طائرات قتالية، حيث كانت المنافسة شديدة زد على ذلك، فإن أجهزة الخداع في الطائرة الميراج، لم تكن مطلقاً موضوع خلاف، لأن المدفعية الكلاسيكية، وليس الصواريخ أرض- جو، وهي وحدها "القابلة لأعمال الخداع"، هي التي أصابت الميراج وأسقطتها، وهذا ما يؤكده الجنرال بيشو دكلو PICHOT – DUCLOS لكن الهجمات الإعلامية" التجارية التي تشنها الشركات الأمريكية تمر في أغلب الأحيان عن طريق الصحافة الأوربية، كما جرى التأكد من ذلك في هولاندا، أثناء الصراع من أجل عقد صفقة بين الآباش APACHE من إنتاج شركة ماكدونيل-دوغلاس (MCDONNELL DOUGLAS) والتيجر (TIGRE) الفرنسية-الألمانية، من أجل سوق بقيمة (3) مليار دولار: وأعلنت الصحيفة الهولندية اليومية (التلغراف) أن وزير الدفاع الفرنسي، كان مجبراً على القيام بهبوط إجباري في مارينيان (MARIGNANE) خلال طيران تحقق على الطائرة تيجر، لكن أثبت التحقيق بعد وقت قصير، أن التسجيل المحقق من قبل الأوروكوبتر EUROCOPTER، أن الأمريكيين، قاموا بعملية تنسيق مع هولاندا وبريطانيا العظمى من أجل تنفيذ عقود لشراء الأباش والتقليل من سمعة منافستها الفرنسية(15). أخيراً، كانت مجموعة بول BULL أيضاً التعويض من جملة التعويضات في الحرب الاقتصادية الأمريكية- الأوربية، فقد توصلت الـ (IBM)(16) لإقناع الرأي العام، دون هجوم مباشر، أن بل لم تكن على مقدرة أن ترفع التحدي التكنولوجي.
عندما تتوافق "الحرب الاقتصادية مع حرب المعلومات.
فمع تطور وسائل الاتصال الحديثة وعولمة الاقتصاد، ت*** "السيطرة على شبكات الاتصال، وإنتاج البراغيث المعلوماتية، وحتى تلك الأوراق المقواة السمعية-البصرية، ت*** فوائد أكثر من امتلاك آبار النفط"(17). هذا ما يلاحظه فيليب كوهن. أيضاً، هل تقدم السيطرة التقليدية الشديدة، الخطوة الأولى نحو الهيمنة (الناعمة).
إذا امتلكت الولايات المتحدة، منذ الحرب العالمية الثانية(18)، بالتدريج، "قوة ضارية محررةً"، وإن (J: M. GAILLARD) أضفى عليها التفوق المطلق، في مجال القوة والنفوذ الثقافي. أيضاً يزداد التقدم في "المنتجات" الأمريكية الحالية كل عام، حيث تجاوزت حصة السوق من المنتجات السينمائية الأمريكية في الفترة (1985-1999) حوالي 56% بالمتوسط عن الاتحاد الأوربي، وقريباً من 80% بالنسبة لدخول الصالات السينمائية. ولقد سجلت 35 فيلماً أمريكياً من (40) فيلم أفضل النتائج في قاعات الاتحاد الأوربي"(19).
بالمقابل، لا تقبل الولايات المتحدة، إلا ما بين (1-3)% من الأوربيين في قاعاتها "وقد يكون السبب في خطأ الأوربيين لعدم إنتاجهم أفلاماً ذات قيمة".
ولننظر إلى الأضرار الناتجة عن الحمائية الصامدة لدى الأمريكيين في المجال الثقافي، وجه آخر من وجوه الحرب الاقتصادية. من المعروف، على سبيل المثال، أن الولايات المتحدة تمنع دبلجة أفلامها على منتجي الأفلام الأوربية- وهذا يجعل من المستحيل كل برمجة أوربية كثيفة، فالأمريكيون لا يقدرون الأفلام بصيغها الأصلية. وبالطريقة نفسها "من الحواجز غير المتعلقة بالتعرفة"، فهي تعيق تصوير الحفلات الموسيقية (MUSIC-HALL) الأوربية، لأن التشريعات الأمريكية تمنع على المجموعات أن ت***
موسيقاها
وعلى نحو موازٍ، يصل حجم السوق الداخلي لأمريكا الشمالية حوالي (260) مليون مشاهد أعني، يذهبون غالباً إلى السينما أكثر بمرتين مما يذهب الأوربيون] وتجعل الولايات المتحدة من السينما على قدرات تمويل ذاتي، وعلى التخفيف العجيب من أثر ذلك، في حين أن أسواق أوربا الوطنية التي لا تحصى، هي مجزأة بسبب استخدام إحدى عشرة لغة وطنية مختلفة، لهذا لا تستطيع أن تضاهي السينما الأمريكية. تستطيع المنتجات الأمريكية المستهلكة في الولايات المتحدة وكندا، على الأثر، أن تصبح مباعة في أوربا والعالم، بأسعار يستحيل مناقشتها أو مقارنتها، لكن بربح صاف أو بأسعار أخفض، أو تحويلها إلى (مسلسلات تلفازية).
ويعتقد بعض الأوربيين أن الفرق الأوربي-الأمريكي، قد سوي في المجال الثقافي في كانون الثاني (1993) على أثر مفاوضات الغات "خلال أورو غواي راوند" بالاعتراف بـ "الاستثناء الثقافي" الأوربي، لكن تبين بعد عدة سنوات، أن حصص أسواق الأفلام الأمريكية في أوربا مستمرة بالتزايد، وبأن الأوربيين لم ينجحوا اليوم في إقامة سياسة كوتا، أو الأفضل، إنشاء (قطب) سمعي-بصري أوربي، قابل لأن يصمد ويكافح بأسلحة متساوية مع صناعة السينما الأمريكية.
تستخدم الولايات المتحدة، إلى جانب منظمة التجارة الدولية، أدوات ضغط متعددة الجوانب الأخرى لتعزيز وضعها الاحتكاري الدولي، تجبر العالم على فتح حدودهم، باسم الليبرالية الكونية الهجومية، مثل الاتفاق متعدد الجوانب الخاص بالاستثمارات (AMI) والمعد في نطاق منظمة التعاون والتنمية الأوربية (OCDE) التي تجبر الدول الموقعة على إزالة جميع الحواجز الجمركية، يحقه بنسبة (كوتا)، وبالإعانات المالية، القادرة على إعاقة المنافسة، بمقتضى تشريع أمريكي، ويشمل المجال الثقافي. والحالة هذه، فإن معاهدة الاتفاق متعدد الجوانب (AMI) أثارت ردود فعل نشيطة من الرفض في نطاق العالم الغني الأوربي، وأحياناً، تشارك فيه الطبقة السياسية(20)، وكتب جاك لانغ JACK LANG : "تقبل بلادنا، بصورة سلبية جداً، في أحيان كثيرة، بعض الغزو، وبعض التخريب، على صور، خلقت في الخارج، وموسيقى موحدة النمط () تنجر الثقافة، وتنقل طراز حياة مضطربة، وترغب بعرضها على سكان الكرة الأرضية بالكامل"(21). إن الحضارة الإنسانية، كونها كما هي، في تنوعها، تتعرض لخطر أن تختفي في هاوية القرية العالمية الأنجلو-ساكسونية "وذلك بإغراق السوق العالمي، بالمنتجات السينمائية والتلفازية، ويجبر المنتجون على خنق الإبداعات الوطنية، مع إفراغ المحتويات الثقافية التقليدية الوطنية بالتدريج، لتحل محلها تلك الأيديولوجية الأمريكية() ويتعلق الأمر بآلة عجيبة، تغمر الكرة الأرضية بصورة عدوانية، وهي تنقل أيديولوجية جذابة، بمساعدة مليارات الدولارات"(22). في الحقيقة، خلف هذه الثقافة الكونية الأنجلو فونية (فالمثقفون الأنجلو-ساكسون، هم أنفسهم مرتبكون أمام فقر مفردات اللغة من (300) كلمة مستخدمة في الإنتاج الأمريكي"، وهي مقدمة تظهر على أنها (حيادية) وقد نجحت في خلق "هيمنة القوة الأعظم الأمريكية". ولقد اعترف الاستراتيجي الأمريكي، زبيغنيو برززنسكي، الذي يستحق أن يعبر عن الأمور دون لف ودوران، اعترف نفسه، أن "الطبيعة الجوالة للمجتمع الأمريكي سمحت للولايات المتحدة إرساء هيمنتها في العالم، بسهولة أكبر، دون أن تترك الهيمنة الثقافية للولايات المتحدة، لكي تظهر خاصيتها الوطنية بحصر المعنى()، وأصبحت مظهراً أقل من حقيقتها شاملة، حتى الوقت الحاضر. ومهما اعتقدنا بصفتها الجمالية، تستمر الثقافة الجماهيرية الأمريكية في ممارستها تضليلاً لا يقاوم، على السياسة خاصة، وتغذي البرامج الأمريكية ثلاثة أرباع السوق العالمي في المجال التلفازي والسينمائي. وهكذا تجني الولايات المتحدة من هذه الفوائد() وجاهة سياسية وهامش مناورة لا مثيل لها"(23)، والرهان إذن، هو السيطرة على الاتصالات الكونية، لا أكثر ولا أقل، وفي هذا الاحتمال، يندمج المايكر وسفت بالتحالف مع (IBM) من أجل ضمان الهيمنة المطلقة على السوق العالمي في مجال الحواسيب. ويلعب التلفاز هنا، بفضل السيطرة على التوابع، دوراً رئيساً، لأنه مع شبكة الـ (CNN) التلفازية، على سبيل المثال، وهي القناة الأولى الكوكبية تغرق تد تارنر TED TARNER أكثر من (80) مليون منزل في أكثر من (142) بلد "بمعلومات هي عيون وأصوات الولايات المتحدة"(24). وتسيطر الولايات المتحدة، بفضل الصحف الرئيسة التي تلعب دوراً هاماً في المواجُة ☧لدولية ,النيويورك ثايمز نيويورك هᙊرالد تܱبيون) ڥلᙉ الدۈريܧت "ريدذگايجػت، ناصيшنال جيوغرافيᙃ0ماغازين، بلاي بوي تايم، цيوزوɊك" إ䙄ى شبكئЪ التلفاز (TNT- CNN, ABC䀬 NBC)䀠إلى ☣قمارها الصناعية [دايركت- TV، للاتصالات أسترا وكارتون-نتوورك من تد تارنر] الخ، إلى وكالات الأنباء [أمريكان برس، أسوسييشن برس، يونا يتدبرس انثر ناشيونال، تسيطر على 95% من الأخبار الدولية" دون أن ننسى السيطرة التكنولوجية على الاتصالات المتقدمة [ميكروسوفت وتفرعاتها، أوراكل، نتسكيب للوجسييل انتل، سيريس- AMD، آبل- IBM. وتمتلك الولايات المتحدة سلطة ذات مدى لا يقبل الشك، تسمح لها بقولبة فكر عدة مليارات الأفراد، بالنسبة للإجراءات (COM) الخاصة بالمنتجات (HAND HELL)، ونظام الترميز وفك الرموز
(CLIPER- CHIP)، وشبكة الكابلات (TCI). و(TIME WARNER) ، و U.S. WEST و VIACOM-PARAMOUMT .
فهذه هي الطريقة أو الوسيلة للوعي الثقافي، والطبائع والمعلومات والسياسة، واستخدام القوة، التي يدخلها الأمريكيون في الرؤوس(25).
وكما يلاحظ فيليب كوهن PHILIPPE COHEN بالضبط، فإن النتائج الثقافية الأمريكية، هي من صنع "العواطف الأمريكية"، إذ تُعدّ ليس فقط الأذهان ووجهات النظر الأمريكية، بل تدفعها إلى التطابق مع الولايات المتحدة ومصالحها، بحيث تنتهي الشعوب المستهلكة، إلى فقدان رؤية الإحساس بالمصلحة القومية، دون حتى الأخذ بالاعتبار بها، وتصبح واهنة لا شعورياً- بل مطواعة للولايات المتحدة، وربما أن الـ (BLUE- JEAN) والـ (ROCKN-ROLL) (الروك أندرول) بالأمس، والـ (NAVIGATOR)، والـ PLAY STATION، وحتى الحلقات التلفازية (FRIENDS)، ربما هي أكثر حسماً من السلاح النووي من أجل تأسيس هيمنة أمريكية جديدة()، ويتعلق الأمر بالعبور من السيطرة المباشرة إلى النفوذ. فأمريكا تهيمن على أربعة أخماس السينما العالمية، ويشكل هذا التأثير الأكثر خيالاً، على الخيال العالمي(26)، في الواقع، ليس النفوذ الثقافي، (قوة ضاربة) حقيقية، وحسب بل ليس سوى الترجمة الناعمة أو المقنعة للإمبريالية- حتى الكلياتية- المعاصرة، التي تترجم التعابير الدارجة، من الآن وصاعداً لا "الكلياتية الرخوة" أو "القوة اللينة"، "POWER SOFT .
أما ما يتعلق بالانترنيت، المتمفصل حول الولايات المتحدة فهذه الشبكة العملاقة للاتصالات، قد أصبحت الدجاجة التي تبيض ذهباً للاقتصاد الأمريكي، على أي حال، عامل لرفع القيمة، أو التحرز من التصرفات التأملية المشابهة لذلك العقار، دون أن يترافق لهذا بإنتاج حقيقي، كما يجعل الانترنيت، بفضل اللغة الإنجليزية وبساطة إجراءاتها، يجعل الانترنيت حافظة للعالم، وهي ساحة رئيسة لاقتصاد ذكي للولايات المتحدة، وبعدها للتجارة الدولية.
وشكل توزيع المعلومات المفتوحة على الانترنيت، في عام (1999) في مجال النشاط، من 53% فيما يتعلق بالتجارة "في الوقت الحاضر تزيد الخدمات القائمة، على تجارة البضائع"، وللأبحاث 27% و 5% للتربية، و 9% حكومية، و 6% للمتنوعات. والحالة هذه، فإن الانترنيت، هو الأول، الذي يطلع،†على المشروعات الأɅريكية، وعلى الأزمات耠والتغييرات Ɉ䘷راز الأذواق أو التحول فيها☌ والتي تتᙃيف مع الأسواق العالمية، وفي مجܧل الحماي☩ وال䘣من، مالأمذيكيون، هم، ♁ي الوقЪ نفسه܌(سادةဠالـعڨة؄ فالشركات مثل (ROSS(ENGI䁎EERING)، قادرة على اقتراح†نماذج ܩلاية فعالة للمشروعات والإدارات في العالم أجمع "طريقة أخرى للسيطرة على هذا العالم وفي فك رموز هذه الرسائل بصورة أفضل، إذا تأكدت ضرورية"(27). إذ تمتلك الـوكالة الأمن القومي(NSA) في الواقع مفتاحاً، يعطيها طريقاً إلى الوظائف المرمزة لكل حاسوب مزوداً بنظام كشف الـ (******S) (95، 98، 2000، NT… الخ).من المكروسوفت، بعبارة أخرى، حوالي 90% من مربد المعلوماتية العالمي و"يمتلك الأمريكيون في الواقع، التقنية للتسلل إلى الشبكات الأجنبية، إذ يوجد تتبعات مخفية للـ (******S) والمكروسوفت، حيث الهدف هو استعادة المعلومات عن المستخدمين للحواسيب"، ويوضح مارسل فيغورو (MARCEL VIGOUROUX) ، رئيس اللواء المركزي لردع الجريمة المعلوماتية (BCRCI) بقوله:
"جرى ترك الأمريكيين يعملون كل شيء ابتداءً من المكروسفت، حتى اللوجسييل"(29).
أخيراً، تسيطر الولايات المتحدة، في الوقت نفسه، على الصور بفضل التحليل الوطني للصور ووكالة وضع الخرائط التي تجمع في (FAIRFAX) في فرجينيا، حوالي (10000) مستخدم، وهذه الوكالة متخصصة بصورة أساسية لتوزيع الصور الفضائية بالنسبة لوكالة المخابرات المركزية (CIA) ووزارة الدفاع (البنتاغون)، وذهبت حتى أن تأخذ على عاتقها، بعد سنتين في السيطرة على تدفق الصور والرسوم التجارية ولتصبح نقطة المرور الإجباري للصور المدنية، حيث لا تتوقف بالضرورة عن التزايد مع عولمة
المبادلات"(29).

ويستند صراع المعلومات "أو الحرب المعلوماتية" في الواقع، في جزء كبير على الطرق الفضائية، وهي الطريقة الرئيسة الحديثة لاستقبال ونقل وتوزيع المعلومات. فكان أثناء عمليات التنسيق والاستعلامات والضربات الجوية، التي قامت بها منظمة حلف شمالي الأطلسي في كوسوفو خلال الفترة من شهر آذار وحتى حزيران (1999) أكثر من (50) قمر اصطناعي، مشتركاً بصورة مباشرة، كما كان، على الأقل، ما بين (15 إلى 20) نظام فضائي متنوع مستخدم في الاستعداد للهجمات وتنفيذها، لقد أصبح الاستعلام الفضائي إذن مُضاعفاً للقوة، على ثلاثة مستويات استراتيجي وتكتيكي وعملياتي، لفائدة القوة الوحيدة التي تسيطر على التكنولوجيات الفضائية أي الولايات المتحدة. فإذا كان الاستعلام أساس كل عمل عسكري، فإنه من الضروري التأكد أن وسائل الاستعلام الفضائية غير الأمريكية، خلال حرب كوسوفو، كانت تافهة أو لا معنى لها تماماً. ولقد كان (حلفاء) الأمريكيين، استعدوا بعناية في الأمور الأساسية، إلا أنهم لم يؤثروا مطلقاً على أي قرار رئيس، على طول عمليات القوات الحليفة. ولم يكن لدى الأوربيين سوى قمر واحد وحيد في مداره، ولم يستخدم من قبل الولايات المتحدة أثناء الحرب، بل شارك الأوربيون في تدخل مسلح كونهم عميان من الناحية العملياتية، محرومين من الرؤيا الشاملة في مسرح العمليات، في حين تملك القيادة الأمريكية، على العكس، كل وسائل الرؤيا [لهذا تمر قدرة أوربا على امتلاك مصيرها، عبر وجود قوة عسكرية أوربية، لكن سوف لن ترى النور، عما قريب]. مع ذلك، سيكون اتخاذ خطوة تمهيدية حاسمة نحو إصلاح الاستقلال الذاتي، في اتخاذ القرار على جميع المستويات، بإقامة قوة عسكرية متكاملة، في الوقت نفسه إننا، قوة قتالية متكاملة، أكثر سهولة"(30). وهذا ما يبينه جاك بلامون JACQUES BLAMONT مستشار المدير العام للمركز القومي للدراسات الفضائية (CNES). أيضاً، هل هو محزن أن تكون ألمانيا، القوة الاقتصادية الأوربية الأولى، أن تكون تحت ضغط الولايات المتحدة، حيث هي الحليف الاستراتيجي الأساسي في أوربا الغربية داخل منظمة حلف شمالي الأطلسي، مع ذلك فإنها ترفض الاقتراحات الفرنسية المتعلقة بتمويل برنامج القمر الاصطناعي (HELIOS-2 - HORUS) ، مع أنه متواضع للغاية، لأنه لا يشتمل إلا على ثلاثة أقمار اصطناعية رئيسة وقمرين رادار، حتى عام (2015) "ولكل رادار مدة حياة محدودة بثلاث سنوات".
شبكة (ECHELON) أو آذان الـ (NSA) في أوربا:
يجب أن تكون هناك علامة خاصة تماماً مخصصة لبرنامج التنصت الفضائي، بخصوص الرابط بين التجسس الاقتصادي والتكنولوجي عن طريق الأقمار الاصطناعية، الأنجلو ساكسونية والمعمد تحت اسم (ECHELON) "السلم" والمصمم من قبل (NATIONAL SEURITY AGENCY)(NSA) وكالة الأمن القومي(31).المركزية للمعلومات الإلكترونية الأمريكية في الأصل كانت مصممة لمراقبة الاتحاد السوفياتي السابق، كما نجمت شبكة (ECHELON) عن ميثاق للاستعلامات، سمي (USAKA) ، يجمع خمسة بلدان أنجلو-ساكسون، تتقاسم نتائج برنامج التجسس: بريطانيا العظمى، كندا، زيلاندا الجديدة، استراليا، الولايات المتحدة، وكون هذه الأخيرة الوحيدة التي تسيطر على الشبكة بالكامل، كذلك، أقيمت سلسلة عالمية من محطات التنصت حول الكرة الأرضية بالكامل بهدف اعتراض شبكات الاتصالات الدولية ونقل المعطيات المتلقاة إلى القيادة العامة في الـ (NSA) في الولايات المتحدة في (FORT MEADE)(MARYLAND) وسمح هذا النظام للمراقبة الشاملة وكالة الأمن القومي (NSA) ، بفضل طاقات حواسيبية وبمساعدة عقدة من
(120) قمراً اصطناعياً، ينقل بواسطتها أضخم جزء من الاتصالات الدولية- لالتقاط وتحليل المراسلات الالكترونية بكاملها، محادثات هاتفية، فاكس في كل أنحاء العالم.

أيضاً، يمكن للـ (ECHELON) التقاط حوالي (100) مليون رسالة بالشهر، وليس أقل من (2) مليون اتصال خاص في اليوم، في آن واحد، مختارة بفضل نظام ذكي اصطناعي قائم على كلمات وتصورات أساسية مودعة في (القواميس).
ثم أصبحت (ECHELON) ، رسمياً مخصصة لمكافحة ما يسمى بالإرهاب الدولي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق، بل وكما تكشف عن ذلك لجنة الحريات وحقوق المواطن في البرلمان الأوربي في تقرير مقدم في ستراسبورغ بتاريخ (22 و 23) شباط عام (2000)، تُخصص (ECHELON) كأفضلية أولى للتجسس الصناعي والاقتصادي على نطاق واسع، وذلك في نطاق الحرب الاقتصادية بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة. وتمت معرفة حالتين للتجسس رئيسة، مسندتين إلى شبكة الـ (ECHELON) موجهتين إلى الإضرار بالمصالح الاقتصادية الأوربية وهي معروفة:
إحداها مخصصة لتومسون التي فقدت أكثر من مليار دولار لحساب شركة أمريكية في مشروع الغطاء الراداري للأمازون، والأخرى للإيرباص، حيث خسرت عقداً مع العربية السعودية لصالح البويينغ.
ويظهر الصحافي البريطاني دونكان كاميل DUNCAN CAMPBELL المتخصص في شؤون التجسس، بالتفصيل، في التقرير المعنون [قدرات الالتقاط للعام (2000)](32)، يصف فيه "حالة التقنيات للتنصت في العام 2000" الجارية بناء على طلب مجموعة العمل بالاتحاد الأوربي الـ "الخيارات العلمية والتكنولوجية المساعدة" (STOA)، يظهر كيف أن كل دولة مساهمة في البرنامج، عندها معرفة كاملة بالسبب، تسمح لوكالاتها السرية و/ أو بعض الوزراء، ولكل استقصاء وطلب كل مادة تجنى، لها أهمية في النظام الاقتصادي. كذلك، هل تؤدي الـ (ECHELON) خدمة للتجسس على أهداف مدنية خاصة: نعم حكومية منظمات من جميع الأنواع، مشروعات تجارية أو صناعية، معاهد وشركات ذات تكنولوجيات عالية الخ. وطبقاً لآلان بومبيدو ALAIN POMPIDO، رئيس الـ (STOA) (الخيارات العلمية والتكنولوجية المساعدة". سيصبح 80% من التنصت الذي تقوم به شبكة (ECHELON) مطورة أيضاً لغايات تجسس صناعي، ومن جهة نظر المصالح الأوربية، إن ما يبدو مدهشاً في موضوع الـ (ECHELON)، هو ليس كون الولايات المتحدة تتجسس على الأوربيين، كظاهرة عادية بين خصوم أو متنافسين اقتصاديين، لكن بالأحرى، واقع أن تستخدم عضواً كامل العضوية في الاتحاد الأوربي، المملكة المتحدة، و "علاقاتها المتميزة" مع واشنطن للتجسس على شركائها الأوربيين الخاصين. والأفضل أيضاً، وكشف عن ذلك تقارير البرلمان الأوربي، ووثائق سرية أمريكية مصنفة(33)، وستكون وكالة الاستخبارات الالكترونية التابعة للمملكة المتحدة، قيادة سلطة الاتصالات (GCHQU)، حلقة في سلسلة أساسية في نسج نسيج من وكالة الأمن القومي (NSA) متمركزة في شلتنهام (CHELTENHAM) (GLOUCESTERSHIRE) . وتستخدم الـ (GCHQU) (15000) عامل لمهمات تلقي ونقل المعلومات الأجنبية وحماية الاتصالات، يضاف إلى ذلك، هناك العشرات من المراكز المتخصصة في إنجلترا، خصوصاً تلك (MENWITH HILL) ، المركز البريطاني، الذي قام بنشر محطات تنصت في (BELIZE)، في جبل طارق، في قبرص، في عُمان في تركيا، وأستراليا. أخيراً، يبرهن هذا الموقف، على التناقض، على الأقل، لبريطانيا العظمى في نطاق الاتحاد الأوربي، فإن الـ (GCHQU) مرتبطة بـ (NSA) عبر فرقتها (Z)، من الناحية البنيوية، ومهمتها هي وضع نفسها تحت تصرف شبكة الـ (NSA) لمحطة ربط في أوربا، في الحالة التي تمنع فيها التقاط الاتصالات الخاصة، من قبل أجهزة الفضاء في الولايات المتحدة، على المركز الأمريكي، حيث تمنع الأنظمة ذلك بشكل رئيسي.
ولقد وضح ويليام سيسيون (WILLIAM SESSIONS) المدير السابق الـ (FBI)، في مقابلة صحفية مع الـ (NEW STATESMAN)، أنه في ظروف الحرب الاقتصادية، فإن "قوة ما، هي الآن، أو ستكون في المستقبل، الحليف أو العدو للولايات المتحدة، ليس حسب الضرورات العسكرية فقط، بل أيضاً، وخصوصاً، لنتائج المراقبات التي ستحصل عليها الولايات المتحدة، عن طريق وكالات المخابرات، في المجالات العلمية والتكنولوجية والسياسية والاقتصادية(34). وبعبارات واضحة، فإن ذلك يعني، أن قوة ما، حتى إذا كانت (حليفة) لواشنطن، في نطاق منظمة حلف شمالي الأطلسي، ومن العالم الغربي، وحتى إذا كانت تشكل "رأس جسر للولايات المتحدة في الأوراسيا، ستعتبر كعدوة، كما يمكن للاتحاد الأوربي أن يتعرض لصواعق الولايات المتحدة". ويوضح الأمريكي فيليب زيليكوف (PHILIP ZELIKOV) في كتابة (المخابرات الأمريكية وعالم الاقتصاد) (THE AMERICAIN IN INTELLIGENCE NAD THE WORLD ECONOMY) الصادر في نيويورك عام 1996.

يجب أن تشكل المعركة الهدف الذي له حق الأولوية في الاستراتيجية القومية للأمن الأمريكي لتكون أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية.
ويعثر من جديد في هذه الفرضية، المعبر عنها بوضوح لدى لسترتورو (LESTER THUROW) عالم الاقتصاد الأمريكي المشهور من معهد ماساشوست للتكنولوجيا “MASSACHUSETTE INSTITUTE OF TECHNOLOGY)(MIT) ، مؤلف كتاب (رأس لرأس) (HEAD TO HEAD) : (أن المعركة القادمة ستكون بين اليابان، أوربا، وأمريكا) (الصادر في نيويورك عام (1992))، فطبقاً لثورو في النظام الدولي الجديد، فإن الولايات المتحدة التي تسيطر على أكبر الأسواق، فهي التي تحدد القواعد السياسية العامة، في الوقت نفسه. ونفهم من ذلك، وعلى نحو أفضل، إذن، لماذا يمنع الأمريكيون الدول التي تشارك في شبكة التنصت الشامل (ECHELON) للوصول إلى جميع المعطيات التي يتم جنيها. "والمقلق الأكثر في هذا الموضوع من شبكة الـ (ECHELON) هو أن تستغل الدول، بلا حق (NON-DROIT) منطقة ما وتنتهك القواعد التي ستكون موجهة للتطبيق من أجل الجميع، بفضل بعض الوسائل التقنية القوية(35). هذا ما يوضحه دافيد ناتاف (DAVID NATAF) المختص في مواضيع الأعمال الإجرامية.

حرب الإعلام
لقد كتب ألكسي توكفيل (ALEXI TOCQUEVILLE) ، في كتابه (الديمقراطية في أمريكا) (DE LA DEMOCRATIE EN AMERIQUE) الصادر عام (1835). ما يلي:
(لقد ضرب الاستبداد، في الحكومة المطلقة فقط، الجسم بخشونه من أجل الوصول إلى الروح، وأفلتت الروح من ضرباتها، ونهضت فخورة فوقه، لكن، ليس هنالك إلا القيام بالطغيان في الجمهوريات الديمقراطية، يترك الجسم ويذهب مباشرة للروح() لقد فضحت الأنظمة الملكية المطلقة الاستبداد، حذار من يرد الاعتبار للجمهوريات المطلقة".
إن الاستراتيجية الأمريكية في البلقان وفي أوراسيا، هي زُريدة أساسية في (الاستراتيجية القومية والأمن) المعبر عنها من قبل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، وهي مرتبطة على نحو وثيق (بحرب الإعلام) الشعاع الموجه الحديث للحرب النفسية والتخريب التقليدي. والحالة هذه، فالولايات المتحدة هي أكثر تقدماً من الأوربيين، في هذا المجال، وبأنها لا تبالغ إذا قالت إن أحد أسرار القوة الأعظم الأمريكية تكمن في السيطرة على الإعلام، وإذن على الوعي، ومن ثم على (إسنادات) (القوى المحركة للتاريخ) الحقيقية. وطبقاً للأميرال بيير لاكوست (PIERRE LACOSTE) ، الرئيس السابق للـ"الإدارة العامة للأمن الخارجي" (DGSE) (أن الولايات المتحدة قد جعلت من حرب الإعلام، أحد العناصر الأساسية في (الثورة في المواضيع العسكرية) وقامت بدور مهم في النظرية الاستراتيجية الجديدة في نهاية القرن العشرين
(
)، وإن (الدوائر)، ليست هي الحصرية في حرب الإعلام، بل استخدمت (منها) الكثير من الفاعلين الآخرين، عامين وخاصين: الأداة الحكومية، الدبلوماسية، الأديان- والأديان المنتحلة (على سبيل المثال الطوائف الأمريكية في روسيا) والمصالح الخاصة، القوى الصناعية والمالية"(36).
لقد ترجم كل ذلك بالتعبير الأمريكي عن حرب الإعلام، تحت (عبارة تكنولوجيا الإعلام) (حرب إعلامية) أو ما يسمى بـ (توجه الحرب) (CYBERWER) (الكترونية وإعلام) و (حرب نفسية)، هذا ما يوضحه لوران موراوييك (LAURENT MURAWIEC) (مدير إدارة الجغرافيا السياسية)(37). والحالة هذه، فقد فهم الأمريكيون، منذ زمن بعيد، أن عمليات الحرب النفسية التقليدية، تشكل " التسبب في آن يفقد سكان الخصم حس التوجه"، والتمكن من أن يصبح هذا الحس المفقود مبنى أيضاً في التكنولوجيات الجديدة لقياس المهمات المباشرة (TELEMISSION). وفي الحرب الالكترونية والإعلامية (CYBERWAR) . أيضاً، توجد في الولايات المتحدة، منذ عدة سنوات جامعة (جامعة الدفاع الوطني) التي تمنح دبلومات (محاربين في الإعلام) ويتم تدريس طرق متعددة الاختصاص فيها، ومجهزة تجهيزاً لأبعد الحدود، وتستهدف زرع حقائق كاذبة وإدخال حركات خداعية نفسية-ثقافية"، وسياسات تذهب باتجاه (المصالح القومية الأمريكية). أيضاً فكرة (حرب الإعلام) هي أن يقال لما يسمع، في أغلب الأحيان، حصة "المعاداة للأمريكيين البدائية" أو "مشايعين آخرين" "النظريات المؤامرة". في الحقيقة، ليست العمليات النفسية في الولايات المتحدة وكذلك الحرب الإعلامية، أدوات، من بين الأدوات الأخرى فقط، بل لها أهمية أكثر من العمليات العسكرية التقليدية، لأنها تبنى، وتتقدم عليهما. باختصار، فإن العمليات النفسية، تُقَرُّ من قبل البيت الأبيض نفسه. من ثم تصمم وتدار من قبل مكتب مركزي للاستعلامات وإدارة العمليات النفسية التابع لوزارة الدفاع: وكالة الأمن القومي، وكالة المخابرات المركزية، وزارة الخارجية، كذلك، وكالة الإعلام الأمريكية مع جميع تفرعاتها "روابط أقمار اصطناعية دولية، محطات راديو وتلفاز". أيضاً، (فالحرب الإعلامية)، هي حرب هجومية بمقدار ما هي دفاعية، على نحو تمتلك جميع الجيوش الأمريكية اليوم خلايا متخصصة في (علم الحروب)، ويتعلق الأمر، بمركز الإعلام بالحرب الجوية، يتمركز في القاعدة الجوية في كيلي (KELLY) في تكساس، السرية (609) للحرب الإعلامية، التابعة لجيش الجو الأمريكي، من المجموعة الرابعة للعمليات النفسية للجيش الجوي المتمركز في (FORT BRAGG)، في كارولاّين الشمالية وكذلك مركز حرب الإعلام التابع للبحرية (FIWC) ، أو أيضاً قيادة توجيه الحرب (CYBERGUERRE) بين الجيوش الموحدة (JSIWC) في نورفولك وفي فرجينيا.
ولقد كشف مراقبون عديدون الدور النشيط لخلايا وكالة المخابرات المركزية والبنتاغون بمناسبة حرب الخليج، وكذلك في يوغوسلافيا السابقة، المكلفة بالقيام بعمليات (الحرب الإعلامية) مثل (EAGLE) المتخصصة في نشر صور (منقحة) أو (معالجة من جديد)، مثل الطائرة الخاصة (COMMANDO SOLO) ، التي تكلف ببث برامج محطات الراديو القرصانية، كذلك الشركات الخاصة المتعلقة بـ (العلاقات العامة) (RUDER FINN) ، حيث تكون المهمة تكدير صور الخصوم، ورفع شأن الأطراف الأخرى المتواجدة، وتذهب أحياناً، حتى العمل على وضع الجرائم المرتكبة من قبل الأصدقاء على ظلم الأعداء، وإثبات ذلك باختيار وتركيب مشاهد مصورة (MONTAGES).
الصحافة والإعلام طريقة وكالة المخابرات المركزية
و (10) داونينغ ستريت DOWNING STREET
تشكل وسائل الإعلام الأمريكية أحد الحلقات الأساسية في استراتيجية الهيمنة (المتكاملة) للولايات المتحدة، بالاستفادة من حرية التعبير الضخمة التي تتمتع بها بعض الصحافة الأخرى في العالم. فإذا كانت محل انتقادات في أغلب الأحيان، تجاه مكانها، فإنها لا تقل تأثيراً على حب الوطن والوطنية بشكل خاص، يجعلها أكثر قابلية للتأثير على نحو طبيعي بأنواع من التعاون مع أوساط الاستخبارات. تعاون، يكون أحياناً تلقائياً، وأخرى بنيوياً، ولقد اعترف جون دوتش (JOHN DEUTCH) مدير وكالة المخابرات المركزية عام (1996)، بأنه (استخدم) صحافيين رسمياً كجواسيس، لأنه من الناحية الأساسية، فإن وكالات الصحافة الأنجلو-ساكسونية هي المعنية الأولى، كمصادر أصلية للإعلام الإعلامي (MEDIATIQUE):
من المعروف على سبيل المثال، أن أكثر من (400) صحافي تابع لوكالات الإعلام الأمريكية، وهي (وكالة الصحافة AP ووكالة الصحافة المتحدة UPI و NBC، وحتى تعمل بعض وكالات الصحافة الأجنبية بصورة سرية لوكالة المخابرات المركزية (CIA)، وكذلك الأمر بالنسبة لعدد من الصحف الكبيرة، مثل النيويورك تايمز، أو واشنطن بوست مروراً بالنيوزويك، على نحو موازٍ، ليس من النادر مشاهدة الجنرالات القدامى في الجيش أو الدوائر الخاصة، المسمين على رأس سلسلة من محطات التلفاز في الولايات المتحدة مثل (WORLDNET) و (TV ROCK) و (CNN) و (MTV)… الخ، أو محطات الراديو، مثل: (صوت أمريكا) والراديو الحر في أمريكا، وراديو ليبرتي، الخ) ويوزع صوت أمريكا، على سبيل المثال، برامجه الإذاعية مجاناً، والمسجلة على أشرطة على آلاف محطات الراديو في العالم، في الوقت نفسه، يذاع العديد من النشرات الإعلامية، في حين تخصص وكالة الأنباء الأمريكية U.S INFORMATION AGENCY(U S I) ، ملايين الدولارات للعمليات النفسية-الإعلامية، أما ما يتعلق بـ (CNN)، من المعلوم أن هذه المحطة التلفازية الأمريكية الدولية، تستخدم عسكريين من ذوي الاختصاصات في العمليات النفسية. إذ عمل ويعمل منذ حرب الخليج ويوغوسلافيا السابقة، أشخاص من المختصين في العمليات النفسية" وهم ضباط يعملون في مراكز الـ (CNN) فياطلنطا في نطاق برامج "التدرب مع الصناعة"، كمستخدمين نظاميين في الـ (CNN) ، هذا ما صرح به حديثاً الماجور توماس كولان THOMAS COLLINS) من إدارة المعلومات في الجيش الأمريكي:(حيث ساهموا في الإنتاج الإعلامي أثناء حرب
كوسوفو"(38)، في الواقع، لقد ازداد تواجد الشخصية العسكرية بانتظام،
في الـ (CNN)، وهم يرجعون إلى المجموعة الرابعة للعمليات النفسية المتمركزة في (FORT BRAGG) ، وكون النشاط الرئيس لهذه الخلية، نشر معلومات منتقاة".
ويسمح المجتمع الأمريكي، وبأكبر قدر من التنسيق بين المجالات الإعلامية والاستراتيجية والاقتصادية والجامعية والسياسية، على أيدي العسكريين الأمريكيين، وهذا يعطي لفعالية الاستخبارات أكثر فائدة، والعسكريون الأمريكيون "ليسوا كل شيء، بل هم في كل شيء".
وهذه الحقيقة، ليست أمراً شائناً، بحد ذاته، مطلقاً، وهذا يظهر تماماً، أن وسائل الإعلام لم تكن مستقلة مطلقاً بالكامل عن السلطة، حتى في الديموقراطيات الحقة). ومن المعروف، يبقى موضوع الرابط الوثيق بين وسائل الإعلام والتجسس مدهشاً، وبأن حوالي عشرين ألف شخص يستخدمون من قبل الـ (CIA) ، وثلث هؤلاء يكلف بالإعلام رسمياً.
لا تتعلق ظاهرة سيطرة الإعلام الإعلامي عن طريق هيئات السلطة بالولايات المتحدة وحدها. بل يمكن إدراك هذه الظاهرة في جميع (الديموقراطيات الغربية)، خصوصاً، تلك الدول التي استحوذت جزئياً على تدخلات منظمة حلف شمالي الأطلسي، في العراق، وفي البوسنة، وفي كوسوفو. كذلك، اشتهرت ألمانيا، الحليف المخلص للأمريكيين في منظمة حلف شمالي الأطلسي، وكذلك بريطانيا العظمى، أثناء حرب كوسوفو وذلك بسبب ديناميتها المعروفة في مجال (الدعاية الحربية). إذ كان الإنجليزي جامي شيا (JAMIE SHEA)، الناطق الرسمي في منظمة حلف شمالي الأطلسي، والمكلف من قبل رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، بإعادة تنظيم جميع الاتصالات في المنظمة بهدف جعل التدخل المسلح يبدو مشروعاً، خصوصاً تمويه (الآثار) الناتجة عن العدوان، و (الخراب اللاحق)، نتيجة قصف منظمة حلف شمالي الأطلس، وذلك في محاولة لابتزاز بعض الصحافة الغربية والدولية التي تذهب أحياناً لدرجة تعنيف بعض الصحافيين والعاملين في وكالات الأنباء الصحافية، في حال نشرها بعض المعلومات التي لا تتوافق مع خطة منظمة حلف شمالي الأطلسي في دعايتها، والتي يمكن أن تؤدي خدمة للسلطة اليوغوسلافية بزعامة (ميلوسوفيتش). وما هو أوضح من ذلك، أن حكومة صاحبة الجلالة البريطانية نفسها، كانت تضغط على وسائل الإعلام الوطنية، خصوصاً الـ (BBC)، على مدى حرب كوسوفو. وهنا أيضاً، فقد ذهب الناطق الرسمي الرئيس التابع لطوني بلير، ألستر كامبل ALASTAIR CAMPBIELL حتى فرض ضرائب على المراسل الخاص التابع لـ (BBC) في بلغراد، المدعو جون سيمبسون (JOHN SIMPSON) ، بتاريخ (16) نيسان (1999)، بحجة مسايرته للدعاية الصربية، كونه قد وجه أسئلة للصربيين في الشوارع، وبأنه اعتقد أن القصف الجوي الأول تسبب في أن يلتف السكان حول ميلو سوفيتش، وسمح "دون اتخاذ موقف" أن منظمة حلف شمالي الأطلسي استطاعت أن تدمر قطاراً مدنياً ورتلين من اللاجئين. والأفضل، أن يوجه روبن كوك، وزير خارجية طوني بلير، الاتهام علناً لسمسون، كونه متواطئاً مع ميلوسوفيتش". وهذا، ليس من واجب الناطق الرسمي للحكومة أن يقرر ما يتوجب أن ينشر من أعمال"، وردَّ رتشارد سامبروك RICHARD SAMBROOK رئيس قسم الإعلام في (BBC-TV) على ذلك بسخط"(39). وانتقد مراسل الـ (RAI) الإيطالية إنيو رموندينو (ENNIO REMONDNO)، بعنف، القصف الجوي، خاصة قصف محطات الراديو والتلفاز الصربية، حيث كان هو نفسه ضحية إعدام تعسفي إعلامي، وعامله زملاؤه على أنه (عميل لميلو سوفيتش)، وفي فرنسا، كان عالم الصحافة ريجي دويربه REGIS DEBRAY، هدفاً لحملة حقيقية وعملية شيطنه ضده والتجريد من الأهلية، عندما عاد من إقامة له في الصرب.
وهناك آخرون من رجال الصحافة عوملوا على أنهم عملاء لميلوسوفيتش.
كما كان لفريق من وكالة المخابرات المركزيه الأمريكية (CIA)، من المختصين في الحرب الإعلامية- المعمدين تحت اسم الصقر (EAGLE)، كان لهم كمهمة أثناء حرب البوسنة، وضع شروط الإعلام ومعالجة الصحافيين نحو شيطنة المعسكر الصربي، وتعزيز الصورة الملائمة آنذاك للـ (ضحايا) من البوسنيين المسلحين: وقدر بعض الخبراء، أن عدد من تأثر بآراء خلية الصقر من الصحافيين العاملين في الصحافة الدولية لا يقل عن الألف. فهذه الخلية، كانت تشتري الصور بصورة منهجية وكذلك التقارير غير "الملائمة" لوجهة النظر الأمريكية، ثم "تسحبها من سوق الصحافة"، وبالمقابل تضمن مجموعة المختصين (EAGLE) بعناية، اختيار الصور "صحيفة، أو صور فيديو"، وتنفيذ أعمال (رتوش) على بعض الصور السلبية لزيادة (الأثر العاطفي الحاسم).
أيضاً، تلقى بعض الصحافيين الذين (تساهلوا) (جعالات) أو أثمان (كمكافآت) لـ (انقيادهم) وخضوعهم لجماعة الصقر.
وكانت خلية الـ (EAGLE) في الأصل، تشكل غطاء إعلامياً موسعاً لأعمال العنف، التي يقوم بها البوسنيون، كما حدث في انفجار سوق ماركاليه (MARKALE)، إذ نشرت صور الأقمار الصناعية المزيفة، (القادرة على إيجاد) ركام من الجثث على أرض ملعب قدم في (SREBRENICA)، والملعب موجود فعلاً، لكن لم يعثر أحد فيه مطلقاً على ركام الجثث، في الواقع، كان اختيار ذلك الملعب أريباً، لأنه أثار الحقبة الأشد سواداً في تاريخ القرن العشرين، بالنسبة للكثيرين، لكن، تشكل الهدف الحقيقي الذي يتم البحث عنه في ذلك الصيف من عام (1995)، جذب الانتباه العام وإبعاده عن الهجرة الجماعية لمئات آلاف الصربيين الذين طردوا أو ذبحوا من كرواتيا في كرايينا (KRAJINA)، وجرى التحقق من ذلك، من قبل المدير السابق لمحطة التلفاز الفرنسية القناة الثانية، جاك مرلينو (JACQUES MERLINO) ، في المكان نفسه، وهو مؤلف كتاب عدو للتقاليد: جميع الحقائق اليوغوسلافية ليست جيدة على القول.
وتمتلك الأجهزة الأمريكية، وكذلك التابعة لمنظمة حلف شمالي الأطلسي إلى جانب الـ (EAGLE)، نماذج أخرى من (الأسلحة الإعلامية)، تعمل مباشرة، ويبدو أنها خرجت من رواية أورويل ORWELL عام (1984): بعنوان (مفرزة مغاوير سولو). فهذه الطائرة هيركول (130 HERCULE) الأمريكية، مجهزة من قبل البنتاغون بهوائيات وحيدة الاتجاه، وتحتوي في مخزنها على دارات راديو-تلفاز، تسمح لها من بث برامج مسجلة حالاً، على ارتفاع عالٍ. ويبث العاملون الذين يطيرون على ظهر تلك الطائرة، على منطقة مستهدفة رسائل مصممة من قبل البنتاغون وإدارة العمليات النفسية المتمركزة في (FORT BRAGG) (المركز المشهور في مجال العمليات النفسية لحرب الإعلام)، ويقوم على خدمته مختصون في الحرب الإلكترونية.
وقد استخدم من قبل الولايات المتحدة. من قَبْلُ، في سماء السعودية والتركية أثناء عاصفة الصحراء. ويمكن لـ (COMMANDO SOLO) بث وتوزيع الأخبار التلفازي والإذاعي، على موجات قصيرة وطويلة، على مساحات تبلغ عدة مئات الكيلومترات(40).
ولقد بثت الطائرة راديو، رسائل قرصانية باتجاه المشاهدين الخاصين لتلفزيون صربو-بوسنك (SRT)، في جمهورية الصرب في البوسنة، والصربيون يشكلون (30% من السكان). وكانت الرسائل المبثوثة بواسطة الـ (SOLO) تظهر السكان وقد اهتاجوا ضد سلطة رادوفان كارادتش (RADOVAN KARADZIC)، وهي تشنّه لصالح الموالي لأمريكا المدعو (DE VANJA LUKA)، حيث كانت واشنطن تعده على رأس جمهورية صربسكا، بعد قلب نظام كارادتش. وتعود تلك الطائرة من جديد لتطير فوق يوغوسلافيا، أثناء حرب كوسوفو، لتبث نشرات باللغة الصربية الكرواتية، على ترددات إذاعية وتلفازية محلية. وعلى نحو مواز، ألقت طائرات منظمة حلف شمالي الأطلسي، حوالي مليوني منشور تدعو الصربيين ليثوروا ضد ميلوسوفيتش، مدعية أنه "المسؤول الوحيد" عن العواقب، وعن "الضربات الجوية"، وموضحة له لماذا كان القصف مشروعاً ومبرراً بالنسبة لأكبر عدد من الشعب الصربي، تأكيداً اعتقد على أنه مقنع قليلاً، لدى المهتمين الذين يتعرضون للأذى نتيجة لقنابل أكثر مما هم معرضون لأذى رئيسهم الذي انتخب ديموقراطياً.
وتسير أفعال الخلايا المختلفة مثل الـ (EAGLE) أوسولو، جنباً إلى جنب مع (الخدمات) المقدمة من قبل وكالات أمريكية خاصة، (بالعلاقات العامة)، أو الاتصالات، المكلفة، هي نفسها بالترابط المباشر غالباً مع البنتاغون، من أجل (العمل) مع الصحافة، وقادة الرأي العام، والجماعات الأخلاقية والدينية، والمسؤولين عن الروابط والجمعيات والمنظمات غير الحكومية، أو الإنسانية مثل الـ (HUMAN RIGHT WATCH) ، حتى تسريب بعثات تحقق أو استقصاء من منظمة الأمن والتعاون الأوربي (OSCE) والـ (KVM) في كوسوفو، وكذلك منظمة الأمم المتحدة الـ (UNSCOM) في العراق، والـ (MINUK) في كوسوفو الخ.

وكالات اتصال خاصة جداً
يجري الحديث كثيراً، في الأوساط المتخصصة، أثناء حرب الخليج، عن شرطة أمريكية خاصة بالعلاقات العامة، معمدة تحت اسم HILLKNOWLTON، متخصصة في صنع صور ذات طابع إيجابي أو سلبي لصالح الأنظمة الاستبدادية المقربة من الولايات المتحدة في العالم أجمع! تركيا، أندونيسيا، الكويت، العربية السعودية، والتي هي بحاجة قصوى إلى ترقية ديموقراطية أو على حساب أنظمة مُشَنعَة! العراق، السودان، ليبيا، صربيا الخ، والملقبة على أنها المعاقبة والمجرمة، باسم المجتمع الدولي، والمجتمع الدولي من ذلك براء، لأن هذه هي إرادة الولايات المتحدة، في حرب الخليج خدمة لمصالحها، فقد اقترحت (Hill& Knowlton) تقديم (خدمات) على الحكومة الكويتية. ويحتفظ في الذاكرة، ما قامت به من فضيحة "لحاضنات الأطفال" في مدينة الكويت، اتهم بها عملاء عراقيون، بأنهم قاموا بتفكيك الحاضنات قصداً ونقلها من دار توليد كويتية، لكننا نعلم فيما بعد أن الشركة "Hill and Knowlton" قد حققت مونتاجاً تلفازياً خالياً من العيوب في استوديوهات إنتاج أمريكية، مع تجنيد ممثلين، وأخذ مناظر الفيلم والسيناريو! باختصار، بالضبط كما هو الحال بالنسبة لأي فيلم منتج في هوليوود. لكن، سيصبح ذلك الفيلم الأكذوبة مجالاً لاتهامات حقيرة، لكن ذلك الأمر تم كشفه في النهاية، بأنّه أحد الأكاذيب المنتجة من قبل أحد أجهزة المخابرات الأمريكية.
وبعد عدة سنوات، باعت شركة من النموذج نفسه، تسمى RUDER FINN GLOBAL PUBLIC، متمركزة في واشنطن، ومتخصصة في نشر المعلومات و(الإقناع الفعال)، والكذب، باعت خدماتها لكرواتيا اعتباراً من عام 1991)، وإلى البوسنة منذ شهر أيار (1992)، أخيراً إلى (جمهورية كوسوفو المقترحة) اعتباراً من تشرين أول (1992)، وقامت بخدمات في مجالات التزوير بناء على طلب من كان يستخدمها. والحالة هذه تجد نفسها، وكأنَّ الأمر صدفة، بأن الجماعات الإعلامية كانت تطير بالتعاقب لنجدة الكرواتيين والمسلمين والكوسوفيين. ولا يبدو من المحتمل كثيراً الافتراض أن هاتين الجمهورتين المولودتين من جديد، وتلك الثالثة، التي لم يكن لها وجود بعد شرعياً، والتي استطاعت تسوية فواتير (RUDER FINN)، هذا ما لاحظه الكاتب الضابط الفرنسي فلاديمير فولاكوف VLADIMIR VOLKOFF) مؤلف العديد من الكتب حول الاستعلام الاستراتيجي (للدولة)، خصوصاً في العالم الأنجلو ساكسوني، ولا يعني هذا أبداً، أن ذلك (المجال المحفوظ) لمصالح أو دوائر المخابرات ينجو من السياسات من سيطرة الدوائر الاستخبارية، بل على العكس، فإن وكالة (Hill& Knowlton)، مثلها مثل RUDER FINN GLOBAL PURLIC AFFOPIRES، تعمل على نحو وثيق بالتعاون مع وزارة الخارجية والجمعيات الكبرى التابعة لسلطة المجتمع الأمريكي، مثل ((مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك وشيكاغو، مجلس الشؤون الدولية في سان فرانسيسكو، ومجموعة (BILDELBERG)، والأعمال التنفيذية للأمن القومي، ومؤسسة روكفلر الخ"، كل ذلك يخضع للسيطرة المباشرة للسلطة، وخاصة وحقيقة لوكالة المخابرات المركزية تماماً والإدارة المركزية (DIA)، وعلى علاقة بالبيت الأبيض مباشرة، ويسمح ذلك فقط بتوضيح كيف يمكن لشركة متواضعة ومحرومة حسب الظاهر من الوسائل الخاصة، والمعتمدة على تحليل من المستخدمين الثابتين، أن تتوصل، في آخر الأمر إلى التأثير على مجرى التاريخ، وذلك بالتأثير على وسائل الإعلام، وكذلك على الرأي العام. ويوضح جيمس هارف JAMES HARFF، مدير الشركة، أن مجموعة البطاقات، الأداة الأساسية، تشتمل على عدة مئات من "الأسماء الأساسية": لصحافيين، ورجال سياسية، وممثلين لجمعيات إنسانية، ونوادٍ، وجامعيينالخ"، حيث يختار الحاسوب من علبة البطاقات، وحسب المواضيع المتقاطعة، الطريقة لإيجاد (الأهداف) الفعالة. ثم يقوم الفاكس بالخدمة بإرسال إعلام محدد، وفي وقت محدد، إلى جميع الأهداف المختارة داخل (الجزء) المعالج. ويوضح هارف: مهمَّتنا بَثُّ الإعلام (.) والسرعة هي عنصر حاسم. وما إن يصبح الإعلام جيداً بالنسبة لنا، يتوجب علينا ترسيخه فوراً في أذهان الرأي العام. لأننا نعلم على الوجه الأكمل، أن ذلك؛ هو التأكيد الأول المعتبر، والتكذيبات أو الإنكار ليس لها أية فعالية". وتتوصل (RUDER FINN) الممثلة لزغرب وساراييفو، حتى منتصف أيار (1993) إلى (العودة) وبفضل العمل الرائع للإعلام، إلى القادة السياسيين، ومجموعات الضغط والمنظمات الإنسانية أو جرى التأكيد في كوسوفو، منذ آذار (1998) أن (RUDER FINN) وضعت جميع اتصالاتها السياسية تحت تصرف زبونها الحالي "جماعة كوسوفو الديموقراطية" (LDK)، أثناء نقل بعثة من أربعة عشر عضواً من الكونغرس الأمريكي، جاؤوا بمبادرة من جيمس هارف (لمراقبة) الانتخابات الجارية بتاريخ (22) آذار، رتبت من قبل إبراهيم روغوفا. وبعد عدة أشهر ضمنت (RUDER FINN) الأداء لصالح جيش تحرير كوسوفو، كون الـ (UCK) المحادث الجديد المميز لوزارة الخارجية الأمريكية والبنتاغون. ولقد هنأت الـ (RUDER FINN) نفسها لأنها توصلت إلى العمل على تحرير أن الميليشيات الكرواتية والبوسنية، هي حيادية على نحو كافٍ في البداية، وذلك في وثيقة موجهة لتضليل الزبائن الجدد مدعياً لنفسه دور الأوستاسي آنت (OUSTACHIS DANTE) البالوفيتش (PALEVIC)، المتعاونون مع العدو المرعبون المتحمسون للنازيين، أو فرق الـ (SS) من المسلمين الـ (HANDCHAR) من أجل (المقاومين) والصربيين، والشعب الأوربي، كونهم قاوموا ببسالة جيوش هتلر، وحموا آلاف اليهود أثناء الحرب، منهم مادلين أولبرايت، وكانت (ضربة المعلم)، دون أدنى شك، المونتاج، على أولئك، الزاعمين بوجود "معسكرات صربية للتطهير العرقي"، حيث كانت، عقبة على المستوى الدولي، ذات تأثير ضخم. وتألفت العملية استعادة الإعلان عن (معسكرات الموت) من قبل نيويورك نيوزداي، من أجل التأثير على المنظمات اليهودية والرأي العام. هذا ما وضحه جيمس هارف أثناء محادثة مع جاك ميرلينو (JACQUES MERLINO)، في حين يقول مدير فرانس (2) التلفازية: "لقد خدعنا ثلاث منظمات يهودية كبرى): بناي بريت، المعادية لجماعة ديفاماسيون ANTI DEFAMATION LEAGE، واللجنة الأمريكية لليهود، والمؤتمر اليهودي الأمريكي.
إذ اقترحنا عليهم نشر بيان في النيويورك تايمز، من أجل تنظيم مظاهرة احتجاج أمام الأمم المتحدة. جرى ذلك على نحو ممتاز، ودخول المنظمات اليهودية في رهان إلى جانب البوسنيين، وكان ذلك أمراً غير مألوف، واستطعنا فيما بعد، إقناع الرأي العام، بوجود توافق بين الصرب والنازيين. وكانت المهمة معقدة (.) لكن استطعنا وبضربة واحدة، تقديم عملية سهلة مع الجيدين والسيئين". ويقص جيمس هارف، في نشرته، بالتفصيل، كيف أنه قد توصل إلى أن يدير الرأي العام الأمريكي لشن موجة من الهلع الجماعي المعادي للصرب: "في الحال، كان هناك تغير في لهجة الصحافة، على نحو واضح، مع استخدام عبارات ذات قيم قوية انفعالية، مثل "التطهير العرقي معسكرات إبادة" الخ. لقد أثارت قصة معسكر الإبادة حماس الرأي العام الأمريكي، وقد جرى سبر قامت به النيوزويك مسجلة تحولاً ضخماً: كان هناك 35% ممن جرى سبرهم يؤيدون الضربات الجوية، قبل تلك القصة الكذبة، فارتفع إلى الـ 53% يدعمون الضربات بعد تلك القصة. وأظهر استطلاع، قامت به مؤسسة غالوب GALLUP في الأول من آذار (1993)، أن ثلثي الشعب الأمريكي يدعم التورط الأمريكي في البوسنة، حيث استطاعت (RUDER FINN)41- وخلايا الـ (CIA) أن تبدل آراء (المجتمع المدني) الأمريكي.
وطبقاً لما اعترفت به ميرا بيهام (MIRA BEHAM)42-، الصحافية الألمانية، أن الكثير من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية المختلفة، والعاملة بتعاون وثيق مع "وكالات العلاقات العامة"، والتي كانت قد أُنشئت أو التُمست من أجل الدفاع عن المصالح البوسنية والكرواتية. من بينها الرابطة من أجل الشعوب المهددة، والتي أنشئت عام 1970 في غوتنجن (GOTTENGEN)، واعتُرف بها كمنظمة غير حكومية، مجهزة بوضع استشاري لدى منظمة الأمم المتحدة، ويقودها تلمان زولش ‎ TILMAN ZULCH) منذ إنشائها، وهو يلتزم منذ زمن طويل بجملة معادية للصرب، ومؤلف كتاب "التطهير العرقي وأعمال الإبادة في سبيل الصرب الكبرى"، وهو مزود بمزانية من (2.9) مليون مارك ألماني، ويتركز النشاط الرئيس المنوط بهذه الرابطة حول استعادة القسم الأعظم من المعلومات حول "خرق حقوق الإنسان" المرتكبة من قبل الصربيين، وحسب، ومن ثم نشرها في وكالات الصحافة، من بين المتعاونين المقربين مع المنظمة غير الحكومية، يوجد الصحافي روج غوتمان (ROJ GUTMAN)، حيث كانت المعلومات التي ينشرها تستخدم من قبل (RUDER FINN) في أغلب الأحيان، واستقبلت جادرانكا تيجلى (JADRANKA TIGELI)، وهي قومية كرواتية من البوسنة، من قبل محكمة العدل الدولية في لاهاي كشاهد، أخيراً، لم تتوقف الرابطة من أجل الشعوب المهددة، من تخويف الصحافيين الألمان الذين يحاولون إعلام السكان على نحو إيجابي، وبالتالي اتهامهم بفقدان ثقة السكان بهم، متجاهلة التصريحات العديدة من قبل السجناء القدامى في (BUCHENWALD) بالسكوت عن الدعاية المعادية للصرب والموالين للكروات والمسلمين من قبل الجمعيات غير الحكومية. ويوجه المقربون من تلك الرابطة الاتهام بصورة منظمة إلى (الموالين للصرب)، من الصحافيين الألمان النادرين الذين تجرؤوا على أن ينسبوا المانوية إلى (الصربي السيِّئ) و (جميع اللطفاء من أعدائهم) حتى لو كان الأمر يتعلق بشخصيات محترمة، مثل رونات فلوتن (RENATE FLOTEN) من دير شبيجل، وحجي هشت من (SUDDEUTSCHE ZEITUNO).
ويمكن كذلك، أن نذكر دور الجمعية الإنسانية "العاملة من أجل السلام" والتي بعد أن عملت في المكسيك ونيكاراغوا، كأنها تشكل أحد الأجهزة المدنية من الوسط الاستخباري الأمريكي، وإن جمعية العاملين من أجل السلام، هي في الواقع مختصة بـ "الدفاع عن الطريق المدني" حسب مفهوم "المقاومة باللاعنف" وهي المخُرْجَة لأناس ووسائل إعلام. كذلك، هنالك أمثلة كثيرة عن التزوير والتزييف والانتهاكات التي تنفذها وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية الأمريكية وأجهزة أخرى متعددة تحت أسماء عديدة، كلها تحت شعارات لا تمت للحقيقة بصلة، وفي أي مكان يكون للولايات المتحدة مصالح تستفيد منها. وهذا ما يؤكده هارف، عندما يقول: "إن عملنا ليس التأكد من المعلومات. وإننا لم نؤكد وجود معسكرات إبادة وموت في البوسنة، ولو علمنا أن الـ (NEWSDAY) قد أكدت ذلك، فنحن مهنيون. ولايدفع لنا لإعطاء دروس بالأخلاق أو التمسك بها () فلدينا عمل يجب القيام به، وقمنا به". وهل يعترف المهنيون في "الاتصالات الاستراتيجية" الذين يستخدمون حججاً ومؤثرات أخلاقية، على الدوام، حتى الأخلاقيين، في سبيل التجريم، وإثارة الشفقة لدى الرأي العام المستهدف، أو خلق عدم الثقة لديه، فهل يعترفون أن تقنياتهم الدعائية، هي وقحة وعديمة الأخلاق.
حرب البيانات
من الثابت والمؤكد أن شيطنة العدو، من الأمور الثابتة في سياسة الولايات المتحدة: فهي مخصصة لـ "تشنيع" كل معادٍ للولايات المتحدة. بالأمس الشيوعية والفايتونغ، وفييتنام، واليوم كاسترو، القذافي، صدام حسين، ميلوسوفيتش. أو أيضاً الدول التي تسميها (منبوذة)43- وقد كتب الأميرال لاكوست (LACOST). ففي مثل هذه الظروف من (حرب البيانات) والشيطنة الكلية للعدو الخاص للأمريكيين، حيث يجب دراسة الدعاية التي تستخدمها منظمة حلف شمالي الأطلسي والولايات المتحدة، واستخدمت في عاصفة الصحراء والبوسنة وفي كوسوفو وأماكن أخرى. والحالة هذه، يتضح أن هذه الدعاية تتمحور على نحو مطلق على مقارنة الأنظمة التي تحاول الوقوف في وجه الضحية الأمريكية، وحتى شعوب تلك الأنظمة في مجملها بأنها (نازية). هذه هي الحال، فقد تصرف الناطق الرسمي لحلف شمالي الأطلسي باستمرار، بطريقة مشابهة لتصرف بيل كلنتون، ويقول إنها حرب صليبية ضد بلغراد، وكان كلنتون هو (تشرشل) ضد (هتلر). أما مادلين أولبرايت، فقد ذكرت بالتنافس الذي كان في شبابها، علماً أنها هي نفسها كانت ضحية في يوم من الأيام، للنزعة النازية مما قادت عائلتها إلى الهرب من مولدها في تشيكوسلوفاكيا عام (1939) إلى الولايات المتحدة.
إن المعنى الحقيقي لـ (حرب البيانات)، وهو اختلاق أو تزييف التفسيرات الذاتية للأحداث، أحياناً خداعة، ويكون هدفها، أن تجعل من هذا الطرف وكأنَّ أعماله مشروعة، أو هذا السبب أم ذاك أمراً مقبولاً، بإحداث تأثيرات لدى الرأي العام بشكل تجعله يتعاطف مع ما تقوم به، على الرغم من الأعمال الوحشية المرتكبة من قبل مدبري الأحداث ومرتكبي الفظائع. ويطلق فلاديمير فولكوف VLADIMIR VOLKOV القول: "ميلوسوفيتش هذا ليس قدح من الشاي، لكنه ليس هتلر أيضاً". ويجب إدانة الاغتصابات الرهيبة التي ارتكبت من قبل الجيش الصربي، وخصوصاً الميليشيات الصربية منذ عام
(1991)، لكنها مع ذلك، لم تكن أقل فظاعة من تلك التي ارتكبت من قبل المعسكرات الأخرى المتواجدة على الأرض نفسها. مع ذلك يتحمل الصربيون ونظام بلغراد جزءاً كبيراً من المسؤولية في الكوارث التي حدثت في يوغوسلافيا السابقة منذ عام (1991).


الأدوات الأساسية لحرب البيانات
الإشاعات، قولبة الإشاعات، تحريف الكلمات
ماذا يُنتظر بالضبط من "حرب البيانات"؟ لقد اعتمدنا على التحديد المعطى من قبل عالم الجيوسياسي ايف لا كوست (YVES LACOSTE) من قَبْلُ، فبالنسبة لـه: تحليل البيانات المتعادية، هو أحد العناصر الأساسية للتقريب الجيوسياسي. ويوضح ذلك، أنه في زمن قدرة وسائل الإعلام على التأثير "فإنها نوع خاص جيوسياسي للمنافسات الإقليمية التي تجعل هدف البيانات المتناقضة اليوم منتشرة من قبل وسائل الإعلام بشكل واسع وباعتبار أن حرب البيانات كونها حرباً تستهدف عملية تبيان عالمي لمجموعات متخاصمة، فهي إذن مرتبطة حتماً بما يسميه الآخرون "حرب الوسائل" أو (الحرب الإعلامية). لكنها أكثر من ذلك. وطبقاً لرأي آرنو أأرون أو بنسكي ARNAUD AARON UPINSKY: يتعلق الأمر، "بحرب الكلمات، حرب اللغة، حرب المنطق: إنها حرب علم الدلالة. ويشك المدافع بمعنى الكلمات. وبأنه لم يعد يعرف بما يفكر حقاً، وبأنه يصبح عاجزاً عن التعرف على العدو من مواطنه. وتصبح أنظمته المناعية ملغاة بواسطة ازدراع فيروس منطقي في لغته الخاصة، وفي عقله. وفي هذه الحرب، فإننا لا نكافح ضد جيوش، بل ضد الكلمات". ولنتذكر أن كل حرب، هي قبل كل شيء تعود إلى أرض البيانات، إذن فهي معالجات. ويوضح أوبنتسكي أن هذا الطراز من الحرب، ليس جديداً، بحد ذاته، لأنه جرى تحليلها بتفصيل أكثر قبل ستة قرون من عصرنا، من قبل الاستراتيجي الصيني (سان تزو SUN TZU). "وإن ماهو جديد فهو الوسائل التقنية الموضوعة تحت تصرف السلطة، وتتضاعف أو تتزايد الوسائط الحديثة، وهي إما تُجَزّئ أو تلغي البيان من واقع الرغبة. فالتكنولوجيات الجديدة الخاصة بالبيانات هي العربة والأداة الإلكترونية للـ "ديموقراطية بلا حدود"، للـ "نظرية في مجمل السياسات"، ومن التفجر المبرمج "للحدود" الموروثة من الماضي.

أما بالنسبة للوران مواروييك (LAURENT MURAWIEC)، حرب نفسية (حرب إعلامية) (INFOWAR) حرب التوجه (CYBER GUERRE) أو (حرب البيانات) فهي كذلك مفاهيم متقاربة، ومترابطة مدرجة فيما يسمى بـ "الحرب الإعلامية". فقد ولدت من ثورة تكنولوجية مثلثة: إلكترونية، معلوماتية، واتصالات بعيدة. ولا تقوم الحرب الإعلامية إلا استرجاع النجاحات القديمة للدعاية ثم جعلها أكثر فعالية، وكذلك التخريب والمعالجات الموصوفة منذ زمن سان تزو. وفي الظروف الراهنة، تتكون "حرب البيانات" أولياً من إضعاف معنويات الخصم أو العدو، وتحريف أو جعل اتصاله مع الواقعي منحرفاً، وذلك بغرس الحقيقة الكاذبة لديه، بيان كاذب يبدو "حقيقياً" وأكيداً حسب الظاهر، ومحققة ويتعذر دحضها، وتعيش من قبل المشاهد المذهول بـ "حقيقة" الصور، مباشرة. فالتقدم التكنولوجي، في المجالات (الافتراضية) التي ساهمت بشكل لا جدال فيه، في تحطيم الحدود بين الحقيقة والخيالي، بحيث لم تكن التقنيات والمعالجات الجماعية تحت تصرف السلطة وخدمتها وكذلك الحروب، لم تكن مرعبة في الماضي، بمقدار ما هي عليه اليوم. حتى في المجتمعات المسماة بالديموقراطية.
ويمكن تمييز مستويات متعددة بشكل عام للتقنيات المختلفة والدعاية والتداول، قبل كل شيء، الدعاية البيضاء، أو الإشاعة الكاذبة البيضاء، التي يمكنها أن تشتمل على فتح الطريق أمام سيل من المعلومات المحظورة أمام سكان البلاد، في بلادهم، فقد لعبت الـ (BBC) وراديو أوربا الحرة، وراديو ليبرتي، هذا الدور، باتجاه البلدان الأوربية التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي السابق، وإلى الاتحاد السوفياتي نفسه" مع ذلك، بقيت الإشاعات الكاذبة البيضاء الغربية موجهة نحو الكتلة الشيوعية السابقة، حتى بعد مرور أكثر من عشرة سنوات على سقوط جدار برلين. وتوجه خاصة إلى البلدان السلافية- الأرثوذكسية أو تلك الآسيوية: بلغاريا، يوغوسلافيا السابقة، روسيا البيضاء، روسيا، كوريا الشمالي، فييتنام، الصين. إذ يقوم صوت أمريكا بإيصال كمية كبيرة من المعلومات الكاذبة، أو الممنوعة، مباشرة إلى فئات الشعب. فالبلدان الصامدة أمام محاولات الهيمنة الغربية الأمريكية، هي في حالة عجز مطلق وكلي لمقاومة تسريب المعلومات الهدامة للغاية، بفضل الأنترنت والأقمار الصناعية وشبكات الكابل حسب المعنى المعطى من قبل عالم النفس الاجتماعي، روجر موكشييلي ROGER MUCCHIELLI- للأكاذيب البيضاء TELEMATIQUEIN الحديثة، من واقع خاصيتها بقدرتها على اجتياز الحدود، وغير قابليتها للالتفاف عليها حسب متطلبات العولمة. إلى جانب ذلك، توجد الدعايات "السمراء" أو "السوداء"، فهذه تبرز على نحو أوضح من التخريب، وفي الخداع الصرف، ومن الغش. وإننا نجد مثل ذلك في التقنيات العتيقة "الأخبار الكاذبة"و "لإشاعات المراوغة"، وكذلك "الحيل الحربية" الأخرى. فهل لم يستخدم أوليس (ULYSSE) الحيلة للخداع في اليونان- عندما أعلن الحرب على الوحش متعدد الرؤوس (POLYPHEME) بأنه لم يعلن اسمه لأحد؟ فجن جنون الـ (POLYPHEME)، وسيلتمس العون من نظرائه، دون جدوى، اللذين استخلصوا أن ما من (أحد) قد هاجم العملاق سيكلوب (CYCLOPE) إذن، فقد جرى فقأ العين الوحيدة، فمن جهة، أصيب بالعمى، من حيث البصر ومن حيث علم الدلالة، إذن صار ضال الوجهة تماماً، إذن تهاجم عمليات "الدعاية السوداء" "الوعي المكاني"46- لسكان ما، و"البيانات" الأساسية التي تُزيِّف، ليس فقط وعي الانتماء إلى جماعة ما وحسب، بل أيضاً السمات النفسية والزمنية والرمزية الأساسية. فمن وجهة نظر علم السياسة فإنها تكتسي فائدة كبيرة، لأنها تهاجم عملية الاعتراف الشرعي، الواقع نفسه للسلطة، وإذن وسيلة التاريخ الإنساني.
وكما يوضح ذلك اللغوي الأمريكي المشهور، ناعوم شومسكي NOAM CHOMSKY، بأن اختيار الكلمات، في نطاق (حرب البيانات) هو أساسي. فبالنسبة له، فمن أجل خداع الآخرين، يجب "العمل على فقدان الشمال"، فعبارة المفاهيم المجردة والكلمات الأساس، لها مستوى فهم قوي جداً عاطفياً و/أو أيديولوجياً، مثل: الحرية الحقيقة، حقوق الإنسان، النزعة الإنسانية، والديمقراطية، إبادة الجنس، عمليات التطهير العرقي، معسكرات الإبادة الخ، يجب أن تكون مخففة الحدة، مُضَلِّلة، مخربة عمداً. أيضاً، تعطي ميزات الخطابات الدعائية معنى مضاعفاً من حيث العبارات، بشكل عام، وفي إجراء تعاكسات في علم الدلالة، المخصصة لتوجيه الأفكار واختيار قرارات مجموعة الأهداف، ونظامهم الدفاعي الثقافي والفهم لحقيقة الإفساد. ويوضح شومسكي، أنه إذا اختار المعنى الأول للكلمة الأساس، هو ذلك المعنى تماماً في القاموس، الآخر، ((المعنى المتعلق بالعقيدة))، وله كوظيفة إحداث أو إثارة استيطان منع ضرورات الأيديولوجية الأخلاقية، وإقامة علاقة أمر لا شعوري لغايات خدمة السلطة، "فخذوا كلمة ديموقراطية، تبين لغوياً، المعنى العقائدي للديموقراطية المخصص للنظام تتخذ فيه القرارات من قبل بعض القطاعات من جماعة العمل، ومن قبل النخبة التي ترتبط بهذه القطاعات. وللمواطنين الحق في تصديق القرارات المتخذة من قبل نخبهم، وفي منح دعمهم لهذا أم ذاك من أعضائهم". أما ما يتعلق بمفهوم الحرية، "في الممارسة العملية، كل تعبير يشتمل على كلمة "حر" لها حظ جيد أن يراد لها القول، عكس معناها الحقيقي، أو خذوا أيضاً الدفاع ضد العدوان، تعبير مستخدم كما لو كان يتوجب توقعه- من أجل الحديث عن عدوان. ويتكون العمل الرئيس للأشكال المختلفة للدعاية، من تبرير المشروعات القهرية، وجعلها مشروعة للتبريرات الأكثر وقاحة وذرائعية، وذلك بمنحها نعوتاً وأسماء حاملة مسؤوليات كبيرة ورمزية وأخلاقية وحتى مثالية قابلة لأن ت*** التلاحم، وتضليل "أهداف الجماهير" بوسيلة التعاكس في علم الدلالة. ونعثر من جديد، في هذا الطراز من حرب البيانات على الجمل الكبرى الثلاث في قاموس أورويل (ORWELL): الحرب فهي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة، لأن حرب "حرب البيانات"، تشتمل على التزييف، لا أكثر ولا أقل، وفي تصوير المعاكس بالضبط للحقيقة في نهاية الأمر، بهدف خدع الرأي العام والتلاعب فيه. وإن إعداد "قولبة التجريد من الأهلية" هو أحد الأهداف الرئيسة في هذه الحرب، ولنتفحص الآن كيف كانت قد استعملت القولبة والإشاعات والدعايات السوداء، وعمليات التحريض، والاتهامات، وتقنيات المعالجات المدروسة في علم النفس الاجتماعي، استخدمت بنجاح ضد العراق، وضد العنصر الصربي، على مدى الحرب الأهلية كلها في يوغوسلافيا السابقة.. وفي كرواتيا والبوسنة حتى تلك الحرب في كوسوفو.
قولبة الأخبار، وعمليات مزجها
ماذا تعني القولبة (STEREOTYPE)؟ . طبقاً لرأي كلود رينودي CLAUDE RAINAUDI المستشار في مجال "نفوذ الاتصالات"، والبروفيسور المساعد في جامعة نيس صوفيا- أستيبو ليس، إذ يقول: القولبة هي "لفظ" ينظر إليه من قبل جماعات ما كـ "مالك ثابت"، جماعات "قومية، مهنية أو كيان اجتماعي". ويقوم بالمهمة، "كافتراض ضمني"؛ وسيكون كل ما يؤكده يحفظ في الذاكرة بسهولة، وسيكون كل ما يبطله مُزالٌ أثره غالباً"48. ففي بداية حرب الخليج الثانية، ليس لدى الرأي العام العالمي قولبة، عن العراق، ولا عن أعدائهم، وكان باستطاعة العراقيين، عندئذٍ أن يطلبوا من مكتب خاص بـ نفوذ "الإتصالات" لتعبئة موقفهم المثالي في مواجهة الولايات المتحدة والمتحالفين معها، وذلك بكشف الهدف الرئيس في تلك الحرب، وهو هيمنة واشنطن على منابع النفط في منطقة الخليج العربي، هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة، وكذلك حصولها على الأموال الناتجة عن بيع النفط، بطرق مختلفة. لكن لرئاسات الأركان الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لديها أصول وخطط في مشروع محدد، تدمير العراق، وإعادته إلى الوراء، وبالتالي القضاء على المكاسب الاستراتيجية والتقنية التي حققها في حرب الخليج الأولى، وذلك باستخدام قولبة سلبية للعراقيين، من أجل الأهداف الاستراتيجية الشاملة، باستخدام حرب البيانات، والعراق ليس لديه الوسائل المادية، ولا حتى الدعم الخارجي الضروري من أجل إعداد ردود بيانية وشيطنة أعدائهم الذين يواجهونهم.
إذن، فإن الخلايا الخاصة التابعة لوكالة المخابرات المركزية (CIA) ووكالة الاتصالات الأمريكية، والمنظمات غير الحكومية (ONG) بخلقها قولبة عراقية بأنها المساوية للعدو لإمارات النفط الخليجية، تقوم بإرساء الوعي في تلك المنطقة عن صورة (العراقي السيِّئ) القابل للتبرير للكره الممكن، إذن كره لهؤلاء الأعداء، والحالة هذه، ما أن تترسخ القولبة، ثم تستبطن العمليات اللاحقة من الإشاعات والأخبار الكاذبة "والدعايات السوداء" الأخرى، المستهدفة تعزيز الإحساسات السلبية لهذا الهدف، بالاستفادة من التأثير الحاصل عن (القرائن الجرمية) المزيفة، عندها، يصبح تأثيرها إيجابياً، يمكن الاستفادة منه. وهناك أيضاً، أُخذت الاتهامات والأخبار الكاذبة، بطريقة مضحكة أحياناً، والتي كانت معالجة بظروف أخرى سخرية، أخذت بحرية من قبل القائمين على تلك الأفعال، وكأنها قد حدثت حقاً، وبالتالي إصدار أحكام عقابية دولية استناداً إليها، كما جرى ليوغوسلافيا مثلاً، وكذلك العراق والسودان وليبيا. ومن العجب أن مثل تلك الاتهامات المزيفة، هي من نبع الخيال، وكأنها من روايات بوليسية. وتأكد لدى ذوي الفطنة أن تلك الاتهامات لم تكن سوى إشاعات فظة(49)، على طريقة أفلام "الويشيرن" الخادعة.
شرعة المكيالين.
ما أن تستقر أعمال (القولبة) في الوعي واللاوعي الجماعي، وعندما تتشابك ديناميكية الشيطنة، يأتي دور التصعيد الملازم لذلك الجور و(المقياس المزدوج) أو الكيل بمكيالين. وهنا نفهم الموضوع على نحو واضح. لماذا يجري سحق شعب العراق وإعادته إلى الوراء عشرات السنين، وقتل أطفاله وتجويعه وتشريده، والقيام بكل شيء لإذلاله، بمباركة ودعم القوى الأعظم وعلى رأسها الولايات المتحدة، تحت حجة غزو الكويت، في حين أن الكيان الصهيوني يمتلك ترسانة أسلحة جبارة، من الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية، زوده بها مباشرة أو بطريقة غير مباشرة هذه القوى الأعظم، وأن ذلك الكيان قام بأكثر من عدوان، واحتل أكثر من جزء في أكثر من بلد عربي، ويعتدي ويقتل شعباً بالكامل ويعتدي كل يوم على من يجاوره باستخدام أسلحة ممنوعة دولياً، وبالتالي يقف حق النقض الأمريكي وغيره في وجه كل إدانة لذلك الكيان الهتلري ولا يحاسب على أفعاله في قتل الأطفال والرجال والنساء، بل يجري الدفاع عن أفعاله وتصويرها على أنها حق مشروع له، لا بل بدعم هذه القوى الأعظم.
يمكن إعطاء العديد من الأمثلة الواضحة عن الكيل بالمكيالين، وعلى الوجود "الانتقائي الإنساني، الاستراتيجي". حيث تستخدم الولايات المتحدة ممارسة القوة في المناطق الوحيدة عندما تقتضي ذلك مصالحها وتوجهها الاستراتيجي، فالولايات المتحدة لم تبد أقل اهتمام مطلقاً أما أعمال قمع بعض الشعوب والتدخل للدفاع حيثما لا توجد مصلحة لواشنطن للتدخل فيها، الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، تركيا،..الخ.

تحريض واتهامات سوداء
تقنيات معروفة منذ زمن سحيق "التحريض" المخصصة لأعمال "الاغتيالات، الاعتداءات على الأشخاص، التخريب، الظلم، الإبادة الجماعية، بالتجويع عن طريق الحظر، التطهير العرقي الخ".
وكثيراً ما ارتكبت أعمال شنيعة من قبل الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، بواسطة أجهزته المتعددة الأشكال والمهمات وبالتالي إسناد تلك الأفعال إلى جماعات مزعومة، وتقوم وسائل الإعلام الغربية بتصويرها وترويجها، حسبما تقتضي مصلحة الكيان الصهيوني. فيقابل أطفال الحجارة بالطائرات الحوامة وصواريخها، وبالدبابات والرشاشات الثقيلة، وتوجيه الرصاص القاتل إلى رؤوس الأطفال أو صدورهم باتجاه قلوبهم عمداً من أجل القتل، تعتبر في نظر العديد من الإعلاميين الغربيين دفاعاً عن النفس.
ولماذا تقصف العراق يومياً من قبل طائرات أمريكية وبريطانية ينطلق معظمها من أراضي السعودية والكويت، في حين يقوم الطيران الصهيوني بقصف الفلسطينيين وكذلك يستبيح أرض لبنان، وقيامه بغارات متكررة كما حدث في قانا في جنوب لبنان؟
ولماذا يقصف السودان وأفغانستان من قبل الولايات المتحدة بحجة تعاونها مع هيئات (إرهابية)، بينما يتمتع الكيان الصهيوني بحماية واشنطن، على الرغم من المجازر التي يرتكبها، واحتلاله الكثير من المناطق المجاورة لفلسطين ويقوم بأعمال الإرهاب دون رادع بل بتشجيع من الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي لذلك الكيان وكذلك حمايته من أية إدانة من قبل الهيئات الدولية.
ويمكن الإتيان بالعديد من الأمثلة الواضحة (للمكيالين)، والبرهان على وجود الانتقاء الاستراتيجي والإنساني، حيث تستخدم الولايات المتحدة ومنظمة حلف شمالي الأطلسي ممارسة القوة في المناطق الوحيدة عندما تقتضي ذلك مصالحهم أو توجههم الاستراتيجي. وهم لم يبدوا مطلقاً أقل اهتمام بالتدخل للدفاع، في الواقع، عن الشعوب المقموعة حيثما لا توجد مصلحة لواشنطن فيها.

¾¾
¡ الهوامش


1-Amiral La Coste L’evenment de Jeudi 6 Janvier, 1995.
2-Murawiec, acte du colloque de democraties la gurre de l’informations, p.21.
3-La reve americain en danger, p.17.
4-Cyniquement subventionné par microsoft a fin de satisfaire aux criteres d une legislation antitrust obsolete.
5-Rappelons tout de meme que l’economie amèrcaine est aujourd’hui la plus forte et le plus competitive du monde.
6-Plusieurs annèes avant la conférence de seattle, les etats-unis avait declenché de nombreuses procédures aupres de (L’omc) pour obtenir une revision de la legislations Européenne en matiere de viande...
7-Michel Bugnon- Mordant l’amerique totalitaire favre, 1997, p.152.
8-ID, IBD, p.150.
9-Les foreign sales corporations (FSC) sont de sociétés- ecrans. ****s dan les paradis fiscaux..
10-La loi du sénateur Bill Cohen. Au nom de la “Securite Nationale”..
11-Exemle: 25/, de droits de douane sont persu sur les pick-up...
12-In Nicolas Harbulot opcit, p.32-33.
13-Pichot- Duclos, “La France est-elle en guerré”, 18 Juillet, 1999.
14-En Bosnie- Herzegovine, on relévera la presence au sein des troupes Americaines, de plusieurs centaines de ces officiers civiles.
15-“Revelations: quand le quai d’orsay desosse la war room” valeurs actueues 22 fevier 1997, p.12.
16-Intelligence Americaine, “Un reseau createur de reseaux”, 1997.
17-philippe Cohen, Les etats- unis vont-ils racheter le monde entier? 1997.
18-En France, Les productions cinematographiques Americaines sont exemptees de quotas depuis, 1946.
19-Michel Burin de rosieres a du cinéma au multimedia, 1998.
20-La France, L espagne... Exigeront l’exclusion de la cultture... (le monde du la Fevrier 1998.
21-Cité in le monde 29 Juillet 1997.
22-Michel Bugnon- Mordant Ibid p.212-213.
23-Zbigniew Brzezinski, Le grand échiquier, p.50-51.
24-Bugnon- Mordant Ibid, p.216-217.
25-ID Ibid, p.200.
26-Philippe Cohen, Marianne opcit, p.63.
27-Bernard Besson a l’intelligence economique Americaine, 1997.
28-Marcel Vigourous laune, 1999.
29-Paul Virilio opcit, p.33.
30-Le monde 23 Avril 1999.
31-La NSA est L’”Agence du chiffre” Americaine creé en Mai 1999.
32-Publié en Mai 1999 en fait, les europeens etudient les moyens de contrer les systemes d’espionnage electroniques du type échelon.
33-Documents: 23 Fevrier “comment les etats-unis espionnes l’Europe” Washington times 30 Avril 1992.
34-Le Monde du 23 Feurier 2000.
35-Le Figaro 20 Septermre 1999.
36-Amiral Pierre la Coste, club democraties 29 Juin 1999.
37-Auteur de la guerre au xx1 siéde Jacob 2000.
38-U.S Army, 21 Fevrier 2000.
39-Le Monde 13 Juillet 1999.
40-P. Brunet “La gurre de l’information 14 Mai 1999.
41-The media happened to be here cite Michel Colin.
42-Mira Beham le tambours de la gurre 1997.
43-Amiral la Coste renseignement et gurre de l’infomations, 29 Juin 1999.
44-Arnaud Daron Upinsy le syndrome de l’orton 1999.
45-Laurent Murrwiec op cit p.194.
46-La propagande noire est fallacieusement atribue, p.97.
47-Noam Chomski, Lauage de cerveau, p.97-98.
48-Claude Rainauo a Rumeurs, meoirs etopinion.
49-La planete de l’oncle Sam: les armes et les lois.



¾¾¾

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الاستراتيجي, الفكر, دراسات, فـي, والسياسي


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع دراسات فـي الفكر الاستراتيجي والسياسي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الفكر الاستراتيجي للقادة: دروس مستوحاة من التجارب العالمية والعربية Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 3 11-03-2013 08:33 PM
الفكر الاستراتيجي في العصر النبوي Eng.Jordan دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 06-13-2013 10:44 AM
دراســـات فـي الفكر الاستراتيجي والسياسي Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 02-19-2012 11:45 AM
تحديات الفكر والثقافة العربية في الفكر والأدب Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 02-19-2012 09:36 AM
تحديات الفكر والثقافة العربية في الفكر والأدب الدكتور سليمان الأزرعي مهند دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-09-2012 06:47 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:46 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59