#1  
قديم 08-28-2012, 11:58 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي العالم و النص و النقد


إدوارد سعيد

ت: عبد الكريم محفوض
العالــــــم

والنـــص والناقــــــــد








من منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000


العنوان الأصلي للكتاب:


The World, The ****, And The Critic
Edward W. Said





تمهيد
النقد الدنيوي



إن ممارسة النقد في هذه الأيام تتخذ لها أربعة أشكال رئيسية. فالأولى هو النقد العملي الذي نجده في مراجعة الكتب وفي الصحافة الأدبية. والثاني هو التاريخ الأدبي الأكاديمي الذي ينحدر إلينا من الاختصاصات التي كانت قائمة في القرن التاسع عشر كدراسة الأدب الكلاسيكي والفيلولوجيا وتاريخ الحضارة. والثالث هو التقويم والتأويل من زاوية أدبية، وعلى الرغم من أن هذا الشكل بالأساس عمل أكاديمي فإنه، على نقيض سلفيه، ليس مقصوراً على المحترفين وعلى أولئك الكتاب الذين يبرزون من حين إلى آخر. فالتقويم هو الشيء الذي يعلّمه ويمارسه أساتذة الأدب في الجامعة مع العلم أن المستفيدين منه بأبسط المعاني هم كل تلك الملايين من الناس ممن تعلموا في الصف كيفية قراءة قصيدة، وكيفية الاستمتاع بالتعقيد الذي تنطوي عليه فكرة ميتافيزيقية، وكيفية وجوب تصورهم أن للأدب واللغة الرمزية ثمة سمات فريدة يستحيل تقليصها إلى موعظة أخلاقية أو سياسية بسيطة. وأما الشكل الرابع فهو "النظرية الأدبية" التي هي بمثابة مضمار جديد نسبياً، فهذه النظرية برزت كميدان لافت للنظر بالنسبة للبحث الأكاديمي والشعبي في الولايات المتحدة في وقت لاحق لبروزها في أوربا: فأناس كوالتر بينيامين والفتى جورج لوكاش، مثلاً، قاما بعملهما النظري في باكورات سنوات هذا القرن، كما كتبا بلهجة معروفة ولو أنها مثار جدل على أوسع نطاق. ولكن النظرية الأدبية لم تبلغ مرحلة النضج، على الرغم من الدراسات الريادية التي أنجزها كانيث بيرك قبل الحرب العالمية الثانية بزمن طويل، إلا في عقد السبعينات (1970) وذلك من جراء الاهتمام المتعمد الملحوظ بالنماذج الأوربية السباقة (من أمثال البنيوية ودلالات الألفاظ والتفكيك).
فالمقالات المجموعة ضمن هذا الكتاب تستمد وجودها من هذه الأشكال الأربعة كلها، حتى لو كان ميدانا مراجعة الكتب في الصحف والتقويم الأدبي في الصف بعيدين البعد كله عن التمثيل المباشر هنا. ولكن واقع الحال يتجسد في أن الجهود الحثيثة التي بذلتها طيلة اثني عشر عاماً (1969- 1981) في كتابة هذه المقالات ساقتني للتعامل مع كل الأنواع الأربعة التي تتألف منها الممارسة النقدية الأدبية. وذلك بالطبع شيء عادي جداً، وصحيح قوله أيضاً عن معظم نقاد الأدب في هذه الأيام.
ولئن كانت هنالك من مساهمة يساهم بها ما دعوته في هذا الكتاب بالنقد أو الوعي النقدي، فهي محاولة تخطي حدود الأشكال الأربعة كما جاء تحديدها أعلاه. وإن هذا الجهد ليسم (إن لم يسم نجاحه) العمل النقدي الذي تضطلع بعبئه هذه المقالات كما يسم، فضلاً عن ذلك، الأعمال والاصطلاحات التي تدين المقالات بوجودها لها.
إن الوضع السائد في النقد الآن قد بلغ الحد الذي جعل كل شكل من الأشكال الأربعة يمثل بحد ذاته تخصصاً (على الرغم من نشوز النظرية الأدبية بعض الشيء) وميداناً محدداً جداً من ميادين الجهد الفكري. وإن من المفروض، علاوة على ذلك، أن يوجد الأدب وكل الدراسات الإنسانية في صميم الثقافة (أو ثقافتنا كما يقال عنها في بعض الأحيان)، وأن تحظى الثقافة، من خلالهما، بشرف السمو والتعزيز، وأن تبقى ممارسة الثقافة الرفيعة ذات الخطوة الرسمية هامشية أيضاً حيال الهموم السياسية الخطيرة التي يعيشها المجتمع -ولا سيما في تلك النسخة الثقافية التي يغرسها في الأذهان المثقفون المحترفون والنقاد الأدبيون.
وهذا الواقع أدى إلى قيام عبادة الخبرة الاحترافية ذات الأثر المخزي على العموم.
فالخبرة كانت، بالنسبة لطبقة أهل الفكر، خدمة تسدى، لا بل وتباع، للسلطة المركزية في المجتمع بشكل عادي، وهذه هي خيانة الكتبة المأمورين “Trahison des clercs” التي تحدث عنها جوليان بيندا في العشرينات. فالخبرة في الشؤون الخارجية، على سبيل المثال، كانت في العادة تعني إضفاء مسحة الشرعية على مسلك السياسة الخارجية، لا بل والأقرب إلى الصواب أن نقول أنها كانت استثماراً مطولاً لإعادة تعزيز دور الخبراء في الشؤون الخارجية(1). وإن مثل هذا القول الصحيح عن نقاد الأدب والكتاب الإنسانيين المحترفين، عدا أن خبرتهم قائمة على أساس عدم التدخل فيما دعاه فيكو بمنتهى الروعة بعالم الأمم- أي ذلك العالم الذي يمكن دعوته أيضاً، بمنتهى البساطة، "بالعالم أو الدنيا". فنحن نقول لتلاميذنا وعموم جماهيرنا بأننا ندافع عن الآداب الكلاسيكية، مفخرة الثقافة الليبرالية ودرر الأدب النفيسة، حتى في الوقت الذي نكشف فيه عن أنفسنا بأننا صامتون (ولربما عاجزون) حيال العالم التاريخي والاجتماعي الذي تحدث فيه كل هذه الأشياء.
إن المدى الذي يصل إليه الطلاق بين مؤسسة الميدان الثقافي وخبرته وبين صلاتهما الحقيقية بمؤسسة السلطة قد تجلى لي على أوضح ما يكون من خلال حديث مع صديق جامعي قديم كان يعمل في وزارة الدفاع لفترة من الزمن خلال حرب فيتنام. فوفتها كان القصف على أشده، وكنت أحاول بكل سذاجة أن أفهم نوعية ذلك الشخص الذي كان بمقدوره أن يأمر يومياً طائرات ب- 52 بإلقاء القنابل على بلد آسيوي بعيد بحجة المصلحة الأمريكية في الدفاع عن الحرية وإيقاف المد الشيوعي. "يا صاحبي"، قال صديقي، "إن الوزير كائن بشري عديد المكونات: فهو لا ينطبق على الصورة التي ربما حملتها في ذهنك عن السفاح الإمبريالي المتوحش. إذ في المرة الأخيرة التي كنت فيها بمكتبه شاهدت على طاولته رواية (الرباعية الاسكندرانية) لدوريل". ومن ثم توقف عن الحديث بكل مكر وكأنه كان يريد أن يترك لوجود تلك الرواية على الطاولة أن يعود وحده علي بتأثيره البغيض. ولكن المغزى الأدهى لحكاية صديقي كان مفاده أنه ما من إنسان قرأ رواية ما، واستعذبها على أرجح الظن، كان بوسعه أن يكون ذلك السفاح المتوحش الذي قد يتصوره المرء(2). وبعد مضي عدة سنوات تخطر على بالي هذه النادرة التي تتقاذفها كلها الشكوك (وأنا لم أعد أتذكر رد فعلي على ذلك الربط المبهم بين دوريل وبين إصدار الأوامر بالقصف في الستينات) وتقع علي وقع الصاعقة كونها الشيء النموذجي عما يحدث بالفعل على أرض الواقع: فالكتاب الإنسانيون والمفكرون يقبلون الفكرة التي مفادها أن بمقدورك أن تقرأ أحسن القصص وأن تقتل وتشوه البشر في آن واحد معاً لأن باب العالم الثقافي مفتوح على مصراعيه أمام ذلك النوع الخاص من التعمية، ولأن الأنواع الثقافية ليس من المفروض أن تتدخل في تلك الأمور التي لا تصادق المنظومة الاجتماعية على تدخلها بها. وإن الشيء الذي ينجلي من تلك النادرة هو الفصل المستحب بين البيروقراطي الرفيع المقام وبين قارئ الروايات ذوات القيمة المشكوك بها والمكانة المحددة.
وخلال أواخر الستينات (1960) طرحت نفسها النظرية الأدبية بمزاعم جديدة. فالجذور الفكرية للنظرية الأدبية في أوربا كانت طافحة بالتمرد، وهذا عين الصواب على ما أظن.
إن الجامعة التقليدية وهيمنة الحتمية والوضعية وتجسيد الإيديولوجيا البورجوازية "للمنزع الإنساني" والحواجز الصارمة بين الاختصاصات الأكاديمية: كلها جعلت النظرية الأدبية تطرح نفسها على أنها ردود أفعال عنيفة على كل هذه الأمور التي عملت على ترابط الأسلاف النافذين للمنظّر الأدبي الحالي من أمثال سوسور ولوكاش وباتيل وليفي شتراوس وفرويد ونيتشه وماركس. لقد طرحت نفسها تلك النظرية بأنها مركب يعتزم الإحاطة بكل الإقطاعات الصغيرة في قلب عالم الإنتاج الفكري، وكان الأمل المنشود البيّن أن من الممكن، بالنتيجة، توحيد كل ميادين النشاط البشري، فضلاً عن المعاش معها كوحدة.
ولكن ثمة شيء طرأ، ولربما بشكل لا مناص منه. فالنظرية الأدبية الأمريكية انكفأت من حركة تدخلية جاسرة عبر تخوم التخصص في أواخر السبعينات ودخلت في تيه "النصيّة" وهي تجر معها أحدث رواد النصية الثورية الأوربية كديريدا وفوكو اللذين كانا يدأبان، هما نفساهما، بمنتهى الأسف، على تشجيع تقديس تلك النظرية للأشياء وصقلها عبر الأطلسي. وهكذا فليس من المبالغة في شيء أن نقول بأن النظرية الأدبية الأمريكية، أو حتى الأوربية، صارت تتقبل الآن مبدأ عدم التدخل وبلا أي تحفظ، وبأن طريقتها الخاصة في اقتناص موضوعها (وفق صيغة آلثوسر) لا تعني أبداً اقتناص أي شيء دنيوي أو ظرفي أو ملوث اجتماعياً.
وهكذا صارت النصية بمثابة النقيض الحقيقي لما يمكن دعوته بالتاريخ بعد تنحيته جانباً والحلول محله. فالرأي الذي يعتبر أن النصية صار لها وجود لرأي صائب، بيد أنها وبالطريقة نفسها لم تبرز في أي مكان محدد أو في أي زمان معين. إنها استنبات، ولكن لا بفعل أي إنسان على الإطلاق ولا في أي زمان بتاتاً، وإن من الممكن قراءتها وتأويلها، غير أن المفهوم روتينياً أن القراءة والتأويل يحدثان على نحو مغلوط، وهكذا فإن من الممكن تمديد لائحة الأمثلة إلى ما لا نهاية، ولكن بيت القصيد يبقى على ما هو عليه. فالنظرية الأدبية، بالشكل الذي تجري فيه ممارستها اليوم في الأكاديمية الأمريكية، عزلت النصية في أغلب الأحوال عن الظروف والأحداث والحواس الجسدية التي جعلت منها شيئاً ممكناً، وأحالتها إلى شيء واضح جراء اعتبارها نتيجة للعمل البشري.
فحتى لو قبلنا (كما أقبل أساساً أنا) الأدلة التي طرحها هيدن وايت- ومنها أنه ما من سبيل قط لتجاوز النصوص ابتغاء وعي التاريخ "الحقيقي" بشكل مباشر- فإن من الممكن أيضاً أن نقول أن مثل هذا الإدعاء يجب ألا ينسخ الاهتمام بتلك الأحداث والظروف التي نجمت عن النصوص نفسها والتي عبرت عنها النصوص. وإن تلك الأحداث والظروف ما هي إلا نصية أيضاً (فكل روايات وحكايات كونراد تقريباً تطرح لنا وضعاً -من مثل زمرة من الأصدقاء ممن يجلسون على متن سفينة ويستمعون إلى حكاية ما- يفضي إلى السرد الذي يشكل النص)، فضلاً عن أن الكثير مما يدور في النصوص يلمح إلى النصوص في الوقت نفسه، أي يتقرب بنفسه منها على نحو مباشر. فموقفي هو القول بأن النصوص دنيوية، وهي أحداث إلى حد ما، وهي فوق كل هذا وذاك قسط من العالم الاجتماعي والحياة البشرية، وقسط بالتأكيد من اللحظات التاريخية التي احتلت مكانها فيها وفسرتها حتى حين يبدو عليها التنكر لذلك كله.
إن النظرية الأدبية، نظرية اليسار أو اليمين سواء بسواء، قد أدارت ظهرها لكل هذه الأشياء، وهذا الموقف يمكن اعتباره، كما أرى، انتصاراً لأخلاق الاحترافية، ولكن ليس من المصادفة في شيء أن يقترن بروز فلسفة أضيق مما ينبغي، أي فلسفة النصية البحتة وعدم التدخل النقدي، مع سطوع نجم الريغانية([1])، أو بعبارة أخرى، مع حرب باردة جديدة وتفاقم التعسكر ونفقات الدفاع، والانجراف الهائل باتجاه اليمين في أمور تمس الاقتصاد والخدمات الاجتماعية والأيدي العاملة المنظمة(4)، فالنقد المعاصر، في عزوفه عن الدنيا بقضها وقضيضها كرمى لنص تكتنفه الشكوك والمغالطات إلى حد لا يتصوره العقل، تخلى عن جمهوره، عن أهالي المجتمع الحديث الذين تركوا تحت رحمة قوى السوق "الحرة" والشركات المتعددة الجنسيات ومضاربات الشهوات الاستهلاكية. وها نحن الآن نشهد ترعرع رطانة طنانة كي تحجب، بتعقيداتها المرعبة، الوقائع الاجتماعية وكي تشجع، ويا للغرابة، دراسة "أنماط التمييز" بشكل بعيد جداً عن الحياة اليومية في مرحلة انحسار القوة الأمريكية.
فالنقد لم يعد بوسعه التعاون مع هذه المغامرة التجارية، أو التظاهر بتجاهلها لأن ممارسة النقد لا تعني البتة إضفاء مسحة من الشرعية على الوضع الحالي أو الالتحاق بركب طبقة كهنوتية من البطاركة والميتافيزيقيين الدوغماتيين. إن كل مقالة في هذا الكتاب تؤكد على الترابط بين النصوص وبين الوقائع الوجودية للحياة البشرية والسياسة والمجتمعات والأحداث. فالوقائع المتعلقة بالقوة والسلطة -والمتعلقة أيضاً بضروب المقاومة التي يبديها الرجال والنساء والحركات الاجتماعية والسلطات والمعتقدات التقليدية- هي الوقائع التي تجعل من النصوص أمراً ممكناً، وهي التي تطرحها لقراء تلك النصوص، وهي التي تستقطب اهتمام النقاد. ولذلك فإنني أقترح أن تكون هذه الوقائع مثار اهتمام النقد والوعي النقدي.
وعند هذا الحد صار من الواضح ولا بد أن هذا النوع من النقد لا يمكن ممارسته إلا خلف وخارج إطار الإجماع المتحكم بهذا الميدان اليوم في تلك الأشكال الأربعة المقبولة التي جئت على ذكرها آنفاً. ومع ذلك فلئن كانت هذه المهمة هي مهمة النقد في الزمن الحالي، ألا وهي الوقوف بين الثقافة السائدة وبين الأشكال التجميعية للمنظومات النقدية، فهنالك شيء من العزاء إن نحن تذكرنا أن هذا المآل كان في الوقت نفسه مآل الوعي النقدي في الماضي القريب
***
ما من قارئ قرأ كتاب "المحاكاة" (Mimesis) لإرخ أورباخ، وهو واحد من أهم الكتب وأكثرها إثارة للإعجاب، وكتاب من أنفس الكتب التي ظهرت على وجه الأرض عن النقد الأدبي، وإلا ودغدغت مشاعره الظروف التي أحاطت بالكتابة الفعلية لهذا الكتاب.
فلقد لمح أورباخ عرضاً تقريباً إلى هذه الظروف في الأسطر الأخيرة من الخاتمة التي تمثل شرحاً موجزاً جداً لعلم المنهج (ميثودولوجيا) عما صار في خاتمة المطاف عملاً بارزاً ذا ألمعية أدبية.
إذ بعد أن يشير أورباخ إلى أنه ما كان بوسعه أن يتعامل مع كل الأشياء المكتوبة من قبل عن الأدب الغربي، وفيه، لتحقيق طموحه في دراسة مستفيضة مثل "تصوير الواقع في الأدب الغربي" يردف قائلاً:
[وقد أذكر أيضاً أن كتابة الكتاب كانت خلال الحرب وفي استانبول، حيث أن المكتبات غير مؤهلة لإجراء الدراسات الأوربية. وبما أن الاتصالات الدولية كانت معوّقة كان لزاماً علي أن أستغني عن كل الدوريات تقريباً، وعن كل أحدث الاستقصاءات تقريباً أيضاً، كما كان لزاماً علي في بعض الحالات الاستغناء عن طباعة نصوصي طباعة موثوقة. ونظراً لذلك فإن من الممكن وحتى من المحتمل أن أكون قد تجاهلت بعض الأشياء التي كان يتوجب علي أن أمعن النظر فيها، وأن أكون قد أكدت أحياناً على شيء دحضه أو عدله البحث الحديث... ولكن من الناحية الأخرى فإن من الممكن جداً أن يكون الكتاب مديناً بوجوده لهذا النقص نفسه المتمثل بغياب مكتبة غنية ومتخصصة.
فلو أتيح لي أن أتعرف على كل ذلك العمل الذي تم إنجازه عن موضوعات عديدة جداً، لما توصلت على الأرجح إلى اتخاذ قرار بالكتابة](5).
إن مأساة هذا الشيء البسيط من التواضع أمر ملفت للنظر وذلك لأن أورباخ يتحدث، أولاً، بلهجة هادئة تخفي الكثير من آلامه في منفاه. فلقد كان لاجئاً يهودياً هارباً من أوربا النازية، وكان باحثاً أوربياً في ذلك التراث العريق الذي يدور حول دراسة (الأدب الرومانسي الألماني).
ولذلك فقد كان هنا في استانبول يائساً من أي اتصال له مع المرتكزات الأساسية السياسية والثقافية والأدبية التي كان يستند عليها ذلك التراث الهائل. وفي كتابة "المحاكاة" لم يكن يمارس، كما يلمح إلينا في عمل لاحق، احترافه فقط على الرغم من كل المعوقات: بل كان ينجز عملاً ثقافياً، وحضارياً حتى، وسرمدياً ذا أهمية قصوى. فالشيء الذي جازف به ما كان مجرد احتمال ظهوره في كتابته ضحلاً، متخلفاً عن العصر، مخطئاً وذا طموح سخيف (إذ من هو ذلك الإنسان ذو العقل السليم الذي يضطلع بعبء مشروع ضخم جداً ضخامة موضوع الأدب الغربي بأسره؟). ولقد جازف أيضاً، من الناحية الأخرى، باحتمال عدم الكتابة والوقوع بالنتيجة فريسة المخاطر الحقيقية للمنفى: أي انعدام النصوص والموروثات والتواصلات التي تشكل شبكة ثقافة ما. فالمنفي الأوربي يصبح، لدى انعدام الوجود الفعلي للثقافة كما تتمثل مادياً بالمكتبات ومؤسسات البحث ووجود كتب أخرى وباحثين آخرين، منبوذاً ومرتبكاً وبعيداً كل البعد عن الحس والأمة والمناخ.
وحين يختار أورباخ أن يذكر استانبول كمكان منفاه فإنه يضيف بذلك شحنة مأساوية أخرى على ظهور كتاب "المحاكاة" بشكل فعلي. فبالنسبة لأي أوربي متمرس أساساً بالآداب الرومانية زمن القرون الوسطى وزمن الانبعاث الحضاري، بالشكل الذي كانه أورباخ، فإن استانبول لا تجسّد ضمناً مكاناً خارج أوربا بتلك البساطة وحسب. فاستانبول تمثل التركي المرعب، والإسلام أيضاً، أي بعبع الديار المسيحية والرمز المجسّم لتلك الردة الدينية المشرقية الكبيرة. لقد كانت تركيا، طيلة العصر الكلاسيكي للثقافة الأوربية، هي المشرق كله ممثلاً بالإسلام العدواني المروّع(6). بيد أن هذا لم يكن كل شيء. فالمشرق والإسلام كانا يمثلان أقصى درجات الغربة عن أوربا ويمثلان التصدي لأوربا والموروث الأوربي المتجسد باللاتينية المسيحية، فضلاً عن التصدي للسلطة المزعومة للكنيسة والمنزع الإنساني في التعليم والجماعة الثقافية الواحدة. لقد بقيت تركيا والإسلام، طيلة قرون وقرون، سيفاً مصلتاً على أوربا كوحش مركب عملاق يهدد أوربا بالدمار، إن وجود منفي أوربي في استانبول وقت الفاشية في أوربا كان يعني شكلاً صارماً ومهيلاً جداً من أشكال النفي عن أوربا.
ومع ذلك فإن أورباخ يكشف علانية سر تلك المفارقة التي مفادها أن بعده بالتحديد عن موطنه -بكل المعاني التي تنطوي عليها هذه العبارة- هو الشيء الذي أتاح له فرصة ذلك الإنجاز الرائع لكتاب "المحاكاة". فكيف تراه انقلب المنفى من تحد أو مخاطرة، لا بل ومن صدمة عنيفة لذاته الأوربية، إلى مهمة إيجابية، ومهمة سيكون نجاحها عملاً ثقافياً ذا أهمية فائقة؟
إن الجواب على هذا السؤال موجود في المقالة التي كتبها أورباخ في خريف حياته بعنوان "فيلولوجيا الأدب العالمي". فالقسط الأكبر من هذه المقالة يحبك تلك الفكرة التي ظهرت على أوضح ما يكون للوهلة الأولى في كتاب "المحاكاة"، والتي من الممكن تقديرها سلفاً في الاهتمام الباكر الذي أولاه أورباخ لفيكو، ومفادها أن العمل الفيلولوجي يتعامل مع الإنسانية جمعاء ويتخطى الحدود القومية. فكما يقول: "إن موطننا الفيلولوجي هو المعمورة، إذ لم يعد بوسعه البقاء ضمن إطار الأمة". ولكن مقالته تبين أن موطنه الدنيوي هو الثقافة الأوربية. بيد أنه، وكأنما يتذكر اقتلاعه من جذوره الأوربية ومنفاه في المشرق، يضيف قائلاً: "إن أثمن قسط من إرث الفيلولوجي، والقسط الذي لا غنى عنه، لا يزال يكمن في إرث وثقافة أمته ذاتها. وإن عمله لن يكون مجدياً قولاً وفعلاً إلا حين ينفصل أولاً عن هذا الإرث ومن ثم يتخطاه"(7) وهكذا فابتغاء التوكيد على القيمة المستحبة التي تكمن في الانفصال عن الموطن يستشهد أورباخ بفقرة مما يقوله هوغو في كتاب "التهذيب" للقديس فيكتور-:
ولذلك فإن مصدراً عظيماً من مصادر الفضيلة بالنسبة للذهن المتمرس هو أن يتعلم بادئ ذي بدء، ورويدا رويداً، تبدل موقفه من الأشياء المنظورة والعابرة كي يتمكن لاحقاً من أن يخلفها كلها وراءه. فالإنسان الذي يرى موطنه أثيراً على نفسه هو إنسان غفل طري العود، والإنسان الذي ينظر إلى أية تربة وكأنها تربة موطنه فهو إنسان قوي، وأما الإنسان الكامل فهو ذلك الإنسان الذي يرى العالم بأسره غريباً عليه. (إن النص اللاتيني بهذا الخصوص على أوضح ما يكون إذ يقول:
perfectus vero cui mundus totus exilium est).
وهذا هو كل ما يقتبسه أورباخ من هوغو، في حين أن بقية الفقرة تتواصل على المنوال نفسه:
إن صاحب النفس الوديعة يركز حبه على بقعة واحدة من العالم، في حين أن الإنسان القوي يوسع حبه كي يشمل الأمكنة كافة، ولكن الإنسان الكامل هو من يخمد جذوة حبه. وأنا معتاد منذ أيام الصبا على أن أقيم في بلاد غريبة، وإنني لأدرك عمق الحزن الذي يشعر به الذهن أحياناً لدى مغادرة الموقد الضيق في كوخ أحد الفلاحين، وأدرك أيضاً عمق الإزدراء الصريح الذي يكنّه الذهن للمواقد الرخامية وللقاعات المزدانة بألواح الخشب الفاخر(8).
إن أورباخ يقرن بين عقيدة هوغو حيال المنفى وبين فكرتي الفاقة والبلد الأجنبي (paupertass- terra aliena) ، على الرغم من أنه في الكلمات الأخيرة من مقالته يؤكد على أن شرعة التقشف الكامنة في التشرد المتعمد هي "وسيلة جيدة أيضاً للإنسان الذي يتمنى أن يحظى بحب لائق للعالم". وهكذا فعند هذه النقطة تتجلى خاتمة أورباخ في كتاب "المحاكاة": "من الممكن تماماً أن يكون الكتاب مديناً بوجوده لنفس هذا النقص المتمثل بانعدام وجود مكتبة غنية ومتخصصة". وبكلمات أخرى كان الكتاب مديناً بوجوده لنفس تلك الحقيقة التي مفادها أن المنفى والتشرد كانا في المشرق لا في المغرب الأوربي. ولئن كان الواقع على هذا النحو فإن كتاب "المحاكاة" نفسه لن يكون كما كان الظن فيه مراراً وتكراراً، مجرد توكيد للتراث الثقافي الغربي وحسب، وإنما سيكون أيضاً عملاً مبنياً على اغتراب هام وحقيقي عن ذلك التراث، وعملاً لا يستمد شروط وظروف وجوده مباشرة من تلك الثقافة التي يصفها بمثل ذلك النوع من التبصر والألمعية النادرين، بل يستمدها على الأرجح من ابتعاد معضل عنها. وعلاوة على ذلك يشتط أورباخ إلى حد القول، كما يروي لنا في فصل سابق من فصول "المحاكاة"، بأنه لو حاول القيام بعمل دراسي كامل وبالطريقة التقليدية لما كان بمقدوره أن يكتب ذلك الكتاب: إذ لكانت الثقافة نفسها، بمؤسساتها الرسمية والمأذونة، قد منعت إقدام رجل واحد على إنجاز مهمة بهذه الجسارة. فمن هنا جاءت القيمة التنفيذية للمنفى، تلك القيمة التي استطاع أورباخ تحويلها واستغلالها لتنفيذ عمل مجد.
وهيا بنا الآن نعيد النظر بفكرة المكان، تلك الفكرة التي تمكن من خلالها إنسان مثل أورباخ أن يشعر في استانبول، طيلة فترة تبعده عن مكانه الطبيعي، بأنه بعيد عن مكانه ومنفي ومتغرب، إن أقرب وصف للمكان قد يحدده على أنه الأمة، إذ أن فكرة الأمة، أي فكرة جماعة ثقافية قومية ككينونة ذات سيادة وذات مكان محدد قبالة غيره من الأمكنة الأخرى، تحظى بالتأكيد بأكمل درجات التحقيق في تلك الحدود الشاسعة المرسومة بين أوربا والمشرق- ألا وهي تلك الحدود الحافلة بموروث طويل وتعيس في أغلب الأحيان في الفكر الأوربي(9). ولكن فكرة المكان هذه لا تغطي الفروق الدقيقة القائمة بالأساس بين التوكيد والتلاؤم والانتماء والتوحد والتجمع، أي كل ما ينجم عن عبارة "في الموطن، أو في المكان المناسب".
وفي هذا الكتاب سوف أستخدم كلمة "ثقافة" للإِشارة إلى بيئة وعملية وهيمنة مطمور فيها الأفراد (في ظروفهم الخاصة) وأعمالهم، فضلاً عن أنهم في الوقت نفسه تحت المراقبة من فوق بواسطة البنية الفوقية، ومن تحت بواسطة سلسلة كاملة من المواقف الميثودولوجية.
ولذلك ففي الثقافة وحدها نستطيع العثور على كل سلسلة المعاني والأفكار التي تنقلها لنا عبارات من أمثال "الانتماء إلى مكان، أو في مكان مناسب، وكون المرء في موطنه وفي مكانه المناسبين".
إن فكرة الثقافة لفكرة فضفاضة بالطبع. ولكن الثقافة، ككتلة منهجية ذات دلالة سياسية واجتماعية وتاريخية أيضاً، فضفاضة بدورها كفكرتها، والدليل على ذلك يقوم في معجم كروبر كلوكون عن معاني كلمة الثقافة في ميدان علم الاجتماع(10). بيد أنني سأتفادى ذكر تفاصيل هذه المعاني المتكاثر بعضها من بعض، وأكتفي بالتطرق مباشرة إلى ما أظنه يخدم أهدافي هنا على أفضل ما يرام. فالثقافة يتم استخدامها، في المقام الأول، لا لتحديد الشيء الذي ينتمي إليه المرء وحسب، وإنما لتحديد الشيء الذي يمتلكه المرء، ناهيك عن تحديدها أيضاً، فضلاً عن عملية الامتلاك السالفة الذكر، ذلك الحد الفاصل الذي تحتدم عليه معركة ضارية بين مفهوم الشيء الدخيل على الثقافة ومفهوم الشيء الذي من صلبها هي، فهذه الأشياء ليست مثار جدل البتة: إذ إن معظم الناس الذين يستغلون مقولة الثقافة يوافقون عليها ولا بد، مثلما يوافق عليها أورباخ في خاتمة كتابه حين يتحدث عن وجوده في استانبول بعيداً عن بيئته الثقافية المألوفة. بعيداً عن صلب مواد البحث والبيئة المعتادة.
ولكن، في المقام الثاني، هنالك بعد أكثر تشويقاً لفكرة الثقافة هذه ألا وهو تملكها الامتلاك، أي بما معناه أن الثقافة بمقدورها، بفضل موقعها الرفيع أو السامي، أن تجيز وتهيمن وتحلّل وتحرّم، وأن تخفض منزلة شيء ما أو أن ترفع من مقامه، الأمر الذي يعني بوجيز العبارة: قدرة الثقافة على أن تكون وسيلة، أو ربما الوسيلة الأساسية، للإتيان بالتمييز القاطع في قلب مضمارها هي وفيما خلف ذلك المضمار أيضاً، فهذه الفكرة هي الفكرة الجلية في الاستشراق الفرنسي، على سبيل المثال، كشيء متميز عن الاستشراق الانكليزي، وهذا بدوره يلعب دوراً رئيسياً في عمل إيرنست رينان ولويس ماسينون وريموند شواب الذين يمثلون أكابر الباحثين، والذين سيكون عملهم موضع التقويم في الجزء الأخير من هذا الكتاب.
وحين يتحدث أورباخ عن عدم قدرته على كتابة كتاب مثل "المحاكاة" لو أنه بقي في أوربا، فإنه يشير بالتحديد إلى تلك الشبكة المتصالبة المتألفة من تقنيات البحث ومن القوانين الأخلاقية- وهي الشبكة التي من خلالها تفرض الثقافة السائدة على الباحث الفرد قوانينها المتعلقة بكيفية إجراء الدراسة الأدبية. ومع ذلك فحتى هذا النوع من الفرض ليس إلا مظهراً ثانوياً من مظاهر قدرة الثقافة على السيطرة على العمل وعلى تجويزه. وأما الشيء الأهم في الثقافة فهو أنها منظومة من القيم التي ترشح إلى تحت كي تغمر بقطراتها كل شيء تقريباً ضمن نطاقها هي، وإلى حد البلل. ولكن المفارقة العجيبة تكمن في أن الثقافة تتحكم من فوق دون أن تكون، في الوقت نفسه، متاحة لأي شيء ولأي إنسان تتحكم به. وواقع الحال في عصرنا هذا، عصر المواقف المتأنية عن وسائل الإعلام، أن الإصرار الإيديولوجي، الذي تصر عليه هذه الثقافة أو تلك لاستقطاب الانتباه إليها على أنها سامية قد حل به الوهن وحلّت محله ثقافة صارت قوانينها ومعاييرها خفية إلى ذلك الحد الذي صارت تبدو فيه بأنها "طبيعية وموضوعية وحقيقية".
إن المرء ليفترض، من منطلق تاريخي، أن الثقافة كانت دائماً تعني ضمناً التسلسلات الهرمية وذلك لأنها عزلت الخاصة عن العامة، الأمير عمن هم أقل تميزاً وهكذا دواليك.
وعلاوة على ذلك فقد جعلت بعض الأساليب والأنماط الفكرية تطغى على ما عداها. ولكن توجهها كان على الدوام يتمثل بالتحرك إلى تحت من ذروة القوة والتميز كي تنثر وتنشر وتوسع نفسها على أوسع نطاق ممكن. فالثقافة في شكلها النفعي هي تلك الثقافة التي يتحدث عنها ماثيو آرنولد في كتابه المعنون بـ "الثقافة والفوضى". باعتبارها تثير في أشياعها حماسة متقدة:
إن جهابذة الثقافة هم أولئك الرجال المتحمسون لنشر أفضل معلومات وأفضل أفكار زمانهم، ولتيسير سيادتها ونقلها من هذا الطرف في المجتمع إلى ذاك، وهم أولئك الرجال المجتهدون لتشذيب المعرفة من كل ما كان فظاً سقيماً عسيراً عويصاً احترافياً ومنّاعاً، بغية إضفاء مسحة إنسانية عليه وجعله مجدياً خارج إطار زمرة المصقولين والمتعلمين شريطة استبقائه بين أفضل معلومات وأفكار الزمان [هذا هو بالتأكيد التعريف الذي ساقه آرنولد للثقافة] وجعله، من ثم، مصدراً حقيقياً للطلاوة والنور.(11)
· إن السؤال الذي تطرحه هنا حماسة آرنولد للثقافة هو العلاقة بين الثقافة والمجتمع فهو يحاول أن يبرهن على أن المجتمع هو الأساس المادي والفعلي الذي تحاول الثقافة أن توسع هيمنتها عليه من خلال جهابذة الثقافة. ولذلك فإن العلاقة المثلى بين الثقافة والمجتمع ما هي إلا علاقة تطابق يغطي الأول فيها الثاني. بيد أن الأمر الذي يتجاهله قراء آرنولد مراراً وتكراراً هو أن آرنولد يتصور هذا الطموح الذي تطمح إليه الثقافة لبسط هيمنتها على المجتمع إن هو بالأساس إلا طموح ديدنه الصراع: أي أن أفضل المعلومات وأفضل الأفكار عليها أن تتبارى مع كل الإيديولوجيات والفلسفات والعقائد والتصورات والقيم المتضاربة فيما بين بعضها بعضاً، علاوة على أن التبصر الذي كان لدى آرنولد كان مؤاده أن الشيء الذي يحدق به الخطر في المجتمع ليس مجرد صقل الأفراد، أو تطوير زمرة من الإحساسات المرهفة، أو بعث الاهتمام بالآداب الكلاسيكية، وإنما كان إحكام الهيمنة المطلقة، بعد نوالها والظفر بها، لزمرة من الأفكار المتماثلة التي يدعوها آرنولد توقيراً لها بالثقافة، على غيرها من الأفكار الأخرى في المجتمع.
ومع ذلك فالشيء الذي لا يزال على صلة وثيقة بالموضوع هو توجيه السؤال إلى آرنولد عن مكان حدوث هذا الصراع من أجل الهيمنة. فإذا قلنا بأنه يحدث في المجتمع نكون قد اقتربنا من الجواب، على ما أظن، ولكن يبقى علينا أن نحدد مكانه في المجتمع، وقصارى القول فإن اهتمام آرنولد يدور حول مجتمع محدد إجمالاً على أنه، مثلاً، أمة -إنكلترا، فرنسا، ألمانيا، ولكن الأكثر إمتاعاً من هذا هو أن آرنولد يتصور المجتمع على ما يبدو وكأنه عملية ولربما كينونة عرضة للانقياد والهيمنة، لا بل وللاقتناص أيضاً، وإن ما كان يفهمه آرنولد على الدوام هو أن المرء حين يكون قادراً على تسليط مجموعة أو منظومة من الأفكار المدعوة "بالثقافة" على المجتمع يعني أن يكون ذلك المرء قد أدرك أن المراهنات التي يراهن عليها هي تشبّه المجتمع بالثقافة، وبالتالي احتياز سلطة مرعبة جداً. ولذلك ليس من باب المصادفة في شيء أن يلزق آرنولد، في خاتمة كتابه "الثقافة والفوضى"، الثقافة المظفرة بالدولة، ما دامت الثقافة هي أفضل ذات المرء والدولة تحقيق لتلك الذات في الواقع المادي. وهكذا فإن قوة الثقافة ليست، على نحو كامن، بأقل من قوة الدولة في شيء. وإن آرنولد ليس على أي شيء من الغموض حيال هذه النقطة إذ إنه يتحدث، أول ما يتحدث، عن معارضته المطلقة لأمور من أمثال "الإضرابات والمظاهرات، كائناً ما كان نبل القضية، وبعدئذ يمضي قدماً ليبرهن على أن مثل هذه "الفوضى" ، كالإضرابات والمظاهرات، تتحدى سلطة الدولة التي شأنها، أخلاقياً وسياسياً وجمالياً، شأن الإضرابات والمظاهرات:
إن الدولة التي يكون فيها القانون حازماً وآمراً، تكون المسيرة الراسخة والمستقرة للنظام العام شرطاً لازماً كي يحقق المرء النضج لكل ما هو ثمين ودائم الآن، أو كي يوطد الأسس لكل ما هو ثمين ودائم في المستقبل.
ولذلك فنحن نرى أن إطار الدولة ونظامها الخارجي، كائناً من يكون الإنسان الذي يدير الدولة، شيء واحد مقدس، وبناء على ذلك فإن الثقافة من ألدّ أعداء الفوضى، بالنظر لتلك الآمال والمخططات التي ترعاها الدولة، والتي تعلمنا الثقافة أن نرعاها أيضاً.
إن التواكل في ذهن آرنولد بين الثقافة، أي السيادة الراسخة للثقافة على المجتمع (كل ما هو ثمين ودائم)، وبين إطار الدولة ونظامها الخارجي شبه اللاهوتي، أمر واضح تماماً، وهذا التواكل يوحي بتطابق السلطة تطابقاً تواظب على حبكه بلاغة آرنولد وتفكيره. فلكي يكون المرء مع الثقافة وفيها، يعني أن يكون في الدولة ومعها بطريقة ولاء قسري. ومع هذا التشابه، تشابه الثقافة مع الإطار الخارجي للدولة، تأتي ثمة أشياء أخرى كالثقة والعهد وحس الأكثرية وكل شبكة المعاني التي نقرنها بعبارة "الموطن" والانتماء والجماعة. فخارج سلسلة هذه المعاني- وذلك لأن الخارج هو ما يحدد الداخل في هذه الحالة- تقف الفوضى والمحرومون ثقافياً شرعاً، أي تلك العناصر التي تعارض الثقافة والدولة: ألا وهم المشردون، بمنتهى الاختصار.
ليس في نيتي هنا أن أبحث بالتفصيل تلك المضامين التي تنطوي على أهمية قصوى، والتي تتجلى في التعليقات الختامية لآرنولد على الثقافة. ولكن من الجدير بنا أن نصرّ، على الأقل، على بعض تلك المضامين في إطار أعرض من الإطار الذي وضعها فيه آرنولد. فحتى لو كانت الثقافة هي المثل الأعلى بالنسبة لآرنولد، يجب النظر إليها بنفس هذا المنظار من أجل الشيء الذي ينتفي منها ومن أجل الشيء الذي تنتصر عليه حين تكون موضع تقديس الدولة ومن أجل حقها بذلك التقديس حين تكون واقعية. وهذا يعني أن الثقافة عبارة عن منظومة من التمييزات والتقويمات- الجمالية أساساً على الأرجح- كما قال ليونيل تريلينغ، بيد أنها ليست أقل قهراً ولذلك السبب نفسه(13) لأن شريحة من الدولة تكون قادرة على التشبه بها، كما يعني أن الثقافة عبارة عن منظومة من النفايات المشترعة من الأعلى ولكن قوانينها مسنونة من خلال جماعتها السياسية، وبتلك المنظومة يمكن رصد أمور من أمثال الفوضى والشغب واللاعقلانية والدونية والذوق السقيم واللا أخلاقية، ويمكن نبذها واستبقاؤها هناك بواسطة سلطة الدولة ومؤسساتها.
إذ لو صحّ القول بأن الثقافة، من ناحية أولى، هي العقيدة الإيجابية لأفضل ما يستخلصه الفكر ويعرفه، فهي أيضاً من ناحية أخرى بمثابة العقيدة السلبية التفاضلية لكل ما ليس بأفضل.
ولئن كنا قد تعلمنا مع ميشيل فوكو أن ننظر إلى الثقافة نظرتنا إلى سيرورة متشحة بالمؤسسات، وسيرورة تستبقي مناسباً كل ما تراه مناسباً لها، فقد رأينا فوكو أيضاً وهو يبين كيف أن آخريات معينة، آخرين معينين، قد استبقوا صامتين، خوارج، أو استبقوا -في الحالة التي درس فيها قانون العقوبات والكبت الجنسي- مدجنين لصالح الاستعمال في قلب الثقافة.
وحتى لو رغبنا بتفنيد كل ما وجده فوكو من النفايات التي نفتها الثقافة الأوربية الكلاسيكية لكل ما وسمته قانونياً بالمعتوه أو اللاعقلاني، وحتى لو لم نقتنع بأن الموقف المتناقض الذي وقفته تلك الثقافة من مسألة الجنس بتشجيعه وكبته في آن واحد معاً كان موقفاً معمماً بالشكل الذي يتصوره فيه فوكو، فإننا سوف نقتنع ولا بد بأن جدلية تحصين الذات وتوكيد الذات التي تحقق من خلالها الثقافة هيمنتها على المجتمع والدولة، لهي جدلية معتمدة عل تلك الممارسة الدائمة التي تمارسها الثقافة لعزل ذاتها عن كل ما تتصوره لا يمت بصلة إلى ذاتها هي. وأما الأسلوب الذي يتم به هذا العزل فهو على الدوام وضع الثقافة المدعومة فوق الآخر. وهذه المقولة ليست بأي حال من الأحوال مقولة ميتافيزيقية كما سيدل على ذلك للتو مثلان إنكليزيان من أمثلة القرن التاسع عشر. وهذان المثلان كلاهما على علاقة بالتعليق الذي سقته من قبل عن أورباخ، ألا وهو أن الثقافة عليها أن تتعامل بحس عدواني لصالح الأمة والوطن والجماعة والانتماء. فالمثل الأول موجود في محضر جلسة رسمية لماكولي في عام 1835 عن التربية الهندية إذ يقول:
ليس لي أية معرفة لا بالسنسكريتية ولا بالعربية، ولكنني فعلت ما بوسعي لتكوين تقويم دقيق لقيمة كل منهما. لقد قرأت ترجمات لأشهر الأعمال العربية والسنسكريتية. ولقد تحادثت، هنا وفي الوطن، مع أناس متميزيين بكفاءاتهم في اللغات الشرقية. وإنني على استعداد للنظر إلى التعليم الشرقي بالتقويم الذي جاء به المستشرقون أنفسهم. بيد أنني ما وجدت واحداً منهم بمقدوره أن يدحض حقيقة كون رف واحد من مكتبة أوربية جيدة يساوي كل الأدب المحلي للهند والجزيرة العربية. إن السمو الجوهري للأدب الغربي محط الإقرار التام فعلاً من قبل أولئك الأعضاء الذين يشكلون اللجنة والذين يدعمون الخطة الشرقية في التعليم.... وليس من المبالغة أن نقول أن كل المعلومات التاريخية المجموعة في اللغة السنسكريتية أقل قيمة مما قد يوجد في تلك الملخصات المبتذلة والمستخدمة في المدارس الإعدادية في إنكلترا، وفي كل فرع من فروع الفلسفة الأخلاقية والمادية نجد أن المكان النسبي لهاتين الأمتين هو نفسه تقريباً.(14)
إن هذا القول ليس مجرد تعبير عن رأي وحسب. لا، ولا يمكن استبعاده، كما استبعد ديريدا في كتابه grammatology ليفي شتراوس، كشاهد نصي عن التشرنق العرقي. وإن ذلك القول، في الواقع، لدليل على التشرنق العرقي بل وعلى أكثر من ذلك لأن رأي ماكولي ما هو إلا تصور غارق في صميم التشرنق العرقي وذو نتائج مؤكدة. إذ إن ماكولي كان يتحدث من موقع السلطة حيث كان بوسعه ترجمة تصوراته إلى قرار يأمر سكان شبه قارة بأسرها أن يذعنوا للدراسة بلغة غير لغتهم الأم.
وهذا ما حدث في حقيقة الأمر. وهذا الموقف بدوره ما عزز لدى الثقافة أمام نفسها مشروعية تصرفها من جراء توفيره سابقة، وواقعة، جرتا الشعور بالتفوق والقعود في دست السلطة إلى الانغمار في كل من بلاغة الانتماء، أو الكينونة "في الوطن" إن جاز التعبير، ومن بلاغة الإدارة ايضاً: كي تحل الواحدة منهما محل الأخرى بمنتهى البداهة.
وثمة مثل ثان يتعلق بالهند أيضاً. فحين تناول بالدراسة إيريك ستوكس، بحدة ذهن تستحق الإعجاب، أهمية الفلسفة النفعية للحكم البريطاني في الهند، يتعجب المرء في كتاب ستوكس المعنون بـ "النفعيون الإنكليز والهند" من الكيفية التي تتمكن بها زمرة قليلة من المفكرين نسبياً من بينها بينتام بالطبع والثنائي ميل- من الإتيان بالحجج لتعزيز مذهب فلسفي واستكماله لحكم الهند، مذهب ينطوي في بعض جوانبه على تشابه لا يرقى إليه الشك مع آراء آرنولد وماكولي في الثقافة الأوربية من أنها أسمى من كل ما عداها. فها هو جون ستيوارت ميل يحتل اليوم بين (نفعيي البيت الهندي) منزلة ثقافية مرموقة إلى الحد الذي جعل آراءه عن الحرية والحكومة التمثيلية تدور على ألسنة أجيال وأجيال على أنها المقولة الثقافية الليبرالية المتطورة حول هذه القضايا. ولكن عن ميل كان على ستوكس أن يقول ما يلي:"لقد أفاد جون ستيوارت في كتيبه [عن الحرية] قائلاً بدقة متناهية أن مبادئ الحرية مقصود تطبيقها حصراً على تلك البلدان التي تطورت تطوراً كافياً في مضمار الحضارة ليكون بمقدورها تسوية شؤونها بالبحث العقلاني. وعلاوة على ذلك كان مخلصاً لأبيه في تشبثه بالاعتقاد أن الهند ما كان بالإمكان حكمها وقتذاك إلا بشكل استبدادي. ولكن على الرغم من أنه كان يرفض، هو نفسه، تطبيق تعاليم الحرية والحكومة التمثيلية في الهند، فإن حفنة ضئيلة من الليبراليين الراديكاليين وجمهرة متكاثرة من المثقفين الهنود لم يضعوا أمثال هذه القيود.(15) إن لمحة خاطفة على آخر فصل في الحكومة التمثيلية- ناهيك عن التطرق إلى المقطع الوارد في المجلد الثالث من مقالات وبحوث حيث يتحدث عن تغييب الحقوق بالنسبة للبرابرة- توضح بمنتهى الجلاء رأي ميل اذي قال فيه أن ما كان عليه أن يقوله عن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه بالفعل على الهند، والسبب بالأساس أن رأي ثقافته بحضارة الهند هو أنها لم تكن وقتها قد بلغت بعد درجة التطور المطلوب.
إن تاريخ الفكر الغربي بأسره إبان القرن التاسع عشر مليء بأمثال هذه التخرصات والتمييزات بين ما هو مناسب لنا وما هو مناسب لهم، إذ إن الأُول مصنفون بأنهم في الداخل، في المكان الصحيح، مألوفون، منتمون، وباختصار فهم فوق، والمثاني مصنفون على أنهم في الخارج، ثنوى، شواذ، تبّع، وباختصار فهم تحت. فمن هذه التمييزات، التي حظيت بسطوتها من خلال الثقافة، ما كان بوسع أي امرئ أن يتفلت منها حتى ماركس- كما ستبين للتو قراءة مقالاته عن الهند والمشرق(16). إن الاسم الوطني الثقافي الكبير للثقافة الأوربية على أنها المعيار الممتاز حمل معه زمرة مرعبة من التمييزات بين ما لنا وما لهم، بين الملائم وغير الملائم، وبين الأوربي وغير الأوربي، وبين الأعلى والأدنى: فهذه هي التمييزات التي يقع عليها المرء في أي مكان في موضوعات وأشباه موضوعات من أمثال علم اللغة والتاريخ ونظرية العرق والفلسفة والأنتروبولوجيا، لا بل وحتى البيولوجيا. ولكن السبب الرئيسي لمجيئي على ذكر هذه الأمور هنا يكمن في الإشارة إلى أنه في نقل ثقافة ما ودوامها هناك عملية متواصلة من التعزيز، من خلالها تضيف الثقافة السائدة إلى نفسها الامتيازات المقصورة عليها والمتأتية لها من جراء إحساسها بالهوية الوطنية، بقوتها كأداة بيد الدولة، أو حليف لها أو فرع منها، بصواب موقفها، بمظاهرها الخارجية وتوكيداتها لذاتها، والأهم من هذا كله إحساسها بمبرر قوتها كمنتصر على كافة الأشياء التي لاتمت لها بأية صلة.
وما من سبب يدعو للشك في أن الثقافات كلها تتحرك بهذه الطريقة، وما من سبب يدعو للشك في أنها كلها عموماً تميل إلى تحقيق الظفر من خلال تعزيز هيمنتها. ومن الجدير بالذكر أنها كلها تعزز هيمنتها بطرق شتى وبمنتهى الوضوح. وإنني لأعتقد أن صحيح القول يكمن في أن بعضها أكثر فاعلية عملياً من الأخريات حين يتعلق الأمر ببعض الأنواع الخاصة بالأعمال البوليسية. بيد أن هذا الواقع من اختصاص علماء الأنتروبولوجيا المقارنة، وليس ميداناً جديراً بالمغامرة هنا للإتيان بتعميمات عريضة عليه. فمثار اهتمامي هو الإشارة إلى أن الثقافة إن كانت تمارس أنواع الضغط الذي جئت على ذكره، وإن كانت تخلق المناخ، لا بل والجماعة التي تتيح للناس الشعور بالانتماء، عندها إذاً يجب أن يكون صحيحاً أيضاً أن مقاومة الثقافة كانت موجودة على الدوام. وفي أغلب الأحيان تتخذ تلك المقاومة شكل العداء الصريح لأسباب دينية أو اجتماعية أو سياسية (وثمة مظهر واحد من مظاهر هذا العداء موصوف على نحو جيد بقلم إيريك هوبزبوم في كتابه "الثوار البدائيون"). ولقد جاء هذا العداء على الأغلب من أفراد أو مجموعات أعلنت عنهم الثقافة جهاراً أنهم من خارج إطارها أو أنهم من مستوى أدنى منها (والسلسلة هنا واسعة بالطبع، من كبش الفداء الشعائري وصولاً إلى النبي المعزال، ومن المنبوذ اجتماعياً إلى الفنان الحاكم، ومن الطبقة العاملة إلى المفكر المتغرب). وهنالك شيء كبير من الصدق في قناعة جوليان بيندا بأن المثقف أو المتعلم (clerc) ، كان بطريقة أو أخرى هو الذي يجسّد القيم والأفكار والفعاليات التي تتسامى وتعترض سبيل العبء الاجتماعي المفروض من قبل الدولة القومية وثقافتها الوطنية.
ومن المؤكد أن ما يقوله بيندا عن المثقفين (المسؤولين عن التصدي بطرق مقصورة على مهنة الثقافة وحدها) يتماشى تماماً مع شخصية سقراط بالشكل الذي تبدو فيه في "محاورات أفلاطون"، أو مع معارضة فولتير للكنيسة، أو مع فكرة غرامشي، الأحدث عهداً، عن المثقف الدستوري المتحالف مع طبقة صاعدة ضد هيمنة طبقة حاكمة. فحتى آرنولد يتحدث عن "الأغراب" في كتاب "الثقافة والفوضى" ويصفهم بأنهم أولئك "الأشخاص المنقادون أساساً، لا بروحهم الطبقية، بل بروح عمومية رحيمة، وهي الروح التي يربطها مباشرة بثقافة مثالية ولا يربطها، على ما يبدو، بتلك الثقافة التي زاوج لاحقاً بينها وبين الدولة. وأما من الناحية الأخرى فإن بيندا مخطئ بالتأكيد حين يعزو الكثير جداً من القوة الاجتماعية للمثقف المعزال الذي تأتيه القوة، وفقاً لما يقوله بيندا، من صوته المنفرد ومن معارضته للمشاعر الجماعية المنظمة. ولكن إذا سلمنا جدلاً أن المصير التاريخي لمشاعر جماعية من أمثال "بلدي مصيب أو مخطئ، ونحن بيض ولذلك ننتمي إلى عرق أسمى من عرق السود، وأن الثقافة الأوربية أو الإسلامية أو الهندوسية أسمى من كل الثقافات الأخرى" هو المسؤول عن تخشين الفرد وتوحيشه، قد يكون عندئذ من الصحيح أن الوعي الفردي المنعزل، المعارض للبيئة المحيطة والمتحالف مع الطبقات والحركات والقيم المناوئة، هو صوت معزول وخارج المكان الصحيح ولكنه حيز كبير جداً من ذلك المكان وواقف بمنتهى الوعي ضد العقيدة السائدة لمناصرة مجموعة من القيم المعروفة جهاراً بأنها عمومية أو رحيمة، ومجموعة تذكي مقاومة محلية هامة ضد هيمنة ثقافة واحدة. وواقع الحال يدل أيضاً على أن المثقفين، وبموافقة كل من بيندا وغرامشي، مفيدون غاية الفائدة في تفعيل الهيمنة. وهذه الحقيقة ما هي بالطبع إلا خيانة المتعلمين المأمورين “Trahison de clercs” ، إذ إن مساهمتهم غير اللائقة في الوصول بالمشاعر السياسية إلى حد الكمال هي الشيء الذي يشكل بمنتهى الأسف نفس جوهر خيانتهم الجماعية المعاصرة. وأما بالنسبة لفكر غرامشي، الأكثر تعقيداً من سابقه، فإن مثقفين معينين مثل كروس جديرون بالدراسة (ولربما بالحسد) لأنهم جعلوا أفكارهم تبدو وكأنها تعابير عن إرادة جماعية.
وهذا كله يبين لنا، إذاً، وضع الوعي الفردي في صميم نقطة حساسة، علاوة على أن هذا الوعي في تلك النقطة الحساسة هو ما يحاول استكشافه هذا الكتاب وبالشكل الذي أدعوه فيه بالنقد. فالعقل الفردي يدوّن، من ناحية أولى، جماعية الكل أو البيئة أو الموقف الذي يجد نفسه فيه وهو على أتم إدراك بذلك. ومن ناحية ثانية، ونظراً لهذا الإدراك بالتحديد- أي وضع الذات في موضع دنيوي، رد فعل حاس تجاه الثقافة المهيمنة- فإن الوعي الفردي ليس مجرد طفل للثقافة بكل بداهة وبساطة، ولكنه فاعل فيها اجتماعياً وتاريخياً. وبسبب تلك النظرة، التي تقدم الظرف والتمايز في المكان الذي لم يكن فيه من قبل سوى المجاراة والانتماء، هنالك مسافة، أو ذلك الشيء الذي يمكننا دعوته بالنقد فمعرفة التاريخ وإدراك أهمية الظرف الاجتماعي وقدرة تحليلية على الإتيان بالفروق: هي الأمور التي كلها تقض مضاجع السلطة شبه الدينية مخافة أن تجد لها مراحاً داخل الوطن وبين ظهرانيي الشعب، وأن تتعزز من قبل قوى معروفة وقيم مستحبة، وأن تتحصن ضد العالم الخارجي.
ولكن اسمحوا لنا الآن، ومن باب التكرار، أن نقول: أن الوعي النقدي جزء من عالمه الاجتماعي الفعلي وجزء من تلك الكتلة الواقعية التي يستوطنها الوعي، وليس له بحال من الأحوال أي مهرب لا من هذا ولا من ذاك. فعلى الرغم من أن أورباخ، بالشكل الذي صورناه فيه، كان بعيداً عن أوربا فإن عمله مستنقع في واقع أوربا، شأنه بذلك تماماً شأن مساهمة ظروف منفاه الخاصة في نقوه أوربا نقاهة نقدية ملموسة. وهكذا فلنا في أورباخ مثل عن بنوته لثقافته الأم، ومثل في الوقت نفسه عن تبنيه لها بسبب المنفى، من خلال الوعي النقدي واستبحار العمل. وهكذا علينا الآن أن ننظر نظرة أدق إلى التعاون بين البنوة والتبني([2])- ذلك التعاون الذي يستقر في صميم الوعي النقدي.
***
إن صلات البنوة والتبني وفيرة في التاريخ الثقافي الحديث. فثمة أنموذج قوي جداً ومثلث الأجزاء، مثلاً، يضرب بجذوره في مجموعة كبيرة جداً من كتاب مؤخر القرن التاسع عشر ومقدم القرن العشرين، حيث ترد فيه صورة عن عجز الحافز عن التوالد- عجز المقدرة عن إنجاب الأطفال أو استيلادهم- مصورة بتلك الطريقة التي تمثله على أنه حالة عامة ابتلي بها المجتمع والثقافة على حد سواء، ناهيك عن بلوى رجال ونساء معينيين. إن "يوليسيس والأرض القفر" مثالان مشهوران على وجه التخصيص، بيد أن هنالك دليلاً مماثلاً أيضاً يوجد في "ممات في البندقية، أو في مآل كل بني البشر، أو في وجود الغامض، أو في البحث عن الزمن المفقود، أو في أشعار مالارمي وهو بكينز"، علاوة على وجوده في معظم كتابات أوسكار وايلد وفي رواية "نوسترومو". وإذا أضفنا إلى هذه اللائحة السطوة الموثقة جداً لنظرية التحليل النفسي لفرويد، التي يسلّم جدلاً أحد أبرز وأهم جوانبها بكمون النتيجة القاتلة في حمل الأطفال، لتكون لدينا انطباع واضح بقلة عدد القضايا الشائكة والعويصة عموماً بمقدار ما ينطوي عليه ما كنا قد حسبناه على الأرجح بأنه مجرد تواصل طبيعي بين جيل وآخر. وحتى في عمل عظيم يعود فكرياً وسياسياً إلى عالم مختلف من عوالم الكتابة الرصينة -ألا وهو كتاب لوكاش المعنون بـ "التاريخ والوعي الطبقي"- تنطرح فيه الأطروحة نفسها تماماً ألا وهي مصاعب البنوة الطبيعية واستحالتها في خاتمة المطاف: وذلك لأن تصور التجسيد، كما يقول لوكاش، ما هو إلا تغرّب الرجال عمن ينجبون، وانسجاماً منه مع القساوة الصارمة والمطلقة لتصوره هذا فهو يعني بهذه المقولة أن كل نواتج العمل البشري، بما في ذلك الأطفال، تعيش حالة من البعزقة والعزلة المطلقة بعضها عن بعض، وبالتالي فهي مجمّدة ضمن فئة الأشياء الأنطولوجية وكأن المقصود بها أن تجعل حتى العلاقات الطبيعية شيئاً مستحيلاً عملياً.
فالأزواج العقيمون والأطفال اليتامى والولادات الجهيضة والعزاب من النساء والرجال الذين لا ينجبون يحتلون، بإصرار عجيب، عالم العصرانية الرفيعة، وكلهم على الإطلاق يوحون بمصاعب البنوة(17). ولكن لا يقل أهمية عن هذا في نظري ذلك الجزء الثاني من الأنموذج الذي يمثل النتيجة المنطقية للجزء الأول، والذي يتمثل في الضغط لاستحداث طرائق جديدة، ومغايرة، لتصور العلاقات البشرية. فلئن كان التناسل البيولوجي في غاية العسر أو في غاية القبح، فهل هنالك طريقة أخرى يتمكن بها الرجال والنساء من خلق أواصر اجتماعية فيما بين بعضهم بعضاً كي تحل محل تلك العلاقات التي تربط بين أعضاء نفس الأسرة عبر الأجيال؟
وثمة جواب مثالي مطروح على لسان ت. س. إليوت في الفترة اللاحقة مباشرة لظهور قصيدة "الأرض القفر". فمثله الأعلى في تلك الآونة صار لانسيلوت أندروز، أي ذلك الرجل الذي يبدو نثره وأسلوبه التعبدي لإليوت يسموان على الأسلوب الشخصي حتى لواعظ مسيحي مثل (دون) الذي كان معروفاً بحماسته وفعاليته الشديدتين. وإن تلك النقلة السريعة التي ينتقلها إليوت من (دون) إلى أندروز، والتي تكمن على ما أظن خلف النقلة التي انتقلها إدراك إليوت من النظرة الدنيوية التي تطفح بها أشعاره في قصائد "بروفروك وجيرونشين والأرض القفر" إلى شعر التدين والهداية في "أربعاء الرماد وقصائد إيريال"، نراه يقول شيئاً يشبه مايلي: إن جدب الحياة العصرية وقفرها وعقمها لظاهرة تجعل من البنوة بديلاً لا يدركه العقل على الأقل، وبديلاً لا يمكن بلوغة على الأكثر. فالمرء ليس بوسعه أن يفكر في التواصل بلغة بيولوجية لأن هذا المنحى يمثل الافتراض الذي ربما حظي بالتوثيق السريع من خلال الفشل الحديث لأول زواج لإليوت، والذي حظي في الوقت نفسه من ذهن إليوت بالتطبيق على نطاق أوسع من سابقه بكثير(18). وأما البدائل الوحيدة الأخرى فقد بدا أنها متاحة من خلال المؤسسات والنقابات والجمعيات التي لم يكن وجودها الاجتماعي موثقاً بالبيولوجيا، بل بالعضوية فيها، وهكذا فإن لانسيلوت أندروز، بالنسبة لإليوت، يبلّغ بكتابته عن حضور الكنيسة الانكليزية حضوراً يطوق الأشياء كافة إذ إن "الكنيسة شيء ممثل لأسمى روح لإنكلترا في الزمان و... جوهرة الحنكة الإدارية الكهنوتية". فأندروز كان يتضرع إذاً، مع هوكر، إلى سلطة أسمى من البروتستانتية البسيطة.
فهذان الرجلان كلاهما كانا:
على قدم المساواة مع خصومهما الأوربيين وكان بمقدورهما السمو بكنيستهما إلى موقع أعلى من موقع الطائفة المحلية المنشقة. لقد كانا أبوي كنيسة وطنية وكانا أوربيين.
هيا وقارنوا بين موعظة أندروز وموعظة سيد أقدم منه، لاتيمير على سبيل المثال، فالفرق لا يكمن فقط في أن أندروز كان يعرف اليونانية، أو أن لا تيمير كان يخاطب جمهوراً أقل ثقافة بكثير، أو أن مواعظ أندروز موشاة بالتلميحات والاستشهادات. ولكن الفرق يكمن في أن لاتيمير، وهو واعظ هنري الثامن وإدوارد السادس، ليس أكثر من إنسان بروتستانتي، في حين أن صوت أندروز صوت رجل تقف من خلفه كنيسة منظورة منظمة، ورجل يتحدث مع السلطة القديمة والثقافة الجديدة.(19)
إن إشارة إليوت إلى هوكر وأندروز إشارة رمزية، بيد أن المقصود بها أن تكون مقترنة بقوة واقعية تماماً، شأنها بذلك شأن كلمة "مجرد" الثانية (لاتيمير مجرد إنسان بروتستانتي) التي هي توكيد من إليوت "للسلطة القديمة والثقافة الجديدة". فإذا لم تكن الكنيسة الانكليزية على علاقة بنوة مباشرة مع الكنيسة الرومانية ومنبثقة عنها، فإنها مع ذلك شيء أكثر من مجرد هرطقة محلية، وأكثر من مجرد يتيم يهذر بالاحتجاج. فما السبب يا ترى؟ والجواب أن أندروز والآخرين من أمثاله الذين صار إليوت الآن يقر بسلطتهم السابقة، والذين صار بمقدورهم تسخير السلطة الأبوية القديمة لخدمة بروتستانتي متمرد وثقافة وطنية، والعمل، بتلك الوسيلة، على خلق مؤسسة جديدة قائمة لا على الانحدار المباشر من سلالة ما بل على ما يمكننا دعوته، بكلام هجين، بالتبني الأفقي “horizontal affiliation” .
إن اللغة التي يتكلمها أندروز لا تعبر بمنتهى البساطة، بالنسبة لإليوت، عن الابتعاد المكروب عن أب والد محال استعادته الآن مثلما قد يشعر يتيم مهذار بالاحتجاج، بل إنها، على النقيض من ذلك، تتحول إلى لغة للتعبير عن شركة اتحادية -هي الكنيسة الإنكليزية- تأمر أشياعها بإبداء الاحترام والالتزام.
وثمة تغيير مماثل تماماً لهذا التغيير يطرأ على شعر إليوت. فالمتحدثون في ديوانيه "بروفروك وجيرونشين" علاوة على شخوص قصيدة "الأرض القفر" يعبرون بكل بساطة عن بلوى اليتم والتغرب، في حين أن شخوص "أربعاء الرماد والرباعيات الأربع" تتحدث باللغة العادية التي يتحدث بها سواهم من أتباع الكنيسة الإنكليزية، فالكنيسة، بالنسبة لإليوت، تقوم مقام الأسرة المفقودة التي يندبها في كل أشعاره الباكرة. لقد استكمل إليوت تحوله علانية بالطبع في كتابه المعنون بـ "بحثاً عن آلهة غريبة" الذي أعلن فيه بنوع من التحدي تقريباً عن عقيدة تنحو منحى الملكية والكلاسيكية والكاثوليكية التي تشكل كلها مجموعة من الارتباطات التي التزم بها إليوت خارج إطار نموذج البنوة (الجمهوري والرومانسي والمعارض) الذي منحته إياه حقائق منبته الأمريكي (والأجنبي).
فالتحول من البنوة إلى التبني “from filiation to affiliation” يوجد في أي مكان في الثقافة ويجسّد الشيء الذي يدعوه جورج سيميل بالسيرورة الثقافية العصرية التي بواسطتها "تستولد الحياة أنماطاً لها على الدوام"، أنماطاً ما أن تبرز إلى الوجود حتى "تطالب بشرعية تسمو على اللحظة، وشرعية عتيقة من نبض الحياة، وهذا السبب هو ما يجعل الحياة دائماً على تعارض كامن مع النمط"(20). ويخطر بالبال هنا (ييتس) في رواحه من استعراضات "عسل الذرية" إلى الأرواح "المتوالدة ذاتياً والساخرة من مغامرة الإنسان"-تلك الاستعراضات التي جعلها تصول وتجول في كتابه المعنون بـ "الرؤيا" وفق نظام تبني فسيح ابتكره لنفسه ولعمله. أو قد يخطر على البال بعض الكتاب، كما قال إيان واط عن معاصري كونراد، من أمثال لورانس وجويس وباوند الذين يقترحون علينا "قطع الصلات مع الأسرة والبيت والطبقة والوطن، ومع المعتقدات التقليدية كونها مراحل ضرورية لبلوغ الحرية الفكرية والروحية"، ومن ثم يطلب منا هؤلاء الكتاب "اللحاق بهم والانخراط في تلك المنظومات الأسمى [تبنيّاً] أو الخاصة التي تبنوها وابتكروها بكل ما فيها من أنظمة وقيم"(21). إن كونراد يبين لنا في أفضل أعماله عقم أمثال هذه المنظومات الخاصة ذوات الأنظمة والقيم (كالعالم الطوباوي الذي خلقه تشارلز وأميليا غولد في رواية نوسترومو، مثلاً)، ولكن كونراد اتخذ أيضاً لنفسه في حياته، وبشكل لا يقل عن معاصريه ( كما فعل إليوت وهنري جيمز)، الهوية الجديدة لإنسان مهاجر يتحول إلى رجل إنكليزي، وعلى الطرف الآخر من الطيف نجد لوكاش وهو يقترح علينا أن الوعي الطبقي وحده، وهو بحد ذاته شكل من أشكال العصيان الذي تتخذه محاولة التبني، هو ما قد يتمكن من اختراق تناقضات وبعزقات هذا الوجود المجسّم الذي يتمركز حوله النظام العالمي الرأسمالي الحديث.
إن الشيء الذي أصفه هو الانتقال من فكرة، أو إمكانية، واهنة عن القرابة إلى ذلك النظام التعويضي الذي، سواء أكان حزباً أو مؤسسة أو ثقافة أو زمرة من العقائد أو حتى رؤيا دنيوية، يوفر للرجال والنساء شكلاً جديداً من أشكال الصلة التي لا أزال أدعوها بالتقرّب والتي هي بمثابة منظومة جديدة في الوقت نفسه. وإذا نظرنا الآن إلى هذا النمط الجديد من التقرب الذي تتزيا به الصلة سواء بالشكل الذي نجده لدى كتاب محافظين كإليوت أو عند كتاب تقدميين كلوكاش، أو لدى فرويد ولو بطريقته الخاصة، فإننا نجد أن الهدف الواضح المتعمد من استخدام ذلك النظام الجديد هو إعادة ترسيخ بقايا نوع من السلطة المقرونة ماضياً بنظام القرابة. وهذا في النهاية هو الجزء الثالث من الأنموذج. وإن أتباع التحليل النفسي الفرويدي وفكرة لوكاش عن الحزب الطليعي ليسوا بأقل حماسة من سابقيهم للإتيان بما يمكن أن ندعوه بالسلطة المستعادة. فالهيئة الهرمية الجديدة، وحتى لو أنها جماعة أكثر مما هي هيئة، أو الجماعة الجديدة هي أعظم شأناً من أي مشايع أو عضو بأم عينه، مثلها مثل الأب الذي هو أعظم شأنا بفضل أقدميته من البنين والبنات، وهكذا فإن الأفكار والقيم والنظرة الدنيوية التجميعية المنهجية كلها، وقد استعادت شرعيتها جراء نظام التقرب الجديد، حملة سلطة أيضاً، والنتيجة كانت أن شيئاً مماثلاً لمنظومة ثقافية قد توطدت أركانه.
وهكذا فلئن كانت صلة القرابة قد تماسكت بعضها مع بعض بفعل روابط طبيعية وأشكال سلطوية طبيعية- أي ما مضمونه الطاعة والخوف والحب والاحترام وتصارع المؤسسات- فإن صلة التقرب الجديدة تحيل هذه الروابط إلى ما يبدو شكلاً من أشكال العلاقات الشخصية- كالوعي النقابي وإجماع الآراء والزمالة الجامعية والاحترام المهني والطبقة وهيمنة الثقافة لسائدة.
فمخطط القرابة يعود إلى شعاب من صلب الطبيعة وصلب "الحياة"، في حين أن التقرب يعود بالحصر إلى الثقافة والمجتمع.
ومما يجدر قوله عرضاً أن الشيء الذي بشّرت به عصبة جديرة بالاحترام من أساطين الأدب بخصوص العبور من القرابة إلى التقرب يوازي تلك التعليقات المماثلة التي وردت على ألسنة السوسيولوجيين ويدل على تطورات مشابهة في بنية المعرفة. ففكرة تونيز عن الانتقال "من المجتمع إلى الجماعة" يمكن التوفيق بكل بساطة فيما بينها وبين فكرة القرابة التي حل محلها التقرب. وإنني لأعتقد، وعلى نحو مماثل، أن الاعتماد المتزايد الذي يعتمده الباحث الحديث على زمرة صغيرة ومتخصصة من الناس في ميدانه أو ميدانها (كونه بحد ذاته نفس فكرة الميدان في حقيقة الأمر)، وأن الرأي السائد في الميادين من أن الموضوع البشري، الولاّد ذو أهمية أقل من أهمية القوانين والنظريات المتسامية على البشر، يلازمان تحول صلات القرابة الطبيعية إلى صلات تقرب منهجية. فضياع الموضوع، كما أشير إليه على العموم، ما هو أيضاً إلا، بطرق شتى، ضياع لحافز التوليد المنتج الموثق لصلات القرابة.
إن الأنموذج المثلث الأجزاء الذي جئت على وصفه- علاوة على عمليتي القرابة والتقرب بالشكل الذي رسمتهما به- يمكن اعتباره مثلاً عن العبور من الطبيعة إلى الثقافة، فضلاً عن اعتباره شاهداً عن الكيفية التي يتمكن فيها التقرب من أن يصبح بكل بساطة منظومة للفكر لا تقل هيمنة وصرامة عن الثقافة نفسها. فالشكل الذي أود أن أعرج للحديث عنه عند هذا المفصل هو آثار هذا الأنموذج بالشكل الذي عادت فيه بالضرر على دراسة الأدب في هذه الأيام، على الرغم من ابتعادنا الكبير عن باكورة سنوات قرننا هذا. إن بنية المعرفة الأدبية المستمدة من الأكاديمية مدموغة بدمغة هائلة من هذا الأنموذج المثلث الأجزاء الذي عملت على توضيحه هنا. ولكن بمقدار ما يتعلق الأمر بالفكر النقدي (وفق التصور الذي أحمله عما يجب أن يكون عليه) فليس بوسعنا أن نقول إلا أن تلك الدمغة قد حدثت بطرائق تحز في النفس. ولذلك هيا بنا الآن للانتقال إلى أمثلة ملموسة.
منذ زمن إليوت، ومن بعده ريتشاردز وليفيس، كان هنالك إجماع تقريباً على التشبث بالرأي القائل أن واجب الدارسين الإنسانيين في ثقافتنا يكمن في تكريس أنفسهم لدراسة الروائع العظيمة في الأدب. ولئن تساءلنا عن السبب لقيل لنا حتى يصار إلى نقلها إلى طلاب ممن هم أصغر سناً وممن سوف يصبحون، بفعل التقرب والتكوين، أعضاء ضمن جماعة الأفراد المثقفين. وهكذا فإننا نلاحظ أن الجامعة تضطلع، ورسمياً تقريباً، بعبء تكريس الميثاق القائم فيما بين معيار الآثار الأدبية وزمرة من المعلمين الملقنين وبين مجموعة من المتقربين الشباب، الأمر الذي يجعل هذا كله يفضي، بأسلوب موثق اجتماعياً، إلى ترويض وانضباط علاقة القرابة أمام عتو العملية التثقيفية كونها أسمى منها.
فهذا الواقع كان هو الحالة التي سادت تاريخياً، ودائماً تقريباً، ضمن ما يمكن دعوته بالعالم المتقوقع الذي عاشته الجامعة التقليدية الغربية، والشرقية بكل تأكيد، بيد أننا نعيش الآن، على ما أظن، مرحلة من تاريخ العالم نشهد فيها لأول مرة أن علاقات التقرب التعويضية، التي يجري تأويلها خلال الفصل الدراسي الأكاديمي في الجامعة الغربية، تستبعد عملياً من الأمور أكثر مما تضم. وإن ما أعنيه ببساطة هو أن كل ذلك الصرح المهيب الذي يؤوي المعرفة الدنيوية، والذي يقوم على كلاسيكيات الآداب الأوربية- ومعه ذلك التقيد الصارم بمنهج البحث الذي ينغرس في أذهان الطلاب في الجامعات الغربية من خلال الأشكال المألوفة لنا كلنا- لا يمثل، لأول مرة في التاريخ الحديث، إلا النزر اليسير من العلاقات والتفاعلات البشرية الحقيقية الجارية الآن على مسرح العالم، فأورباخ كان واحداً من بين أواخر أكابر الممثلين لأولئك الناس الذي كانوا يعتقدون أن الثقافة الأوربية ما هي إلا محور التاريخ البشري، والمحور الذي لا يرقى الشك إلى أهميته وترابطه المنطقي. ولكن ثمة أسباب عديدة جداً تعترض الآن سبيل الدفاع عن وجهة نظر أورباخ، وليس أقلها تقلص الإذعان والامتثال اللذين كانا مناطين بما كان يدعى بعالم حلف الناتو الذي طالت هيمنته على بقاع بعيدة عن أوربا كأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. فثقافات جديدة ومجتمعات جديدة وملامح فتية لنظام اجتماعي وسياسي وجمالي تستوجب الآن الاهتمام من المفكر الإنساني، وبالإصرار الذي لم يعد بالإمكان تطاول تجاهله.
ولكن ذلك التجاهل بقي على حاله ولأسباب مفهومة تماماً. فحين يتعلم طلابنا أموراً من أمثال الآداب والفلسفات والفنون اليونانية والرومانية، يتعلمون دائماً وتقريباً أيضاً أن هذه النصوص الكلاسيكية تجسّد وتصور وتمثل أفضل ما في تراثنا، أي التراث الوحيد. وفضلاً عن ذلك فهم يتعلمون أن أمثال تلك الميادين وميادين فرعية "كالأدب" تعيش في عنصر سياسي حيادي نسبياً، الأمر الذي يستوجب تثمينها وتوقيرها، ويستوجب أيضاً تعيين حدود الشيء المقبول والمناسب والمشروع بمقدار ما يتعلق الأمر بالثقافة. وبكلمات أخرى، فإن نظام التقرب المطروح بمثل هذا الاستتار يعزز البنية العائلية المغلقة والمحبوكة بكل إحكام إلى ذلك الحد الذي يؤمن استمرار الصلات الهرمية من جيل إلى آخر. وهكذا فإن التقرب يصبح بالنتيجة شكلاً فعلياً من أشكال إعادة التصوير “re-presentation” ، وشكلاً يكون، من خلاله، جيداً ما لدينا، ولذلك فهو جدير بالدمج والاحتواء في دراستنا الشؤون الإنسانية، وكل ما ليس لدينا بهذا المعنى البالغ الضيق يصار إلى استبعاده بمنتهى البساطة. ومن قلب هذا التصوير تأتي المنظومات، بدءاً لمنظومة نورثروب فراي وانتهاء بمنظومة فوكو، التي تدعي الحق بسلطة تبيان كيفية أداء الأشياء، على هذا المنوال وحسب، وبشكل كلي وتنبؤي. وما من حاجة تستدعي القول أن هذه البنية الجديدة للتقرب تستولد، مباشرة إلى حد ما، هيكل السلطة العائلية التي طواها النسيان على ما يبدو بعد أن صارت العائلة في غياهب النسيان. إن بنى المناهج الدراسية التي تتحكم بأقسام الأدب الأوربي توضح ذلك بمنتهى الجلاء: فالنصوص العظيمة، ناهيك عن الأساتذة العظماء والنظريات العظيمة، لها تلك السلطة التي تستلزم الاهتمام الموقر لا بفضل مضمونها بل لأنها قديمة أو لأنها ذوات شأن، إذ إن نقلها من جيل لجيل كان في زمن محدد أو بلمح البصر، وكانت تقليدياً موضع التوقير وبالشكل الذي علّمها فيه القساوسة أو العلماء أو البيروقراطيون ذوو الشأن الكبير.
وفي أمور من أمثال الثقافة والتبحر الثقافي غالباً ما أكون على تعاطف معقول مع المواقف المحافظة، ومع أن تعاطفي هذا قد يبدو شاذاً فإنه حقيقي، مع العلم أن الشيء الذي قد أعترض عليه، فيما كنت أصف، ليس بذي علاقة كبيرة بمسعى الحفاظ على الماضي، أو بقراءة الأدب العظيم، أو بإجراء دراسة جادة بل محافظة تماماً بحد ذاتها. إن تلك الأمور لا تعنيني كثيراً. فالشيء الذي أنتقده يتمثل بافتراضين خاصين أولهما: ذاك الافتراض الإيديولوجي المحمول باللاشعور ومؤاده أن النمط المتقوقع حول أوربا للدراسات الإنسانية يشكل عملياً موضوعاً طبيعياً ومناسباً للباحث المتبحّر في تلك الدراسات. فسلطان ذلك النمط لا يأتيه من المعيار القويم للروائع الأدبية كما انحدر إلينا من خلال الأجيال وحسب، بل ويأتيه أيضاً من الطريقة التي يفضي بها هذا التواصل إلى تواصل صلة القرابة في سلسلة الإنجاب البيولوجي. والشيء الذي يؤول إلينا من ثم لا يعدو استبدال نظام بنظام آخر، وفي عملية الاستبدال هذه يكون مصير أي شيء لا إنساني ولا أدبي ولا أوربي الاستيداع في المخزن خارج البنية. وإذا تأملنا وضع العالم اليوم لمدة دقيقة واحدة لوجدنا أن معظمه ليس أوربياً، وأن التعاملات ضمن ما يدعوه تقرير ماك برايد لليونيسكو بنظام المعلومات العالمي ليست لهذا السبب أدبية، وأن العلوم الاجتماعية ووسائل الإعلام (هذا إن اكتفينا بذكر طريقتين من طرائق الإنتاج الثقافي في ارتقائهما اليوم فوق مستوى الدراسات الإنسانية المحددة تقليدياً) تسيطر على نشر المعرفة بطرق نادراً ما تخطر على بال الباحث الإنساني التقليدي، ولتكونت لدينا عندئذ فكرة عن مدى التقهقر الذي حل بالتوكيدات على الدراسات الإنسانية المتقوقعة في أوربا، وعن مدى تماثلها الفعلي مع النعامة. إن عملية التصوير التي تفضي إلى ولادة القرابة في بنية التقرب وإلى جعلها تقوم مقام ما يخصنا (مثلما نحن بدورنا نخص أسرة لغاتنا وتقاليدنا)، تعزز الشيء المعروف على حساب الشيء المرشح للمعرفة.
وثاني الافتراضيين هو الافتراض بأن الصلات الأساسية في دراسة الأدب- وهي الصلات التي حددتها بأنها قائمة على التصوير- عليها أن تطمس آثار الصلات الأخرى في قلب البنى الأدبية القائمة بالأساس على الاكتساب والاغتنام. فهذا هو الدرس العظيم الذي نستخلصه من كتاب "الريف والمدينة" لمؤلفه ريموند ويليامز. إن بحثه الرائع المستنير في ذلك الكتاب لقصائد البيت الريفي الانكليزي في القرن السابع عشر لا يركز على ما تصوره تلك القصائد، بل على ما هي عليه القصائد بالفعل كنتيجة لتضارب العلاقات الاجتماعية والسياسية. فأوصاف القصر الريفي، على سبيل المثال، لا تخلص أساساً إلى ما سيكون محط الإعجاب من جراء التناغم والاسترخاء والجمال وحسب، بل يجب أن تخلص أيضاً بالنسبة للقارئ الحديث إلى ما استثنته القصائد من الذكر في حقيقة الأمر كالأيدي العاملة التي خلقت تلك القصور، والعمليات الاجتماعية التي كانت ذروتها القصائد، وانتزاع الملكيات وعمليات السطو التي عنتها القصائد بالفعل. فعلى الرغم من أن الكاتب لم يتطرق جهاراً إلى أمور عديدة، إلا أن كتابة محاولة رائعة لنبذ السجايا الأخلاقية العامة لنظام يجسّد العلاقات ويعرّيها من مضمون عمقها الاجتماعي. وإن الشيء الذي كان الكاتب يحاول إحلاله محل تلك السجايا هو الديالكتيك العظيم للاكتساب والتصوير- ذلك الديالكتيك الذي حازت بفضله حتى الواقعية، كما يتجلى في روايات جين أوستن، منزلتها الراسخة باعتبارها نتيجة منازعات على المال والسلطة، فويليامز يعلمنا أن نقرأ بطريقة مختلفة ويطالبنا بأن نتذكر أنه لكل قصيدة أو رواية في مختاراته هنالك حقيقة اجتماعية كشرط أساسي للصفحة، حياة بشرية معينة، طبقة مكبوتة أو مرفوعة المقام -ولكن لا شيء من كل هذه الأشياء يمكن أخذه بعين الاعتبار في ذلك الإطار الصارم الذي تصونه عمليات إعادة التصوير والتقرّب العاملة جهاراً للحفاظ على القرابة.
ولكل منظومة نقدية غاشمة هنالك أحداث، وأشكال اجتماعية متغايرة الخواص وبعيدة عن الصراط المستقيم، وكائنات بشرية ونصوص يحتدم فيما بينها التراع حول إمكانية قيام منهج ناجع لمنظومة ما.
إن كل ما قلته استقراء من الأثر اللفظي الذي نسمعه بين كلمتي "قرابة وتقرب". وإن ما أحاول تبيانه، على وجه التخصيص، هو أن القرابة، بالشكل الذي تطورت فيه من خلال الدراسة والنظريات النقدية المطروحة بطرق معقدة من قبل الحركة العصرانية، تنجب التقرب. والتقرب يصبح شكلاً من أشكال تمثيل عمليات القرابة الموجودة في الطبيعة، على الرغم من أن التقرب يأخذ أشكالاً ثقافية واجتماعية لا بيولوجية وموثقة اجتماعياً.
فثمة بديلان يطرحان نفسيهما أمام الناقد المعاصر، أولهما هو التواطؤ الضروري مع الأنموذج الذي وصفته، إذ لما كان الناقد ييسرّ، لا بل وينشط بالفعل، انتقال الشرعية من القرابة إلى التقرب، فهو يشجع، في تأديته دور القابلة عملياً، تبجيل الدراسات الإنسانية وتبجيل الثقافة الطاغية التي خدمتها تلك الدراسات. وهذا الموقف يحافظ على العلاقات القائمة ضمن الدائرة الضيقة لكل ما هو طبيعي ومناسب ومجد "لنا"، ويستبعد من ثم البعد اللا أدبي واللا أوربي، وقبل كل شيء، يستبعد البعد السياسي الذي ينطوي عليه الأدب كله والنصوص كلها أيضاً. وعلاوة على ذلك فإنه يفضي إلى قيام منظومة أو نظرية نقدية يكمن إغراؤها بالنسبة للناقد في أنها تحل كل المشكلات التي تنجم عن الثقافة. وكما قال جون فيكيت فإن هذا "يعبر عن السخط الحديث على الحقيقة، ولكنه يعمل بإطراد على دمجها واستيعابها ضمن أصناف العقلانية الاجتماعية (والثقافية) السائدة. وهذا ما يخلع عليها فتنة مزدوجة، فضلاً عن أن النطاق المتوسع تمشياً مع النمط المتوسع لإنتاج وتكاثر الحياة الاجتماعية، يمدها بأسباب القوة كي تكون إيديولوجياً عظيمة.(22)
وأما البديل الثاني فهو أن يدرك الناقد الفرق القائم بين القرابة الغريزية وبين التقارب الاجتماعي، وأن يبين كيف أن التقرب يفضي أحياناً إلى ولادة القرابة، لا بل ويصوغ لها أشكال في بعض الأحيان الأخرى. وهكذا يصبح للتو معظم العالم الاجتماعي والسياسي متاحاً للناقد ومفتوحاً أمام التمحيص العلماني، على غرار ما لاحظنا في كتاب "المحاكاة" كيف أن أورباخ لم يكن يبدي إعجابه بداهة بالقارة الأوربية التي افتقدها جراء المنفى وحسب، بل وكان ينظر إليها نظرة جديدة كمشروع اجتماعي وتاريخي مركب يخلقه ويعيد خلقه دون انقطاع رجال ونساء في المجتمع. إن هذا الوعي النقدي الدنيوي بمقدوره أن يتفحص أيضاً تلك الأشكال من الكتابة التي ترتبط بالأدب بصلة التقرب والتي تستثنى من ميدان الأدب نتيجة الاقتناص الإيديولوجي للنص الأدبي في صميم المنهاج الدراسي الإنساني كما هو عليه واقع الأمر في هذه الآونة. فتحليلي للنظرية الأدبية الحديثة في هذا الكتاب يركز على هذه الموضوعات وبالتفصيل، ولا سيما بالطريقة التي تذعن بها المنظومات النقدية- حتى التي هي من أكثر الأنواع تحبيكاً- للعلاقة الإنتاجية النموذجية القائمة بين ثقافة طاغية وبين الميادين التي تهيمن عليها.
***
ما معنى أن يكون لدى المرء وعي نقدي إذا كان موقف المفكر، كما كنت أحاول أن أشير، موقفاً دنيوياً وإذا كان على الهوية الاجتماعية للمفكر، جراء ذلك النزوع الدنيوي نفسه، أن تتضمن شيئاً أكثر من تعزيز مظاهر تلك الثقافة التي لا تأمر أعضاءها إلا بالتوكيد والامتثال وحسب؟
إن هذا الكتاب بأسره محاولة للإجابة على هذا السؤال. وموقفي، ومرة ثانية، هو أن الوعي النقدي المعاصر يقف بين إغرائين متمثلين بقوتين عاتيتين مترابطتين تستقطبان الاهتمام النقدي.
فالأولى هي الثقافة التي يرتبط بها النقاد بالقرابة (بالولادة والانتماء القومي والمهنة)، والثانية هي الطريقة أو المنظومة التي يكتسبها النقاد من خلال التقرب (بالقناعة الاجتماعية والسياسية، وبالظروف الاقتصادية والتاريخية، وبالجهد الشخصي والإرادة الحديدية). وكلتا هاتين القوتين ما فتئتا تدأبان على ممارسة الضغوط منذ ردح طويل من الزمن إلى أن وصلتا بالنقد إلى وضعه الراهن:
وإن اهتمامي بشخصيات من القرن الثامن عشر كفيكو وسويفت، على سبيل المثال، ينطلق من التسليم بداهة بمعرفتهما أن عصرهما كان يطالبهما أيضاً بمطالب ثقافية ومنهجية، الأمر الذي جعل مهمتهما الشاقة تتمثل بمقاومة هذه الضغوط في كل ما أقدما على فعله، مع أنهما كانا بالطبع كاتبين دنيويين ومرتبطين بزمانهما ارتباطاً مادياً.
إن النقد، بالشكل الذي تجري فيه ممارسته الآن وبالشكل الذي أتعامل فيه معه، شيء أكاديمي ويحتل على الأغلب مكاناً بعيداً جداً عن الأسئلة التي تؤرق قارئ الصحف اليومية. فالنقد يجب أن يكون على هذه الشاكلة إلى حد ما. بيد أننا بلغنا الآن تلك المرحلة التي يتعمد فيها التخصص وارتداء عباءة الاحتراف، بالتحالف مع العقيدة الثقافية، وتسامي التشرنق العرقي والقومي المحض، ناهيك عن الإصرار العجيب على الخنوع شبه الديني، إلى ترحيل الناقد الأدبي الأكاديمي المحترف إلى عالم مغاير تماماً، مع العلم أنه من أكثر ما أنتجته الثقافة تبحراً وتدريباً على تأويل النصوص.
ففي ذلك العالم المعزول والآمن نسبياً لا وجود على ما يبدو لأية صلة بعالم الأحداث والمجتمعات بالشكل الذي شيده فيه فعلاً المحدثون من مفكرين ونقاد وتاريخ. وعوضاً عن ذلك صار النقد المعاصر عبارة عن مؤسسة للإتيان جهاراً بتوكيد قيم ثقافتنا السائدة المصطفاة، أي ثقافتنا الأوربية، ولإطلاق العنان سرّاً لتأويل سائب لكون محدد سلفاً بأنه قراءة مغلوطة لتأويل مغلوط إلى أبد الآبدين. وأما النتيجة فقد كانت انفطام النقد انفطاماً منظماً، لا بل ومحسوباً، واستحالته إلى حلية لتزيين كل تعاملات قوى المجتمع الصناعي الحديث: سطوة نزعة التعسكر وحرب باردة جديدة، وتجريد المواطنين من التسيّس، والإذعان المطلق من لدن طبقة المفكرين التي ينتمي إليها النقاد. إن الحالة التي أحاول وصفها بخصوص النقد الحديث (دون استثناء النقد "اليساري") جاءت وزمن سطوع نجم الريغانية. وأما دور اليسار، المكبوت منه والمنظم سواء بسواء، فدور له أهميته نظراً لخنوع اليسار.
لا أريد لأحد أن يسيء فهم قولي حين أقول أن الهروب إلى المنهج والمنظومة من لدن النقاد الذين يودون اجتباب إيديولوجية النزعة الإنسانية لشيء سيء برمته، إذا ما أبعدني عن هذا، ولكن مخاطر المنهج والمنظومة جديرة بالاهتمام. فبمقدار ما يتحول المنهج والمنظومة إلى صنم وبمقدار ما يفقد الممتهنون لهما أية صلة مع مقاومة المجتمع المدني وتعدديته، يجازفان بالتحول إلى خطابات فضفاضة، ويقرران سلفاً بكل خفة ما يبحثان، بكل طيش أي شيء إلى دليل على جدارة المنهج، ويتجاهلان بمنتهى الاستهتار تلك الظروف التي تنبثق عنها كل النظريات والمنظومات والمناهج في خاتمة المطاف.
فالنقد له دائماً وقفته، لأنه شكاك ودنيوي ومفتوح لسقطاته الذاتية إلى حد معيب. غير أن هذا القول لا يعني بحال من الأحوال خلو النقد من القيمة، بل إنه على النقيض من ذلك تماماً لأن المسار النقدي المحتوم للوعي النقدي هو الوصول إلى أي معنى دقيق لما تنطوي عليه تلك القيم الإنسانية والاجتماعية والسياسية التي تنجم عن قراءة أي نص وإنتاجه ونقله. ولذلك فإن الوقوف بين الثقافة والمنظومة يعني الوقوف قريباً من واقع مادي يستوجب الإدلاء بالأحكام الاجتماعية والأخلاقية والسياسية عنه ويستوجب، إن تعذر ذلك، تعريته وفضح أسراره- علماً أن القرب بحد ذاته له عندي أهمية خاصة. ولكن إذا أتيح لكل فعل من أفعال التأويل أن يكون أمراً ممكناً وإذا أنيطت به الفاعلية من أية جماعة تأويلية، علينا عندئذ، كما قيل لنا منذ عهد قريب بلسان ستانلي فيش، أن نمضي قدماً إلى الأمام أشواطاً بعيدة في تبيان كنه الوضع وكنه الهيئة الاجتماعية وكنه المصالح السياسية التي يستدعيها عملياً مجرد وجود الجماعات التأويلية.(23) فهذه المهمة تنطوي على أهمية خاصة بعد أن صارت هذه الجماعات تستنبط الهذر بقصد التمويه.
ويحدوني الأمل بألا يظهر قولي بمظهر الخدمة الذاتية حين أقول أن كل ما أعنيه بالنقد والوعي النقدي معكوس مباشرة لا في موضوعات هذه المقالات وحسب، بل ومعكوس أيضاً في شكل المقالة بحد ذاته. وإذا كان القارئ سوف يحملني على محمل الجد وكأنني أقول أن النقد الدنيوي يتعامل مع أوضاع محلية وعالمية، وأنه مناوئ بحكم تكوينه لإنتاج منظومات سحرية ضخمة، فالواجب يقضي أن يخلص هذا إلى القول بأن المقالة -وهي نسبياً شكل قصير استقصائي، وشكل شكاك بالأساس- هي الميدان الرئيسي لكتابة النقد فيها. وبالنظر لاختيار الموضوعات على نطاق واسع نسبياً فإن وحدة الكتاب وحدة موقف واهتمام في الوقت نفسه أيضاً. فكل المقالات المجموعة هنا، إلا اثنتين، كتبت في المرحلة التالية مباشرة لاستكمال كتابي المعنون بـ "بدايات: مقصد ومنهج" الذي ناقش الضرورة النظرية والعملية لنقطة انطلاق منطقية لأي عمل فكري وخلاق، مع التسليم جدلاً بأننا نعيش في تاريخ دنيوي، أي في ذلك المجال الجاهز "دوماً وأبداً" لإطلاق الجهد البشري على نحو مستديم.
ولكن الأمر الأهم من سابقه هو الإشارة إلى أن كل هذه المقالات (باستثناء اثنتين أيضاً) كتبت في الوقت الذي كنت أعمل فيه على إعداد ثلاثة كتب تعالج تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب وهي:
"الاستشراق" (1978) و "مسألة فلسطين" (1979) و "دفاعاً عن الإسلام" (1981)، وهي تلك الكتب التي كان إطارها التاريخي والاجتماعي إطاراً سياسياً وثقافياً في أكثر الجوانب إلحاحاً. وأما عن أمور تدور حول العلاقة بين البحث والسياسة، وبين وضع معين وتأويل نص من النصوص وإنتاجه، وبين النصية نفسها والواقع الاجتماعي، فإن ارتباط بعض المقالات الموجودة هنا بتلك الكتب الثلاثة سيكون على أوضح ما يكون.
إن المقالات المجموعة هنا مرتبة بثلاث طرق متداخلة. فأنا أولاً أتفحص العالم الدنيوي، لا ********، الذي تحدث فيه النصوص والذي يلعب فيه بعض الكتاب المعنيين (من أمثال سويفت وهوبكينز وكونراد وفانون) دور القدوة لاهتمامهم بتفصيل الوجود اليومي المعروف باسم الوضع والحدث وتنظيم السلطة. وإن التحدي الذي يطرحه هذا العالم الدنيوي أمام الناقد هو تعذر تقليص العالم إلى مجرد نظرية توضيحية أو نظرية مبدئة، ويتعذر تقليصه أكثر من السابق بكثير إلى مجموعة من التعميمات الثقافية. فهنالك بدلاً من ذلك عدد قليل، ولربما على غير توقع، من سمات الدنيوية تلعب دوراً في إدراك المرء من التجربة النصية، ومن بين تلك السمات القرابة والتقرب، والجسد وحاستا البصر والسمع، والتكرار والتعدد المطلق للتفاصيل. وثانياً: أنصرف إلى المشكلات الخاصة التي تعتور النظرية النقدية المعاصرة في مواجهتها أو تجاهلها المسائل المطروحة على بساط بحث النصوص (والنصية) من قبل العالم الدنيوي. وختاماً أعالج في النهاية مشكلة ما يحدث حين تحاول الثقافة أن تتفهم ثقافة أخرى، أو أن تهيمن عليها، أو أن تقتنصها في حالة كونها أضعف منها.
ثمة كلمة في محلها المناسب عن الدور الخاص الذي يلعبه سويفت في هذا الكتاب. فهنالك مقالتان عنه تؤكدان كلتاهما على ضروب المقاومة التي يبديها أمام المشهد النقدي الحديث (هذا مع العلم أن المقاومة على أوثق ارتباط بأدلتي في هذا الكتاب). وأما الأسباب الموجبة لهذا فإنها لا تكمن فقط في أن سويفت يتعذر تصنيفه بسهولة وفق الأفكار الدارجة عن الكتّاب أو النص أو الكاتب المغوار، بل وتكمن في أن عمله آني وقوي وعمل- من زاوية الممارسة النصية المنهجية- متهافت في آن واحد معاً. فقراءة سويفت قراءة جادة تعني محاولة إدراك سلسلة من الأحداث بكل عنفها الخبيص، ولا تعني البتة استملاح الدر المنظوم ومن ثم استجلاء رموزه بمنتهى الهدوء. وعلاوة على ذلك كان دوره الاجتماعي دور الناقد المنهمك بشؤون السلطة التي لم يتسنمها قط: فلقد كان على الدوام مستنفراً، فعالاً، لا عقائدياً، ساخراً، غير هياب من العقائد والأفكار الراسخة الجذور، وفير الاحترام للجماعة الوطيدة الأركان البعيدة عن ممارسة القمع، فوضوياً بإحساسه حيال سلسلة البدائل للوضع القائم.
وعلى الرغم من ذلك كله اضطر بشكل مفجع للإذعان للتسوية والتصالح جراء ظروفه الدنيوية وجراء هذا الزمان- وهذه هي الحقيقة التي يلمح إليها إ. ب. ثومبسون وبيري أندرسون في جدالهما حول التزاماته السياسية الحقيقية (أتقدمية كانت، ترى، أم رجعية). ولكنه بالنسبة لي يمثل الوعي النقدي في باكورته، أي نموذجاً واسع النطاق لتلك المعضلات التي تواجه الوعي النقدي المعاصر الذي جنح إلى التقوقع المفرط وإلى الانجرار المفرط لقبوله التصنيف المنهجي بمنتهى البساطة. إن سويفت يقف بعيداً جداً خارج إطار الخطاب النقدي المعاصر ولذلك لا يمكن أن يكون واحداً من أفضل نقاده، علماً أنه كان على الأرجح أعزل من سلاح علم المنهج (الميثودولوجيا) فكتابة سويفت، بحيويتها وسخريتها اللفظية المنقطعة النظير وبتململها ومكائدها التحريضية اللا أكاديمية على بيئتها السياسية والاجتماعية، تمد النقد الحديث بالشيء الذي كان بأمس الحاجة إليه منذ أن ستر آرنولد الكتابة النقدية بعباءة السلطة الثقافية والخنوع السياسي الرجعي.
وأما من الناحية الأخرى، فمن باب المبالغة ولا شك أن أقول أن هذه المقالات تسلط الأضواء الساطعة على الموقف النقدي الذي أعتمده قولاً وفعلاً، والذي ألمح إليه تلميحاً كتابي "الاستشراق" وكتبي الحديثة الأخرى. فهذا قد يبدو لبعض الناس بمثابة عيب يعتور الدقة أو الأمانة أو المقدرة.
وقد يوحي، لبعضهم الآخر، بشيء من الشك الراديكالي من لدني حيال ما أكافح من أجله، ولا سيما مع الأخذ بعين الاعتبار أنني تعرضت للاتهام من جانب زملائي بتهمة الإفراط في المماحكة، لا بل وبالإفراط البعيد عن اللياقة. وأما لصنف ثالث من الناس فقد أبدو- وهذا يهمني أكثر من سابقه- ماركسياً متخفياً خشية فقدان الاحترام والتورط في خضم التناقضات المتأتية عن نعت "الماركسي".
وبصرف النظر عن أية رغبة لدي للإجابة على كل الأسئلة التي تثيرها هذه القضايا فإنني أود توضيح آرائي بقدر الإمكان. فعن مسألة الحكم والسياسة الخارجية، وهي مسألة تعنيني على وجه التخصيص، ما من جديد جدير بالإضافة هنا على ما سيقال في المقالات الأربع الأخيرة في هذا الكتاب.
ولكن عن الأمر الهام المتعلق بالوضع النقدي وعلاقته بالماركسية أو الليبرالية أو حتى بالفوضوية، يجب أن نقول أن ذلك النقد الذي ينحصر معناه سلفاً بنعوت كالماركسي أو الليبرالي ينطوي، من وجهة نظري، على مغالطة مضحكة. وإن تاريخ الفكر، ناهيك عن تاريخ الحركات السياسية، يسلط أسطع الأضواء على أن معنى القول المأثور القائل: "التضامن مطلوب لمواجهة النقد" كان معناه نهاية النقد. وإنني لأحمل النقد على محمل الجد إلى الحد الذي يدفعني للإيمان، حتى في خضم معركة يجد المرء نفسه فيها منحازاً انحيازاً بيّناً مع هذا الطرف ضد ذاك، بوجوب وجود النقد وذلك لأن الواجب يقضي بضرورة وجود الوعي النقدي إن كان هنالك مسائل ومشكلات وقيم، حتى وحيوات، جديرة بالدفاع عنها. ففي التاريخ الثقافي الأمريكي، وفي هذه الآونة بالذات، ليست الماركسية أساساً إلا التزام أكاديمي لا سياسي، مع أنها تجازف بالتحول إلى اختصاص أكاديمي. وكنتائج طبيعية لهذه الحقيقة المرة ثمة أشياء أخرى جديرة بالذكر من مثل غياب حزب اشتراكي هام (على غرار الأحزاب الأوربية المختلفة)، والخطاب المتهمش عن الكتابة "اليسارية"، والعجز الظاهري للجماعة المحترفة (الدراسية والأكاديمية والمحلية) عن تنظيم تحالفات يسارية فعالة مع مجموعات العمل السياسي. فالنتيجة النهائية "لإعداد" أو كتابة النقد الماركسي في الوقت الراهن هي أن يعلن المرء عن انحيازه السياسي، وهي في الوقت نفسه أن يضع نفسه خارج مقدار كبير من الأشياء الجارية اليوم في الدنيا، إذا جاز التعبير، وأن يضعها ضمن أنواع أخرى من النقد.
ولربما أن الطريقة الأبسط للتعبير عن هذا كله هي أن أقول أن الماركسيين تركوا أثراً علي أكثر مما تركته الماركسية أو أي مذهب آخر. ولئن كان هنالك من مغزى للجدل الدائر الآن في ماركسية القرن العشرين فهو المغزى التالي: إن الماركسية بحاجة لحل رموزها وفضح أسرارها وتوضيحها بأسلوب منهجي، وحاجتها من ذلك حاجة أي خطاب آخر. وهنا يبدو قيماً عمل بعض الراديكاليين من غير الماركسيين (كعمل تشومسكي، مثلاً، أو عمل إ. ف. ستون)، ولا سيما إذا كانت الأسوار العقائدية لا تزال تعوّق الأفراد من خارج إطار أعضائها من إعداد أنفسهم للبدء بمثل هذا العمل.
وهذا القول نفسه صحيح عن النقد المنبثق عن وجهة نظر محافظة وعميقة الجذور كوجهة نظر أورباخ مثلاً، إذ إن عمله، في أفضل الأحوال، يعلمنا كيف نكون نقادين أكثر مما يعلمنا كيف نكون أعضاء ممتازين في مدرسة ما. وإن الاستخدامات الإيجابية لصلة التقرب صارت عديدة في خاتمة المطاف، غير أن هذا لا يمنعنا من القول بأن الفاشستية والتزمت العقائدي أقل خطراً من ذلك بأي شيء.
لو شئت استعمال كلمة واحدة متساوقة مع النقد (لا من باب التخفيف له بل من باب التوكيد) لكانت كلمة المقاوم. فلئن كان من المتعذر تقليص النقد إلى مذهب أو إلى موقف سياسي حول مسألة معينة، ولئن كان يتوجب وجوده في الدنيا وهو مدرك لذاته في الوقت نفسه أيضاً، لقضي الواجب أن تكون هويته حينئذ هي اختلافه عن الأنشطة الثقافية الأخرى وعن منظومات الفكر أو المنهج.
وإن النقد، في شكه بالمفاهيم التجميعية وبسخطه على الأمور المجسدة ونفوره من النقابات والمصالح الخاصة والإقطاعات ذوات الصبغة الامبريالية ومن تعويد الفكر على السير على الصراط المستقيم، يكون على أقرب ما يكون إلى نفسه ويكون، إن كانت المفارقة موضع تسامح، على أبعد ما يكون عن نفسه في اللحظة التي يبدأ بها تحوله إلى عقيدة منظمة. وعلاوة على ذلك فكلمة "ساخر" ليست بالكلمة النابية إن إضيفت إلى كلمة "مقاوم" لأن النقد بالأساس -ولسوف أكون هنا في غاية الوضوح- يجب أن يرى نفسه مشجعاً للحياة ومعارضاً، بحكم تكوينه، لأي شكل من أشكال الطغيان والهيمنة والظلم، مع العلم أن أهدافه الاجتماعية تتمثل بإنتاج المعرفة بحرية بعيداً عن القسر ولمصلحة الحرية البشرية. وإذا اتفقنا مع ريموند ويليامز وهو يقول: "مهما كان مبلغ هيمنة منظومة اجتماعية فإن فحوى هيمنتها نفسها يعني ضمناً تحديد أو اصطفاء المساعي التي تتعامل بها، ولذلك ليس بوسعها، بالتحديد الذي تطرحه، استنفاد الخبرة الاجتماعية كلها التي تتضمن، لذلك السبب، على نحو مستديم وكامن حيزاً لتصرفات بديلة ونوايا بديلة من تلك التي لما تحظ بعد بصيغة المؤسسة الاجتماعية أو حتى بصيغة المشروع الاجتماعي(24)، يكون النقد عندئذ في ذلك الحيز الكامن في قلب المجتمع المدني، عاملاً لمصلحة تلك التصرفات البديلة والنوايا البديلة التي يكون دفعها أشواطاً إلى الأمام عبارة عن التزام فكري وبشري جوهري.
وثمة محذور من أن تفضي الرعدة من الشيء الصعب -والنقد شكل من أشكال المصاعب- إلى تثبيط عزيمة المرء. ولكن هنالك كل الأسباب الوجيهة للافتراض بأن الناقد المجهود من الترويض والحرب اليومية قادر على الأقل، كالراوي عند ييتس، على العثور على الإصطبل وخلع الرتاج وتحرير الطاقات الخلاقة. والناقد ليس بمقدوره عادة إلا دغدغة الأمل دون التعبير عنه بصراحة، ومع أن هذه المقولة بمثابة السخرية اللاذعة، إلا أن الواجب يقضي بتذكرها لمصلحة الناس الذين يصرون على أن النقد فن، والذين ينسون أن أي شيء، في اللحظة التي يحتل فيها منزلة الصنم الثقافي أو السلعة، يكف عن البقاء مشوقاً، وهذا في جوهره موقف نقدي، مثله تماماً مثل كون ممارسة النقد والحفاظ على موقف نقدي مظهرين نقديين من مظاهر الحياة الفكرية.


nnn

([1]) نسبة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان- المترجم.

([2]) تجدر الإشارة إلى الفرق بين معنيي هاتين الكلمتين:
(صلة بيولوجية وطبيعية) انتساب- قرابة- بنوة: filiation
(صلة لا بيولوجية ومصطنعة) تنسّب- تقرّب- تبني: affiliation
- المترجم-
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-28-2012, 12:02 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي

العالم والنص والناقد



منذ ذلك الوقت الذي هجر فيه غلين غولد، عازف البيانو الكندي، مسرح الحفلات الموسيقية حصر عمله بتسجيل الأسطوانات الموسيقية وفي التلفاز والمذياع. وهنالك شيء من الخلاف بين النقاد عما إذا كان غولد دائماً، أو أحياناً فقط، ذلك المفّسر المقنع لهذه المعزوفة على البيانو أو لتلك، ولكن ما من شك في أن أية حفلة موسيقية من حفلاته الآن حفلة خاصة جداً على الأقل. ومن المناسب هنا بحث مثل واحد عن الكيفية التي كان يعزف بها مؤخراً. ففي عام 1970 أصدر أسطوانة من عزفه السيمفونية الخامسة لبيتهوفن بألحان بيانو فرانز ليسْت. وبغض النظر عن الدهشة التي يشعر بها المرء من اختيار غولد اختياره الغريب لهذه المقطوعة (التي بدت أغرب من المألوف حتى له، وهو الغريب جداً أيضاً، لأن حفلاته المثيرة للجدل كانت تقترن سابقاً بالموسيقا الكلاسيكية أو الحديثة وحسب)، فإن هنالك عدداً من الأمور المستغربة حول هذا الانعتاق الخاص. فموسيقا بيتهوفن على ألحان بيانو ليسْت لم تكن من القرن التاسع عشر فقط بل ومن أميز مظاهره أيضاً- إن تحدثنا من زاوية العزف على البيانو- علاوة على أنها ليست مطواعة لتحويل خبرة التناغم الموسيقي إلى مناسبة بهية يستعرض العازف نفسه فيها، لا بل وغزت ميدان الآلات الأخرى لتجعل من موسيقا هذه الآلات مناسبة استعراضية يكشف فيها عازف البيانو عن مهارته. إن معظم الأسطونات تميل عموماً للظهور بمظهر التشوش والغلظة، وذلك لأن البيانو يحاول أغلب الأحيان أن ينسخ جوهر الصوت الأوركستري.
وأما السيمفونية الخامسة على بيانو ليسْت فقد كانت أقل إزعاجاً من معظم الأسطوانات، والسبب الرئيس لذلك كان التألق في تحويلها للعزف على البيانو، ولكن الصوت الذي كان يصدره غولد كان غريباً عليه حتى وهو في أصفى حالاته. فسابقاً كان صوته أصفى من كل أصوات العازفين على البيانو وأكثرها بعداً عن الزخرفة، الأمر الذي أتاح له قدرة فائقة على تحويل الألحان المتصاحبة عند باخ إلى ما يشابه الخبرة البصرية. وهكذا كانت أسطوانة ليسْت أسلوباً مختلفاً تماماً، ومع ذلك توصل بها غولد إلى أقصى درجات النجاح، وبدا بها الآن ليستيا([1]) بمقدار ما كان باخيا([2]) في الزمن الماضي.
ولكن هذا لم يكن كل ما في الأمر. فمع الأسطوانة الأساسية كانت هنالك أسطوانة أخرى تشتمل على مقابلة عادية وطويلة بعض الشيء بين غولد وبين، على ما أذكر، مدير تنفيذي لشركة تسجيلات. لقد قال غولد لمحاوره أن السبب الوحيد الذي جعله يهرب من الحفلات الموسيقية "الحية" كونه تعود عادة سيئة في العزف، تعود على نوع من المبالغة الأسلوبية. ففي جولاته في الاتحاد السوفياتي، مثلاً، كان يلاحظ أن القاعات الضخمة التي كان يمارس فيها العزف كانت تدفعه لتشويه المقاطع الموسيقية في لحن من ألحان باخ -وهنا أوضح بالعزف المقاطع المشوهة- إلى ذلك الحد الذي كان يجعله أكثر فاعلية في "أسر" مستمعيه ومخاطبتهم وهم في شرفات الطابق الثالث. وبعدئذ عزف نفس المقاطع ليبيّن أنه يعزف بمزيد من الدقة وبإغراء أقل حين يعزف الموسيقا بغياب جمهور لسماعه بشكل حقيقي.
قد تبدو على شيء من الحماقة محاولة استنباط التهكمات الصغيرة من هذه الحالة -الأسطوانة والمقابلة وتبيان أساليب العزف دون أي استثناء. ولكنها تخدم قضيتي الأساسية: إن أية مناسبة تتضمن الوثيقة والخبرة الجماليتين أو الأدبيتين، من ناحية أولى، وتتضمن دور الناقد ودنيويته، أو دنيويتها، من ناحية ثانية، لا يمكن أن تكون مناسبة بسيطة.
فاستراتيجية غولد ما هي بالفعل إلا نوع من المحاكاة الساخرة لكل الاتجاهات التي قد نطرقها في محاولتنا التوصل لما يحدث بين العالم وبين الموضوع الجمالي أو النصي. فهنا كان عازف البيانو الذي مثل ذات مرة العازف المتنسك خدمة للموسيقا، وها قد تحول الآن دونما خجل إلى عازف بسيط ذي موقع جمالي أساسي من المفروض به أن يكون أفضل قليلاً من موقع العاهرة الموسيقية. وهذا التصرف يصدر عن ذلك الإنسان الذي يسوّق تسجيل عزفه "أولاً" ومن ثم يضيف إليه، لا مزيداً من الموسيقا، بل ذلك النوع من الحضور الفوري المثير للانتباه مغتنماً فرصته في مقابلة شخصية، وهذا كله مثبت على مادة قابلة للتكرار ميكانيكياً، تلك المادة التي تتحكم بأوضح علامات الحضور الفوري (كصوت غولد وأسلوب التنفج في أسطوانة ليسْت، ونتف مقابلة عادية محشورة مع عزف خلو من التجسيد) تحت قرص أخرس مغمور وفي متناول اليد من البلاستيك الأسود.
إذا خطر غولد على بال المرء لخطرت معه أشياء مماثلة عن ظروف الأداء المكتوب.
فقبل كل شيء هنالك الوجود المادي للنص القابل للاستنساخ الذي تضاعف وتكرر تضاعفه، في أحدث مراحل عصر والتر بينيامين -عصر الاستنساخ الميكانيكي- إلى ذلك الحد الذي تجاوز تقريباً أية حدود قابلة للتصور. فكلتا المادتين، المسجلة والمطبوعة، خاضعتان لبعض القيود القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بمقدار ما يتعلق الأمر بالتطاول الأمني لإنتاجهما وتوزيعهما، غير أن السؤال عن سبب وكيفية توزيعهما فأمر آخر تماماً.
إن الشيء الأساسي هو أن النص المكتوب من ذلك النوع الذي نوليه اهتمامنا ما هو بالأصل إلا نتيجة تعاقد آني ما بين الكاتب والوسيلة. وبعدئذ يمكن استنساخه لمصلحة العالم ووفقاً للشروط المفروضة من العالم وفيه، ومهما كان حجم الاعتراض الذي يبديه الكاتب، أو الكاتبة، حيال ذيوع الكتاب وشهرته، فإن النص ما أن يصبح أكثر من نسخة واحدة حتى يصبح عمل الكاتب في قلب العالم وخارج إطار تحكم الكاتب به.
وثانياً: إن الأداء المكتوب والموسيقي كليهما مثلان عن الأسلوب، بأبسط المعاني وأقلها تبجيلاً لتلك الظاهرة البالغة التعقيد، ومرة ثانية سأستثني اعتباطاً سلسلة كاملة من التعقيدات الطريفة لأصر على أن الأسلوب هو، من وجهة نظر المنتج والمتلقي، العلامة الفارقة، القابلة للإدراك والتكرار وال*****، للكاتب الذي يحسب حساب الجمهور. وحتى لو اقتصر الجمهور على فرد بأم عينه أو اتسع ليكون العالم كله، فأسلوب الكاتب ظاهرة جزئية من ظواهر التكرار والتلقي. ولكن الشيء الذي يجعل الأسلوب قابلاً للتلقي باعتباره توقيع طريقة كاتبه، يتمثل بمجموعة من الميزات المدعوة بأسماء شتى من مثل شكل اللغة أو الصوت أو الفردية المستعصية على الاختزال.
والمفارقة هي أن شيئاً موضوعياً موضوعية نص، أو أسطوانة، يمكنه على الرغم من ذلك أن يترك انطباعاً، أو أثراً لشيء بحيوية وآنية وسرعة زوال "صوت"ما. إن المقابلة التي أجراها غولد توضح إلى حد صارخ وبمنتهى البساطة الحاجة الضمنية الدائمة للتلقي أو التمييز الذي يستدعيه النص حتى ولو كان بأقدم أشكاله المحنطة. وثمة شكل عام من أشكال هذه الحاجة هو العزف المسرحي (أو المسجل) لصوت متحدث يخاطب إنساناً ما في زمان معين وفي مكان محدد. ولذلك فإن الأسلوب، إن حظي بالنظرة التي كنت أنظر بها إليه، يحيّد اللادنيوية، أي الوجود الصامت، الذي لا يرتبط بأي ظرف ظاهرياً، لنص وحيد، فالواقع لا يؤكد أن النص، أي نص ينجو من التدمير الفوري، مجرد شبكة من القوى المتصادمة في غالب الأحيان وحسب، بل ويؤكد أيضاً أن النص في كينونته الفعلية كنص له وجود في العالم، ولذلك فإنه يتوجه إلى كل من يريد أن يقرأ، تماماً كما يفعل غولد من خلال نفس تلك الأسطوانة التي من المفروض بها أن تمثل، في آن واحد معاً، انسحابه من العالم وأسلوبه الصامت "الجديد" في العزف بدون وجود جمهور حي.
ومن المؤكد أن النصوص لا تتكلم بالمعنى العادي لهذه الكلمة. ومع ذلك فإن أي تعارض بسيط مباشر، يقال بأن له وجود جزْم، بين أولاً: الكلام، المقيد بالوضع والإسناد، وثانياً: النص كاعتراض أو إرجاء لدنيوية الكلام، لهو كما أتصور مغلوط ومفرط في التبسيط. وهاكم هنا الكيفية التي يطرح بها بول ريكوير هذا التعارض والتي يقول بأنه جاء بها بقصد التوضيح التحليلي:
إن وظيفة الإسناد في الكلام مربوطة بدور وضعية الحديث ضمن إطار تبادل اللغة نفسها: ففي تبادل الكلام يكون المتحدثان حاضرين أحدهما أمام الآخر، وحاضرين أيضاً في الإطار الظرفي للحديث، لا في البيئة المدركة حسياً وحسب، بل وفي الخلفية الثقافية المعروفة لدى المتحدثين كليهما. فالحديث، فيما يتعلق بهذه الوضعية، يكون له مغزاه الكامل: فالإسناد إلى الواقع ما هو في التحليل الأخير إلا إسناد لذلك الواقع الذي من الممكن تحديده أنه "حول" مثال الحديث نفسه، إن جاز التعبير، فاللغة... وعموم المؤشرات الظاهرية للغة تؤدي دور تثبيت الحديث في الواقع الظرفي الذي يحيط بمثال الحديث. وهكذا فإن المعنى المثالي لما يقوله المرء، في الكلام الحي، ينثني نحو إسناد واقعي، أي نحو ذلك الشيء الذي يتحدث عنه المرء...
ولكن هذه الحالة لا تبقى على حالها حين يحل النص محل الكلام... فالنص ليس بدون إسناد، ولسوف تكون بالتحديد مهمة القراءة، كتأويل، جعل الإسناد أمراً واقعاً، وعلى الأقل، في هذا الإرجاء الذي يكون فيه الإسناد معلقاً، أي أنه مؤجل، يكون النص إلى حد ما "في الفراغ"، خارج نطاق العالم أو بدون أي عالم البتة، ولذلك فمن جراء هذا الطمس لأية علاقة للنص بالعالم، يكون أي نص حراً في إقامة علاقة له مع كل النصوص الأخرى التي تأتي لتحل محل الواقع الظرفي الذي يبديه الكلام الحي(1).
ويرى ريكوير أن الكلام والواقع الظرفي يوجدان بحالة حضور، في حين أن الكتابة والنصوص توجد بحالة تعليق -أي خارج الواقع الظرفي- إلى أن يصار إلى تحقيقها كأمر واقع وتلبس لبوس الحضور من قبل القارئ الناقد، إن ريكوير يجعل هذه الحالة تبدو وكأن النص والواقع الظرفي، أو ما سوف أدعوه بالدنيوية، يلعبان لعبة الكراسي الموسيقية([3]) حيث يعترض الواحد منهما سبيل الآخر ويحل محله وفقاً لإشارات خرقاء إلى حد ما. بيد أن هذه اللعبة تجري في عقل المؤول، وهذا هو الموضع المفروض به أن يكون بلا دنيوية أو ظرفية. فالمؤول الناقد يتقلص موقعه ليصبح موقع تلك البورصة المركزية التي على أرضها تجري الصفقة التي تبين أن النص يعني (س) في الوقت الذي يقول فيه (ص).
وأما فيما يتعلق بما يدعوه ريكوير "بالإسناد المؤجل" فماذا يحل به خلال التأويل؟ بمنتهى البساطة، وعلى أساس نموذج التبادل المباشر، فإنه يعود بعد اكتسابه العافية والتحقق من جراء قراءة الناقد.
إن الصعوبة الأساسية في هذا كله هي أن ريكوير يفترض، دون أدلة كافية، أن الواقع الظرفي ما هو منهجياً وحصراً إلا ميزة الكلام، أو ميزة وضعية الكلام، أو ميزة ما كان الكتّاب يودون قوله لو لم يختاروا الكتابة بدلاً من القول. ووجهة نظري هي أن الدنيوية لا تروح وتجيء، وليست هنا وهناك بتلك الطريقة التبريرية والضبابية التي نعتمدها غالباً لتصنيف التاريخ، والتي هي بمثابة زركشة بيانية في أمثال هذه الحالات كناية عن التصور المبهم المحال القاضي بأن الأشياء كلها تحدث في الزمان. وعلاوة على ذلك فالنقاد ليسوا مجرد شرّاح كيمائيين مهمتهم تحويل النصوص إلى واقع ظرفي أو إلى دنيوية ظرفية، لأنهم هم أنفسهم أيضاً خاضعون ومنتجون للظروف التي نشعر بها بغض النظر عن مقدار الموضوعية الموجودة في مناهج النقاد. إن الشيء الأساسي هو أن النصوص لها طرق في الوجود بحيث أنها حتى في أسمى شكل لها تبقى دائماً فريسة الوقوع في شراك الظرف والزمان والمكان والمجتمع -وباختصار فهي في الدنيا ولذلك فإنها دنيوية(2).
وسواء أبقي النص مصوناً أو نحي جانباً لفترة من الزمن، وسواء أكان على رف في مكتبة أولاً، وسواء أكانت النظرة إليه بأنه خطير أولاً: فهذه الأمور عليها أن تتعامل مع وجود النص في الدنيا، وهذا أمر أكثر تعقيداً من العملية الخاصة للقراءة. إن هذه المضامين نفسها صحيحة بلا شك عن النقاد في قدراتهم كقراء وكتاب في الدنيا.
وإذا كان لاستخدامي التسجيل الذي سجله غولد لسيمفونية بيتهوفن الخامسة أي مقصد مفيد عملياً، فهو إيراد مثال عن شيء شبه نصي له طرائقه في التعامل مع الدنيا، وطرائق عديدة ومعقدة، وأكثر تعقيداً من الحد الفاصل الذي رسمه ريكوير بين النص والكلام.
فهذه التعاملات هي الشيء الذي كنت أدعوه بالدنيوية. ولكن شغلي الشاغل هنا ليس الموضوع الجمالي عموماً، وإنما النص على وجه التخصيص. إن معظم النقاد سوف يؤيدون الفكرة التي مفادها أن أي نص أدبي مثقل بطريقة ما بمناسبته، أي بالوقائع التجريبية البسيطة التي انبثق عنها. بيد أن تصخيم مثل هذه الفكرة أكثر مما تطيق يجعلها تستحق النقد المبرر لأسلوبيّ مثل ميشيل ريفاتير الذي يعمد في كتابه "النص المكتفي ذاتياً" إلى نعت تقليص النص إلى ظروفه بالمغالطة التي على أوثق ارتباط بالسيرة الذاتية أو التركيب الوراثي أو السيكولوجيا أو التشابه الجزئي(3). ولربما أن معظم النقاد يوافقون ميشيل ريفاتير بقولهم نعم، دعونا نتأكد أن النص لا يختفي تحت وطأة هذه المغالطات.
ولكنهم ليسوا على قناعة تامة، وهنا أعبر بالأساس عن رأيي وحدي، بفكرة النص المكتفي ذاتياً. فهل البديل عن هذه المغالطات المتعددة كونٌ نصي سحري وحسب، كونٌ بعده الهام عن المعنى هو، كما يقول ريفاتير، بُعد كله باطني أو عقلاني؟ أفليس هنالك من طريقة للتعامل مع النص وظروفه الدنيوية بإنصاف؟ أو ليس هناك من طريقة للتصارع مع مشكلات اللغة الأدبية إلا ببترها عن المشكلات اليومية الدنيوية التي هي أكثر إلحاحاً بمنتهى الوضوح؟
لقد وجدت طريقة للبدء بمعالجة هذه الأسئلة في مكان غير متوقع، الأمر الذي سيجعلني أميل إلى الاستطراد على ما يبدو. فكروا بذلك المضمار غير المألوف لكم نسبياً، ألا وهو التأمل العربي لعلم اللغة إبان العصور الوسطى. فالعديدون من النقاد المعاصرين مشغولون في التأمل باللغة في أوربا، أي بذلك المركب الذي يتألف من التخيل النظري والملاحظة التجريبية، والذي يسم الفيلولوجيا الرومانسية ونشوء علم اللغة في مطلع القرن التاسع عشر، ويسم كل تلك الظاهرة الغنية التي دعاها ميشيل فوكو باكتشاف اللغة. لكن ومنذ القرن الحادي عشر ظهرت في الأندلس مدرسة صقيلة التحبيك ونبوية على غير توقع من الفلاسفة النحاة المسلمين ممن مساجلاتهم سبقت مماحكات القرن العشرين بين البنويين والمبدئين، وبين الوصفيين والسلوكيين. بيد أن هذا ليس كل ما في الأمر، إذ إن زمرة من علماء اللغة الأندلسيين وجهت نشاطها ضد بعض التوجهات لدى لغويين منافسين كانوا يحاولون قلب مسألة المعنى في اللغة إلى ممارسة ملغزة ورمزية. ومن بين أفراد تلك الزمرة كان ثلاثة من علماء اللغة والنحاة المنظرين وهم ابن حزم وابن جني وابن مداعة القرطبي الذين كانوا كلهم يعملون في قرطبة خلال القرن الحادي عشر، وكانوا كلهم من أنصار المذهب الظاهري، كما كانوا كلهم خصوماً للمذهب الباطني، لقد كان الباطنيون يعتقدون أن المعنى في اللغة مخبوء في صميم الكلمات، ولذلك فإنه لا يتاح إلا كنتيجة للتأويل الباطني، وأما الظاهريون -ونعتهم هذا مشتق من الكلمة العربية التي تعني الواضح والجلي والظاهر، في حين أن نعت الباطنيين يفيد ضمنا الداخلي- فقد كانوا يدافعون عن المقولة التي مفادها أن الكلمات ليس لها إلا المعنى السطحي، أي ذلك المعنى الذي اقترن وترسخ باستعمال وظرف محددين أي بوضع تاريخي وديني.
إن الفريقين المتخاصمين تعود بهما الجذور إلى قراءة النص المقدس، القرآن، وكيفية وجوب قراءته وفهمه ونقله وتعليمه إلى الآخرين من خلال الأجيال المؤمنة اللاحقة، وذلك لأن القرآن حدث، وحدث فريد من نوعه وعلى نقيض الكتاب المقدس (the Bible) . لقد كان الظاهريون القرطبيون يهاجمون مزايدات الباطنيين الذين كانوا يقدمون الأدلة على أن مهمة القواعد نفسها (وهو النحو في اللغة العربية) ما هي إلا دعوة لنسج معاني خاصة في نص إلهي قاطع، ولولا ذلك لما كان إذاً ثابتاً ممنوعاً من التبديل. فبالنسبة لابن مداعة كان من السخف حتى ربط القواعد بمنطق الفهم باعتبار أن القواعد كعلم يتخذ لنفسه أفكاراً عن استخدام ومعنى الكلمات التي تتضمن مستوى خبيئاً تحت الكلمات وميسوراً للملقنين وحسب(4)، وفضلاً عن ذلك كان ابن مداعة يشتط إلى حد الإتيان بأمثال تلك الأفكار من ذكريات ماضي الزمان. فما أن يلجأ المرء إلى مثل ذلك المستوى حتى يصبح أي شيء مباحاً من خلال التأويل: وعندها لن يكون هنالك أي معنى محدد، ولا أي ضابط على ما تقوله الكلمات فعلياً، ولا أية مسؤولة تجاه الكلمات. فالجهد الظاهري كان يحاول، بالعقلنة، استعادة نظام قراءة للنص يتمركز فيه الاهتمام على الكلمات الظاهرية أنفسها، وعلى ما يمكن اعتباره معناها الأوحد والأبدي الذي يعبر عن وضع معين وخلال ذلك الوضع، وليس على المعاني المستترة التي من المحتمل تحميلها لها لاحقاً. إن الظاهريين القرطبيين بذلوا جهوداً حثيثة جداً في محاولتهم، على وجه التخصيص، *** نظام للقراءة يضيق الخناق إلى أقصى حد ممكن على القارئ وظروفه. ولقد فعلوا هذا بالأساس من خلال نظرية عما يجب أن يكون عليه النص.
ليس من الضروري وصف هذه النظرية بالتفصيل، ولكن من المفيد أن نشير إلى كيفية انبثاق الجدل نفسه من نص مقدس نجم سلطانه عن كونه الكلمة غير المخلوقة لله، والكلمة الملزمة لطرف واحد والمنقولة مباشرة إلى رسول في لحظة معينة من الزمن، وبشكل مناقض لهذا فإن النصوص الموجودة في صميم التراث المسيحي/ اليهودي، الذي يتمركز حول سفر الرؤيا، لايمكن إرجاعها إلى لحظة معينة ذات توسط مقدس يفضي بالنتيجة إلى دخول كلمة الله إلى الحياة الدنيا، لا بل على الأصح فإن تلك الكلمة تدخل التاريخ البشري على الدوام، خلال ذلك التاريخ وكقسط منه. ولذلك فإن مكانة هامة جداً تناط بما دعاه آرلاندز "بالعوامل البشرية" في تلقي مثل هذا النص ونقله وفهمه.(5)
وبما أن القرآن الكريم نتيجة حدث فريد من نوعه، فإن "نزوله" الواقعي في دنيوية النص، علاوة على لغته وشكله، أمور يجدر النظر إليها، إذاً، بأنها ثابتة وتامة. وعلاوة على ذلك فلغة النص هي العربية التي تصبح، لذلك السبب، لغة متمتعة بالامتياز، وناقل النص هو النبي (أو الرسول) الذي يتمتع بالامتياز أيضاً - فنص كهذا من الممكن اعتباره أن له أصلاً محدداً تحديداً مطلقاً ومن غير الممكن بالنتيجة إحالته إلى مؤول أو تأويل مخصص، على الرغم من أن هذه الإحالة هي الشيء الذي حاول الباطنيون فعله بمنتهى الوضوح (ومن المحتمل أن تكون هذه الفكرة قد جاءتهم إيحاء جراء تأثير التقنيات التأويلية في الموروث المسيحي/ اليهودي).
إن آرنالدز يورد، في دراسته لابن حزم، وصفه للقرآن بالعبارات التالية:
إن القرآن يتحدث عن أحداث تاريخية، ومع ذلك فإنه ليس بحد ذاته كتاباً تاريخياً، وإنه يكرر تلك الأحداث الماضية التي يوجزها ويخصصها، ومع ذلك فهو ليس بحد ذاته خبرة معاشة عملياً، فضلاً عن أنه يمزق تواصل الحياة البشرية، بيد أن الله لا يدخل الوضع الزمني من خلال فعل معلّق أو مدبر. وإن القرآن يثير ذكريات أفعال مضمونها يكرر نفسه إلى الأبد بطرق متجانسة مع القرآن نفسه من أمثال التحذيرات والأوامر والزواجر والعقوبات والمثويات(6). وباختصار، فإن الموقف الظاهري يتبنى تصوراً عن القرآن كله ظرفي على الإطلاق دون أن يجعل في الوقت نفسه تلك الدنيوية تهيمن على المعنى الفعلي للنص: وهذا كله هو التفادي الحاسم للحتمية المبتذلة في الموقف الظاهري.
وهكذا فإن النظرية اللغوية لابن حزم تعتمد على تحليل صيغة فعل الأمر باعتبار أن القرآن في أقصى مستوياته الكلامية الجوهرية، بناء على هذه الصيغة، نص محكوم بفعلين نموذجيين من أفعال الأمر هما: إقرأ (read or recite) وقل (Tell) (7).
فبما أن ذينك الأمرين يسيطران بكل وضوح على المظهر الظرفي والتاريخي للقرآن (وعلى فرادته كحدث)، وبما أن الواجب بأن يسيطر على استخدامات النص لاحقاً (أي على قراءاته) أيضاً، فإن ابن حزم يربط تحليله لصيغة فعل الأمر بفكرة فقهية عن الحد (hadd) ، الذي هو عبارة عن كلمة تعني الحد القواعدي المنطقي وتعني التخم بآن واحد معاً، إن ما يرشح في صيغة فعل الأمر، بين الأمرين بالقراءة والكتابة، هو الإتيان بلفظة (يقال عنها الخبر في العربية)، وقد ترجمها آرلاندز بكلمة (énancé ، وما هي إلا التحقيق الفعلي لمقصد دليل، أو لنية (niyah) . وهكذا فإن النية الدالة تصبح مرادفة الآن لا للنية السيكولوجية بل حصراً لنية فعلية، تلك النية التي هي نفسها شيء دنيوي جداً -فهي تحدث في الدنيا حصراً، وهي آنية وظرفية بطريقة محددة جداً وبطريقة على أوثق ارتباط بالموضوع أيضاً. فالتدليل على شيء لا يكون إلا باستخدام اللغة وحسب، واستخدام اللغة يعني استخدامها بناء على قواعد معينة للمفردات والإعراب، الأمر الذي يستوجب أن تكون اللغة في الدنيا ومنها أيضاً، ولذلك فإن المذهب الظاهري يرى أن اللغة تحافظ على انضباطها بواسطة الاستعمال الحقيقي، لا بواسطة الأمر المعنوي ولا بالحرية التأملية. وقبل كل شيء تقف اللغة بين الإنسان وبين اللامحدود الشاسع: فإذا كانت الدنيا عبارة عن منظومة هائلة من التشابهات بين الكلمات والأشياء المدركة بالحواس يكون عندها الشكل اللفظي -أي اللغة في استعمالها القواعدي العملي- هو ما يتيح لنا أن نعزل الأشياء المدركة المخصصة عن هذه التشابهات البالغة الترتيب. وهكذا فإن الأمانة لأمثال هذه الجوانب "الحقيقية" للغة هي، كما يقول آرنالدز عنها، نوع من أنواع ممارسة الانضباط الذاتي للخيال(8). فالكلمة لها معنى محدد مفهوم على أنه أمر جازم، وتصاحب ذلك المعنى أيضاً سلسلة تقديرية جداً من التشابهات (التماثلات) لكلمات ومعاني أخرى، أي تلك السلسلة التي تحوم بالتحديد حول الكلمة الأولى. وهكذا فإن اللغة المجازية (كما ترد حتى في القرآن)، ولولا المجاز لكانت ملصة وتحت رحمة المؤول الأمين، تشكل قسطاً من البنية الحقيقية للغة، ولذلك فإنها جزء من جماعية مستخدمي اللغة.
إن ما يفعله ابن حزم، كما يذكرنا آرنالدز، هو تصوره أن اللغة تمتلك ميزتين متناقضتين ظاهرياً: ميزة المؤسسة الصادرة بأمر إلهي، مؤسسة ممنوعة من التبديل، ثابتة ومنطقية وعقلانية وواضحة، وميزة الأداة الموجودة كأمر طارئ صرف، كمؤسسة للدلالة على المعاني الوطيدة في لفظات محددة. ولهذا السبب الذي يجعل الظاهريين ينظرون إلى اللغة بمنظار مزدوج فإنهم يرفضون تقنيات القراءة التي تعود بالكلمات ومعانيها (في العربية على الأقل) إلى الجذور التي قد يظن بأنها مشتقة منها. فكل لفظة هي مناسبتها الخاصة بها ونظراً لذلك فهي راسخة الجذور في البيئة الدنيوية التي تنطبق فيها. ولأن القرآن، الذي هو الحالة المثلى للغة مقدسة وبشرية، هو ذلك النص الذي يدمج التحدث والكتابة والقراءة والإخبار، فإن التأويل الظاهري نفسه يقبل كشيء لا مناص منه لا الفصل بين الكلام والكتابة ولا الانفصال بين نص وظرفيته، على النقيض من ذلك، التفاعل الضروري فيما بين هذه الأمور. وإن هذا التفاعل، التفاعل التأسيسي هو الشيء الذي يجعل من الفكرة الظاهرية الصارمة أمراً ممكناً.
لقد أوجزت بمنتهى العجلة نظرية معقدة إلى حد هائل، ولكن ليس بوسعي أن أدعي أن هذه النظرية كان لها أي تأثير معين في الأدب الأوربي الغربي منذ زمن الانبعاث الحضاري (Renaissance)، ولربما ما كان لها أي تأثير حتى في الأدب العربي منذ العصور الوسطى. ولكن الشيء الذي يجب أن يقع علينا وقع الصاعقة فيما يتعلق بالنظرية بأسرها هو أنها تمثل فرضية محبوكة بإتقان للتعامل مع النص كشكل دليل، وشكل فيه -وسأدلي بهذا بمقدار ما أستطيع من الدقة- الدنيوية والظرفية ومنزلة النص كحدث له خصوصيته الحسية فضلاً عن احتماله التاريخي، أشياء كلها محط الاعتبار بأنها مندمجة في النص، وأنها جزء لا يتجزأ من قدرة النص على إنتاج المعنى وتوصيله. وهذا يعني أن النص له موقع محدد يضع فيه القيود على المؤول وتأويله لا لأن الموقع مخبوء ضمن النص كسرّ، بل على الأرجح لأن الموقع موجود على نفس مستوى الخصوصية السطحية كالموضوع النصي نفسه. هنالك طرائق عديدة لتوصيل مثل هذا الموقع، ولكن الشيء الذي أريد جذب الانتباه الخاص إليه هنا هو الطموح (الذي كان عند الظاهريين إلى درجة كبيرة جداً) من جانب القراء والكتاب أن يدركوا النصوص على أنها تلك الموضوعات التي تأويلها -بفضل دقة مواقعها في الدنيا- قد استهل تواً، وأنها الموضوعات الملجومة واللاجمة للتو بتأويلهم. فأمثال هذه النصوص يصبح من ثم من الممكن الاستدلال على حاجتها في أقصى الأحوال لقراءات تكميلية كشيء مناقض للقراءات الإضافية.
***
إنني أريد الآن أن أبحث بعض تلك الطرائق التي تفرض بها النصوص القيود على تأويلها أو تلك الطريقة، إن قلنا بشكل مجازي، التي فيها قرب هيكل الدنيا من متن النص يجبر القراء على أخذ الاثنين معاً بعين الاعتبار. فالنظرية النقدية الحديثة أكدت توكيداً مفرطاً على انعدام محدودية التأويل. وثمة محاولات تجري الآن للبرهان على المقولة التي مفادها أن كل القراءات مغلوطة، ونظراً لذلك فما من قراءة أفضل من أخرى غيرها، ومن ثم فكل القراءات في التحليل الأخير، مع العلم أن عددها لا محدود على أرجح الظن، ما هي إلا تأويلات مغلوطة على قدم المساواة. إن قسطاً من هذه المقولة اشتق من تصور للنص بأنه موجود في قلب كون نصي هيليني سحري، كونه لا يمت بأية صلة إلى الواقع. بيد أنني لا أوافق على هذا الرأي، لا لأن النصوص موجودة بالفعل في الدنيا بكل بساطة وحسب، بل ولأن النصوص كنصوص تموضع أنفسها -وإحدى مهماتها كنصوص أن تموضع أنفسها- وتبقى بالفعل على ما هي عليه من خلال استقطابها اهتمام الدنيا. وعلاوة على ذلك فإن طريقتها لفعل هذا هي وضعها القيود على ما يمكن فعله بها جراء التأويل.
إن التاريخ الأدبي الحديث يعطينا عدداً من الأمثلة عن كتّاب يبدو نصهم يجسد بإدراك ذاتي الظروف الجلية لموقعه المخيل مادياً، بل والموصوف أيضاً. فثمة نموذج من الكتاب -ولسوف أبحث ثلاثة أمثلة هم جيرارد مانلي هوبكينز وأوسكار وايلد وجوزيف كونراد- يتصور عامداً متعمداً أن النص يحظى بالتعزيز من موقع منطقي يشتمل على المتحدث وجمهور المستمعين، وبذلك يكون التفاعل المقصود بين الحديث والتلقي، بين اللفظية والنصية، هو موقع النص، أي وضعه لنفسه في الدنيا.
أولئك الكتاب الثلاثة الذين ذكرتهم قاموا بعملهم الأساسي بين عام 1875 وبين عام 1915. إن موضوع كتابتهم يتباين تبايناً كبيراً جداً إلى حد يتعذر فيه وجود جوانب تشابه فيما بينها. واسمحوا لي أن أبدأ بافتتاحية صحفية لهوبكينز:
قيل عن الشتاء أنه قاس. كانت هنالك ثلاث موجات من الصقيع المواتي للتزلج، فاثالثة بدأت في 9 شباط. ما من ثلج يمكن التحدث عنه حتى ذلك اليوم. ففي بعض الأيام السابقة للسابع من شباط شاهدت عناقيد الزهور منكوسة الرؤوس. وفي التاسع من شباط تساقط الثلج ولكنه لم يستقر على رؤوس أوراق النبات. وحين نزلنا إلى حقل قريب من مخيم قيصر شاهدته أمامي على شكل طبقات من القذارة، طبقة تحت طبقة، مرسوماً في أطراف متقاطعة وحاملاً "عبارة" على ذلك السفح كله -ليس في جعبتي حتى الآن كلمة أخرى للتعبير عن ذلك الشيء الذي يأسر النظر أو الانتباه بقبضة حديدية أو رسمة حقيقية أو بمعالم بارزة أو، من جديد، بكتابة منقوشة، الشيء الذي لم يكن جمالاً ولا جوهراً حقيقياً ومع ذلك يعطي المتعة ويجعل من القبح حتى أفضل من انعدام المعنى(9).
إن باكورة كتابة هوبكينز تحاول بهذه الطريقة أن تصور مشاهد من الطبيعة بأقصى دقة ممكنة.
ومع ذلك فهو ليس بالناسخ السلبي لأن هذه الدنيا بالنسبة إليه هي "كلمة الله، تعبير أو خبر عنه".
فكل ظاهرة في الطبيعة، كما كتب في القصيدة القصيرة المعنونة بـ "حين تحترق طيور الرفاريف"، تنبئ عن نفسها في الدنيا على شكل وحدة من المفردات: "كل شيء فان يفعل شيءاً واحداً والشيء نفسه/ يطرد كل من يقطن في البيت/ الأنفس- هي نفسها، فذاتي تتحدث وتفتن/ صائحة بأعلى صوتها إن كل ما أفعله هو ذاتي: ومن أجل ذلك جئت"(11). إن معاينة هوبكينز للطبيعة، في مدخل مفكرته، معاينة ديناميكية. فهو يرى في الصقيع نية للحديث أو للإتيان بالمعنى، إذ إن طبقاته المتراكمة تأسر انتباه المرء من جراء العبارة التي تحملها حيال المعنى أو التعبير. إن مقدار استجابة الكاتب هو عين مقدار وصفه كواصف. والقارئ، مثله مثل الكاتب، مشارك كامل في استخراج المعنى كونه مضطراً للفعل كشيء فان، فالإتيان بمعنى ما حتى لو كان قبيحاً يبقى أفضل من انعدام أي معنى.
فديالكتيك الإنتاج موجود في أي مكان في عمل هوبكينز. فالكتابة إخبار، والطبيعة إخبار، والقراءة إخبار. لقد كتب إلى روبرت بريدجز في 21 مايس/ مايو في عام 1878 قائلاً من باب الإنصاف للقصيدة: "عليك ألا تقرأها تكاسلاً بعينيك بل بأذنيك، وكأن الورقة تلقيها خطابياً عليك.. فالنبرة حياة القصيدة"(12). وبعد مضي سبع سنوات حدد بمزيد من الصرامة أن "الشعر هو الطفل المدلل للكلام، له شفتان ولفظ منطوق، والواجب يقضي بنطقه، وإنجازه كاملاً لا يصح إلا بعد نطقه، وإن لم ينجز ذلك فلن يكون هو نفسه. فالإيقاع المتفجر يعيد للشعر روحه وذاته الحقيقيتين. فكما أن الشعر كلام مؤكد، فإن الكلام هو الشيء المطهر من الخبث كالذهب في الفرن. ولذلك يجب أن يكون للشعر المقومات الجوهرية للكلام، وبشكل مؤكد"(13) إن التطابق قريب جداً في ذهن هوبكينز بين الدنيا والكلمة واللفظة، التي تأتي كلها حية بعضها مع بعض كلحظة من لحظات الإنجاز، ولذلك فإنه يتصور أن الحاجة طفيفة للوساطة النقدية. إن النص المكتوب هو ما يوفر الواقع الظرفي الآني "لتلاعب" القصيدة (وكلمة تلاعب من كلمات هوبكينز). فالنص الخاص بهوبكينز كان بالنسبة إليه طفله، وكان نصاً بعيداً جداً عن الوثيقة المقرونة بغيرها من النصوص الميتة اللادنيوية، ولذلك فحين دمر قصائده تحدث عن ذبح الأبرياء، كما أنه في كل مكان يتحدث عن الكتابة على أنها ممارسة موهبته الذكورية. وفي لحظة أقصى درجات توحده في حياته، في القصيدة المعنونة ببساطة "إلى ر. ب." عبر بيولوجيا عن إلحاح شعوره بالجدب الشعري. فحين يأتي على وصف ما يكتبه الآن يقول:
واحسرتاه حينئذ إن افتقدت في أبياتي الفاترة الزخم والعصيان والترنيمة والخلق، فعالمي الشتائي، الذي قلما ينشر عبير تلك النعمة يهبكم الآن، بشيء من التحسر، تعليلنا.(14)
فبما أن نصه قد فقد الآن قدرته على احتواء وطأة الخلق، وبما أنه لم يعد ذلك الإنجاز الكبير بل استحال إلى ما يدعوه في قصيدة لاحقة "بالأحرف الميتة"، فليس بوسعه الآن إلا كتابة تعليل، الذي هو بمثابة كلام ميت "يميل نحو سند حقيقي".
لقد قيل عن أوسكار وايلد بلسان أحد معاصريه أن كل ما كان يتحدث به كان يبدو وكأنه مغلّف ضمن علامتي الاستشهاد. وهذا القول ليس أقل صحة من كل ما كتبه أيضاً، وذلك لأن مثل هذه الحالة كانت النتيجة لاتخاذ وضعية معينة (pose)، الأمر الذي عرّفه وايلد بأنه "إدراك أساسي لأهمية التعامل مع الحياة من منطلق محدد معقول"(15). أو مثلما يكيل آلغرنون الصاع صاعين لجاك حين اتهمه قائلاً: "أنت تحب دائماً أنن تجادل حول الأشياء" فأجابه " ذلك بالضبط ما جاءت الأشياء من أجله"(16)، في مسرحية وايلد المعنونة بـ "أهمية كون المرء جاداً". وبما أن أوسكار وايلد كان على الدوام مستعداً لإطلاق التعليقات الجديرة بالاستشهاد، فقد ملأ مخطوطاته بالأقوال المأثورة عن كل ما يمكن أن يتخيله المرء من موضوعات، إن ما كتبه كان المقصود به مزيداً من التعليق أو الاستشهاد، أو كان المقصود به، وهذا أهم من سابقيه، أن تعود به الجذور إلى وايلد نفسه. ومن الواضح أن هناك أسباباً اجتماعية لبعض هذا الغرور الذي لم يقم وايلد بأية محاولة لإخفائه في سخريته. "إن محبة المرء لنفسه لهي بداية قصة رومانسية طويلة طوال الحياة"، ولكن تلك الأسباب لم تكن لتنوء بعبئها على الفصاحة في أسلوب وايلد. وبعد أن آلى وايلد على نفسه على الاستخفاف بالعمل والحياة والطبيعة نظراً لنقصانها وتناثرها، اتخذ مملكة له ذلك العالم المثالي النظري الذي كانت فيه المحادثة، كما قال لآلفريد دوغلاس في كراسته المعنونة بـ "من الصميم" (De profundis) ، أساس العلاقات البشرية كلها.(17) فبما أن الشجار يعوق المحادثة كما فهمه وايلد من الحوار الأفلاطوني، فإن نمط التحادث كان يجب أن يتخذ شكل القول المأثور، فهذا القول المأثور المقتضب هو، بالمصطلح الذي أطلقه عليه نورثروب فراي، وسيلة الأداء الرئيسة لدى وايلد: لفظة موجزة متراصة قادرة على التعبير عن أطول سلسلة من الموضوعات، وعن أعظم نفوذ، وعن أدنى التباس حيال كاتبها. وحين غزا وايلد أشكالاً أدبية أخرى حولها إلى أقوال أطول من السابقة. وهاكم ما قاله عن المسرحية: "لقد تناولت الدراما، وهي أكثر الأشكال الموضوعية المعروفة للأدب، وجعلت منها أسلوباً شخصياً للتعبير، شأنها بذلك شأن القصيدة الغنائية والقصيدة القصيرة، ووسعت في الوقت نفسه مداها وأغنيتها بالشخوص". ولذلك فليس من المستغرب أن يكون قد قال: "لقد أوجزت كل الأكوان في عبارة، وكل الوجود في قول مقتضب"(18).
إن كراسة "من الصميم" تدون الدمار الذي يحل بالمدينة الفاضلة “utopia” التي كان وايلد قد بشّر بفردانيتها ولا أنانية أنانيتها في كراسته "روح الإنسان في ظل الاشتراكية". فمن حياة مفعمة بالحرية إلى السجن ومعاناة كل أصناف الشقاء، كيف، يا ترى، تأتي إنجاز التغيير؟ إن تصور وايلد للحرية يوجد في "أهمية كون المرء جاداً" حيث تتكشف الشخصيات المتصارعة على أنها أخوة في خاتمة المطاف ولمجرد أنها تقول بأنها أخوة. إن الشيء المدون (كجداول الجنود التي كان يراجعها جاك) لا يفعل شيئاً إلا توكيد كل ما كان قد قيل سابقاً بنزق، ولكن بفخامة.
فهذا التحول من الخصومة إلى الأخوة هو ماكان في ذهن وايلد لربط تكثيف الشخصية بتكاثرها.
فحين يبتلي تبادل الآراء بين البشر بانعدام حرية التحادث، وحين يكون مقيداً بالموافقة القانونية على الطبع وحسب، الأمر الذي يعني تعذر الاستشهاد به بصراحة ويعني أيضاً، لأنه حظي بالتوقيع الرسمي، أنه صار موجباً لإقامة الدعوى الجنائية فإن المدينة الفاضلة تتقوض وتتداعى. وحين أعاد وايلد التأمل بحياته في "من الصميم" تسمّر خياله من هول آثار نص واحد على حياته. ولكنه يورده ليبين كيف أنه في انتقاله من الكلام إلى الطباعة، الأمر الذي تتفاداه بمعنى من المعاني نصوصه الأخرى الأكثر حظاً من ذلك النص، وتفادته كيفما اتفق بفضل تفردها بالاقتضاب، تعرض وايلد للتدمير.
إن حسرة وايلد في المقطع الوارد أدناه تتمثل بأن النص يشتمل على أكثر مما ينبغي، لا على أقل مما ينبغي، من الواقع الظرفي. ونظراً لذلك فإن النص يصبح، بمفارقة وايلدية، عرضة للمخاطر:
إنك أرسلت لي قصيدة جميلة جداً، شعرها من أشعار الطلاب غير المتخرجين من الجامعة، لأبدي استحساني عليها: وهأنذا أجيب برسالة مليئة بالأفكار الأدبية الوهمية.. انظر إلى تاريخ تلك الرسالة. إنها تنتقل منك إلى يدي زميل كريه، ومنه إلى عصابة من المبتزين، ومن ثم نسخ منها تدور في لندن لأصدقائي، وإلى مدير المسرح الذي يجري تمثيل عملي فيه: وكل ما يخطر على البال من تفسيرات توضع فيها إلا التفسير الصحيح: فلقد ثارت ثائرة الجمعية من الإشاعات الخرقاء حتى وجب علي أن أدفع مبلغاً كبيراً من المال لأنني كتبت لك رسالة شائنة: وهذه تشكل صلب أقذع تهجم لأبيك: وإنني سوف أبرز بنفسي الرسالة الأصلية في المحكمة لأكشف لها عن حقيقة الرسالة، ولقد كانت موضع التشهير من قبل محامي أبيك الذي وصفها أنها محاولة خبيثة فياضة بالتمرد لإفساد الناشئة الأبرياء، وفي خاتمة المطاف تشكل هذه الرسالة جزءاً من الإدعاء الجنائي، ينشغل بها التاج، وينظم بها القاضي حكماً بفهم قليل وخلق كثير، وأخيراً أدخل السجن من جرائها. وهكذا تكون النتيجة لكتابتي لك رسالة رائعة(19).
ففي هذه الحياة الدنيا التي وصفها جورج إليوت([4]) بأنها تشبه "الصالة الهائلة الفياضة بالمهموسات" يمكن لآثار الكتابة أن تكون خطيرة فعلاً: "وإنها كذلك الحجر الذي ما فتئت تتقاذفه أرجل أجيال وأجيال من الفلاحين والذي قد ينكشف عن حلقات متصلة صغيرة وعجيبة لأثر ما تحت عيني ذلك العالم الذي من خلال جهوده قد يحدد في خاتمة المطاف تاريخ الغزوات ويكشف أسرار الديانات، وكذلك شيء من الحبر على تلك الورقة التي ظلت ردحاً طويلاً من الزمن كغطاء بريء أو بديلاً مؤقتاً لشيء ما يمكن أن تتفتح أمام زوج واحد من العينين اللتين توفرت لهما من المعرفة ما يكفي لتحويل تلك الورقة إلى بداية كارثة"(20) فلئن كان لاحتراس دكتور كاسوبون([5]) أي هدف على الإطلاق فإنه، بسرية مطلقة ووصية بخط اليد توصي بالتأجيل الأبدي، إحباط بداية كارثة. ومع ذلك لا يستطيع النجاح لأن إليوت على أحر من الجمر كي يبين أن ملحق الوصية، حتى الملحق الذي كان في حرز حريز، ما هو إلا نص ولذلك فإنه في الدنيا. إن العار الذي لحق بكاسوبون، على نقيض العار الذي لحق بوايلد، كان بعد مماته، بيد أن تورطهما في نوع من النصية الدنيوية يحدث لنفس السبب الذي يكمن في التزامهما بما يدعوه إليوت "بوسيلة تقود إلى التهلكة".
وأخيراً إليكم كونراد الذي سأجيء، في كل مكان من هذا الكتاب، على وصف أسلوب السرد الرائع لحكاياته، وكيف أن كل واحدة منها تحفز وتفصل مناسبة تلاوتها وتضفي عليها مسحة مسرحية، وكيف أن كل عمل كونراد مكتوب فعلاً بالكلام المنقول الثانوي، وكيف أن التفاعل بين ما يروق للعين وما يروق للأذن في عمله تفاعل رائع ومنظم ذلك التنظيم الرفيع، وتفاعل يجسد معنى ذلك العمل. فالمواجهة الكونرادية ليست ببساطة بين رجل ومصيره المتجسد بلحظة مأزق نطير، بل إنها، وبنفس الإصرار، مواجهة بين متكلم وسامع. إن مارلو هو الاختلاق الرئيس الذي اختلقه كونراد لهذه المواجهة، وهو ذلك الرجل المهووس بمعرفة أن شخصاً ما مثل كيرتز أو جيم "وُجد من أجلي، وهو لا يوجد من أجلك إلا من خلالي وحسب في خاتمة المطاف".(21)
فسلسلة البشرية - "إننا لا نوجد إلا بمقدار ما يتشبث بعضنا ببعض" -هي نقل الكلام الفعلي، والوجود، من فم إلى فم ومن ثم من عين إلى أخرى. إن كل نص كتبه كونراد يقدم نفسه على أنه لما ينته بعد وأنه لا يزال قيد التداول. "وعلاوة على ذلك، فإن الكلمة النهائية لما تُقل بعد -ولربما لن تقال البتة. أو ليست حيواتنا أقصر مما ينبغي للنطق بذلك القول الفصل الذي هو، بالطبع، من خلال كل تمتماتنا، نيتنا الوحيدة والباقية؟"(22). إن النصوص توصل التمتمات التي لن تحظى البتة بذلك القول الفصل، بتلك القولة ذات الحضور الكافي الوافي، الذي يبقى بعيداً، واهناً بعض الشيء جراء إيماءة عظيمة مثل التضحية الذاتية التي أقدم عليها جيم.
ولكن حتى لو كانت الإيماءة تختتم النص ظرفياً فإنها لا تفرغه من إلحاحه العملي بحال من الأحوال.
· لقد آن الآوان كي نشير إلى أن التراث الروائي الغربي مليء بالأمثلة عن تلك النصوص التي تصر لا على واقعيتها الظرفية فقط بل وعلى منزلتها بأنها تنجز للتو مهمة أو إسناداً أو معنى ما في الدنيا. ولسرعان ما يخطر بالبال سرفانتس وسيد هاميت([6])، ولكن الأروع منهما ريتشارد سون في قيامه بدور الناشر فقط لرواية كلاريا وهو يضع تلك الحروف بنسق متتال بعد أن فعلت ما فعلت، ويرتب أن يملأ النص بحيل الناشر ومساعدات القارئ ومضامين تحليلية وتأملات ذكريات من الماضي وتعليقات، مما يجعل مجموعة من الرسائل تتنامى لتملأ الدنيا وتحتل الفضاء كله، ولتصبح ظرفاً كبيراً وآسراً مقدار كبر وأسر نفس فهم القارئ. إن من المؤكد أن الخيال الروائي كان يتضمن على الدوام هذا التمنع عن التخلي عن التحكم بالنص في الدنيا، أو عن تحريره من الواجبات الاستطرادية والإنسانية لكل الوجود البشري، ومن هنا تجيء الرغبة (وهي الفعل الأساسي تقريباً للعديد من الروايات) للعودة بالنص وتحويله، إن لم يكن مباشرة إلى كلام، فعلى الأقل إلى ديمومة ظرفية كشيء مناقض للديمومة التأملية.
ما من روائي، على أية حال، بإمكانه أن يكون واضحاً تماماً حيال الظروف وضوح ماركس في كتابه "في الثامن عشر من شهر بروميير بالنسبة للويس بونابرت"، فما من عمل في رأيي يتحلى بمثل هذا التألق والفتنة بخصوص الدقة التي تبين الظروف (والكلمة الألمانية لها هي Umstände ) التي جعلت من ابن الأخ بديلاً ممكناً، لا كمبتكر بل كتكرار ممسوخ للعم العظيم. فالأشياء التي يهاجمها ماركس هي تلك الفرضيات البعيدة البعد كله عن النصية والقائلة أن التاريخ عبارة عن أحداث مستقلة وأن التاريخ بإمرة الأفراد الأفذاذ(23). فحين يحشر ماركس لويس بونابرت ضمن سلسلة كاملة معقدة من التكرارات يظهر فيها أول ما يظهر هيغل، وبعدئذ الرومان القدماء وثوريو عام 1789 ونابليون الأول والمفسرون البورجوازيون وأخيراً يظهر المحبطون في أحداث (1848- 1851) إذ يبدون كلهم في نسق متشابه زيفاً جدير بصلة القربى والتوالد وتزايد التفرعات والتستر تضليلاً بستار البراءة، فإنه بمنتهى الإتقان يضفي مسحة النص على الظهور العشوائي لقيصر جديد. فها هنا نحن أمام نص يوفر هو نفسه موقفاً تاريخياً دنيوياً بظروف لولاه لظلت مستورة في أضاليل "ملك المهرجين" (roi des drôrles) . إن الشيء المثير للسخرية - وهو بحاجة لذلك التحليل الذي سوف أسوقه في مقاطع فرعية من هذا الكتاب -هو كيف أن نصاً، لكونه نصاً، ولكونه يوظف كل أحابيل النص ويصرّ عليها، وأبرزها التكرار، يصبغ بصبغة التاريخ وصبغة المعضلة كل تلك الأهمية الآنية والسريعة الزوال التي اختارت لويس بونابرت ممثلاً لها.
وثمة جانب آخر للشيء الذي كنت أقوله للتو. ففي إنتاج نصوص ذات استحقاق راسخ، أو عزم أكيد، على الدنيوية، فإن هؤلاء الكتاب وهذه الأنواع الأدبية يثبتون الكلام ويجعلون منه ذلك المجس الذي به، ولولاه، لحاول نص صامت ربط نفسه بعالم المحادثة. وبتثبيت الكلام أقصد أن تبادل المواضع بين متحدث ومستمع، تبادلاً استطرادياً كثيف الظرفية، يصار إلى جعله يقوم -وأحياناً من باب التضليل- مقام المساواة الديموقراطية والحضور الثنائي في واقع الأمر بين متحدث ومستمع.
فالواقع لا يشير إلى بعد العلاقة الاستطرادية عن المساواة وحسب، بل ويشير أيضاً إلى أن محاولة النص الظهور، ظاهرياً، بأنه مفتوح ديموقراطياً لكل من قد يقرأه لمحاولة تجسد فعلاً من أفعال السوء النية. (وعرضاً نقول أن إحدى نقاط القوة في النظرية الظاهرية الإسلامية تكمن في أنها تبدد الوهم الذي مفاده أن القراءة السطحية، وهي مطمح الظاهريين، تعني أي شيء إلا الصعوبة). وإن نصوصاً طويلة طول رواية "توم جونز" تتقصد ملء الفراغ من ذلك النوع الذي لا يتاح ببساطة لأي إنسان. وعلاوة على ذلك فإن كل النصوص ترحّل بالأصل نصوصاً أخرى أو أنها، وهذا هو الأعم على الأغلب، تحل محل أشياء أخرى.
فالنصوص ما هي جوهرياً إلا، كما كان يرى نيتشه بمنتهى حدة ذهن، وقائع سلطة لا وقائع تبادل ديموقراطي(24). إنها تستحوذ على الانتباه وتجبره على التحول بعيداً عن الدنيا حتى لو كان أصل مقصدها كنصوص، مقروناً بالفاشستية المتأصلة في سلطان السلطة المتعاملة مع الكتّاب (إن التكرار في هذه العبارة توكيد مقصود على الحشو في صلب النصوص كلها نظراً لأن كل النصوص، بطريقة ما، عبارة عن توكيدات ذاتية)، يفضي إلى توطيد أركان السلطة.
ومع ذلك ففي سلالة النصوص هنالك نص أول، نص مُبدئ مقدس، إنجيل يدنو منه القراء على الدوام من خلال النص الذي أمامهم، إما كمبتهلين متضرعين وإما كملقنين ضمن عديدين في كورس مقدس معززين النص المركزي المؤسس. إن النظرية الأدبية لنورثروب تبين بوضوح أن قوة الإزاحة في كل النصوص ناجمة في خاتمة المطاف عن قوة الإزاحة الكامنة في الكتاب المقدس، الذي يستلهم الأدب الغربي برمته منه مركزيته وقوته وأسبقيته الطاغية. ومثل هذا القول لا ينطبق بشكل أقل، في الأنماط المختلفة التي بحثتها سابقاً، على القرآن. ففي التراثين اليهودي /المسيحي والإسلامي تستند هذه السلاسل على لغة مقدسة، أو شبه مقدسة، متينة، ولغة تكمن فرادتها في أنها ظرفية لاهوتياً وبشرياً.
إننا غالباً ما ننسى أن الفيلولوجيا الغربية الحديثة، التي تبدأ في مطلع القرن التاسع عشر، تنطحت لتعديل الأفكار المقبولة عموماً عن اللغة وعن أحوالها المقدسة. ولقد حاول ذلك التعديل أولاً أن يقرر أية لغة كانت الأولى وبعدئذ، عند إخفاقه في تحقيق ذلك الطموح، انتقل إلى الانحدار باللغة إلى ظروف مخصصة: زمر لغوية، نظريات تاريخية وعرقية، فرضيات جغرافية وأنتروبولوجية. وثمة مثل شيق على وجه التخصيص عن كيفية مسيرة هذه الاستقصاءات هو سيرة إيرنست رينان كفيلولوجي، لأن الفيلولوجيا كانت حرفته الحقيقية ولم يكن مضماره مضمار الحكيم المضجر. فأول عمل جاد من أعماله كان تحليله، عام 1848، للغات السامية، وهو العمل الذي حظي بشرف التنقيح والنشر في عام 1855 بعنوان "التاريخ العام والنظام المقارن للغات السامية"، ولولا هذه الدراسة لما كان بالإمكان كتابة "حياة المسيح" (Vie de Jésus) . لقد كانت الغاية من إنجاز "التاريخ العام" إطلاق الوصف العلمي بالدونية على اللغات السامية، وهي أساساً العبرية والآرامية والعربية، وقد كانت الواسطة لثلاثة نصوص مقدسة كما أشيع نطق بها الله أو أوحى بها على الأقل- التوراة والقرآن ومن ثم الأناجيل. وهكذا ففي "حياة المسيح" كان بمقدور رينان أن يدرس قولته القائلة أن النصوص المقدسة المزعومة، التي جاء بها موسى أو يسوع أو محمد، ما كان من الممكن أن تتضمن أي شيء مقدس فيها، ما دامت نفس واسطة قدسيتها المزعومة، علاوة على أن متن رسالتها للدنيا وفي الدنيا، كانت مؤلفة من مثل تلك المادة الدنيوية الضحلة نسبياً. وساق رينان الحجج للبرهنة على أن هذه النصوص، حتى لو كانت سباقة على كل النصوص الأخرى في الغرب، لا تحتل مكانة لاهوتية سامية.
لقد انحدر رينان بالنصوص أولاً من مواد ذات وساطة مقدسة في شؤون الدنيا إلى مواد ذات مادية تاريخية. فالله كسلطان سلاطين الكتّاب صارت له قيمة ضيئلة بعد التعديلية النصية والفيلولوجية التي جاء بها رينان. ولكن رينان باستغنائه عن السلطة المقدسة أحل محلها السلطة الفيلولوجية. فالشيء الذي يحل محل السلطة المقدسة هو السلطة النصية للناقد الفيلولوجي الذي تتوفر فيه تلك البراعة لعزل اللغات السامية عن لغات الثقافة الهندية/ الأوربية. إن رينان لم يجهز على الفعالية النصية الهائلة للنصوص المقدسة الساميّة العظيمة وحسب، وإنما حصرها كأشياء للدراسة الأوربية في ميدان دراسي صار يعرف لاحقاً بالاستشراق(25). فالمستشرق هو ذلك الإنسان الذي من صنف رينان، أو من صنف غوبينو، معاصر رينان، الذي كانت آراؤه موضع الاستشهاد بها هنا وهناك في طبعة "التاريخ العام "عام 1855، والذي تقوضت، بالنسبة إليه، السلسلة القديمة للنصوص الساميّة المقدسة وكأن تعويضها كان فعلاً من أفعال قتل الأقربين، مع العلم أن زوال السلطة المقدسة ييسر ظهور التشرنق العرقي الأوربي الذي يدفع طرائق البحث الغربي وكتاباته إلى حشر كل الثقافات غير الأوربية، والأدنى منها، إلى موقع من مواقع التبعية، فنصوص الاستشراق تحتل حيزاً دون أي تطور أو نفوذ، ألا وهو ذلك الحيز الذي يماثل تماماً موقع المستعمرة المفيدة للنصوص والثقافة الأوربية. ويحدث هذا كله في نفس ذلك الوقت الذي بدأت تترعرع فيه الامبراطوريات الاستعمارية العظيمة، لا بل وترعرعت بالفعل في بعض الحالات.
لقد قدمت هذا الوصف الموجز للأصل الثنائي لكل من "النقد الرفيع" والاستشراق كفرع من فروع الدراسات الأوربية لكي أتمكن من الحديث عن خطل تخيل حياة النصوص بأنها مثالية بكل دعة وأنها بلا قوة أو تصارع ومن الحديث، بشكل مناقض، عن خطل تخيل العلاقات الاستطرادية في الحديث الفعلي بأنها، كما كان ريكوير يقول عنها، علاقة مساواة بين مستمع ومتحدث.
إن النصوص تدمج المحادثة، وأحياناً بشكل عنيف. ولكن هنالك طرائق أخرى أيضاً. إن التحليل الأثري الذي أجراه ميشيل فوكو عن نظم المحادثة ينطلق من تلك الفرضية التي بشرّ بها ماركس وإنغلز في "الإيديولوجيا الألمانية"، والتي تقول أنه "في كل مجتمع إنتاج المحادثة يخضع تواً للتوجيه والاصطفاء والتنظيم وإعادة التوزيع وفقاً لعدد معين من الإجراءات التي يتمثل دورها في تحويل طاقاته ومخاطره، وفي التصدي للأحداث الطارئة، وفي التملص من ماديته التأملية المروعة". إن المحادثة في هذا المقطع تعني ما هو مكتوب وما هو منطوق.
إن وجهة نظر فوكو هي أن حقيقة الكتابة نفسها هي قلب منهجي لعلاقة القوة بين الحاكم والمحكوم إلى "مجرد" كلمات مكتوبة -بيد أن الكتابة سبيل من سبل إخفاء المادية المروعة لإنتاج محكوم ومروض على هذا النحو من الضيق البالغ. وها هو يردف قائلاً:
في مجتمع كمجتمعنا نعرف جمعياً قوانين الاستثناء. إن أوضح هذه المنغصات وأكثر شيوعاً هو ذلك الشيء المحظور. فنحن نعلم علم اليقين بأننا لسنا أحراراً في أن نقول كل ما يعن على البال.
فلدينا ثلاثة أنواع من الحظر: تغطية الموضوعات، وطقوس الظروف، المحيطة بها، والحق الممتاز أو القاصر على الحديث عن موضوع معين.
فهذه المحظورات تتداخل فيما بينها وتعزز وتكمل بعضها بعضاً لكي تشكل شبكة معقدة عرضة للتعديل على الدوام. ولسوف أشير بمنتهى البساطة إلى أن المناطق التي تكون فيها هذه الشبكة على أضيق ما يكون من التحبيك اليوم، حيث تكون مكامن الخطر أكثر عدداً، هي تلك المناطق التي تعالج السياسة والجنس... فالكلام في الظاهر قد لا يكون موضع الاعتبار الكبير، ولكن المحظورات التي تطوقه سرعان ما تكشف عن صلاتها بالشهوة والسلطة... إن الكلام ليس مجرد ترجمة لفظية للصراعات وأنظمة السلاطة... بل إنه نفس موضوع صراعات الإنسان.(26)
إن الوضع الاستطرادي، على الرغم من الصورة المثالية المبسطة التي صوره بها ريكوير، وبعيداً عن كونه نوعاً من أنواع المحادثة بين ندّين، يشبه على الأرجح تلك العلاقة غير المتكافئة بين مستعمِر ومستعمر، بين قامع ومقموع، فبعض المحدثين العظماء، ومن أبرزهم بروست وجويس، كانوا يدركون ببصر ثاقب هذا التضاد، ولذلك فإن تصويراتهم للوضع الاستطرادي تسلط عليه دائماً أسطع الأضواء السياسية/ السلطوية. إن الكلمات والنصوص على أوثق ارتباط بالدنيا وإلى ذلك الحد الذي يجعل فعاليتها، لا بل وحتى استخدامها في بعض الحالات، أمرين على علاقة بالتملك والسلطة والقوة وفرض الهيمنة. ولحظة من لحظات التقويم تحدث في الوعي الثوري لدى ستيفان ديدالوس حين يتحادث مع العميد الانكليزي للموضوعات الدراسية:
وما هو ذلك الجمال الذي يكافح الفنان للتعبير عنه من كتل من التراب، قال ديدالوس ببرودة أعصاب.
لقد بدا وكأن تلك الكلمة الصغيرة توجه رأس حربة حساسيته ضد هذا الخصم الدمث الحذر، وشعر باكتئاب شديد أن الرجل الذي يتحدث معه إنسان ريفي من منطقة بن جونسون. ففكر ملياً-: إن اللغة التي نتحدثها هي لغته قبل أن تكون لغتي. يا للبون الشاسع بين لفظ كلمات كالوطن والمسيح والجعة والسيد على شفتيه وشفتي.
إنني لا أستطيع نطق هذه الكلمات أو كتابتها دون اضطراب في الروح.
فلغته ستبقى بالنسبة لي، مع أنها مألوفة جداً وغريبة جداً، كلاماً مكتسباً. إنني لم أنحت ولم أتقبل كلماتها أنا، وصوتي يستبقيها في حالة استنفار للدفاع عن النفس. إن روحي يحل بها الاضطراب في ظل لغته(27).
إن عمل جويس تلخيص لكل تلك الانفصالات والاستبعادات والمحظورات السياسية والعرقية التي استنتها كقوانين، ومن منطلق التشرنق العرقي، الثقافة الأوربية الصاعدة إبان القرن التاسع عشر.
إن وضعية الحديث، كما يعرف ستيفان ديدالوس، قلما تضع الندين وجهاً لوجه. وعلى الأرجح فإن الحديث يضع محادثاً فوق آخر، أو إنه يرسم قانونياً جغرافية المدينة المستعمرة، كما وصف فرتز فانون، بمنتهى التألق، ذلك التطرف الذي يمكن جرّ الحديث إليه في "معذبو الأرض":
إن المنطقة التي يعيش بها المواطنون ليست تكملة للمنطقة المأهولة بالمستوطنين.
فالمنطقتان متقابلتان، لكن لا في سبيل خدمة وحدة أسمى. وامتثالاً منهما لقواعد منطق أرسطو، فالمنطقتان كلتاهما تطبقان مبدأ الانعزال المتبادل. وليس من الممكن التصالح لأن تعبيراً واحداً من هذين التعبيرين زائد عن اللزوم. إن بلدة المستوطنين بلدة ذات بناء متين كله من الحجارة والإسمنت المسلح، وبلدة تتلألأ فيها الأضواء ويغطي الإسفلت شوارعها، علاوة على أن عربات نقل النفايات تبتلع كل الفضلات وتعبر الشوارع وكأنها غير مرئية وغير معروفة وقلما تخطر على بال أحد. وأما قدما المستوطن فإنك لن تراهما بتاتاً، إلا ربما في البحر، ولكنك حتى هناك لن تكون على مقربة كافية منه حتى تستطيع رؤيتهما. فقدماه محميتان بحذاء قوي على الرغم من أن شوارع بلدته نظيفة ومستوية وخالية من الحفر أو الحجارة. إن بلدة المستوطن بلدة معتلفة على خير ما يرام، وبلدة هنية البال، ومعدتها مليئة دائماً بأشهى الأشياء. إن بلدة المستوطن هي بلدة الناس البيض، بلدة الغرباء.
وأما البلدة التي تخص الشعب المستعمر، أو البلدة الوطنية على الأقل، بلدة السود، المدينة “medina” ، البلدة الاحتياطية، فهي مكان سيء السمعة، مأهولة برجال ذوي صيت ذميم. إنهم مولودون هناك، أما أين وكيف ولدوا فأمران ينطويان على أهمية ضئيلة، كما أنهم يموتون هناك، وأما أين وكيف يموتون فأمران لا يخطران على البال. إنها عالم بلا أية سعة، إذ إن الناس تعيش بعضها فوق بعض، وأكواخهم مبنية بعضها فوق بعض. البلدة الوطنية بلدة جائعة، تتضور جوعاً وتلهث خلف الرغيف واللحم والأحذية والفحم والنور. إن البلدة الوطنية قرية ذليلة، جاثية على ركبتيها، بلدة تتمرغ بالوحل، إنها بلدة السود والأعراب القذرين.
وإن النظرة التي تنظر بها البلدة الوطنية إلى بلدة المستوطن هي نظرة اشتهاء، نظرة حسد، ونظرة تعبر عن أحلام المواطن بالتملك- كل أنواع التملك: أن يجلس إلى طاولة المستوطن، أن ينام في سرير المستوطن، مع زوجته إن كان بالإمكان، الإنسان المستعمر إنسان حسود. وهذا الشيء يعرفه المستوطن أتم معرفة، فحين تلتقي نظراتهما يتأكد من ذلك بكل مرارة، ويبقى دائماً مستنفراً للدفاع عن نفسه. "إنهم يريدون أن يحتلوا مكاننا". وهذا صحيح إذ ليس هنالك من مواطن لا يحلم مرة واحدة في اليوم على الأقل من إحلال نفسه محل المستوطن.(28)
وهكذا فليس من المستغرب أن يكون حل فانون لمثل هذه المحادثة هو العنف.
إن أمثال هذه الأمثلة تجعل من المتعذر الدفاع عن التعارض بين النصوص والدنيا، أو بين النصوص والكلام، فثمة استثناءات أكثر مما يجب، وثمة ظروف رسمية وإيديولوجية وتاريخية أكثر مما ينبغي أيضاً، تورط النص في أرض الواقع، حتى لو كان من المحتمل النظر إلى النص أيضاً بأنه ذلك الشيء المطبوع الصامت وذو الألحان غير المسموعة. وإن انسجام القوى التي تولّد النص وتحافظ عليه كحقيقة لا كشيء خيالي صامت بل كشيء ناتج يبدد تناسق حتى التعارضات البلاغية. وعلاوة على ذلك فإن اليوتوبيا النصية التي توهمها كل من ت. س. إليوت ونورثروب فراي، كل بطريقته الخاصة، والتي نقيضها المرعب إلى حد ما هو مكتبة بورجز، هي على تعارض مطلق مع الشكل في النصوص. إن فرضيتي هي أن أي تصور للنص، تصوراً متمركزاً ومتقوقعاً على نفسه، أو أي تصور، بمقدار ما يتعلق الأمر بذلك، للوضع الاستطرادي كما حدده ريكوير، يتجاهل ذلك العزم، عزم بلوغ السلطة، الذي يمكن لنصوص عديدة أن تنبثق عنه. إن الحد الأدنى للحافز في عمل بيكيت، لهو، كما أتصور، نسخة معكوسة لهذا العزم، أي طريقة لرفض الفرصة المتاحة لبيكيت من قبل الكتابة الحديثة.
***
ولكن أين، يا ترى، الناقد والنقد في كل هذه المعمعة؟ فالدراسة والتعليق والتفسير، وشرح النص explication de ****e” ، وتاريخ الأفكار والتحليلات البلاغية أو شبه المنطقية: هذه كلها أنماط من أنماط الاهتمام بالأمر النصي، اهتماماً نظامياً ووثيق الصلة بالموضوع، المطروح أمام الناقد توا وفي متناول اليد. ولسوف أركز الآن على المقالة التي هي الشكل التقليدي الذي عبر فيه النقد عن نفسه. إن الجانب المركزي المعضل للمقالة كشكل هو مكانها، وهو الشيء الذي أعني به سلسلة من ثلاث طرائق اتخذتها المقالة لتكون الشكل الذي يطرقه النقاد ويضعون أنفسهم في صميمه كي يقوموا بعملهم. ولذلك فالمكان يتضمن العلاقات وصلات القرابة التي يقيمها النقاد مع النصوص والجماهير التي يتوجهون إليها، فضلاً عن أنه يتضمن أيضاً احتلال المكان الدينكاميكي الذي يحتله نص الناقد نفسه بالشكل الذي ينتجه فيه.
فأول نمط من أنماط القرابة هو صلة المقالة بالنص أو بالمناسبة التي يحاول أن يقترب منها. فكيف تجيء إلى النص باختيارها هي؟ وكيف تدخل ذلك النص؟ ما هو التعريف الختامي لصلتها بالنص والمناسبة التي تتعامل معها؟ والنمط الثاني للقرابة هو مقصد المقالة (والمقصد الذي لدى جمهورها، كما افترضته أو خلقته المقالة) في محاولتها الاقتراب. فهل المقالة النقدية محاولة منها للتشبّه بالنص أو للذوبان فيه باختيارها هي؟ وهل تقف بين النص والقارئ، أو إلى جانب هذا دون ذاك؟ ما مقدار كثرة أو قلة التباين المضحك بين نقصانها الشكلي الجوهري (لأنها ليست في خاتمة المطاف إلا مقالة) وبين الاكتمال الرسمي للنص الذي تعالجه؟ وأما النمط الثالث من أنماط التقرب فإنه يهم المقالة كحيز تحدث فيه أنواع معينة من الأحداث كجانب من جوانب إنتاج المقالة. ما مقدار إدراك المقالة لهامشيتها بالنسبة للنص الذي تبحثه؟ وما هي الطريقة التي تسمح بها المقالة للتاريخ أن يكون له أي دور في نفس ذلك الوقت الذي تصنع فيه تاريخها هي، أي، في ذلك الوقت الذي تتحرك فيه المقالة من الابتداء إلى التوسع وصولاً إلى الخاتمة؟ وما نوعية كلام المقالة وهي تتحرك باتجاه الواقع الفعلي أو بعيداً عنه أو إلى صميمه، ذلك الواقع الذي يجسّد الحلبة التي يحدث فيها النشاط والحضور التاريخيين اللانصيين في آن واحد مع المقالة نفسها؟
وهل المقالة، في خاتمة المطاف، نص أو توسط بين النصوص، أو تكثيف لفكرة النصية، أو تشتيت للغة بعيداً عن صفحة عرضية إلى مناسبات أو اتجاهات أو حركات في قلب التاريخ ولمصلحة التاريخ؟
إن الإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة هي التيقن من مدى غرابة هذه الأسئلة في سياق البحث العام الذي يجريه النقد الأدبي المعاصر. ولكن هذا القول لا يعني أن مشكلات النقد غير مطروحة على بساط البحث، بل يعني على الأرجح أن النظرة إلى النقد هي أنه مقيد بالأساس تقييداً قاطعاً بثانوية دوره، بسوء حظه زمنياً من جراء مجيئه بعد النصوص والمناسبات التي من المفروض به أن يتعامل معها. ولئن كان من المفروغ به للتو صحة القول أن النصوص مظنة لكتلة متراصة من الموضوعات الماضيات التي يحاول النقد قنوطاً تذييل نفسه بها في الزمن الحاضر، يكون وقتئذ مجرد أصل النقد رمزاً لتأخره زمنياً لأن تأريخه كان من الماضي أكثر منه في الحاضر. فكل ما حاولت قوله سابقاً عن النص -عن ارتباطه ارتباطاً ديالكتيكياً بالزمن والحواس، أي عما في النص من تلك المفارقات التي يتبيّن من خلالها أن الحديث سرمدي على الرغم من أنه مشروط، علاوة على أنه مشحون ومتصلب سياسياً شأنه بذلك شأن الصراع بين القاهر والمقهور -فهذا كله كان بمثابة رفض ضمني لثانوية الدور المنوط بالنقد. ولكن حتى لو افترضنا، بدلاً من ذلك، أن النصوص تشكل تلك الأشياء التي دعاها فوكو بالوقائع الأرشيفية، مع العلم أن تعريف الأرشيف هو حضور النص حضوراً استطرادياً اجتماعياً في هذه الحياة الدنيا، يكون النقد عندئذ أيضاً مظهراً آخر من مظاهر الشيء الموجود. فالنقد، بكلمات أخرى، بدلاً أن يكون مقيداً بالماضي الصامت وتحت إمرته كي يتحدث في الزمن الحاضر، هو الحاضر وبشكل لا يقل عن أي نص آخر في مسيرة تبيين نفسه، أي في مسيرة كفاحه ابتغاء التحديد.
ويجب علينا ألا ننسى أن الناقد لا يستطيع أن يتحدث دون وساطة الكتابة، وفي الوقت الذي يتعامل فيه الشعر بالانطباعات الذهنية، فإن المقالة تنغمس في تلك الانطباعات انغماساً تشاطرها فيه الأفلاطونية والباطنية. ولو أن محاولة قامت، كما يتابع لوكاش، لمقارنة شتى أشكال الأدب بنور الشمس المتكسّر في موشور لكانت المقالة بمثابة الضوء فوق البنفسجي. إن ما تعبر عنه المقالة يكمن في التشوق لاحتلال منزلة المفهوم والعقلانية، علاوة على صيرورتها حلاً للمسائل الجوهرية المتعلقة بالحياة. (فلوكاش في تحليله يشير إلى سقراط بأنه الشخصية المقالاتية النموذجية، متحدثاً على الدوام عن شؤون دنيوية عاجلة في نفس الوقت الذي كانت فيه حياته كلها تنم عن أرهف وأعمق تشوق مكتوم.
(Die tiefste, die verborgenste Sehns ucht ertönt aus diesem Leben). (30)
وهكذا فإن أسلوب المقالة أسلوب ساخر بما يعني أولاً: أن الشكل واضح نقصه من زاوية عقلانيته قياساً بالخبرة المعاشة، وثانياً: أن شكل المقالة نفسه، لكونه مقالة بحد ذاته، لهو مصير ساخر قياساً بالمسائل الكبرى المتعلقة بالحياة. إن موت سقراط، في اعتباطيته وعدم علاقته بالمسائل التي كان يناقشها سقراط، يرمز تماماً إلى مصير مقالاتي، الذي يعني غياب مصير مأساوي حقيقي. وهكذا فالمقالة، على نقيض التراجيديا، ليس لها خاتمة داخلية إذ ما من شيء يمكنه أن يعترض سبيلها، أو يقضي عليها، إلا شيء من خارجها هي، مثلها مثل موت سقراط الذي كان بقرار قضائي سري ووضع حداً لحياة تساؤلاته.
إن الشكل يؤدي في المقالة نفس المهمة التي تؤديها الانطباعات الذهنية في الشعر:
فالشكل هو واقعية المقالة، والشكل هو الذي يوفر لكاتب المقالة صوتاً يتساءل به عن مسائل الحياة، حتى لو كان على ذلك الشكل أن يستغل الفن على الدوام- كتاباً أو صورة زيتية أو قطعة موسيقية- لما يبدو عليه بأنه موضوع الآني البحت لاستقصاءاته.
إن التحليل الذي ساقه لوكاش للمقالة يتماشى وتحليل أوسكار وايلد ومفاده أن النقد عموماً قلما يكون، ولا سيما شكله، بتلك الصورة التي يبدو فيها، فالنقد يعتمد أسلوب التعليق على الفن وتقويمه، بيد أنه في حقيقة الأمر ينطوي على أهمية أكبر كعملية، ناقصة وتحضيرية بالضرورة، باتجاه التقويم وإصدار الحكم. وإن الشيء الذي تفعله المقالة النقدية يكمن في البدء بخلق القيم التي بموجبها يتعرض الفن للمحاكمة. لقد قلت من ذي قبل أن الكابح الوحيد أمام النقاد هو أن مهمتهم كنقاد يحددها ويؤرخها لهم الزمن الماضي في غالب الأحيان، أي، ما كان مسبقاً من قبل موضع الخلق كعمل من أعمال الفن أو مناسبة فريدة. إن لوكاش ليقر بوجود هذا الكابح، ولكنه يبين كيف أن النقاد يكرسون أنفسهم في حقيقة الأمر لمهمة البدء بتحضير القيم للعمل الذي يودون محاكمته. ولقد عبر أوسكار وايلد عن هذا الأمر على نحو أكثر زخرفة إذ قال أن النقد "يعامل العمل الفني كنقطة انطلاق لخلق جديد"(32)، بيد أن لوكاش كان أكثر احتراساً حين قال: "إن كاتب المقالات مثال صرف عن سلفه البشير"(32)
أنا أفضّل الوصف الثاني لأن موقف الناقد، كما يتوسع به لوكاش، موقف محفوف بالمخاطر لأنه يعدّ، أو تعد، لثورة جمالية عظيمة تفضي بالنتيجة ولا بد -ويا للسخرية الكبيرة- إلى استجرار النقد إلى موقع هامشي. ولكن هذه الفكرة نفسها سوف تتحول لاحقاً من قبل لوكاش إلى وصف لتقويض التجسيد بفعل الوعي الطبقي الذي سيجعل بدوره من الطبقة شيئاً هامشياً(33). وأما الشيء الذي أرغب في التوكيد عليه هنا فهو أن النقاد لا يخلقون فقط تلك القيم التي تجري بناء عليها عملية محاكمة الفن وفهمه، بل ويجسدون في الكتابة أيضاً تلك العمليات والظروف الفعلية في الحاضر الذي تتأتى الدلالة من خلاله للفن والكتابة. وهذا يعني ما دعاه ر. ب. بلاكمور، اقتداء بهوبكينز، باستجلاب الأدب للقيام بأدائه. غير أن القول الأوضح هو أن الناقد مسؤول إلى حد ما عن تفصيح تلك الأصوات المكبوتة أو المزحولة أو الخرساء من جراء نصية النصوص. فالنصوص منظومة من القوى المتشحة بوشاح المؤسسات من لدن الثقافة المتسلطة وعلى حساب تكلفة بشرية ما لمختلف عناصر مكوناتها(34)، وذلك لأن النصوص ليست في خاتمة المطاف ذلك الكون الخيالي المؤلف من روائع خيالية على قدم المساواة كلها. فحين نظر كيتس إلى الجرة اليونانية شاهد أشكالاً بشرية جليلة تزين سطحها الخارجي، وكسا أيضاً بكساء الأمر الواقع (في اللغة ولربما لا في أي مكان آخر) تلك البلدة الصغيرة التي "تفرغت من هؤلاء الناس، وقت خشوع هذا الفجر". إن موقف الناقد موقف حساس بعض الشيء بطريقة مماثلة إذ إن عليه، فضلاً عن ذلك وفي غالب الأحيان، أن يكون موقفاً خلاقاً بصراحة، في المعنى التقليدي البياني الذي تعنيه كلمة “inventio” بالشكل الذي استخدمها فيه فيكو بمنتهى الغنى إذ تعني العثور على الأشياء وتعريتها تعرية لولاها لبقيت خبيئة تحت ستار الطاعة أو اللامبالاة أو الروتين.
والأكثر أهمية من كل الأشياء هو أن النقد دنيوي وفي الدنيا ما دام يقاوم التمركز الأحادي الجانب، وهو المفهوم الذي أدرك أنه يعمل بالتعاون مع التشرنق العرقي، والمفهوم الذي يبيح لثقافة أن تتقنع هي نفسها بقناع السلطان الخاص الذي تتحلى به بعض القيم على غيرها من القيم الأخرى. وحتى بالنسبة لآرنولد، يتأتى هذا كنتيجة لصراع يوفر للثقافة تلك الهيمنة التي تخفي على الدوام تقريباً جانبها المظلم: وبهذا الخصوص يكون كتاب "الثقافة والفوضى" وكتاب "ولادة التراجيديا" ليسا بعيدين ذلك البعد الكبير عن بعضهما بعضاً.

nnn



-2- سويفت: الفوضوي الرجعي



إن عمل سويفت معجزة وطيدة الأركان عن مقدار التعليق الذي يمكن لكتابة كاتب أن تشتمل عليه وأن تبقى، على الرغم من ذلك، كتابة معضلة، وإن كل الجهود التي حاولت إنصافه كانت في معظمها تحاول إحياءه من جديد، وذلك لأنه ليس إلا قلة من أكابر الكتاب في اللغة الانكليزية طرحوا أنفسهم بمثل هذا الإصرار العنيف في سلسلة طويلة من الكتابات الآنية التي تتحدى أي تصنيف. فإحدى الطرائق للتأكد من هذا التزمت هي أن نلاحظ أن قدرتنا على استعمال نعت "سويفتي" أكبر بكثير بالتأكيد من قدرتنا على تحديد هوية سويفت وموقعه ورؤيته. وفي كثير من الأحيان يبدو أن النعت الثاني أكثر قليلاً من ملحق بالنعت الأول، حتى لو كان سويفت يغطي بهمة كيفما اتفق ثلاثة عشر مجلداً من النثر وثلاثة مجلدات من الشعر وسبعة مجلدات من المراسلات، علاوة على صفحات لا عد ولا حصر لها من الملاحظات المقتضبة. وهكذا فإن سويفت يعاد إحياؤه بأيدي الناشرين إلى نص محدد، وبأيدي كتاب السير إلى كرونولوجيا لأحداث منذ ولادته في عام 1667 حتى مماته في عام 1745، وبأيدي النقاد السيكولوجيين إلى مجموعة من السمات، وبأيدي المؤرخين إلى حقبة، وبأيدي النقاد الأدبيين إلى نوع أدبي، إلى تقنية، إلى بلاغة، إلى موروث، وبأيدي علماء الأخلاق إلى المعايير الأخلاقية التي يقال بأنه دافع عنها. وأما هويته فقد بقيت محجوبة جداً في ظل الدعاوى التي تناولت عمله، ولئن كان هذا القول يصح دائماً عن كبار الكتاب فإنه لا يقل، في حالة سويفت، عما دعاه نورمان و. بروان بدخول البيت عنوة وترويض نمر الأدب الانكليزي.
وعلى الرغم من الفروق القائمة بين هذه الإحياءات فإن كلا منها تعتبر سويفت شكلاً من أشكال المقاومة للمرتبة التي يوضع فيها. فما من كاتب تتعايش فيه، بمثل ذلك التكامل، أنظمة المرتبة وفوضى التحدي ابتغاء الانتشار. إن التعليق الذي ساقه ر. ب. بلاكمور وجاء فيه أن "الفوضى الحقيقية للروح يجب أن تتكشف دائماً (أو أنها تكشفت دائماً) عن مسحة من الرجعية"(1)، لتعليق ينطبق على أحسن ما يرام، كما أعتقد، على سويفت، إن من الممكن الاقتراب من عمله ووسمه بأنه المواجهة الدرامية الهائلة بين فوضى المقاومة للصفحة المكتوبة وبين الالتزام الرجعي بطراز الصفحة.
فهذا الشكل من المواجهة يجسد أدق شكل أساسي لها: إنه قادر على التضاعف الكبير، متنقلاً من الفرق بين الهدر وال*****، بين الغياب والحضور، بين الفحش والاحتشام، إلى الأبعاد السلبية والإيجابية في اللغة والخيال والوحدة والهوية. وإن حياة مثل هذه المواجهة هي، إن جاز التعبير، المضمون الفعال لعقل سويفت كما نتمكن من فهمه في مقاومته الجوهرية لأية حدود ثابتة. ومع ذلك فإن حدود لهو ذلك العقل قد تحددت على ما يبدو باستبعاد كل شيء إلا المختص والمهجوس من عمل رفيع- وهنا أتذكر الإشارة الخاصة التي أشار بها سويفت إلى روحه المسحورة. إن خبرة قوة وضغط على تلك الديمومة تسوغ أن يخلع ييتس على سويفت شرف اكتشاف جنون المفكر.
إن التوتر بين كاتب بأم عينه، كوجود ممنوع من الاختزال، وبين مؤسسات الأدب الرجعية التي تساهم بها الكتابة، لتوتر ضمني بالطبع يقضي الواجب أن يأخذه الناقد بحسبانه على الدوام. وهذا التوتر يكون موضع استغلال، أكثر مما هو موضع تسامح، من قبل المناهج النقدية التي يؤكد انحيازها على المزايا السابقة في خبرة الكاتب أكثر مما يؤكد على إنتاجه الناجز. فأمثال هذه المناهج، سواء أكانت على شكل فينومينولوجيا أو فلسفة حياة "Leben sphilosophie" أو تحليل نفسي، تستقصي أبعاد الخلوة، أي ما يمكن أن ندعوها بالذرائع الأدبية التي سلطانها مؤكد إما من الداخل بناء على مقالة أورتيغا
"
pidiendo un Goethe desde dentro "([7])، أو من الجوانب كلها بناء على مقالة جان بيير ريتشارد de Mallarmé L’univers imaginaire (العالم الخيالي لدى مالارميه)، أو من الداخل بناء على مقالة برنارد مايير "جوزيف كونراد: سيرة من منطلق التحليل النفسي". وإن ما ينتج على الغالب هو وحدة كاملة رائعة وبلوغ شراكة حميمة بين الناقد والكاتب، يشكل كل منهما فيها شطراً من الآخر بمعنى من المعاني.
هنالك عدد من الشروط اللازبة الهامة التي تسبغ الحياة على هذه المبادهات النقدية.
فالنصوص التي يتناولها الفحص نصوص معضلة من كل الجوانب عدا كونها نصوصاً. أي أن الناقد ينشغل بتأويلات نص ما لا بالتساؤل عما إذا كان النص نصاً أو بتوكيد الظروف الاستطرادية التي من خلالها تمكن، أو لم يتمكن، ثمة نص مزعوم من أن يصبح نصاً. فمن الواضح على سبيل المثال أن عملاً مثل كتاب سويفت المعنون بـ "بعض التأملات حول النتائج المأمولة والمخوفة من موت الملكة" (1714) لا يحتل نفس المكانة التي تحتلها رواية "أسفار غوليفر" (1726) في آثار سويفت، ومع ذلك فإن من العسير جداً على المرء أن يقول، في أي تقرير متكامل عن آثاره الكاملة، أية مكانة يجب أن تحتلها "الأسفار.." دون الأخذ بعين الاعتبار علاقتها بكتاب "بعض التأملات..". فهل هذا العمل أقرب إلى النص من ذاك؟ فالوقائع البسيطة المتعلقة بالاستكمال أو النشر لا يمكنها أن تحدد بمنتهى السهولة ما إذا كانت هذه القطعة المكتوبة نصاً وتلك لا. وعلاوة على ذلك فإن الحشو القائل النص -الذريعة- النص ليس موضع التساؤل لأن الذريعة معروضة بأنها تستوطن النص على مستوى مختلف روحي أو زماني أو مكاني (سباق، أعمق، في الصميم)، وهكذا فإن عمل الناقد هو الجمع بين الذريعة والنص في نسق جديد من التزامن الذي يمحي الفروق بينهما - ما دام في متناول الفرد ذلك المبدأ المتسامي، مبدأ الاستعداد للتحول، الذي يحوّل شكل الفروق. فبدون مثل هذا المبدأ تبقى الذريعة خارجية، ومن ثم عديمة الجدوى. وأخيراً هنالك ادعاء مطروح عن وجود حيز مشترك للنص والذريعة والنقد، وهو الحيز الذي تصبح واضحة فيه كل الأشياء الهامة الخبيئة، والحيز الذي لا يضيع فيه أي شيء عويص، والحيز الذي كل ما يستحق القول فيه يمكن أن يقال وأن يترابط مع غيره. ولذلك ليس من باب المصادفة في شيء أن تكون هذه المناهج مناسبة على أحسن ما يكون للكتاب الرومانسيين وخلفائهم ممن كانت كل الكتابة بالنسبة إليهم مجازاً ناقصاً للوعي بمنتهى الجلاء، كما كانت الكتابة بمثابة مرايا للسمات السطحية لكل منهم. وهكذا فقد صاردين النقد جلياً باعتبار أن النقد هو الذي يصفف الأشياء بهذه الطريقة.
فالكتابة، لدى دراستها على هذا النحو، تكون أيضاً شكلاً من أشكال الديمومة الزمنية. إن اللغة الأدبية على وجه التخصيص تتضمن غرضها وتنال، من خلال جهود القارئ، دلالاتها بفضل دنيوتها: وهذا تأويل مبتذل. ومهما كانت قساوة التأويلات، فإن استمرار الحركة التسلسلية يجب أن يكون راسخاً على الدوام، حتى لو كان اتجاه تلك الحركة دائرياً في خاتمة المطاف. إن كتاب جورجز بوليت المعنون بـ "تحول الدائرة" يبين الصورة بإصرار مرعب. فالمنهج الإحيائي هو إذاً، في أحسن أحواله، مستقطب للذهن وشامل إلى حد استثنائي، وفي أسوأ أحواله يمكن أن يصبح اختزالياً واقتصارياً. وإن ما يكمن خلف المشروع الإحيائي للناقد هو ذلك الموقف الذي يشبه الشجع في الاكتساب وذلك لأن المرء لا يستطيع إحياء ما لا بحوزته. والشيء الذي يمكن احتيازه هو حصراً ما يُعتقد مسبقاً أنه هناك.
إن عمل سويفت يكافح بضراوة ضد هذا المنطلق الإيديولوجي، منطلق المصادرة الجوهرية.(2) فمعظم كتابته، باستثناء عدد قليل، كانت آنية بالتحديد: لقد كان الحافز عليها مناسبة خاصة، وكان يعمل على تخطيطها بطريقة ما بغية تغيير تلك المناسبة. وإن من الواضح أن هذا القول صحيح عن "حكاية حوض" (1704) صحته عن "مسلك الحلفاء" (1711) وعن "الفاحص" (1711) وعن "رسائل تاجر الأجواخ" (1724).
وعلاوة على ذلك فإن نشر معظم كتاباته الفردية، ومن ثم توزيعها لاحقاً، بما في ذلك "أسفار غوليفر" كانت تستحوذ على اهتمامه كحدث من وجوه عديدة، لا كفن بالمعنى الذي نفهمه لهذه الكلمة أو كاحتراف إكراماً للاحتراف نفسه. إن الشيء الذي يعترف به الراوي المهووس في "حكاية حوض"، ومفاده أن ما يقوله صحيح في لحظته وحسب، هو تلك السخرية التي تنبئ عما كان سيصير صحيحاً حرفياً عن الكتابة اللاحقة لسويفت. إن "مسلك الحلفاء" و "الروح العامة لأعضاء حزب الأحرار whigs (1714) يحدثان، كما كان بالفعل، في توزيعهما الفعلي على قارعة الشوارع بلندن، بيد أن فاعليتهما، كوسيلتين لترويج سياسة حزب المحافظين العاجلة خلال نظام هارلي/ سانت جون، تكمن أساساً في حقيقة وصولهما إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وبأسرع وقت ممكن، وعلى نحو صائب قدر ما هو ممكن. فالتوزيع والفصاحة الحاذقة هما مظهران لبعضهما بعضاً، ومظهران لحدث كانا يصبوان لتعزيزه. وما أن يؤديا دوريهما حتى يصبحا حدثين تاريخيين وقعا بالفعل، ولئن تسنى لهما البقاء، هذا إن تسنى أصلاً، فإنهما يبقيان كأثرين شاحبين يرمزان إلى مناسبة ما، وعلامتين من علامات زمن محدد عفى عليهما الزمن وحل الوهن بقوتهما الأصلية.
لقد كان سويفت نفسه على ما يبدو مهووساً بآنية الأحداث، الأمر الذي يعلل لا اهتمامه الأبدي بالمحادثة (وهي حدث كلامي) وحسب بل ويعلل عنايته المفرطة بالتاريخ، باللغة الصحيحة، وشكه الجامح بكل شيء إن لم تتوكد صحته بالخبرة المباشرة. فالصورة التي رسمها دكتور جونسون عن بوب، وهو يكتب الرسائل بعين يقظة ترنو لنشرها مستقبلاً، تتوازن بشكل جميل بالتكتة الخبيثة في كتابه المعنون بـ "حياة سويفت" الذي يتأمل فيه العميد تشكيك رجل عجوز بعبقرية ذلك الشاب الذي أصدر "حكاية حوض"، وهي حدث فرويد، وفعلاً فإن معظم القصص المشكوك بصحتها عن سويفت، سواء أجاءت على لسان السيدة بيلكينغتون أو جونسون أو نيكولاس، فيها انقطاع عجيب بالنسبة لهم. وفي نفس الحكاية نسخة منها لسويفت تناقض النسخة الثانية: وهكذا فإن السيدة بيلكينغتون تروي حكايات عن قذارة سويفت قذارة لا مسوغ لها وتروي معها حكايات أخرى يظهر فيها من أنبل بني البشر، وإن من المؤكد أن هذه الحكايات تعود إلى سويفت، بيد أن مقدار أمانتها عن سويفت مقدار بين بين، إذ كان يبدو لهذا الإنسان رجلاً حيوياً بشكل ديناميكي ورجلاً معقداً، ولذاك رجلاً استطرادياً معه، وأخيراً تلك الشخصية التي تهيمن بشكل مؤثر جداً على أشعار ييتس أو روايات جويس أو على الأعمال الكاملة لصاموئيل بيكيت. إن الفجوة بين ما قاله أو فعله سويفت عملياً وبين ما كان بالإمكان قوله عنه هي تماماً نفس تلك الفجوة التي تقوم بين كلمات منطوقة من أجل مناسبة ما بالتحديد وبين كلمات مدونة كتابياً ابتعدت عن مناسبتها تماماً. فالفرق يكون بين أحداث دقيقة، وحتى بغيضة في بعض الأحيان، وبين عقبول مباح يلتمس التأويل وإعادة التركيب. ولذلك ليس من المستغرب أن تكون للتو "حكاية حضور وأسفار غوليفر" هما أشهر "نصوص" سويفت وأن يكونا بالمحصلة ذينك النصين اللذين هدفهما من أهم الأهداف، وأكثر كتاباته التزاماً بالنص، وذينك النصين اللذين استقطبا أكثر اهتمام نقدي، فضلاً عن أنهما عملان من أكثر أعماله تعرضاً للتصنيف انطلاقاً من زاوية التقنية والجنس الأدبي.
ومع ذلك فإن هذين العملين الجديرين بقنوة المكتبة واهتمام الناقد يبدوان، بالقياس إلى أعماله الأخرى، كحدثين أراد بهما سويفت إضفاء الصبغة المسرحية على حقيقة كونه كاتباً بالفعل لما يشبه الأدب، وكاتباً كان يسخّر المؤسسات الأدبية في الوقت الذي كانت تناسبه فيه، أو في لحظات تبطّل قسري. إن رسائل سويفت الصريحة عن عمد والموجهة إلى بعض أصدقائه في لندن حول شخصية غوليفر، وهي كلها مؤشرات ومفاتيح متعددة "لحكاية حوض"، عمد لاحقاً بمنتهى الذكاء إلى دمجها في نسخ تالية من أعماله، ولكن يا لها من شواذ بمستوى شذوذ "غوليفيريانا" لسميدلي- وهذه كلها بمثابة ملحقات هزلية بالكتابة التي عرّضت نفسها مسبقاً لتهمة الملحق بالواقع. وإن ما يضفي الميزة الأدبية على بعض كتابات سويفت ويعزلها عن كراساته الدينية والسياسية العديدة هو أن تلك الكراسات مطمورة كأحداث ضمن شبكة معقدة من أحداث هذه الحياة الدنيا، في حين أن الكتابات السابقة تظهر بمظهر الكتابات الساخرة أو الأدبية أو النصية لأنها ليست بالأحداث على الإطلاق، لا بل وعلى النقيض من ذلك فإن "حكاية حوض" مكتوبة بكل وضوح لإحباط حدث ما ولصرف الانتباه الجاد عنه. ففي "الكوميديون الرواقيون" يدرس هيوغ كنير بمنتهى الروعة "حكاية حوض" ويدلي بحكمه عليها من أنها ذلك الكتاب الذي هو بمثابة محاكاة ساخرة لإسفاف ولوع الكتب بالكتابة. وإن كتاب "أسفار غوليفر" لعمل، كائناً ما يمكن أن يكون خلاف ذلك، يستخدم الفعل الماضي التاريخي كحاجز أدبي مدرك لوجوده بين القارئ وصيغة الفعل المضارع الزائفة التي تروى بها معظم مغامرات غوليفر. وهكذا فنحن إذاً مضطرون على أن نحمل على محمل الجد اكتشاف سويفت بأن الكلمات والأشياء في هذه الحياة الدنيا ليست مرشحة بتلك البساطة لتبادل الأمكنة، وذلك لأن الكلمات تنأى بنفسها بعيداً عن الأشياء إلى عالم لفظي خاص ومختلف تمام الاختلاف. ولئن حدث وتصادفت الكلمات والأشياء، هذا إن تصادفت، يكون السبب بذلك أنهما كلتاهما تتقاطعان، في أزمنة خاصة ومواتية، في ذلك المكان الذي سرعان ما تعرّفه الجماعة السياسية المهيمنة بأنه حدث، وهو الأمر الذي لا يعني بالضرورة تبادل الكلام أو التواصل. ومع ذلك فإن المغايرة بين الحدث والكتابة كشيء بديل عن الحدث لهي معارضة هامة وفعالة لدى سويفت.
وعلاوة على ذلك فإن سويفت كان على ما يبدو حساساً جداً حيال الفروق بين الكتابة والتكالم. وإن كل سعاية من هاتين السعايتين -وهذه فكرة ملائمة جداً لصرامة تفكيره- يمكن أن تتخذ لها شكلين اثنين بمقدورنا دعوة الأول منهما بالصحيح والثاني بالمغشوش. فالتكالم الصحيح هو المحادثة بالشكل الذي عرفها فيه سويفت بمقالته المعنونة بـ "تلميحات نحو مقالة عن المحادثة" (1710- 1712) من أنها أسرع منالاً من أية فكرة أخرى، وذلك لأنها ممنوعة من التشذيب والدخول في ميدان المثالية دون سواه:
إن معظم الأشياء التي يجدّ في طلبها البشر بغية بهجة الحياة العامة أو الخاصة، والتي بلغت ذلك المستوى الرفيع من التشذيب جراء فطنتنا أو حماقتنا، قلما توجد في الذهن لوحده. فصديق صدوق وزواج ناجح وشكل كامل من أشكال الحكم، بالإضافة إلى بعض الأشياء الأخرى، كلها تستلزم مقومات عديدة جداً، وجيدة جداً في أنواعها المتعددة، وتستلزم، لمزجها بعضها مع بعض، عناية فائقة جداً، بحيث أن البشر قد حل بهم اليأس من جراء محاولاتهم الوصول بمخططاتهم إلى درجة الكمال في غضون بضع آلاف من السنين:
ولكن الأمر بالنسبة للمحادثة قد لا يكون على هذه الشاكلة، وقد يكون شيئاً آخر، إذ ليس علينا هنا إلا أن نتفادى فيضاً من الأخطاء،
وهذا التفادي، على الرغم من أنه صعب بعض الشيء،
أمر قد يكون بوسع أي إنسان، علماً أن غيابه يبقي المحادثة مجرد فكرة في الذهن كالشيء الآخر.
ولذلك يبدو لي أن الطريقة المثلى لفهم المحادثة تكمن في معرفة الأغلاط والأخطاء التي تتعرض لها، ولذلك فعلى كل إنسان، من ثم، أن يصوغ لنفسه قواعد سلوك لتنظيم المحادثة بناء عليها.(3)
فثمة سبب وحيد لهذا التوكيد هو بالطبع ضرورة الوجود المادي لإنسانين على الأقل، فضلاً عن أن كل التلميحات الفرعية اللاحقة لسويفت كان المقصود بها الحفاظ على الوجود الفعلي لكل من المتحدثين أمام بعضهما بعضاً. إن قوانين المحادثة تحتل المرتبة الثانوية أمام ذلك الوجود الذي يجب أن يطغى، والذي يجب لمصلحته تسخير موضوع التكالم ونمطه وأسلوبه. وحتى في الوصف الذي يصف به سويفت موعظة دينية ينشغل بوضع حقيقة التكلم والإصغاء في موضع حدث ذي ديمومة زمنية، وهذا الأمر لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الوقائع السابقة لذلك الوجود قيد الاحترام,. ولكن هنالك على أية حال عقبة وحيدة واضحة أمام المحادثة. فالكلمات ما إن تقال في المحادثة حتى تضيع إلى الأبد، ولا يبقى منها على الأرجح إلا الذكرى اللطيفة. وأما المحادثة "المغشوشة"، التي تمثلها خير تمثيل مقالة "المحادثة المهذبة" (1738)، فهي التكلم بدون احترام الوجود بمناسبة اجتماعية ما ليست أكثر من ترخيص رسمي للتكلم: إذ إنها تحيل التكلم إلى شكلية الصيغة المبتذلة المتفقة مع الزي السائد، الأمر الذي لا يحتاج أي شيء محدد لاستهلال التكلم أو لاستبقائه مستمراً. إن الأساس المنطقي لمقالة "المحادثة المهذبة"، كما هو معروض في مقدمتها، هو أن الكلام المهذب يكلم نفسه فعلاً. فالكلام المهذب يمكن حفظه عن ظهر قلب، وهو دائماً وشح للتطبيق، وهو محدود ومغلق، وقوانينه جوهرية إليه، أي، ليس خاضعاً بالفعل لوجود المتكلم أو المستمع، ومن هنا كان "نجاح" سنوات واغ ستاف في النسخ. إن المحادثة المغشوشة محادثة، قبل أي شيء، مقتصدة وقابلة للحفظ باعتبارها تتحرك وفق كل القواعد ووفق لا أية قاعدة من القواعد في آن واحد معاً: إنها لا تعني بتاتاً أي شيء وتعني دائماً الشيء نفسه- فالمحادثة المهذبة، تواصل مطلق، لغة تستخدم بشراً.
إن آراء سويفت عن المحادثة تبقى نسبياً هي نفسها طيلة حياته، حتى لو كنا نعتبر أن أعمالاً من أمثال "مجلة إلى ستيلا"، قصائده إلى ستيلا بمناسبة عيد ميلاده، والألعاب اللاتينية/ الإنكليزية، والتجارب القشتالية، ومشاريع نادي النساخ، أشكالاً مختلفة لموضوع المحادثة. وإذا لم تكن تلك الأشكال المختلفة فإنها أقرب المواقع التي اقترب فيها سويفت لتوضيح التخوم التي تتستّر فيها المحادثة في الكتابة بمنتهى البراعة. والشيء الجدير هنا بالذكر هو أن كتابة سويفت نفسها كانت مسعى أقل تكاملاً بكثيير من المتكلم، وذلك شيء ، كما اعتقد كان يفهمه سويفت عن عمله، وكان يفهمه على نحو أشمل عن الكتابة على العموم. فثمة صيغ على غرار "الأسلوب البسيط"، وهي الصيغة التي ألصقها جونسون بكتابة سويفت، وصيغة "كلمات مناسبة في أمكنة مناسبة" (أي جعبة سويفت الخاصة)، صيغ لا تؤدي إلا خدمة طفيفة لأناقة كتابته. فالكتابة الصحيحة بالنسبة إليه ما كانت تلك الكتابة التي تتطابق مع الواقع وحسب، بل كانت الواقع بحد ذاته، والأفضل من هذا هو القول بأنها كانت حدثاً استلزمته أحداث أخرى، ومفضياً بدوره إلى أحداث أخرى أيضاً. إن أفضل الكتابات كانت أمراً، مثل "مسلك الحلفاء"، جاء في زمان ومكان رائعين. وأما الكتابة المغشوشة فكانت أمراً، على نقيض سابقه، جاء في زمان رديء وفي مكان رديء.
إن النتائج التي تترتب على هذا التصور للكتابة، وهو التصور الذي يبدو بسيطاً، ذات أهمية قصوى- لا لسويفت وحده بل ولقارئه أيضاً. تأملوا قبل كل شيء كيف أن الكتابة الجيدة نسبياً هي المتناسبة مع زمانها ومكانها. ولئن عدنا بأبصارنا إلى الخلف لوجدنا أن الكتابة الجيدة قد حدثت وانقضى أمرها، شأنها بذلك شأن الماضي. فزخمها يخور أمام الزمن الحاضر اللاحق للماضي بالنسبة للمؤرخ أو الناقد، ومن باب السخرية مجدداً أن الكاتب نفسه ليس أقل انقطاعاً عن الماضي من ذلك الزخم. وبالنسبة لسويفت كانت الحقيقة "البسيطة" تعني أشياء كثيرة جداً: فلقد كانت تعني (كما يدل على ذلك دلالة قاطعة العمل الذي أنجزه في Letcombe بعد وقت قصير من رحيل حزب المحافظين عن السلطة) أن زمانه ومكانه ككاتب ذي شأن قد حدثا وقد انقضى أمرهما أيضاً. فلقد تحول، بعد أن كان كاتباً جيداً، إلى كاتب ذكريات مشوشة، ومن ثم إلى كاتب تصورات.
فالتمييز الذي ميزه رولاند بارتيز بين "écrivant" (وهو ذلك الإنسان الذي يكتب عن موضوعات لها وجود والذي يربط بين الأحداث والأفكار) وبين "écrivain" (وهو ذلك الإنسان الذي موضوعه، إن لم يكن له ثمة وجود، هو إذاً مجرد الكتابة، بحد ذاتها)، ينطبق على التوالي على عمل سويفت في (1710- 1714) وعلى الفترات السابقة واللاحقة لهذه الفترة. وإليكم الآن هذان النصان المأخوذان من "حكاية حوض" ومن ثم من "مذكرات تتعلق بذلك التغيير الذي حدث في وزارة الملكة في العام 1710" (وهي مكتوبة في عام 1714). إن كلا النصين عرضان عن سبب الاضطلاع بعبء العمل، على الرغم من أن سويفت يتخذ لنفسه قناعاً في النص الأول ولكنه يفصح عن صوته هو في النص الثاني، وأما الشيء الصحيح جداً وعلى أحسن ما يكون من الوضوح فهو توظيف الحيلة نفسها في النصين- فالعمل الحاضر تسلية من إنتاج écrivain- كي تخلص إلى النتائج نفسها: فالأسلوب غير مباشر، وكأن الغاية إخفاء الحقيقة التي مفادها أن الموضوع الحقيقي هو فعل الكتابة نفسها. فالكاتب، لأسباب عديدة، لا يشعر أن له ما يبرر وقفة شريفة في وسط ما يقوله. إن الاستطراد في "حكاية حوض" براعة فنية، بيد أن الاستطراد في "مذكرات......." يكاد أن يصبح طريقة في حياة سويفت بعيداً عن قلب الأشياء. فسويفت، كما سنرى، ما كان بمقدوره أن يترك نفسه تتعاظم وتدخل بمنتهى الثقة في موضوع كتابته إلا في شيخوخته.
بما أن عباقرة العصر الراهن صاروا من ذوي العدد الغفير والنفوذ العظيم، فإن أكابر المسؤولين عن الكنيسة والدولة بدأوا على ما يبدو يقعون تحت عبء مخاوف مرعبة من أين يجد هؤلاء السادة، في فترات سلم طويل الأمد، الفراغ الكافي لحفر ثقوب في الجوانب الهشة للدين والحكومة. ولمنع ذلك جرى مؤخراً توظيف تفكير كبير لبعض المشاريع الخاصة ابتغاء انتزاع القوة والفاعلية من هؤلاء المسألة المرعبين لإبعادهم عن التمحيص والمجادلة في أمور دقيقة كهذه. وأخيراً استقربهم المقام على مشروع واحد، ولكنه يتطلب بعض الوقت فضلاً عن التكلفة حتى يبلغ درجة الكمال. وفي غضون ذلك فإن الخطر يتفاقم ساعة فساعة جراء تجنيد جديد لعباقرة منهمكين كلهم (وهنا ممكن الخوف) بالقلم والحبر والورق، الأمر الذي من الممكن في ساعة من ساعات الغفلة أن يتوسع ويتخذ شكل الكراسات، وشكل أسلحة عدائية أخرى، على أهبة الاستعداد للوضع الفوري موضع التنفيذ: وكان الرأي أن هناك حاجة ماسة للتفكير بحملة آنية سريعة قبل الوصول بالمخطط الأساسي إلى مستوى الكمال. وتحقيقاً لهذه الغاية، في لجنة عظيمة، قبل عدة أيام، ثمة مراقب عجيب ومهذب توصل إلى اكتشاف هام مفاده أن البحارة من عادتهم حين يصادفون حوتاً أن يلقوا له بحوض فارغ، من باب التسلية، لكي يبعدوه عن وضع يديه العنيفتين على السفينة. ولسرعان ما اصطبغت هذه الأمثولة بصبغة الأسطورة: فجرى تأويل الحوت على أن لوياثان هوبز الذي يشقلب ويتلاعب بكل المخططات الأخرى المتعلقة بالدين والحكومة، في حين أن العديد من المخططات جوفاء وجافة وفارغة وصاخبة ومتخشبة وقيد التداول. وهذا هو اللوياثان الذي يستعير منه عباقرة عصرنا المرعبون أسلحتهم كما يقال، السفينة في خطر، قول مفهوم بسهولة على أن المقصود به الكومونويلث الذي هو النموذج المضاد القديم للدولة. ولكن ما هو السبيل لتحليل الحوض، كان أمراً صعباً، إذ بعد تمحيص ومناقشة طويلين بقي المعنى الحرفي طي الكتمان: ومن ثم استن على شكل قانون الرأي القائل أنه كي تمنع هذه اللوثيانات (الوحوش الضخمة المفترسة)، من شقلبة الكومونويلث والتلاعب به (والذي هو من تلقاء نفسه عرضة للترنح) يقضي الواجب بتحويل انتباههم عن تلك اللعبة بحكاية حوض. ولما كان هنالك تصور أن عبقريتي تتوجه ذلك التوجه بكل سرور فقد خلعوا علي شرف الانخراط في أداء اللعبة.
(الأعمال النثرية، 1، 24- 25)،
وبعد أن استمريت قرابة مدة أربع سنوات، على مقدار كبير من الثقة مع الوزارة، وبعد أن كنت، لا بتلك القوة الكبيرة كما كان الاعتقاد، أو كما كان الإعلان عنها على الأقل، من قبل أصدقائي وأعدائي على حد سواء، لا سيما الأعداء، في كلا مجلسي البرلمان، ولما كان هذا قد حدث خلال فترة منهمكة جداً بمفاوضات مع الخارج، أو منهمكة بتدبير الأمور والدسائس داخل الوطن، ظننت أن من المحتمل، بعد مرور بضع سنين على ذلك، في الوقت الذي تخلى فيه المشهد الحالي عن مكانه لمشاهد عديدة جديدة سوف تبرز لاحقاً، أن تكون تسلية لأولئك الناس الذين سيكون لديهم أي اعتبار شخص لي، أو لذكراي، أن ينسبوا بعض الخصوصيات التي تسنت لمعرفتي وملاحظتي، في الوقت الذي كان من المفروض فيه، صدقاً أو كذباً، أن لي ضلعاً في سر الشؤون العامة. (الأعمال النثرية، 8/107).
فبالنسبة لسويفت، وبالنسبة للناقد، تبدو الفروق بين النصين فروقاً أدبية ثانوية ليس إلا، أنها بالأساس فروق لغوية ووجودية- وها أنذا أستخدم هذه الكلمة متردداً. فمنزلة الكتابة في الدنيا تبدلت بتبدل منزلة الواقع السياسي والتاريخي. إن سويفت يحاكي، في"حكاية حوض" التسلية، في حين أنه في المقطوعة التالية تحول بعمله إلى التسلية فعلاً. فكل عمل من العملية من إنتاج écrivain، ولو لأسباب مختلفة. وبما أن سويفت كان على أشد التصاق بذلك النظام الذي، كما ظن، في صلبه انصبت جهوده وشاركت فيه، فإن كتابته حافظت على موقع سام أعلى من موقع كل الكتابات الأخرى بين عام 1710 وعام 1714، فسياسة حزب المحافظين التي كان يؤازرها سويفت ويكتب عنها كانت سياسة في دنيا الواقع: فهنا كان écrivant. وأما معارضة حزب الأحرار فقد كانت مجرد تصور، مجرد خربشة. وهذا ما كان على الدوام أساس استراتيجيته. ولكن بعد عام 1714 لم يشغل سويفت أي موقع عدا موقع اللامنتمي من تلك الآلة المتراصة لحزب الأحرار، فها هو قد أضحى ذلك الناسخ المخربش والإنسان الذي يعد المشاريع الذهنية والذي جسده ذات مرة (في حكاية حوض) وهاجمه (في الفاحص وفي أي مكان آخر).
إن بعض الأعمال الحديثة المتعلقة بالبحث التاريخي من أمثال (أصول الاستقرار السياسي: انكلترا، 1675- 1725 لكاتبه ج. هـ. بلوم، والثورة المالية لبيتر ديكسون، وبلينغ بروك وحلقته لإسحاق كرامنيك) تبرر إحساس سويفت بالضياع. فمن وجوه عديدة تبدلت إنكلترا بعد عام 1714، بيد أن التبدل الأساسي كان في أن السلطة السياسية لم تعد تناط بشخصيات مرموقة وإنما بالآلة اللاشخصية للبيروقراطية التي استنبطها والبول وأوصلها إلى حد الكمال.
فالتبديل كان بمثابة النسخة الإنكليزية للتبدلات التي حلت ببنية المجتمع الأوربي في نهاية القرن السابع عشر، وهي تلك التبدلات التي درسها فرانز بوركينو ولوسيان غولدمان وبرنارد غروثيسين. فالأحداث لم تعد البتة تعزى للأفراد مباشرة، كما أن تلك القيم الراسخة المتعلقة بالوراثة والأرض انجرفت وتحولت إلى قيم على أتم ارتباط بالنقود وبالديْن القومي الدائم ومر كنتلية المدينة. وأما حزب المحافظين بأروستوقراطيته المرموقة، التي كانت بالنسبة لسويفت تجسد صفوة الشعب الإنكليزي، فقد أزيح عن السلطة وحلت محله أوليغارشية من حزب الأحرار من ذات المصالح الخاصة. ولئن كان سويفت ينظر في السابق إلى كراساته كأحداث لها وجود حقيقي مع الواقع السياسي كشيئين متشاكلين أو متزامنين، فقد صار بعد عام 1714 يرى أنه وكتاباته طفقوا يتكشفون مرة بعد أخرى عن ذلك التعارض الصارخ بين اللغة والواقع- اللذين يمثلان نموذجين من نماذج اللامصداقية، ونموذجين مبتورين عما دعاه، بمنتهى الحنين لماضيه، "المعاش مع العوام".
وهذا هو السبب الذي جعل دور الوطني الإيرلندي يناسبه على نحو رائع جداً: لقد كان دوراً فياضاً بالتناقضات المغيظة بين القلم والجماعة السياسية. إن اللغة المكتوبة عن الاحتجاج الإيرلندي، وهي كاملة بحد ذاتها، عملت على تفاقم الانقطاع بين ما كان (إيرلنداً) بمنتهى التعصب وبين استحالة ما كان من المحتمل أن يكون (خططاً إنكليزية استعمارية لإيرلندا). إن نصف بنس السيد وود، على سبيل المثال، كان الخطأ بعينه الذي تمكن سويفت من مهاجمته في "رسائل بائع الأجواخ"، وبالأساس من خلال التعامل مع المكيدة كمكيدة ومن خلال تصور الخطة، بتلك الأوهام الرائعة التي كان النبلاء يذهبون بها للتسوق في عربات مليئة بالنقود المغشوشة وهي تجرر من خلفهم، في عنصرها الأساس- في الخيال(4). فثمة حدث خيالي، وبالتوسيع، تلك اللغة التي تشتمل على تصورات خيالية حلا محل الأحداث الحقيقية بشكل مضحك، وهكذا فإن فكر سويفت بقي مخلصاً لحضور الأحداث، حتى ولو من خلال الهزء فقط بالأكاذيب اللفظية عن الواقع بأكاذيب بديلة، كمكيدة السيد وود.
إن ما أوجزته على عجل يستلزم المزيد من العرض والتوضيح، ولئن كان لهذا الموجز أية قيمة فهي وضعه عمل سويفت على محاور التعارضات والثغرات الأساسية التي تجعل الوصول الكامل لهذا العمل إلى القرن العشرين محدوداً جداً. وهكذا فنحن الآن أمام تحدّ من قبل أعمال كاملة حرون في وجودها كحكم سلبي على نفسها كونها لم تنجح كحدث، وهو الأمر الذي يعني انقراضها وتبددها في زمن ماض. فالتاريخ، بالنسبة لسويفت، عزز نفسه بما فيه الكفاية وما من حاجة لتأويله ما دامت اللغة مرادفة للسلطة السياسية (كما تحاول أن تبرهن رسالته العلنية إلى هارلي حول الحفاظ على اللغة الإنكليزية). ولما كان سويفت على قسط عظيم من العجرفة فإنه لم يكن ليصدق أن كتابته ما فعلت أكثر من خدمة سلطة حزب المحافظين وحسب، ولذلك فإنه كان يرى في كراساته، وهو يعود ببصره إلى غابر الأزمان، جزءاً من النظام السياسي، أحداثاً في صلب تاريخ ذلك النظام، مع العلم أن الطريقة الهوسى التي أدرك بها، في مقدم ومؤخر مسيرته الأدبية، المخاطر الكامنة في اللغة المتحررة من السلطة السياسية والواقع الاجتماعي، توحي بأنه شعر من تلقاء نفسه بالحاجة للتوكيدات على أن تحكمه باللغة كان قوياً. لقد تيقن في خاتمة المطاف أن السبيل الوحيد له كي يطمئن قلبه كان الفضح الدوري للمساوئ التي تسلم اللغة نفسها لها بمنتهى البساطة. وإن التناسق، مثلاً، بين نبذ سويفت ربة الشعر (the muse) في قصيدته المعنونة بـ "بمناسبة مرض سير وليام تامبل وشفائه أخيراً" (1693) وبين هجومه، بعد أربعين سنة، على اندفاعات "الإلهام الشعري" (في مقالته المعنونة "عن الشعر: مقطع من ملحمة"، 1733) لتناسق مذهل. إن القصيدتين التاليتين تبينان أولاً ربة الشعر منبوذة توقعاً لاحتضان الشاعر الواقع، وتبينان بعدئذ غش الشعر بالنظر لغياب موضوع حقيقي. إن الشيء الذي يتوسط بين القصيدتين هو تلك الفترة التي كان فيها سويفت شاعراً بالمصادفة ليس إلا، 1710- 1714. فتلك السنوات الأربع، في سياق كل حياة عمله، هي الفجوة التي تدوّن فيها فيض من الكلمات- كتابة وتأويلا وتذكراً- علماً أنها كلها لفظية وكلها ناقصة:
إليك أنا مدين بالانقلاب المصيري الذي انقلبه الذهن،
والذي لا زال يميل للأفكار القلقة الشقية.
وإليك أنا مدين بكل ما أجهد عبثاً لإخفائه،
ذلك الاحتقار للبلهاء، الذي يظنه البلهاء تكبراً،
ومنك أنت تنبثق الفضائل، وأية فضيلة
قد تستحيل إلى محنة، أو إلى رذيلة.
هذه هي القواعد التي تجعل المرء شاعراً عظيماً:
"إياك والاستسلام للمصلحة أو التملق أو المخاتلة،
ولا تكرس ذهنك للأفكار المأجورة،
وتعلم احتقار معونتها المرتزقة،
وليكن هذا حصنك المنيع، وسورك الفولاذي،
إياك وتعلم العمل الشائن، ولا تصفرّ أمام أي ذنب،
وبما أن المسافة التعيسة تعرقل عليك
عرض روحك، المتسربلة بهذا الستار البائس،
وبما أن فضائلك القليلة معروضة بمثل هذا التشويه،
وتثير عليك الضغينة وقتما كنت تأمل التقدير."
فجنون كهذا ما خطر ببال خيال قط،
وتبقى عرضة للخديعة، لا للمسرّة قط،
وبما أن شعاعاً واحداً مزيفاً من البهجة في العقول المريضة،
هو كل ما يعثر عليه الوهم المطمئن المسكين-
هناك تحطمت فتنتك، ومنذ هذه الساعة
أتبرأ أنا من قدرتك التخيلية،
وبما أن جوهرك يعتمد على أنفاسي،
فبنفخة واحدة يتبدد هذا الوهم كله.
(الأعمال الشعرية، 41- 42)
وكيف لمبتدئ جديد أن يتعلم
من أرواح مختلفة كيف يدرك،
وكيف يميز بين هذا وذاك،
بين نفحة الشعر أو رغبة النثر،
إذا استمع لمجرّب محنك عجوز
يرشد مبتدئاً شاباً.
"استشر نفسك، وإن وجدت
حافزاً قوياً يحث ذهنك،
حاكم الأمور محاكمة نزيهة في قلبك،
أي موضوع تجيد تدبيره على نحو أمثل،
ولئن كانت عبقريتك تميل أشد الميل
للهجاء، للمديح، أو للأبيات الهزلية،
للمراثي في مسحة تفجع،
أو لمقدمة شعرية تأتيك من يد مجهولة
انهض إذاً عند انبلاج الفجر،
واستلهم ربة الشعر، واجلس للكتابة،
أشطب، صحح، أحشر، نقّح،
أسهب، اختزل، أقحم بين السطور،
وكن حذراً، فحين تجف القريحة،
إياك أن تحك رأسك، وأن تعض أظافرك.
(الأعمال الشعرية، 571- 572)
إن القافية التي تجمع بين كلمتي "Sinner" (مجرّب) و"beginner" (مبتدئ) لقافية بليغة لأنها تربط بين المجرب المحنك وبين المبتدئ برباط وثيق لا مناص منه. فكلاهما كاتبان (écrivains)، وكاتبان يجدان في نظم الشعر تدريباً على محاولة عقيمة لحشر التأليف الأدبي في صميم العالم الواقعي. وهكذا فربة شعر منبوذة وكتابة، بشعور دفين بالضعة، معروفة حذاء الواقع: هاتان هما البداية والنهاية لسيرة مهنية راسخة بالنسبة لسويفت وبالنسبة لناقدة. إن السيرة المهنية هي تلك السيرة الأدبية التي يوجد سجلها في أعمال كان الواجب يقضي بتحويلها إلى تاريخ سياسي، ولكنها الأعمال التي تتشبث بوجودها، شأنها بذلك شأن السترلدبرغز* ، كبقايا خائرة القوى، فمقالة "عن الشعر" لا تستمد قوتها من عنف هجومها على الشعر المغشوش وحسب، بل وتستمدها أيضاً من اليأس بما مفاده أن هذا الغش في خاتمة المطاف هو ما آل إليه الشعر وقتها بالفعل. أوليست حقيقة مرة أن التوجيهات التي ساقها سويفت- هنا وفي مقالة "توجيهات إلى الخدم" (1745)، وفي "المحادثة المهذبة" وفي غير مكان أيضاً- كانت على الدوام كراسات من العمل القيم ذي الوصف المتقن؟ فالشيء الذي كان بالإمكان حينها وصفه كان الشيء الميسور المنال للغة المكتوبة، كما أن الموضوع والأداة معاً كانا بديلين فاسدين للوقائع التي ظلت خارج إطار ميدانهما. إن القدرة الإنتاجية لطاقة سويفت ككاتب ليست بحاجة للتصوير على أنها منبثقة عن تخيل نخلقه له ككاهن أنجليكاني من الممكن وصف حياته كسلسلة من الأحداث على مدى ردح من الزمن. فعلى النقيض من ذلك، نجن نسدي إليه خدمة أكبر إذا قبلنا الثغرات التي عاشها بالطريقة التي عاشها بها: أي إما على شكل خسائر فعلية أو خسائر وشيكة للموروث والتراث والموقع والتاريخ، خسائر موضوعة في قلب إنتاجه الكلامي المتهافت. وإن هذا القبول ليس بالتأويل السيكولوجي بمقدار ما هو جملة من الشروط التي تجعل من المدى الكامل لسيكولوجية سويفت أمراً ممكناً، بدءاً من الاهتمام "بقسط من الحرية" وانتهاء بالهوس بسقط المتاع.
فالأدب الحديث إذاً بالنسبة لسويفت كان يعني إزاحة الأدب القديم وحلول الحديث محله، مع العلم أن هذا الحكم هو موضع التنشيط في طول وعرض "حكاية حوض". فالكاتب الحديث يكتب خلال فقدان الموروث، وهو موجود بالنظر لغياب الكتاب القدامى الذين جرى استبعادهم من جراء ذكرى واهية للآداب الكلاسيكية. إن كتاب فرانسيس ييتس المعنون "بفن الذاكرة" يلقي النور الساطع على الاستخفاف بالطرق التقليدية لتقوية التذكر: وهذا التغيير كان هنالك أمام سويفت ليشهده بأم عينه. وهكذا فإن النور الباطني الخاص الذي يدعيه الصاحبيون أوالمشيخيون لمرشديهم يحل محل الإرث العام، وإن هذه الإزاحة هي ما تمثله "حكاية حوض". وعلاوة على ذلك فقد تقطعت أوصال التسلسل المنتظم للتطور التاريخي من جراء الثورة البيوريتانية ومقتل الملك تشارلز الأول على يد كرومويل. فكما أكدت شواذ تاريخه هو كان الاستمرار بالأساس أمراً مدبّراً بين أفرقة من ذوي المصالح، وما كان تلك العطية التي كان بوسع أي إنسان أن يحتل مكانة فيها بمنتهى الطمأنينة. وإن كراسة "عواطف إنسان من أتباع كنيسة إنكلترا" (1711) والكراسة المشؤومة المعنونة بـ"تاريخ السنوات الأربع الأخيرة من حكم الملكة آن" (1712- 13) كانتا محاولتين من سويفت لتصحيح الأفكار الواهية التي كان يعتمد عليها إحساس الأمة بتاريخها ومعناه. فلقد كان ذانك العملان تقريباً من أكثر الحكايا المعضلة والمبتذلة التي جاء بها سويفت عن ربوبية بوب والرجعية المطلقة.
وما بدأ سويفت يطرح الإطار الأرسخ الذي كان يتمنى أن يعتبره فيه المستقبل، وعلى نحو متعمد أكثر من ذي قبل، إلا في إيرلندا حوالي الثلاثينات (1730). وبما أن سويفت كان رجعياً شموساً وبالفطرة دقيق الحسبة في النقود، وكان ذلك الرجل الذي وسمه تين Taine برجل أعمال صنعة الكتابة الإنكليزية، والذي كان موقفه من الحياة ذلك الموقف الذي وصفه به نيغل دانيس إذ قال بأنه موقف معلم مدرسة، فقد كان من المناسب له أن يكون على ثقة من أن الأشياء الأخيرة التي ستقال عنه يجب أن تكون بإمرته هو، ولذلك فإن الذكرى الأخيرة التي خلّفها وراءه ستكون بالضرورة أول ما سيتنبّه المستقبل إليها، وعندئذ نظم القصيدة التي عنوانها "أشعار عن ممات الدكتور سويفت" (1731)، والتي ابتنى فيها ذلك الاستمرار الذي تمنى أن يخلده فيها إلى أبد الآبدين. ففي تلك القصيدة العصماء يختار بمنتهى الشجاعة، لا بل وبمنتهى العجرفة، أن يرى نفسه في المظهر السلبي المطلق لمماته، أي خسارة للدنيا ومكسباً للتاريخ في آن واحد معاً- ولكنه في كلتا الحالتين يرى نفسه موضوعاً نموذجياً. فتخيله لمماته، في المحصلة، جاء به من خلال القصيدة وأعطاه شكل ردود الأفعال المتناثرة على خسارة جرى تحويلها إلى حدث. وهكذا تمكن سويفت من أن يصبح جزءاً من التاريخ وسيداً له على الرغم من البلايا المعزوة للغة من قبله.
إن النقطة الأخيرة بحاجة لتوكيد خاص. لقد كان سويفت يعلم علم اليقين أنه، بمقدار ما كان الأمر متعلقاً بالأجيال التالية، إنسان ملتزم باللغة (أي متورط بها وأسير لها)، مهما كان الظن به خلاف ذلك. فبعد مماته كانت الأجيال اللاحقة سوف تتلقفه بالصورة التي كانوا سيقرأونه بها: إذ إنه لن يكون البتة منظوراً أو مسموعاً. وإن ما كان سوف يبقى منه على قيد الحياة في المستقبل لن يعدو الكلام الناتئ، شريطة أن يكون بمقدوره ترتيب ذلك الأمر بطريقة ما. ومع ذلك فقد كان يعمل بدون شك ضد نفسه. فخلال معظم حياته كان يعتمد بمنتهى الثقة على شخصيته وعلى الشخصية الكلية الوجود- أكثر من اعتماده على الصنعة الكتابية الموثوقة لكتابته. وبغض النظر عما فعله، فإن حقيقة وجوده بشكل طارئ طغت على بعزقة جهوده وعلى تباين أقنعته لصالح الكنيسة والدولة وإيرلندا والتعلم التقليدي والمبادئ الأخلاقية. ولئن كان الشعور حيال تلك المؤسسات، كما أشرت من قبل، بأنها في خطر محدق يهددها بالزوال، فقد اضطلع سويفت بعبء توكيد دوام وجودها. وإن قالبه الفكري جعله يتعهد هذه التوكيدات في شكل تقليدات مكتوبة لعدوّه، تقليدات سارت في الاتجاه المناقض مرات عديدة وأوغلت في الخيال والوهم والتشوش المزعوم. لقد كانت اللغة أداته، كما كانت أداة عدوه، ولكنه كان أكثر قدرة من غيره على استغلال المظاهر السلبية لأداته: رشاقتها ووقتيتها، وقدرتها الكامنة على الغش المثالي الذاتي المطلق. فكولريدج، كواحد من ضمن عديدين، كان يرى أن هذه المقدرة لدى سويفت بمثابة موهبته الفذة. وإن الشيء الذي كان يرى فيه العدو، العدو الذي كان يهاجمه سويفت، نتيجة محتومة لفكر متصدع، كان بالنسبة إليه المهمة المقصودة لتحليله القاهر الذاتي المنهجي والمنطقي والبارع فنياً. فهكذا كان أسلوب سويفت.
إن التهديد الذي كان يتهدد سمعته بعد مماته أمر واضح. فاليوم، مثلاً، لا نزال نقترب منه على أساس شيء من التماسك المنسوب لعمله، والتماسك الذي نعتبره متصلاً به بصلة القربى كثمرة لجهده، ولكن هذه الصلة تحديداً هي ما تتنكر لها كتابته تنكراً كبيراً.
فكراسة "اقتراح متواضع" تعلن عن نفسها على أنها فكرة أي إنسان إلا سويفت، ومع ذلك فإنها بقلمه دون أدنى شك. وهكذا فإن الحضور، كما يقول جويس في بوليسيس، أسمى شكل من أشكال الغياب. فهذا التبصّر صحيح عن اللغة قبل أي شيء آخر، وهو التبصر الموجود بشكلها المكتوب كبديل عن وجود كاتبه. إن أي بديل عن الشيء الحقيقي محكوم بسرعة الزوال، وبقانون الاستبدال اللانهائي. فلقد كان الخوف من هذا المصير هو الشيء الذي أخذه سويفت بحياته في قصيدة "أشعار...." بتركه نفسه تموت على البطاقات وفي حفلة استقبال والبول، وفي حوانيت باعة الكتب. إن حدث مماته، "النبأ الذي سرى في نصف البلدة"، خسارة مستحبة -وفقاً للقانون الساخر الذي جاء به لاروشفوكو- كخسارة "لم يعد من السهل تعويضها". ومع ذلك فبتبديد كل طاقة النبأ، الأمر الذي جاء متوازياً مع سرعة تبدل المشاهد في القصيدة المثقلة بتضييع الزمن، فإن ممات سويفت يتحول شكله من تشكيلة من الإشاعات التي تتناقلها الألسن إلى ذلك الحدث الذي لا يستطيع إطلاق حكم صائب عليه إلا صوت مجهول حيادي.
إن القصيدة محكومة بسلسلة من المفارقات المحبوكة التي ليست مجرد مفارقات بلاغية وحسب: إذ من هنا، كما أعتقد، تحتل القصيدة مكانتها الخاصة كمنطلق لأية قراءة لسويفت ولأي تحقيق لنصَّه. فهذه المفارقات ما هي كلها إلا نتائج لتلك البنية التي يتعذر الدفاع عنها والتي توحد الوجود البشري. وهذا هو التعارض فيما بين مطلقات الحياة (الولادة، الموت، الفردانية، الجماعة، أي الطبيعة بوجيز العبارة).
وبين مظاهرها الخاصة التي تشوهها وتجعلها نسبية. إن قوة هذا التعارض وعقمه يتمثلان في المطلقات التي لا تظهر فعلاً في القصيدة لأن التفاصيل تهمين عليها هيمنة كاملة. ومع ذلك فإن سويفت بمنتهى الجدارة يبيّن الأمر التالي ألا وهو أننا، في الوقت الذي نتعرض فيه للغيظ من الحالة الواهية التي آلت إليها الدنيا، نبدأ بالتأثر من الفن الرفيع الذي حول الدنيا إلى تلك الحالة الآنفة الذكر. فهذه النتيجة تماثل تماماً النتيجة التي توصلت إليها كراسة "عن الشعر".
إن المثل الذي ضربه لاروشفوكو يدخل بنا مباشرة إلى دنيا مشتقة من الطبيعة، ولكن بما أن فحوى ذلك المثل هو خطيئة الجنس البشري فإنه ينطوي بداهة على لاروشفوكو في الوقت نفسه أيضاً.
في كل الكروب التي تحل بأصدقائنا،
نراعي أول ما نراعي أغراضنا الخاصة،
وفي الوقت الذي تحدب فيه علينا الطبيعة لتهدئة بالنا،
فإنها تلفت نظرنا إلى ظرف ما لإدخال البهجة على نفوسنا.
ولذلك فإن القصيدة مفصولة تماماً عن أي ملاذ خارج إطارها، وإلى هذا السجن الهادئ يركن الراوي توا وهو يطالب "بإنش واحد كحد أقصى" ليكشف فيه عن رغبته، عن انسجامه التام مع مسيرة الدنيا، كي يرتفع فوق مستوى أقرانه. فالنسبة للكاتب يعني هذا حرفياً أن تأليفه الكلامي سيحتل مكاناً ينكره الكاتب على غيره، ويهرع سويفت دون إبطاء لتبيين فعالية ملاحظة لاروشفوكو. ولكن يجب علينا أن ننتبه كيف أن الأمثلة التي يضربها سويفت هي ما دعاها بالمزاح، لأن ما يحسد عليه بعض الأصدقاء من أمثال (بوب وغي) هو موهبتهما، علماً أن هذه الطريقة هي الطريقة السلبية لكيل المديح لهما. فحين يتهمهما، في البيتين 60 و61، بأنهما ساقاه إلى أن يبدو "عتيق الطراز" يجدر بنا أن نلاحظ التغيير الذي طرأ على لهجته: فالمزاح على الأصدقاء يخلي سبيله لاتهام خطير موجه لتلك الأوقات التي صارت ملكاً لوزراء الدولة الذين صار بمقدورهم معاملته بخشونة (وقد عاملوه بها)، وذلك لأن زمانه وحظه الطيب -في ذروة عز سلطة المحافظين- أثارا استياءهم. فلا روشفوكو سلاح ذو حدين.
ومنذ هذه النقطة فلاحقاً تصبح القصيدة محكومة بالنظام الزمني المحتوم الذي يقود أي إنسان إلى حتفه. وهذا النظام واسع بما يكفي لاحتواء لا التسليات التافهة للإنسان المتبطل وحسب بل والحكم السامي للتاريخ أيضاً. إن النقطة المركزية في الزمان هي حدث ممات سويفت المطروح، كعقدة ثابتة، في وسط ثلاث حركات تنبثق عنه وتحيط به. فقبل أي شيء هنالك حركة الانتشار التي بها نبأ ممات سويفت ينتشر في طول البلدة وعرضها. وثانياً، وهذا أقل وضوحاً من سابقه، هنالك تأريخ موضوعي يحملنا قدماً إلى الأمام إلى مستقبل بعد ممات سويفت بردح طويل من الزمن. وثالث هنالك حركة القصيدة نفسها، أي ذلك الإنش الذي يتوسع إلى أن يصبح في النهاية بنية كلامية هائلة، إن غاية القصيدة هي الإتيان بحدوث الإنتشار، فالعميد يبدأ بالموت، "فهو بالكاد يستطيع التنفس" ومن ثم يموت- “فما هي الخاتمة البهيجة؟". فالشيء الذي يتبدد ويضيع هو القسط التافه من العميد، ذلك القسط الذي صار ملكاً للناس الآخرين. إن أداة التبديد البارعة صارت ضحية الإنهاك لا لأن التاريخ ابتلعها، كما كانت عليه الحالة بالنسبة لكراسات سويفت السياسية، بل لأن السبب على الأرجح كان يكمن في أن مصدر فاعليتها هو حقارة القيل والقال، مصدر من مصادر المحادثة المهذبة التي ليس لها أية ديمومة أو وضعية حقيقية. وهذه المحادثة لا تمت، قبل أي شيء آخر، لا للعالم العمومي ولا للعالم الخصوصي، ولكنها تمت لنظام كلامي مستقل الاستقلال الناجز، أي إلى ذلك النظام الذي يطمس معالم أية علامة فارقة. وإنه لنسخة اجتماعية عن نفس ذلك النظام الذي يتغلب على الدنيا في نهاية "كومونويلث الأغبياء".
ومن الجدير بالذكر أن ممات سويفت يحدث في المحادثة، أي في اللغة- لا في مكان آخر. ولذلك ليس بوسع القارئ أو الشاعر أن يتغلغلا خلف البعد الكلامي، الأمر الذي يعني فرض معيار بشري على الطبيعة ("عالم مشتق من الطبيعة"). وهكذا فحتى موضوع على تينك الخطورة والبداهة الكبيرتين كالموت لا يمكن معالجته إلا كوظيفة من وظائف اللغة: ومن هنا يأتي التصنع البريء الذي تجيء به إرشادات الشاعر المسرحية وانتقاله المفاجئ بالمشاهد التي يترتب فيها الموت شفهياً. فالمشكلة التي يتعرض لها سويفت حينئذ هي تبيينه أن اللغة هي الحلبة التي تتصارع فيها الأعمال الأدبية بعضها مع بعض إلى أن لا يبقى في تلك الحلبة إلا أكثر الأعمال جدارة وأهمية. وإن ما يتبقى من سويفت لا يمكن وصفه، بعد ردح طويل من الزمن، إلا من قبل صوت حيادي مغفل قادر على أن يتفهم أن سويفت كان رجلاً أكبر من زمانه بكثير- وهذا دليل على ذلك الإحساس العجيب الذي كان يحسه سويفت تجاه نفسه ويتوقع فيه أن يكون مشكلة عويصة أمام المستقبل.
إن إطار المشهد الختامي للقصيدة لشيء بارع الحبكة، لا بل وأبرع الأشياء التي فعلها سويفت في حياته:
احسبوني ميتا، ومن ثم افترضوا،
أن احتشد لفيف من الناس عند الوردة،
حيث جراء حديث من هذا وحديث من ذاك،
أكبر لأصبح موضوع حديثهم،
وبينما هم يلهجون باسمي هنا وهناك،
بعضهم بالتأييد وبعضهم بدونه،
وأحد ممن لا علاقة له البتة بالأمر،
يرسم شخصيتي النزيهة.
(الأعمال الشعرية، 506)
إننا نلاحظ هنا أن الحديث من هذا ومن ذاك يستنفذ نفسه بنفسه، في حين أن سويفت موضوع الحديث، أي، موضوع التاريخ يكبر: لا بصورة تلك الشخصية التي شاخ أيضاً وضعها البشري وأكل الدهر عليها وشرب، بل بصورة الشخصية النزيهة التي تبرز لتحتل لها وجوداً أكبر فأكبر. إن مثل هذه الشخصية بإمكانها الصمود والبقاء في التاريخ كتكملة للزمن المحدد الذي تجاوز حدوده سويفت باعتباره كان أكبر منه بكثير: "فلو أنه صان لسانه وقلمه/ لبُعث كغيره من الناس الآخرين". وها هو الآن يبعث من جديد، لا كإنسان بل كموضوع. وإن عبارات الوصف متسقة تمام الاتساق تقريباً مع عبارات المبالغة، ومع العبارات المتناقضة مع عادات وتقاليد زمانه تناقضاً كبيراً إلى ذلك الحد الذي يجعل السلطة والدولة عاجزتين عن احتوائه.
مع الأمراء كان يحافظ على الذوق اللائق،
ولكنه ما وقف البتة خاشعاً أمامهم،
ومع جلالة الملكة، بارك الله بها،
كان يتحدث بحرية وكأنه يتحدث إلى وصيفتها،
إذ كانت تظن ذلك نزوة خاصة به،
وما كانت تسيء الظن بكل ما يخرج من فمه،
لقد عمل وفق موعظة داوود تماماً،
إياك أن تثق بالأمراء،
ولئن كنت تريد إثارة غيظه فعلاً
فحرّضه بذكر عبد في السلطة:
مجلس الشيوخ الإيرلندي، على سبيل المثال،
يا لكم انتقده بنفاذ صبر:
قسط من الحرية كان كل مطلبه،
من أجلها وقف مستعداً للموت،
دفاعاً عنها وقف بمفرده ببسالة،
من أجلها عرّض حياته للخطر،
مملكتان، وكأنه قام بانشقاق حزبي،
وضعتا ثمناً لرأسه،
ولكن تعذر العثور على خائن،
يبيعه مقابل ستمائة جنيها.
(الأعمال الشعرية، 507)
لقد دافعت السماء عن براءته (1-429)، ولذلك فإن سويفت يبلغ سيادته الخاصة به جراء تجاوزه الحدود المألوفة المتجسدة بالملكات والأمراء "بذوق لائق". وهنا أيضاً يصور سويفت نفسه في تلك الحالة الموقوفة عليه وحده، الوحدة بين الذوق والحرية- حالة تذكرك بعبارة بلاكمور "الفوضى الرجعية". هذا في حين أن بولسون يسمي هذه الحالة بالدمج "الذي دمج فيه سويفت بين استغلاله الساخر لوضعيته وبين تأملاته الجادة فيه". ولكنني أعتقد أن القسط الهجائي الواضح من القصيدة قد أرجأه سويفت ليس أسلوباً أو نوعاً أدبياً (وهذا ما خلص إليه بولسون)، وإنما هو على الأرجح منوال سيادته وتجاوزاته وكان بالفعل نمط وجوده المفهوم. وباختصار، كان الهجاء لقب تطرفه وكان، كما يبرهن على ذلك ميراثه لإيرلندا) البنية الموضوعية لديمومته السلبية في التاريخ.
ربما قد أجيز للعميد
أن يكنّ في سريرته فيضامن الهجاء،
وأن يبدو عازماً على عدم ضموره،
إذ لا عصر يستحقه كهذا العصر،
ومع ذلك فلم يكن الحسد من أهدافه،
لقد هجا الرذيلة وأغفل الاسم،
وما كان بمقدور امرئ أن يمتعض،
في الوقت الذي كان المقصود به الآلاف على قدم المساواة،
هجاؤه لا يشير إلى أي عيب
إلا العيب الذي بوسع كل المخلوقات تصحيحه....
"لقد تبرع بالثروة الصغيرة التي كان يملكها
لبناء منزل للبلهاء والمجانين:
وأبدى بمسحة هجاء وحيدة،
وما من أمة أرادته مقزعاً بهذا المقدار:
تلك المملكة تركها لدائنه،
وأتمنى لها قريباً صاحباً أفضل".
(الأعمال الشعرية، 512-513).
إن "الأشعار" تُسلِم سويفت للتاريخ في نهاية القصيدة. فثمة حدث حقيقي يصبح قيد التخطيط في العنصر الخيالي من اللغة ويودع بجرأة ضمن التشوش المطلق للهذر وخارج إطار العالم، إلى أن يتحول القسط الذي يجب أن يضيع إلى مكسب مؤكد "نزيه" للأجيال اللاحقة، وفي تلك العملية يموت بالطبع سويفت الإنسان وينطمر في توافه ذلك العصر الذي ما كان بمقدوره أن يسمح لسويفت بالحياة فيه، ولاتركه يعيش فيه أيضاً. فهذا الشيء يجب أن يكون مصدر الخرافة الراسخة عن جنونه- نفوره من قواعد الحشمة المألوفة التي كان نفسه يتوق إليها والتي أمانته المفرطة، في السنوات الأخيرة من حياته، أجبرته على الاعتقاد بأنها اندثرت وتلاشت. ولذلك فقد تصور نفسه بأنه عاش ومات في تلك الخسارة. ومع ذلك فإن القصيدة تبين كيف أن منفاه الإيرلندي قد أعيد إلى سابق عهده كموضوع للمحادثة، لكن لا كشخصية بتاتاً ولا ككتلة من الأعمال، بل كحضور بالنسبة لأولئك الأفراد الذين يستطيعون أن يتقبلوا، كما تقبل هو، الخراب والسلطة في آن واحد معاً. ففي ذلك الوضع، بين الدنيا والمحفوظات، يحافظ سويفت على ديمومته، شطر منه هنا وشطر هناك. فلقد كان خياله هو المقاول لتلك الصفقة الصعبة، وتحدّ عسير غاية العسر بالنسبة للقارئ في القرن العشرين.
nnn


([1]) نسبة إلى ليست وباخ.

([2]) نسبة إلى ليست وباخ.

([3]) لعبة جماعية يسير فيها اللاعبون حول الكراسي أثناء عزف الموسيقا، ويكون عدد الكراسي أقل من عدد اللاعبين بكرسي واحد. وحين تتوقف الموسيقا يخرج من اللعبة اللاعب الذي فشل في حصوله على كرسي.

([4]) الاسم المستعار للروائية الإنكليزية ماري آن كروس (1819- 80)- المترجم.

([5]) إنه إحدى الشخصيات الرئيسية في رواية للكاتبة المذكورة أعلاه، وتحمل هذه الرواية عنوان "ميدل مارش" وهو اسم البلدة الريفية الانكليزية التي جرت فيها أحداث الرواية. وهو معلم متحذلق عجوز ومتحمس دينياً يتزوج من شابة باسم دوروني بروك، وهي شخصية رئيسية أخرى ومتحمسة دينياً أيضاً للقديسة تيريزا، ولكنه يقضي شهر العسل منهمكاً "بالعبث في الأتربة العضوية بلا جدوى" كما قال ابن عمه الشاب "ويل ليدزلو"، وبعد حين من الزمن تساوره الشكوك بأن زوجته تميل إلى ابن عمه ويصبح الزواج تعيساً.
ونظراً لذلك يضيف، بمنتهى الخسة، ملحقاً سرياً على وصيته يطلب فيه حرمان زوجته من الميراث إن تزوجت مستقبلاً ابن عمه ويل. - المترجم.

([6]) السيد حامد بن إنجيلي: اسم وهمي لكاتب عربي اختلقه سرفانتس وعزا إليه قصة دون كيشوت.- المترجم

([7]) إننا بأمس الحاجة لوجود إنسان بيننا، من الداخل، كغوته- المترجم.

* السترلد برغز: في رواية "أسفار غوليفر"، كان هذا النعت هو النعت الوطني في مملكة لوغ ناغ، وقد أطلقه سويفت على أولئك الناس الذين ما كان بمقدورهم أن يموتوا، ولكنهم بعد سن الثمانين يستمرون على قيد الحياة بحالة من العجز واليأس، وعلى الرغم من اعتبارهم قانونياً موتى فإنهم يتلقون معونات زهيدة من الدولة- (المترجم).
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 08-28-2012, 12:04 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي



3- سويفت المفكّر



لأسباب تتعلق بالنقاد المعاصرين وتتعلق، في الوقت نفسه، بما يقدمه لهم عظماء الكتاب الأوغسطيين، فإن مطلع القرن الثامن عشر في إنكلترا لم يكن موضع التجاوب الخاص من لدن أكابر المنظرين الأدبيين المعاصرين. فإذا قارنا نوع التعامل الذي تعامله الوعي النقدي الحديث مع شخصيات من أمثال دكتور جونسون وستيرن وغيبون وريتشاردسون، ومع ما فعله ببوب وسويفت، لوجدنا أن التناقض صارخ. وثمة طريقة أخرى لتفهم ما أعني هي التوقف عند مبلغ التشوق الذي بلغته دراسة غيبون وجونسون، مثلاً، لدى غير المتخصصين في القرن الثامن عشر. فسيرة جونسون بقلم والتر جاكسون بيت أو ندوة ديدالوس عن غيبون لهما طريقة في استقطاب الانتباه العام بالنظر للجدارة الفعلية لموضوعيهما وبالنظر أيضاً للمتعة التي قد يجدها القارئ المثقف بالطريقة التي تناولت هاتين الشخصيتين. إن مثل هذه المتعة لم تكن بكل بساطة متوفرة بالعمل الحديث عن سويفت. فلقد قامت هناك أعمال من قبل نقاد مشهورين من أمثال إيرفين إهرنبريس ودانيس دونوغو، ومع ذلك تبقى ماثلة للعيان تلك الحقيقة المرة عن تقويم سويفت بأنه، دون زيادة أو نقصان، كاتب كلاسيكي. فلماذا يوجد إذاً ذلك الفراغ، تلك الهوة المشؤومة بين احتمال كون سويفت كاتباً ذا طاقة فائقة لدى النقاد المحدثين وبين ذلك الأداء المخيب للآمال خارج إطار الزمرة الاحترافية في بحوث القرن الثامن عشر؟
إن من الممكن جداً أن ما قد ندعوه بالنقد المعاصر المتطور لم يتنبه لسويفت كنتيجة لمصادفة بسيطة، وإن من الصحيح، في خاتمة المطاف، أن يكون نورمان أو. براون قد درس فعلاً سويفت دراسة أثنى فيها عليه الثناء العاطر قبل عشرين سنة ونيف، وبما أن كتابه المعنون بـ "الحياة ضد الموت" كان وقتها عملاً رائداً، فإن هنالك إمكانية طيبة في أن يصبح سويفت من جديد ذلك الكاتب النموذجي للنقد المعاصر الطليعي. وبوسعنا أن نؤكد، بكلمات أخرى، أن الزمن لم يحن بعد، بيد أنه سيحين ولابد.
ومع ذلك فهذه المقولة مقولة ترفض النظر نظرة جادة إلى الظروف الفكرية والثقافية التي جعلت، في طول التاريخ البشري وعرضه، تجاهل بعض النصوص المعينة أو الانكباب عليها أمرين خاضعين لا للمصادفة المحض بل للإرادة المتعمدة والاختيار المقصود. ولكن فيما يتعلق بحالة سويفت الهزيلة والمطروحة على أئمة النقد المعاصر فهنالك أسباب عديدة للظن بأنها نتيجة لبعض القرارات الملموسة جداً.
وإني لأعتقد، بادئ ذي بدء، أن ما يجب قوله يكمن في أن سويفت، فضلاً عن بعض معاصريه من أمثال درايدن وبوب، ناهيك عن ستيل وآديسون وبولينغبرك، كان المستفيد بالأساس من نوع معين من الدراسة. وعلاوة على ذلك فإنني لا أقصد التهكم حين أقول أن الإطراء الكبير حق لأولئك الدارسين الذين يؤكدون على صحة آثار سويفت وعلى رصانته النصية- وهي بالمناسبة شيء هام جداً في خاتمة المطاف- إلى ذلك الحد الذي جعل تناولهِ مغامرة مثبطة للعزيمة، ففي حالة سويفت هنالك وقائع يجب أخذها بعين الاعتبار من أمثال الطبعات العظيمة التي طبعها هارولد وليامز وهربرت ديفيس. وإن العمل الذي جاءت به هاتان الطبعتان لعمل على مستوى رفيع جداً، كما أن تركيزهما على الوقائعية البحتة كان كبيراً ودقيقاً جداً أيضاً (وهذا ما يجب على الناشرين الأكفاء أن يقدموه للمرء) حتى أن سويفت ليبدو أقرب إلى القسيس الأنجليكاني الصريح والجلف بعض الشيء مثلما كان ولابد في بعض سنوات حياته الفعلية على الأقل، والواقع لا يشير إلى أن دراسة سويفت قد حددت سطوع نجمه، بل يشير إلى أن الدارسين، بعد حل العدد العديد من المشكلات النصية حلاً رائعاً تماماً، شعروا بشيء من الإحجام عن المغامرة خلف ذلك الميدان. ولقد صار ذلك الميدان بالفعل أشبه بجو النادي، الأمر الذي لا يثير الكثير من الاستغراب إن تذكرنا أن حلقة سويفت خلال أيامه اللندنية كانت تدعى بالنادي.
إن مظهراً هاماً من مظاهر النادي بالنسبة للقراء المحدثين كان على ما يبدو موضع تحديد ما دعاه لويس بردفولد، قبل بضع سنين، بكآبة الهجائين في حزب المحافظين. فهذه النظرة إلى سويفت وبوب وآربثنوت ما هي، في اعتقادي، إلا لازمة فكرية طبيعية للدراسة النصية التي تحدث عنها قبل هنيهة من الزمن، والتي يجب أن يوافق عليها معظم قراء سويفت وبوب لأنها صحيحة ومقنعة في آنٍ واحد معاً. وبمقدار ما كان الأمر يتعلق بالطبيعة البشرية فإن سويفت كان متشائماً، وسواء أكنا ننتمي في التحليل الأخير إلى مدرسة "الصقور أو الحمائم" من مؤولي رواية "أسفار غوليفر" علينا أن نقول بأن الياهوز* "Yahoos" يمثلون، بمعزل عن بيئتهم، فكرة عن الطبيعة البشرية أقرب ما تكون، ولو على مضض، لفكرة بعض بني البشر. وإن القول، علاوة على ذلك، أن وجهة النظر هذه تتطابق مع وجهة نظر سويفت لقول معظم القراء على استعداد لأخذه بعين الاعتبار وذلك لأن الفكرة المعممة لسويفت عن السخط الشديد "saeva indignatio" لفكرة متأصلة جداً في الوعي الثقافي.
إن المشكلة مع هذه القراءات التي تناولت سويفت هي أن تواترها وشهادتها قد حشراه إما مع عصبة من أقرانه ذوي التوجهات الذهنية المماثلة لتوجهاته (مع هجائي حزب المحافظين) وإما مع زمرة من المعتقدات التي لا يصعب استكشافها من كتابته. إن كل عمل سويفت، باستثناء "حكاية حوض" التي أذهلت حيويتها الفياضة كاتبها نفسه في وقت لاحق من حياته، يعزز في حقيقة الأمر فلسفة محافظة صارمة إلى حد ما، لا بل وفلسفة مقيتة. فالإنسان إما أن إصلاحه متعذر أو هو نزاع للبذاءة أو الفساد أو الحقارة، إذ إن الجسد مقزز بمنتهى البداهة كما إن التعصب، كمخططات الغزو أو مخططات مشروع شبه علمي، خطير ويهدد الجماعة السياسية، علاوة على أن كنيسة إنكلترا والآداب الكلاسيكية والملك (هذه المؤسسات الثلاث التي كان سويفت يعتقد بأنها مغروسة في العواطف القويمة لإنسان من أشياع كنيسة انكلترا) كانت تشكل بعضها مع بعض أعمدة وتراث الصحة البدنية والأخلاقية- وهذا الإيجاز ليس بالإيجاز المجحف لعقيدة سويفت، وهنالك عدة سمات أخرى مَرَضية إلى حد مؤسف ما أن توضع بحذاء جموح خيال سويفت، جموحاً تصعب السيطرة عليه إلا بشق النفس، حتى تقدم لنا رجلاً نظرته ضيقة ومحدودة، لا بل وسادية.
وهكذا فلن يجادل إنسان عندئذ أن سويفت هو ذلك الكاتب الفقهي أو الكلاسيكي لأنه يقدم للقارئ، شأنه بذلك شأن جونسون مثلاً، حيوية الذهن مقرونة بصحة المنطلق. فهو لا يشبه جونسون الذي تستهدف حركة كتابته فتح الأشياء، في حين أن كتابة سويفت تستهدف إغلاق الأشياء. وحتى لو وافقنا مع هربرت ريد على أن سويفت هو أعظم أسلوبي ناشر في اللغة الإنكليزية، فإن من المحتمل أن نشعر بأن تأثيراته عقيمة في جوهرها وصعبة وضيقة. فهو ينتمي إلى زمرة هامة ومصطفاة -من مثل شيكسبير كاتب ترويلس وكريسيدا، وميلتون في بعض الأحيان وجيرارد مانلي هوبكينز- التي قلما تستطيع اللغة، بالنسبة إليها، حمل عبء هذا الشيء من الإلحاح أو ذاك كي تصبح للتو، جراء ذلك، وبقوة متكافئة، حزينة ومحزنة. ففي سورة غضب لغة سويفت المكثفة والمصقولة إلى حد رفيع في آن واحد معاً، هنالك حيز صغير لما دعاه وردزورث بالموسيقا الحزينة الهادئة لأفراد الجنس البشري. وإننا نجد أنفسنا نتعامل مع التواءات الفكر وبهلوانيات الروح التي تخادعنا وتناقشنا ولكنها تميل إلى نبذنا في النهاية، لأن سويفت يجسد شخصيات على الدوام لا نحب أن نتماثل معها. فالأسئلة التي نتساءلها حين نقرأ سويفت هي في العادة من نوع "ما الذي يدور" أو"كيف تجري الأمور". وإن أمثال هذه الأسئلة تبرز أمامنا بشكل منطقي نظراً، وبالتحديد، لاقتضاب السطر لدى سويفت اقتضاباً لا يصدق، الأمر الذي يمثل جوهر الوصف الذي وصف به جونسون الأسلوب إذ قال “كلمات مناسبة في أمكنة مناسبة"، وهو الوصف الذي ليس بمقدورنا أن نضيف عليه إلا "وبإفراط".
وحري بنا أن نمضي قدماً إلى الأمام ولو قليلاً لتوكيد الحدود التي حجزت وراءها على ما يبدو سويفت من أن يكون مرشحاً للاهتمام النقدي الشيق. إن أكثر الموضوعات إصراراً على الصمود في عمل سويفت هو الضياع، وإن كتابته غالباً ما تبادر للإتيان بالمعنى الحرفي للضياع حتى قبل عرض طاقتها الرشيقة. ولذلك فإن المرء يفتقد في سويفت نفس بُعد الاتساع والصحة الذي يمكننا أن نراه، في سياق كتابته، مدفوعاً بعيداً عن الأنظار. فالجسم البشري، مثلاً، لا يعرضه سويفت (كما في حكاية حوض أو في أسفار غوليفر) إلا لكي يكون مهشماً أو مظلوماً باهتمام بالغ الدقة والتكثيف إلى الحد الذي يتحول فيه إلى شيء تتعزز منه النفس. إن حدة مثل هذا التقزيم ناجمة عن أن الكاتب يعرف هذا على ما يبدو، لابل وبدون الضياع بعربدة تسخر من ذاتها بذلك الأسلوب الذي يتسم بدقة براقة فريد من نوعها ندعوها بـ "السويفتية". فالأشياء التي يدور حولها اهتمام سويفت -من أفكار وبشر وأحداث- مجردة من قوتها الحقيقية أو من الحياة ومتروكة، في نثره، على شكل بقايا، أو معروضات ت*** معها الصدمة أو التسلية أو الإنسحار. فحين نفكر "بالمضمون" البشري لعمل سويفت، ونتصوره معطلاً مؤقتاً في الأسلوب البسيط، نتأكد بشيء من الانزعاج أن ما أمامنا معرضاً من العجائب والأشياء المرعبة: ككاتب مجنون ومنجّم قتيل وحرب مستحيلة ولا معقولة وكاتب سياسي متهافت (ستيل)، وقاعة تعج بزنادقة غواة، وأناس يغطون في الروث، وهكذا دواليك. إن التصاوير العنيفة للحرب والمرض والجنون والحرمان، فضلاً عن نتائج التقزيم والتعملق المطروحة علينا في "أسفار غوليفر"، كلها متجانسة مع الضياع العام الذي تعيشه حالة الاستواء والذي ينجذب إليه سويفت على ما يبدو. ولذلك فلن نكون على خطأ في قولنا أن مظهراً هاماً من مظاهر تماسك سويفت ككاتب هو العمل الفكري والروحي الفذ الذي عزز أسلوباً كأسلوبه، والذي حوّل الواقع تحويلاً على مثل ذلك التطرف بسلبية عنيفة جداً لمقاصد بالغة الضيق بمنتهى الأسف.
ليس من الممكن أن يحالفني النجاح في وصف حالة سويفت، الكاتب المحدود والكاتب المعيوب بعمق، إن لم أرسخها الآن بشيء من الإسناد إلى مقالة جورج أورويل التي عنوانها "السياسة قبالة الأدب: فحص لأسفار غوليفر"، والتي صدرت أصلاً في عدد من مجلة (بولميك) في أواخر عام 1946. إن حجتي في الإقدام على هذا هي أنني أنظر نظرة جادة، للمرة الثانية، إلى تلك الحقيقة التي مفادها أن سويفت لم ينل استحقاقه من النقد المعاصر، الأمر الذي يشكل نقصاً أعزوه، إلى حد كبير، إلى بعض الجوانب الهامة ذوات النوع العام في الاهتمام النقدي الذي حظي به سويفت، ورأيي بالطبع هو أنه حتى لو كان الواجب يقضي بالاعتراف أن سويفت شخصية معضلة، وأنه شخصية محدودة وغير جذابة بشرياً من وجوه عديدة، فإن هذه الاعترافات يجب ألا تمنعه من أن يكون موضوع النقد المعاصر الخصيب بشكل فعلي- ولكننا سوف نتطرق لاحقاً للمزيد من هنا.
إن مقالة أورويل تعود لتلك الفترة التي بدأ يتزايد فيها تحرره من الوهم فيما يتعلق بالسياسة الحديثة. إنه يقول لنا بأن سويفت كان يعني الشيء الكثير بالنسبة إليه منذ عيد ميلاده الثامن، حين أهديت إليه نسخة من "أسفار غوليفر". وإن مناقشة أورويل مناقشة عادية جداً، ومناقشة بمقدورنا، بمقدار ما تتوسع، أن نميزها من خلال قراءتنا لوكاش عن بلزاك أو من خلال قراءتنا، في عهد أحداث، فردريك جيمسون عن ويندهام لويس (في كتاب خرافات العدوان). فالسياق العام هو أن المواهب الأدبية العظيمة لأي كاتب، حتى لو أفصح عن التزامه الإيديولوجي بوجهات نظر يمينية، تمنحه قيمة خاصة. ولكن أورويل لا يحاول، على نقيض لوكاش وجيمسون، أن يبرهن على أن الكاتب تقدمي فعلاً بفضل أسلوبه أو براعته الفنية، بل على العكس من ذلك إذ يصر أورويل على أنه "بالمعنى السياسي والأخلاقي" ضد سويفت حتى لو كان "واحداً من الكتاب الذين أكن لهم الإعجاب وبأقل ما يمكن من التحفظ، ويا للعجب العجاب". وهكذا فإن محبة أورويل لسويفت مبنية على محاولة العثور على قسط كبير يستحق الإعجاب بسويفت على الرغم من أنه كان رجعياً وعدمياً ومريضاً- وهذه هي الكلمات التي يستعملها أورويل أكثر من مرة في سياق مقالته. ويشير، فضلاً عن ذلك، إلى أن سويفت كاتب من أولئك الكتاب الذين تطغى المتعة بكتاباتهم، بالنسبة للقارئ، على استهجان ما يكتبون. وإن سويفت، بالنسبة لأورويل، “في إصراره العنيد على الكتابة عن المرض والقذارة والتشوه إلى ما لا نهاية له، لا يختلق شيئاً من عندياته، وإنما يشيح ببصره عن أشياء أخرى. فالسلوك البشري هو أيضاً، لا سيما في السياسة، كما يصفه على الرغم من أنه يشتمل على عوامل أخرى أهم يرفض سويفت الإقرار بها. ومن الجدير بالذكر أن سويفت لم يكن يمتلك الحكمة العادية، بيد أنه كان يمتلك فعلاً تلك البصيرة النفاذة التي كان بمقدورها نبش حقيقة خبيئة وحيدة والعمل من ثم على تضخيمها وتشويهها، إن صمود "أسفار غوليفر" حتى هذه الأيام دليل على أن أية وجهة نظر دنيوية تكون كافية بحد ذاتها، إذا توفرت لها قوة الإيمان من خلفها وتمكنت من اجتياز امتحان المنطق السليم وحسب، لإنتاج عمل فني عظيم"(1).
إن هذا موجز معقول عن الحكم الذي أطلقه أورويل على سويفت، باستثناء أن الموجز يغفل ملاحظة ممتعة جداً سأعود إليها لاحقاً ويدعوها أورويل بمقولة سويفت عن "العنف اللامسؤول لدى الضعفاء". وأما الآن فبمقدورنا أن نقول بمنتهى الثقة أن أورويل، مثله مثل معظم الهيأت الدراسية، يجد أن سويفت جدير بالإعجاب حتى بمعزل عن كل ما يقوله عن الحياة والسياسة وأبناء الجنس البشري. وبكلمات أخرى فإن آراء سويفت تكره المرء الإكراه كله على مقت نزعتها الفوضوية وتهجماتها المنكودة على المجتمع برمته وعلى الجنس البشري، إلى ذلك الحد الذي لا يترك للقارئ الحديث إلا النزر اليسير الجدير باستحسانه أو احترامه.
واسمحوا لي أخيراً بتحديد موقفي أنا. فأورويل، من باب التمهيد، ليس مخطئاً جداً باعتبار أن رأيه متسم بالتحيز والنقص وليس بالفعل على قسط سياسي واف. وإن المرء حين يقرأ تقويمه لسويفت لا يعرف أن "أسفار غوليفر" كتاب متأخر، ولا يعرف أن سويفت كان في معظم أوائل حياته سياسياً ناشطاً، لابل وحتى سياسياً انتهازياً ورّاقاً ومحجاباً. فلقد كان حريا بأورويل أن يقرأ "أسفار غوليفر" لوحده ويستنتج من ثم آراءه السياسية من تلك القراءة المنعزلة، إذ إن النظرة إلى غوليفر بأنه يمثل كل ما لدى سويفت لنظرة مشوهة. وإن تلك التشابهات التي يقوم بها أورويل بين سويفت وكل من آلان هربرت وج. م. يونغ ورونالد نوكس الذين ينعتهم سويفت "بذلك العدد الغفير من المحافظين الأذكياء الأغبياء في يومنا هذا"، لتشابهات ذكية غبية بحد ذواتها علاوة على أنها ضيقة الأفق ضيقاً بالغاً. وإن القبول عن سويفت بأنه "لم يكن يحب الديموقراطية" يعني قول شيء لا يمت بأية صلة لسياق الزمن وذلك لأنه حتى خصوم سويفت من أعضاء "الحزب التقدمي"، ذلك الحزب الذي يمر أورويل على ذكره مرور الكرام، ما كان بالإمكان وصفهم بأنهم من المؤمنين بالديموقراطية، فهل بوسع المرء أن يصدق بالفعل أن غودولفين ودوق مالبورو، وقد كانا كلاهما عضوين في حزب الأحرار (Whigs) وهدفين لهجوم سويفت عليهما بلا هوادة، كانا مؤمنين بالديموقراطية؟ وحين يعبر أورويل عن ثقته أن سويفت كان عالماً فذاً بالغيب حيال "ما يمكن دعوته الآن بالديكتاتورية" -ومحاكمات الجواسيس وتصنّت المخبرين ومؤامرات الشرطة وما شابه ذلك- فإنه لا يستملح ذلك إلا لكي يدينه بعد برهة وجيزة على كون تفكيره "لا يدور حول عامة الناس مقدار ما يدور حول حكامهم، أو على عدم كونه مع المزيد من المساواة الاجتماعية، أو على عدم كونه متحمساً للمؤسسات التمثيلية". فأورويل على ما يبدو ليس على يقين من أن بوسع المرء أن يكون عدواً لدوداً للطغيان، مثلما كان سويفت طيلة حياته، وألا يكون له موقف متطور جداً من "المؤسسات التمثيلية".
إن الشيء الذي لا يأخذه أورويل بحسبانه هو إذاً الوعي الإيديولوجي، أي ذلك الجانب من تفكير الفرد الموصول، في خاتمة المطاف، بالوقائع الاقتصادية والسياسية/ السوسيولوجية. فسويفت جزء كبير من زمانه: ولذلك ليس من المنطق في شيء أن نتوقع منه أن يفكر ويتصرف كنموذج بدئي لجورج أورويل نظراً لأن الخيارات الثقافية والإمكانات الاجتماعية والفعاليات السياسية التي أتيحت لسويفت في زمانه كان من المرجح لها أن تأتي بإنسان كسويفت لا كأورويل.
وأما فيما يتعلق بالنظرة الشائعة عن سويفت بأنه ذلك العضو الهجاء في حزب المحافظين (Tory) فإنها بدورها تقلل من شأن سويفت كمحرض سياسي وتعلي من مقام سويفت كجلاّب للصور الغائبة.
بيد أن انطباعي يتجسد في أن هنالك تقولات أكثر من اللزوم عن سويفت بأنه ذلك المفكر الفاضل الذي كان متحمساً في دفاعه عن هذه النظرة القاطعة أو تلك إلى الطبيعة البشرية، في الوقت الذي ليس فيه ما يكفي من التقولات عن سويفت بأنه محرض سياسي محلي وصاحب عمود في إحدى الصحف وورّاق ورسام كاريكوتوري. وحتى تلك التحليلات المفيدة للأساليب الهجائية لدى سويفت، طريقة تعبيره أو شخوصه مثلاً، يعتريها الفساد أحياناً من جراء هذا التعرض. وهكذا فيبدو الأمر وكأن النقاد يفترضون أن سويفت كان بوده فعلاً أن يكون على غرار جون لوك أو توماس هوبز، ولكنه لم يتمكن من ذلك لأمر ما: وهكذا تصبح مهمة الناقد مساعدة سويفت على تحقيق طموحه بتحويله من مكافح سياسي عابث وهامشي إلى فيلسوف يقتعد أريكته ويدخن غليونه.
إن سويفت، على ما أرى، كاتب من كتاب ردود الأفعال قبل أي شيء آخر، إذ كل ما كتبه تقريباً كان رد فعل على مناسبة ما، ولكن يجب أن نضيف للتو أنه كانت له ردود أفعاله على تلك المناسبات التي لم يعمل على خلقها بنفسه. وهنالك دون شك أسباب اقتصادية جلية خلف هذا الموقف: فسويفت كان، في نهاية الأمر، متعلماً بسيطاً في معظم حياته وكان بأمس الحاجة لتلك الفرص التي أتاحها له أولياء نعمته الأثرياء بدءاً بتامبل مروراً بهارلي ووصولاً إلى الجماعة السياسية الإيرلندية في خاتمة المطاف، أي أولئك الناس الذين تحدث نيابة عنهم في "رسائل تاجر الأجواخ". فأصالته إذاً كانت تكمن في إجابته ورد فعله على المواقف التي كان يحاول التأثير عليها أو تغييرها. وهنالك ثمة شيء يقوله في "الدفاع" عن (حكاية حوض) يؤكد توكيداً بيّنا وعيه لذاته بخصوص هذا الأمر إذ يقول: "إن الإجابة على كتاب ما إجابة فعالة تستلزم من المشقة والمقدرة والنباهة والتعلم وسداد الرأي أكثر مما كان موظفاً في خلق المواقف بالدرجة الأولى". فمساهمته كانت تشقلب دائماً وتقريباً كل ما كان يبحثه جراء استطراده إلى مواقف أو أشخاص أو كتب جديدة في كتابته، فهذا هو الخلق الجديد الذي استولدته بكل إصرار أساليبه في المُحاحكة، والذي اقترن بفلتان الطاقة فلتانا جامحاً يربو على المقدار الذي أتيح له في البداية، علاوة على فيض كبير من السخرية.
وما أورويل إلا على صواب مطلق حين يقول بأن سويفت يهاجم، في "أسفار غوليفر"، ذلك الجانب من الديكتاتورية الذي يجعل الناس "أقل وعياً" على العموم. وهنا تحدوني الرغبة في أن أشتط قليلاً وأضع الأمر في مصطلحات إيجابية. فهدف سويفت يتمثل في أن يجعل الناس أكثر وعياً فيما يتعلق بما يدور حولهم. إذ كما قال أوسكار وايلد "ما من طبقة تعي أبداً معاناتها الخاصة بشكل فعلي، وهي بحاجة لمن يحدثها عنها من الناس الآخرين، وغالباً ما تصدقه تماماً..... فالمحرضون السياسيون هم تلك الزمرة من الناس المتطفلين ممن يدسون أنوفهم ويهبطون إلى مستوى طبقة ذات ضنوع مطلق في المجتمع لكي يبذروا بذور السخط بين أفرادها. وهذا هو السبب الذي يجعل من وجود المحرضين أمراَ ضرورياً جداً(2)، فالأسلوب التحريضي الذي يدس أنفه به سويفت ويتطفل ما هو دائماً إلا لكي ينسف أو يستنبط مضامين كتاب أو موقف أو وضع ما، من تلك التي لولا ذلك لتقبلها الناس بمنتهى الغباء. ولذلك فإنه بهذا الأسلوب يستحث الوعي والإدراك وينشّط التبيين. ولكن الشيء الذي جعل قراءه اللاحقين (ولربما حتى قراءة المعاصرين) يتذمرون من كتابته هو أنها كانت تبدو في غاية التطفل على الأمر الذي ترد عليه. إن تصاوير سويفت للشخصيات كانت تبدو إما أقرب مما ينبغي للصور الكاريكاتورية عما تصوروا وإما صارمة أكثر مما ينبغي حيال التسامح مع ما تقترحه كبديل: فصورته عن ذلك الإنسان الأخرق في "حكاية حوض" مثال عن القول الأول، في حين أن صورته عن الياهوز والهوينهنهنمز* تؤدي دور الأمثلة عن القول الثاني. وهكذا فإن صرامة سويفت كانت عندئذ بحاجة للتليين من خلال التعريج على الروح العامة في حزب المحافظين، الذي كان ينتمي إليه، أو من خلال الهذر أو الجنون الإنساني الذي لم يكن ليتيح له أي خيار آخر. فليس من المستغرب إذاً أن يكون كولردج قد تحدث عن سويفت بأنه روح رابلييه في مكان مجدب (in sicco anima Rabelaisii).
وهنا أريد أن أقترح أننا إذا اقتصرنا في نظرتنا إلى سويفت لاكفيلسوف ولا كمجنون ولا حتى ككاتب "خلاق" وفق مقتضيات هذا النعت، بل كمفكر، فإن نشافته وصرامته وقسوته ستبدو أكثر انتظاماً وعصرية إلى حد كبير جداً. فمما لا شك فيه أن سويفت كان يريد من الحياة أكثر من أن يكون مجرد عميد الكنيسة الإنكليزية، أو أنه كان يأمل تسنم منصب وزاري ذات يوم بمساعدة هارلي وسانت جون، أو أنه سيحظى بنصيب أوفى من الثروة والجاه وأكبر مما كان يتيح له مبدئياً موقعه المتواضع. ولكن هذه المطامح لم تمنعه، مما كان حجم إحباطه من تحقيقها مغيظاً له، من أن يكون نشيطاً وقوياً وفعالاً حين كان يمارس كتابته. وقصارى القول هنالك الكثير مما يمكن أن يقال عن سويفت، وأكثر من الكثير مما يمكن أن يستقطب اهتمام الناقد المعاصر في إنجازات سويفت الفعلية والمحلية.
إن من المحتمل ألا يكون الانطباع العام عن المفكر قد اقترن بأي عصر من العصور قبل القرن التاسع عشر المنصرم، كما إن دور المفكرين في المجتمع لم يكن محط الدراسة في أي عصر من العصور التي سبقت الثورة الفرنسية. فكتاب لويس كوسر المعنون بـ "رجال ذوو أفكار"، الذي هو بمثابة أفضل مسح تاريخ للمفكرين الغربيين المحدثين، يقتصر في وصفه لإنكلترا زمن القرن الثامن عشر على بضع صفحات عن مقاهي لندن اعتماداً منه على الفصل المكتوب بقلم هارولد روزيتي عن أديسون وستيل في "تاريخ كمبردج للأدب الإنكليزي" الصادر في عام 1912. إن كوسر على حق حين يقول أن المقاهي كانت على مستوى المراتب الطبقية إذ كانت "ترعى قيام احترام وتسامح جديدين حيال أفكار الآخرين وتشجع الوداد الاجتماعي وتفضي إلى نشوء أنماط جديدة من التكامل "القائم على تجاذب أطراف الأحاديث(3) ولكنه مخطئ تماماً حين يستثني من البحث النشاط الفكري النابض بالحياة والجاري في الصحافة إبان تلك الآونة. وعلاوة على ذلك فإن الشرطين اللذين وضعهما كوسر "لمهمة المفكر كي يكون مقبولاً اجتماعياً ومقدراً حق قدره اجتماعياً يمكن الإتيان على ذكرهما هنا بشكل مفيد:
فأولاً يحتاج المفكرون إلى جمهور، أي إلى حلقة من الناس الذين يستطيعون توجيه كلامهم إليهم والذين يخلعون على المفكرين التقدير الضروري. وإن مثل هذا الجمهور سيوفر في العادة المكافآت الاقتصادية، بيد أن الامتياز أو التقدير المنوط بالمفكر من لدن جمهوره، أي مردوده النفسي، قد يكون في الغالب أكثر أهمية بالنسبة إليه من مردوده الاقتصادي. وثانياً: يحتاج المفكرون إلى ذلك الاحتكاك المنتظم بزملائهم من المفكرين الآخرين، إذ إنهم من خلال مثل هذا الاتصال، ومن خلاله وحده، يستطيعون إنشاء معايير عامة للمنهج والفضيلة، معايير عامة لإرشاد مسلكهم. وعلى الرغم من الأسطورة الشائعة حيال النقيض، فإن معظم المفكرين لا يستطيعون إنتاج عملهم في عزلة عن الآخرين، ولكنهم بحاجة لتبادل الآراء في البحث والنقاش مع أقرانهم لتطوير آرائهم. وفي الوقت الذي ليس فيه كل المفكرين نزاعين للاختلاط الاجتماعي، فإن معظمهم يحتاجون إلى اختبار أفكارهم الخاصة بهم من خلال تبادل الآراء مع أولئك الناس الذين يعتبرونهم نظراء لهم(4).
إن هذا القول لقول صحيح تقريباً عن سويفت، ما عدا أنه بحاجة للتعديل فيما يتعلق بنقطة أو نقطتين. لقد كان سويفت بحاجة لإطراء أقرانه له، هذا صحيح، ولكنه كان في الوقت نفسه بحاجة لتحقيق هدفه في الوصول إلى جمهور أوسع نطاقاً منهم، وقد حقق ذلك الهدف على العموم. فكراسة "مسلك الحلفاء" كانت بكل المقاييس أحسن الكراسات مبيعاً لا لأنها استحالت إلى كراسة عرضاً، وإنما لأن سويفت كتبها عامداً متعمداً لجمهور كبير جداً من القراء. وعلى نحو مماثل كان سويفت يكتب لصحيفة "المستنطق" بطريقة تنطوي على سحر البراعة والجاذبية حتى إلى استخدام الحيل الصحافية بغية تشجيع توزيعها على أوسع نطاق. ولكن يجب علينا، بعد كل ما قيل وجرى، ألا نقلل من قيمة الأهمية التي كان يلقيها سويفت على الانطباع الطيب الذي كان يحمله أقرانه عنه. وهذا شيء صحيح عنه إبان أيامه في لندن مع آربوث نوت وغي مثلما هو صحيح عنه إبان أواخر أيامه مع أصدقاء له في دبلن من أمثال ديلاني وشريدان.
إن المفكرين يتعاملون بتهريب الأفكار: وهذا تعريفهم بأقل ما يقال. وأما في العصور الحديثة فإن المفكرين فطنة الأخرين بأنهم يلعبون ذلك الدور الهام المتمثل بإضفاء الشرعية والرواج على الأفكار وعلاوة على ذلك هنالك موروث طويل من المفكرين كونهم من الدعاة لترويج المكعرفة والقيم المفيدة ، وهم لأنهم كذلك فطنة الممثلين لنوع من الضمير، كحراس للقيم، للمجتمع الذي يعملون فيه. وهذا بمنتهى الوضوح هو التصور الذي كان يحمله في ذهنه جوليان بيندا حين نشر "خيانة المتعلمين المأمورين" (La Trahison des clercs) في عام 1928. وإن التعريف الذي ساقه بيندا للمفكر تعريف بالغ الضيق والمثالية بلا أدنى شك، غير أن حجته دفاعاً عن وجوب التزام المفكرين بالقيم المطلقة وبقول الحقيقة بصرف النظر عن النتائج المادية لحجة تنطوي على إغراء قوي. فواجب المفكرين، كما يقول: "يكمن تحديداً في إقامة جمعية دينها الوحيد دين العدالة والحقيقة لمقاومة الشعوب والظلم الذي يئنون تحت وطأته جراء دياناتهم على سطح هذه المعمورة"(5)، وهنالك أصداء للتهمة التي وجهها بيندا للمفكرين الذين خانوا قضيتهم ووضعوها تحت إمرة الأهواء الطاغية لدولة وطبقة وعرق في كل ما كان يكتبه نوعام تشومسكي طيلة العقد الماضي(6).
وعلاوة على الفرضية القائلة أن قدوة المفكرين توجد بين أناس من أمثال فولتير وزولا وسقراط فهنالك موروث آخر يبدأ فيما كتبه ماركس وانغلز في "الأيديولوجيا الألمانية" حيث يصوران المفكر بأنه ذلك الإنسان الذي يلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على المجتمع المدني وتغييره في آن واحد معاً. وإنني أتصور أنه من الصحيح إلى حد ما أن يقال عن سويفت بأنه كان مفكراً بذلك المعنى الذي كان يقصده بيندا. فهو بالتأكيد كان يتصور نفسه على أنه بطل الضمير وعدو الاضطهاد. ولقد كان في معظم باكورة حياته إنساناً مشغولاً بالقضايا السياسية/ السوسيولوجية، ولذلك فالواجب يقضي ببحثه وهو في قلب هذا الدور المناصر للحق والعدل. ونظر لهذا الدور فإننا بحاجة للمفردات النقدية التي تنحدر إلينا من الموروث الماركسي العريض والماركسي الجديد الذي ينطوي أيضاً، ومن باب المصادفة والمفارقة، على أثر مناقض للماركسية.
ويبين كاتبا "الأيديولوجية الألمانية" أن الفلسفة، وحاشى لها أن يكون لها من لدنها حياة خاصة مستقلة ومصون، تشكل جزءاً من الواقع المادي. فالوعي نفسه أسير تحديد الظروف الاقتصادية كما يقولان، وحتى لو أردنا الدفاع، مع ماركسيين كلوكاش، عن أن ماركس وإنغلز ما كانا يقصدان أن الوعي ثمرة الظروف الاقتصادية بكل تلك البساطة، فإن الوضع بالتأكيد هو أن "الأيديولوجيا الألمانية" كتاب يسوق الحجج على أنه حتى امثال تلك الأشياء السامية كالأفكار والوعي والميتافيزيك لايمكن فهمها فهماً كاملاً دون استيعاب فيض من السياسة والسوسيولوجيا وعلم الاقتصاد. وعلى أية حال، فإن ما يهمنا هنا هو أن المفكر -الذي لم يحظ بمثل هذا النعت من ماركس وإنغلز- إما أن يكون أي إنسان منهمك ببث الأفكار التي تبدو مستقلة عن الواقع الاجتماعي أو ذلك الإنسان الذي يشبههما معاً، والذي يتقصد أساساً تبيان العلاقات بين الأفكار والواقع الاجتماعي. وإن من الواضح أن النوع الأول محافظ، في حين أن النوع الثاني مفكر ثوري وذلك لأن أي إنسان، كما يجادلان، يعرّي الأفكار من رفعتها السامية يحرض عملياً على تبديل ثوري في الوضع الفكري السائد ومن ثم في الوضع السياسي القائم. فالصراع بين هذين النوعين من المفكرين يدور، كما هو موصوف بمصطلحات ماركسية، لا في الوعي والمجتمع وحسب، بل وفي حيز منعوت بالحيز الإيديولوجي، ألا وهو حيز الخطاب الذي يتظاهر زوراً وبهتاناً بأنه مؤلف من أفكار ولكنه يتستر في الحقيقة على تآمره مع المؤسسات المادية وعلى اعتماده عليها. ولذلك فحين يتحدث برونو باور عن الوعي الذاتي، يقول ماركس وإنغلز عنه بأنه يخفي الحقيقة التي مفادها أن الوعي الذاتي يصار إلى جعله موضوعاً ممكناً للبحث لا لأنه شيء حقيقي بل لأن الفلسفة التقليدية، التي هي حليف للكنيسة والجامعة والدولة، تمكن الفلاسفة من أن يتحدثوا بتلك الطريقة وأن يبتكروا موضوعات للبحث.
لا شيء مما يقوله ماركس وإنغلز كمفكرين ثوريين مستخدمين ما دعاه ماركس "بأسلحة النقد" كان من الممكن رفضه من قبل المفكرين غير الثوريين في أواخر القرن التاسع عشر. وهذا الأمر قد يبدو مفارقة عجيبة، بيد أنه ليس كذلك حين يخطر على بالنا، مثلاً، ماثيو آرنولد وإيرنست ريتان اللذان لم يتهمهما أي إنسان البتة بأنهما اشتراكيان ناهيك عن شيوعيين، فحين يكتب آرنولد "الثقافة والفوضى" فإنه يؤكد على، مثله مثل كاتبي "الإيديولوجيا الألمانية"، المهمة الاجتماعية للثقافة والأفكار، مع العلم أن هذا القول صحيح وبالمقدار نفسه عن رينان في كتابه "مستقبل العلم" (L, Avenir de la science). فبالنسبة للمفكر في القرن التاسع عشر كان نعت المفكر ينطوي على وجود أفكار عن الدور الاجتماعي المركزي لديه علاوة على تزويده الجمهور بما يمكن أن ندعوه بالوعي الذاتي النقاد، الأمر الذي يشكل سبباً من الأسباب التي تجعل دراسة شهيرة عن المفكرين (كدراسة كارل مانهايم بعنوان "الأيديولوجيا واليوتوبيا") تنيط بالمفكر مهمة إماطة اللثام عن الأفكار.
وأورد هنا الإتيان على ذكر نموذجين إضافيين فقط من نماذج التفكير الحديث حول المفكرين، وكلاهما يسلطان ضوءاً مفيداً على سويفت. إن النموذج الأول من هذين النموذجين يأتينا من أنطونيو غرامشي، الذي كان أول ماركسي حديث بين الماركسيين -وأكثرهم ذكاء على ما أتصور- الذين جعلوا المفكر يحتل مركز الصدارة في تحليلاتهم السياسية/ السوسيولوجية. فغرامشي يقول أن المفكرين ينقسمون عادة إلى نوعين اثنين: المفكرين العضويين أي أولئك الناس الذين يبدو عليهم أنهم على ارتباط مع طبقة اجتماعية صاعدة والذين يمهدون السبيل لانتصار تلك الطبقة على المجتمع المدني بتحضيره إيديولوجياً، والمفكرين التقليديين أي أولئك الناس الذين يبدو أنهم على غير ارتباط بالتغيير الاجتماعي والذين يحتلون مواقع في المجتمع مخصصة للحفاظ على السيرورات التقليدية التي يصار من خلالها استيلاء الأفكار -كالمعلمين والكتاب والفنانين والقساوسة وأمثالهم. إن فرضية غرامشي هي أن كل المفكرين هم بالفعل مفكرون عضويون إلى حد ما، إذ حتى حين يبدو عليهم بأنهم على غير ارتباط إطلاقاً بقضية سياسية فإنهم يلعبون دوراً اجتماعياً، كمعلمي المدارس مثلاً، إلى ذلك الحد الذي يجعلهم يضفون السمة الشرعية بشكل لا شعوري على الوضع السائد "status quo" الذي يخدمونه. فغرامشي طيلة حياته قضى ردحاً من الزمن في دراسة كروس الذي وصفه في إحدى رسائله من السجن بأنه صنو واحد من البابوات العلمانيين نظراً للسطوة الفلسفية التي مارسها على المجتمع الإيطالي الليبرالي، والتي أدت مباشرة لولادة الفاشية كما كان يعتقد غرامشي.
ومنذ أيام غرامشي تبوأ بحث وضع المفكرين مركز الصدارة في تحليلات الدولة الحديثة اللاحقة للدولة الصناعية التي تختلف بالتأكيد اختلافاً جذرياً عن إنكلترا زمن سويفت، بيد أن هنالك أوجه تشابه بينهما مثيرة للاهتمام. ففي عام 1979 كتب آلفين غولدنر كتابه المعنون بـ"المفكرون المستقبليون وبروز الطبقة الجديدة" حيث يرى طبقته المفكرين الجديدة وهي تتحدى الطبقة الثرية القديمة على السلطة. وبصرف النظر عن بعض جوانب فرضية غولدنر، وهي بالطبع مدار أخذ ورد، فإن هذا الكاتب جدير بأن يلح على مسألة ما يدعوه برأسمال المفكر. فلقد قلت آنفاً أن الكثيرين من نقاد سويفت يهتمون أكثر من اللزوم بأفكاره وأقل من اللزوم بحشده طاقاته وتنظيمها، أي إنجازاته المحلية كما دعوتها أنها. وإن ما تفعله أمثال هذه التوكيدات لا يعدو إحكام الوثاق بين سويفت وبين الحملة الحقيقيين لتلك القيم الرجعية بالأساس، كالأروستوقراطيين ملاك الأراضي الشاسعة والكنيسة الوطيدة الأركان والسلطة الملكية الاستعمارية. فقيم حزب المحافظين المنسوبة إلى سويفت هي ما يمثل هذه الطبقة بالمنظور الإيديولوجي- ولكن من الجدير بالذكر أن سويفت نفسه لم يكن ملاكاً عقارياً ولم يكن ينظر، كما يتجلى من عمله، إلا شزرا لقهر الجيوش والقمع الاستعماري والمخططات العلمية لاستغلال الناس والأفكار. ووفقاً للمصطلح الذي جاء به غولدنر فإن رأسمال سويفت كان رأسمال المفكر: أي براعته البلاغية ككاتب في ساحة المعركة الإيديولوجية. فبناء على ذلك الدليل يجب علينا إذاً أن ننظر إلى سويفت كمفكر منهمك في صراعات خاصة على نطاق محدود جداً، لا كرجل صاغ وامتلك وصان مجموعة من القيم الإيديولوجية التي كان يعمل على خدمتها بين الحين والحين.
إن من الممكن وصف سويفت بمنتهى الإنصاف أنه كان ذلك الإنسان المعزال* طيلة حياته ومما تجدر الإشارة إليه أنه ما كان كريم المحتد وأن أولياء نعمته ذوي الشأن كانوا يخيبون فأله بكل إصرار، وكان يجر على نفسه دائماً جريرة غضب ونفور تلك السلطات التي كان من المفروض بأنه يعمل على خدمتها. وهنالك تذكرة ساخرة عن هذا في رحلة غوليفر إلى (ليليبوت) حين يفلح غوليفر في إثارة حنق الملكة وهو يشخ ببوله على النار لإطفائها. فإلى حد ما أعلم ما كان هنالك خيار أمام سويفت لتحسين موقعه الاجتماعي خارج إطار الكنيسة إلا من خلال الاستزبان لأولياء النعمة والنشاط الفكري دفاعاً عن القضايا التي كان يتحزب لها (معظم الوقت لا كله) والفطنة المحض (كمحاور وكاتب). إنه لم يتمكن قط من تكديس أي شيء كالثروة مثلاً، ومات متغرباً عن إيرلندا كتغربه سابقاً، طيلة عشرين سنة، عن إنكلترا. ولذلك فإن سويفت كان، من منطلق طبقي، مفكراً تقليدياً- متعلماً- ولكن الشيء الذي يجعله نسيج وحده هو أنه على نقيض أي كاتب كبير آخر في مجمل الأدب الإنكليزي (ربما باستثناء ستيل) كان أيضاً مفكراً عضوياً هاماً لا مثيل له من جراء قربه للسلطة السياسية الفعلية. فلقد كان ديفو وجونسون في مراحل معينة من حياتهما ورّاقين، فضلاً عن أن جونسون كان شخصية اجتماعية مرموقة، ولكن لم يكن أي منهما على ارتباط واضح بتشكيل سياسي في طريقه إلى الصعود بالشكل الذي كان عليه سويفت مع حكومة المحافظين بين عام 1711 وعام 1713، إذ في تلك الآونة كانت مهمة سويفت إضفاء مسحة الشرعية على سياسة السلم الانتهازية، باعتراف الجميع، لدى هارلي (تلك السياسة التي كانت ذروتها معاهدة السلم في أوترخت)، وانتزاع مسحة الشرعية عن سياسة الحرب لدى حزب الأحرار (Whig). وعلاوة على ذلك يجب أن نقول أيضاً عن عمله الفكري اللاحق أنه كان على ارتباط عضوي بنوع مختلف تماماً من السلطة السياسية المستجدة، أي الجماعة الاستعمارية الإيرلندية التي لعب سويفت نفسه دوراً هاماً في إنشائها، فمن ذا الذي بمقدوره غير سويفت أن يقول بمنتهى البساطة والصدق كما قال في "رسائل تاجر الأجواخ": "بامتهاني صنعة الكتابة ***ت على نفسي غيظ الحكومة".(7)
فما هي المسائل الكبرى -باستثناء بعض المسائل الغائية من أمثال طبيعة الإنسان وأشكال السلطة المدنية أو الكهنوتية- التي حددها عمل سويفت؟ وجواباً على هذا السؤال أقول أنه حدد مبدئياً كل ما يمت بصلة إلى العدوان البشري أو العنف البشري المنظم. فتحت هذا العنوان كان بمقدور سويفت أن يضع أشياء متباينة من أمثال الحرب نفسها (التي ما كان لها عنده قط أية كلمة طيبة يقولها عنها: وهذه حقيقة رائعة) والغزو والاضطهاد الاستعماري والمذهبية الدينية واستغلال العقول والأجساد، والمخططات لفرض الهيمنة على الطبيعة والكائنات البشرية والتاريخ، وطغيان الأكثرية، والمنفعة المالية كهدف بحد ذاتها، فضلاً عن تمزيق الفقراء إرباً إرباً بأيدي أوليغارشية تتنعم بالامتيازات. إن كل شيء من هذه الأشياء يمكن توثيقه بسهولة في عمل واحد على الأقل من أعمال سويفت، والجدير بنا أن نتذكر أن هنالك قلة من الكتاب قبل القرن التاسع عشر المنصرم -من ضمنها بليك وشيللي- ممن تتفاوت مواقفهم تفاوتاً صارخاً حيال هذه الأمور عن مواقف الأغلبية الحاكمة. وما من شيء يجلو بمنتهى الجلاء ومنتهى التعمد كلا من الرعب الخالص من الحرب والمتعة والعجرفة الأكثر هولاً اللتين يجدهما الرجال في الحرب من هذا النص من "أسفار غوليفر":
[ولكي أؤكد ما قلته للتو، ولكي أبين أيضاً الآثار الهزيلة لتربية محدودة، فإنني سأحشر هنا فقرة قلما يمكن تصديقها، فأملاً مني في أن أحظى لنفسي بمزيد من الحظوة عند جلالته، أخبرته عن اكتشاف قام بين ثلاثمائة أو أربعمائة سنة خلت ومفاده أن تكويم مقدار معين من البارود على شكل كومة إن مسّتها أصغر شرارة من النار تجعل الكومة كلها ناراً متقدة بلمح البصر حتى لو كانت كبيرة بحجم الحبل، وتجعلها كلها تتطاير شرراً في الهواء بضجة وفرقعة أكبر من الرعد. ولئن دك المرء مقداراً معيناً من هذا البارود في أنبوب فارغ من النحاس أو الحديد أو الرصاص بقوة وسرعة، لن يكون بمقدور أي شيء أن يتحمل قوة اندفاعه. ولئن جرى إطلاق أكبر كراته على هذا النحو، فإنها لن تدمر أرتالاً كاملة من جيش ما بلمح البصر وحسب، بل تقوض أيضاً أقوى الأسوار وتجعل عاليها سافلها، كما أنها تغرق سفناً بحمولة ألف بحار في كل منها وتغوص بها إلى قاع البحر، ولئن ارتبطت هذه الكرات بعضها ببعض بواسطة سلسلة لمزقت الأشرعة والصواري وحبالها، ولقسمت أجساد مئات الناس إلى نصفين، وتركت أمامها كل ذلك الدمار. ولئن وضعنا هذا البارود، كما نفعل دائماً، في كرات حديدية فارغة وأطلقناها بواسطة آلة حربية على مدينة كنا نحاصرها، لمزقت الأرصفة والبيوت وجعلتها قاعاً صفصفاً وهي تنفجر وتقذف الشظايا ذات اليمين وذات الشمال ممزقة بذلك رؤوس كل من يكون قريباً منها....
لقد حل الهلع بالملك من جراء الوصف الذي كنت أقوله عن هذه الآلات المرعبة، ومن جراء العرض الذي كنت أطرحه. ولقد حلت به الدهشة كيف أن حشرة مثلي بهذا المقدار الكبير من الضعة والتذلل (وهذه عباراته بالذات) يمكن أن تخطر على بالها أمثال هذه الأفكار الشيطانية وبأسلوب عادي جداً دون أن يبدو عليها أي تأثر على الإطلاق من مشاهد الدم والتدمير التي كنت قد وصفتها بأنها مجرد نتائج طبيعية لتلك الآلات التدميرية. وفي أعقاب ذلك أردف قائلاً أن عبقرياً شيطانياً، عدواً للجنس البشري، كان المخترع الأول ولابد. وأما بالنسبة إليه فقال معترضاً أن هنالك أشياء قليلة تدخل البهجة على نفسه أكثر من الاكتشافات الجديدة في الفن أو الطبيعة، ولكنه مع ذلك قال بأنه كان يتمنى تضييع نصف مملكته على أن يكون قد اطلع على ذلك السر الذي أمرني من ثم أن أكون حريصاً على كتمانه حرصي على حياتي، وألا أعود إلى ذكره قط].
أو من هذا النص الذي هو عبارة عن تحليل مرعب للحرب الإسبانية حول وراثة العرش في "مسلك الحلفاء" إذ يقول فيه:
[سواء أكان نشوب هذه الحرب منطقياً أم لا، فإن من الواضح، أن الدافع أو الحافز الحقيقي لها كان توطيد أركان أسرة بأم عينها، وهي باختصار حرب الجنرال والوزارة لا حرب الأمير أو الشعب، باعتبار أن هؤلاء الناس أنفسهم كانوا ضدها حين عرفوا أن السلطة، ومن ثم الربح، سيكونان في أيادي أخرى(9)].
فها هو سويفت يدلي هنا بالحقيقة بمنتهى البساطة، إذ إنه لا يحاول تزيينها ولا إخفاء السر أو الطمع الكامن خلف التخطيط للحروب المربحة. وهذا هو السبب الذي يجعل سويفت يشعر بالغضب نيابة عن الأجيال المستقبلية : "ولسوف يكون الأمر بمثابة السلوى العظمى لأحفادنا حين يرون بضع أسمال بالية معلقة في قاعة واست مينستر كانت تكلفتها مئات الملايين، وهم من جرائها يدفعون المتآخرات ويتباهون قائلين كما يفعل الشحاذون، أن أجدادهم كانوا أثرياء وعظماء".(10) وما من وصف أكثر صلة بهذا الموضوع من وصف سويفت لتلك الطريقة التي تربط بها القوى العظمى أنفسها بحلفاء من المفروض بهم أن يكونوا وكلاء لها، ولكنهم يتحولون إلى سادة لها (وهنا يخطر على بال المرء الجنيرالان ثيو وكاي إبان الحرب الفيتنامية):
[بشيئين اثنين آخرين (علاوة على شرف مواكبتنا وحراستنا في الخدمة الفعلية للسفن والسواحل البرتغالية) علينا أن نخمن أفكار الأعداء، وأن ننفذ أوامر ملك البرتغال كلما ظن بأنه على وشك أن يغزى: وعلينا أيضاً أن نمده بقوة أعتى من القوة التي ينوي العدو أن يغزو بها أية ممتلكات استعمارية له، مهما كان عدد وعدة تلك القوة، وإلى أن نعرف ماهية قوى العدو تبقى جلالته البرتغالية بمثابة الحكم الوحيد حيال القوة الأعتى وحيال الشيء الذي بمقدوره أن يمنع الغزو، وقد يعمد لإرسال أساطيلنا حينما يشاء، وبناء على المهمات التي يحددها لها، إلى بعض أرجاء أقاصي الدنيا، أو قد يستبقيها في حراسة سواحله إلى أن يقدر أن الأوان قد آن لصرفها من الخدمة، وعلى هذه الأساطيل أن تبقى خاضعة أيضاً، في كل شؤونها، لا للملك وحده فقط، بل ولنوابه وأمراء بحره وحكامه، في كل ممتلكاته الاستعمارية، حين يعن على باله تصور أي غزو، الأمر الذي يشكل إهانة، كما أعتقد جازماً، لا نظير لها سابقاً إلا عند أمة مهزومة](11).
وحين زعم أبناء جلدته بأنهم يعرفون كل الأشياء الهامة عن مستعمرتهم الإيرلندية، كان سويفت هو من وصف، برسالته إلى مديلتون رئيس مجلس اللوردات في 26 اكتوبر عام 1724، النمط الأساسي الذي أتاح لإنكلترا إساءة معاملة إيرلندا بذلك المقدار الكبير من العجرفة (وثمة صور كاريكاتورية عن الشعوب الأفريقية والآسيوية موجودة حتى في هذه الأيام):
[هنالك مسحة من الصناعة والشح تسري في عروق كل سكان إنكلترا، وهي المسحة التي، إن أضيفت إلى سهولة حصولهم على أجورهم، تجعل منهم أغنياء وعتاة. وأما فيما يتعلق بإيرلندا فإن أولئك الناس لا يعرفون عنها إلا أكثر بقليل مما يعرفونه عن المكسيك، فضلاً عن معرفتهم بأنها بلاد خاضعة لملك إنكلترا، مليئة بالمستنقعات، ومؤهلة بالكاثوليك الإيرلنديين المتوحشين الذين يبقون في حالة من الخشوع بفعل الجنود المرتزقة المرسلين من هناك: والفكرة العامة لديهم هي أن من الأفضل لإنكلترا لو أن هذه الجزيرة برمتها كانت غارقة في قاع البحر، وذلك لأن لدى سكانها تراث يتمثل بضرورة قيام ثورة كل أربعين سنة في إيرلندا. لقد سمعت أقذع النعوت تطلق عليهم من مثل أن الإيرلنديين المتوحشين كانوا فرائس الأشراك لاقتناصهم، ولكنهم، يوماً ما ولابد، سيصبحون مدجنين جداً إلى الحد الذي يجعلهم يأكلون من كرم يديكم].
ويمكننا أن نرى هنا العلاقة الواضحة بين هذا النوع من التفكير وبين المنطق الذي أفضى إلى كتابة "اقتراح متواضع"، وذلك لأنك ما أن تجرد الناس من إنسانيتهم وتحيلهم إلى مجرد كومة من الخصائص الثابتة حتى تصبح قاب قوسين أو أدنى من تحويلهم إلى سلع استهلاكية.
وعلى الرغم من هذا كله فلن يكون من الإنصاف بالنسبة لسويفت أن تسمه بمنتهى البساطة بأنه ذلك المفكر الجسور. فالشيء الذي يجب أن يكون بوسعنا فهمه عنه هو أن كل ما فعله كمفكر عزز الوعي وحاكاه إلى الحد الذي جعله يكشف فيه حالة وعيه الذاتي في كتابته. وهذا ما يقودنا مباشرة، وحسب الأصول، إلى هجاء سويفت وسخريته واستخدامه الشخوص الروائية.
اسمحوا لي أن أقوم بذلك بالعودة إلى ما قلته في البداية عن النقد الحديث، فلقد جعلت الوضع يبدو وقتها أن سويفت لم يحظ يشرف الاهتمام النقدي الريادي لأنه كان يبدو الصفة المميزة لحلقة من المتبحرين، ولأن هنالك اتفاق عام على أن قيم سويفت ما هي بمنتهى الوضوح إلا، كما قال عنها أورويل، قيم رجعية. وعلى العموم كان النقد المعاصر مهتماً بكتاب ونصوص ممن توجد خصائصهم الشكلية في علاقة من علاقات المطابقة بين تلك الخصائص وبين مظاهرها الخارجية الإيديولوجية أو أفكارها الرئيسية: وهكذا فإن مهمة الناقد تكمن في تسليط الضوء على التباين بين التناقضات المحبوكة في الوجود الشكلي للنص وتعرية تلك التناقضات أو تفكيكها.
وعلاوة على ذلك فإن موقف الناقد من النصوص التي يحللها موقف هامشي، أي أن النص هام في حين أن دور الناقد دور ثانوي، دور مقصور على تبيين ظروف وجود النص. إن هذا الإجراء صحيح، على ما أظن، عن مدرسة ديريدا ومدرسة القراء الماركسيين وعن أتباع فوكو من علماء الكلام في ميدان دلالات الألفاظ والإعراب، وعما يدعى بمدرسة ييل.
إن سويفت ممنوع من هذا المدخل وإن منعته، كما قلت آنفاً، هي ما تجعل منه شخصية في غاية الإمتاع والتحدي. وإن مبرراتي لهذا القول هي أن السبيل الأساسي لفهمه هو أن نحمل على محمل الجد الطريقة التي يقاوم بها أي نوع من أنواع المداخل النقدية التي لا تجعل من وجوده وعمله ومن، قبل أي شيء آخر، وعيه الذاتي كمفكر -ولو أنه مفكر في الظروف التاريخية الخاصة للحظته الثقافية- السبيل الأساسي للدنو منه.
ولذلك تأملوا الفرضيات الثلات التي أود اقتراحها.(1) ليس لدى سويفت رأسمال احتياطي: فكتابته تجعل كل ما عليه أن يقوله يطفو على السطح. إن حكاياته وشخوصه وتهكمه الذاتي أمور كلها تدور وتلف حول الفضيحة التي أعلنها لأول مرة في "حكاية حوض"، والتي مفادها أن ما يقال يقال في تلك اللحظة، ولصالح تلك اللحظة، وعلى لسان مخلوق من تلك اللحظة. وهذا صحيح دائماً وحرفياً- إذ إن ما بمقدورنا أن نعرفه عن سويفت أو غوليفر أو تاجر الأجواخ هو ذلك الشيء الموجود أمامنا، ولا شيء سواه. وإن التهكم يستكمل نفسه في القراءة، إذ ليس هنالك ثمة شيء يؤكد مصداقية ذلك التهكم أو عدمها (فمن ذا الذي يخطر على باله أن يحتكم، حيال "الاقتراح المتواضع"، إلى ذلك الإنسان الحقيقي الذي لا يشكك في وجوب أكل البشر؟) وذلك لأن ما يقوله ذلك التهكم هو ما يعنيه بالضبط.(2) إن سويفت يهاجم على الدوام وبإصرار كل ما يشخصه، وبكلمات أخرى فإن طريقته يجب أن تصبح هي الشيء الذي يهاجمه، وهي عادة ليست برسالة أو مذهب سياسي بل أسلوب أو طريقة محادثة. لاحظوا كثرة أعمال سويفت المملة جراء تكرارها المنجزات والأنشطة وأنماط السلوك: اقتراح وحكاية ومسلك ومحادثة ورحلة ورسالة ومناقشة وامتحان وموعظة. فالمسافة بين الهجّاء والشيء المهجو تختفي كما هي عليه الحال في استطراد عن الاستطراد أو الجنون على سبيل المثال.(3) إن سويفت ليدرك دائماً، وقبل نقاده، أن ما يفعله قبل أي شيء آخر هو الكتابة في عالم ذي سلطة، مع العلم بأنه يغيظ القارئ بذلك الإدراك. فسويفت هو ذلك الواقعي الذي لا نظير له والذي يستطيع أن يتبين، لا بل ويجسد فيما يكتب، الفروق بين اللغة المبتذلة وبين لغة السلطة، أي بين لغة المؤسسات ولغة الأفراد المستبعدين أو المهمشين، أو بين لغة العقل وبين ما يدعوه بالمحادثة المهذبة. وهكذا فإن سويفت يحتل مكاناً له بين أكثر الكتاب دنيوية -لابل وربما كان أكثرهم دنيوية أيضاً. ولكن من عادة هذه الفروق أن ينطوي بعضها على بعض. فهو قد يقترح بمنتهى الرصانة خطة، مثلاً، لتوكيد اللغة وتوطيد أركانها وتصحيحها، بيد أنه بعد مضي بضع سنين يهزأ بتلك الخطة بكتابته "المحادثة المهذبة" التي ليست إلا بمثابة خطة متمركزة ومحط اتفاق اجتماعي لكل اللغة في المجتمع.
فهذه العادة، عادة تحويل شيء ما إلى نقيضه، ما هي إلا النتيجة الطبيعية لمهمة سويفت باعتباره كاتب رد فعل، علاوة على أنها ثمرة إدراك سويفت بأن ما يفعله لا يتعدى الكتابة وحسب، ولو أنه يكتب لمناصرة هذه القضية أو تلك. وإن نشاط سويفت كمفكر، أي رسالته لجعل قارئه أكثر وعياً حيال ما يستتبع موقفاً سياسياً أو أخلاقياً معيناً، يبدو على أنه قد لوّث لدى سويفت، أكثر من أي شيء آخر، وعيه لذاته هو. فسوسة الوعي، إن اقتبسنا مثل هذا التعبير من نيقولا تشيرومونت، تعود بالعدوى على سويفت الكاتب، علماً أن هذا هو مصدر تهكمه على ذاته ذلك التهكم العجيب. وتخطرني هنا ملاحظة عن ويتينغ شتاين جاءت على لسان إرخ هيللر ألا وهي: أن مثل هذا الوعي الذاتي، كالوعي الموجود لدى ويتينغ شتاين، يصل إلى "ذلك الحد الذي يتعذر فيه الفصل بين أي عمل من أعمال الإبداع وبين نقده لأداته، فضلاً عن أي عمل يطيل أمد التأمل العميق بنفسه يبدو مماثلاً للشك الضمني الذي يساوره بإمكانية وجوده هو"(13) وما هذا بكل تأكيد إلى النتيجة الساخرة لـِ"حكاية حوض" التي تنقلب، أثناء هجومها على المتعصبين من كل الأصناف، لتدين الكاتب نفسه بجرم الكتابة، أو إلا ما يبدو قولة سلسلة من الصورة المثيرة للأشجان بمنتهى الروعة، ومفادها: أوليست الكتابة كلها بريشة إنسان كسويفت عرضة بدورها أيضاً للنقد والتهكم والرد عليها، شأنها بذلك شأن الأشياء التي يهاجمها؟ وإن ما يخطر على بالي هنا هو الصور التي يوردها سويفت في "حكاية حوض" عن الظروف المضحكة والمتقلقلة التي تطرح نفسها أمام المرء حين يرغب في أن يتدخل تدخلاً فعلياً في مجريات الواقع- كمنبر الوعظ أو المصطبة المتنقلة أو الدرج- وكيف أن هذه الأشياء تخضع، كأي كتيب أو حكاية أو استطراد، لإمرة سلطة دنيوية من أنواع مختلفة وأنواع أعتى أيضاً تتعذر حيازتها على أي كاتب أو مفكر لا يمتلك رأسمالاً حقيقياً راسخ الجذور. فالكتابة الفكرية تقتحم المكان والزمان، بيد أن متطلباتها ما هي في خاتمة المطاف إلا تحت رحمة السلطة الحقيقية. وإن لكل أمثال هذه الكتابات، بغض النظر عن خصائصها الخادمية الآنية، تنطوي على سخريات داخلية خاصة بها تهم المفكر وتعود بالمتعة عليه. أو تأملوا المناسبة الواردة في "أسفار غوليفر" حين يخلق غوليفر مساحة واسعة على منشفته المبسوطة لفرسان ليليبوت وكيف نتيقن من أنهم سوف يتساقطون كلهم إذا انسحب غوليفر العملاق. ولكن القوة التي يملكها كعملاق تعمل بالمقابل ضده حين يتصرف كقزم في برودينغ ناغ على طاولات صغيرة أمام جمهور من النظارة العمالقة.

إن أعظم سخرية فكرية، أو أعظم سخرية لمفكر، توجد في الرحلة الرابعة، ألا وهي الحادثة الوحيدة التي خلبت ألباب قرائه كلهم دون سائر أعماله الأخرى. فنحن لا نستطيع بمنتهى البساطة أن نوهن قوتها أو أصالتها الخيالية الهدامة، لا بل وعلينا ألا نحاول ذلك. ولكن بمقدورنا أن نرى في الهويهنهم والياهوز -وبينهما غوليفر- مقداراً معيناً من التحرر الفكري العام الذي تحرره سويفت من وهمه حيال المجتمع، تحرر يطرح علينا في النهاية خيارات في حدودها الدنيا لحياة مرضية. فالشيء الحاسم بالنسبة للهوينههم لا يكمن فيما إذا كان من المفروض بهم أن يكونوا مثاليين، بل في كونهم حيوانات، شأنهم بذلك شأن الياهوز الذين هم من بني البشر ولكنهم يتصرفون تصرفات أقرب إلى الحيوانات من بني البشر. إن وقائع الأمور على هذا النحو تمثل على الأرجح ما دعاه أورويل "بالعنف اللامسؤول للمستضعفين": فبما أنه لم يبق أي شيء في الحياة الإنسانية لسويفت كي يتمتع به، فإنه يهاجمها كلها. ولكن الشيء الذي كان على الدوام يخلف في نفسي أجمل الانطباعات في الرحلة الرابعة هو، علاوة على التحرر الأصيل من الوهم، استمرار بقاء غوليفر نفسه هناك -حتى بين ظهراني الهويهنهم- وهو يدوّن بمنتهى المنطق مدركاته واكتشافاته، وينتظر سنوح الفرص له لفعل أي شيء، الأمر الذي وقعه في النفس شأنه شأن أي شيء آخر في الحكاية. وإن انتهاء كل رحلة بطرد غوليفر أو هروبه يعكس، على ما أظن، أقصى حد من التوتر المأساوي في طاقة سويفت الفكرية، مثله بذلك مثل رحلات غوليفر إلى أمكنة خرافية تماماً حيث يجب عليه الإذعان لأدق ضغوط كل وضع بأم عينه إذ تقوم تلك الرحلات مقام الشاهد على الرغبة العارمة لدى سويفت للتفتيش عن أشياء مادية بغية "الرد" عليها.
وختاماً أتصور أننا في فقرة من "رسائل تاجر الأجواخ" يمكننا سماع نبرات اليقظة الفكرية العامة لدى سويفت، وإحساسه بالوضع الفعلي للمفكر وما ينطوي عليه من سخرية صحية وهشاشة وهامشية، لابل ويمكننا الوقوف أيضاً على التهكم المقهور في صميم ذلك الوضع:
لقد عزمت الآن على العمل (بعد تلك المسيرة العادية لأبناء الجنس البشري، ولو بعد فوات الأوان بردح طويل جداً من الزمن) بالنصيحة التي أسداها لي عميد معين. فلقد بين لي الخطأ الذي كنت أعيشه، خطأ الاطمئنان إلى النوايا الطيبة الموجودة لدى الناس، وبين لي أنني كنت ناجحاً حتى هذه اللحظة، ونجاحاً أكثر مما كان متوقعاً؛ كما بين لي أن أية هفوة آنية تعيسة قد تضعني تحت قبضة السلطة، وأن النوايا الطيبة لديّ لن تكون ضمانة لي ضد أولئك الناس الذين كانوا يراقبون أية حركة من حركات ريشتي وأنا أكابد المرارة في صميم روحي%.


nnn



4- كونراد: سرد الحكايات



لقد كان كونراد يحاول أن يفعل شيئاً، في كتابته رواياته وسيرته الذاتية على حد سواء، تكشفت خبرته عنه ككاتب بأنه مستحيل في كل مكان. وهذا ما يجعل منه مشوقاً لأنه يجسّد حالة ذلك الكاتب الذي كان واقع عمله ومقدرته العملية ككاتب، والنظرية حتى، أموراً تسبق ما كان يقوله أشواطاً كبيرة إلى الأمام. وبما أن هذا التعارض الذي تنطوي عليه كتابة كونراد كان قائماً حينما كان الكاتب على قيد الحياة وهو يمارس الكتابة، فإنه يحتل مكاناً خطيراً في تاريخ ازدواجية اللغة ازدواجية جعلت دراسة مراتب اللغة، منذ أيام نيتشه وماركس وفرويد، شيئاً مركزياً جداً بالنسبة للفهم المعاصر. فلقد فرض القدر على كونراد أن يكتب روايات عظيمة لإجراء تصويرها وحده، بل وجراء سردها أيضاً. إن كونراد كان ضحية تضليل اللغة حتى حين كان يكسو اللغة كساء مسرحياً ما كان بوسع أي كاتب آخر أن يكسوها بمثيله.
وذلك لأن الشيء الذي اكتشفه كونراد كان أن الهوة بين ما تقوله الكلمات وبين ما تعنيه تلك الكلمات تنحو منحى التوسع، لا التضييق، إن توفرت الموهبة لكتابة الكلمات. ولئن كان قد اختار أن يكتب فهذا يعني إذاً أنه اختار بطريقة معينة لا أن يقول بشكل مباشر ولا أن يعني بالضبط ما كان يريده بالطريقة التي كان يأمل أن يقوله بها أو يعنيه. فلذلك ليس من المستغرب أن يكون كونراد قد عاد إلى هذا الهم المعضل مراراً وتكراراً- وهو الهم الذي دأبت كتابته على إكسائه المسرحي بشكل دائم وعلى نحو خلاق.
وثمة عناية فائقة مكرسة لمبعث قص القصص- الأمر الذي يشكل الدليل على الحاجة الماسة لتسويغ سرد الحكاية بطريقة ما. فمثل هذه العناية بالباعث الحقيقي لسرد حكاية ما تتضارب مع الوصف الذي ساقه كونراد في "سجل شخصي" عن بدايته ككاتب. وبدلاً من السيرورة المعقولة التي تحول بها بحار إلى كاتب يقول أن "تصور كتاب منظم كان بالمطلق خارج إطار نطاقي العقلي حين جلست للمبادرة بالكتابة”. ففي صبيحة أحد الأيام استدعى ابنة ربة منزله وقال لها: "هل تتكرمين بإزالة هذا كله توا؟" لقد خاطبتها بنبرات متهدجة، كوني كنت في الوقت نفسه منهمكاً بإعداد غليوني لتدخينه. وهذا المطلب، أعترف لكم، كان مطلباً استثنائياً..... وأتذكر وقتها أنني كنت في سكينة تامة. وفي حقيقة الأمر ما كنت البتة متأكداً من أنني كنت أريد الكتابة، وما كنت متأكداً مما أريد كتابته، لا، وعما إن كان لدي أي شيء أود الكتابة عنه. لا، ما كان لدي أي هاجس على الإطلاق.
إن كلمة "هذا" كانت تعني وجبة الإفطار. وللتو كانت كتابة رواية "حماقة آلماير": التي كان معظمها عن حدث ذي "سرية تامة"(1). إن روايات كونراد تعالج، في آن واحد معاً، أفعالاً بلا أي مبعث عقلاني واضح، من مثل ذلك الحدث الوارد في "سجل شخصي"، وأفعالاً من مثل سرد قصة مبعثها أسباب مؤكدة. فثمة مثل واضح يوجد في رواية "صميم الظلمة". فرغبة مارلو لزيارة الأماكن المظلمة رغبة عميقة الجذور ولكنها ليست موضع التوضيح بالفعل، ومع ذلك فوصفه الرحلة لزمرة من المستمعين منسوب بالضبط للمناسبة التي تحفزه. إن اللهفة التي يتلهفها مارلو على الأمكنة الفارغة لا تستند إلى أي تاريخ متعاقب ولا تلبس لبوس التطور. فهي رغبة مستديمة جداً، وحتى في "سجل شخصي" يروي كونراد، لدى وصفه لمولده ككاتب، نفس القصة التي تماثل هذه القصة عن مارلو:
والآن حين كنت شاباً في مقتبل العمر كنت مولعاً بالخرائط. وقتها كنت أقضي ساعات وساعات أنظر فيها إلى أمريكا الجنوبية أو أفريقيا أو اوستراليا، وأنسى نفسي تماماً في غمرة أمجاد الاكتشافات. وفي تلك الآونة كان هنالك العديد من الأماكن الفارغة على سطح هذه المعمورة، وحين كنت أرى واحداً من تلك الأماكن التي كانت تخلب لي لبي على نحو خاص على الخريطة (ولكن كل الأماكن تبدو على هذه الشاكلة) كنت أضع إصبعي عليه وأقول حين تتقدم بي السنون سأمضي إلى هناك.(52/4)
وبعد مضي بضع سنين أحد تلك الأمكنة الفارغة
أضحى مكاناً مظلماً. ولكن كان به نهر يلفت الأنظار، نهر كبير جبار، كان بمقدورك رؤيته على الخريطة يشابه حية ضخمة سائبة، رأسها في البحر وجسدها يتلوى على هينته بعيداً فوق منطقة شاسعة، في حين أن ذيلها ضائع في أعماق الأرض. وحين نظرت إلى خارطة النهر في شباك أحد الحوانيت، فتنتني كما تفتن الحية الطائر- ولا سيما حين يكون صغيراً أبله.(42/6).
وإذا قارنا هذه القصة، قصة الفتنة التي تخلب الألباب، مع المناسبة التي تحفز مارلو على رواية مغامرته الأفريقية، للاحظنا، حتى من الفقرة الأولى للحكاية، الكيفية التي جرى بها وصف الأساس المنطقي لسرد الحكاية والحافز على سردها. فسفينة "نيللي" مضطرة للبقاء في الميناء "بانتظار عودة المد والجزر إلى الوضع الطبيعي"، والرجال الخمسة لهم تاريخ مشترك في ركوب متن البحر، والسواقي في نهاية نهر التايمز لا توحي بحية تفتن طائراً أبله بل تشكل مسيلاً مائياً يعود بالمرء إلى "الروح العظيمة التي سادت في الماضي..... إلى أحلام الرجال، إلى بذور الكومونويلثات، وإلى أصول الإمبراطوريات"، ومن ثم هنالك مارلو المعروف" بميله لتلفيق القصص". وقبل أن يبدأ السرد (وهذا على تناقض مع عجز كونراد عن تصور كتاب منظم قبل أن يصبح كاتباً) "أدركنا أن القدر شاء لنا أن نستمع، قبل عودة المد والجزر إلى الوضع الطبيعي، إلى إحدى التجارب التي لا نهاية لها والتي عاشها مارلو" (51/16).
وعندما عاين كونراد رواياته للإتيان بملاحظات الكاتب كتب في مرحلة متأخرة من مراحل حياته المسلكية مشيراً إلى تعجبه في كثر من الأحيان من الطريقة التي بدت له رواياته فيها تنطلق من المصادفة. ولذلك فإنه كثيراً ما زود قارئه بالأسباب الأصلية التي دفعته لكتابة روايته. وفي غالب الأحيان كانت هذه الأسباب تتمثل بنكتة طريفة وبخبرة شخصية ما وبقصة منشورة في صحيفة وهكذا دواليك. فمن الجدير بالذكر أن أعمال نورمان شري كشفت الكثير من تلك البينات وأكثر مما كشف منها كونراد، لا لأن كونراد كان نسّاء ومراوغاً بل ولأنه كان مهتماً بالأساس في تبرير أن ما فعله كان معقولاً. وإنني لأتصور أن كونراد كان على قناعة تامة أن ذلك التبرير أهم بكثير من الإتيان بمفاتيح حل ألغاز مناهج عمله. وهكذا علينا أن نحمل على محمل الجد احتاجه الذي ساقه في الملاحظات على رواية "لوردجيم"، والذي قال فيه أن حكاية مارلو كان من الممكن روايتها شفوياً خلال ليلة واحدة من ليالي تجاذب أطراف الأحاديث والحكايات. إن أخذ هذا السطر بعين الاعتبار لأمر يثير الدهشة، بيد أن كونراد كان منكبا على الشيء الذي كان بالنسبة إليه دائماً نقطة هامة، ألا وهو رواية القصة بقالب مسرحي وكيف ومتى كانت روايتها، الأمر الذي كان الدليل يشكل فيه قسطاً جوهرياً من الرواية ككل.
كان من المعروف عن الرجال، في المناطق الاستوائية والمعتدلة سواء بسواء، بأنهم يسهرون إلى منتصف الليل وهم "ينسجون الحكايات". وما هذه إلا حكاية واحدة، ومع ذلك فإن الانقطاع في تواصلها يوفر مقداراً معيناً من السلوى، وأما فيما يتعلق بطاقة السامع على التحمل فيجب قبول البديهية التي مفادها أن القصة مشوقة..... وذلك الجزء من الكتاب الذي هو بمثابة حكاية مارلو يمكن قراءته بصوت عال، والحق يقال، في غضون أقل من ثلاث ساعات. وعلاوة على ذلك.... بوسعنا أن نفترض وجوب وجود المرطبات في تلك الليلة، من مثل كأس من المياه المعدنية لمساعدة الراوي على الاستمرار(7/21).
ولذلك كان بمقدور كونراد، وبمنتهى البساطة، أن يرى أن قصصه هي المكان الذي توجد فيه الأشياء المنطقية والمنهجية والعرضية والبعيثة، جنباً إلى جنب مع الأشياء الاعتباطية والمباغتة والمعمّيات. فمن ناحية أولى هنالك ظروف مطروحة تفرض ضرورة سرد القصة، ومن ناحية ثانية تبدو القصة الأساسية نفسها على تعارض مع ظروف سردها. وإن تفاعل هذا العنصر مع ذلك -مع العلم أن العناية الفائقة التي يوليها كونراد للإطار الواقعي المقنع لسرد القصة يستحوذ على اهتمامنا لهذا الأمر- يجعل من الرواية ذلك الشيء الفذ الذي هو عليه في حقيقة الأمر.
فتفاعل أمثل هذه المتناقضات يوجب وسمه بأنه أسدى خدمة جليلة لكونراد أكثر مما كان من الممكن لأي مسعى آخر أن يسديه، سواء أكان ذلك المسعى لفظياً أو لدناً أو إيمائياً. وهأنذا أعلق أهمية قصوى على هذه الملاحظة. فمراراً وتكراراً يجري التفتيش في نص من نصوص كونراد عن نصوص فرعية إضافية أو عن معاني ذوات امتيازات من ذلك النوع الذي يبدو بأنه أكثر أهمية من الكتاب نفسه. وحري بنا أن نشير إلى قلة الاهتمام بالبديهية التي هي في متناول اليد والتي مفادها أن النص، كما هو عليه في حقيقة الأمر، كان بالنسبة لكونراد شيئاً ناتجاً، لا بل والشيء الناتج بحد ذاته- والشيء الذي كان يعود إليه بين الحين والحين ككاتب أو ناقد أو مدافع أو مراقب أو ضحية. فالنص كان الناتج الذي لا نهاية له لسيرورة متواصلة. وبالنسبة إليه، كما يثبت من خلال العديد من الرسائل، كان ضرورة الكتابة منذ أن أصبح كاتباً، بمثابة المشكلة العويصة، إذ منذ أن حزم أمره على خوض غمار الكتابة، على الرغم من السرية المطلقة التي اتخذ بها قراره، كان يتصور حياته المسلكية ككاتب أنها سيرورة مادية، ويرى أن قدره يسوقه لإنجاز مهمة عسيرة تعترض سبيلها عقبة كأداء على نحو خاص. "إن الوحدة تنال مني، فأنا لا أرى شيئاً، لا أقرأ شيئاً، وكأن هذه الحالة نوع من القبور، ونوع قد يكون جحيماً، إذ علي أن أكتب أن أكتب أن أكتب"(2). فالعزلة والظلمة وضرورة الكتابة والاحتباس هي الضغوط التي تنيح بكلكلها على الكاتب وهو يمارس الكتابة، ولا سيما إن كان على شاكلة كونراد الذي نادراً ما صادفت كاتباً مثله فياضاً بذلك المقدار الكبير من التذمر والشكوى. وشتان بين لهجة التذمر ولهجة العقيدة الجمالية التي طرحها كونراد عام 1896 في مقدمة رواية "زنجي النرجس"، والتي يتحدث فيها عن قدرة الفنان على تبادل الحديث الودي وعلى وضوح الرؤية التي يقدمها للقارئ- مأثرتان عظيمتان حظي بهما على أرجح الظن بعد كثير من العراك مع الكتابة نفسها.
لئن اقتنص المرء بلحظة جرأة، من تهور اندفاع الزمن، طوراً عابراً من الحياة، لكان ذلك بداية المهمة ليس إلا. فمباشرة المهمة تعني عرض ذلك الطور المستعاد، بلا تردد وبلا خيار وبلا وجل، أمام الأعين كافة على ضوء مزاج صدق، أي إنها تبيين ذبذبته ولونه وشكله، إذ إن لونه وشكله يبينان، من خلال حركته، جوهر حقيقته -ويفضحان سرّ إلهامه: أي التوتر والانفعال في صميم كل حركة مقنعة.(14/23).
ومع ذلك فليس هذا القول بمثابة مجموعة من التعابير الكيسة فاقتناص طور من الحياة وإسباغ شكل وهيئة عليه، وجعل القارئ يرى، والإقدام على فعل ذلك بالانتصار على الخيار العقلاني منذ البدء والتغلب على الخوف أثناء الإنجاز: المتطلبات تصبح أكثر هولاً حين نصرّ، كما يصرّ كونراد قبل قليل، على أن الوسيلة تكمن في الكلمات. إن إنتاج الكلمات أو قراءتها لشيء مختلف جداً، وبمنتهى الوضوح، عن الأهداف التي يصيغها كونراد لعمله، والتي هي أكثر حيوية وشهرة من الكلمات. فتحول الإدراك الحسي الذي يطرأ في الوقت الذي تخلص فيه الكتابة أو القراءة إلى رؤية لتحول بالغ التطرف في حقيقة الأمر، لا بل وحتى متناقض أيضاً. وحري بنا أن نقول أنه تحول متناقض جداً إلى الحد الذي يجعل المرء يميل لنسيان كل الجملة التي يصيغ بها كونراد طموحه الأساسي. "إن مهمتي التي أحاول إنجازها تتمثل في أن أجعلك، من خلال قوة الكلمة المكتوبة، تسمع وتحس، وأن أجعلك ترى قبل هذا وذاك". وهكذا فإن روايات كونراد تجسّد التحول (أي توفر له موضعاً) في قلب عملية الحدوث. فجهود كونراد مكرسة، كما يقول، لتوظيف قوة الكلمات المكتوبة، والتي أصلها مغروس في مشقة صنعة الكتابة، كي يجعل قارئه يعيش تجربة حيوية الأشياء المرئية وديناميكيتها أيضاً. ويحدث هذا الأمر، في غالب الأحيان، من خلال وساطة الكلمات المنطوقة.
وإن من الممتع أن يكون المنطلق الأولي الشيق لمعظم قصص كونراد هو الحكاية الملفقة أو التقرير التاريخي أو الخرافة المتداولة أو الذكرى النابضة بالحياة. وهذا المنطلق يقتضي ضمناً وجود متحدث ومستمع (على الرغم من وجودهما هناك بمنتهى الوضوح وفي معظم الأحيان)، فضلاً عن توفر ظرف معيّن في بعض الأحيان كما أسلفت القول. فإذا أمعنا النظر في القسط الأكبر من عمل كونراد لوجدنا، باستثناء رواية "تحت عيون غريبة" على وجه التخصيص، أن القصة مسرودة وكأنها منقولة شفوياً. وهكذا فإن الاستماع والإخبار هما أساس القصة، أي أكثر الفاعليات الحسية رسوخاً ومعيار ديمومة القصة، في حين أن المشاهدة العيانية هي دائماً على تناقض صارخ مع الاستماع والإخبار، إنجاز مشكوك بأمره وشيء أقل رسوخاً بكثير. هيا وتأملوا كيرتز وجيم. فالقارئ يسمع أصواتهما كليهما ويسمع ما يدور من أحاديث عنهما أكثر مما يشاهدهما بشكل مباشر ضمن إطار السرد. وعندما يظهران للعيان- ولا سيما جيم الذي يضرب مثلاً لافتاً للنظر: "فبالنسبة لي بدت تلك القامة البيضاء في هدوء الشاطئ والبحر واقفة في قلب لغز هائل"- يبدوان ملغزين ومشوهين، بطريقة عجيبة، تشويهاً بالغاً. "لقد بدا كيرتز بطول سبعة أقدام على الأقل.... رأيته يفتح شدقيه واسعاً- الأمر الذي أخفى عليه مظهر شره غريب وكأنه كان يريد ابتلاع كل الهواء وكل اليابسة وكل الناس الذين قدامه"(134/16).
وعندما يتحدث مارلو، بعدئذ، يبقى صوته ثابتاً في نفس ذلك الوقت الذي تضمحل فيه مشاهدة مستمعيه له. إن ذلك النوع من الاضمحلال مألوف جداً إلى الحد الذي جعل الهدف الذي رسمه كونراد لنفسه، كما جاء على ذكره في مقدمة الرواية عام 1896، يشكل تحدياً خاصاً وذلك لأنه المقصود بمسيرة الكلمات المسرودة لم يكن مجرد التحرك في اتجاه معاكس لاتجاه الرؤية وحسب، بل وتمديد أمد الصمت "الظلمة محال اختراقها"، على الرغم من إصرار الكلمات على وجودها على الصفحة أو بين المتحدث والمستمع.
ولربما من المفيد أن أرسم مخططاً لبعض ما قلته أعلاه. إن أصل الروايات يكمن في حضور الناس حضوراً سمعياً وبصرياً. وينطبق هذا القول في العادة على حالة كونراد سواء أكان سرد الروايات بصيغة المتكلم أم لا. والجدير بالذكر أن موضوعها وهمي أو غامض أو مبهم: أي كل شيء لا تسهل رؤيته في الطبيعة. وهكذا فإن كثيراً جداً منها على الأقل يمكن التحقق منه بمجرد قص القصة، وذلك لأن ما تكشفه القصة عادة هو الخطوط الكفافية الدقيقة المحيطة بهذا الغموض. وفي معظم الوقت يكون الغموض، بصرف النظر حتى عن الروعة الظاهرية المتقنة (كما هي عليه الحال بالنسبة لنوسترومو أو جيم أو المعاون الأسود)، مقصد خجل سري. ولكن من المفارقات العجيبة أن يكون السر عرضة، بمنتهى البساطة، للافتضاح بشكل مغلوط -الأمر الذي يجعل طرائق السرد المحترسة المعروفة لدى كونراد تقدم على محاولة إحباطه. فالراوي النبيه هو دائماً راو يحول دون ورود النوع المغلوط من التأويل، كما أن سرده يفترض بكل إصرار رواج نسخة منافسة. إن كل رواية "نوسترومو"، على سبيل المثال، مبنية على تواريخ متنافسة عن (كوستاغوانا) حيث أن كلاً منها يزعم بأنه سجل أكثر دقة من غيره عن الأحداث الخطيرة، وينتقد بشكل ضمني النسخ الأخرى.
إن بإمكاننا أن نتصور روايات كونراد بشكل تجريدي وكأنها تبادل المواضع بين الحضور والغياب في اللغة. فحضور الكلمات المنطوقة في الوقت المناسب يخفف وطأة نسختها المكتوبة، إن لم يعمل على تغييبها نهائياً، إذ إن ثمة متكلم يتوالى السرد بصوته في الوقت الذي يطغى صوته على حقيقة غيابه عن مستمعيه إبان كلامه (أو حقيقة عدم مشاهدتهم له). إن هدف كونراد هو أن يجعلنا نرى أو أن نتخطى بدلاً من ذلك غياب الأشياء كلها عدا الكلمات، وذلك كي نتمكن من الدخول إلى حيز من الرؤية خلف الكلمات. ترى ما هو ذلك الحيز؟ إنه عالم من عوالم المصادفة الميسورة بين النية والكلمة والعمل، وعالم بالإمكان دفن مثقال ذرة من أية واقعة فيه، كما عبّر عن ذلك لوردجيم. وهناك تلتئم الصدوع القائمة في ألفة الإنسان مع نفسه أو في ذاته المهشمة، ويضيق الفراغ الفاصل بين الطموح والفاعلية. فعملية استرجاع ماضي الزمان وإمعان النظر في أحداثه تستهدف تقويم الاعوجاجات والقضاء على التباينات، لا بل والأجدى أن نقول، من منطلق أعمق، أن نية الكاتب على الرغبة في قول شيء واضح جداً تتعرض للتوافق تماماً مع رؤية القارئ، إذ إن الكلمات اللصيقة بالصفحة تصبح، من خلال جهود كاتب منعزل، ملكاً مشاعاً للقارئ الذي ينفذ بصره خلف الكلمات إلى النية البصرية للكاتب، الأمر الذي يكون بمثابة السرد المكتوب عينه.
فبالنسبة لكونراد كان المعنى الذي تولده الكتابة نوعاً من الخط الكفافي البصري الذي لا تستطيع اللغة الاقتراب منه إلا من الخارج ومن مسافة تبدو ثابتة على الدوام. ولربما أن بوسعنا أن نعزو هذا التقييد الصارم على الكلمات إلى إيمان كونراد بسمو الشيء المنظور على ما عداه، وإلى شكه العميق الجذور بقدرة اللغة المكتوبة على تقليد ما تراه العين.
فاستخدامه لأمثال هذه الأحابيل القصصية، وما هي بالأساس إلا أحابيل استرجاعية واستقصائية كالاستعلام في رواية "لوردجيم" والتقرير التاريخي في "نوسترومو" والتنقيب المنهجي في "قلب الظلمة" والترجمة في "تحت عيون غريبة" والاستقصاء الهزلي في رواية "العميل السري"، يكشف عنه بأنه يوظف اللغة وكأن المقصود بهذه الأحابيل حدوث الرؤية الفعلية لكي تنتفي، من ثم، ضرورة وجود اللغة. ولكن الجدير بالذكر أن هذه الأحابيل أنفسها معتمدة على التسليم جدلاً أن هنالك مكاناً مركزياً، أي "قلب تلك الظلمة" التي قد توجد في مكان ما في صميم أفريقيا، أو في صميم أمريكا أو في صميم لندن، أي ذلك المكان الذي يحتل مركز الصدارة بكل جدارة بغية تفهم عمل من أعمال الماضي الذي يتسم بمواصلة بث إشعاع المغزى من ذلك المكان إلى أمكنة أخرى وفي أزمنة لاحقة.
ولئن أمعنا النظر في قصص كونراد من منطلقات كهذه لاعترانا الذهول من الإصرار الكبير الذي يصره مجمل مركب الأفكار المقرون "بالمركز" (كالاقتراب من المركز، والإشعاعات من المركز) على مواصلة الظهور في عمله كضربة لازب، ولا سيما إن تذكرنا أن كونراد لا يتركنا ننسى أن الرواية المكتوبة تدون الحكاية المسرودة التي تستقطب الانتباه إلى نفسها هي وكأنها سيرورة للاقتراب من المركز رويداً رويداً. وهكذا ففي رواية "قلب الظلمة" يقوم مارلو برحلته باتجاه مختلف المراكز التجارية الموجودة في الداخل وهو يفترض بداهة أن كيرتز هو ضالته المنشودة. والوصف الذي يتناول كيرتز يقول عنه بأنه في (المركز الداخلي) علاوة على أنه مدار أحاديث كثيرة. فبالوصول إليه كان مارلو يأمل بأن يضع حداً لكل الإشاعات التي سمعها عنه وأن يرى أخيراً بنفسه، وبصمت، ما هي بالضبط نوعية كيرتزوما هو عمله. ومع ذلك فليس على القارئ وعلى مارلو إلا أن يكتفيا، معظم الوقت، بأقل الكلمات بدلاً من انعدامها نهائياً في الوقت الذي يتحقق فيه بلوغ المركز. فمن هنا تتأتى القوة الغريبة لتعابير لدى كونراد من أمثال "الرعب" أو "المصالح المادية" على الرغم من أنها مقتضبة وصداها دائب التكرار: فهذه التعابير تعمل عمل النقطة الساكنة، أي المركز اللفظي الذي يفسره السرد والذي يعود انتباهنا إليه مراراً وتكراراً. ولئن رأيت الشيء الذي تعلن عنه لاستغنيت على الأرجح عن الكلمات، ولئن عثرت على مرادفها المنظور لتسنى لك ذلك الحضور المطلق الذي عمل النظام اللغوي المزدوج على تغييبه في السرد.
وهكذا لم يكن بلا أي طائل أول سرد مسهب لكونراد في رواية "حماقة آلماير" حول بناء يدعى "بالحماقة" كان مصمماً لاختزان الذهب المستخرج من الداخل، بيد أن الذهب ما رؤي قط، ما استخرج قط، بل دار الحديث عنه وحسب.
إن ذلك التزامن بين انطماس الكلمات وبين حضور المعنى حضوراً بصرياً دون وساطة صار ولا بد تزامناً لا عقلانياً جداً وقت صدور رواية "العميل السري" (1907، أي بعد اثنتي عشر عاماً على ظهور رواية آلماير) بحيث أن استخدام كونراد لفاعلية مألوفة مشوشة لدى صبي كي تمثل التزامن لهو، على ما أظن، تعليق ذاتي إلى حد كبير.
لقد كان سنيفي يجلس جلسة مريحة وهادئة إلى طاولة من خشب الصنوبر، وهو يرسم دوائر ودوائر، دوائر لا تحصى ولا تعد، دوائر متحدة المركز، مختلفة المركز، دوّار لألاء من الدوائر من تلك التي كانت توحي، جراء فيض من أقواسها المتشابكة الكرارة واتساق شكلها وتشوش خطوطها المتقاطعة، بتصوير فوضى كونية، كرمز لفن مجنون يحاول تصور المستحيل، ما أدار الفنان رأسه قط، وفي استغراق روحه كلها بتلك المهمة كان ظهره يرتعش، في حين أن عنقه النحيل، المغروس في حفرة عميقة في قاعدة جمجمته، بدا على وشك الانفصام. (45-46/12).
إن ما يفعله السيد فيرلوك لا يتعدى "الكشف عن ستيفي البريء" حين يفتح باب المطبخ، لأن الفن الانفصامي لدى ستيفي يتقصد السامع وليس له أي ذكر. وهو مجرد استغراق كثيف متواصل في عمل مكرور معناه لا يتبدل. فاختيار كونراد لكلمة "مهمة" هنا كان على الأرجح اقتباساً لا إرادياً من (مقدمة عام 1896)، وكان ذلك الاقتباس الذي كان يعتمد على خطورته الأخلاقية في معظم الأحيان. وإن طبيعة فن ستيفي، تلك الطبيعة المشوشة والمتسقة والمكرورة والمنعزلة، تماثل الوصف الذي وصف به كونراد الكتابة: "جحيم حين تتوجب عليك الكتابة، الكتابة، الكتابة"، مثلها بذلك مثل تلك الدوائر المتحدة المركز والمختلفة المركز التي توحي بتفاعل المتناقضات وتبادل المواضع فيما بين الحضور والغياب في اللغة. وإن أكثر ما يلفت الأنظار يكمن في صمت المشهد بأسره وسريته العامة. فهل بمقدورنا أن نقول أن ستيفي كان ضحية اختلاس النظر أو استراق السمع؟ وذلك لأن من الصعب في حقيقة الأمر أن يعرف المرء ما إن كان "النخير الذي أطلقه السيد فيرلوك استنكاراً للمفاجأة" يعني أي شيء غير الاطلاع ليس إلا. فالدوائر لا تتكلم بل وتنبئ فقط عن تصور المستحيل (ومن خلال رمزية واهية جداً)، وهي تطوق الفراغ حتى حين تبدو بأنها تستثنيه جزئياً. وعلاوة على ذلك فإن دوائر ستيفي رهينة الصفحة ولكنها تقيد الرسام بفضاء أبيض فارغ ولا وجود لها في أي مكان آخر. وإنني أرجح تماماً أن كونراد كان يتخيل ستيفي بأنه ذلك الكاتب الذي يقف على شفير الهاوية "in extremis" والذي يتوجب عليه، كون النظرة إليه نظرة معتوه تافه، التقييد الصارم بأحد قطبين اثنين: إما أن يخربش على الصفحة إلى أبد الآبدين، أو أن يتمزق إرباً إرباً دون هوية بشرية. ومن الجدير بالذكر أن هنالك أمثلة سابقة، مؤثرة ولو أنها تقريبية، لكل من ستيفي والثنائي فيرلوك في قصة "المعتوهون" التي هي عبارة عن قصة قصيرة كان استكمالها في عام 1896.
فالقصة تبدأ تماماً تقريباً نفس بداية قصة "آمي فوستر" (1901) التي تعالج أيضاً وضع شخصية مختلة عقلياً ويبدو عليها الجنون، والتي يرى فيها الراوي البقايا الباقية لقصة قديمة أثناء زياراته لمكان جديد بالنسبة إليه. وإن القصة- "أمامي على الأقل حكاية مريعة وبسيطة" -لقصة فلاحين اثنين ينجبان بلا أي حس بالمسؤولية أربعة أطفال بلهاء. فالتشوش العقلي والغضب اللذان يحلان بالزوجة يدفعان بها إلى قتل زوجها، وبعدئذ تقتل نفسها بالقفز من جرف صخري إلى البحر، حيث ثمة شاهد على الانتحار يسمع "صرخة وحيدة عالية طلباً للنجدة ترتفع إلى الأعلى.... وتحلق في أعالي السماء الجامدة"(84/7).
وفي مرحلة تالية يعمد معلم اللغة، في رواية "تحت عيون غريبة"، إلى مزيد من التعليق على محاولة تجاوز اللغة بالرؤية. ولكن هذه "الحماقة" الآن لها مغزى سياسي أيضاً، على الرغم من صياغة المعلم لها بعبارات كلامية. فهو يقول: "إن ذلك النزوع للارتقاء بكل مشكلة من مستوى الشيء المعرّض للإدراك بواسطة تعبير ملغز، لأمر روسي بحت” (104/22). وفي كل مكان يعلق المعلم على الكيفية التي تكون عليها الحال وقت الإصغاء إلى الروس وهم يتحدثون: "إن أدق أقوالها (أقوال ناتاليا هالدين) كانت تبدو دائماً لي ذات استطالات مبهمة في طريقها إلى الاختفاء في مكان ما خارج متناولي"(118/22). فأفعال العمل المادي والمدرك الحسي لوصف اللغة المستخدمة لاستعمال فعلي متطرف لأفعال على اتساق مطلق مع الممارسة المألوفة لدى كونراد. "فالارتقاء" يوحي "برفع" مقدمة عام 1896، بيد أنه هنا مقرون "بالتعبير الملغز" الازدرائي الذي هو بمثابة وسيلة غير جديرة بالاعتماد عليها في أحسن الأحوال. إن النتيجة الخالصة لهذا النوع من الإخبار، مهما بلغت دقة صياغته، هي تمديد المعنى إلى مسافة بعيدة جداً عن الكلمات إلى الحد الذي يتلاشى فيه المعنى نهائياً. وإن ما يجتره المعلم العجوز على الدوام هو أن الميل الذي تميله اللغة الروسية نحو التعبير الملغز لنوع من الخلل الأنطولوجي الموجود إلى درجة أقل بكثير في اللغات الغربية. إن رازوموف ليشعر بهذا الخلل شعوراً هستيرياً حين يلقي هالدين بنفسه تحت رحمة التلميذ المسكين. فالنظام مقرون بدراسة اللغة واستخدامها بشكل حاذق (إذ إن كلاً من المعلم ورازوموف تلميذان من تلاميذ اللغة)، في حين أن التشوش والتسامي، فضلاً عن نوع من أنواع الجمالية السياسية، مقرون كله بالرغبة الثورية لدى هالدين في أن يرى ويغير ويعتنق وعلى نحو مباشر جداً.
وفي الوقت الذي عادت فيه قصة "الفرصة" (1913) على كونراد بشهرة غير متوقعة كان قد حزم أمره على أنه في خاتمة المطاف كاتب إنكليزي وليس، كما زعم بعض النقاد، كاتباً فرنسياً فاشلاً أوسلافياً متخفياً. ففي المقدمة الثانية التي جاءت بعد زمن طويل (1919) لـ "سجل شخصي" كتب هذا الوصف "الروسي" المذهل لاستخدامه اللغة الإنكليزية. فهأنذا أقتبسه كاملاً نظراً لعاطفيته الجياشة وتصميمه الأكيد لا للإطناب بالمنطق أكثر من اللزوم:
إن حقيقة الأمر تكمن في أن قدرتي على الكتابة بالإنكليزية لأمر طبيعي جداً شأنه شأن أية كفاءة أخرى ولدت ربما معي. وإن لدي إحساساً طاغياً وغريباً بأنها كانت تشكل على الدوام جانباً كامناً من جوانب نفسي. فالإنكليزية لم تكن بالنسبة لي خياراً أوتبنياً.
وإن أدنى فكرة عن الاختيار لم تخطر على بالي البتة. وأما فيما يتعلق بالتبني- حسناً، أجل، كان هنالك تبنّ، بيد أنني أنا هو الذي كان موضوع التبني من قبل عبقرية اللغة، الأمر الذي جعلني أتخطى مباشرة طور التلعثم بمجرد أن جعلتني ملكية خاصة بها تماماً حيث أنني أعتقد فعلاً أن تعابيرها الاصطلاحية نفسها كان لها عمل مباشر على فطرتي وعلى تشذيب شخصيتي التي كانت وقتها هزهازة.
وحين يعترف شخص مثلي أن الأمر كان اكتشافاً ولم يكن وراثياً، بحيث أن نفس دونية الحق الشرعي تدل على أسبقية الاستعداد الطبيعي على ما عداه، فإن ذلك الاعتراف يضع صاحبه تحت وطأة التزام أبدي في أن يبقى جديراً بثروته العظيمة..... فكل ما أستطيع المطالبة به، بعد كل تلك السنوات من الجهود الحثيثة وبعد كل ما تكدس في قلبي من كروب شكوكها ونقائصها وعيوبها، هو الحق في تصديقي حين أقول بأنني لو لم أكتب بالإنكليزية لما كنت كتبت البتة (7-8/6).
وحتى لو لم يكن هذا التعامل مع المشكلة بالتعامل الأمثل، فإن المرء يستطيع أن يستخلص من هذه الفقرة فكرة أولية على الأقل عن مقدار تعقيد هذه المشكلات ومدى اقترابها من المستحيل [إن استهلال هذه الكلمة بحرف كبير من صنع كونراد] بالنسبة إليه وهو يمعن النظر في بذر اللغة وتلقيها وإدراكها حسياً.
إن رسائل كونراد تصوره بأنه في عراك دائم مع اللغة. فرواياته تخلع على الدوام كساء مسرحياً على كيفية حدوث قصة مع إنسان غيره، وأما هو فإما أن تروى إليه أو، إن لم يكن بطل القصة، إنه يكابد مرارتها على شاكلة "جيم" في الوقت الذي ينطوي فيه أساسها المنطقي تحت عنوان التوهم. "إن التوهم قد تشبث بتلابيب جيم واختصه لنفسه- وذلك كان القسط الحقيقي من القصة، الأمر الذي كان لولا ذلك خطأ برمته". ولذلك كانت اللغة المكتوبة بالأساس عملاً من أعمال التدوين الاستذكاري السلبي. لقد طرح كونراد، ككاتب، كتابته مستورة منهجياً بظل الصوت المتحدث، الماضي والرؤية والوضوح الآمن. فيا لكم كشوف هذه الأنة في رسالة بتاريخ 4 كانون الثاني عام 1900 إلى (كانينغهام غراهام) إذ يقول فيها: "ولكن المصاعب تبدو لي وكأنها على وشك أن تطبق علي، وأتصور مسيرتها فيما بيني وبين نفسي كزحف لا سبيل لمقاومته لسرب من الصراصير. فيا لهول المصير حين يكون المرء ضحية مثل هذا النهش المشين".(3)
لقد كان كونراد يغالي في تقدير قيمة اللغة على ما يبدو، أو يغالي في تقدير سطوتها عليه على الأقل. وأنا لا أعني بهذا القول إصدار حكم ضده باعتبار أن العناية الفائقة التي أولاها للطريقة التي روى بها رواياته تنبثق من صميم تلك المغالاة. فرواية "قلب الظلمة" مثلاً عبارة عن بنيان مركب يشتمل على نصف دزينة من "اللغات" فيه، ولكل واحدة منها ميدان خبرتها الخصوصي وزمانها ومركز وعيها، ولذلك فالقول بأن كونراد كتب بالإنكليزية يعني بالفعل القول أن كونراد يجري تمييزات خيالية خارقة في قلب اللغة الإنكليزية، وتمييزات ما خطر على باب أي كاتب قبله أنها ضرورية، وتمييزات كانت بمثابة "إقراره المادي" بالمصادر اللفظية لقصة كانت دائماً خارج إطاره وبعيدة عنه. فهذه التمييزات كانت الحصن الذي تحصن فيه كونراد ليدفع عن نفسه انقضاض اللغة عليه: إذ من خلال إعادة ترتيب اللغة وإعادة تشتيتها، ومن ثم إعادة تركيبها في أصوات، تمكّن من تنظيم عمله وتنفيذه ككاتب. وإن تعدد العناصر الروائية الأساسية يصبح بالإمكان عندئذ تصوره وكأنه يطوق موضوعاً بطرائق عديدة شتى. وأما النتيجة الخالصة في خاتمة المطاف فتكون، كما يقول مالارميه في "أزمة الشعر" (Crise de vers)، الإقرار "بمبادهة الكلمات نظراً لصراخها بأعلى الصوت بعدم المساواة الحركية فيما بينها"(4). بيد أن ما يتبقى من الكلمات هو ذلك الأثر الحرون من هوية الكاتب باعتباره أثراً عسير الانقياد للغة. وإن ذلك الأثر المستثنى هو، بتلك السخرية العجيبة التي تروق لكاتب يتمناك أن ترى بأم العين، الشخص المنقوش الفعلي نفسه، أي الكاتب، ومع ذلك فكونراد يتظاهر أن الكاتب كان عنصراً ثانوياً. وهكذا فإننا نلاحظ، مرة أخرى، كيف أن الأصوات التي تؤدي إلى الرؤية تطمس ما كان كونراد قد دعاه "بالعامل بالنثر" الذي يجب على اختفائه، كما يقول مالارميه، أن يثمر الأعمال الكاملة النقية "l,oeuvre pur". ولكن هذا الشيء لا يحدث، على نقيض كل من مالارميه وفلوبير، في حالة كونراد.
***
إن والتربينيامين، تعليقاً منه على سرد الحكايات بلسان ليسكوف، يسوق الدليل على أن نجاح الفن الروائي كان يعتمد تقليدياً على إحساس بوجود الصلة بين متكلم ومستمع وعلى الرغبة في توصيل شيء مفيد. وذانك الشرطان متواكلان بعضهما على بعض. فالمعلومة لا تكون مفيدة إلا لأن من الممكن وضعها موضع الاستعمال من قبل الآخرين ومجموعة القيم نفسها، مع العلم أن أية مجموعة قيم لا يمكن تخليدها إلا من خلال اعتناقها من قبل أكثر من فرد واحد. وإن القول بأن هذا لم يعد صحيحاً في الأزمنة الحديثة لقول يمثل حسبما يرى بينيامين:
علاقة ملازمة من علاقات القوى الدنيوية المنتجة للتاريخ، ألا وهي تلك العلاقة التي عملت على إزاحة الرواية من ميدان الكلام الحي والتي تعمل حالياً في الوقت نفسه على تيسير رؤية جمال جديد في الشيء السائر على طريق الزوال..... إن راوي الحكاية يأخذ ما يرويه من الخبرة- من خبرته هو أو من الخبرة المنقولة إليه على ألسنة الآخرين، ليعمد من ثم إلى تحويلها إلى خبرة لدى أولئك الناس المستمعين لحكايته، وهكذا يكون الروائي قد عزل نفسه. فمنشأ الرواية هو الفرد المعزول الذي لن يكون بوسعه بعدئذ أن يعبر عن نفسه بضرب الأمثلة عن أهم هواجسه، باعتبار أنه هو نفسه ليس موضع المشورة، وليس بوسعه استشارة الآخرين. ولذلك فكتابة رواية ما تعني نقل الشيء اللامتكافئ إلى أقصى درجات التطرف في تصوير الحياة البشرية(5).
فالتاريخ الشخصي لكونراد جعل منه إنساناً حساساً جداً حيال المنزلة المختلفة التي تحتلها المعلومة في خضم الحياة من ناحية أولى، وفي الحياة الكتابية من ناحية ثانية، إذ في الحالة الأولى تلعب الجماعة العاملة وإحساسها المشترك بما هو مفيد دوراً جوهرياً فيما يتعلق بإنجاز المهمة الشاقة، في حين أن العزلة وشكوكها تطغى، في الحالة الثانية، على كل شيء. وهكذا فإن كونراد كان يتحلى بذلك الامتياز الملتبس المتمثل بمشاهدته، ضمن حياته الخاصة المزدوجة، بذاك التحول من قص الحكاية كشيء مفيد وفن جماعي إلى كتابة الرواية كفن منعزل ومن مدركات الحواس.
ترى ماذا يستتبع تحديداً ذلك التحول؟ فأولاً وقبل أي شيء آخر، ونظراً لأن منزلة المعلومة اكتست طابع المعضلة، صارت وسيلة توصيل المعلومة تحظى بشهرة أكثر من السابق. وثانياً صار على المتحدث أن ينوع كلماته ولهجته بما يكفي لتعويض عن شكوكه بفائدة الشيء الذي يقوله. فمراراً وتكراراً عبر كل من هنري جيمز وأوسكار وايلد، وهما من معاصري كونراد، عن هذا الصنف من التنويع بأنه خلق التشويق، إذ إن التشويق في مثل كهذا يعتمد اعتماداً محكماً على ارتياب (أو حتى على جهل) بالشيء المفيد عملياً. فالبراعة الفنية الفائقة التي تبدو على إدارة كونراد لحكايته، وهي الشيء الذي بلغ ذروته في رواية "المصادفة"، لأمر ينطوي دائماً على أهمية توازي أهمية أية معلومة تأتي بها الحكاية- لا بل وإنها في العادة أكثر تشويقاً وأهمية أيضاً. وإن بمقدور المرء أن يقول هذا الشيء دون أن يكون في نيته التقليل بشكل من الأشكال من شأن المعلومات البحرية الواردة في روايات كونراد ولا من شأن عشاقها بين قرائه. وثالثاً لم تعد الحكاية تفترض وجود مستمعين وحسب، لا بل وصارت تكسوهم كساء مسرحياً أيضاً إلى الحد الذي يجعل حتى الكاتب نفسه يظهر بمظهر المشارك أغلب الأحيان في الحكاية كمن يستمع أو كمن، وعلى نحو أدق في حالة كونراد، يتسربل سرباله المسرحي ويتلقى الانطباعات. ورابعاً: صارت الرواية موضع التلاوة، أي شيئاً في قلب سيرورة فعلية كي تكون موضع السرد أكثر مما هي معلومة مفيدة. إن استخلاص المعلومة من السرد الروائي، عند كونراد، علاوة على حقيقة كون لغته تأخذ في العادة شكل الكلام المنقول، ما هما إلا إشارتان إلى أن ما يقال يجب ألا يكون بالتحديد شيئاً هاماً أو واضحاً أهمية أو وضوح من يقوله ولماذا وكيف.
وإني لأعتقد أن هذا التحول الأخير يجب اعتباره مظهراً من مظاهر انعدام الإيمان انعداماً تاماً في القوى الإيحائية للغة كما أسلفت القول. فذات مرة كان من الممكن للكاتب أن يفقد مثل هذا الإيمان وأن يحافظ في الوقت نفسه على اعتقاده بسمو الشيء المنظور. ولذلك فإن الكتابة لا تستطيع تمثيل الشيء المنظور، ولكنها تستطيع أن تصبو إليه وأن تتحرك باتجاهه، بطريقة من طرق المخاطبة، دون أن تحرز عملياً الوضوح الصريح لشيء بيّن أمام ناظري المرء، ولقد درس فوكو هذا التناقض الواضع في كتابه المعنون بـ"الكلمات والأشياء" إذ عامله معاملة طور تاريخي محدد متجسّد بأشكال شتى في عمل دي ساد ومالارميه ونيتشه: وإن روايات كونراد لتطرح عنه أمثلة توضيحية غنية على وجه التخصيص. فضمن منظور شامل لذلك النوع الذي يرسمه فوكو يمكننا أن ندرك الحاجة الماسة التي جعلت كونراد يقرر توطيد أركان السرد، بناء على نظرية المعرفة، في النطق- ككلام منقول أو ملفوظ خلال تلك الفترات المصبوغة بصبغة مسرحية كمواقف سكون مفروض- لا في العمل أو الجماعة أو المعلومة.
فمنابع الألفاظ المسرودة عند كونراد هي ما سوف أدعوه بالرغبة في التحدث والحاجة لربط قول مخصص بأقوال أخرى. وإن ما يجعل من أية شخصية من شخوص كونراد كائناً بأم عينه يتأتى من شيء في حوزتها، أو في حوزته، ويستدعي الإخبار عنه. ولكن في أغلب الأحيان هنالك سر أثيم، مع العلم أن الشخصية في بعض الأوقات هي ذلك الإنسان الذي يتحدث عنه الآخرون حديث المهوّسين، كما أنها في أوقات أخرى ذلك الرجل السكيت الذي، من أمثال جيمز ويت أو تشارلز غولد أو ماك وير أو آكسيل هيست، تنقضي حياته كلها وهي تخاطب الآخرين بطريقة نموذجية. وهكذا فإن قصص كونراد تدور حول تلك الشخصيات المطروحة ضمن سياق القصة والمأخوذة بعين الاعتبار. ولكن الديمومة الداخلية لكل قصة تنبثق عن الإدراك الذاتي للمتحدث بأنه ذلك الإنسان الذي، كما قلت آنفاً، يدلي بقول يعارض أقوالاً متضاربة أو تكميلية لبعضها بعضاً، أو بقول يقف ضمن تلك الأقوال. وبمعنى من المعاني فإن كل قول مسرود عن كونراد يفنّد القول الآخر: فالكذبة التي كذبها مارلو على خطيبة كيرتز لمثال من أشهر الأمثلة على شيوع عادة ما على نطاق كبير. وأما ذلك الإبحار العظيم الذي يخرج به نوسترومو من سولاكو فما هو إلا موضوع تقارير الثناء العاطر على ذلك من قبل ميتشيل، بيد أن هذه التقارير تستوجب الحكم بأنها لا تعدو بضعة تقارير من تلك التي تتعامل مع "قدرة حمولة السفينة"* على أنها المنقذ لسولاكو. وفضلاً عن ذلك فملاحظات ديكود أيضاً تشخّص موقف الساخر من رومانسية غولد، وعلى تناقض مقصود معها. وإن كلاً من آفيلانوس وإميليا وجورجيو وفيولا وسوتيللو- يدرك أحداثاً ويدلي بتقارير عنها بطريقة تتوجه سراً" أو علانية نحو معقولات أخرى. وليس هنالك من مكان أكثر من رواية "المصادفة" حيث يتمكن فيه القارئ من رؤية كونراد وهو يخلق التوتر والتصارع، ومن ثم النسيج الروائي الديناميكي، من صميم قول متضارب مع أقوال أخرى، على الرغم من التحامه بها بشكل لا مناص منه.
إن رواية "لورد جيم" لإحدى أوائل روايات كونراد المطولة التي تجعل من المعرفة والمعقول والرؤية أموراً من مهمات النطق. فالرواية تنطلق "بفعل من أفعال الخيار العقلاني" الذي يوجه عيني مارلو صوب جيم أثناء الاستعلام. وبعد فترة "من التحادث اللانهائي مع نفسه" وفي وقت "يكف فيه الكلام عن أن يكون مفيداً له" يقابل جيم في النهاية رجلاً يعمل حضوره على حلحلة عقد ألسنة "الرجال ذوي الكلف البسيط، وذوي الكلف الشديد، وذوي الكلف الخبيء الوبائي". فمارلو لم يصخ السمع وحسب بل وكان "راغباً في تذكر جيم بقضه وقضيضه وبالتفاصيل وبشكل مسموع". وبالفعل كان لدى جيم "أسرار هامة" يود الاعتراف بها، ولكن نزوع مارلو للإخبار والتذكر أمر مهم أيضاً أهمية الاعتراف بالنسبة للكتاب". فمنذ أول كلمة [من حكايته] يصبح جسد مارلو ساكناً وهو مرتاح في المقعد وكأنه روحه شقت طريقها رجوعاً إلى ردح طويل من ماضي الزمان وطفقت تتحدث عبر شفتيه من الماضي" (33/21). وإن المسامحة التي يبديها مارلو حيال جيم مغروسة جذورها في نفس تلك النزعة نحو التصور الرومانسي الذي يجعل جيم يفضل، وإلى حد التعقيد، الرحلات البحرية الجسورة الوهمية على الرحلات الفعلية. فلا رجل من هذين الرجلين، سواء منهما السامع أو الراوي، يقيم في عالم الوقائع بشكل فعلي. وأولايهيم جيم على وجهه ومن ثم مارلو بغية "إدراك المنّاع على التصور"، الأمر الذي يشكل مسعى ملحاحاً جداً وسامياً في الوقت نفسه إلى الحد الذي يقتضي فيه ضمناً "قيام معركة خطيرة وجليلة حول جوهر الحياة الحقيقي". وفي خاتمة المطاف يبين كونراد أن جيم لا يتحدث إلى مارلوبل بل أمامه وحسب.
إن ما يبدو للوهلة الأولى وكأنه توافق في الآراء يتحول إلى زمرة من الخطوط المتوازية. وعلاوة على ذلك فإن مارلو يقول صراحة فيما بعد أن جيم ما وجد إلا من أجله، وكأنه يريد أن يقول أن اعتراف جيم أمام مارلو ينطوي على أهمية أكبر من الأهمية التي ينطوي عليها ذلك الشيء الذي اعترف به جيم (مع العلم أن كلاً من مارلو وجيم يبدوان على مقدار متساوٍ من التشوش بهذا الشكل أو ذاك). وأما جيم فإنه لا يوجد فعلاً لسامعه إلا جراء تلك المأثرة، لإجراء مغامراته البطولية بحد ذواتها ومن تلقاء أنفسها وحسب. ولقد علقت أنا آنفاً على ممارسة كونراد، الأمر الذي يتجلى فيما يقوله مارلو عن الظهور الملغز الذي ظهره جيم وعن توقانه للتحدث، أي عن تبديل المواضع بين المنظور والملفوظ: بما مفاده أن الطريقة التي تبين فيها الحكاية كيف أن "التوهم قد استأثر بجيم واختصه لنفسه" لقول ينبثق للتو عن هذه الممارسة. فالتوقان الذي تتوقه نفس جيم للإقدام على مغامرة محفوفة بالأخطار المميتة، مثله مثل السرد الذي يسرده مارلو ومثل الإصغاء الذي نصغيه للحكاية، لا يتفق وأي مخطط هيّن يكفل الإتيان بالإخبار ويضمن التقدم المباشر المطرد من المطمح، مثلاً، إلى الإنجاز، وإنما يتطابق مع نزوة نظرية ذات قسط أوفى من التجريد. فالنزوة لا تستطيع أن تجد لها أية صياغة في مجريات الأحداث، ولا أية انطباعة ذهنية، إلا في ذلك العنوان الغامض -التوهم- لنقل البحث الدؤوب القلق الذي يبحثه جيم. إن مقتضيات النزوة، باعتبارها محشورة في ديمومة الكلام المنقول أو المنطوق، ما هي نسبياً أيضاً إلا أشياء أثيرية كالنموذج والإيقاع والعبارة والسياق.
ولكن من حقنا أن نطرح السؤال التالي: ما هو الضغط الذي يتعرض له جيم والذي يجعله يفضل الموت على الحياة، والذي يحث مارلو وكونراد على معاش "خبرات غير حاسمة" من تلك التي توحي للقارئ بشيء أقل مما أي قارئ على استعداد أن يتوقع؟ وفي كل الحالات يكون العامل الطاغي لا النشاط السردي بل رغبة قدرية لمشاهدة النفس مشاهدة سلبية على أنها شيء موضع التحدث ومحط التأمل ومثار الإرباك ومكمن العجب العجاب، في المنطوق. ويعني هذا أن جيم ومارلو وكونراد، بعد التسليم بداهة في كل مكان أن المرء ليس بمقدوره أن يحقق خبرته الحياتية تحقيقاً ناجزاً وليس بمقدوره أن يدرك الخبرة الحياتية لأي إنسان آخر إدراكاً تاماً، متروكون برغبة لتكييف خبرتهم الفردية، كل بطريقته الخاصة، بشكل فعلي وتقريبي، وبما أن هذه الخبرة، بشكل لا مفر منه، إما في غابر الأزمان أو مستحيلة تقريباً بالتحديد، فما من انطباعة ذهنية يمكنها اقتناص هذا الشيء وما من جملة يمكنها ذلك أيضاً في خاتمة المطاف.
ومع ذلك فإن المنطوق يصير قولة، وإن لم تكن لإنسان آخر وحسب ففي حضرته على الأقل. فالكلمات تنقل حضور كل من المتكلم والسامع ولكنها لا تنقل فهماً متبادلاً بينهما.
إن كل جملة تدق إسفيناً أكثر حدة من سابقه بين النية (الرغبة في التحدث) وبين توصيل المرام المطلوب. وأخيراً تكون الرغبة في التحدث، وهي نية كلامية بالتحديد، مضطرة لمجابهة نقص الكلمات، لا بل وغيابها فعلاً، للتعبير عن تلك النية. وهكذا ليس من الشطط أن نقول بأن كونراد يخلع، بطريقة معقدة، الكساء المسرحي على التفاوت بين النية الكلامية المفهومة والممكنة قواعدياً ومنهجياً من ناحية أولى، وبين الوصف الكلامي نفسه كطريقة للوجود في عالم اللغة مع مخلوقات بشرية أخرى، من ناحية ثانية. ففي قصة "آمي فوستر"، وهي أكثر قصصه إثارة للمشاعر، يتجلى هذا التفاوت بتفاصيل بشرية خاصة. هاكم يانكو غورال الذي يعيش، بعد أن قذفت به الأمواج على الشاطئ في إنكلترا، بين ظهرانيي ذلك الشعب الذي لا يستطيع التأكد من شخصيته والذي تبقى لغته غريبة على يانكو:
هؤلاء هم الناس الذين كان يدين لهم بالولاء، وثمة وحدة رهيبة بدت تقع عليه من السماء الرصاصية لذلك الشتاء الخالي من أشعة الشمس. كل الوجوه كانت حزينة. ما كان بمقدوره أن يكلم أحداً، وما كان يحدوه الأمل بفهم أي منهم البتة. لقد كان الواقع وكأن هذه الوجوه وجوه أناس من العالم الآخر- وجوه أناس موتى كما اعتاد أن يقول لي بعد مضي بضع سنين. وأقسم بشرفي أنني أتعجب بأنه لم يجن. ما كان ليعرف في أي مكان كان. لقد كان في مكان قصي جداً عن جباله- في مكان يطفو على الماء. هل هذه أمريكا؟ كان يتساءل فيما بينه وبين نفسه.... حتى الحشائش كانت مختلفة، وكذلك الأشجار. كل الأشجار إلا ثلاث صنوبرات نورويجية كانت تنتصب على مرجة صغيرة أمام بيت سوافر، وهذه الصنوبرات ذكرته ببلده. لقد ضبطوه ذات مرة، بعد الغسق، وهو يسند جبينه على جذع إحدى تلك الأشجار، ويشرق بالدمع ويحادث نفسه. تلك الأشجار كانت وقتها بمثابة الأخوة له، كما أكد. كل شيء آخر كان غريباً عنه..... يا للمرات العديدة التي سمعت بها صوته العالي من خلف نجد أحد مراعي الأغنام، وقد كان صوتاً بهيجاً متألقاً كصوت القبرة، غير أنه كان صوتاً بشرياً تخالطه نغمة حزينة، فوق تلك الحقول التي كانت لا تسمع إلا تغريد الطيور. أما أنا فقد كنت أصاب بالذهول. يا للعجب! لقد كانت إنساناً مختلفاً، برئ القلب مفعماً بالنوايا الطيبة- الشيء الذي ما كان يريده أي إنسان. فهذا المخلوق المطروح على الشاطئ كان كإنسان مزروع في كوكب آخر، وكان مفصولاً عن ماضيه بمسافة شاسعة وعن المستقبل بجهل مطلق. إن منطوقه الانفعالي السريع عاد بصدمة إيجابية على أولئك الناس كلهم (128- 129- 132/20).
إن الفهم المفصّل المضني لهذا المأزق من لدن كونراد هو ما يجعل من خيار المشافهة هذه وهي طريقته في سرد الروايات، شيئاً أكثر إلحاحاً بكثير من أي خيار جمالي مريح. وإن من الواضح أنه كان يعتقد أن تصور مشهد تصوراً تاماً بين متحدث وسامع مراقب، هو الذي يستطيع، وحده دون سواه، أن يجلو- على نحو دائم ومباشر، وكرّار لأنه يحدث في قصة إثر أخرى- ذلك الانفصال الأساسي المطلق الذي دافع عنه كونراد ككاتب: ألا وهو ذلك الصدع القائم بين طاقة في ذروة النضج للتعبير الكامل، مع أنها بالنسبة للناس الآخرين طاقة كامنة أو مقصودة وحسب، وبين تواصل بشري لا مفر منه. "ليس هنالك أية كلمات للتعبير عن نوعية الأشياء التي كنت أريد قولها" (لوردجيم). ومن هنا يتأتى ولع كونراد بتكرار عبارات مثل "كان واحداً منا" وتكرار ما يذكّر القارئ بمقدار فردانية كل فرد وخبراته أيضاً. والجدير بالذكر أن النص الذي كان يشتغل فيه كونراد كفّ بمنتهى البساطة عن كونه وثيقة مكتوبة وتحول، بدلاً من ذلك، إلى موزع للألفاظ على كلا جانبي الصدع، مع العلم أن هذه الألفاظ لا تجتمع بعضها ببعض إلا من خلال اهتمام القارئ بكلا الجانبين. فمثل هذا الاهتمام الذي يخيم على كلا الفريقين يلعب دور القنطرة التي توثق الارتباط بين النية الكلامية لدى جيم وبين مكابدة مارلو ونفاذ صبره كشاهد، كما هو عليه الحال في ديمومة ذلك الاهتمام في رواية "لورد جيم" وصموده أمام طولها. وما من ميدان إلا ميدان النية وأحلام اليقظة يمكن أن يكون فيه استكمال المخططات من ذلك النوع الذي يلفقه جيم لنفسه، مع الإشارة إلى أنه الميدان الذي يفتن أبطال كونراد فتنة قاتلة، فضلاً عن أن مثل هذا المكان لا يمكن إدراكه إلا إبان السرد المتواصل والمتفاقم الذي يسرده جيم عن مصيره وفشله. فحين يرى مارلو جيم للمرة الأخيرة، هاكم هذا المقطع:
حين كان جيم عند طرف الماء رفع صوته قائلاً: "قل لهم....
.... فأشرت إلى الرجال بأن يكفوا عن التجديف، وانتظرت مذهولاً. فلمن يجب أن أقول؟ كانت الشمس نصف الغاربة قبالته. كان بمقدوري أن أرى وهجها الأحمر في عينيه اللتين كانتا تنظران إلي نظرة خرساء......" لا... لا تفعل شيئاً. قال ذلك، وبإشارة خفيفة بيده جعل القارب يبحر بعيداً. وأما أنا فما نظرت إلى الشاطئ من جديد إلا بعد أن تسلقت إلى متن المراكب..... كان مت***باً بالبياض من قمة رأسه حتى أخمص القدمين، بقي ظاهراً للعيان بكل إصرار وحصن سواد الليل على قفاه، والبحر عند قدميه، والفرصة متاحة له على جانبه- ترى أمازال محجوباً؟ لا أعلم. فبالنسبة لي بدت تلك القامة البيضاء في سكون الساحل والبحر وكأنها تقف في صميم لغز هائل. كان الشفق ينحسر سريعاً من السماء فوق رأسه، وكانت تلك البقعة الرملية الصغيرة قد غارت تحت قدميه منذ حين، كما أنه هو نفسه ما كان ليبدو أكبر من طفل- وبعدئذ لم يعد يبدو أكثر من مجرد بقعة، بقعة صغيرة بيضاء بدا وكأنها تستقطب كل بقية الضياء في عالم حالك السواد..... وعلى حين غرة ضيعته (336/21).
إن ثمة أشياء كثيرة هنا جليب بعضها من بعض. فالصمت النهائي الذي يصمته جيم دليل على أن "فرصة صامتة" طفقت تهيمن على حياته من جديد. ولهنيهة من الزمن صار يبدو بأنه أضحى مركز الصلة البصرية، لا بل والعقلية أيضاً، أي ذلك المركز الذي لا تفيه حقه الكلمات في الوقت الذي لا يفتر لها فيه نشاط بتاتاً.
وبعدئذ يتوارى جيم عن الأنظار ولا يبقى مما يثير الذكريات عن حياته إلا البقية الباقية من الآثار -كرسالة وحكاية ناقصة ونتفة من تقرير شفوي- من تلك التي سوف يتمكن لاحقاً مارلو من اختزانها بعض مضي وقت طويل. ولكن الجدير بالذكر أن جيم يستطيع أن يحافظ على سلامة عزلة وجوده على الأقل، الأمر الذي لا يستطيعه مثلاً آكسيل هيست حتى بعد مرور ردح طويل من الزمن. فهيست يمثل آخر شخصية من شخصيات كونراد الهامة التي تحاول معاش حياة تجسّد كل الفضيلة النقية تقريباً ويمثل، بالتحديد تقريباً؛ آخر أولئك الرجال الذين يكون همودهم بمثابة دعوة لهجمات التوهم. ومع ذلك فإن انعزال هيست على جزيرته الخاصة، في رواية "الانتصار" (1915)، يكون لا مجدياً. فما من إنسان بوسعه أن يبقى محجوباً عن الرؤية ما دام يحافظ حتى على أوهى اتصال بالواقع. وإن مضمون التقولات الخبيثة لشومبيرغ وفساد ريكاردو وتأملات آربيلاغو، أمور كلها تدل على أن هيست لا يستطيع استخدام فلسفة أبيه في الانعزال لتحقيق هدف كبير. وعلاوة على ذلك فإن انجذاب هيست إلى لينا انجذاب لا طاقة له به، مثله مثل تعاطفه السابق مع موريسون في ورطته تعاطفاً يسحق له تحفظه.
وهناك بالطبع موضوع جنسي هام في رواية " الانتصار " ولكن العرض المعتمد الذي يعرض فيه كونراد قارب موريسون إزاء لينا كشيئين متعاقبين من أشياء التدخل الرومانسي الذي يتدخله هيست في هذه الحياة الدنيا يعود، على ما أظن، إلى مشروع كلامي آخر أكثر صرامة من سابقه، ألا وهو المشروع الموجود في العديد من الأماكن الأخرى في فنه الروائي.
فلقد قلت أن الأسلوب الأساسي الذي يعتمده كونراد، مع أنه كاتب، مطروح كأسلوب شفوي، وأن طموحه مقصود به التحرك باتجاه المنظور. فهذه هي المواقف التي توظف التلفيقات والحكايات والمشافهات لتصويرها، والتي تقدم لنا في النهاية ذلك الصدع القائم بين النية والواقع، أو بتعابير حسية بين الرغبة في التحدث والاستماع من ناحية أولى، وبين الرؤية والإدراك من ناحية ثانية. ولقد لاحظنا في رواية "لورد جيم" تلك الطريقة التي تعمل بها كل هذه الأشياء في النص، ولاحظنا أيضاً الانجذاب الشديد بين بعضها بعضاً، على الرغم من الهوة فيما بينها، أي بين النية (لا الصمت) وبين واقع شديد الوطأة.
ولكن قلما تستدعي الحاجة القول بأن كونراد روائي، لا هو بالفيلسوف ولا بعالم النفس.
وإن بوسع المرء أن يفترض أن حيزاً هاماً من خلال كونراد كان، خلال كتابة رواياته، مليئاً بتلك المواد التي ينتظم حولها قسط كبير من العمل الروائي: كذهب لينغارد وعاج كيرتز وسفن البحارة وفضة غولد، والنسوة اللواتي يجتذبن الرجال إلى المخاطرات والمغامرات، الرومانسية . وهكذا فإن قسطاً وافياً من التوتر في روايات كونراد ينشأ حين يحاول الكاتب أو الراوي أو البطل، أن يجعلنا نرى الشيء الذي يستدرج الكتابة والفكرة والكلام مراراً وتكراراً. ولقد قلت آنفاً بأن هذه الأنشطة، التي يكمن أساسها في الإخبار أو النقل، تبدأ بالاقتراب من الحالة المادية. ولكن لماذا؟ ولماذا بعد كل شيء يوطد كونراد جذور كل هذه الأنشطة، بعد إعطائها الشكل الكلامي، في المشافهة أو الكلام المنقول لأناس ميسور تحديد هوياتهم، لا في الصفاء اللغوي المجرد الذي اعتمده مالارميه أو جويس؟
إن الأهمية الأساسية لهذا السؤال هي أنه، كما أتصور، يميز، ولو بأدنى الحدود والتخطيط، بين السيكولوجية الشخصية لكونراد (التي هي الموضوع الأوحد لدراسات التحليل النفسي مثلها مثل سيرة برنارد مير) وبين سيكولوجية كتابة كونراد. وكمصدر من مصادر الشواهد على التاريخ السيكولوجي لهذا الرجل يمكن في بلوغ الحكاية "مرحلة الإنجاز" من خلال سيرورة أدبية بتلك الطريقة التي لا تتسنى للسلوك اليومي المحكوم، هو نفسه، بشرط الثقافة والمجتمع والتاريخ. وعلاوة على ذلك، وكما حاولت أن أبين في كل مكان آخر،(6).
فإن الديناميكية الاجتماعية السوسيولوجية التي تحدد مسيرة أدبية ونصها إلى الحد الذي يتعذر فيه قراءة أي منهما بغية الوقوف على شاهد عاجل عن السيكولوجية الفعلية لكاتب من الكتاب، لديناميكية خاصة تثير الإعجاب. ولكن هل هذه الكينونة الخاصة المدعوة بالسيرة الأدبية أو النص تعني نوعاً من أنواع نقض الشاهد الذي قد يأتي به علم النفس المرضي للكاتب؟ وهل هنالك أية طريقة مفيدة وغير عادية للعمل على فصل، أو توحيد، "الإنسان الذي يعاني والعقل الذي يبدع؟" وابتغاء المزيد من الدقة، هل من الممكن أن يقوم تشابه دقيق بين الكتابة الشخصية والفنية لكاتب ما من ناحية أولى، وبين الخطاب المنطوق والأحلام لنفس ذلك الإنسان؟
إن الكتابة والأحلام خاضعة لأنواع شتى من الضوابط من أمثال تلك التي تتحكم بالخطاب المنطوق. ومع ذلك من العسير على المرء أن يتخيل الإتيان بالعمل المكتوب في ظل ظروف تماثل تلك الظروف التي أشار إليها فرويد بأنها من عمل الأحلام. فاليقظة، كريشة أو آلة كاتبة أو ورقة أو كتابتك الماضية أو خطة للشيء المكتوب أو مجموعة من الإيحاءات المادية أو ما تعلمته وعياً عن الكتابة: أشياء كلها لها أدوارها الهامة في التفريق بين الكتابة والاحتلام، على الأقل إن كان لهذين النشاطين أية مكانة كشاهد من شواهد التحليل النفسي. ولكن تلك الفروق تكتسي مزيداً من الأهمية حين تصبح أهمية الكتابة محط النقض في نفس عمل الكاتب، ولا سيما إن كان كاتباً ككونراد الذي كانت الكتابة بالنسبة إليه محض معاناة.
ولئن قلنا، كما أتصور أن علينا أن نقول، أن كونراد لم يكن على العموم مرتاحاً لفكرة الكتابة إلى ذلك الحد الذي كان يدفعه لتحويلها دائماً، حين كان لا يبدي تذمره منها، إلى كلام بديل، الأمر يجعلنا نشتط إلى حد القول أن كتابة كونراد تحاول صراحة أن تنكر على نفسها أنها كتابة. ومع ذلك فإن فرويد قال عن النقض بأنه طريقة للتوكيد على الشيء المكبوت. ولكن ماذا يعني بالنسبة للكاتب أن يؤكد على تلك الكتابة المكبوتة؟ وهنا نجد فرويد معيناً مرة ثانية: "بمعونة رمز النقض يحرر التفكير نفسه من قيد الكبت ويغني نفسه بتلك المادة التي لا غنى عنها لعمله المناسب". فبالنسبة لكونراد كانت الكتابة ونقضها يشكلان طريقة من طرائق تخويل نفسه عدداً من الأشياء التي لولا ذلك لكانت مستحيلة. ومن بين تلك الأشياء استخدام الإنكليزية، واستخدام الخبرات من قلب ماضيه بغية إعادة تركيبها، ومسخها في معظم الأحيان، على شكل روايات وقصص "ملفقة"، واستخدام الأحداث التي لا يمكن لأي تفسير أن يكون كافياً لها، أو يجب ألا يكون كذلك.
وهيا بنا الآن نخطو خطوة إضافية مع المسألة التي يناقشها فرويد. فالنقض نتيجة لمحاكمة عقلية قائمة على أساسين اثنين. أولهما الاجتهاد المتسائل عما إن كان للشيء سمة مميزة خاصة أم لا، وثانيهما الاجتهاد المتسائل عما إن كان هنالك وجود على أرض الواقع لأي انطباعة ذهنية أو تصوير أم لا. وهنالك معياران ممكنان للباطنية “معكوسان بلغة أقدم الدوافع الغريزية -أي الشفوي-......: أود أن آكل هذا أو أود أن أبصق هذا من فمي"، ومعياران ممكنان للظاهرية (إنني أرفض هذا، أو إن لتلك الانطباعة الذهنية وجود على أرض الواقع أيضاً خارج نفسي) بغية الإتيان بالاجتهاد، وكلا الفريقين يستلزمان مشاركة الذات. ولقد توصل فرويد إلى هذه الاكتشافات لأنه كما يقول: "كثيراً ما نخلص من خلال العمل التحليلي إلى شكل مختلف من أشكال هذا الوضع، وشكل إضافي وهام جداً وغريب إلى حد ما. فنحن ننجح في التغلب على النقض أيضاً، وفي إحداث تقبل عقلي كامل للشيء المكبوت، بيد أن سيرورة الكبت نفسها لا تبلغ مرحلة الزوال بهذا الإجراء". ولذلك فإن الذات، إبان صياغة رأي مناقض للواقع عن انطباعة ذهنية ما، قد تبقى على توكيد وجود الانطباعة الذهنية بواسطة الكبت، إذ مادامت الانطباعة الذهنية قيد الاستخدام أو التطبيق (حتى لو كانت بقصد النقض أو النبذ ليس إلا) فإنها إعادة اكتشاف للشيء المفقود قبل حين من الزمن. وهكذا فلن يكون هنالك رأي سديد(7) إلا بعد أن يكون "رمز النقض قد منح التفكير مقداراً أولياً من التحرر من نتائج الكبت ومن إكراه مبدأ اللذة، بشكل متلازم تماماً". وإن ما يتعلق بكونراد مباشرة من مناقشة فرويد لقسط ضئيل فقط، الأمر الذي يعني أنه ليس من المتوقع أن ينطبق كل ما يقوله فرويد على ممارسة كونراد ككاتب لقد كانت الكتابة بالنسبة لكونراد بمثابة نشاط يشكل النقض- أي نقض نفسها . ونقض ما تعالج في الوقت نفسه- كما كانت شفوية وكرارة. أي أن كتابة كونراد كنشاط كانت تنقض نفسها وتعيد تشكيلها من جديد، وتنقض نفسها مرة ثانية، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له، الأمر الذي يجعل من خاصية الكتابة نموذجاً يحتذى بشكل استثنائي جداً. إن المشافهة هي الشكل الشفوي للنقض، وباعتبارها كذلك كانت مهمتها تأجيل إصدار الحكم إلى ما لا نهاية على نفسها وعلى موضوعها: وفضلاً عن ذلك فهي كرارة واستبطانية، وذلك لأننا رأينا كونراد وهو يتخيل السرد منطوقاً من حكاية إلى أخرى في حين أن واقعية ما يدعوه مارلو "بحس الحياة"، أي المحتوى الوجودي للخبرة الفعلية، بقيت خصوصية وغير مكشوفة وغير قابلة للتوصيل إلا من خلال تلك المؤهلات الفطرية التي تعمل عمل النقائض ("نحن على قيد الحياة- طالما نحن نحلم وحسب". ولكن الشخصيات الذكورية عند كونراد تتأثر أيما تأثر، في بعض مراحل حياتها، بالأشياء المادية الفعلية الظاهرة: كالنساء والكنوز والسفن والأرض. فهذه الأشياء موجودة للتو هناك، وفي معظم الوقت، بشكل سلبي وظاهري ولا تحظى بالقوة إلا تدريجياً. وهكذا فإن تشارلز غولد يرث منجم أبيه كرهاً لا طوعاً، ولا يستهل بناء الهيمنة البالغة شبه الاسطورية لمنجم سان توميي إلا بعد تلك الورثة، وفيي تلك الآونة التي تبدأ فيها عملية البناء الأسطوري بالانجلاء، في رواية كونراد، يتكشف صدع هام بين الشخصية التي يدور حولها التقرير وبين التقرير نفسه. وعندئذ تتحول المشافهة من كونها شكل من أشكال النقض الباطني، إلى أداة لحكم كونراد. فبمرور الزمن ومن خلال البناء الفضفاض لروايته بالشكل المألوف، تمارس الكتابة تحويل الكاتب من متحدث واه (من شخصية متحدثة أو "ريشة راوية" لها أهداف مباشرة وبصرية، وحتى أهداف مادية، مقبولة سلباً جراء الإرث أو العرف) إلى ذلك الكاتب المفكر الذي يبحث ويصور قصصاً خارجية عليه، والكاتب الذي يتبنى الشكل الجمالي للمشافهة بمنتهى البساطة من رواية إلى أخرى ويقحمه في صميم فيض من التطورات الشيقة والمتباينة. إن سيرة كونراد الذاتية موزعة في كل قصة على أدوار عديدة: فأولاً على أنه الإنسان الذي جرت معه الأحداث كمتحدث، كسامع وأخيراً ككاتب يطرح رواية في لحظة ما، وينقضها بالتظاهر أنها مجرد كلام، ومن ثم ينقض ذلك الكلام (في رسائل خلال كروب التأليف) بشجب مصاعبه، وبعدئذ ينقض حتى ذلك (في أواخر حياته المسلكية) جراء ظهوره بمظهر "الروائي العجوز الأمثل بالنسبة لأي إنسان". وإن مناقشتي باختصار هي أن كتابة كونراد كانت طريقة لتوكيد حذاقة صنعته الكتابية من خلال نثره لها وانكسارها في تشكيلة من الاحتمالات الروائية وشبه الروائية المتضاربة والمتناقضة في معظم الأحيان، وأنه أقدم على فعل هذا تفضيلاً منه على تصوير هيجانه العصبي بشكل مباشر. ولربما كان هذا التوجه هو الطريقة التي اعتمدها كونراد للهروب من الآثار الموهنة الناجمة من الكبت وعن إكراه مبدأ اللذة.
لقد حاول كونراد استخدام النثر استخداماً سلبياً كي يسمو على الكتابة وكي يجسّد المشافهة والرؤية على نحو مباشر معاً. فكل خبرة تبدأ بالنسبة إليه بوجود متحدث وسامع والعكس بالعكس، وبالنتيجة فإن كل متحدث يحكي عن عمل يستهدف الوضوح، أو النية المحققة.
ومع ذلك فإن الشيء الذي ييسر تحقيق النية هو، في كل حالة تقريباً، شيء هامد كالفضة التي أنيط بها سلطان على الحياة. وأما الشعور المغلوط حيال مثل هذه المادة فهو أنها قادرة على تجسيد التملك الحسي السروري والمنظور للواقع كله بدون أدنى وساطة. بيد أن هذه المادة تثبت في النهاية على أنها، في كل الحالات، تجسد أيضاً الطاقة اللامحدودة تقريباً للذات على الامتداد والتحول. وإن إدراك هذا الأمر هو ما يجعل بالتأكيد من رواية "نوسترومو" ذلك الصرح المهيب الفياض بالتشاؤم إلى حد يثير الإعجاب، والصرح الذي هو عليه فعلاً: فالرواية تعتمد بمعنى ما على تخصيب الفضة بتصور خيالي عن مدى سلطانها. فالوحدة الكاملة لهذا التصور تضم الحياة والموت معاً، وهكذا فإن الثنائي غولد، على الرغم من تقنعهما الزائف بقناع الإنسانية، لا يختلفان بشيء عن البروفيسور في رواية "العميل السري" أو عن كيرتز في رواية "صميم الظلمة". "لقد خلعت أميليا غولد على تلك الكتلة المعدنية، من خلال تقديرها الخيالي لسلطان تلك الكتلة، تصوراً تبريرياً، وكأنها لم تكن محض حقيقة، بل شيئاً بعيد الأثر وغير محسوس، شأنها بذلك شأن التعبير الحقيقي عن عاطفة ما أو عن بروز مبدأ ما.... ..... وذلك لأن منجم سان تومي كان سيتحول إلى مؤسسة، إلى مركز تجمع لكل شيء في تلك المقاطعات التي كانت بأمس الحاجة للنظام والاستقرار كي تبقى على قيد الحياة، فالأمن بدا وكأنه يفيض على هذه الأرض من سفوح ذلك الجبل" (107-110/9).
فها هي المادة تتحول إلى قيمة مثلها مثل العاطفة التي يمكن، في عالم مثالي، تحويلها إلى " تعبير حقيقي" وبالنسبة لأبطال كونراد تصبح المادة نظام تبادل كامن تحت اللغة، ان النفس، التي هي منبع النطق، تحاول التوفيق بين النية والواقع، ولكن الكلمات تصبح فعلاً موضع الإهمال كتجسد مباشر في المادة على النحو الذي ينشدها فيه الخيال، في نفس ذلك الوقت الذي تدلى فيه الذات بتقاريرها عن مغامراتها وإحباطاتها. فإذا كانت اللغة تفشل فشلاً ذريعاً في تمثيل النية وإذا كانت المهمة التمثيلية التقليدية للغة، على نحو مشابه، غير وافية بتاتاً في أن تجعلنا نرى، فإن البطل في روايات كونراد يتقصد، على غرار كونراد نفسه، باستعماله المادة بدلاً من الكلمات أن يبرر تخيله ويلفظه بوضوح. ومن الجدير بالذكر أن أي قارئ من قراء كونراد يعرف كيف أن هذا المقصد محكوم عليه بالفشل أيضاً. وهكذا ففي خاتمة المطاف يصبح البطل، ككيرتز وهو على فراش الموت بذخيرته من العاج، وهماً متكلماً، فلكل نجاح منطقي قصير الأمد مثل غولد أو فيرلوك هنالك إنسان كنوسترومو أو كستيفي الذي يتحدث عنه جسده البالي. ولكل إنسان ككيرتز وجيم هنالك إنسان كمارلو الذي تتمكن ذاكرته من إعادة اقتناص جسده بكل مهابته وفتوته. وإن القول بأن هذا لا يحدث إلا "بمرور الزمن" وأن كلمات المتحدث مسرودة بشكل كتابي لقول لا يقلل من شأن مأثرته بشيء، إلا أن الكلمات لكونها كلمات تتنكر بالمطلق للإنسان وتقلل من شأنه دون أن تنقذه عملياً.
وهكذا فإن كونراد هو ذلك الكاتب الذي يجسّد عمله هذه المهزأة اللاذعة مراراً وتكراراً %


nnn



يتبع

* جنس من البهائم له شكل الإنسان وجميع رذائله في "أسفار غوليفر"- المترجم.

* المتوحشون والبهائم في " أسفار غوليفر"- المترجم.

* اللامنتمي- (المترجم).

*capatazde cargadoes - المترجم.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 08-28-2012, 12:06 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي


5- عن التكرار



قرابة خاتمة كتاب "العلم الجديد"، وبعد أن عرض فيكو بالتفصيل تلك الطريقة المحددة التي لا يتولى فيها الرجال صنع التاريخ وحسب بل ويصنعونه وفقاً لدورات تعاود تكرار أنفسها أيضاً، يواصل شرح الكيفية التي تصبح فيها هذه المعاودات بمثابة الأنماط العقلانية التي تحفظ الجنس البشري. وإن ذلك المقطع برمته يشبه نوعاً من التأمل الأفلاطوني في التاريخ المثالي، بيد أن تفاصيل ما يصفه فيكوليست أفلاطونية تماماً:
إن من صحيح القول أن الرجال أنفسهم هم من صنعوا تاريخ الأمم هذا (ونحن اعتمدنا هذا القول كأول مبدأ لا جدل فيه من مبادئ علمنا، بعد أن حل بنا اليأس من العثور عليه عند الفلاسفة والفيلولوجيين)، ولكن هذا العالم انبثق بدون شك عن عقل مختلف في أحيان كثيرة عن الغايات الخاصة التي كان الرجال قد وضعوها نصب أعينهم، وعقل مناقض لتلك الغايات في بعض الأحيان وأسمى منها دائماً.
فالغايات الضيقة كانت وسيلة لخدمة غايات أوسع منها، وكانت مسخرة على الدوام لحفظ الجنس البشري على سطح هذه المعمورة.
فالرجال يتقصدون إشباع شهواتهم البهيمية وهجران ذريتهم، وهم يستهلون طهارة الزواج الذي تنبثق عنه العائلات. والآباء يتقصدون ممارسة سلطتهم الأبوية بلا حدود على أتباعهم، ويخضعونهم للسلطات المدنية التي تنبثق عنها المدن. وطبقات الحكام من النبلاء تتقصد إساءة استعمال حريتها السامية على العامة، وتضطر للامتثال للقوانين التي توطد حرية الشعب.
وبعدئذ تتقصد الشعوب الحرة الإطاحة بنير قوانينها، وتصبح خاضعة للملوك. والملوك يتقصدون تعزيز مراكزهم الخاصة بالانتقاص من قدر رعاياهم بكل رذائل الانحلال، كما أنهم يعرضونهم لمعاناة العبودية على أيدي أمم أقوى. والأمم تتقصد تفكيك أنفسها، والبقايا الباقية منها تهرب إلى البراري طلباً للأمن، من حيث تبرز مجدداً كالعنقاء. وإن ما فعل هذا كله كان العقل، لأن الرجال فعلوه بمنتهى التعقل- فذلك لم يكن من فعل القدر لأن الرجال فعلوه بمحض اختيارهم، ولم يكن من فعل الصدفة لأن نتائج تصرفاتهم على هذا النحو هي نفسها إلى أبد الآبدين(!).
إن زبدة هذه الفقرة هي أن أي تفحص للوقائع الملموسة للتاريخ البشري، الأمر الذي ليس في متناول أي فيلسوف أو فيلولوجي، يكشف عن وجود مبدأ أو قوة نظام داخلي ضمن سلسلة من الأحداث التي لولاه لكانت أحداثاً فوضى. والعقل هو النظام العام للفرملة التي تكبح اللاعقلانية المتسارعة على الدوام في السلوك البشري. فمن قلب كل مثال عن حماقة الرجال تأتي تلك النتيجة التي تعمل ضد النية العاجلة للكائن البشري والتي تبدو إملاء من إملاءات العقل، الذي يتمثل هدفه الأسمى في حفظ الجنس البشري. ولكن كيف؟ بالتأكد من أن التاريخ البشري يثابر على تكرار نفسه وفق مسيرة الأحداث مسيرة محددة معينة. وهكذا فإن العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء تفضي إلى قيام الزواج، وتفضي مؤسسة الزواج إلى قيام المدن ، ويفضي نضال العامة إلى قيام القوانين كما أن صراع الجماهير مع القوانين يفضي إلى قيام الطغيان ويفضي الطغيان في خاتمة المطاف إلى الاستسلام للقوى الأجنبية. ومن صميم هذا الانحطاط الأخير تبدأ دورة جديدة انطلاقاً عن التفسخ المطلق الذي يتفسخه الإنسان في البراري.
فبدون العقل لن يكون هنالك تاريخ يتحدث بشكل لائق، وبدون التاريخ تكون الإنسانية أمراً مستحيلاً بكل تأكيد. وإن تلك الأشياء التي تجعل من التاريخ أمراً ممكناً- وهنا لا يبدو الخوف على فيكو من الحشو، كما هو شأنه في أي مكان آخر- والمؤسسات البشرية كالزواج والقوانين والأمم. وهذه المؤسسات تتكشف عن عناد هزاء، عن عقل، عازم على استبقاء الإنسان ضمن إطار التاريخ والمغزى، وأما المهزأة فهي أن الرجال يعملون على فضح "السر السائب على المستوى البهيمي" بعناد شموس حتى في ذلك الوقت الذي ينير فيه العقل الظلمة ، وبعناد مماثل باستيلاء أنماط معقولة تمنح الإنسان ذلك التاريخ الذي لولاه لذهبت شهواته الرهيبة أدراج الرياح وضاعت، بمنتهى الإصرار، هباء منثوراً. فبدلاً من التساند العشوائي هنالك الزواج، وبدلاً من الأوتوقراطية الملجومة هنالك القوانين والجمهوريات، وهكذا دواليك.
لقد جاء فيكو على وصف هذا كله في طول وعرض كتابه المعنون بـ"العلم الجديد" كشيء يجب إدراكه عاجلاً أو آجلاً أي، بدون التدخلات المغرضة لفلسفة ديكارت أو فيلولوجية إرازموس، وذلك لأن فيكو يدعي بأنه يتكلم بالضبط عن ميدان الحقيقة المجردة، فما تفعله الكائنات البشرية هو ما يجعل منها كائنات بشرية، كما أن ما تعرفه هو الشيء الذي أقدمت على فعله. فهذه المبادئ الأساسية جداً تتردد أصداؤها هنا وهناك وهنالك في كتاب "العلم الجديد". إن التاريخ البشري هو الواقع البشري هو النشاط البشري هو المعرفة البشرية.
"فالعلم الجديد" يضيف منهجياً على تلك المعادلة مساهمة الباحث: فالباحث (أي فيكو) يكتشف كل هذه العلاقات بالتعرف عليها أو، إذا استعملنا تعبيراً فيشيا (Vichian)* أفضل، بالعثور عليها من جديد (vitrovare). ولئن تضايقنا أحياناً من عادة فيكو نفسه وهو يكرر المخطط الأساسي للتاريخ البشري من بهيمية خالصة إلى عقلانية معتدلة إلى تعقل بالغ التشذيب، ومن ثم إلى بربرية جديدة وإلى بداية جديدة مرة أخرى -ولئن تساءلنا عن دقة دورة يفرضها فيكو على تشكيلة ضخمة من التاريخ البشري- لاضطررنا عندئذ لمواجهة الشيء الذي تدور حوله الدورة بالتحديد، ألا وهو مأزق تشكيلة لا نهاية لها ورعونة لا نهاية لها أيضاً. خذوا التاريخ كما أشيع عنه من أنه سلسلة دراماتيكية متعاقبة من الأطوار الديالكتيكية، وسلسلة استنتها ولفقتها بمنتهى الإصرار بشرية متنافرة فيما بين بعضها بعضاً، كما يقول فيكو على ما يبدو، وعندها سوف تتحاشون اليأس من النظر إلى التاريخ وكأنه حدث لامبرر له، وتتفاوت الضجر على قدم المساواة من النظر إلى التاريخ وكأنه يحقق مخططاً مقرراً سلفاً. ولئن كانت منزلة التكرار نفسه موضع الارتياب من زاوية نظرية المعرفة، فليس هذا بالأمر الهام: "إذ إن التكرار مفيد كطريقة لتبيان أن التاريخ والواقع كليهما معاً عن الإصرار البشري، لا عن أصالة مقدسة.
إن من الصحيح جداً تقريباً أن نقول، على ما أظن، أن التكرار بالنسبة لفيكو، كائناً ما يكون خلاف ذلك، هو شيء يحدث ضمن الواقع تماماً كما يحدث ضمن الفعل البشري في مضمار الوقائع وضمن العقل إبان مسحه ميدان الفعل. فالتكرار، والحق يقال، يربط بين السبب وبين الخبرة الصرف. أولاً: الخبرة، على مستوى المغزى، هي التي تركم المغزى حين تعود أهمية الخبرات السابقة والمماثلة. فالرجال خائفون على الدوام من آبائهم، وهم يدفنون موتاهم، ويعبرون بمنتهى الإصرار إلهاً مصوغاً في انطباعتهم الذهنية. وهذه التكرارات هي ما يقوم عليها المجتمع البشري. ثانياً: إن التكرار يتضمن الخبرة كيفما اتفق، فالتكرار هو الإطار الذي يمثل فيه الإنسان نفسه أمام نفسه وأمام الآخرين. فرب الأسرة "pater familias" البدائي يرفع من مقامه عالياً كما يفعل جوبيتر، مكرراً عجرفته، حاكماً لتلك الأسرة التي خلقها والتي يجب عليه أن يحاول تفادي إطاحتها به. وأخيراً فإن التكرار يعيد الماضي للباحث منيراً له بحثه بانتظام لا ينضب له معين. "في عتمة ظلمة حالكة تحجب أقدم مرحلة من مراحل غابر الأزمان؛ وبعيداً جداً عنا، يشع نور حقيقة سرمدي عصي على الانطفاء بتاتاً وخارج إطار الشكوك كلها: ألا وهي أن عالم المجتمع المدني كان بالتأكيد من صنع الرجال، وأن مبادئه يجب لذلك أن توجد ضمن التعديلات القائمة في عقلنا البشري ذاته(1)". فالبنسبة لفيكو يكون التكرار، سواء أكان بداية إحساس أو كتصوير أو كإعادة بناء مبنى أثري، مبدأ اقتصادياً يسبغ على الحقائق واقعيتها التاريخية وعلى الواقع معناه الوجودي. ومن الصحيح بالتأكيد أن كل تكرار لطور أو لطور جديد "corso or recorso" ما هو على العموم إلا نفس أسلافه السابقة، بيد أن فيكو حساس جداً حيال الخسائر والمرابح، أي، بوجيز العبارة، حيال الفروق القائمة في صميم كل طور كرار من أطوار الدورة.
إن استخدام فيكو لفكرة التكرار كما يفهمه يشبه إلى حد ما، شكلياً، التقنيات الموسيقية الموظفة للإتيان بالتكرار، ولا سيما تقنيات اللحن المحوري "cantus firmus" أو الألحان الثانوية الكرارة "chaconne" أو، إن جئنا على ذكر أكثر الأمثلة الكلاسيكية تطوراً، تقنيات "بدائل غولد بيرغ" لباخ (Goldberg variations). فبواسطة هذه الأحابيل ثمة لحن أساسي يثبت الألحان الفرعية التزيينية المعزوفة فوقه. وعلى الرغم من تكاثر التبديلات في الإيقاعات والأساليب والتناغمات، فإن النغم الأساسي يعاود الظهور خلالها كلها وكأنه يريد أن يعرض قوة صموده وقدرته على ممارسة التحبيك الأبدي.
وهنالك، في هذه الأشكال الموسيقية، نوع من التوتر بين مخالفة أو شذوذ اللحن الفرعي وبين ديمومة اللحن المحوري ومواصلة توكيده عقلانيته، الأمر الذي يجسد الظاهرة نفسها التي لاحظها فيكو في التاريخ البشري. فما من شيء كان بمقدور فيكو أن يقوله عن انتصار العقل على اللاعقلانية لمضاهاة ذلك الانتصار الهادئ الذي يحدث في نهاية "بدائل غولد بيرغ"، حين تعود النغمة الرئيسية بشكلها الأول الصحيح كي تطمس تلك البدائل الفرعية التي استولدتها النغمة الرئيسية بالأصل. إن استخدامات التكرار على هذا النحو تصون ميدان النشاط وتعطيه شكله وهويته، تماماً كما كان فيكو يرى في التكرار توكيداً للحقائق الجوهرية للشيء الذي دعاه بالتاريخ البشري العصبوي.
وهأنذا أستخدم كلمة عصبوي "gentile" لفيكو كمرادف لكلمة قرابة "filiation" التي ورد بحثها في الفصل التمهيدي لهذا الكتاب. ولكن الشيء الذي لا نستطيع وصفه شكلاً في الموسيقا، إلا بتشبيه جزئي متوتر إلى حد ما، هو فكرة فيكو عن التاريخ البشري كونه مولوداً، كونه ناتجاً ومنسوخاً بنفس تلك الطريقة التي يستولد فيها الرجال والنساء أنفسهم بإنجاب وخلق الجنس البشري. فالتاريخ العصبوي هو تاريخ الأسرة الكريمة الأصل "gens" والأقوام الكريمة الأصول "gentes" المولودة بداهة كل منها في حينه كي تتنامى هناك، علاوة على أنها ليست بالمخلوقات مرة واحدة وإلى الأبد من خلال قوة مقدسة واقفة خارج التاريخ. إن "العلم الجديد" كله مشغول بهذه السيرورة العصوبية التي تعبئ أفكار فيكو عن التكرار، كما إن الانطباعات الذهنية لفيكو عن السيرورة التاريخية لانطباعات بيولوجية راسخة بل، وأكثر من ذلك، أبوية راسخة أيضاً. وما تلك الفقرة التي استشهدت بها من قبل إلا دليل جيد عن ذلك القالب الذي يتحرك فيه خيال فيكو، والذي أدرك الحركة المتتالية للدورات"corsi" والدورات الجديدة"recorsi" الجديدة المتعاقبة على أنها العلاقة بين الآباء والذراري. وهكذا فإن التكرار عصبوي لأنه بنوي وسلالي.
إن التلاعب الإيتيمولوجي لفيكو بالكلمات المشتقة من "gens" كان يخلب عليه لبّه لأن تلك المشتقات لم تكن لتمثل الكيفية التي ينبثق فيها التاريخ عن الخصاب البشري وحسب بل وتمثل أيضاً الكيفية التي تكرر فيها الكلمات تلك السيرورة من خلال استخراج المتشابهات من جذور الكلمات: genitor, genialis, gentile, gentes, gens وهكذا دواليك.*
ففيكو إذاً يفهم التكرار على العموم بأن قرابة، بيد أنها القرابة المعضلة لا العشوائية الأوتوماتيكية.
ولكن أولئك الناس الذين درسوا فيكو لم يستوعبوا الكثير من الهوس بالقرابة في كتابته التاريخ، كما أنهم لم يقرنوا بين الاستقصاءات السلالية التي قام بها فيكو وبين الجهود، المعاصرة لجهوده تقريباً، في ميدان التاريخ الطبيعي لدراسة الجيل والتوالد والوراثة.
ففي كلا الميدانين، أي في دراسة فيكو للخبرة التاريخية وفي عمل موبيرتوس وبوفون في التاريخ الطبيعي مثلاً، كان تصنيف الكائنات الحية وسيلة لرصد الأطوار التي تمر وتعاود المرور بها تلك الكائنات ولكن "الحياة" كانت، وهذا شيء أهم من سابقه كما استطاع أن يبيّن كل من فيكو وبوفون، ذلك المفهوم الذي يتسامى على محض التصنيف والذي له نظامه الداخلي الخاص والمتوالد ذاتياً، والمنقول من جيل من الآباء إلى جيل آخر.
ولقد كان السؤال الجدير بالجواب يدور عن الكيفية التي ولدت بها الحياة وعن الكيفية التي استولدت نفسها بها ذاتياً، منذ ذلك الحين الذي بطل فيه النظر إلى الحياة بأنها نتيجة تدخل قدسي متواصل في شؤون الطبيعة. فالتكرار بالنسبة لفيكو ولعلماء الطبيعة في القرن الثامن عشر ما هو إلا نتيجة التناسل الفيزيولوجي، أي نتيجة الكيفية التي يؤبد فيها نفسه جيل من الجنس البشري في زمان ومكان تاريخيين، حتى أن من الممكن أن يقال أن التكرار والتناسل البيولوجي إن هما، في حقيقة الأمر، إلا صنوان.
وطبقاً لما جاء فرانواجاكوب في "منطق الكائن الحي" (La Logique du vivant) فإن فكرة التوالد نفسها برزت إلى الوجود في مطلع القرن الثامن عشر حين تنبه علماء الطبيعة إلى قدرة الحيوان على تجديد تشكيل الأعضاء المبتورة. ففي البداية كان من المعتقد أن الكائن الحي هو الذي يستولد كلاً من نفسه وشكله الخارجي المفقود لأنه يحقق خطة، أو مخططاً قبْلياً في وجوده كان بمثابة نموذج مثالي قيد الإنجاز من الطبيعة كلها. ولكن بمرور الزمن جرى التخلي عن هذه النظرية، وبدلاً منها ظهر لكل من موبيرتوس وبوفون في عقد الأربعينات (1740) أن الطبيعة تكرر نفسها أو تستنسخها بفضل طاقة داخلية كافية كما يتجلى ذلك في تنظيم المادة العضوية على شكل عناصر متجمعة بعضها مع بعض بغية توليد نفسها من الصميم. وعندما تبين أن التوالد والتجديد يفضيان إلى التشابه (أي التكرار) بشكل ثابت، كان تعليل بوفون أن جملة الصفات الموروثة، أي الضغوط على الذراري، أسيرة إرشاد الذاكرة. فالتوالد هو السيرورة التي تنتقل بها العناصر المنظمة من جيل إلى جيل لاحق وبما أنه كان من الواضح أن هذه السيرورة ليست عشوائية، وبما أن القرابة كانت تنطوي ضمناً على التشابه الشديد إن لم تكن على الدوام تكراراً فعلياً، فإن بوفون وموبيرتوس سلما جدلاً بوجود قدرة، هي الذاكرة، مهمتها توجيه انتقال الأجيال، الأمر الذي يكفل تكرار الميزات البارزة وانتقالها إلى الجيل التالي(3).
إن فيكو يعتمد نظرية مماثلة إلى حد مذهل. فالتاريخ، كما قال، ينجم عن العقل، وما هو العقل إن لم يكن الذاكرة التاريخية القادرة على الربط والتعديل والتغيير إلى أبد الآبدين. ولكن الذاكرة تكبح العقل بالأساس، فضلاً عن أنها كلها تدور عن ذلك الواقع الذي يبقى، بالنسبة للناس البدائيين أو بالنسبة لأكثر الفلاسفة المحجثين صقلاً، واقعاً بشرياً بشكل جوهري. وكائناً ما كان مقدار التغيير الذي يبدو عليها، فلن يكون بوسعها البتة أن تكون إلا بشرية إلى هذا الحد أو ذاك. إن "العلم الجديد" قد درس بنى هذا الواقع المغرق في القدم بالشكل الذي انتقل فيه من الإنسان البدائي إلى الإنسان الحديث أو بالشكل الذي أنجب فيه الإنسان البدائي، كما تبين لفيكو في إحدى ملاحظاته المذهلة التي ترقش عمله، الإنسان الحديث وكان أباه الفعلي، وكرر فيه الثاني المراحل الجنينية للإنسان الأول. فالتاريخ بالنسبة لفيكو هو المكان الذي لا يضيع فيه أي شيء بتاتاً. وإن عبارة بوب القائلة "كل ما هو موجود" تعني بالنسبة لفيكو شكلاً سابقاً ولاحقاً في آن واحد معاً، حيث يرتبط الشكلان بعضهما ببعض بما دعوته من قبل بالقرابة المعضلة.
وإن نظرية فيكو عن التكرار أكثر تشويقاً من نظرية معاصريه في التاريخ الطبيعي.
فالذاكرة بالنسبة لهم كانت هي التي توجه انتقال الأجيال، وهي التي تيسر التوالد: لكنها لم تكن هي التي تسببه ولم تكن الذاكرة لتعرض نفسها إلا في المكان، كحضور مادي لشيء ما واقف قبالة شيء آخر. إن الفرق بين بوفون ولامارك كان أن هذا الأخير جاء ببعد زماني إلى صميم الوراثة. فالزمان، لا أي مكان طبيعي عام شاسع من نوع ما، هو ما كان يربط الكائنات الحية بعضها ببعض، كتاريخ ماض عام ذي تعاقب وديمومة وإمكانية لإكمال التنظيم الجاري عبر الجيل(4). فالوراثة كانت تعني ضمناً نظرية تطورية، لا ذاكرة سلبية والجيل يعني ضمناً الصراع ، مع العلم أن هذا الشيء كان أيضاً جوهر التاريخ العصبوي لفيكو. فمع احتدام الصراع، كما بين جيل من الآباء وجيل من الأبناء، تكون ولادة الفارق، وولادة التكرار في الوقت نفسه. وبكلمات أخرى كان فيكو على دراية أن القرابة من وجهة نظر أولى هي الرجوع، ولكنها من وجهة نظر ثانية، ألا وهي وجهة نظر التاريخ باعتباره شكل الخبرة البشرية منظوراً إليه على أنه المضمار الخاص بها، فهي الفارق. فالتذبذب في فكر فيكو حيال القرابة بين التكرار أو الرجوع والفارق كان في الواقع تعبيراً عن التذبذب بين الرغبة في اللامتبدل والشامل والدائم والمعرض للتكرار من ناحية أولى، وبين الرغبة في الأصلي والثوري والفريد والطارئ، من ناحية ثانية.
فهذه التعليقات على فيكو مقصود بها تعميق مركزية الأفكار عن التكرار وصولاً بها إلى مستوى التأملات عن السيرورة الزمنية، وإلى فكرة الخصاب البشري وإلى الافتراض بأن الحقائق البشرية المرهونة زمانياً يجب اعتبارها بطريقة ما أنها تكرارات السابقة أقدم منها أو أنها فوارق عنها. وللتو هنا يجب علينا أن ننتبه إلى الكيفية التي تعامل بها النظرية النقدية الأدبية الحديثة هذه المعضلة المتعلقة بالتكرار والأصالة- ومن منطق سلالي أيضاً- على أنها مشكلة الصراع على النفوذ بين سلف أبوي قوي
وخلف بنوي لاحق.وإنني أشير بداهة هنا إلى المخطط الذي وضعه هارولد بلوم للتاريخ الشعري. واهتمامي يتمركز على الدفاع عن أن من الطبيعي أن تكون النظرة إلى انسياب الزمن، فيما يتعلق بالنظرية الأدبية وبالتاريخ العصبوي لفيكو وبالتاريخ الطبيعي وصولاً إلى داروين واحتواء له، بأنه تكرار لذلك المسار المولّد الكرار الذي يستولد فيه الإنسان نفسه أو ذريته المرة تلو المرة إلىأبد الآبدين. فالبقاء على قيد الحياة يبدو على أنه، وفقاً لمقولات جاكوب، بقاء أفضل المنجبين وأفضل المكررين. فالاستعارة العائلية عن استيلاد الأبناء، حين يتم تمديدها إلى كل زوايا النشاط البشري طولاًوعرضاً، دعاها فيكو بالشعرية، إذ إن الرجال رجال، كما يقول، لأنهم صناع ومايصنعونه قبل أي شيء آخر هو أنفسهم. فالصنع هو التكرار، والتكرار هو الدراية لأنه يصنع. وهذه هي سلالة الدراية وسلالة الحضور البشري.
إنني أتصور أن من الممكن تبيين أن القص المسرود خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الأوربيين معتمد على الأحبولة البنيوية لمناولة قصة ما من خلال الإخبار المسرود، وأن الوضع الشامل لحبكة الرواية، فضلاً عما تقدم، هو أن تعمد شخصية منحرفة لتكرار المشهد العائلي الذي بواسطته تولّد المخلوقات البشرية بتصرفاتها تلك الديمومة البشرية، ولئن كان هنالك للبطلة الروائية، أو البطل، مهمة تسمو على كل المهمات الأخرى فهي أن تكون نموذجاً مختلفاً إذ إن الأبوة والروتين ينيخان بكلكلهما عليهما. ولكي تكون هذه الشخصية نموذجاً شاذاً يعني أن تكون غريبة الأطوار، أي، شخصية لا تكرر مايكرره معظم الرجال بحكم الضرورة- ألا وهو مسار الحياة البشرية، الأب قبالة الابن جيلاً بعد جيل. وهكذا فإن الشخصية الروائية رهن التصور أنها تحد للتكرار، أي تفجير ذلك الواجب المفروض على الرجال كي ينسلوا ويتكاثروا، كي يخلقوا أنفسهم بأنفسهم ويكرروا خلقها مراراً وتكراراً دون أي انقطاع. ففي ذلك الرفض الذي ترفضه إمابوفاري في أن تكون نفس تلك الزوجة التي تطلبها منها أن تكونها طبقتها والمقاطعات الفرنسية، تصبح صلات الرحم في المجتمع موضع التحدي. إنها تلك المرأة التي كان من الممكن لفلوبير أن يكتب عنها لأن التكرار، أي شعورها بالضجر من التماثل القميء، يولد الاختلاف ألا وهو رغبتها في أن تعيش حياة رومانسية، مع العلم أن الاختلاف يفضي إلى الشذوذ الذي هو علامتها الفارقة وبلواها في آن واحد معاً.
وفي حديثي عن الرواية الأوربية الكلاسيكية الواقعية أجد نفسي مضطراً للعودة إلى الوصف المعضل الذي وصف به فيكو التاريخ البشري من أنه سلسلة من الدورات السلالية الكرارة. ومن الجدير بالذكر أن فيكو وفلوبير كلاهما على مايبدو يسخران الدورة التوليدية للزمن البشري وذلك لأن تناقضاً أساسياً يكمن ضمن تلك الدورة، في صلبها ذاته، ويكشف عنه الزمن أكثر مما يحله. وأما ما أعنيه بقولي هذا فهو مايلي: إن السلسلة المتعاقبة لصلات الرحم لدى فيكو، أي الآباء والأمهات في إنجابهم الذراري ومن ثم في إنشائهم لا العائلات وحدها بل والصراع بين الأجيال أيضاً، تخلص أن نتيجتين اثنتين. الأولى منهما مقصودة وهي: "أن الرجال يتفصدون تسويغ شهواتهم البهيمية وهجران ذراريهم". وأما الثانية فهي لا إرادية: "ويستهلون طهارة الزواج الذين تنبثق عنه العائلات. وعلى الرغم من أن تكرار التاريخ البشري يتضمن كلتا هاتين النتيجتين فإن صدعاً هاماً يقوم بينهما وبمنتهى الجلاء. فبشكل مقصود، وبطريقة طبيعية جداً وبدون وساطة، تستولد صلة الرحم لا الصراع وحده بل ونلفاها مدفوعة برغبة لإفناء ماتم استيلاده، أي هجران الذراري. ولكن بشكل غير مقصود يحدث النقيض: إذ تتوطد أركان الزواج الذي يشد الوثاق، كمؤسسة، بين الذراري والآباء. وإن هذا الصدع نفسه بين الشهوة الجنسية المقصودة وبين اعتراضها اللا مقصود من قبل المؤسسات يحدث في روايتة "مدام بوفاري". فالتاريخ في حالة فيكو، وهو الشكل نفسه للرواية لدى فلوبير، يقف إلى جانب المؤسسات ل***** ونقل وتوكيد لا سيرورة تكرار صلة القرابة التي بها يتأبّد الوجود البشري على نحو كرار وحسب، بل وعلاوة على ذلك فإن تلك المؤسسات نفسها -كالزواج أو الألفة على سبيل المثال- تصون صلة القرابة من خلال إكساء صلة التقرب كساء المؤسسة، أي تجميع الناس في وحدة لا سلالية ولا تناسلية بل في وحدة اجتماعية. إن الشيء الهام تاريخياً لفيكو لا يتمثل في أن الزواج ييسر التناسل بل يتمثل في أن الزواج كمؤسسة، باعتبار أن التناسل يحدث بشكل طبيعي وبطريقة ما (وبشكل تخريبي، قصدا على الأقل)، يفرض قيوداً رسمية على الشهوة الجنسية بغية تيسير قيام صلات التقرب كشيء مختلف عن صلات القرابة الخالصة.
وهكذا فإن مكان الأب يفقد منعته السامية. فالدوران الأبوي والبنوي، وهما الضروريان لبعضهما بعضاً على قدم المساواة في تلازمهما الطبيعي وفي عدائهما المتبادل، يبدوان بأنهما يفضيان إلى قيام علاقات أخرى، علاقات تقرب، التي يكون حضورها التاريخي والواقعي حضوراً لا لبس فيه في المجتمع البشري مثار اهتمام المؤرخ والفيلسوف والمنظّر الاجتماعي والروائي والشاعر. ولكن ثمة تعقيداً إضافياً تسلل إلى صميم هذه المقولة. فلابدّ من أنكم لاحظتم أنني في حديثي عن منشأ علاقات التقرب استخدمت عبارة ملصة بعض الشيء هي: "يفضي إلى كذا". وهذه العبارة تتفادى الاستعارات الأكثر عمومية منها من أمثال "ينجب كذا". أو "ولادة كذا" اللتين هما بمثابة الاستعارتين اللتين ماكان بمقدوري استخدامهما بدون توضيح أثناء دراستي التناقض القائم بين القرابة السلالية وبين التقرب الاجتماعي، ذلك التناقض الذي كنت أعمل على تصويره. فالرجال والنساء ينجبون كذا، وهكذا تتوالد المخلوقات البشرية. وهنا جدير بنا أن نتساءل هل نفس النوع من الوصف شيء ممكن، وهل لهذا الوصف نفس المقدار من الجدوى في بحث الظواهر الاجتماعية أو الأدبية(5)؟ وعلاوة على ذلك فضمن نظام تكرار التاريخ البشري العصبوي جدير بنا أن نطرح ذلك السؤال المتعلق بصلب الموضوع ألا وهو: ماهي الطرائق الموجودة لمعالجة الحظر المفروض رسمياً على تعاقب السلاسل الأبوية والعائلية، ماهي الأشكال ماهي الصور، إن لم تكن الطرائق التوليدية والإنسانية التي كان من الممكن أن نسخرها لأغراض أخرى دون تغيير أفكارنا عنها؟
إن هذه الأسئلةهي ماأود سبر أغوارها الآن من خلال بعض الأمثلة المحددة، مع العلم أن منطلقي سيبقى ذلك المنطلق الذي يكون فيه التكرار مرآة موظفة (أو سهلة التوظيف)، لبحث استمرارية التاريخ البشري وأبديته وتواتره. ومن بين أهم الجهود المعاصرة وأكثرها شأناً لمعالجة ظهور شيء ما لأول مرة، كاكتشاف علمي مثلاً، أو نشوء مؤسسة ما نشوءاً موثقاً بالحقائق، هي الدراسات التي أجراها فيكو حول جذور وأصول موضوعاته. فالفرق بين مايفعله في "منشأ المستوصف" و"المراقبة والعقوبة": "منشأ السجن".
وبين ماجرى فعله في تاريخ الأفكار يكمن في أن فيكو قد عقد عزمه على تبيين التطابقات بين بعض الأحداث الفريدة وبين البنى المعرفية الكرارة التي يدعوها بالمحادثة والأرشيف. إنه يبين انتصار الانتظام والتواتر على الا انتظام والفرادة: وبهذا فهو يحذوحذو جورجز كانغويهلم، وحذو توماس كوهين في هذه البلاد. ومع ذلك فإن فيكو، كما ينجلي من العنوانين اللذين ذكرتهما أعلاه للتو، مفتون بالاستعارة الإنسالية دون محاولته محاولة كافية، كما يبدو لي، أن يوفق بين صياغاته المفاهيمية الرائعة وبين استعارات التكاثر البيولوجي هذه. فخلف مصطلحاته الفنية لمنابت الجذور يكمن تشابه جزئي مقبول بين توليد البشر والمؤسسات، وذلك لأن هنالك ثمة توتر فيما يكتب، وتوتر غير محوم، لابين الفرادة والتكرار وحسب، بل وبين القرابة والتقرب كمثلين من أمثلة التكرار.
ففي وضعية فوكو، كما هي عليه الحال في وضعية هارولد بلوم وفيكو والمؤرخين الطبيعيين موبر تويس وبوفون، هنالك توافق آراء من نوع عام جداً مؤداه: أنه منذ حوالي منتصف القرن الثامن عشر، ومشكلة التغيير تتعرض، في الوقت الذي يجري تصويرها فيه في ميادين عديدة على أنها استيلاد الحياة أو تكاثرها أو نقلها من الوالد إلى ذريته، تتعرض لانتهاكات بعض القوى التي تعكّر مسيرة استمرارها. ففي التاريخ الطبيعي المكتوب في مطلع القرن التاسع عشر -مع الأخذ بعين الاعتبار استقصاءات كوفيير -تورد أمثلة عن مثل هذا الانقطاع في نظرية الاضطرابات الجيولوجية. وعلى نحو مماثل فإن نظريات الأصل اللغوي كنظرية هيردر أو روسو، التي تصور أول إنسان والد متلفظاً بأول كلمة والدة ومتربعا من ثم على عرش اللغة كما نعرفها، تتعرض أيضاً للتعكير أولاً بالعمر المعروف حديثاً، والمنّاع على التخيل، لتلك اللغات غير الغربية وغير التوراتية، وثانياً باكتشاف استحالةوصف التاريخ اللغوي، بمقدار ما يتعلق الأمر بالباحث الحديث، بأنه يتحرك على شكل سلسلة سلالية متعاقبة وبسيطة.وعلاوة على ذلك ففي ميدان ثالث، ميدان التأويل التوراتي كما جاء على وصفه هانزو. فراي، يخضع الانسجام بين سير المسيح في العهد الجديد وبين التواترات الحقيقية في حياة المسيح، ذلك الانسجام الذي ظل حتى الآن موضع التخيل بأنه سلالي، إلى التمزيق التام من قبل شتراوس وباور وآخرين(7)، وقصارى القول فإن محاولة تطبيق المصطلحات التوالدية على عالم الوقائع الملحوظة علمياً، ماهي إلا ضرب من التوقات المجازي لإيمان مغرق في القدم وحسب. فالمفارقة هي أن البحث في كل الميادين عن الأصول والتفسيرات التطورية قد تُسعّر بدلاً من أن يتعوق جراء استحالة تطبيق هذه التفسيرات، إلا كاستعارات لتحقيق الرغبة.
إن الرؤية التنبؤية لفيكو قد تنبأت بالمفارقة ولمحت إلى بدائلها ففكرة التكرار تزداد فاعلية كنتيجة للاختلافات بين الاستعارة السلالية وبين المكتشف الواقعي. وإن الأنماط الكرارة التي يبدو أن الوجود البشري والطبيعي يتشكل منها تظفر بالثقة في الوقت الذي يخسرها أصلها فيه. ومع ذلك ففي مركز الواقع البشري نفسه تنتصب حقيقة التواصل البشري التي يجعلها المرء، إن كان سيشهد فيها حقيقة تواصل تاريخي، رهينة الإنجاب البشري. فكيف يكون بوسع المرء أن يربط بين هذه الحقيقة، حقيقة تكرار الإنجاب، وبين الحقائق القاهرة لذلك التنوع والتخالف والتشتت الثقافي والتأويلي والطبيعي؟ إن من الواضح أن الإلحاح منوط بالشيء المفهوم من مقولة التكرار، وأما بالنسبة للبديلين اللذين سيبلغان الذروة أولاً في كتاب "التكرار"، لكير كيفارد وثانياً في كتاب "في الثامن عشر من شهر بروميير بالنسبة للويس بونابرت"، لماركس، ففيكو مفيد مرة أخرى. هيا وتذكروا بأنه تصور دورة واحدة تخلص إلى الانحلال الذي منه البقايا البشرية "كالعنقاء... تبرز من جديد"، وسموّا هذا التجديد بأنه من فعل مشيئة فوق طبيعية. وماهذا التجدد إلا الشكل الأول للتكرار، وأما الشكل الآخر فيقتضي ضمناً تلك الظروف التي يتمكن فيكو من أن يوضحها بتفصيلات مسهبة. نشوء الحضارة وازدهارها وانحطاطها وانحلالها النهائي. فهنا نلاحظ نموذجاً لفعل مكرور -لوجود تاريخي واجتماعي وبشري- متسم بانخفاض عام في مستوى الوجود، من الكياسة إلى البربرية. وهذا النموذج، في الوقت الذي يبدو فيه مظهره الخارجي بأنه يحذوحذو نسب سلالي، منقاد في حقيقة الأمر بقوانين داخلية من قوانين التطور والارتداد، وقوانين تاريخية واجتماعية تنتهك قوة التواصل الإنجابي المباشر.
فكتاب "التكرار" لفيكو يستغل لصالحه الفكرة الأولى عن التكرار بيد أنه يفعل ذلك، مع التسليم جدلاً بغرابة أطوار عبقرية الكاتب، بتلك الطرق التي ماكان بمقدور أحد أن يتنبأ بها حتى فيكو نفسه. إن التركيز الذي يركزه كيريغارد، في هذا الكتاب كما في كتاب "الخوف والرعدة"، لا على الفكرة العامة للتكرار بل على خصوصيته المطلقة، علىاستثنائيته. وهنا يجب علينا أن نتذكر أن الشاب في مسعاه لتكرار حبيبته الأولى وأن إبراهيم التوراتي كانا يؤمنان معاً أن مجرد القرابة، أو بمقدار مايتعلق الأمر بأيةعلاقة إنسانية كعلاقة الزوج بالزوجة أو الاب بالابن، ليست بالشيء الكافي لا أخلاقياً ولا ميتافيزيقياً. فالتكرار ليس هو التذكر، وليس هو التوقان لشيء ما ليس موجوداً هناك. إن التكرار هو "الرجوع حين يكون مدار التصور بمعنى شكلي محض"، فبالنسبةللشاعر، والفارس الإيمان أيضاً، هناك صراع بين النفس وبين كل الوجود الذي هو الله. وإن مثل هذا الصراع بمثابة معركة خاسرة لأن النفس المعزولة، وهي عاجزة عن المجاراة وعاجزة عن الكلام، رهينة تهديد الانمحاق الذاتي على الرغم من أنها لا تحلحل البتة قبضتها على الواقع، وذلك لأن التكرار لا يعني ضمناً الاستسلام بل يعني رباطة الجأش محمولة إلى نقطة اللا رجوع. فالوجود نفسه، ممثلاً بزواج ******ة من إنسان آخر أو بإتاحة كبش لإبراهيم بشكل مفاجئ، يغفر للنفس "في اللحظة التي يبدو فيها أي منهما على وشك أن يمحق نفسه". ولذلك فإن إبراهيم والشاعر يتمكنان من تملك العالم مرة ثانية ويعيدان التفاصيل الدقيقة للخبرة فيه ويرجعان إلى الواقع "بإدراك مرفوع إلى القوة الثانية التي هي التكرار"(9)، فإبراهيم يستعيد إسحاق إلى حوزته من جديد، والشاعر في كتاب "التكرار"، يقول:"هأنذا نفسي مرة ثانية. فهذه النفس التي لن يتلقفها العالم الآخر من على قارعة الطريق أمتلكها مرة ثانية. لقد انحل التناقض في طبيعتي ، وأنا موحّد من جديد. إن تلك الأهوال التي وجدت لها التعزيز والرعاية في كبريائي لم نعد تتغلغل كي تعود علي بالتخبط والتباعد"(10).
ليس من المستغرب أن تكون هذه النتيجة الدينية، وبصحبتها إحساس "بأن الوجود الذي كان قائماً، يقوم الآن"، عسيرة على الفهم. فكير كيغارد يضع هذا النوع من الخبرة في موضع المواجهة مع التأمل الهيغلي، الأمر الذي يتنافى مع فجاءة التكرار المفصّل والذي بدل ذلك يحشر الواقع مواربة في قلب تلك الأصناف،ويخرج به منها علماً أنها الأصناف التي تسلبه من نفس آنيته الواقعية والتي يحاول جاهداً كيريغارد أن يحافظ عليها مهما كان الثمن. إن كتابة كيركيغارد نفسها، ولاسيما بالأشكال التي تستفيد منها، تحاول أن تعوض عن التصدع الموجود بين ماكان قائماً وبين ما يقوم الآن. فكتاب "التكرار" مثلاً مبني بنية رواية لجيمز أو كونراد، طافح بالأطر والرواة الذي يحيطون بعمل يصعب فهمه. ومع ذلك فإن الاستعارة السلالية والإنسالية قوية جداً حتىعند كيركيغارد، الذي خطط لفلسفته عن التكرار أن تتسامى على الاستعارة حتى إنه في خاتمة بحثه يصف نفسه، قسطنطين قسطنطيوس، بأنه "كالقابلة في علاقتها بالطفل الذي تستولده، ولذلك بما أنني الإنسان الأكبر سنا فإنا الذي يقوم بالتحدث"(11)، وفي حين أن فلسفة التكرار تبقى تقرباً فإن الوسائل المستخدمة لوصفها ما هي إلا، لكير كيغارد نفسه، قرابة. ولكن التوتر القائم بين الفكرتين مسموح به لأن الإيمان، من باب الافتراض، يتيح امتلاكهما معاً. ولقد كان بمقدور فيكو أن ينعت كيركيغارد بنعت المؤرخ الديني الملتزم بالمناهج العصبوية.
هيا بنا الآن نلتفت إلى البديل الآخر، وهوالبديل القائم في كتاب ماركس المعنون "الثامن عشر من شهر بروميير بالنسبة للويس بونابرت". إن صفحاته الاستهلالية المتألقة، وكذلك المقدمة التي كتبها ماركس عام 1869 تعلن عن عدائها للفرضية التي مفادها أن التاريخ يحدث تلقائياً أو وفق نزوة إنسان عظيم مولود ذاتياً، وعلى الانفعالات الفوضوية الناجمة عن الأحداث المعقدة، وعلى غياب النظام في مناهج التحليل التاريخي المعتمدة على التشابهات الجزئية السطحية، وفي كل مكان يؤكد ماركس على الصيغة التي صار العمل من جرائها أكثر الأعمال شهرة ألا وهي: أن كل الأحداث التاريخية العالمية تحدث مرتين أولاهما كمأساة، وثانيتهما كمهزلة. فالتكرار هو الخساسة بيد أنها بالنسبة لماركس، على نقيض ماهي عليه عند سويفت في "المحادثة المهذبة"، أو عند فلوبير في "معجم الأفكار المكتسبة"، ليست مهمة من مهمات النظر إلى المجتمع البشري وكأنه منظومة مغلقة من الصيغ المبتذلة المنطوقة بمنتهى الغباء، بل نتيجة لنظرية منهجية عن العلاقة بين حدث وآخر. إن ماركس ليرغب في البقاء بعيداً عن المذهب الوضعي وعن الحتمية السوقية وعن المخطوطة أو الندم الكئيب. فلئن كان صحيحاً أن الأحداث الهامة تحدث مرتين، يكون التكرار وقتها بمثابة شكلها المكاني، في حين أن شكلها الزمني والسياسي والجمالي يكون شيئاً آخر. ولكن ما السبيبل لتبيان هذا؟
إن الواقف وراء لويس بونابرت ليس أباه بل عمه، الامبراطور العظيم، تماماً مثلما أن قدام عام 1848 لا عام 1847 بل عام 1789، وأن قبل المهزلة تقف المأساة، وأن قبل كتابة ".... الثامن عشر من بروميير...، لا مجرد كل من كتب قبل ماركس وإنما هيغل وديدرو. فالشيء الذي يحدد المواضع الصحيحة لهذه السابقات المكسوة قسراً كساء المؤسسات ، كما يقول لنا ماركس في مقدمة عام 1869، هوحدث وقع في صميم الأدب الفرنسي، وحدث مر مرور الكرام خارج فرنسا- وكل كتاب"الثامن عشر..... بروميير...."، تكرار مقنع لهذا الحدث وفقاً لعبارات ماركس أي ضربة مسددة للخرافة النابليونية" بأسلحة البحث التاريخي والنقد والهجاء والحصافة “mit den wafen der geschichts chung der kritic ,der satire und derwitzes” فإذا كان نابليون الثالث يتظاهر بأنه فعلاً نابليون الثاني، أي السليل المباشر للامبراطور، تكون مهمة المؤرخ أن يرى الوقائع كما هي عليه، أي أن الابن ماهو بالفعل إلا ابن الأخ: وهكذا فإن كتابة ماركس تطرح النسخة السلالية المنقحة عن لويس طرحاً صائباً وجدلياً، كما إنها تتعمد تعميم واقعة فرنسية، لصالح الاشتراكية العلمية كما كان على إنغلز أن يقول لاحقاً، "إن كلمة gen في Legend ، وهي كلمة منسوبة اتيمولوجياً إلى كلمتي legere وLogos، ليس لها إلا علاقة سطحية ومضللة بكلمة gen في genitor أو في genitalis. وبناء على ذلك فإن ماركس يصحح ذلك الخطأ الفادح الذي استولدته الخرافة النابليونية، والذي مفاده أن رجلاً عظيماً ينجب إبناً يرث بدوره مركز أبيه. وإن مايفعله ماركس في كتابته هو إظهار إمكانية تكرار التكرار لكتابة التاريخ مرة ثانية، أي أن نوعاً واحداً من أنواع التكرار المغصوب من قبل ابن الأخ لا يعدو أن يكون تكراراً سخرة لصلة القرابة.
إن اللغة والتمثيل ينطويان على أهمية حاسمة بالنسبة لمنهج ماركس، فاستغلال ماركس لكل الأحابيل اللفظية لا يستهدف جعل كتاب ".... الثامن عشر...... بروميير". قدوة للأدب العقلاني وحسب، لا بل وإن ماركس ليعكس في لغته فهماً أيضاً لتلك الطريقة التي ليست اللغة نفسها فيها مجرد حقيقة من حقائق الوراثة البيولوجية بكل تلك البساطة وحسب، بل وهي حقيقة ذات هوية مكتسبة أيضاً علىالرغم من انتقالها بشكل سلالي من جيل إلى آخر.
إن ثورة عام 1848 لم تجد ماتحاكيه استهزاء به أفضل من عام 1789 من بعض الزوايا، وأفضل من التقاليد الثورية لأعوام 1793 - 95 من زوايا آخرى. وبالأسلوب نفسه فإن الإنسان المتبدئ الذي يتعلم لغة جديدة يعيد على الدوام ترجمتها إلى لغته الأم: إذ ليس من الممكن أن يقال عنه بأنه اقتنص روح اللغة الجديدة وبأنه صار قادراً على التعبير عن نفسه بها بكل بساطة إلا بعد أن يتمكن من استعمالها دون الرجوع إلى لغته القديمة، وبعد أن يكون قد نسي لغته الأصلية إبان استخدامه اللغة الجديدة(13).
إن مايلمح إليه ماركس هو أن الماضي في اللغةوفي العائلات على حد سواء، ينيخ بكلكله على الحاضر ملحاً على طرح مستلزماته أكثر من إتيانه بالعون، فالخط السلالي المباشر يتمثل بالأبوة والبنوة وهو الذي سيغضي في اللغة كما في العائلة، إلىنسل مخادع شبه مشوّه، أي إلى مهزأة أو إلى لغة خسيسة. بدلاً من أن يفضي إلى نسخة وسيمة عن السلف أو الأب -إن لم يتعرض الماضي إلى تقليص قواه تقليصاً حاداً ليهيمن على الحاضر والمستقبل. ولكن ماركس يدرك، في حالة نابليون الثاني، وجود سلسلة كاملة من الضغوط التي تنشط لصالح التضليل والتي كلها تطل برؤوسها، كتشقلب الأشياء في المرايا، من صميم حافز التكرار. فهذا هو الأب، أو الأم، فارضاً بصمة على الطفل تدفعه لتكرار الماضي، وثانياً ابن الأخ متظاهراً أنه الابن، وثالثاً ذلك المسخ الأخرق (مشاراً إليه حوالي نهاية الكتيب) مطلاً برأسه قبل الأوان وبكل اصطناع كجنين يتيم، لا بل وبلا أي نسب سلالي صحيح، ورابعاً الرجل الممثل مدعياً بالانتماء إلى طبقة ما ولكنه عملياً يفرض نفسه على طبقة أخرى لترضى به ممثلاً لها (إذ كما يقول ماركس عن هذه الطبقة من صغار الملاكين"، بأنهم لايستطيعون تمثيل أنفسهم ولذلك يجب تمثيلهم")، وخامساً كل القطاعات غير المنتجة في المجتمع -كاللصوص وقطاع الطرق والمومسات والسفلة - التي تنجب هذا المخلوق وحتى الطبقة التي يدعي تمثيلها، أي جمهرة الفلاحين الملاكين الذين يقتصر دورهم في المجتمع على أن يكونوا منتجين، تعاني من تكميمه أفواهها وتدميره لها إلى أبد الآبدين. فهل هنالك إذاً مايثير العجب في أن استغلال لويس بونابرت لتراث عمه يتمركز حصراً على ذلك البند في الدستور النابليوني، الذي يشترط أن "البحث عن الأبوة [أي عن الأصل]، شيء ممنوع؟" “la recherche de la paternité est interdite”?
وبكلمات أخرى فإن لويس بونابرت يضفي الصفة الشرعية على اغتصابه السلطة باستنجاده بالتكرار في دورات طبيعية متعاقبة. ومن ناحية أخرى يكرر ماركس تكرار ابن الأخ وبذلك فإنه يسير عامداً متعمداً في اتجاه معاكس لاتجاه الطبيعة. ففي كتاب "... الثامن عشر... بروميير...."، يكون التكرار بمثابةالأداة التي يعتمدها ماركس لإيقاع ابن الأخ في فخ عالم متحلل العناصر. وبدءاً من الجملة الاستهلالية للعمل، وهي الجملة الشهيرة المقتبسة من هيغل، كان على منهج ماركس أن يكرر بغية إظهار الفرق، لا لتثبيت مزاعم بونابرت، وإيراد الحقائق بتصحيح مسيرتها الظاهرية. وتماماً كما يتكشف الابن الدعي بأنه ابن أخ بمنتهى الوضوح. كذلك حتى هيغل، الذي كان يعتبر أن تكرار حدث ما تعزيز وتوكيد لقيمته، يكون موضع الاستشهاد والانقلاب عليه. فالتكرار يبين تنزيل الطبيعة من مستوى الواقع الطبيعي إلىمستوى المحاكاة الزائفة. إن الهيبة والسلطة والقوة تنحدر بالاصل من خلال كل تكرار إلى مادة مدعاة لاحتقار المؤرخ.
حين حل كرومويل البرلمان الطويل، دخل بمفرده إلى وسطه وأخرج ساعته حتى لا يبقى دقيقة واحدة بعد الموعد الذي حدده له، وطرد خارج المبنى أعضاء البرلمان فرداً فرداً مت***باً بالذم والاستخفاف والاستهتار. وأما نابليون، مع أنه أصغر من قدوته، فذهب على الأقل إلى مجلس الخمسمائة يوم 18/ بروميير وقرأ عليه حكم إعدامه، ولو بصوت متهدج. ولكن بونابرت الثاني، الذي وجد نفسه بالمناسبة، صاحب سلطة تنفيذية مختلفة جداً عن سلطة كرومويل أونابليون، فقد فتش عن قدوته لا في حوليات التاريخ العالمي بل في حوليات (جمعية 10 ديسمبر)، في حوليات المحاكم الجنائية.(15).
ولن يكون بوسعنا إلا في نهاية العمل أن نفهم النقيض الحقيقي لجوهر التاريخ الذي نفذه بونابرت، والذي يعلن عنه ماركس حوالي البداية ألا وهو: "كل ماهو موجود يستحق الفناء"(16)، فلكي تكرر حياةكائن مالا يعني خلق حياة جديدة، بل يعني وضع الموت في المواضع الذي كان فيه حياة من قبل.
إن "الثامن عشر... من بروميير...." يجسد النقل التصحيحي للحيوية من عالم فرنسا في عام 1848، حيث كانت قد تقوضت بالموت الذي كان يقنع نفسه بالحياة، إلى صفحات النثر النقدي والعلمي لدى ماركس. فالنثر يحلل القنيص ويعطي التفاصيل الدقيقة للتنكر الذي تنكره لويس بونابرت كبديل لنابليون"، "أي البديل المزيف لنابليون"([1])، إن عمل ماركس ماهو بالمأثرة الطبيعية ولا بالتوكيد المذهل: إنه تكرار لصلة التقرب وتكرار صار ممكناً بواسطة الوعي النقدي. إنه يبشر بثورة ميثودولوجية تكون من خلالها حقائق الطبيعة، كما هو عليه الأمر في العلمين الطبيعي والبشري، موضع التفكيك، ومن ثم موضع التركيب من جديد بشكل يثير الجدل العنيف، مثلما جرى تماماً خلال القرن التاسع عشر في المتحف أو المخبر أو في غرفة الصف أو المكتبة، حيث قام تفكيك الحقائق وتركيبها في وحدات ذات معنى تعليمي، ولربما بمقصد تبيين أن القوة البشرية أكثر قدرة على تحويل شكل الطبيعة منها على تثبيت الشكل الذي هو عليه. وإن سيرورة أخرى موازية لسيرورة صلة التقرب تحدث في الفيلولوجيا وفي الرواية والسوسيولوجيا، حيث يتحول التكرار إلى مظهر من مظاهر التقنية البنيوية التحليلية. فالتكرار على أرجح الظن مقيد بالانتقال من إعادة تجميع الخبرة بشكل فوري إلى إعادة تشكيليها وترتيبها بشكل متكاثر الوساطة، الأمر الذي يفضي إلى تزايد التفاوت بين هذه النسخة وبين نسختها المكرورة، وذلك لأن الشيء المكرور لا يمكنه أن يتملص طويلاً من السخريات التي يحملها في صميمه. إن التكرار حتى في الوقت الذي يحدث فيه يثير التساؤل التالي: هل يعزز التكرار حقيقة ما أم سينزل بمرتبتها إلى تحت؟ غير أن هذا التساؤل يطرح إدراك شيئين، في المكان الذي كان فيه استرخاء لواحد منهما من قبل، مع العلم أن مثل هذه المعرفة، شأنها شأن الإنجاب. يتعذر فعلاً عكسها إلى النقيض. وبعد ذلك تتفاقم المشكلات، ولكن هل تتفاقم بشكل طبيعي أو بشكل غير طبيعي، بشكل قرابة أو تقرب؟ وذاك هو السؤال.


nnn



6- عن الأصالة



هنالك بضع طرائق أساسية تبدو فيها الاصالة، كخاصية أو فكرة، شيئاً جوهرياً بالنسبة لخبرة الأدب، ولكن الشيء الذي يخلف في الذهن نفس ذلك الانطباع هو العدو المطلق للتلميحات الفرعية عن الأصالة في تفكيرنا عن الأدب،. فالمرء لا يتحدث فقط عن كتاب بأنه أصيل، وعن كاتب بأن لديه من الأصالة مقداراً أوفى أو أقل مما لدى كاتب آخر، لا بل ويتحدث أيضاً عن الاستخدامات الأصيلة لكذا وكذا شكل ونوع وأسلوب وبنية، وعلاوة على ذلك فثمة أوصاف مختصة بالأصالة موجودة في مجمل التفكير المعني بتفصيلات أدبية من مثل الأصول والغرابة والراديكالية والابتكار والتأثير والموروث والأعراف والعصور. ومامن سبب وجيه يدعو الآن للاختلاف مع ويليك و وارن اللذين قالا بكل اقتضاب في عام 1948، أن الأصالة ماهي بالفعل إلا "مشكلة أساسية في تاريخ الأدب"(1). ولكن، ترى، مامقدار أساسية هذه المشكلة وما مقدار إصرارها على الروغان؟ وهل يجب أن تستأثر بالاهتمام التحليلي للباحث والكاتب المعلم وتلميذ الأدب؟
وأما أنا فلسوف أسوق الحجج على أن الأصالة شيء جدير بالبحث العميق، ولاسيما إن نظر المرء نظرة أكثر من عابرة إلى ذلك الاعتقاد الذي مفاده أن دراسة الأدب تلعب في العالم المعاصر دوراً نقدياً وفكرياًحاسماً ولو أنه ناقص التحديد. وأجد لزاماً علي أن أقول للتو أن أي اهتمام بهذه الخاصية الميازة نقرنه بالأدب، بغية ارتقاء هذا الاهتمام إلى أكثر من لائحة من الأمثلة (مارلو أصيل لأنه..... أو درايدن لديه أصالة لأنه.....)، لا يمكن تعزيزه على نحو مفيد إلا في مستوى من البحث ليس في العادة مقروناً بممارسة الدراسة الأدبية ، ألا وهو المستوى النظري إن العقيدة السائدة الآن هي أن الأدب هوالشيء الملموس، بشرياً واجتماعياً وتاريخياً، الأمر الذي يعني القول بأن الأدب يمدنا بأمثلة جمالية عن كل صنف من أصناف الخبرة. وأما النظرية، من ناحية أخرى، فمقرونة بالتجريدات والأفكار، أو بكل ما يتصوره تلميذ الأدب على أنه جدير بالدفاع عنه، بيدأن هذا القول لا يعني أن النظرية لا تأثير لها في أوساط الأدباء، وذلك لأن حد السطوة الذي تبلغه مختلف نظريات النقد على التلاميذ والمعلمين سواء بسواء ماهو إلا علامة من علامات التعرض للأحابيل النظرية.
إنها لمصادفة تنويرية أن ما أعنيه بالمستوى النظري للبحث مرتبط تاريخياً في الغرب. بانطباع عن الأصالة. فالموضوع الذي تناولته محاورات أفلاطون قبل غيرها، ومن ثم أرسطو من زاوية نقدية، هو العلاقة بين معرفة الأفكار (أي النظرية) وبين حياة الإنسان. لقد كان أفلاطون، كما يقول: "ويرنرجيغر": "أول من طرح الإنسان النظري كمشكلة أخلاقية في صلب الفلسفة وأول من برر حياته ومجدّها"(2)، فبين أفلاطون والجيل المؤلف من تلامذة أرسطو- علماً أن أرسطو نفسه ما تخلّى قط عن إرثه الأفلاطوني (أي عن اعتقاده بالقيمة الأخلاقية للحياة النظرية)، "الذي كان حاسماً جداً بخصوص موقفه من البحث ومن تصوره المثالي للعلم"(3)، تغير ذلك الاعتقاد تغيراً انتقل من التصور المثالي لحياة التأمل الروحي إلى الإدلاء بالبراهين لمصلحة حياة مفعمة بالنشاط، وحياة معقدة، ويشير جيغر إلى أن القصص عن الفلاسفة كانت تستخدم كأدلة عن الأصالة، أي عن ذلك السلوك الغريب الذي كان يسلكه الفلاسفة، نظرياً وتأملياً، بين الناس وهكذا...
نجد في البداية أن سقراط وأفلاطون يربطان العالم الأخلاقي بالمعرفة الفلسفية للوجود ومن ثم نرى لدى ديكاركوس [وهو تلميذ لأرسطو]، أن النموذج العملي المثالي والحياة والأخلاق مسحوبة مجدداً من تحت سلطة التأمل الفلسفي الرفيع لتستعيد استقلالها، وأن الجناح الجسور للفكر التأملي جناح مقصوص. وبتلك العملية تخور قوة النموذج المثالي للحياة النظرية. وحين نصادف الحياة النظرية بعد ذلك نجدها على الدوام عالم "العلم المحض"، ومتناقضه أيضاً مع حياة التطبيق... وماكان بمقدور الحياة النظرية أن تحرز التجديد إلا بعد تقويض الفلسفة العلمية والميتافيزيك بواسطة المذهب الش****، مع العلم أن ذلك التجديد اتخذ الآن الشكل الديني للحياة التأملية، والشكل الذي كان المثل الأعلى الرهباني منذ ذلك الزمن الذي حمل فيه عمل أفلاطون ذلك النعت.(4).
فمن هذه المناقشة يأتي التقسيم العام للعمل إلى ناشط من ناحية أولى، وإلى تأمل نظري من ناحية أخرى. وفي أحد الأوصاف المختصة يصر هذا التقسيم اليوم على وجوده في صيغةأدبية مبسطة على أنه التمييز بين الكتابة الأصيلة الإبداعية وبين الكتابة التأويلية النقدية.
وهذا التقسيم يولد تقسيماً آخر، متساوقاً معه، معناه أن الكتابة الأصيلة الإبداعية هي الأولى، في حين أن أي نوع آخر من الكتابة لهو الثانوي. وليس هنالك إلا شيء طفيف من المبالغة في القول أن دراسة الأدب في الغرب تدور تحت إشراف أناس عقولهم فياضة بهذه التمييزات.
فمن كاتب مؤلف يقترح التعامل مع سحر العمل والبوهيميا والأصالة أي قريباً من المادة الحقيقية للحياة (ونحن نجد دائماً هذا التقارب بين الواقع والأصالة)، إلى كاتب باحث ناقد يقترح صورة الكدح والسلبية والعنّة والمادة الثانوية والتنسك الباهت. وفي الوقت الذي تزايدت فيه بمرور الزمن تلك المقارنات بين العمل الأولي الأصيل والنقد كنشاط ثانوي تفاقم بخس الناقد حقه، على الرغم من ذلك التسامح الذي تسامحه الأوغسطيون الإنكليز في القرن الثامن عشر حيال مادعوه بالناقد الحقيقي. وفي هذه الايام يحظى تلاميذ الأدب بالتشجيع من خلال المنهاج الدراسي وإيديولوجيا الدراسة لكي يبتعدوا بأنفسهم عن ضبابية النقد ويقتربوا بها من المعايير الراسخة (مع العلم أن تصورات آرنولد النقدية لا تزال على نفوذها الكبير)، "للكتابة الإبداعية: فالتلاميذ يتنافسون على الملموس ولكن الحيوية تخونهم بالتحديد في الكتابة. وبما أن هذه السيرورة صارت وطيدة الأركان، صار على الأرجح يبدو ضرباً من التهافت الرخيص أن يطرح المرء الحياة النظرية الأفلاطونية الأروسطية كحياة جديرة بالدراسة المعمقة، إن لم تكن جديرة بالمعاش.
فلا إن كانت النظرية "theoria" موضع فهم صحيح, ولا إن كان الآن بالإمكان تبيان قدرة المستوى النظري للبحث على التعامل مع مسائل كالأصالة، فضلاً عن تبيان قدرته على تحددي ميادين ومناهج للدراسة أقل تحفظاً من كل مجال الخبرة المتاحة أمام الكتابة الحديثة. إن هذ المنهاج هو ما يشكل صلة الوصل، ولكنني أقصد ذلك النوع البالغ التنظيم الذي يمر مرور الكرام بالموضوعات الدارجة والعسيرة التحديد بنظرة معاصرة. فبالنظرية والبحث النظري بالشكل الجاري تطبيقهما فيه على الأدب أعني بطريقة أساسية ومتناهية التحديد ذلك الاهتمام الفعال الموقوف على الشواغل المناعة على التقليص، ألا وهي الشواغل التي لا تخص أي ميدان إلا ميدان الخبرة الفعلية عموماً والأدب خصوصاً، ومامن ميدان سوى هذا الميدان لإمكانية قيام شيء من الأمل لتوفير الدقة والتصييغ لتلك المشكلات القادرة على الإتيان بالتمييزات والقابلة للدراسة الحقيقية. إن معظم البرامج والمناهج الأدبية الراهنة نتاج وجهة النظر الإنسانية التي لم تعد تنتجها الثقافة ولا حتى الجامعة. فدراسة الكتاب والعصور الأدبية، ودراسة الأجناس والموضوعات الأدبية بين الحين والحين، كانت دائماً تفترض سلفاً معرفة اللغات الكلاسيكيةعلى الأقل، وقسطاً من التبحر في التاريخ والفيلولوجيا والفلسفة: بيد أن الأمر لم يعد الآن علىهذه الشاكلة. وهكذا فإن كلا من التلميذ والأستاذ معاً يجدان لهما البديل الأول: في "إطراء" مناقب الأدب (الذي تلعب فيه دور السقالة الفكرية بعض المصطلحات من أمثال الحس المرهف والانطباع والفطنة)، والبديل الآخر في منظومات المناهج والتقنيات المتعلقة بالدراسة (التي تسعفها الوسائل اليقظة من منظومات أخرى بإعداد النص أولاً ومن ثم بطرحه للتأويل). فالنظرية، كما أفهمها، أكثر سماحة وأكثر قدرة على توفير الدقة المتناهية من أي من ذينك البديلين.
إن القراءة والكتابة مسعيان ينطويان في الصميم على معظم الحوافز اللجوجة عند المرء لإنتاج نص وفهمه. وماهذا الأمر بالبديهي إلا لذلك الإنسان الذي لن يرى، مثلاً، أن الكتابة هي الترجمة المعقدة والمنظمة لعدد لا يحصىمن القوى وتحويلها إلى نص قابلة لحل طلاسمه. وهذه القوى تتقاطع بالأساس مع رغبة بالكتابة، وهي الخيار الذي كان له قصب السبق على الرغبة بالتحدث، بالتلميح، بالرقص وهكذا دواليك، وبمقدار مايتعلق الأمر بالرأي النظري فهنالك سؤال أولي جدير بالإجابة عنه ألا وهو لماذا كان المقصود بالكتابة أن تتخذ شكل نص معين، لا أي مسعى آخر غيره؟ ولماذا ذلك النوع الخاص من الكتابة لا نوعاً آخر؟ ولماذا، فيما يتعلق بكتابة مماثلة أخرى، في تلك اللحظة لا في لحظة أخرى؟ فالمقصود هنا هو تلك السلاسل والمجموعات والمركبات من الخيارات العقلانية التي أقدم عليها الكاتب والتي يتجسد الدليل عليها في نص مطبوع. إن الحافز اللا واعي وحتى اللا إرادي ماهو بالحصر إلا حد ذميم، بيد أنه ليس بشكل من الأشكال ذلك المسرح المقفل الباب في وجه البحث العقلاني للغة، كما بيّن فرويد وجاك لاكان في عهد أقرب من فرويد. وأما بالنسبة للقراءة فهنالك سلسلة من الأسئلة على أوثق صلة بالموضوع: فالقراءة تتقصد دائماً ذلك الهدف الذي ينطوي ضمناً على الكتابة التي نحن بصددها. لماذا نقرأ هذا ولا نكتبه؟ نقرأ لكي نفعل ماذا؟ أنقرأ بقصد التطوير أم بقصد التخصيص لغرض ما؟ وحتى في صياغة هذه الأسئلة نخلف وراءنا الكثير من الغموض والسرية المقرونين عادة باستخدامات "الأصالة" فمعظمنا لا يفعلون أكثر من النظر إلى الأصالة كسمة من سمات اهتمامنا، وسمة عرضة للإنعاش أو الاهتزاز جراء تلك الخبرةالتي تدفع بكل الأشياء الأخرى إلى المرتبة الثانية أو إلى الابتعاد عن الأنظار. وبما أن هذا النوع من الإزاحة شيء عام نسبياً، فإن من الممكن أيضاً أن تكون الأصالة إسماً لاستبدال خبرة بأخرى استبدالاً لا نهاية له، واستبدالاً عنيفاً على أرجح الظن بين الحين والحين، ولكن بدلاً من أن نترك الكتابة عند ذلك الحد يمكننا دراستها نفسها كمسعى تتفاعل فيه قوى حدودها عرضةللرصد كون بعضها مضموم وبعضها معزول وبعضها الآخر مقلوب رأساًعلى عقب. ولذلك فقيمة الكتابة كموضوع للتحليل هي أنها تحدد بمزيد من الدقة تعاقب الحضور والغياب تعاقباً يكاد أن يكون مغفلاً، وتعاقباً نقرنه، انطباعاً وإدراكاً، بالأصالة، فالحضور والغياب يكفان عن البقاء مجرد مهمتين من مهمات إدراكنا ويصبحان بدلاً من ذلك أدائين إراديين من قبل الكاتب. وهكذا فإن على الحضور أن يتعامل مع أمور كالتمثيل والتجسيد والمحاكاة والتبيين والتعبير، في حين أن على الغياب أن يتعامل مع الرمزية والتضمين والوحدة التحتية اللا واعية والتركيب. فلذلك يمكن النظر إلى الكتابة أيضاً على أنها الإطار الذي يحدث فيه منهجياً تفاعل الحضور والغياب. إن وصف ريلكه للعنصر الجوهري في فن روديه ([2]) ينطبق تمام الانطباق على المعنى الذي أقصده حين قال: "هذا السطح العظيم عظمة استثنائيةيتحلى بتبريز متنوع وقياس دقيق، ومن صميمه يجب أن تنبثق الأشياء كافة"(5).
إن كل ماجئنا على ذكره حتى الآن يترك مسألة حساسة على شيء من الغموض. فماهي وحدة الاهتمام النظري: أي ماهو الشيء الذي يركز عليه المرء في تفحصه النظري للكتابة أو القراءة؟ أو ماهو السبيل لتحديد وتمييز تخوم الفاصل المكاني أو الزماني؟ وهنا علينا أن نضع أنفسنا في زماننا نحن، ولئن كان هنالك من شيء يسم الكتابة الحديثة بسمة أساسية فهو السخط على الوحدات التقليديةمن أمثال النص والكاتب والعصر، لابل وحتى على الفكرة. فالنظرة الآن في أحسن الأحوال إلى هذه الوحدات هي أنها تؤدي خدمة مؤقتة كاصطلاحات بديلة مؤقتة في موجز متفق عليه يتضمن النصية، بيد أنها ليست في الحقيقة هي أنفسها إلا بأمس الحاجة لتوضيح وتحليل دقيقين. وكما تساءل فوكو، عند أية نقطة يبدأ نص كاتب ما وأين ينتهي، وهل بطاقة بريدية أو قائمة جرد الثياب في مصبغة بخط نيتشه تشكل حلقة في نصه المتكامل أم لا؟ ومن منطلق الكتابة، من هو سويفت أو شيكسبير أو ماركس؟ وكيف بوسع المرء أن يفهم شخصية من المفروض أن تتضمنها الحروف على الصفحة؟ وقصارى القول فإن مستويات وأبعاد الفهم الفعلي أضحت غاية في التوسع والتنوع والتخصص، كما أن استغلال الكتابة الحديثة لهذه المستويات أضحى في غاية الرسوخ -لاحظوا ذلك الاستخدام المذهل للتشابهات والأصداء والنتف والمحاكاة الساخرة لدى إليوت وجويس وكافكا ومان وبورجيس -وبيكيت- الأمر الذي صار يستدعي التفتيش عن مخطط جديد واف لتجميع تلك المستويات في وحدات مفهومة.
إن المخطط الحديث نسبياً كالأسلوب (أو الشكل اللغوي)، أو التركيب أديا إلى ولادة فروع دراسية مهمة على نحو استثنائي (كالأسلوبية وتحليل التركيب على التوالي)(7)، فهذه الفروع على ارتباط بالمناهج التقليدية كالفيلولوجيا أقل من ارتباطها بالدراسة العلمية الحديثة للغة، تلك الدراسة التي تعتمد نفسها على دراسة العموميات اللغوية التي تيسر الأداء اللغوي، فالنقد المنهجي القديم كنقد نورثروب فراي يفترض أيضاً، على الرغم من أنه غني، وجود قدرة أدبية محددة وباطنية قادرة على توليد "تركيب عويص" منظم تنظيماً دقيقاً. وأما رأيي هنا فهو أن نوعية الدراسة النظرية التي أقترحها لن تفترض جدلاً، إلا بطريقة بسيطة جداً، الحضور المسبق الشامل لتلك الإملاءات التي تضغط على الكتّاب للكتابة أكثر مما تفترض الوجود المسبق لوحدات كالرواية أو المقالة، ولكن المفترض بدلاًمن ذلك هومجموعة من الظروف أو الأحوال الدنيوية الطارئة التي منها جاء القرار بالكتابة - وهو مسار العمل المصطفى دون غيره من المسارات الأخرى. وأما وحدة الدراسة فمقيدة بتلك الظروف التي، بالنسبة للكاتب المقصود، يسرّت علىمايبدو، أو ولّدت، النية على الكتابة.
فالتمييز الذي أميزه موضح تماماً قرب نهاية "فيدروس"، (المقطع 276)، حيث يعزل سقراط "الكلمة الذكية"، أي الكلمة الحية للمعرفة عن تلك الكلمات، "المتناثرة عشوائياً، هنا وهناك... دون آباء لحمايتها". فالكلمات الأولى هي الكلمات المصقولة والمبذورة والمزروعة عن عمد، في حين أن المثاني كلمات "مكتوبة بالماء". إن مناقشة سقراط العديدة الطبقات متمركزة على الكيفية التي تكون فيها المعرفة مصوغة ومبذورة ومكتسبة بالكلمات، ألا وهي تلك العملية التي يشبهها بتشذيب حديقة ما تشذيباً منهجياً بطيئاً وبخلق أسرة ما من قبل أب نيقّ. وهنا أيضاً تتصادف النظرية والأصالة وذلك لأنه ليس من الممكن وجود أية معرفة نظرية دون أصل قابل للإدراك: فكل المعرفة الحقيقية، مهما كان شكلها، توجد ضمن مجال الشيء القابل للمعرفة، الأمر الذي يعني أيضاً أن نقول أن الشيء القابل للمعرفة لا يمكن بلوغه إلا "بالدراسة الجدلية"، بالجهد الجهيد، وقبل أي شيء بالعناية بما هو "الذرية الشرعية"، للعقل، فالدمج الذي يدمج فيه سقراط المعرفة النظرية بأعز إنتاج الإنسان، أي ذريته، يؤكد على ماهو في غالب الأحيان في مجاهل النسيان، أي على التجاور بين مهمة بشرية خاصة وملموسة وبين الحاجة لنية عامة نظرية ومجردة. وعملياً فإن سقراط يدفع ذلك التجاور إلى مزيد من التقارب بقوله أن الأهلية النظرية ماهي إلا بمثابة الوالد للمشاغل العملية: ومن هنا يتأتى وجود صلة القربى.
إن هذه الحقيقة بمنتهى البساطة لمن أخصب الحقائق المتاحة للفكر البشري. فهي موجودة عند ماركس بكل ذلك الجلاء، بيد أنها موجودة أيضاً لدى هيغل وكانط وفرويد، فضلاً عن وجودها في أية كتابة تقرّب بين التواصل والأصالة، كما هي عليه الحال في الرواية، فسقراط لا يتحدث ببساطة عن النية لإخضاع النظرية للتطبيق، بالشكل الذي يعرضها فيه الشعار المطروح، بل ويعزز أيضاً الصلة المباشرة بين معرفة مجردة، مما يجعلها محترسة، وبين حافز عملي. وبشكل معكوس ومثير لمزيد من الدهشة، فإن هذه الحقيقة تخلف في الذهن أرسخ الانطباعات عن تحملها مسؤولية أي توسع نظري علىحساب النية العملية. وأما طول الزمن الذي ظل فيه هذا الأمر موضع إهمال الدراسات الأدبية فهو من المهمات التي وسمها جورج لوكاش ورولاند بارثيز بأنها تجسيد الأشياء، أي توشيحها وشاح الأساطير، مع العلم أن الأشياء لا تكتفي بالظهورأنها موجودة ومفترضة وطبيعية وغير متبدلة وحسب، بل وتستبعد آثار أصلها وآثار أية فكرة قد تشير إلى أنها كانت نتيجة نظرية ما، أو سيرورة كان تصميمها يتقصد، بالضبط تغييب أية نظرية أو سيرورة على الإطلاق(8)، ولذلك فدراسة الأدب على أنه كتابة مفترضة ذات عطالة ذاتية، وذات قدسية في النصوص أو الكتب أو القصائد أو المسرحيات، تعني معاملة الشيء الذي ينبثق عن رغبة في الكتابة وكأنه شيء طبيعي وملموس -مع الإشارة إلى أن تلك الرغبة متواصلة ومتنوعة، ومجردة وغير طبيعية إلى حد بالغ باعتبار أن "الكتابة" ماهي إلا ذلك النشاط الذي لا يرتوي البتة باستكمال نص مكتوب. وهكذا فما من شيء إلا الشغف النظري في المجرد -الشغف الشامل بالشيء المرشح دوماً للمعرفة، على الرغم من خضوع الشغف لاحتمالات عديدة -ربما يستطيع أن يتعامل مع حافز أصيل (مناع على التقليص)، لا حدود له بمنتهى الوضوح. وإن بمقدور المرء، والحق يقال، أن يأتي بالأدلة المقنعة على أن من الأفضل النظر إلى الكتابة المعاصرة بأنها تخلف الشؤون العملية عن اللحاق بركب الرغبات النظرية واللا عملية، وحتى الطوباوية، وذلك لأن كتابة رواية أو قصة، كما هوعليه الحال بالنسبة لكتاب خرافات من أمثال بورجز وبينشون وغارسيا ماركيز، هي رغبة في سرد قصة ما أكثر بكثير مما هي رغبة في قصة مسرودة.
وثمة اعتراض مشروع علىهذا النوع من المحاجة وهو أنني خلطت معرفة شيء ما كالكتابة بفعل إنتاج الكتابة.ومع ذلك ففي "فيدروس" وفي آيون وفي الجمهورية وفي القوانين"، يعزل أفلاطون الفيلسوف عن الفنان، والعارف عن الصانع المسوؤل أخلاقياً والمتصوف عن العامل، ولكن مثل هذا النوع من الاستدلال ليس بالتوجه الصحيح إلا جزئياً لأنه يتجاهل أساساً إلحاح سقراط في "فيدروس" على تقريب العاشق من عاشق المعرفة، أي الفيلسوف، مع العلم أنه يحجب نعت "الحكيم"، عنهما كليهما معاً.
لأن ذلك النعت لقب عظيم لا يخص إلا الله وحده - وأما نعتهم بعشاق الحكمة أو الفلاسفة فهو لقبهم المتواضع والمناسب.
فيدروس: هذا شيء ملائم تماماً.
سقراط: وأما ذلك الإنسان الذي لا يستطيع أن يترفع على مؤلفاته وتجميعاته التي مر عليه ردح طويل من الزمن وهو يرقعها ويخزمها، ويضيف إليها بعض الأشياء ويحذف منها بعض الأشياء، فمن الممكن دعوته بمنتهى الإنصاف بأنه شاعر أو صانع كلام أو صانع قانون (المقطع 278).
ولربما على نحو أقل شاعرية من سقراط، يمكننا أن نترجم "عشاق الكتابة"، "بالراغبين في الكتابة"، أو "بالتواقين للكتابة"، الأمر الذي يترتب عليه أن الناقد، مثله مثل الروائي، هو كاتب يتوق للكتابة بالكتابة. فعلى ذلك المستوى النظري والعملي يعمل السعي لإنتاج الكتابة على توحيد (أ)، الأصالة كنيّة مناعة على التقليص لإنجاز نشاط محدد مع (ب)، الأصالة كعمل لا بديل له مفض إلى الكتابة، ولئن كان واحدهما هو ذلك الروائي الذي ينتج رواية أو ذلك الناقد الذي ينتج عملاً عن تلك الرواية، فكلاهما أصيلان سواء بسواء وفقاً لتلك المصطلحات التي كنت أستعملها والتي هي مصطلحات خاصة باعتراف الجميع. فالسؤال عما إذا كان واحدهما أكثر أصالة من الآخر يعني المخاطرة باستنتاجات سوسيولوجية من نفس الصنف الذي يتأتى من الحديث عن المساواة في رواية "المدجنة"، ولكن حتى ذلك النوع من الاستنتاج يستلزم شيئاً أكثر شبهاً بدقة بيير ماشيري أو لوسيان غولدمان منه بدقة أورويل.(9).
هنالك مثلان عن النقد معتمدان على بعض هذه المنطلقات المنطقية سرعان مايخطران على البال، أولهما من لوكاش وثانيهما من الكلاسيكي الفرنسي جان بيير فيرنان. فكتاب "نظرية الرواية"، يضطلع بعبء البحث عن ماهية الوعي الأصيل الذي يسرّ ظهور الرواية، مع التسليم جدلاً بتوفر مجموعة معينة من الظروف الفكرية والسيكولوجية والروحية. إن المذهب الذي ذهبه لوكاش كان لتحديد مهمته في صياغة ماكان عليه الحافز الروائي بالأصل وذلك لأول مرة، علماً أنه ماكان بمقدوره أن يفعل هذا إلا لأن الرواية، ولأول مرة أيضاً، كانت قد وصلت إلى مرحلة من التطور أتاحت ورود التعابير الواضحة عن الرواية بأسلوب لا روائي.(10). وأما مقالات فيرنان عن التراجيديا اليونانية فمعتمدة(كتحليلات نيتشه)، على افتراض مفاده أن تلك التراجيديات ماكانت بدائل عن الأفكار، وإنما كانت "أشياء"، مقصود بها بالأصل أداء عمل أصيل، وهكذا فإن التراجيديا تحدث على شكل ذلك الابتكار الذي هو بمثابة شيء جديد جدة أساسية في كل وجه من الوجوه، فالتراجيديا تقع في لحظة مشروطةجداً حين "تمثل المدينة اليونانية نفسها على المسرح....... وحين تمثل، وهذا أهم الأشياء كافة، أمورها المعضلة ذاتها"، ويخلص فيرنان إلى تقريره أن هذه الأمور المعضلة تدور حول ذلك التغيير العسير الذي طرأ على التصور العمومي للإنسان عن نفسه، ألا وهو التغيير الذي "ماكان بالإمكان تخيله، ولا معاشه، ولا حتى التعبير عنه إلا من خلال شكل التراجيديا وحده دون سواه من الأشكال الأخرى....... فكل مشكلات المسؤولية ودرجات النية والعلاقة بين العامل البشري وأفعاله والآلهة والعالم معروضة من خلال التراجيديا، وماكان بالإمكان عرضها إلا من خلال شكل التراجيديا وحسب"؟(11)، إن هيغلية لوكاش لم تكن وقتها قد تعرضت لتنقيح ماركسيتها، ولذلك فإن
"النظرية" في الطور الأولي لتفكيره كانت لاتزال تعشش في ميدان مثالي فسيح. ولكن الأمر لم يكن على هذا النحو في نظريةفيرنان عن لحظة التراجيديا. إذ بالنسبة إليه كانت اللغةتحتل منزلة مادية وذات استخدامات بالغة التنظيم في الشكل التراجيدي، ومع ذلك لماذا كلا هذين الناقدين يلحان، شأن هذا كشأن ذاك علىالصعوبات البالغة لفهم الشكلين اللذين كانا يدرسانهما؟ وإن السبب ليكمن في أن الرواية والتراجيديا كلتاهما يعودبهما القدم إلى أصل تجريدي، روحي أو مادي، ألا وهو ذلك الأصل الذي يتعذر إدراكه تواً أو كاملا، فهاتان النظريتان، خلافاً للنظرية التأويلية لديلثي، لا تلجآن إلى حدس متجانس يتجاوز العمر الشفاف للوثائق المدروسة. إن التراجيديا والرواية كلتاهما تعودان إلى فترة زمنية ضائعة إلى أبد الآبدين. ولذلك فإن أصالة الشكلين ماهي، بأدق المعاني، إلا نوع من الضياع الذي تحاول كتابة الناقد التوصل إليه.
فالأصالة بأحد معانيها الأولية، إذاً، يجب أن تكون ضياعاً، وإلا فإنها ستكون تكراراً، أو إن بمقدورنا أن نقول أن الأصالة، بمقدار ماهي مفهومة على هذه الشاكلة، هي الفرق بين فراغ بدائي وبين تكراردنيوي مؤكد، إن كيركيغارد، كواحد من ضمن العديد من الفلاسفة، لم يكن يرى أي تناقض (في مضمار الخبرة الدينية) بين التكرار والأصالة، بيد أننا عموماً نقرن التكرار إما بمرتبة دونية(المأساة في المرة الأولىوالمهزلة في الثانية)، وإما بعودة اعتراضية، وأما نيتشه فقد كان مهووساً، ولربما لأنه كان فيلولوجيا، بدراسة. سلاسل الأنساب انطلاقاً من الأصناف المختلفة للأصالة..وهكذا فكلمة "Ursprung" (التي تتطابق مع الأفكار التي جئت على بحثها آنفاً بخصوص لوكاش وفيرنان) تعني الظهور الأول والشفاف والأصيل، في حين أن كلمة "Enstehung"، تعني الظهور التاريخي لظاهرة ما، بدء انبثاقها "point de surgissement" أي (نوعية تلك الأصالة التي حللها توماس كون، وجورجز كانغيهيلم في تحليلاته التفرد(12)، كما أن كلمة "Hurkunft" تعين الأصل والمصدر اللذين تنبثق عنهما الأصالة.(13).
ومع ذلك فما نيتشه وماركس وفرويد إلا أولئك الكتاب الذين يقوم في عملهم تناسق رائع بين المحاولات الرامية لوسم الأصالة (الثورة،نشدان الحقيقة، اللاو عي) وبين المحاولات الرامية لتنسيق ظروف الخبرة البشرية وتكييفها، وتخطيطها. وهكذا فلكل ثورة يجب أن تتوفر ولابد مجموعة من الظروف المتكررة بحيث تكون النتيجة، بناء على مقولة فوكو، تحول الاصالة الحقة كنوع من المصطلحات المطلقة إلى ضرب من الاستحالة (14)، فالتفرد البشري، ومن ثم أية أصالة مقرونة بالمسعى البشري، لهومهمة من مهمات تلك القوانين التي تتسامى علىالقوانين الفردية، والتي تشكل النماذج (السيكولوجية والاقتصادية والفكرية)، التي ندعوها بالتاريخ من حيث توثيقه بآلاف السجلات المكتوبة. ولذلك فالتاريخ المكتوب ماهو إلا تذكر مضاد، نوع من المحاكاة الساخرة للتذكر الأفلاطوني، وتذكر مضاد يتيح المجال لتمييز الأشياء الأصلية والأولى والحقيقية من خلال التأمل. فالإدراك التاريخي بالنسبة لنيتشه، وفق مقولة فوكو، إن هو إلا محاكاة ساخرة في اعتراضه التذكر، ومفصال فيما يتعلق بالتواصل، وهدام بالنسبة للمعرفة. وبما أن تمييز الأصالة يتزايد عسراً فإن وصف سماتها يتزايد دقة بدوره، وهكذا في خاتمة المطاف فقد انتقلت الاصالة من كونها مثلاً أفلاطونياً، وتحولت إلى شكل مغاير ضمن نموذج طاغ أكبر منها.
إن اللغة لتلعب لها دوراً عظيماً في هذا التبدل. فكل لفظة، مهما كان حجم تفردها، يجب فهمها على أنها جزء من شيء آخر، ولذلك من الجدير بالذكر أن الثورة التي ثارها (آرنو)* كانت بالتحديد ضد هذا النوع من الاتساق. وعلى الرغم من ذلك فإن نتيجة الفهم هي أن النموذج الكبير يروض الفعل المنفرد، وأن ترتيب اللغة يتجاوز الخصائص حتى خصائص النص المكتوب. فالصلة بين الشيء المفهوم وبين اللغة لصلة وثيقة جداً إلى الحد الذي جعل فرويد، مثلاً، يتخذ من الترتيب الكلامي ميداناً له لاستكشاف الشيء غير المفهوم. ولذلك فالكتابة تعني شيئاً أكثر مما يعنيه التحدث (أي أنها تلك الحالة التكميلية(15) كما نعتها ديريدا)، وذلك لأن ظهور الكتابة وحده يعطي التوكيدات عن الاتساق والمعنى اللذين يتنكر لهما تبعثر الحديث وتشتته هنا وهناك. فالكتابة يمكنها، كما اكتشف مالا رميه فيما بعد، أن تستغني حتى عن أي كاتب يوم قال: "إن العمل الفني المحض يعني ضمناً استتار الشاعر كمتحدث وإسلامه المبادهة بتلك الوسيلة للكلمات ولقوة تباينها المحشود"(16)، إن الكتاب المقدس، وهو المخزن الذي لما ينضب ولا يمكن أن ينضب للكتابة برمتها، يقف فوق الكتب الخاصة كلها.
وهيا بنا الآن نعود إلى ذلك السؤال الذي سألناه من قبل ألا وهو: ماهي وحدة الكتابة التي نستطيع أن ندرس فيها تفاعل التكرار والأصالة؟ فتلك الوحدة لم يعد بالإمكان أن تبقى مجرد عمل أو كاتب وحسب، باعتبار أن كلا من هذين العنصرين يطمح للكتابة-مع التسليم جدلاً بوجود منطلق نظري متكامل -خلف مثل هذه الحدود الوظيفية. ولكن بما أن الوقت ولا القدرة يتيحان للمرء دراسة الكتابة كلها، يصبح من الضرورة بمكان تحليل النية أو الرغبة المقصودة التي حيثما كان بالإمكان فك الرموز وتحويلها إلى لغة عادية، تنبثق عنها بالأصل مجموعة من الكتابة المحددة على وجه التخصيص. وإن مثال الكتابة المحدثة هنا يعطي درساً قاسياً، بيد أنه مقنع، للناقد النظري لكل العصور التاريخية الأخرى، وذلك لأن المرء ليس بوسعه أن يعلم الأدب أو يكتب عنه اليوم دون أن يكون متأثراً بطريقة ما بالوضع الأدبي المعاصر. وليس هنالك بحال من الأحوال أية سمة مترابطة منطقياً لوسم هذا الوضع مقدار ترابط سمة تذمره العميق من الوحدات والأجناس الأدبية والتوقعات من الأزمنة الماضية. ولذلك فمن العجب العجاب أن تكمن أصالة الأدب المعاصر، في خطوطها العريضة، في تجريد أسلافه من الأصالة أو من علو المقام.
وهكذا فأفضل طريقة لدراسة الأصالة لا تتمثل بالتفتيش عن أول شواهد لظاهرة ما، وإنما تتمثل على الأرجح في رؤية نسخة طبق الأصل عنها، أو نسخة موازية لها، أو محاكاة ساخرة لها. أونسخة مكرورة عنها، أو في رؤية أصدائها -أي النظر إليها بتلك الطريقةالتي حول فيها الأدب نفسه إلى موضوع أساسي للكتابة. إن الشيء الذي يدور حوله الخيال الحديث أو المعاصر أقله تقييد شيء ما في كتاب، في حين أن أكثره يدور حول إعتاق شيء ما من كتاب بواسطة الكتابة. وأما إنجاز هذا الاعتاق فيكون بطرق مختلفة عديدة: فجويس يعتقه "الأوديسة" في دبلن، وإليوت يحرر نتفاً من فيرجيل، وبترونيوس في مجموعة من العبارات المتهافتة. فالكاتب قلما يفكر بالكتابة الأصيلة، وأكثر مايفكر به هو تكرار الكتابة: فصورة الكتابة تتبدل من مخطوطةأصلية إلى نص مواز، من جرأة عشوائية إلى إنجاب مقصود (فيه الجناس الاستهلالي لدى هوبكينز يعني التماثل)، من اتساق الأصوات إلى لحن أساسي مكرور. وبما أن الكتاب ما عادوا يستهلون مكاناً جديداً، فهم يميلون لرؤية زمانهم كفترة انقطاع. فهذا هوفيليب سولرز يعبر عن ذلك على النحو التالي:"إن حياة كاتب ما إن هي إلا فترة انقطاع. فالعمل الذي يمارسه الكاتب، والذي يبدوعقيماً في الظاهر، علاوة على اللعبة التي يبدو عليه بأنه يلعبها كلاهما على علاقة بالمستقبل في حقيقة الامر، ذلك المستقبل الذي نعرفه جميعنا على أنه مكان كل العمل الذي يستخدم الرموز. فالأدب ينتمي إلى المستقبل، وليس المستقبل بتاتاً، كما قال مالارميه، "أكثر من الصدمة الناجمة عن الشيء الذي كان الواجب يقتضي فعله قبل فعل الأصل أو قربه".(17).
إن الكثير مما كنت أقوله عن تحول شكل المصطلحات التخييلية التي تمكننا الآن من فهم الأصالة تعبر عنه باختصار تلك العبارة النقدية الفرنسية التالية: "Le refns du commencement" "رفض البدأة، وبما أن إدراكنا الناتي لأنفسنا ككتاب قد تبدل من كوننا المبدئين المتوحدين (وهنا يخطر على البال هوبكينز مرة ثانية)، إلى كوننا عاملين في ميدان البدأة المتواصلة السابقة (أي السالفة على الدوام)، فإن من الممكن قراءة الكاتب بأنه ذلك الفرد الذي كان حافز تاريخياً أن يكتب دائماً في هذا العمل المعين أو ذاك لكي يحرز، كما أحرز مالا رميه، استقلالية الكتابة التي لا تعرف أية حدود. فالكتاب المقدس أسطورة الكتابة، وقلما كان حقيقتها البتة. إن التماثل المدعوم بالعديد من الصفحات والسنوات، كالتماثل القائم بين دبلن وآتيكا على سبيل المثال، يسوق الكاتب لا نحوكتاب آخر وإنما على الأرجح نحو "كتابة مطردة". والأكثر فتنة فما سبق هوحالة توماس مان في رواية "دكتور فاوست". فالأسلوب الفني الرائع لتلك الرواية، كما بيّنه العديدون من النقاد، يكمن في تركيب العناصر المتباينة (المونتاج)، والصدى. فكل من مان وشخصيته الرئيسية في الرواية يتقنان فن الاستبدال والتغلب والمحاكاة إلى أبد الآبدين.
إن أصالتهما تتجسد في ممارسة هذه اللعبة إلى أن يتوصلا إلى حالة من الفراغ -تقويض الحضارة والأخلاق الغربية، والنكوص بالأصالة إلى الصمت من خلال التكرار. فالحلف الذي أقامه أدريان لافركون مع الشيطان يعطيه هبة التميز الفني طيلة سنوات عديدة، بيد أنه منذ أقدم أيامه، ومنذ استهلال الرواية، يظهر عليه وعلى مان الفتون بالتماثلات والمحاكاة الساخرة، والسبب بذلك يعود حصراً إلى أن الطبيعة نفسها، حتى الطبيعة، تستنسخ نفسها بأعجب الطرق: فالشيء اللاعضوي يحكي العضوي، وشكل يستنسخ شكلاً آخر، وهكذا دواليك. وهكذا فإن بنية الرواية، ناهيك عن موضوعها الرئيسي، مصوغة من بدأة ورجعة الكتابة، إذ إن ثمة نصاً مبدئاً أصلياً (Cantus firmus) يتعرض للمحاكاة مراراً وتكراراً حتى يفقد، في خاتمة المطاف، سمو شأنه.
إن معالجة مان لهذا كله في رواية لها شبيه غريب بمقالة كتبها ليوسبيتزر. فمقالة "الدراسة العلمية للغة والتاريخ الأدبي"، ماهي إلا بعد إلقائها على شكل محاضرة للمرة الأولى في برينستون عام 1945، السيرة الذاتية المهنية لسبيتزر، أي وصفه لتطور نظريته الفيلولوجية وممارسته لها، إذ يروي فيها الافتتان الذي حل به منذ مجيئه إلى أمريكا بالجذر اللغوي وتطوره (إتيمولوجيا) لكلمتي "conudrunm" و "quandary". وإن سبيتزر ليكتشف، أثناء تتبعه تقلب البنية اللفظية لهاتين الكلمتين، أن البحث الإيتيمولوجي يبين الكيفية التي تجري فيها "عملية التحريض لمجرد تكتل من الأصوات". فهاتان الكلمتان تنبثقان من جذرين لاتينيين وفرنسيين عامين، ولذلك فإن مشتقاتهما تحتوي على "Calembuor"، (تورية) و"Carrefour" (تقاطع طرق)، و"quadrifurcus"، (كلمة لاتينية بمعنى تقاطع طرق)، و" calembourdaine"، التي تتحول في تطور ما إلى
conimbrum وconundrum و quonundrum ، وأخيراً إلى quandery، ولذلك فإنه يخلص إلى مايلي.
إن تقلب وتقطع أسرة الكلمة (Conundrum - quandary) يشكلان الدليل على الموقع الذي تحتله الكلمة في البيئة الجديدة.
ولكن التقلب الواضح في كلماتنا الإنكليزية كان سمة لكلمة calembredaine - calembour)، حتى في البيئة البيتية. فأسرة هذه الكلمة الفرنسية، كما أسلفنا القول، كان خليطاً من جذري كلمتين على الأقل، وهكذا يقضي الواجب أن نستنتج أن التقلب مرتبط أيضاً بالمضمون الدلالي: فكلمة تعني "التورية أو النزوة"، تسلك مسلك النزوات بمتهى البساطة - مثلها بذلك تماماً مثل الكلمات الدالة على "الفراشة"، في كل لغات العالم(18).
إن أي قارئ لرواية "دكتور فاوست" سوف يرى الآن للتو المقدار الكبير من الإيحاء الذي تحظى به الروية من مجمل هذا الخط من الاستدلال، لا لأن أدريان الراشد محاط في ميونيخ بزمرة مساخر من عائلته الأصلية في قيصر شخيرن ليس إلا، بل ولأن توقانه لفعل ماكان يفعله أبوه، أي "تأمل تلك المساخر"، يبقى على حاله أيضاً. وحوالي بداية الكتاب يصف زيتبلوم فراشة، بأنها "ذات عرى شفاف"، وذلك لأن مظهر وعادات هيتبرا إزميرالدا، التي تشبه مظهر وعادات فراشة النباتات، خداعة جداً.
لم يكن على جانحي هيتبرا إلا بقعة سوداء بنفسجية ووردية، وماكان بمقدور المرء أن يرى فيها أي شيء آخر سوى تلك البقعة، وحينما كانت تطير كانت تبدو كتويج تذروه الرياح. وبعدئذٍ كان هنالك فراشة النباتات التي كان فوق جانحيها خيط مثلث الألوان، في حين أنهما في سافلتيهما كانا يشبهان بدقة عجيبة ورقة النباتات، لا في الشكل والتعريق وحسب بل وفي الاستنساخ الدقيق لعيوب صغيرة كنقاط ماء زائفة وناميات صغيرة من ثآليل وفطور وما شابه ذلك. وحين كان ذلك المخلوق الفطن يحط رحاله بين أوراق النباتات ويطوي جناحيه، كان يختفي جراء التكيف تماماً حتى إن ألد أعدائه كان يعجز عن تمييزه.... لأن المرء لا يستطيع أن يعزو تلك الحيلة لنباهة الفراشة وحساباتها. أجل، أجل، إن الطبيعة تعرف ورقتها بمنتهى الدقة: إنها لا تعرف كمالها وحسب بل وتعرف ثغراتها وعيوبها العادية، وهي تكرر مأربة أوحفاوة مظهرها الخارجي في مضمار آخر، كما تفعل على سافلة هذه الفراشة، فراشتها، بغية تضليل الآخرين وإبعادهم عن مخلوقاتها..... فهذه الفراشة صانت نفسها، إذاً، كونها صارت متوارية عن الأنظار.(19).
إن هذه الأوصاف تنبئ بغواية أدريان من قبل المومس، بالشعار المستتر في موسيقاه، وبحلفه مع الشيطان، ألا وهي تلك الأمور التي تعزى عموماً إلى هيتيرا إزميرالدا، فدهاء الفراشة وظيفة من وظائف الطبيعة، كما أن فكرة فراشة متقلبة تردد أصداء طبيعة اللغة من خلال تأملات سبيتزر، وفي حالتي الفيلولوجي والروائي معاً، علاوة على ماقيل أعلاه، لا.
تعزى البتة عملية الاستنساخ والتكرار لأي شيء أكثر تشخيصاً من "الطبيعة"، وهكذا فبمقدورنا أن نقول أن الأصالة لا تكمن لا في اللغة ولا في العناصر باعتبار أنهما كليهما يجعلان من المستحيل عملياً قيام أية محاولة للتمييز فيما بين الأصيل وبين نسخته التقليدية، وماهذا الأمر إلا استنتاج على المستوى الأول، في حين أننا نلاحظ كقراء، على المستوى الآخر، التدخل الشخصي الذي يتدخله كل من سبيتزر كفيلولوجي ومان كروائي وأدريان كشخصية فاوستية. في أعمال وسط متقلب لكي يوضحوا فيه نظام التناسق البارع. وهكذا فإن ممارسة السلطة الفردية، يحوّل العناصر تحولاً كافياً لتوريط الفرد في مهمة تشغيلها: سبيتزر كفيلولوجي وأدريان كموسيقار شيطاني.
لقد تعمدت عن قصد تأجيل طرح السؤال التالي: هل كان مان تحت وطأة "تأثير" سبيتزر؟ وذاك التأجيل كان لأن مثل هذا السؤال يثير ولا بد مشكلة الأصالة، علماً أنني كنت بالفعل على مايبدو ألمح إلى أن الناقد أكثر أصالة، بمعنى ما، من الكاتب الأصلي. ولكن ذلك ليس بيت القصيد. فمساجلتي تتقصد إلقاء مسؤولية الأصالة على كل مهنة تعنى "بتشغيل" اللغة، وإن مان وسبيزر نفسيهما لا يقران، من وجهة نظري النظرية، بوجود أية أصالة قائمة بحد ذاتها "perse" لأن الطبيعة واللغة نظامان من أنظمة الاستنساخ ليس إلا. وانطلاقاً من المعقول فإن الأصالة، من الناحية الأخرى، هي تلك السمة المكتشفة في أي من الكاتبين نكتشفه أولاً وهي، علاوة على ذلك، في انطباعاتنا عن الجدة والقوة مغرقة في الذاتية إلى ذلك الحد الذي يحول بينها وبين أي تحليل مؤكد. ولكن جراء التحول من الكتابة الأصلية إلى الكتابة المثيلة يقوم تحول أخطر أيضاً في تصور الأصالة التي تصبح الآن سمة من نوع ما للعبة مركبة. وأما مسؤولية الكاتب فهي التحكم بهذه اللعبة التي تترك له أولها حرية الخيار تماماً فيما يتعلق بأمور من أمثال نقطة البدء والمركز الذي تتمحور عليه الكتابة وهكذا دواليك. ومع ذلك فمسؤوليات الكاتب هذه ليست بالأفكار المجردة أو الضمنية التي تتكدس فوق اللغة من لدن ناقد ما، ولكنها أفكار جوهرية مادياً للكتابة نفسها. وهنا أقصد أساساً الإحساس الفعلي بالبعد أو القرب من "الموضوع"، المنوط بالكتابة، والإحساس الذي تحسه الكتابة من أنها مادياً متساوية في الامتداد الزماني أو المكاني مع ما تقوله.
وتقليدياً كان العرف الزماني في الدراسة الأدبية استذكارياً. فنحن ننظر للكتابة أنها كانت محط الاستكمال قبل حين من الزمان. ولذلك فإن الناقد يعيد لنص من النصوص معناه الأصلي، أي ذلك المعنى الذي يحسب الخيال قد ضاع خلال الزمن أو التقنية. لابل وإننا الآن حتى أقل احتمالاً أن نهتم بتلك الدراسة التي تبين علاقة نص ما بالمرحلة المعاصرة إلا، كما أسلفت القول، لدواعي مجاراة الزي السائد وحسب، ولكن يالعمق المزيد من التحدي الذي تطرحه ثمة نظرية للدراسة التي نعتبر الكتابة ثمرة شيء يترعرع في صميم الكتابة: الأمر الذي كان من اكتشاف مالارميه. وهكذا فإن الهدف الأسمى للكتابة، ولربما الهدف النهائي، هو الوصول إلى ذلك الكتاب الذي يراه التطور كمنظومة كتب، أي نوعاً من أنواع المكتبات الناشطة التي يكمن مفعولها في التحريض على الإتيان بأشكال من الحرية الانضباطية التي تتحول تدريجياً كي تصبح أمراً واقعاً، فإذا كان للأصالة كتصور تلك القدرة على ضغط الزمن لأمد طويل جداً والرجوع به إلى سمو مفقود في أحسن الأحوال، وإلى طوباويات مستعادة في أسوأ الأحوال، لكان هذا سبباً وجيهاً لإعادة توجيه دراستنا منهجياً نحو المستقبل. وإن الانقلاب بالمنطلق إلى هذا الوضع البالغ التطرف له، كما قال فوكو وغيلز دي لوز، أثر تجريد الفكر من صبغته الأفلاطونية.(20)، إذا ما الشيء الذي يمكن أن يكون أكثر أفلاطونية من رؤية الأدب كمحاكاة (بالنظر شزراً إليه)، والخبرة كشيء أصيل، والتاريخ كخط مستقيم من منبعه حتى الزمن الراهن؟ وفي الوقت الذي ينكشف فيه هذا النوع من الاستقامة الخطية للاهوت الذي هي عليه في حقيقة الأمر، يصبح فيه بالإمكان قيام واقع دنيوي للكتابة. فالتعبير الذي ساقه فوكو عن ذلك الواقع هو نظام الخطاب "l’order du dudiocours" بيد أننا نستطيع أن نميز فيه أصالة الكتابة أصالة حقيقية ذات تركيب هائل، في وشائجها المعقدة مع العالم الاجتماعي، وهي تسير في اتجاه معاكس لاتجاه الطبيعة.
nnn





7 - الدروب المطروقة والمهجورة
في النقد المعاصر




لا يزال من صحيح القول أن المقتطفات الأدبية المختارة عن النظرية والنقد الأدبيين الحديثين، المجموعة استجابة لمطلب النصوص النظرية، تساعدنا في أن نخمن قيام مقدار واف وتشكيلة واسعة من العمل الجاري في هذه الأيام(1). ولكن على الرغم من أن هذه المقتطفات معينة في كونها مؤشراً عما يمكن اعتباره بأن الكتلة الرئيسة للنظرية الأدبية، إلا أنها غير مُعينة جداً في مساعدتنا على تقدير مدى التحسن أو السوء الذي بلغه النقد الأدبي على العموم.
فالأمر لا يقتصر على معرفة الشيء الذي يمكن مقارنته بالنقد الحديث أو المعاصر (فهل هو النقد الكلاسيكي؟ أو النقد التقليدي؟ أم هل هو مع النقد قبل جيل مضى؟ وما معنى الجيل في النقد، بالمناسبة؟) يكاد يكون من المستحيل أن تحمل القراء، أو نقاداً أقل احترافاً من غيرهم بكثير، على الاتفاق حول أغراض النقد أو حول جدواه. وأمر أكثر إشكالاً هو التمييز القائم في أغلب الأحيان بين النظرية النقدية وبين النقد العملي، أو بين نظرية شيء ما وبين توجيه النقد إليه أو عنه. وإن من المستغرب جداً أن يكون هنالك احتمال باكتفاء المحجاجين النقديين المتحذلقين بيافطات وطنية فجة (كفرنسي أو أوربي قبالة إنكليزي أو أمريكي)، في التعامل مع هذه التمييزات وفي السماح لها باحتلال مساحات واسعة جداً في مضمار التعصب الفكري. وأما فيما يتعلق بالأسماء فحدّث ولا حرج ففراي وليفيز يثيران مشاعر غير لائقة، في الوقت الذي قد يثير فيه ديريدا وليفيز مشاعر أكثر فظاظة حتى. إن النقد الجيد، بمعنى النقد المستحسن، من الممكن لذلك أن يقترن بالشأن الأخلاقي الأنغلو/ ساكسوني، بالتوكيد التقويمي بنوع معين من الاهتمام بالأداء الأسلوبي، وبتوكيد على القراءة الواقعية كشيء متناقض مع شيء مجرد (وأجنبي) من مثل فلسفة زائفة أو عمومية. ولئن وقفت على الطرف الآخر من هذا الشرك لوجدت نعوتا، كالإقليمي وغير النظري وغير المعضل وغير المدرك لذاته، تطلق سهامها على الخصم، وبعد كل هذا وذاك فبمقدور المرء أن يطوّح بكلمات من أمثال البنية ودلالة اللفظة والتأويل، وبتلك الكلمة التي تحتل أقصى ركن تقريباً في الجانب المضاد، ألا وهي كلمة التفكيك. وإن أي قارئ من قراء الصحف الأدبية يعرف مخزون كلا الجانبين معاً، وقد ينتابه السأم منهما كليهما أيضاً، وبمقدار ذلك السأم الذي يتعرض أو تتعرض إليه جراء أي انتقائي يحاول استخدام كل المفردات الانشقاقية ليصنع منها أطروحة مناقضة مبهمة. بيد أن بمقدور المرء أن يقول، على غرار مقولة مؤرخ انطباعي، أن هنالك أشياء تقال عما يدور في النقد المعاصر في هذه الأيام ألا وهي تلك الأشياء التي تمثل الزي السائد. فما هي، ترى، الافتراضات التي تعتمدها المقتطفات الأدبية حيال اهتمام قرائها بالنقد المعاصر في الوقت الذي تتظاهر فيه أنهم بالنقد المعاصر يفهمون "ذلك النقد الذي ليس بوسع المرء أن يتجاهله" أو ذلك "النقد الذي يظهر، جراء غرابته، بمظهر الزي السائد أو صاحب السلطان الفكري المحض لكي يجعل الناس يصدقون بأنه ممثل النوع المعاصر أوحتى طليعته ربما؟
إن سؤالاً من هذا النوع لا يتظاهر بأنه يجيب على بعض المعضلات الأساسية التي يواجهها النقد، لا ولن يتخطى أيضاً، منذ البدء، مستوى الممارسة المفيدة التي يستطيع المرء بها أن يرسم حدود الميدان النقدي بغية اقتراح تغييرات لصالحه أو ترميم بعض الثغرات فيه. ولئن كان لهذه المقتطفات أن تؤدي أية وظيفة حقيقية - بغض النظر عن كونها طرائق مريحة للقارئ لكي يتشبث بتلابيب بعض المقالات الشاردة -فهي أن تجعل المرء يظن بأنها تشكل توافق آراء النقاد في هذه الأيام، وأساساً في متناول اليد تفترض بأنه دقيق، ومنه تطلق عملها هي، وإليه تستجيب، وبناء عليه تحدد أنفسها، أي حلفاءها وخصومها، ففي قبول مثل هذا الاساس يفترض النقاد أيضاً اساساً لهذا الاساس وقد يقولون، دون مراوغة مفرطة، أن هذه المقتطفات وما تمثله تتقصد أن تكون مختلفة عن غيرها من المقتطفات وتوافقات الآراء السابقة، التي هي مختلفة بدورها عن سابقاتها أيضاً وهكذا دواليك. إن من الواضح أن التغيير النقدي أقل تعاقباً وفجائية من ذلك، ولكن هيا بنا نسلم جدلاً بوجود مسحة من التغيير تتضمنها هذه المقتطفات وتستغلها أيضاً.
فالنقد في أمريكا في هذه الآونة أكثر عالمية، بطريقة واضحة تماماً مما كان عليه منذ أول عقدين من عقود هذا القرن، إن مجموعة ماكسي دوناتو المعنونة بـ "الجدل البنائي"، تسجل بمنتهى التوثيق ذلك التدخل الفرنسي الدائب على مايبدو في الخطاب النقدي الأمريكي، مثلها مثل مؤتمر عام 1966 الذي اشتملت محاضر جلساته المنشورة على أول تجميع هام للنقاد الأجانب في الولايات المتحدة. فالتدخل الفرنسي أدى فضلاً عن ذلك إلى انفتاح الأبواب والنوافذ على بقية أوربا، أولا على الأقاليم والبلدان الرومانسية (كجينيف وإيطاليا علىوجه التخصيص)، ومن ثم على مناطق كألمانيا والاتحاد السوفياتي. إن هذه النزعة العالمية الجديدة أحيت بالفعل الاهتمام بالتوجهات القديمة أو الوطنية التي ماكانت معروفة من قبل إلا للاختصاصيين، كتوجهات س.س. بيرس.، كما أحيت الاهتمام بفيلولوجيين من أمثال أورباخ وكيرتيوس وسبيزر، وبالشكلين الروس أيضاً.
فثمة نتيجة هامة بالنسبة لمن كان يمارس النقد ويكتب بالإنكليزية، ولمن كان يهتم بالمسائل النظرية، كانت تآكل مركزية الدراسات الإنكليزية. إن المقالة الشهيرة لريتشارد بويرير في مجلة بوليتاركن "قضايا" المنشورة في عام 1970 أفصحت عن هواجس الناقد الناطق بالإنكليزية حيال الموقف الذي كان يعتمده النقاد، بدءاً بآرنولد وانتهاء بليفيز، والذي مفاده أن الواجب يقضي بالعثور على محورنا الأخلاقي مبسوطاً في الكلاسيكيات الإنكليزية(2)، فالمحكات تعرضت للتحول إلى فاعلية، كتلك التي دعاها "بارثيز"، بالفاعلية البنيوية والكتابة"(3)، أو إلى كينونة منعوتة بالأدب الحديث بعد أن خلع عليها التصور مقداراً أوفى من الاتساع. وما تلك العبارة الأخيرة إلا من عنديات ليونيل تريلينغ التي كانت، حين استخدمها لأول مرة في عام 1961، تردد أصداء الاحتجاج ضد آرنولد على وجه التخصيص. ولما كان آرنولد يرى أن الناقد الأمثل هو ذلك الناقد الذي يتحدث، مع العلم أن أرنولد نفسه كان الناقد الذي وضع عمله الدراسات الإنكليزية في قلب البرنامج الأدبي في الولايات المتحدة بكل تأكيد، عن نوع من الأدب الحديث الذي يشتمل على كل من ديدرو ومان وفرويد وجيد وكافكا، كان رأيه ذاك إعلاناً هاماً عن مقدار اتساع المدى العالمي والديالكتيكي الذي أضحى عليه النقد الناطق بالإنكليزية.(4).
لم يعد على أوثق ارتباط بالموضوع أن يكون الناقد النبيه الشاب قد تلقى دورات تعليمية في (المجمع الإنكليزي)، باللغة الفرنسية عن الكتاب الفرنسيين وحسب، لابل وصار عليه الآن أن يقضي ردحاً طويلاً من الزمن في قراءة بارثيز وديريدا وتودوروف وجينيت، وأن يستشهد بهم أيضاً. وعلاوة على ذلك ثمة مفردات جديدة -سمّها إن شئت فرنسية/إنكليزية،- طفقت تطرح مصطلحات من أمثال " bricolage و décodage, decoupage"،([3]) بشيء من الثقة أن فهمها سيكون بمقدور أي إنسان. وحفنة من المحظوظين كانت سوف تستشهد تطرّبا بكل من زوندي وبينيامين وأدورنو ومايرو إنزينبيرغ وباختين وإيكو ولوتمان، وبالطبع بجاكبسون الكلي الوجود، وهكذا لم يعد موضع الاعتراض أن تعتمد مقتطفات من النظرية الأدبية ذلك الاعتماد الكبير علىالعمل العالمي كشيء مناقض للعمل المحلي على وجه الحصر. فبالتحول الذي تحوله (النقد الجديد)، مما كان يبدو تزمتاً ضيقاً في أفق التفكير إلى الانغماس الذي انغمسه أحياناً هذا (النقد الجديد) في النزعة العالمية، كان التكامل المعزول للدراسات الإنكليزية- ككتلة من النصوص، كموروث، كموضوع، كنبرة صوت، كفرع دراسي محكم جيد التحديد - هو الذي عانى الأمريين في هذا التحول.
إن بمقدور المرء أن يدعو هذه الخسارة بأنها خسارة للموضوعية، أي بمعنى الحالة الموضوعية، فأفكار عن الحدود والتخوم، وبصحبتها أفكار عن كل مايتعلق بالوطن من أدب وجنس أدبي وعصر ونص بأم عينه وكاتب، يبدو أنها وهنت فالسهولة التي كان بوسع المرء أن يؤكد فيها أن الحركة الرومانسية هي كذا وكذا، أو أن الموروث هو ثمة أعمال معينة مرتبة وفق ترتيب معين، جرى استبدالها إما بنظرية أوبأمثلة تطبيقية عن المقاصد النصية.إن نظرية بارثيز النقدية، بتوكيداتها على الكتابة “écriture” وعلى التخفيف من غلواء كاتب ما (كما في حديث بارثيز عن راسين)، وعلىنص كلي النفوذ (كما جاء في([4]) Z/S) وعلى نص مثير كما في " “Le plaisir du ****e” ، (متعة النص)، تصور بدقة معقولة ذلك التحول الذي تم في نوع من أنواع النزوع التاريخي المصبوغ بصبغة موضوعية والمتمركز على الدراسات الإنكليزية أو الفرنسية كمحور له، إلى نوع من أنواع الأدوات النقدية العالمية التي تأتيها الأهمية من فاعليتها لا من، بحال من الأحوال، المادة الأدبية التي قد تعززها وقد لاتعززها. ومن العجب العجاب أن قيداً معيناً قد فعل فعله على جامعي المقتطفات الذين جاؤوا بمقتطفاتهم من بارثيز وتودوروف وأغفلوا، في الوقت نفسه، من بين أكثر النحاة أصالة كلا من كريستيفا وسوليرز وجان بيير فاي، وآخرين من عصبة مجلة “Tel Quel”([5]) التي عمدت لاحقاً بالطبع للتنكر لماضيها اليساري وآلت إلى تذكرة مزعجة عن ذلك التقلب الكبير الذي تتقلبه الأنماط الفكرية.
فمن ناحية أولى كان يبدو أن المفردات النقدية العالمية لم تكن تتقصد النصوص أو الموروثات وإنما تتقصد حالة من الوجود قد يحق لنا أن ندعوها بالنصية، ومن الناحية الأخرى تبرز ثمة معتقدات بديلة أخرى لتحل محل الأفكار القديمة عن الكاتب أو العصر أو العمل أو الجنس الأدبي. وكما هو عليه الحال دائماً مع النقد، تظهر الأهمية فجأة على بعض الكتاب القدماء. فكروا في دانتي أو دون “Donne” و "النقاد الجدد"، وفكروا في هولدرلين فيما يتعلق بها ييداغر، وفكروا في روسو وآرتود وباتيل وسوشور وفرويد ونيتشه بالنسبة لأواخر النقاد، "الجدد"، إن هؤلاء الكتاب يحظون بشرف معاملة المبادئ التي ليس على النصوص كنصوص أن تتخطاها ولا حاجة بها لذلك. فالعودة إليهم تعني، كما عاد لاكان إلى فرويد، توطيد أركانهم كقديسين مصونة لهم مشروعيتهم بالولاء الصادق. وأما النتيجة المشؤومة بالنسبة للنقاد الموالين فهي أنهم، حتى لو لم يستعملوا صورة آرنولد ذات التحجر المهيب كمرادف لقيمة سامية، ليسوا أقل عرضة لسلطة متأتية من أعمال وكتاب مبجلين. ولكن الجدير بالملاحظة يكمن في ذلك الاختزال النقدي الجديد الذي يبعث على الجنون، إذ بدلاً من مناقشة نقطة ما تميل الأمور على الأغلب إلى الأسناد الباهت لنيتشه أو فرويد أوآرتود أو بينيامين -وكأن الاسم وحده يحمل قيمة كافية لإبطال أي اعتراض أو لتسوية أي نزاع. ففي معظم الأحيان لا يحمل الاستشهاد معه أي تمييز كالقول أن المقطع الفلاني في العمل الفلاني أفضل من غيره من المقاطع أو أكثر إفادة منها، لا بل والواقع أقل من هذا في بعض الأمثلة الهزلية الواردة عفو الخاطر، إذ ما من حاجة تدعو لذلك لأن الاسم والإسناد كافيان. بحد ذاتهما.
إن الشرعة الجديدة تعني أيضاً ماضياً جديداً، أو تاريخاً جديداً كما تعني، لمزيد من سوء الحظ، ضيق أفق جديد. فأي قارئ للنقد الفرنسي الحديث سوف يعتريه الذهول حين يتيقن أن كانيث بيرك، الذي تناول إنتاجه الضخم أول ما تناول بحث العديد من المسائل والمناهج التي ينهمك بها الفرنسيون الآن. إنسان مغمور(5)، فهل هذا الشيء نتيجة الجهل أو الاستخفاف أو الحذف المقصود إيديولوجياً؟ ومثال آخر، وهو المثال الذي يجب عدم تحميل الأوربيين ملامته طبعاً، هو موقف التبيّع الذي يتبع به النقاد الأمريكيون أقرانهم الأوربيين. ولكن الشيء الذي يبدو هذراً على وجه التخصيص هو تلك الطريقة التي يتحذلق بها أحد النقاد أو ينتقد عمل ناقد جليل كبارثيز أوديريدا وقلما تنطبق على المعايير التي حتى لا تقرها أصلاً. وعلى نفس الشاكلة هنالك اتجاه واضح لتفادي البحث التاريخي باعتباره، من حيث الجوهر، أقل أهمية من التأمل النظري. فمقالات ديريدا عن روسو وكوندياك، إن اكتفينا بمثلين بارزين، فرّخت سلسلة كاملة من التقليدات التي كانت كلها هزيلة تاريخياً ونصياً هزال مقالات ديريدا(6).
فماذا، ترى، عن الخطاب النقدي السائد نفسه، أو، بمزيد من الدقة، ماذا يفعل الخطاب النقدي؟ وهنا سوف أتحدث عن ذلك المعتقد البديهي"، “apriori” السامي الذي يبدو بأنه يوجه اهتمام النقاد إلى جانب هام واحد من جوانب الخبرة الأدبية: ألا وهو الجانب الوظيفي، ففي معظم ضمائم المقتطفات، وفي الأساليب النقدية السائدة، التي تمثلها هذه المقتطفات، نجد أن الناقد يتحدث عما يفعله نص ما، وعن كيفية عمله، وعن كيفية انضمام بعضه لبعض ليفعل أشياء معينة، وعن كيفية كون النص منظومة متكاملة ومتوازنة ككل، إن هذا النوع الخاص من النزوع الوظيفي كان له أثر مفيد بنفس المقدار الذي قد يبدو فيه بأنه فكرة مهزولة عن الأدب، وذلك لأنه تخلى عن تلك البينات البلاغية الفارغة التي لا تفعل أكثر من الإعلان عن عظمة عمل ما وعن قيمته الإنسانية وما شابه ذلك، مع العلم أنه أتاح للنقاد، من جانب آخر، أن يتحدثوا حديثاً جاداًوتقنياً ودقيقاً عن النص. فالنقد الذي كان يمارسه الأكاديميون أو الصحافيون أو الهواة، كان في العادة موضع الاعتبار بأنه فرع من الأدب المحض “belles - letters”، ناهيك عن أن عمل الناقد كان، حتى ورود "النقد الجديد"، الإنكليزي والأمريكي، إطراء عمل ما أمام القراء العاديين وأمام النقاد الآخرين سواء بسواء، وأما النقد الوظيفي فإنه يعمل انفصالاً حاداً جداً بين جماعة النقاد والرأي العام، وذلك بالاستناد إلى الفرض القائل أن كتابة عمل أدبي والكتابة عن عمل أدبي ما هما إلا وظيفتان اختصاصيتان بلا أي مرادف أو موجب بسيط لهما في الخبرة البشرية اليومية. ولذلك يجب على المفردات النقدية أن تؤكد على المميزات المناهضة للميزات الطبيعية وحتى البشرية التي يتميز بها السلوك الكلامي في اللغة المكتوبة. وبما أن الفرضيات التطورية تبدو مشوهة على وجه التخصيص بمقدار ما يتعلق الأمر بالأدب - إذ لا يمكن تقليص الكتابة بتلك البساطة إلىماض طبيعي أو إلى حافز طبيعي أو إلى لحظة سابقة تجريبياً - فإن النقاد سيهجرون دربهم للتفتيش عن لغة تقنيية ليس لها استخدام ممكن آخر سوى وصف وظائف النص.
وثمة قرار سابق لهذا القرار القاضي باستخدام مفردات تقنية محض موجود في النقد الذي جاء به إ.أ. ريتشاردز الذي لم يستخدم بالطبع مصطلحات لغوية علمية، علماً أن ما يميزه، وإمبسون أيضاً، عن (النقاد الجدد)، الأمريكيين كان بحثه عن الدقة النقدية دون أية مداهنات لهيبة الأدب أوهيبة الخبرة اليومية. فالدقةفي التعامل مع الأدب تتأتى بالنسبة إليه من استخدام الكلمات، والكلمات لا يمكن أن تكون دقيقة، إلا من خلال علم الكلمات إثر تنقيتها من التزييف أو العواطف أو الشوائب. وإن الشيء الذي عزله عن أقرانه كان اهتمامه اللاحق بالإنكليزية الأساسية “Basic English” ، فضلاً عن استعاراته المتواصلة من اللغة العادية أو من الفلسفة النفعية والسيكولوجيا السلوكية والتجريبية. والصحيح الإضافي عن عمله صحيح أيضاً عن النقاد الذين أنا بصدد بحثهم الآن: فإغراءات المفردات النقدية التقنية المحض تفضي إلى سقطات مؤقتة في نوع من أنواع التزمت العلمي. وفي أمثال هذه اللحظات تصبح القراءة والكتابة مثلين من أمثلة الإنتاج المنظم والمصنف منهجياً، وكأن العوامل البشرية المعينة لا تمت بصلة لهذا الأمر. فكلما ضاقت النواة اللغوية (ولنقل مثلاً في نقد غريماس أو لوتمان)، زادت منهجية المدخل وزيادات علمية المذهب الوظيفي.
ففي معظم الأحيان تعود التعريفات بالقارئ إلى المنهج باعتبار أن أحد مقاصد المذهب الوظيفي هو تكميل أداة التحليل مقدار تكميل أي فهم لأشغال النص. وهكذا ففي الوقت الذي يتوفر فيه الذوق السليم لناقد نبيه كبارثيز لمعرفة الفرق النوعي بين إيان فلامينغ وبلزاك، يكون ما يقوله عملياً أن الأخير يشتغل على نحو أفضل من الأول (أي أن الأخير أكثر استجابة لقراءة بارثيز قراءة دلالية([6]) صرفة). فهذا القول يشبه تقريباً القول بأنك تستطيع كتابة قصة إن كنت تعرف قواعد التأليف، الأمر الذي لا يكفل بمنتهى الوضوح مثل هذه النتيجة، ولكن التعرض الدائم لمخاطر محاباة الوظيفة، يتمثل لأغراض عملية، في إعطاء القارئ إحساساً مرضياً ثابتاً منتظماً بالرهبة من الأماكن المغلقة. وبما أن العلاقة بين العمل والناقد علاقة ذاتية الأحكام وذاتية التأبيد. وبما أن الطابع المخصص الذي يطبع تلك العلاقة طابع مقصور عليها ونظامية، فإن القارئ لا يمكنه أن يتوقع إلا الحصول على معرفة من النوع المؤكد والمغلق سلفا جراء التعريفات الأولية. فأنت تختبر النص وهو يدفع الناقد للعمل، والناقد يبيّن النص إبان عمل النص: إن محصلة هذه التقاطعات ماهي بمنتهى البساطة إلا أنها حدثت. وهكذا فإن البراعة النقدية مقصورة جداً على تغيير تناسق كلمات العمل وتحويلها إلى مثل عن المنهج.
إن معظم عظماء النقاد منهجيون، الأمر الذي قد لا يعنى إلاأنهم قادرون على توضيح وعقلنة معرفتهم المبدئية بالأدب، بيد أنه يعني في الوقت نفسه أنهم غير خائفين من جعل مناهجهم وكتابتهم مشوقة بحد ذاتها ومتناسقة فكرياً، أكثر بكثير من عمل أو مناسبة ما. ولكن أمثال هذه التحديات نادرة بالنسبة للنقاد الأقل شأناً. فهم يستخدمون العمل كي يجعلوه يعمل، وهو الشيء الذي يقوم به كما أن منهجهم يبين فاعلية العمل، وهيي الشيء الذيي يحتازه على الدوام على الدوام، وهكذا دواليك دون إي إحساس بالقوى المتضاربة التي تشكل أساس المنهج أو بمكمنها الجوهري في الحياة الفكرية.
إن الميزة العظيمة لكتاب ديريدا المعنون بـ "البنية والإشارة والتلاعب بالألفاظ في خطاب العلوم الإنسانية"، هي تبيانه المنهج وهو يدور حول نفسه في نفس تلك اللحظة التي يحقق فيها أعظم انتصاراته، لإحراز سلاسة أكثر جدة وأكثر تميزاً أيضاً. ويردف ديريدا قائلاً أن "خطر العقم والتعقيم كان دائماً ثمن السلاسة(7)، ويلمح بشجاعة مناسبة إلى أنه على استعداد لدفع الثمن طواعية. ولكن ليست هذه المقولات إلا مقولات متميزة جيء بها بعد التيقن التام من أن منظومة المناهج المعاصرة تخطر على البال في لحظة معينة من لحظات الوعي الذاتي البشري، ولا تجيء عشوائياً جراء التفكير، بمنهج ما ومن ثم استخدامه حسب مشيئة المرء. إن مقالات من أمثال مقالات ديريدا يمكن العثور عليها بين الحين والحين في المقتطفات الأدبية، وأما قيمتها فتكمن في توضيحها الإحساس بقوى المنهج المتضاربة وجذورها الراسخة في صلب النشاط الفكري، الأمر الذي يحسّن بعدئذٍ إدراكنا أن الخطاب النقدي المعاصر معارض في مواقفه لكل ماهو سلالي - سواء أكان ذلك يتعلق بالعمل أو بالناقد أو بالمعرفة أو بالواقع. فما أن آل النقد المعاصر إلى اليتم، جراء المقالات النقدية المتطرفة لكل من فرويد وسوشور ونيتشه، بخصوص الجذور والموروثات والمعرفة نفسها، حتى نال استقلاله المنهجي باحتلاله موقعاً فعالاً في هذا العالم. إن النقد المعاصر لا يؤمن بالتواصلات التقليدية الموروثة (كالأمة والأسرة والسيرة والعصر)، بل ويرتجل نظاماً، بأفعال تأتي كيفما اتفق من وحي عفو الخاطر “bricolage” ، في أغلب الأحيان، من صميم انقطاع نهائي. فثقافته ثقافة نفي الغياب ومعارضة التمثيل، وثقافة جهل (كما كان يعبر عنها بلا كمور مراراً وتكراراً).
ولكن الجهل المكتسب أو الموهوب ليس بشيء وضيع. فكل أكابر النقاد الذين يكتبون في هذه الآونة يجعلون من أنفسهم أدوات نقدية ومنذ الوهلة الأولى، وذلك لأن جهلهم الافتراضي يجعل من الممكن العثور على حقائق هامة عن دراسة الأدب، وعلى مناهج هامة لتلك الدراسة. هيا وتأملوا كوكبة من النقاد فيها كل من أورباخ وسبيتزر وبلا كمور وبارثيز وجينيت، ممن حياتهم المسلكية تغطي قرناً من الزمان تقريباً، على الرغم من وجود مقدار كبير من التشابك فيما بين بعضهم بعضاً، فهم كلهم موجودون ضمن إطار المقتطفات الأساسية. وإن كلاً منهم، بادئ ذي بدء، ذلك القارئ الذي تعلّمه لصالح النص والذي منهجه من النص، علاوة على أن الاختلافات فيما بينهم واسعة جداً نظراً للطريقة التي يسوس بها كل منهم جهله.
ومع ذلك فما من واحد منهم يهتم ذلك الاهتمام الكبير بالفروق الدقيقة بين النظرية السقيمة والتطبيق أو بين النقد الأدبي وبين الفيلولوجيا والفلسفة وعلم اللغة والسيكولوجيا والسوسيولوجيا. فمنهجهم العام، والحالة على ماهي عليه، منهج توحيدي لأنه يحول الشيء الذي يبدو مادة دخيلة، أو الشيء الذي يبدو في بعض الحالات مادة وهمية وتافهة، إلى أبعاد على صلة وثيقة بالنص.
وإن بعض هذه العناصر تبدو غريبة على المألوف إلى حد الابتذال، لا بل وإنها لتبدو على هذه الشاكلة على نحو متعمد. ولكنني أظن أن تعمد هذه الغرابة ماهو إلا خطة أساسية من خطط الخطاب النقدي المعاصر، بما في ذلك خطاب نورثروب فراي. فالنصوص، بالنسبة للناقد، نصوص لا كرموز لشيء آخر بل كزحزحات لأشياء أخرى (ومفردات فراي مفيدة هنا)، إذ أن النصوص انحرافات عن الوجود البشري ومبالغات عنه ونافيات له، فضلاً عن أنها في بعض الأحيان ظواهر للمبالغة والتمزيق. إن الأسلوب لايمثل الكاتب، شأنه بذلك شأن القول أن سبر الكتّاب هي الكتاب. فحقائق الأسلوب، بدلاً من ذلك، توجد جنباً إلى جنب في علاقة تقرب من النص الذي يشكل بحد ذاته قسطاً من بنية تقرب تتغذها العناصر الغريبة على المألوف. فهذا كله لا يعدو أن يكون النتيجة المعروفة جداً للموقع المهزول الذي تحتله الذاتية بالقياس إلى النص. وما أن تلاشى الإيمان الشائع بأن معطيات "تين"، (العرْق واللحظة والبيئة)، هي مايرهق ويكبل الكاتب كمنتج لنصه حتى صار ناقد كجورجز باوليت يتقبل قبل أي شيء آخر، علماً أنه ذلك المدافع الصنديد عن الوعي الإبداعي الخصب، شذوذ الذات عن المألوف وعرضيتها وتزعزعها، أمي تقلبها وخواءها أمام النص. "فالقراءة إذاً هي ذلك الفعل الذي يتعرض فيه للتحوير المبدأ الذاتي الذي أدعوه بالأنا، بتلك الطريقة التي لا يعود لي فيها الحق بأن أعتبره حصراً ذاتي أنا"(8)،
إن مايجعل هذه المقولات فعالة منهجياً، كشيء مناقض لكونها بينات عن التعاطف الجياش بين الناقد والنص، هو أن الهوية الصحيحة للناقد، أي نقطة انطلاق العمل، ليست بالذات التجريبية (نفس الذات التي تأكل وتتسوق وتتنفس وتموت)، وليست بالقناع الرسمي.
فالهوية النقدية، أي المنهج الموثوق والمأذون للناقد في تعامله مع النصوص، مبنية على قاعدة لغوية ومصبوغة بصبغة المؤسسة على الأرجح، لا على قاعدة سيكولوجية أو اجتماعية أو تاريخية.وهذامايعني بالنتيجة أن النظرة إلى اللغة هي أنها جماعة مؤلفة من مستخدمي اللغة، لا مجرد أداة شاقولية للتواصل. وإن مثل هذه الجماعة على تشابك ذاتي فيما بينها طبعاً، ولكن لها قوانينها التي تعطيها النظام والترابط المنطقي والوضوح. فالمنهج النقدي -لدى أورباخ أو سبيتزر أو بلاكمور أو بارثيز أو باوليت -شيء فعال لأن أي مظهر، من مظاهر اللغة له دلالته، مع العلم أن الإتيان بالدلالة هو تحديداً المقدرة الأساسية للغة. وإن مايهم الناقد هو الكيفية التي تدل بها اللغة، والشيء الذي تدل عليه، والشكل الذي تعتمده لذلك.
ولسرعان ماتنفتح على مصاريعها أبواب نطاق واسع من الاحتمالات. فهل هذه الدلالة اللغوية مقصودة، وهل كلها متكافئة بعضها مع بعض، وهل هذه الدلالة متعمدة تاريخياً أو سوسيولوجيا أكثر من تلك، وكيف تؤثر واحدتها بالأخرى؟ - إن جدول الخيارات أمام الاهتمام النقدي يمكن توسيعه حتى يشتمل على أي عمل نقدي. وبما أن النقاد من المفروض بهم أن يكونوا قراء أذكياء قبل أي شيء آخر، فإن دورهم بعد ذلك ينحصر في الدور الفعال والديالكتيكي ولاشيء سواه. فعملهم -أي وجودهم، دورهم - هو الذي يحدد الدلالة كموضوع للدراسة والتحليل. وهكذا فإن تاريخ النقد الأدبي هو، كما تسهب في تبيانه مقتطفات ها زارد آدامز، تاريخ الوساطات النقدية، مما يعني، بطريقة أخرى، قولك أنه تاريخ حصول النقاد على الهوية من جراء إضفاء الدلالة على بعض الموضوعات اللغوية لمصلحة الناقد أولاً، ومن ثم لمصلحة غيره من النقاد والقراء الآخرين(9)، فالهوية النقدية هي الأحبولة التصويرية لبعض الأشياء المعينة والمحددة شكلاً في اللغة. إن دراسة تاريخ النقد ماهي في الواقع إلا فهم تاريخ الأدب من زاوية نقدية. فتاريخ كهذا عليه أن يعثر، وليس بشكل أقل مما وصف به فرانسوا جاكوب تاريخ البيولوجيا، "على الكيفية التي استلمت فيها بعض الموضوعات للتحليل، وبذلك صار من الممكن لميادين بحوث جديدة أن تحظى رسمياً بنعت العلوم".(10).
***
ولكن الموقف الوظيفي في الخطاب النقدي يتسم بقيود مؤسفة.فأي موقف وظيفي يبالغ في كثرة اهتمامه بالعمليات الشكلية للنص، في الوقت الذي يبالغ فيه بقلة اهتمامه بمادية النص. وبكلمات أخرى فإن النطاق المفروض بعمليات النص أن تكون عليه يميل إلى أن يكون إما داخلياً برمته أو بلاغياً بأسره، حيث لا يتعدى دور الناقد فيه دور الإنسان الأوحد المتلقي.
فالنص، من الناحية الأولى، موضع التخيل بأنه يعمل منفرداً ضمن نفسه، أي متمتعاً بامتياز حيازته مبدأ التلاحم الذاتي أو إن لم يكن على شكل امتياز فباحتيازه له كمبدأ بديهي خبط عشواء وعلى ارتباط به، في حين أن النص، من الناحية الأخرى، موضع الاعتبار بأنه بحد ذاته سبب كاف للإتيان ببعض التأثيرات المحددة على أي قارئ مثالي. ولكن النص في كلتا هاتين الحالتين لا يبقى كما كان عليه من قبل بل يتعرض للمسخ والتحول إلى ما دعاه ستانلي فيش بالشيء الاصطناعي الذي يستنفد نفسه بنفسه. ولربما تكون النتيجة على غير توقع أن النص يصبح مصبوغاً بصبغة المثالية، أو الجوهرية، بدلاً من بقائه موضوعاً ثقافياً من نوع خاص كما هي عليه حقيقته في واقع الأمر، وله سببيته ودوامه وصموده وحضوره الاجتماعي، أي كل تلك الأمور التي تشكل حقاً من حقوقه الخاصة.
إن بعض المحذوفات المهمة من المقتطفات تدل على سطوة هذا الانحياز المثالي واللامادي. فميشيل فوكو قلما يوجد في تلك المقتطفات، على الرغم من أنه أحرز مرتبة التقديس في وقت أحدث عهداً وبكل جدارة. كما أن أورباخ وسبيتزر -اللذين يعني بحثهما الفيلولوجي أساساً لا بالقراءة بل بوصف أنماط ديمومة النص -ضحيتا سوء التمثيل المطلق إلى الحد الذي يجعل القراء ذوي التثقيف الهزيل يفترضون (إن لم يقرؤوا المقالتين أو الثلاث عن سبيتزر وأورباخ)، بأنهما كانا على الأرجح نسختين عتيقتين عن بروكس أووارين. وأما لوكاش فيبرزكمحجاج غليظ في دفاعه عن الواقعية لأن أقرانه في المقتطفات يطنبون بإطراء التفرد الفني وبقيمة الصقل الجمالي. فالمختارات من عمله هي نفسها وعلى نسق واحد في كل المقتطفات النقدية، وبالنتيجة فهي مملة وعلى نسق واحد أيضاً كونها مختارة بمنتهى البساطة للإتيان بالملل والبرهنة على ماركسيته(11). وإن تلك المقتطفات، حتى وهي تبذل الجهد الجهيد لإعطاء فكرة ما عن مدى براعة الوظيفيين في الأسلوب كوسيلة أساسية من وسائل فعالية النص. لا تقتبس شيئاً من أعمال ميشيل ريفاتير أوم.أ.ك.هاليدي، أو غيرهما من كبار الأسلوبيين. وعلاوة على ذلك فإن مثل هذا النقد التاريخي المحرّف الذي تطرحه المقتطفات لا يمكنه أن يتماثل في انفصاله عن التاريخ الثقافي السوسيولوجي مع كتابة تاريخ الأفكار على نحو مباشر، والذي يملأ صحائف الصحف المتبحرة به، فهذا الاستخفاف بالتاريخ يفسد المادة المقتبسة نفسها في الوقت الذي لا يمت فيه التاريخ بأية صلة لصلب الموضوع. إن مقتطفات "غراس" عن "النظرية الأدبية الأوربية"، الحديثة، تتحلى بتصوير رائع بدون إنغاردن، أو بدون سارتر كاتب "ماهو الأدب؟"، و"نقد العقل الديالكتيكي"، أو بدون هايدغر كاتب "الوجود والزمن".
إن هذه التشويهات تنجم جزئياً عن فوضى خاصة تضرب أطنابها في النقد الحديث نفسه. فالنقد، كفرع من فروع المعرفة، لم يعر من الاهتمام إلا أقله لتاريخه كفرع من فروع المعرفة أيضاً. وإن إحدى سمات النقد الحديث تتمثل بالرغبة في كتابة النقد عن النقاد الآخرين. بيد أن من النادر نسبياً أن نجد نقاداً ممن يتولون العناية بالتواريخ النقدية حول النقد نفسه. فمن صحيح القول أن هنالك جهوداً موسوعية كجهود رينيه ويليك، ولكن يجب أن نسأل عن السبب الذي يجعل التاريخ النقدي يفضل دائماً التاريخ النقدي الموسوعي (من كتيب ومرجع ومقتطفات)، وقلما يعني بنقد التاريخ النقدي، وخير دليل على ذلك يتجسد بمثلين حديثين ممتازين هما: كتاب فرانك نتريشيا بعنوان "في إثر النقد الجديد"، وكتاب جيوفري هارتمان بعنوان: "النقد في مهب الريح"، إذ يشذان عن القاعدة ويبرهنان على ذلك التفضيل العام. فمثل هذا التاريخ سيفضي ولاشك إلى إمعان النظر في الضغوط الاجتماعية والسياسية التي تنيخ على النقد، مع العلم بأنه سوف يستدعي الاهتمام بالسؤال الذي يدور عن الوقت الذي يكون فيه النقد فرعاً من فروع المعرفة وعن الوقت الذي لا يكون فيه كذلك. وقصارى القول فإن الاهتمام النقدي بالنقد باعتباره ظاهرة فكرية في إطار تاريخي واجتماعي يتعرض للمقاومة بتلك الطرق التي تتماثل تماماً مع الطرق التي أدرجتها في لائحة عن المواقف الوظيفية. فالنظرة إلى النقد هي أنه الشيء الذي يفعله النقاد، بصرف النظر عن ظروفهم الدنيوية أو الأرشيفية. إن الإتيان بالنقد معناه فعلك ماكان موضع الفعل على الدوام، ودون التحدث عن أي تغيير أوماض.
وأما بالنسبة لجامع المقتطفات فإن اختيار هذا أواستبعاد ذاك، فأمر يمليه على الأغلب مجرد استغلاق إدراك احتمال الاختيار عليه، وذلك لأن فهم المقتبسات شيء أصعب حتى من فهم كتاب كامل، إذ إن الترزيم أكثر صلة بذلك التجميع من الدقة التاريخية لابل ومن الدقة الجمالية أيضاً. بيد أن الحالة ليست دائماً على تلك الشاكلة. إن ما نكتشفه، حينئذٍ، هو ذلك التفادي المقصود المتعمد للنقد الذي يتمركز حول النص كشيء مغاير للمناسبة النقدية، أي كشيء أكبر تاريخياً ومادياً من تلك المناسبة. ففي هذه الحالة أقصد بالمادية تلك الطرائق التي يكون فيها النص. مثلاً معْلماً، موضوعياً ثقافياً نجدّ في طلبه، نحارب من أجله، نتملكه أو ننبذه أو نناله في زمن معين. وعلاوة على ذلك فمادية النص تتضمن أيضاً مدى سلطانه. فلماذا ثمة نص يتحلى بالرواج في وقت من الأوقات، وبالعودة إلى الذهن في أوقات أخرى، وبالانطواء في مجاهل النسيان في وقت ثالث؟ (12)، إن صيت الكاتب “fama”، أي شهرته ومنزلته، ليس شيئاً مستديماً بحال من الأحوال، وللسبب السابق نفسه. فهل تعليل هذا التحول، أو هذا التقلب على الأقل، ضمن عمل الناقد؟ إنه ضمن عمله على ما أعتقد. وصار الآن ضرورة أكثر إلحاحاً ولاسيما بعد أن عمد فوكو إلى توسيع وصقل إمكانات تمحيص المبادئ تاريخياً وعلمياً إلى هذا المستوى الرفيع.
إن منهج فوكو يقضي بدراسة النص كجزء من أرشيف يتألف من أحاديث تتألف بدورها من مقولات. وباختصار فإن فوكو يتعامل مع النصوص كجزء من منظومة انتشار ثقافي -منظومة ذات انضباط صارم وذات تنظيم محكم، واختراقها عسير. ويحاول فوكو أن يبرهن على أن كل ماهو مطروح في ميدان كالخطاب الأدبي أو الخطاب الطبي لا يمكن إيراده بالشكل الذي يرد فيه إلا بأعظم الطرق اصطفاء وبقليل من الاهتمام بالعبقرية الفردية(13)، وأما أنا فقد سقت الحجج للبراهين على أن أشياء مماثلة تحدث حين تدور البحوث عن ثقافات وشعوب أخرى. ولذلك فكل مقولة إن هي إلا جهد مادي يستهدف تجسيد حيز معين من الواقع بمقدار من الاصطفاء قدرالمستطاع. ولكن هنالك طرائق أخرى للتعامل مع مادية النصوص، وهذه الطرائق ليست بالأقل نقصاً من جراء انعدام توافق الآراء عليها. فنقيض التجسيد كما بحثه فوكو، وهو لا يقل مادية عن التجسيد، يكمن في النفوذ الأدبي بالشكل الذي عمل على تنظيره حديثاً وج.بيت أولاً ومن ثم هارولد بلوم على نحو أكثر تحبيكاً.(4). إن البيئة هنا تشكل أيضاً قسط من الماهية باعتبار أن افتراضهما مفاده أن كل كاتب، ولاسيما الكاتب الرومانسي بعد عصر ميلتون، يدرك مادياً تقريباً أن أسلافه يحتلون ذلك الميدان الشعري الذي يتمنى أن يملأه بشعره الآن، فالتصارع بين النصوص بالنسبة للشاعر ليس، كما يقول بلوم، نزهة استجمام ممتعة، وإنما معركة ضارية تتساقط فيها حراب معمعتها من كل حدب وصوب في صميم موضوع أشعار الشاعر الجديدة، لا بل وتصبح موضوعها نفسه أيضاً. إن مادية النص هنا هي ماهو عليه الشعر، في حين أن التساؤل عما إن كان بمقدوره أن يكون نصاً شعرياً أم لا فشيء ليس بديهية من البديهيات بالنسبة للشاعر. فكل شطر، بوجيز العبارة، عبارة عن مأثرة، عبارة عن حيز مخطوف من بين براثن السلف، وحيز يعبئه الشاعر بكلماته التي يتوجب على شاعر لاحق أن يتعارك معها حين يؤون الأوان. إن عائلة الشعر الرومانسي،كما يصورها بلوم، تلد شعراً دفاعياً، إبناً أسير التقييد والقلق الدفاعي.
فالشيء الذي يتشاطره كل من فوكو وبلوم وبيت هوأن عملهم يدور حول الموقع الذي يحتله النص في هذا العالم، وهو يحتله لنفسه فعلاً. إن العالم الذي يختاره فوكو هوعالم الثقافة بالطبع، وهو العالم الذي يدعوه "بفرع من فروع المعرفة"، في حين أن عالم بلوم وبيت هو عالم الفن. وهذا مايشبه تقريباً القول بأن النقد يجب أن يكون في العالم على الدوام ، وبأن أي عالم سيكون وافياً بالغرض تماماً. بيد أن ذلك التصورماهو إلاتصور متهافت، مع العلم بأنه التصور الذي حاولت سابقاً صقله قليلاً في هذا الكتاب. ولكن الجدير بالذكر أن الخطاب النقدي المعاصر يعيش خارج إطار أي عالم في هذه الأيام وفي حالة خدر بين الحين والحين، لا بالمقارنة مع فوكو وبيت وبلوم ليس إلا، بل وبالمقارنة مع ذلك التجاهل غير المعقول لعمل ريموند شواب(15)، فمع الأخذ بعين الاعتبار أن الكثير من العمل القيم فعلاً والجاري في أمريكا الآن في مضمار النظرية والدراسة الأدبيتين عمل يتناول الحركة الرومانسية (ولاحظوا بالمناسبة أن المقتطفات التي أمامنا هزيلة إلى حد لافت للنظر بخصوص الدراسات النقدية لمبادئ الشعر وأشكاله أو فيما يتعلق. بمختلف النظريات عن الأداء الشعري)، ليس هنالك أي سبب وجيه على مايبدو لاستبعاد شواب. إن فرضيته في كتابه المعنون بـ "الانبعاث الحضاري الشرقي"، (La Renaissance orientale) لفرضية بسيطة ألا وهي: أن من المتعذر فهم الحركة الرومانسية مالم يؤخذ بالحسبان شيء من المكتشفات اللغوية والنصية العظيمة التي قامت عن الشرق خلال مؤتمر القرن الثامن عشر ومقدم القرن التاسع عشر. ولكي تتوفر القناعة بمثل هذه الفرضية يجب تعزيزها بمقدار هائل من التفاصيل المستمدة من التاريخ والسوسيولوجيا والأدب والاستشراق الأكاديمي نفسه ومن الفلسفة وعلم اللغة أيضاً. ولما كانت التفاصيل متوفرة لدى شواب فإنه ينظمها، علماً أن هذا التنظيم أقرب لصلب الموضوع بالنسبة لمنظرٍ نقدي، بمنتهى الفخامة لا وفق مخطط تنقيص مستقيم بل في ضوء تحليل رائع لعملية تلقيح ثقافي، بدأت تدريجياً ومن ثم تسارعت باطراد، تلفح بها الشرق بالثقافة والمجتمع الأوربيين، إن وجهة نظر شواب تكمن في أن النصوص ماهي إلا نتيجة مجابهة بين أفكار مألوفة وأفكار غريبة، بيد أن هذه المجابهة ظرفية ومادية إلى حد بالغ، كما حين يغامر بحياته آنكويتيل دوبرون في محاولة منه للأطباق على نصوص الزند آفيستا في مرفأ سيورات بالهند، ومن ثم يترجم تلك النصوص لمصلحة الثقافة الأوربية ككل. إن تلك الوقائع المتعلقة بأمثال هذه المجابهات، وهي بالمناسبة وقائع لا عدّ ولا حصر لها ودقيقة في بعض الأحيان، يتقصد تسخيرها شواب لدعم رأيه عن التغيير الذي طرأ على المؤسسات الثقافية الأوروبية كنتيجة لتلقيها الشرق. فبعض النصوص الخاصة تحظى بالنظر إليها من ذلك المنظور الذي يستطيع أن يجذب إليه لا الصالون الأدبي وحده، بل والمتحف والمخبر والأكاديميات العلمية وحتى المؤسسات البيروقراطية والحكومية.
إنني أستشهد بشواب وفوكو وبيت وبلوم كرموز لاتجاه مفتوح لا يمن فيه حمل النقد على محمل الجد إلا إذا كانت الدراسة سوف تتناول الأدب بطريقة مدركة ذاتها بذاتها - وطريقة ذات بعد مكاني وزماني أكبر مما هي عليه الآن، على الرغم من أنها لاتنطوي في الوقت نفسه.
على بعد نظري أقل. وهنا ليس من المنطق في شيء أن أستفيض في وصف المكاني والزماني لأن الواجب يقضي أن يكون من الواضح أنني أقصد بهما الدنيوي والتاريخي. فالأدب من إنتاج الكائنات البشرية في صميم الزمان وفي قلب المجتمع، وهي أنفسها الأدوات التي تحرّك تاريخها الفعلي كما أنها، علاوة على ذلك، تلعب أدوارها في ذلك التاريخ بشكل مستقل إلى حد ما. لقد افترض النقد الطليعي المعاصر، لسبب ما، أن العلاقات فيما بين النصوص بعضها بعضاً، وفيما بين النصوص والمجتمع شؤون تحت رعاية الهيكل العلوي، أو تحت رعاية ذلك الشيء المدعو بالدراسة التقليدية، ولكن ذلك الافتراض ليس موثقاً إن كان المرء يقصد بالعلاقة بين النصوص والمجتمع شيئاً كالتعقيد المنسوب لها من قبل بنيامين (تلميذ بودلير)، أو غولدمان في "الإله الخبيء"، “Le Dieu cashé” أولوكاش. فالدراسة التقليدية المزعومة قلما كانت تتحلى بتينك الدقة والرؤيا المنهجيتين اللتين يتحلى بهما أمثال هؤلاء النقاد. بيد أن النقاد ذوي الشأن يتميزون بتلك الميزة والعظيمة التي مؤداها أن الأدب يكون قيد الإنتاج من جراء نصوص أخرى وشعراء آخرين، في صميم توادهم لا رغم أنوفهم. لقد اشتط شواب وفوكو أكثر مما ينبغي في تحديد القيود الاجتماعية والخارجية المفروضة على الإنتاج. فضلاً عن تحديد النظم الاستطرادية والثقافية (أي الداخلية)، التي تحفز الإنتاج الأدبي وتستوعبه.
إن كيل الإطراء والإعجاب لهؤلاء النقاد الفياضيين تاريخياً لا يعني بحال من الأحوال غض الطرف عن المعضلات التي تعتور نظريتهم وممارستهم. ولكنهم، من منطلق المعرفة، لم يقولوا أي شيء متميز بذلك الحسم القاطع الممل والنيّرتقنيا ليسم أداء نقدياً بنيوياً “critifact” إن دفعتنا الحاجة لنحت كلمة جديدة لوصف شيء لا يعدو أن يكون في واقع الأمر أكثر من كلمة تحليلية جديدة. ومع ذلك ففي رأيي أن عمل شواب وفوكو يبالغ في إضفاء القيمة على التغيير الدرامي، علماً أن هذا القول نفسه ينطبق تماماً على بيت وبلوم لأنهم كلهم يعتبرون التاريخ الأدبي دراما ثابتة إلى حد ما تتوالى فيها العصور العظيمة، بخطى متثاقلة، عصراً إثر عصر آخر. وهكذا فإن التاريخ يصبح في جوهره ، حينئذٍ، "سلسلة متوالية على نسق واحد على الرغم من أن الشيء الذي يعقب الشيء الآخر موصوف بتفاصيل بالغة التعقيد وعلى أنساق شتى. وفي عهد أحدث حاول فوكو، محاولة مبرمجة تقريباً، أن يفهم التاريخ النصي في ضوء تلك الوقفات النسبية التي دعاها (اقتباساً من براوديل): "بالتحركات البطيئة للحضارة المادية"(6)، ولربما إن إعادة التركيز هذه على الكيفية التي تحافظ بها النصوص على التاريخ، بدلاً من تبديله على الدوام، ماهي إلا عودة إلى الاهتمام القديم الذي كان يهتمه فوكو برايموند روسيل: "إن آلية روسيل لا تختلق الوجود، وإنما تحافظ على الأشياء في صميم الوجود"(17).
ترى، ماهو ذلك الشيء الذي يحفظ النصوص في صميم الواقع؟ وماهو الشيء الذي يؤدي إلى رواج بعض النصوص واختفاء بعضها الآخر؟ وكيف يصور الكتاب لأنفسهم "أرشيف"، زمانهم الذي ينوون وضع نصهم فيه؟ وماهي مراكز الانتشار التي من خلالها تروج النصوص؟ فمثلاً ماهي النظائر التي كانت موجودة في الثقافة الإنكليزية في مطلع القرن التاسع عشر لتلك الأكاديميات الفرنسية والصالونات الأدبية العلمية الباريزية كوسائط للانتشار القومي والتنظيمات الثقافية؟ إن نظرية غولدمان عن البنى المتماثلة لاتمضي قدماً إلى الأمام بما يكفي حتى للبدء بالإجابة على هذه التساءلات، على الرغم من أنها تستبق بعضها. وعلاوة على ذلك فنحن بحاجة أن نفهم، وبمنتهى الدقة الدور الذي تلعبه الدراسة النقدية في إنتاج الأعمال "الأدبية"، علماً أن هذه القضية هي المسألة التي أثارها بشكل جاد كل من أوسكار وايلد ونيتشه، وعلى سبيل المثال، ما مقدار الأثر الذي خلفته على الشعر تلك المكتشفات الفيلولوجية العظيمة المعاصرة للحركة الرومانسية الأوربية، مع التذكير بأن كولريدج والأخوين شليغل وهولدرلين وشاتوبريان وغيرهم كانوا كتاباً من ذوي الاهتمام العميق بتلك المكتشفات؟ ماهو المنهج الذي بحوزتنا حتى نشبّه منهجياً أمثال هذه المؤسسات الكلامية، في عصر اجتماعي معين، بالسرد القصصي أو الفيلولوجيا أو التاريخ؟ ماهي الطريقة التي ترتبط بها الإتيمولوجيا في الفيلولوجيا بتفاقم الحبكة في الرواية؟ فلئن تدعو كل هذه الأشياء بالظواهر النصية لجواب قلما يحظى بالقناعة، بيد أنه الجواب الوحيد المتاح لنا حتى حينه. ففي أية لحظة، يا ترى، بالنسبة للتاريخ الأدبي تقوم الصدوع في العلاقات بين اللغة والفلسفة والدين، وهي الميادين التي وضعت موضع التراصف في نهاية القرن الثامن عشر، ومتى يقوم التقارب الجديد بين اللغة والتاريخ الطبيعي (ولاسيما التشريح المقارن)، بحلول الثلث الأول من القرن التاسع عشر؟ هيا وفكروا في القرب بين لوك، وستيرن، ومن ثم فكروا في الكيفية التي يأتي فيها معاً بعد جيل واحد بلزاك وكيوفيير أوجيوفري دي سانت هيلير. ومامن سؤال بهذا المضمار عن استمداد الأفكار بل عن رواجها الضمني، أو عن تكرار رواجها إن كنا نحبذ هذا التعبير.
إن أي اهتمام بهذه الأسئلة ومثيلاتها يجب أن يجرّ النقاد إلى أعماق الأساس المنطقي لعملهم. فإحدى الخسائر المؤسفة في الخطاب النقدي المعاصر هي إحساس النقاد ذات مرة بأن عملهم لا يعدو أن يكون مغامرة فكرية. وثمة تقليد سابق، وهو التقليد الذي دام حتى منتصف القرن الثامن عشر، كان يتمثل في أن النقاد كانوا يعتبرون حياتهم ذات قيمة مثلى، حتى إن سيرتهم الدراسية كانت نوعاً أدبياً مفروغاً منه. وفي كلا هذين المثلين كان مايفعله النقاد، أي كيفية مضيهم من عمل إلى آخر وكيفية صياغتهم مشاريعهم، يلقى معاملة حيز ذي مغزى من خبرتهم المنهجية، لامعاملة نزهة استجمام. وإن ما أقصده في التنبيه إلى هذه الجوانب التاريخية من الممارسة النقدية هو إبداء مصادقتي على قيمتها بالنسبة لمستقبل الخطاب النقدي. فمن منطلق بيداغوجي هنالك كل الأسباب الوجيهة لاعتبار اختيار موضوع ما وصياغته بأنهما لا بداية مشروع نقدي وحسب بل والمشروع النقدي نفسه. ولو تيسر لنا الحصول على بعض التقارير من النقاد عن الشيء الذي قادهم إلى مشروع معين، أي عن سبب وكيفية صياغة ذاك المشروع، وعن كيفية اضطلاعهم بعبء تكميله وفي أي سياق، لانفتحت أمامنا الفرص لدراسة مستقبلية من نوع هام جداً، ولكان بمقدورنا أن نفهم لا وحدنا توا وإلى الأبد أن النقد يخلق موضوعه -دون أية مشكلات متناثرة هنا وهناك بمنتهى البساطة جديرة بالمعالجة -ولكان أيضاً بمقدور النقاد الشباب أن يفهموا أن النقد ماهوإلا تلك الفاعلية التي تتمثل مقاصدها الأساسية في توطيد أركان المعرفة وتعاظم الخطاب النقدي وانعتاقه من التقييد إلى الحرية النسبية، ولئن كان النقاد يشعرون اليوم بالشلل جراء الصعوبة المحض في العثور على موضوع يكتبون عنه، فالسبب يعود إلى أنهم لما يحققوا بعد دور الخلق المستقل في مضمار النقد.
إن الخطاب النقدي لا يزال أسير الشرك الساذج المتمثل بوضع الأصالة قبالة التكرار، والشرك الذي يخلع التصنيف الأول على كل النصوص الأدبية الجديرة بالدراسة، في حين أن التصنيف الثاني مقصور منطقياً بالأساس على النقد وعلى كل ماهو غير جدير بالدراسة. فأمثال هذه المخططات مدعاة لشلل مهلك كما سبق وسقت الأدلة على ذلك. وهي على خطأ حين تعتبر اتساق معظم الإنتاج الأدبي بأنه أصالة، في الوقت الذي تصرفيه على أن العلاقة بين "الأدب"، والنقد ماهي إلا علاقة أصل بفرع، فضلاً عن أنها تتغافل في الأدب التقليدي وفي الأدب الحديث، سواء بسواء، عن استخدام التكرار ذلك الاستخدام التأسيسي الهام والعميق -كموضوع وأداة والبيستميولوجيا وأنطولوجيا. ولربما أن نظرة كهذه إلى التكرار لم تبلغ مبلغ الانجلاء إلا في القرن التاسع عشر (كما هو عليه الأمر لدى كير كيغارد وماركس ونيتشه)، على الرغم من أن كيريتوس وأورباخ قد علمانا أن الحالة لم تكن فعلاً على تلك الشاكلة. فلئن أخذنا الفن الروائي كمثل إضافي لوجدنا أن بناءه أقيم، منذ بداياته الأولى، حول تلك الصورة الملصة للعائلة التي نجد فيها أن الديمومة الظرفية الكرارة لها أسيرة التصادم مع بروز البطل "الأصلي" بشكل مباغت. ترى، ماهي الغاية عن هذا الاطراد الشكلي إن لم تكن حفظ و***** وتكرار شكل الرواية في صميم "الحركات البطيئة للحضارة المادية؟".
وأما فيما يتعلق بالعلاقات، من حيث القيمة، بين الأصالة وبين أفكار الجدة، أو الأولوية أو "الأول" - فهذا أمر عويص. فكل النقاد يسلمون بداهة أن هنالك علاقة مابين عمل عظيم وبين أسبقيته. إن نظرية بلوم عن النفوذ مبنية حول هذا التصور الذي مفاده أن عملاً عظيماً يتحلى بالسلطة لأنه كان الأول، أي لأنه جاء قبل غيره من الأعمال وجاءته السلطة بحق الشغعة. وإن أمثال هذه الأفكار تحمل معها الآن فهماً بمنتهى الوضوح لمعنى أن يكون العمل هو الأول أو أنه جاء أولاً. فضرورة مثل هذا الوضوح البيولوجي -فهو بيولوجي لأن "الأول" يعني في السياق "الأب"، و"الثاني" يعني "الابن" - بالنسبة لبلوم ليس البتة موضع تساؤل، وليس بحال من الأحوال شيئاً عرضياً لدى استخدامه له في بحثه عن إساءة قراءة الشعر. وأما بالنسبة لغيره من النقاد الآخرين فإن الأولوية مرتبطة ارتباطاً واهياً تقريباً بالجدة، بالمجيء أو الحدوث أولاً، بأسبقية بسيطة، وكأن التاريخ يشبه سلسلة من الأطفال المولودين الواحد بعد الآخر من الماضي حتى الحاضر إلى مالا نهاية له “ad infinitum” فتصور الزمن التاريخي الاجتماعي مثل هذا التصور التسلسلي التوالدي الممنوع من التقليص ليحجب تماماً تلك المشكلة الطريفة المتعلقة بالنشوء، زد على أنه التصور الذي لا تحظى فيه الظواهر الثقافية بشرف الأسبقية أو الولادة العجائبية، بل تلقى معاملة جمهرة من الأفكار التي لاتنفك عن النشوء "دوماً وأبدا في الخطاب(18). وإن الأحداث الثقافية لا يكون مآلها أحسن الفهم حين تكون موضع النظرة وكأنها كائنات بشرية مولودة في يوم معين، إذ أن الماضي ليس زمرة من أمثال تلك الولادات، فضلاً عن أن الزمن لا يتحرك كالساعة على شكل لحظات متفردة.
فلئن كان تاريخ العلم قدتعلم أن يتعامل مع مشكلة النشوء، فلم لا تتعلم ذلك النظرية الأدبية؟ وماهي الحدود التي تحدد تسخير دورة الحياة البشرية كنموذج للتاريخ الأدبي"؟ وما مدى الفائدة بالفعل من منهج نقدي قائم على وحدات مجسّمة للأصالة كالعمل" أو الكاتب أو الجيل وما شابه ذلك"؟ وأية مفردات بمقدورنا أن نستخدم من تلك المفردات التي تعالج العامل البشري وتعالج أيضاً خطاب البنية الأدبية ذلك الخطاب الكرار غير المشخص.
فهنالك أسئلة صعبة جديرة بالإجابة، ولكن لا مناص منها لتطور ذلك الخطاب النقدي الذي سيكون جاداً فكرياً ومستجيباً اجتماعياً بأعراض المعاني الإنسانية.وليس من الممكن ديالكتيكياً تحديد القوة الحقيقية للتهديدات التي تحيق، في التاريخ الأدبي والمؤسسات الأدبية؛ بالترابط المنطقي أو النظام إلا إذا حدث مثل ذلك التطور وحسب. فما من سبيل لإدراك هذه المخاطر مادامت النظرة إلى التاريخ الثقافي على أنه سلسلة خاملة من الولادات والميتات. فإذا كانت الثقافة مصونة مادياً، لن يكون بوسعها إذاً أن تكون معتمدة على أحداث بل على مؤسسات مبنية بأيدي الرجال والنساء، مع العلم أن هذه المؤسسات تتمتع أيضاً بتاريخ مستقل خاص بها.
إن النقيض الديالكتيكي للحضارة المادية الكرارة التي ما فتئت أشير إليها هو مجموعة من القوى المتحالفة التي دعاها بلا كمور بشكل جماعي باسم “Moha”(19)، والتي حضورها في الحياة البشرية يزعج ويبدد المفهوم الذهني للقسر الذي تمارسه الثقافة. فواحد من تلك الإنجازات المتميزة التي أنجزها النقد التحليلي النفسي كان محاولة التعامل مع "الموها ـ Moha"، ولكن مؤشرات العصاب، أومجرد الرغبة في اعتبار هذه القوة شاذة ثقافياً (وحصرها بعد ذلك بنقائص الفنان العصابية)، هي ماكانت تخلص إليه تلك المحاولة في أغلب الأحيان. وإن تزايد الاهتمام حديثاً في فرنسا بنيتشه وفرويد أنقذ الموقف، مع أننا لا نزال بأمس الحاجة لوصف يزيد في تحديد المكان الذي دخلت فيه الموها إلى ميدان الأدب. وما هذا التيار في التحليل النقدي إلا التيار الذي استهله بمنتهى الفاعلية جورجز باتيل في عام 1933، بمقالته المعنونة بـ "مفهوم الأعباء" (La Notion de dépense) (20)، علاوة على أن الاضطلاع بعبء تأريخ زمان هذا التحدي لم يقم به إلا كتاب "توقان الإنسان للفوضى)، لمورسى بيكهام وكتاب "الذات إبان إنجازها"، لريتشارد بويرير.(21).
إن تفاعل النظام واللا نظام يؤطر المعنى الشتيت بالأصل للنص الأدبي. ولكن ضمن ذلك الإطار هنالك نسق كامل من الأسئلة التطورية المهملة منذ ذلك الهجوم الذي شنه على المغزى ويمات وبيردسلي في بحر عام 1944-1945، والذي بقي كاسحاً على قدم وساق في مقالة ويمات القوية المعنونة بـ"سفر التكوين: التعريج على مغالطة من جديد" (22)، وبالتأكيد على المرء أن يشعر بأن تلك الثنائيات - من أمثال الذاتية /الموضوعية والداخلي/ الخارجي والكاتب/ القصيدة وهلم جرا- التي يتشبث بها ويمات وآخرون تنتزع ثمناً باهظاً جداً فيما يتعلق بالفهم والإدراك.
وعلاوة على ذلك هناك فيض كبير من الأدب الحديث الذي يتوصل إلى القراء كي يقوموا بقفزات مقصودة للولوج في ذات الكاتب وفي ذواتهم هم (راجعوا مقالة تريلينغ المعنونة بـ "حول تعليم الأدب الحديث" أومقالة بلاكمور المعنونة بـ "سنوات الكوارث ـ Anni Mirabiles")(23). فالحدود الصارمة بين النفس والموضوع أو بين الذات والعالم تشجع قيام فرع تعليمي مفيد ولو أنه أولي، مع العلم أن تلك الحدود لا تصف شيئاً أكثر من واقع تحليلي. "إن أي مظهر من الظواهر الفكرية والغنية ما هو إلا من عمل كاتبه وحده دون سواه علاوة على أنه يعبر عن فكره وعن طريقة شعوره، بيد أن هذه الطرائق التي تعبر عن التفكير والمشاعر ليست كينونات مستقلة فيما يتعلق بأفعال وسلوك الناس الآخرين. وقد لا يكون بالإمكان فهمها. على الرغم من وجودها، إلا في ضوء علاقاتها الذاتية الداخلية التي تمنحها كل مغزاها وغناها"(24)، فإذا اعتبرنا هذا لشيء من المسلمات، كما يعتبهر غولدمان، تتمثل مسؤوليتنا عندئذٍ في الإقدام على المغامرة خلف البقية الباقية من الحدود.
وهكذا لا أرى أية فائدة خاصة في الإصرار على القول بأن القصيدة موضوع قائم بأم عينه وموجود بشكل مستقل عن أي سياق: إذ أن من الواضح أنها ليست بكذلك. فكل قصيدة أو شاعر تعبير بالإكراه عن تكتلات جماعية. وأما ما يصبح مشكلة نظرية طريفة بالنسبة للنقد فهو تجديد الكيفية أو الزمان أو المكان الذي يمكن فيه القول عن الشاعر أو القصيدة بأنه تعبير طوعي (شخصي ومقصود)، عن الاختلاف والجماعة، فهنا أصل التكوين ليس بالفكرة التجريبية البسيطة كتاريخ الولادة، وليست له أية قوة تطورية خاصة للإتيان بالتوضيح، ولا بعدو أن يكون إلا اختباراً ذهنياً للتأويل النقدي. وإن الاعتراف بأن ما بحوزتنا الآن ليس أكثر من بضع فرضيات عن الإنتاج الأدبي لشيء مختلف جداً عن القول دون تحفظ أن من غير الممكن بتاتاً وجود فرضية تطورية مرْضية. فالتطرق التدميري لما هو في خاتمة المطاف بحوزة الناقد كوجود تاريخي مرهف الحس -ألا وهو القدرة على صياغة مظان تطورية - لتنكر صارخ لقسط مامن إنسانية الناقد ذكراً كان أم أنثى، وذلك لأن المظان التطورية، من مثل كيفية أو سبب تقيّض الكتابة للعمل الفلاني، ليست بأسانيد وحيدة الاتجاه تعزو عملاً ما إلى سيرة أو مجتمع ما أو إلى شيء آخر، شأنها بذلك شأن الدراسات النصية أو الصنمية التي ليس عليها دائماً أن تستبعد السياق التاريخي الذي يغلف النص. إن المظنة التطورية تقر وجود فكرة العامل البشري في صميم العمل -مع أنها ليست بحد ذاتها فكرة جسورة. ولكن الالتزام بالتأويل العقلاني وفق هذه الأسس يشتط إلى حد احتوائه، كقسط من الديالكتيك، وعي الناقد نفسه في صياغته ماهو فاعل، أو ماهي فاعلة. فمن الواضح أن هذا الوعي يتزايد ويخضع للصقل في نفس فعل صياغة طريقة نقدية.
ولربما أن إحدى الطرائق لتخيل المسألة النقدية للتكوين الفني هي النظر إلى النص على أنه ساحة دينامية، لا كتلة جامدة، من الكلمات، وهذه الساحة لها سلسلة معينة من الصلات، أي منظومة من المجسات (التي دأبت على دعوتها بصلات التقرب)، الكامنة جزئياً والفعليةجزئياً: بالنسبة للكاتب وللقارئ ولحالة تاريخية ولغيرها من النصوص وللماضي والحاضر سواء بسواء. فبمعنى من المعاني ما من نص يبلغ نهايته وذلك لأن سلسلة صلاته المحتملة خاضعة للتمديد على الدوام بواسطة أي قارئ إضافي. وها قد صار من الواضح الآن أن مهمة الناقد بادئ ذي بدء أن يفهم الكيفية التي صيغ ويصاغ بها النص (مع العلم أن الفهم في هذه الحالة فعل تخيلي). فما من تفصيل من التفصيلات بالغ التفاهة شريطة أن تكون دراسة المرء موجهة بمنتهى العناية نحو النص ككل ثقافي وفني حيوي.ولذلك فإن الناقد يقلد أو يكرر النص في تمديده له منذ البدء إلى أن يصبح كلاً متكاملاً، على غرار بيير مينارد. أو على غرار بروست في معارضاته (pastiches)، لفلوبير وبلزاك ورينان والأخوين غونكور. ففي التحولات التي أجراها بروست على الكتاب الذين قلدهم، كان يضع نصب عينيه هدف تقديمهم مروراً بهم من فتحة في ممر حتى نهايته. ومامن سبيل لنا إلا الاستنساخ حتى نتمكن أن نعرف الشيء الذي كان قيد الإنتاج وما معنى الإنتاج الكلامي بالنسبة لكائن بشري: وهذا جوهر المبدأ الفيشي([7]) Vichian الامر الذي لا ينطوي على فعالية أقل بالنسبة للناقد الأدبي الذي يعتبر أن أصل التكوين لعمل بشري ما هام وعلى أوثق ارتباط بصلب الموضوع مقدار أهمية وارتباط وجود العمل.

nnnn

* أي تعبيراً معادياً للسامية والشيوعية- المترجم.

* معانيها على التوالي: أسرة أو عشيرة كريمة الأصل، أسر أو عشائر كريمة الأصل، قرابة أو عصبية، زوجية، خصية أو أب- المترجم.

([1]) المترجم ـ “als den Ersatzmann Napoleons”

([2]) أوغست روديه، نحات فرنسي، (1840-1917)، مشهور بتصويره الهيئة البشرية، المترجم.

([3]) عفو الخاطر: bricolage.
حل الألغاز: décodage.
تزويق: découpage - المترجم.

([4]) - عنوان دراسة نقدية بهذا العنوان. لرولان بارت _ (المترجم).

([5]) - كما هو أو كما هي - المترجم.

([6]) قراءة على ضوء علم دلالات الألفاظ أو الكلمات - المترجم.

([7]) المبدأ الفيشي:معاداة السامية والشيوعية، المترجم.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 08-28-2012, 12:08 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي


8 ـ تأملات في النقد الأدبي
"اليساري" الأمريكي.




إن تاريخ الثقافة الأدبية الأمريكية لم يشهد بتاتاً من قبل بحث مسائل في النقد الأدبي مثل البحث الجاري في هذه الآونة على أوسع نطاق، مع العلم بأنه تقني في بعض الأحيان ومثار جدل عنيف في معظم الأحيان. فما من ناقد للأدب أو معلم له إلا وكان عرضة للتأثر بهذا البحث. ولكن ليس هنالك أي اتفاق أوتوماتيكي حول ماهية المسائل الأساسية أوحتى الهامة في كل هذا المعمان النقدي. وعلى الرغم من احتمال صحة القول، مثلاً، أن العديدات من المدارس النقدية(كالسيميائية والتأويلية والماركسية والتفكيكية من بين أخريات) لا يزال لها روادها، فإن المناخ النقدي مناخ خليط كل النقاد لهم فيه صلة طفيفة أوكبيرة بمعظم المناهج والمدارس والمعارف السائدة. ومع ذلك فمن المؤكد تقريباً أنه مامن ناقد بينهم يقلل من الأهمية السوسيولوجية والفكرية لذلك الانهدام الكبير القائم بين أشياع مايمكن دعوته (بالنقد الجديد) الحديث وبين أشياع النقد القديم أوا لتقليدي. ومن الجدير بالذكر أن هذا الانهدام الذي يعود غالباً بالمضرة لا يستقطب النقاد كلهم. بيد أن من الملفت للنظر، في المساجلات الدائرة بين الفريقين، وجود رغبةواضحة لاعتماد المواقف التي تقزم وتضخم لا الفريق المناوئ وحده وحسب، بل والفريق المشايع أيضاً إن جاز مثل هذا التعبير، فثمة ناقد تفكيكي وهو يلف ويدور للتحدث حديثاً عاماً (sub specie aeternitatis) دفاعاً عن النقد الطليعي يجعلنا نشعر بما ينم عن تحدي الفكر الغربي نفسه وهو يحلل، أو تحلل، بعض السطور من كتابة روسو أو فرويد أو باتر، في حين أن بعض النقاد الآخرين الذين يصدقون أنفسهم بأنهم يتحدثون باسم سلامة العقل والحشمة والعائلة في بحثهم ماهية كل ماتعنيه الفلسفة الإنسانية يلطخون، على نقيض الفريق السالف الذكر، سمعة حتى عملهم هم على غير دراية منهم حين يظهرون بمظهر من يبّسطون مجمل القواعد الهائلة التي يستند إليها البحث الأكاديمي، أي نفس القواعد التي تجلو ماهم فاعلونه كباحثين.
وبمعزل عن التفكير ملياً بكل مظاهر هذا التعارض الكبير لن يكون بمقدورنا أن نأمل بشكل مناسب معرفة تفاصيل مايدور الآن فعلياً في النقد الأدبي والنظرية الأدبية، علماً أن بوسعنا أن نتحدث وعلى وجه الدقة عن بعض النماذج الشائعة في كل من النقد وفيما أنتج هذا النقد أيضاً من تاريخ، ومجتمع وثقافة. إن إحدى النقاط التي أود الإشارة إليها هي ما إن كانت تلك المماحكات العنيفة الدائرة، مثلاً، بين م.ه.آبرامز وبين ج.هيليس ميللر، أو بين جيرالد غراف وبين ما تدعى بمدرسة ييل، أو بين "التخم2" و"الأخدود"، و"العلامات الفارقة"، وغير ذلك من المجلات الصغيرة، تطرح حدوداً نظرية واضحة بين المواقع القديمة أو اليمينية وبين المواقع الجديدة أو اليسارية، وذلك لأن التفاوت بين فصاحة النظرية وبين وقائع الممارسة لهو نفسه تقريباً تماماً على كلا جانبي الجدل. وما هذا الشيء إلا صحيح دائماً بالطبع في كل المماحكات العنيفة: فنحن نسوق الدليل نظرياً دفاعاً عن الشيء الذي لا تفعله البتة عملياً، ونفعل الشيء نفسه، بخصوص ما نعارض أيضاً. ومع ذلك فإننا واجدون نوعاً من النقد الجديد الذي يتبنى موقفاً معارضاً مما يراه بحثاً أكاديمياً راسخاً أو محافظاً، والذي يتقصد عامداً متعمداً أن يؤدي وظيفة الجناح اليساري في السياسة ويدلي بالبينات وكأنه يبتغي تثوير الفكر والممارسة، لا بل وحتى المجتمع ربما، لا من خلال الكثير مما يفعله وينتجه، بل من خلال ما يقوله عن نفسه وعن خصومه. ولكن في الواقع هنالك الكثير من تلك الإنجازات الفعلية التي يحق لهذا النقد أن يتباهى بها. ففيما يتعلق بالتنظير والتأويل النقديين هنالك أعمال أصيلة. بمنتهى البهاء، بل وثورية حتى، مت***بة كلها بدرع بلاغي كامل من الدفاع والهجوم والتحبيك المبرمج على نطاق واسع: ولسرعان ما يخطر هنا على البال عمل هارولد بلوم، والمساجلات المتواترة عنه. ولكن عمل بلوم وما أفضى إليه من غضب وتقريظ على شكل نقد يبقيان بالأساس وطيدي الأركان في صميم تراث النقد الأكاديمي. فالنصوص والكتّاب والعصور ظلوا ضمن إطار قانون ميسور تمييزه ومتفق عموماً عليه. حتى لو تباينت الكلمات والعبارات المتداولة لوصفهم ذلك التباين الكبير استناداً إلى موقفك من بلوم معه كنت أم عليه.

واعتراضاً على فرضية كهذه هنالك أولاً: رد فعلي أنا حيث أنني سائر بدوري في ركاب التجزيئيين، وثانياً: الواقع القاضي باقتصار النقد، بحكم الظروف، على الأكاديمية، وحظره عن الشارع لا بمقتضى تهذيبه ليس إلا. وعلى الرغم من وجود مايسوغ هذين الاعتراضين كليهما، فإن ما أحاول قوله (على شكل عمومية مربكة بعض الشيء)، هو أن طريقة المعارضة التي يعتمدها (النقد الجديد)الحديث لا تمثل تمثيلاً دقيقاً أفكاره وممارسته اللواتي تزيد، بعد كل الهياط والمياط قولاً وفعلاً، في ترسيخ وضمانة البنية الاجتماعية والثقافية اللتين جاءتا بتلك الأفكار والممارسة. فممارسة التفكيك تجري، مثلاً، وكأن الثقافة الغربية أسيرة التشظي، إذ ها هو التحليل السيميوطيقي يسوق الأدلة على أن عمله يرقى إلى مستوى ثورة علمية ومن ثم اجتماعية في علوم الإنسان. إن من الممكن الإتيان بفيض من الأمثلة بيد أن ما أقوله مفهوم لتوه كما أعتقد. فهنالك مناقشة تصادمية دون تصادم حقيقي، إذ حتى الماركسية كثيراً ما استسلمت، بهذا السياق، للمقتضيات المحمومة للفصاحة وتنازلت في الوقت نفسه عن امتيازاتها الراديكالية الحقة.
إنني أقول هذا كله دون توضيح السبب الذي دفعني لوضع كلمة يساري، في عنوان مقالتي هذه ضمن أقواس استشهاد تعبيراً عن الشك والريبة. وفضلاً عن ذلك أجد من العسير علي الانتقال من فكرة اليسار في السياسة إلى اليسار في النقد الأدبي. فبالطبع هنالك تعارض بين آبرامز وديريدا أو ميللر، ولكن هذا بمقدورنا أن نقول بملء الثقة أن الشيء الذي يقف على كف عفريت، والذي يبدو في أحسن الأحوال مجرد سؤال عمن تصوراته للبنى الفوقية تتجلى بالأفضلية، لشيء يتناسب مع العنف الواضح لذلك التعارض؟ إن كل النقاد الأقدمين والمحدثين، كانوا على أتم القناعة بتقييد أنفسهم بالشأن الأكاديمي للأدب، وبالمؤسسات الموجودة لتعليم الأدب واستخدام تلاميذه، وبتلك الفكرة المضحكة أحياناً والمتملقة ذاتياً دائماً بما مفاده أن مناظراتهم ذات تأثير هام وجليل على المصالح الحساسة التي تعود بالمضرة على الجنس البشري. ففي قبول اليسار الدعيّ لهذه التقييدات، بشكل لا يقل عن اليمين بشيء، يكون بعيداً جداً عن لعب أي دور سياسي حقيقي. إن مايدفع الوضع الراهن هو بالفعل، من ناحية أولى، مزيداً من الانعزال الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ الثقافي الأمريكي الحديث، ذلك الانعزال الذي انعزله نقاد الأدب عما يدور اليوم في القضايا الكبيرة من فكرية وسياسية وخلقية وأخلاقية، وهو من ناحية ثانية فصاحة، وقفة، وضعية لا تظهر بمظهر مايمثل أي شيء (ولنكن صريحين في الختام)، مقدار ما تظهر على حقيقتها من أنها تلك البلايا الناجمة عن عداء سياسي سافر. فلو صادف وزارنا زائر من كوكب آخر لأصيب بالارتباك إن تقيض له أن يسترق السمع ممن يدعى، زوراً وبهتاناً، بناقد قديم وهو ينعت النقاد الجدد بأنهم خطرون، ولنتساءل أيضاً ولابد عن الشيء الذي يشكلون خطراً عليه، أهو الدولة؟ أم العقل؟ أم السلطة؟
إن نظرة خاطفة على التاريخ الفكري الحديث تجلو القصة على أحسن مايرام، فما من مرء يصادف أية مشكلة في محاولة العثور على نوع من أنواع اليسار في الثقافة الأمريكية بين عقودالعشرينات والخمسينات، كما يؤكد للتو كتاب دانيال آرون المعنون بـ "كتاب على اليسار". وإن من الصحيح بكل تأكيد أن المساجلات الفكرية إبان تلك العقود كانت تدار بأغلبيتها الساحقة في هذه البلاد بلغة سياسية على ارتباط مباشر بالسياسة الفعلية. فالسيرة المهنية لأناس من أمثال راندولف بورن وجوزيف فريمان، مثلاً، لا تنفصم عراها عن مشكلات الحرب أو سياسة عدم التدخل أو الصراع الطبقي أو الستالينية أو التروتسكية. ولئن كنا نشعر بأن ما كتبه هذان الكاتبان كان يفتقر إلى المستوى الثقافي الرفيع الذي كان عليه نقد معاصريهما - كإليوت وفاليري وريتشاردز وإمبسون - فإننا نشعر في الوقت نفسه أن إدراكهما للأدب كأدب (أي أن الأدب شيء أكثر من مبنى إيديولوجي)، كان عميق الجذور إلى حد الروعة. ففي عمل أفضل كاتب في تلك الزمرة ككتاب "هيا إلى محطة فيلندا"، لإدموند ويلسون، على سبيل المثال، هنالك مستوى رفيع من الفكر والبحث، وهنالك أيضاً تحبيك سياسي وانهماك تاريخي كبيران قلما يظهر أي منهما بمظهر الدعاية الرخيصة أو بمظهر ما تعودنا على دعوته مؤخراً بالماركسية المبتذلة. وحين يحاول ناقد مرموق في الأكاديمية أن يجد لنفسه، أو لنفسها، موقعاً مسؤولاً في هذا العالم، وفي هذه المرحلة المديدة والرجراجة إلى حد ما، ألا وهي تلك المرحلة التي أنعتها "بالتاريخ الثقافي الحديث". بمنتهى البساطة، يمكننا أن نقع على مثل تلك المحاولة في مقالة كمقالة ماثيسين المعنونة بـ "مسؤوليات الناقد"، المكتوبة أصلاً في عام 1949، فما ثيسين لا يدعي بأنه ماركسي، غير أنه يقول بكل وضوح أن ناقد الأدب يجب أن يولي اهتمامه للشأن المادي الذي تعالجه الماركسية علاوة على اهتمامه "بأعمال الفن الدارجة في زماننا هذا"، إن الاستعارة الأساسية في هذه المقالة إن هي إلا استعارة البستنة: فالنقد يمكن أن يتحول إلى "حديقة مسورة من نوع ما"، مالم يتوصل الناقد إلى التيقن من "أن الأرض الواقعة خلف أسوار الحديقة أكثر خصاباً، وأن مسؤوليات الناقد تكمن في تجديد احتكاكه بالتربة". فهذا القول لا يعني أن على النقاد أن يتعرفوا على "تلك الأسس الاقتصادية الكامنة خلف أية بنية فوقية ثقافية"، وحسب، لا بل ويعني أيضاً:
أننا نحن معشر الجامعيين لم يعد بوسعنا أن ندير ظهورنا... على العالم.... إذ إن المكان المناسب للمفكر، كما تصوره وليام جيمز، كان في صميم النقطة المركزية التي تدور عليها رحى معركة ضارية، ونحن من المستحيل بالنسبة لنا أن ننظر إلىتلك الاستعارة بالخفة التي تعامل بها الكاتب معها. فأينما نظرنا في هذه السنوات القليلة المشؤومة منذ إسقاط أول قنبلة ذرية على هيروشيما لوجدنا أننا مهددون بتلك القوى الهائلة إلى الحد الذي يجعلنا نشعر فيه بأننا سائرون في طريق محفوفة بالمخاطر. ولكننا نبقى عرضة حتى لتهديد أفدح إن ظل على تقاعسهم أولئك الناس، ممن تتجسد مسؤوليتهم الرئيسية كنقاد في استبقاء أبواب الاتصالات بين الفن والمجتمع مشرعة على مصاريعها حفاظاً على أسباب الحياة، في القيام بواجباتهم للإتيان الدائم بفكر جديد لصالح مجتمعنا هذا(1).
ففي هذه الملاحظات ثمة تلميح بمنتهى الوضوح مفاده أن قوى التهديد الذي يطفح بها التاريخ التالي لتاريخ هيروشيما من الممكن حشرها في زاوية ضيقة دفاعاً عن نفسها، ومن الممكن استيعابها من خلال "الفكر الجديد"، للناقد، وليس بوسعنا هنا إلا أن نتبسم بكل بساطة على سذاجة ماثيسين إذ ليس هنالك اليوم إلا حفنة قليلة من النقاد ممن يرون أن عملهم جدير بالشفقة عليه والدفاع عنه ضد هذه القوى التاريخية الغاشمة وبشكل مباشر، أو ضد أية قوى مثيلة أخرى. وعلاوة على ذلك فلغة الأزمة ملازمة للنقد، كما بمقدور أي قارئ لبول دي مان ان يقول لك، ولكن سيكون هنالك على أرجح الظن، مالم ترجع اللغة وتدور حول نفسها في أمثال هذه الحالات، كما ينبغي له أن يقول لك محذراً، تعمية وتضليل أكثر مما سيكون هنالك معرفة أو نقد حقيقي. فالنقد والأدب إذاً عند ماثيسين، يترعرعان على نفس تلك الخبرات التي ينجم من صميمها الاقتصاد والتاريخ المادي والصراع الاجتماعي. وإن مثل هذا الاقتراح، بكل بساطته الأنطولوجية غير المعضلة ظاهرياً، من المستبعد جداً أن يعاود الظهور في هذه الأيام، في الوقت الذي النظرة فيه إلى ما يدعوه دي مان" بتداعي واقعية عالمنا هذا"، تماثل نظرة السخرية إلى نوع من الأدب لغته"، هي الشكل الوحيد للغة متحررة من زيف التعبير المباشر". ومع ذلك كان إنجازماثيسين كناقد إنجازاً محترماً، إذ إن كتباً ككتابه المعنون بـ "الانبعاث الأمريكي"، لا تتكشف عن إنسان وديع "Achöne Seele" ضّليل ولا عن عالم ضحل من علماء سوسيولوجيا المعرفة. وأما المشكلة فتكمن في الكيفية التي تحدث بها حديثاً عاطفياً وسياسياً جداً عن مسؤوليات الناقد، وفي السبب الذي دفع نقاداً، بعد مرور عشرين سنةونيف، مثل دي مان (صاحب التأثير الراهن الجليل جداً)، لتكريس اهتمامهم على استحالة تحمل المسؤولية الاجتماعية والسياسية.
فبالنسبة لدي مان "لا يمكن للمعرفة الفلسفية أن تبرز إلى الوجود إلا حينما تلتف على نفسها عوداً على بدء". وما هذا القول إلا طريقة أخرى للقول بأن كل من يستخدم اللغة كوسيلة لتوصيل المعرفة معرّض للوقوع في شرك الاعتقاد بأن سلطته، أو سلطتها، كحائز معرفة وموصلها، ليست مقيدة باللغة التي هي في واقع الأمر مجرد لغة وماهي بالشيء الواقعي المباشر. وأما الأدب، من الناحية الأخرى، فما هو أساساً إلا مايدور عن فضح المعمّى كما أن لغة الشعر، بالنسبة لدي مان، ماهي إلا "تلك اللغة التي تسمّي هذا الفراغ [أي وجود الخواء الذي من المفروض أن تدل عليه كلمات تركيب لغوي تتمثل مهمته الأساسية بالإشارة إلى نفسه فقط وبالإشارة إلى كونه مدركاً بمنتهى السخرية لفعلته هذه]، بفهم متجدد دوماً وأبداً، دون كلل أوملل البتة من تسميته مراراً وتكراراً بتوقان يماثل توقان روسو:"إن مثل هذا التبصر يتيح لدي مان أن يجزم على أن الأدب، في تسميته ذلك الفراغ وإعادة تسميته إلى أبد الآبدين، يؤكد على أنه نفسه ليس أكثر من ذلك وبأقصى درجات التوكيد، وبشكل لا يقل قوة بتاتاً عن قوته حين يبدو الأدب بأنه مكبوت كي يتيح إمكانية ظهور المعرفة. وهكذا:
حين يعتقد النقاد المحدثون بأنهم يفضحون معميات الأدب، تكون معمياتهم هم موضع الافتضاح في الحقيقة بواسطة الأدب، ولكن بما أن هذا الأمر يحدث بالضرورة على شكل أزمة، يكون أولئك النقاد في وضعية مكفوفي البصر عما هو جار في صميم أنفسهم هم. وفي تلك اللحظة التي يزعمون فيها أنهم يفتكون بالأدب يتواجد الأدب في الأمكنة كافة، وذلك لأن ما يدعونه بالأنتروبولوجيا وعلم اللغة والتحليل النفسي ماهو إلا الأدب نفسه مطلاً برأسه من جديد، مثله مثل رأس هايدرا (الصدار)، في نفس تلك البقعة التي من المفروض أنه انقطع فيها، إن على العقل البشري أن يتعرض لأهوال تشوه مذهل حتى يتفادى مواجهة "خواء الأمور البشرية"(2).
إن دي مان، على نقيض ديريدا الذي كان عليه لاحقاً أن يبدي ألفة محترمة حيال عمله، أقل اهتماماً بقوة وإنتاجية التشوه البشري (الذي يدعوه ديريدا بالشيء الذي لا يخطر على بال l’impensé)، منه باستمرار وتكرار أداء ذلك التشوه، أي إصراره على الألحاح كإلحاح إن جاز مثل هذا التعبير. وهذا هو السبب الذي يجعل من السخرية اللاذعة الشغل الشاغل بالفعل لدى دي مان كناقد: إذ إنه مشغول دائماً في تبيان وضع النقاد أو الشعراء الذين يكشفون بالفعل -النقاد بلا دراية والشعراءعن دراية- المنطلقات المستحيلة لصياغة أي شيء بتاتاً. أي ما يدعى بارتباكات الفكر التي يتصور دي مان أن كل الأدب العظيم يعود إليها على الدوام، وذلك في الوقت الذي يظنون فيه أنفسهم بأنهم يصوغون شيئاً ما. ومع ذلك فإن هذه القيود الفكرية على إمكانية الصياغة لم تمنع دي مان من صياغتها وإعادة صياغتها، في تلك المناسبات العديدة التي يحلل فيها، بشكل أقدر من معظم النقاد الآخرين، مقطوعةأدبية. إنني أتردد كثيراً قبل نعتي دي مان بالمحجاج، لكن بمقدار ما يحض النقاد على فعل هذا الشيء دون ذاك، أود أن أقول بأنه ينبئهم بأن يكفوا عن الحديث وكأن من الممكن تجاوز الدراسة التاريخية، وبأن يتحدثوا عن الأدب حديثاً جاداً. فما السبب يا ترى؟ لأن الأدب العظيم إن كان قد تعرض من قبل لفضح المعمى، فلن يكون بوسع الدراسة بتاتاً أن تخبرنا بأي شيء جوهري عن الأدب لم يتنبأ به الأدب نفسه سابقاً.
وإن أعظم مايمكن أن يحدث هو أن الناقد يكون عرضة لفضح المعمى، مع العلم أن هذا القول يرقى إلى القول بأن الناقد يعترف بأن الأدب قد فضح بنفسه معمياته مسبقاً.
ليست لدي الرغبة في أن أستخدم دي مان كممثل عمومي للشيء الذي تجري ممارسته هذه الأيام في النقد الأدبي: فعمله فائق الأهمية، ومواهبه فائقة الاستثناء ولو لمجرد الارتقاء به إلى منزلة التمثيل. بيد أنني أظن أن من الممكن اعتباره القدوة في تيار فكري معارض، لا بطريقة واضحة جداً، للشيء الذي هو في العادة معيار في الدراسات الأدبية الأكاديمية. فالعمل الأدبي عنده يحتل موقعاً يسمو بلا قيد أو شرط تقريباً على الواقعية التاريخية لا بفضل قوته بل بفضل وهنه المسلّم به. علماً أن أصالته تكمن في منطلق مؤداه أنه ألقى سلاحه "منذ البدء"، وكأنه قال سلفاً بأنه لا يحمل أية أوهام عن نفسه وبأنه أسلم مباشرة تخيلاته لميدان الشكل المقبول. وإن هذه الأفكار لتعبر بالطبع عن ميل كبير في الفن الرمزي بأسره، ألا وهو الميل الذي حظي بتشويق محترم من خلال أية نسخة من تشكيلة الشكلية النقدية في القرن العشرين:
فإعادة سبك مقولة من مالا رمي، يكمن خلفها ذلك التصور الذي مفاده أن العالم إن كان له ثمة وجود على الإطلاق، فلابد من أن يكون قد خلص إلى كتاب أو على شكل كتاب، وما أن ينطوي العالم في كتاب حتى تدار له الظهور إلى أبد الآبدين. فالأدب، بوجيز العبارة، لا يعبر إلا عن نفسه فقط(وهذا موقف في أقصى درجات التطرف، في حين أن أدناها يتمثل بالقول أن الأدب يدور "عن" لاشيء): إذ أن عالمه شكلي، وعلاقته بالواقع العادي.
لا يمكن فهمها، كما يوحي دي مان إلا من خلال النقض أو من خلال نظرية ساخرة إلى حد بالغ، صارمة بمقدار ماهي متلاحمة معتمدة في جدواها على افتراضات متناقضة تقول بأن العالم إنْ لم يكن كتاباً يكون الكتاب عندئذٍ ليس هو العالم. ولربما أن هذه الافتراضات ليست ممنوعة من الاعتراض كما قد تبدو، ولاسيما إذا تذكرنا الحد الذي أقر فيه معظم النقد منذ أرسطو بوجود مقدار معين من الانحياز السري في غالب الأحيان والانحياز المصبوغ بصبغة التقليد والمحاكاة ولو أنه موضع الإنكار.
ولكن نقد دي مان يدخر لنفسه بعض سلطته المبررة لأن دي مان كان رائد "النقدالميتافيزيقي"، الأوربي، كما يحلو للبعض أن ينعت نقده. وهنا نخوض تواً غمار الواقع السوسيولوجي والتاريخي الذي مفاده أن النقد المعاصر "اليساري"، أو المناهض في أمريكا قد تعرض للتأثير العميق بالنقد الأوربي، ولاسيما الفرنسي منه، وإن بوسع المرء أن يدلي بعدد من الأسباب لذلك التغيير الدرامي في اللغة واللهجة الذي حل بالمشهد النقدي الأمريكي إبان عقد الستينات (1960)، المنصرم، بيد أنني لا أنوي هنا هدر وقت طويل في تعداد ذلك. غير أن الإنصاف يقضي أن نقول بأن الآثار التي تركها النقد الأوربي علىمفرداتنا ومواقفنا النقدية كانت عديدة ومن بينها تلاشي الشعور بريادة "الدراسات الإنكليزية"، في الميدان الأدبي. فمعظم النقد الأدبي الذي طغى على الأكاديمية، لا بل وحتى على عالم الصحافة في حقيقة الأمر، صار يعتمد على إنجازات الكتاب المحدثين من أمريكيين وبريطانيين، علاوة على تنامي الشعور القاضي بأن دعاوى السيادة الوطنية-بكل المعاني التي تنطوي عليها هذه العبارة -يجب أن تسود النقد. إن المؤمنين بهذا الجانب يتألفون من آرنولد في البداية، ومن تم لاحقاً من كل من ليغز وإمبسون وريتشاردز ومن معظم (النقاد الجدد)، الجنوبيين. والجدير بالذكر أنني لا أقصد القول بأن هؤلاء النقاد كانوا رجالاً إقليميين أوذوي تفكير محلي، بل القول بأنهم كانوا يرتأون أن كل ماهو خارج العالم الأنكلو/ ساكسوني يجب تجييره لصالح الغايات الأنكلو/ ساكسونية. فحتى ت.س. إليوت، الذي كان إلى حد كبير أعظم ناقد عالمي في تلك الآونة حتى مطلع عقد الستينات (1960)، كان يرى في شعراء أوربيين من أمثال دانتي وفيرجيل وغوته حماة القيم الأنكلو / ساكسونية كالملكية التي كانت بمثابة موروث متواصل لا ثوري، وكفكرة دين وطني. وهكذا فإن الهيمنة الفكرية لإليوت وليفز وريتشاردز و(النقاد الجدد)، تتزامن لامع عمل أقطاب كجويس وإليوت نفسه وستيفنز ولورانس وحسب، لا بل ومع تطور جاد و مستقل للدراسات الأدبية في الجامعة، تطور أضحى بمرور الزمن مرادفاً "للعنجهية الإنكليزية"، كموضوع ولغة وموقف.
وفي أحسن أحوالها وجدت "العنجهية الإنكليزية"، في لوينيل تريلينغ و.و.أ ويمات وروبن براور، وفي حفنة ضئيلة من الناس الآخرين، تشكيلة متباينة من المدافعين عنها، وتشكيلة بارزة على شيء عميق جداً من الذكاء والإنسانية، بيد أنها تعرضت للتحدي -قبل بروز الزهو الفرنسي بزمن طويل - جراء أمرين اثنين أولهما داخلي وثانيهما خارجي. "فالعنجهية الإنكليزية"، لم تفض داخلياً إلا إلى إيديولوجيا ضمنية، وإلى مناهج ليست قابلية توصيلها من السهولة بمكان، الأمر الذي كان مرده ثمة أسباب معقدة إلى الحد الذي يفرض على المرء، إن حاول وصف الموقف الذي كان سائداً وقتها، أن يخوض غمار أمور كالتقزز من الستالينية والحرب الباردة ومراوغة النظرية،واقتران القيم والالتزام، وحتى الأفكار، "بالأسلوب"، اقتراناً لا تاريخياً مباشراً ومنطوياً على مفارقة عجيبة. ولكن مايهمني هنا بهذا الخصوص هو ما نجم، على العموم، عن ذلك كله على الصعيد الفكري: أي ذلك النموذج من النقد المعتمد بالأساس على تنميق لا نهاية له. ففي ذلك المزاج النفسي المفاجئ الناجم عن المنافسة والتوسع والتالي لإطلاق سبوتنيك (Sputnik)، كان هنالك برامج لغوية شتى تستهدف ***** الأمن القومي وتحظى بالتمويل من مؤسسة (NDEA)، كما كان هنالك "العنجهية الإنكليزية"، التي زينت لنا "قوتنا"، كأمة دون إضافة شيء جوهري عليها. فالأطروحة الجامعية النموذجية انكفأت من رسالة بحث تاريخي مدروس دراسة جيدة إلى مجرد مقالة بالغة الدقة، فضلاً عن أن تلاميذ اللغة الإنكليزية صاروا تبّعاً لنقطة بعيدة جداً عما كان هاماً، ناهيك عن شعورهم بذلك. وأما الدور الذي صارت تلعبه الإنكليزية فما كان ليعدو، في أحسن الأحوال، دور الأداة (وهذا بوضوح، ماكان يدأب على مناهضته ريتشارد أوهمان ولويس كامبف في أواخر عقد الستينات)، على الرغم من أن من مارسوا ذلك الدور، من أمثال تريلينغ وآبرامز ويمات، كانوا محط النظر إليهم بإعادة توكيدات لا إيديولوجية على أن الأسلوب والدراسات الإنسانية والقيم إن هي بالفعل إلا من ذوات الشأن. فالنتيجة الخالصة لهذا كله كانت استيطان الترهل في الدراسات الإنكليزية، إذ مابعد المسافة التي يستطيع المرء أن يجتازها في هذه الظروف على درب التنميق ليس إلاه؟
كمثل عن الشأو الرفيع الذي كان بمقدور التنميق الأدبي بلوغه بهاء وحنكة كان هنالك نورثروب فراي، الذي يمكن جزئياً تعليل سطوع نجمه النظري المتألق على كل ميدان الدراسات الإنكليزية في عقدي الخمسينات والستينات بمناخ التنميق (الذي بجّله وعمقه في كتابه المعنون "بتشريح النقد")، وبطغيان الفراغ النظري/ التاريخي. وأما كمثل عن مدى اتساع هذا كله فتور ووهناً، كان هنالك كدس مكدس من تلك الصناعات الأدبية المختلفة (جويس، كونراد، باوند، إليوت)، التي لما يكن وقتها بوسعها البتة حتى أن تتظاهر بأنها جزء لا يتجزأ من المسيرة العامة باتجاه المعرفة، وهكذا بطريقة عجيبة لا بل ومربكة ربما، صارت الحداثة الأدبية تقترن أولاً لا بالحاضر وإنما بالماضي القريب كما أنها طفقت تكتسب المشروعية مراراً وتكراراً بشكل لا نهاية له، وصارت تقترن ثانياً بإنتاج تحبيك ثانوي متعذر فهمه عملياً لكتلة من الكتابات المقبولة عالمياً ككتابات أصيلة. ومن الجدير بالذكر أن هذه الكتلة ذات التحبيكات الثانوية -من مثل الكتابات الأدبية لدي مان- كان عرضة لفضوح معمياتها بادئ ذي بدء، وما كانت تحمل في الوقت نفسه أية أوهام عن نفسها، وكل ما كانته كان لا يعدو كونها ثانوية وغير ضارة وحيادية إيديولوجيا إلا ضمن القيود الداخلية لحرفة مكسوة بأكداس مكدسة من أكسية الاحتراف.
وأما التحدي الثاني "للعنجهية الإنكليزية"، فقد كان خارجياً، وهنا وجدت من المفيد استخدام ذلك المفهوم الذي يدور حول المنشأ الأجنبي، والذي كان جورج شتاينر أول من أشار إليه. وهنا مرة ثانية هنالك العديد من الأشياء الجديرة بالذكر ضمن هذا السياق،ومرة ثانية أيضاً أجد لزاماً علي أن أكون مقلاً واصطفائياً. فلقد توسعت سوق الكتب ذوات الأغلفة الورقية توسعاً هائلاً وتزايد معها عدد الترجمات من اللغات الأجنبية تزايداً دراماتيكياً، فضلاً عن التأثير التدريجي الذي تأثرته "العنجهية الإنكليزية"، بميادين خارجية كالتحليل النفسي والسوسيولوجيا والأنتروبولوجيا، ناهيك عن الأثر السائب المفلوش (وتحت رعاية مؤسسة NDEA بالمناسبة)، للأدب المقارن مع ما لازمه من مقام رفيع شديد الوطأة لنقاد أجانب متألقين من أمثال أورباخ وكورتيوس وسبيتزر، علاوة في الختام، على مايبدو الآن بأنه كان تدخلاً عرضياً مفيداً وأصيلاً تدخله في مشهدنا الأدبي النقد الأوربي الذي كان سائداً وقتها أولاً من خلال نقاد مقيمين بين ظهرانينا كدي مان وجورجز باوليت، ومن ثم من خلال تزايد أعداد النقاد الزائرين القادمين من بلدان أجنبية. والجدير بالذكر عند هذا المفصل أن الماركسية احتازت لها على حضور فكري صار يؤخذ بعين الاعتبار في سياق التحدي الخارجي الذي ينطوي عليه الاستيراد من الخارج.
وإلى حد ما أعلم فإن ذلك الصنف من الماركسية الذي كان قيد الممارسة أو الإعلان في الأقسام الأدبية الجامعية لا يدين إلا بقسط ضئيل جداً للحركة الراديكالية الأمريكية التي لاقت حتفها في عصر ما كارثي. فالماركسية الجديدة جاءت إلى هذه البلاد جزئياً كنتيجة للاهتمام بالنقد الفرنسي ومن ثم بمدرسة فرانكفورت، وجزئياً من جراء الموجة العامة للهيجان المعادي للحرب في الحرم الجامعية. لقد فعلت الماركسية فعلها على شكل اكتشاف مفاجئ وعلى شكل تطبيق مفاجئ أيضاً على المشكلات الأدبية. وأما نقاط ضعفها الأساسية فقد كانت تتمثل بالغياب النسبي لثقافة أو لموروث نظري ماركسي محلي متواصل لمؤازرتها وبانعزالها النسبي عن أي نضال سياسي ملموس.
وبين هذين التيارين كانت حاسمة التحديات الداخلية والخارجية للدراسات الإنكليزية - ولكن بطرائق محدودة جداً وحسب، مع العلم أن هذا القول يجسد شيئاً عويصاً فهمه. فخلال الهيجانات الكبيرة في الستينات(1960) عمدت المؤسسات الأدبية الأكاديمية، التي اعتادت أن تكون طيلة سنوات مصنعاً لإنتاج العقول والمقالات المصقولة إلى الرد على تلك الأوقات بمطلب العلاقة المباشرة. ولقد كان هذا المطلب يعني، في حقيقة الأمر، أن تعليم ودراسة الأدب يجب أن يبينا لنا بين الحين والحين الكيفية التي ترتبط بها الروائع الأدبية بالواقع المعاصر، أي أننا بقراءة سويفت أو شيكسبير بمقدورنا أن "نفهم"، وحشية الإنسان أو مقدار الإثم الكبير الذي تنطوي عليه سياسة التفرقة العنصرية. وأما أنا افليس لدي من التردد إلا أقله حين أقول إن ذلك التبجح الثوري الفارغ الكبير الذي تبجحته (جمعية لغة الحداثة)، لم ي*** معه إلا تغييرات تجميلية وحسب، وبأن تلك التغييرات لم تكن أدلة دالة على وجود إرادة التغيير لدى مختلف فصائل الدارسين ممن عقدوا العزم على ذلك، بل كانت أدلة على عمق ومرونة إيديولوجيا التزيين التي امتصت بمنتهى الفاعلية حتى هذا التحدي الجديد الذي كان ينطوي ضمناً على التطرف. فلقد كان هنالك، والحق يقال، نزعة عجيبة، بل ومرعبة أيضاً، في اللغة الطنانة لكل من الفريقين المتعارضين لإجهاز هذا الفريق على ذاك، في مؤخر الستينات ومقدم السبعينات. فالمفردات جنحت فجأة إلى مزيد من "التقنية"، ومزيد من "الصعوبة"، الذاتية، كما أن مماحكة بارثيز/بيكارد أعيد إحياؤها وحتى استنساخها في العديد من المجلات والمؤتمرات والأقسام الأدبية، ناهيك عن أن الطموح لبلوغ منزلة "المنظر الأدبي"، صار ضربة لازب “de rigeur” مع العلم أنه كان المركز المربح للعديد منا، والأمر الذي لم يكن له عملياً ثمة وجود بتاتاً في لوائح الأقسام الأدبية قبل مضي عشر سنوات. ولقد كان هنالك سعي حثيث للعثور على مشروعات وبرامج و"عقول"، وأحابيل متشابكة المعارف، مما جعل هذا كله ينيخ بكلكله على المرء إلى الحد الذي جعله لا يستطيع فيه أن يبحث في قصيدة من قصائد دون (Donne) دون أن يشير في الوقت نفسه إلى جاكوبسون، لا بل وربما حتى إلى المصطلحات اللاتينية في اللغات الأوربية، وعلى الأقل إلى الاستعارات والكنايات. وهكذا صار أمام المرء، من ناحية أولى، فظهر ثقافة فرعية جديدة حقيقية معارضة نظرياً للموروثات الأدبية الوطنية القديمة المكسوة بكساء المؤسسة في الأكاديمية، وصار أمامه، من ناحية ثانية، تلك الموروثات القديمة وهي تدافع عن نفسها، استنجاداً بالدراسات الإنسانية، والذوق وسداد الرأي وما شابه ذلك، ويبقى السؤال في هذه الأمثلة ما إن كان (حمد وحمدو)([1]) يختلفان فعلاً عن بعضهما بعضاً كل ذلك الاختلاف الكبير، وما إن كان أي منهما قد أنتج العمل الذي يبرر، في آن واحد معاً، فصاحة الأول العدوانية أو دفاع الثاني دفاعه الأخلاق المستميت.
إن مدار اهتمامي الوحيد ينصب على الجانب "اليساري" من ذلك الجدل، ونقطة بدئي الحقيقية تتمثل بملاحظتين اثنتين عن الشيء الذي لم ينتجه اليسار. فلاحظوا أولاً أنه في الدراسات الأدبية الأمريكية، في الربع الماضي من هذا القرن، لم يقم ثمة عمل واف في مضمار الدراسة التاريخية الأساسية مما يمكن نعته "بالرجعي". وأنا أستخدم هذا النعت الأخير كي أشير إلى مقارنة من نوع ما مع ما جرى في ميدان الدراسات التاريخية الأمريكية، وذلك في عمل وليامز وألبيروفيتز وكولكو، وفي عمل الكثيرين غيرهم. فحتى يكون هنالك تفسير فعال فيما يدعى بالمعرفة التاريخية يجب أن يكون هنالك أيضاً، بعد كل ماجرى قوله وفعله، تاريخ فعال وعمل أرشيفي فعال وانهماك فعال في المادة الفعلية للتاريخ. إن العمل الفردي للأدب يوجد بالتأكيد إلى حد معقول بفضل بناه الشكلية، ويفصح عن نفسه بواسطة نشاط أو قصد أو طاقة أو إرادة شكلية. بيد أنه لا يوجد من خلال تلك الأشياء وحدها وحسب، ولا يمكن إدراكه وفهمه شكلياً ليس إلا. ومع ذلك فإن الدراسات الأدبية استسلمت في معظم الأحوال، حتى في نسختها الماركسية، لغياب نسبي للبعد التاريخي. فالبحث التاريخي عن اليسار خضع للتحييد جراء التصور القائل أن التفسير يعتمد إلى أقصى الحدود على المنهج أو الفصاحة، وكأن أياً من الشيئين هو الذي يدل بوضوح على الجدارة والعظمة المستقلتين للمنظر الأدبي، وعلاوة على ذلك فإن الاهتمام الشامل بالمعرفة الصدامية (أي تلك المعرفة الموجودة أساساً لتحدي وتغيير الأفكار المستوردة والمؤسسات الحصينة والقيم المشكوك فيها)، قد أذعن لسلبية الصقل اللا تاريخي الذي جرى على الأمور المسلم بها بداهة والمقبولة، والأمور المحددة سلفاً قبل أي شيء آخر. إن المرء ليفتش هنا وهناك وهنالك ولا يعثر إلا على بضعة بدائل للموقف الذي يحاول أن يبرهن على الكيفية التي ليس بوسعك فيها، مثلاً، أن تجيد فهم رواية "صديقنا المشترك" إلا إذا زدت من نظرتك إليها بأنها لا تعدو أن تكون بحد ذاتها رواية، الأمر الذي يعني تعميق دراستك لها كمثل ممتاز عن نظرية متشابكة. بمتهى الأحكام حول فن السرد الروائي الذي شروط إمكانية قراءته وقوته تعتمد على القواعد الشكلية للنحو والصرف، وعلى التجريدات النشوئية والبنى الفطرية، وهنالك عنصر معين من المحاكاة الساخرة في وصفي هذا، ولكن هنالك أيضاً شيء من الدقة فيه.
وأما الملاحظة الثانية فتكمن في الوجه الآخر للعملة، أي أن الدراسات الأدبية عن اليسار، بدلاً من أن تنتج عملاً يتحدى أو ينقح السائد من قيم ومؤسسات وتقييدات، تمادت أكثر من اللزوم في حقيقة الأمر في تعزيز تلك الأمور. وهذا الشيء أخطر من سابقه بكثير من عدة وجوه.

مامن مجتمع من المجتمعات المعروفة للتاريخ البشري كان له أي وجود بتاتاً بمعزل عن تحكم القوة والسلطة به، ناهيك عن أن أي مجتمع يمكن تقسيمه، كما يدأب غرامشي على القول، إلى طبقتين متشابكتين من حكام ومحكومين. وليس هنالك شيء ثابت بخصوص هذه التصورات الأساسية، إذ إن كان بمقدورنا أن نعتبر المجتمع بأنه توزيع ديناميكي للقوة والمواقع يجب أن يكون بوسعنا أيضاً أن نعتبر فئتي الحكام والمحكومين فئتين بالغتي التعقيد وبالغتي التعرض لتبادل المواضع. وإذا اقتصرنا الآن على استخدام مصطلحات غرامشي، يمكننا تقسيم المجتمع إلى طبقتين ناشئة وتقليدية. وإلى قطاعين مدني وسياسي، وإلى تبّع وسادة، وإلى قوتين طاغية وتنفيذية رسمية. ومع ذلك فإن مايكمن خلف هذه الفاعلية بقضها وقضيضها هو على الأقل فكرة ما، أو زمرة من الأفكار، وعلى الأكثر مجموعة من الوكالات ذوات النفوذ التي تستمد قوتها من الدولة. فالحقيقة المركزية للقوة والسلطة في التاريخ الغربي هي، منذ نهاية عصر الإقطاع على الأقل، وجود الدولة، وعلينا أن نقول كما أتصور أننا كي نفهم لا القوة وحدها بل والسلطة أيضاً -التي هي بمثابة فكرة أكثر تشويقاً وتبايناً من فكرة القوة -علينا أن نفهم في الوقت نفسه تلك الطريقة التي تتأتى فيها أية سلطة في المجتمع الحديث من وجود الدولة إلى حد ما.
إن الثقافة والتشكيلات الثقافية والمفكرين يوجدون، إلى حد كبير، بفضل شبكة شيقة جداً من العلاقات مع قوة الدولة تلك القوة المطلقة تقريباً، وعن هذه المجموعة من العلاقات علي أن أقول تواً أن كل النقد اليساري المعاصر، من ذلك النوع الذي يدور بحثه عنه، أصم أبكم إلى حد مذهل في أغلب الأحيان. ولكن هنالك بعض الاستثناءات لهذه المقولة، إذ فوكو يمثل استثناءاً، وكذلك كل من أوهمان وباولنتزاس، مع العلم أن المرء ليتعذر عليه الإتيان بأسماء النقاد الآخرين ممن نقدهم يتناول هذا الأمر على نحو مباشر. بيد أن المقولة المناقضة للمقولة السابقة تماماً هي أن كل من ينتج دراسات أدبية أو فكرية لا يأخذ في حسبانه الحقيقة التي مفادها أن كل العمل الفكري أو الثقافي يحدث في مكان ما، وفي زمان ما، وعن ميدان ما مرسوم، ومرخص بمنتهى الدقة أسير احتواء الدولة له في خاتمة المطاف. ولقد بادرت الناقدات إلى افتتاح هذه المسألة إلى حد ما، غير أنهن لم يستكملن الشوط حتى نهايته. فلئن كان صحيحاً، بناء على نظرية الفن للفن، أن عالم الثقافة والإنتاج الفني له استقلاله الخاص به، بعيداً عن انتهاكات الدولة والسلطة، يجب علينا حينئذٍ أن نبقى على أهبة الاستعداد لتبيين كيفية الحصول على ذلك الاستقلال وتبيين كيفية الحفاظ عليه، وهذا أهم من سابقه، وبكلمات أخرى فإن العلاقة بين علم الجمال وسلطة الدولة تتوطد في كلتا الحالتين: في حالة الاعتماد المباشر، وفي حالة الاستقلال التام مع العلم أن هذه الحالة أقل احتمالاً من سابقتها بكثير.
وأما الإحساس الذي يخالجني الآن بأنني أضطلع بعبء نطاق واسع من الخبرة التاريخية، لا بل وأوسع مما ينبغي بكثير، لإحساس يعمقه التيقن أن الخطاب الثقافي أو النظري أو النقدي لا يوفر اليوم لي أية مفردة ولا أية لغة توثيقية أو مفهومية، ولا يوفر لي، وهذا أقل من السابق بكثير، أية كتلة ملموسة من التحليلات المخصصة، ابتغاء الإفصاح عن نفسي. إن عبقريتنا النقدية مصوغة، في أغلب الأحوال، بفعل التحليل الخبيث الذي يأتي به ذلك التخم الأصم الذي يعزل، مثلاً، الخيال عن الفكر والثقافة عن القوة والتاريخ عن الشكل، كما يعزل النصوص عن أي رسم إضافي (hors****e)، وهلم جرا، ومن الجدير بالذكر أننا نسيء استخدام فكرة كينونة المنهج، فضلاً عن وقوعنا في فخ الاعتقاد أن المنهج هو الرائد وأن من الممكن له أن يكون نظامياً دون الإقرار في الوقت نفسه بأن المنهج يشكل على الدوام جزءاً من طاقم معين من العلاقات برئاسة وتحريك السلطة والقوة. ولئن كانت كتلة الموضوعات التي ندرسها - الكتلة التي تشكلها أعمال الأدب- تنتمي إلى مفاهيم الأمة والقومية، وحتى العرق، وتكتسب تلاحمها منها وتنبثق عنها بمعنى من المعاني، فلن يكون في الخطاب النقدي المعاصر إلا النزر اليسير الذي يجعل من هذه الوقائع موضوعات بحثها أمر ممكن. وأنا لا أنوي هنا الدفاع عن نوع من اللغة النقدية الاختزالية التي يتمحور أساسها المنطقي على الفرضية المؤكدة إلى مالا نهاية من أن "الأمر كله سياسي"، كائناً ما كان يعنيه المرء بكلمة "الأمر، أو كله، أو سياسي"، ولكن مايخطر على بالي هو ذلك النوع من التعددية التحليلية كما اقترحه غرامشي للتعامل مع كتل ثقافية/ تاريخية، المتعمدة بالعالم الذي يعيشون فيه وبالقيم التي ينخرط عملهم من خلالها بالتاريخ، لا يرون بأنهم أنفسهم يشكلون تهديداً لأي شيء، إلا لبعضهم بعضاً في أرجح الظن. فهم بالتأكيد مطواعون كما كان ديدنهم مذ صارت عبادة الدولة بمثابة الزي الدارج، كما أن من المؤكد أن انصرافهم الخنوع للروائع الأدبية والثقافية والنصوص والهياكل المثبتة بمنتهى البساطة في "نصوصهم"، هم لأداء وظيفة المشروعات الناجزة أيضاً، لا يشكل تهديداً للسلطة أو لتلك القيم التي يعمل المدراء التكنوقراطيون على ديمومة رواجها وتداولها.
ولكن ماهوعملياً، بعبارات أدق، دور الوعي النقدي الحديث لدى النقد المعارض؟ إن الخلفية المرتبطة بصلب الموضوع، بوجيز العبارة، هي كما يلي: ثمة كلمات كالثقافة والمجتمع. كما بيّن ريموند وليامز، لم تحظ بمدلول واضح ملموس إلا في العهد الذي أعقب الثورة الفرنسية ليس إلا. فقبل ذلك العهد حددت الثقافة الأوربية هويتها بشكل قاطع ككل على أنها شيء مختلف عن المناطق والثقافات غير الأوربية من تلك التي أنيطت بها قيمة سلبية في أغلب الأحوال. ولكن إبان القرن التاسع عشر توشحت فكرة الثقافة بوشاح وطني وطيد الأركان، وأدت إلى نتيجة جعلت شخصيات كما ثيو آرنولد توحد بين الثقافة والدولة ذلك التوحيد الفعال. فواقع الحال بالنسبة للنشاط الجمالي أو الثقافي هو أن إمكانيات وظروف إنتاجه تحوز على سلطانها بفضل ما دعوته بالتقرب، أي بفضل تلك الشبكة المستترة من الترابطات الثقافية الفريدة بين الأشكال والمقولات وغيرها من المحبوكات الجمالية من ناحية أولى، وبين المؤسسات والوكالات والطبقات، والقوى الاجتماعية غير المتبلورة، من ناحية ثانية. إن التقرب كلمة فضفاضة إلى الحد الذي يتيح لها أن توحي بأنواع الطواقم الثقافية التي يبحثها غرامشي في المقطع الذي استشهدت به سابقاً. وإلى الحد الذي يسمح لنا فيه، في الوقت نفسه، أن نتذكر المفهوم الجوهري للهيمنة التي توجه النشاط الثقافي والفكري عموماً، أو التحبيك ككل.
هيا واسمحوا لي الآن أن أشير إلى الأهمية الكبيرة التي تنطوي عليها هذه الفكرة بالنسبة للنشاط النقدي المعاصر. إن التقرب ، كمبدأ تأويلي عام، يخفف بعض الشيء، في المقام الأول، من غلواء تلك النظريات السطحية التي تحدثت عن التشاكل والقرابة، والتي ابتكرت الميدان الطوباوي المتجانس التكوين للنصوص التي لا ترتبط إلا بنصوص أخرى ارتباطاً تسلسلياً ومحكماً وفورياً. والتقرب، بالمقابل، هو الشيء الذي يمكن نصاً من أن يحافظ على نفسه كنص، وما هذه الحقيقة إلا بالحقيقة المستورة بسلسلة من الملابسات: كمنزلة الكاتب واللحظة التاريخية وظروف النشر والانتشار والتلقي، والقيم المعتمدة، والقيم والأفكار المنحولة، وشبكة من أي لرؤية الثقافة والفن في انتمائها لا إلى نوع من الأثير السائب الذي تذروه الرياح في الفضاء أو إلى نوع من الميدان المحكوم بمنتهى الصرامة أو بحتمية حديدية، بل في انتمائها إلى مسعى فكري واسع -إلى منظومات وتيارات فكرية- مترابط بطرائق معقدة لفعل الأشياء، لإنجاز بعض الأشياء المعينة، للقوة، للطبقة الاجتماعية والإنتاج الاقتصادي لنشر الأفكار والقيم والصور الدنيوية، وإذا وافقنا مع غرامشي على أن المرء ليس بوسعه أن يقلص على هواه الدين أو الثقافة أو الفن إلى وحدة وتلاحم، لكان علينا عندئذٍ أن نستكمل الشوط مع الفرضيات التالية لصالح الدراسة والبحث الإنسانيين:
إن الشيء الذي يجب....شرحه هو الكيفية التي يتصادف بها في كل العصور تواجد عدة منظومات وتيارات للفكر الفلسفي، وكيفية توالد هذه التيارات، وكيفية انتشارها، والسبب الذي يجعلها تتبعثر في تلك العملية فوق خطوط معينة، وفي اتجاهات معينة. إن حقيقة هذه العملية تتواصل لكي تبين مدى ضرورة تنظيم المرء لحدسه عن الحياة والعالم بطريقة نقدية متلاحمة ونظامية، وضرورة تحديده الشيء الواجب فهمه بكلمة "نظامية" على وجه الدقة، كيلا تؤخذ بمعناها الأكاديمي المتحذلق. بيد أن هذا التحبيك يجب إنجازه في سياق تاريخ الفلسفة، ولا يمكن إنجازه إلا في ذلك السياق، وذلك لأن هذا التاريخ هو ما يبين الكيفية التي انحبك بها الفكر عبر القرون ويبين عمق الجهد الجماعي المبذول لتحقيق المنهج الراهن للفكر- ذلك المنهج الذي صنف واستوعب كل هذا التاريخ الماضي، بما فيه من حماقات وأخطاء. إن الواجب يقضي، في الوقت نفسه، عدم إهمال هذه الأخطاء ذاتها وذلك لأن المرء، مع أن تلك الأخطاء جرت في الماضي وتعرضت من ثم للتصحيح، لا يمكنه أن يكون متأكداً من أنها لن تجري مجدداً في الزمن الحاضر وتستدعي التصحيح مرة ثانية(3).
لقد أوردت الجملة الأخيرة لا لأنني موافق عليها، بل لأنها تعبر عن ذلك الجد التعليمي الذي كان يؤمن به غرامشي، والذي كان يرى فيه وجوب إجراء البحث التاريخي كله بمقتضاه. ولكن هذه النقطة الأساسية هي بالطبع ذلك التبصر الإيحائي، بما مفاده أن الفكر يكون قيد الإنتاج كي يكون من الممكن إنجاز ثمة أشياء، وبأنه يكون موضع الانتشار لكي يكون فعالاً ومقنعاً وقوياً، وأن مقداراً عظيماً من الفكر ينحبك حول ماهو نسبياً عدد قليل من الأفكار التوجيهية الأساسية. ولكن الجدير بالذكر هنا أن مفهوم التحبيك مفهوم عويص. فبالتحبيك يقصد غرامشي أمرين متناقضين ظاهرياً في حين أنهما متكاملان عملياً. أولاً: أن تحبك يعني أن تصقل، أن تستنبط (e-laborare) فكرة ما مسبقة أوفكرة أقوى، أن تؤيد وجهة نظر دنيوية. وثانياً: أن تحبك يعني شيئاً أكثر إيجابية نوعياً، أي الافتراض بأن الثقافة نفسها أو الفكر أو الفن لامتداد للواقع السياسي، وامتداد بالغ التعقيد وشبه مستقل وله، مع التسليم بداهة بالأهمية الاستثنائية التي يخلعها غرامشي على المفكرين والثقافة والفلسفة،عمق وتعقيد وقيمة دلالية/ تاريخية على قوة بالغة إلى الحد الذي يجعل السياسة أمراً ممكناً. فالتحبيك هومركب الأنماط التي تيسّر للمجتمع أن يحافظ على نفسه. إن غرامشي يجعل من التحبيك، بعيداً عن الانحدار بسمعته إلى منزلة الحلية، السبب نفسه لقوة ما يدعوه بالمجتمع المدني الذي يلعب في الغرب الصناعي دوراً لا يقل أهمية عن المجتمع السياسي. وهكذا فإن التحبيك هو المسعى الثقافي المركزي وهو، سيان نظر المرء إليه أم لم ينظر بأنه أكثر بقليل من الدعاية الفكرية لمصالح الطبقة الحاكمة. المادة التي تجعل من أي مجتمع مجتمعاً ما. فما التحبيك، بكلمات أخرى، إلا ذلك القسط العظيم من النسج الاجتماعي الذي تحدثت عنه جورج إليوت، في رواياتها الأخيرة، في حين أن التبصر الذي كان عليه غرامشي هو ما ساقه إلى التيقن بأن التبعية والتمزق والتبعثر والإنتاج مرة ثانية أمور كلها، شأنها شأن الإنتاج والخلق والإكراه والإرشاد، مظاهر ضرورية من مظاهر التحبيك.
إن بوسع المرء أن يشتط حتى إلى حد القول إن الثقافة -أي التحبيك- هي ما يعطي الدولة شيئاً تحكم من خلاله ومع ذلك فإن المسعى الثقافي،كما كان غرامشي حريصاً على القول في كل مكان، ماهو بالمتسق وماهو بالمتجانس التكوين خبط عشواء. فالعمق الحقيقي في قوة الدولة الغربية الحديثة هوقوة وعمق ثقافتها، وقوة الثقافة هي تنوعها، أي تعدد عناصرها التكوينية وتباينها. إن وجهة النظر هذه هي ما تميز غرامشي عن أي مفكرماركسي هام آخر تقريباً من مفكري عصره. وهو ذلك المفكر الذي لا تغيب عن بصره لا الحقائق المركزية العظيمة للقوة ولا كيفية تدفقها عبر شبكة كاملة من الوكالات العاملة بتوافق عقلاني، كما لا تغيب عن بصره تلك التفصيلات -المتناثرة والعادية واللا نظامية والمحتشدة- التي تستمد القوة منها ولابد بقاءها، والتي تعتمد عليها القوة ابتغاء قوتها اليومي. لقد فطن غرامشي. قبل فوكوبردح طويل من الزمن، لتلك الفكرة التي مفادها أن الثقافة تخدم السلطة وتخدم، في خاتمة المطاف، الدولة الوطنية، لا لأنها تمارس الكبت والإكراه بل لأنها توكيدية ويقينية ومقنعة. فالثقافة نتوج، كما يقول غرامشي، إلى حد أكبر بكثير من الإكراه الذي تحتكره الدولة، علاوة على أن هذه الحقيقة هي ما تجعل المجتمع الغربي الوطني مجتمعاً قوياً يتعذر فيه على الإنسان الثوري اختراقه والتغلب عليه. وبالنتيجة فإن المفكر ليس مماثلاً بالفعل لأحد أفراد قوة الشرطة، كما إن الفنان ليس مجرد داع لملاك المصانع الأثرياء. إن الثقافة مسعى مستقل ومتشح بوشاح الرأسمالية، الأمر الذي يعني بالفعل أن علاقتها بالسلطة والقوة شيء بعيد كل البعد عن الانتفاء.وهكذا يجب أن نكون قادرين على النظر إلى الثقافة كقوة تاريخية تمتلك الصور الخاصة بها، والصور التي تنجدل بتلك الصور الموجودة في الميدان الاقتصادي /الاجتماعي كي ترفع كلها عن أكتافها الدولة كدولة. فالتحبيك بلعبه دور المادة التي منها يجعل المجتمع من نفسه مشروعاً حياً متواصلاً، لا يعني إثبات وجوده على أنه هناك وحسب، بل يصبو لبلوغ منزلة الهيمنة التي يلعب فيها المفكرون ذلك الدور الذي يدعوه غرامشي بـ"خبراء إضفاء المشروعية".
وبما أنني أعتبر هذه الأفكار جوهرية فقد استمديتها من غرامشي لتكون موضع المقارنة مع الأفكار السياسية والتاريخية التي تروجها الآن النظرية الأدبية التصادمية أو الطليعية. إن ما دأبت على دعوته بالنقد "اليساري" المعاصر منهمك عملياً بمشكلات شتى ناجمة عن السلطة. من مثل إشكالية العودة إلى ماركس وفرويد وسوسور، ومسألة التأثر والتداخل النصي، ومسائل عدم الورود على البال (l’impensé) والأمور المعلقة في النقد التفكيكي، والإيديولوجي كعامل في الإبداع والانتشار الأدبيين. وفي كل هذه المعمعة قلما يصادف المرء دراسة جادة عن ماهية السلطة، لا فيما يتعلق بالطريقة التي تنتقل بها السلطة تاريخياً وآنياً من الدولة إلى مجتمع مستنقع بالسلطة ولا فيما يتعلق بالتحركات الفعلية للثقافة، ولا عن دور المفكرين والمؤسسات والمنشآت. وعلاوة على ذلك، فحتى لوكانت لغة بعض المجلات، من أمثال
Glyph, Critical InquiryDiacritics طافحة بآراء عن العمق والتطرف والتبصر، نادراً ما توجد فيها فقرةتتطرق للتحريض على ما يعوق الأفكار والقيم والانهماك، كما أن المرء لا يقع حتى بالمصادفة، فيما يتعلق بذلك الأمر، على القيام بمحاولة جادة لوسم الشيء الذي من المفروض بالنقاد التقدميين أن يقاوموه تاريخياً لا بلاغياً.وأما الانطباع الذي نحمله فهو أن الناقد الشاب لديه ولابدّ إحساس سياسي متطور جداً، ولكن أي فحص دقيق لهذا الإحساس يتكشف عن مضمون طريف اتفاقي لا يأتيه الإغناء لا من معرفة كبيرة عما تدور حوله السياسة والقضايا السياسية ولا من أية دراية متطورة جداً بأن السياسة شيء أكثر من حب أو بغض عقيدة فكرية تطغى في هذه الآونة على قسم من أقسام الأدب.

إن النقد اليساري المعارض،مع أخذ طاقته الكامنة بعين الاعتبار، لا يساهم إلا مساهمة طفيفة في المناقشة الفكرية الدائرة اليوم في مضمار الثقافة. فإفلاسنا فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وقد كانت فيما مضى مسألة فتانة، كفيل وحده بتجريدنا من حق انتمائنا للإنسانية، وأما فيما يتعلق بذلك التمييز الدقيق بين الفاشية والديكاتورية فلا تتوفر لنا حتى الرغبة في أن نحلل هذين المصطلحين تحليلاً لغوياً، فما بالك بالتحليل السياسي الذي رغبتنا فيه أقل من الرغبة السابقة بكثير. ومع ذلك فلا أبتغي الانحدار بقيمة ذلك التألق الذي تألقه بعض الشيء ذلك العصر الذهبي الذي مرّ به النقد الفني في العقود القليلة الماضية.وليس بمقدورنا إلا أن نقر بذلك بمنتهى الامتنان وأن نضيف في الوقت نفسه أن ذلك العصر كان موسوماً برغبة قبول عزل الأدب والدراسات الأدبية عن العالم. ولقد كان ذلك العصر أيضاً هو العصر الذي قلة منا فيه تفحصت الأسباب الموجبة لهذا التقييد، والعصر الذي تقبلت ضمناً أكثريتنا فيه الدولة وهيمنتها الصامتة على الثقافة، لابل وهلّلت لذلك، بدون حتى همسة احتجاج مؤدبة في مرحلة حرب فيتنام وفي المرحلة التالية لذلك.
إن خيبة أملي في هذا الواقع تنبع من القناعة بأن قدرتنا الفنية كنقاد ومفكرين كانت الشيء الذي أرادت الثقافة تحييده، ولئن ساهمنا نحن بهذا المشروع، ولربما عن غير دراية منا، فقد كان السبب خشخشة النقود. وفي حماستنا البلاغية للكلمات الطنانة من أمثال الفضيحة والتفجير والانتهاك والانقطاع، ما خطر على بالنا الاهتمام بعلاقات تلك الكلمات بالقوة الفاعلة فعلها في التاريخ والمجتمع، وحتى حين ادعينا أن نصية النص أمر يجب استكشافه إلى ما لا نهاية، كان ذلك الادعاء يشير إشارة غامضة إلى المؤامرات، إلى السلالات الخداعة المؤلفة كلها من كتب عريانة من تاريخها وقوتها. فالزعم الكامن خلف ذلك هو أن النصوص متجانسة التكوين بشكل جذري، في حين أن نقيض ذلك كامن في تلك الفكرة الوهمية “Laputan” العجيبة التي مفادها أن من الممكن اعتبار أي شيء، إلى حد ما، نصاً من النصوص. وأما النتيجة حتى الآن، بمقدار مايدور الاهتمام حول الممارسة النقدية، فهي أن التنميق الفردي في النقد وفي النصوص المدروسة من لدن الناقد يتعرض للتشذيب كرمي للتنميق وحسب، هذا في حين أن النتيجة الإضافية هي أن الكتابة تكون محط النظر إليها بأنها تتقصد عمداً هدف الإبعاد -إبعاد النقاد عن النقاد الآخرين وعن القراء وعن العمل المدروس.
إن السخرية الأخاذة التي ينطوي عليها هذا الانعزال الكئيب، مع التسليم جدلاً بالطريقة التي يتصورنا بها قادتنا السياسيون وكأننا جزء من الكهنوت الدنيوي في العصر الذي نعته باكونين "بعصر الذكاء العلمي"، في سبيلها إلى الترسخ، فثمة منشور من قبل لجنة ثلاثية في عام 1975 بعنوان "أزمة الديمقراطية"، مسح الحقبة التالية للستينات (1960)، بشيء من الاهتمام بمشاعر الجماهير حيال مطالبها ومطامحها السياسية، وكان المنشور الذي أفضى إلى بروز مشكلة ما يدعوه الكتاب "بيسارة الانقياد للحكومة"(governability)، وذلك لأنه صار من الواضح أن الشعب في معظمه لم يعد سهل الانقياد كما كان من قبل.(4). إن طبقة المفكرين تساهم في هذا الوضع بأمرين اثنين ناجمين مباشرة عن ذينك الصنفين من المفكرين الذين تنتجهم المجتمعات الديمقراطية المعاصرة في هذه الآونة. فهنالك من ناحية أولى التكنوقراطيون والمفكرون ذوو المنزع السياسي ممن يدعون، زوراً وبهتاناً، بالمسؤولين، وهنالك من ناحية ثانية المفكرون "التقليديون"، المحافظون على القيم والخطيرون سياسياً. إن الفئة الثانية هي التي من المفروض بنا أن نكون ضمنها، بناء على أي معيار معقول، وذلك لأن أفراد هذه الفئة هم المفروض بهم "أن يكرسوا أنفسهم للاستهزاء بالقيادة وتحدي السلطة وإماطة اللثام عن المؤسسات الوطيدة الأركان وتجريدها من لبوس المشروعية". ولكن المهزأة تتمثل في أن النقاد الأدبيين، نظراً للامبالاتهم
المزاعم المقبولة ضمناً بتوافق الآراء، وخلفية مفروغ منها بداهة، وهكذا دواليك ودواليك. وإن دراسة التقرب تعني، في المقام الثاني، دراسة وإحياء الروابط بين النصوص والعالم، أي تلك الروابط التي طمس معالمها التخصص ومؤسسات الأدب طمساً كاملاً تقريباً. إن كل نص ماهو إلا فعل من أفعال الإرادة إلى حد ما، بيد أن الشيء الذي استبقي بعيداً عن الدراسة المعمقة هو تلك الدرجة التي بلغها تجويز النصوص. وهكذا فإن إحياء شبكة التقرب يعني استجلاء الوشائج التي تبقي النص على أوثق ارتباط بالمجتمع والكاتب والثقافة، فضلاً عن تبيان المعالم المادية لتلك الوشائج بغية توشيحها بها من جديد. وأما في المقام الثالث فإن التقرب يحرر النص من انعزاله ويفرض على الدارس أو الناقد مشكلة الإحياء التاريخي للإمكانيات التي انبثق عنها النص، أو إعادة بنائها مرة ثانية. وهنا يكون المكان الذي يتاح فيه للتحليل العقلي وللجهد أن يضعا النص في علاقات تشاكلية أو حوارية أو تصادمية مع غيره من نصوص وطبقات ومؤسسات أخريات.
لاشيء من هذا الاهتمام بالتقرب -كمبدأ من مبادئ البحث النقدي وكمظهر، في الوقت نفسه، من مظاهر السيرورة الثقافية ذاتها -يستحق وقفة طويلة مالم يكن أولاً: وليد بحث تاريخي أصيل (وأقصد أن على النقاد أن يشعروا بأنهم أنفسهم يقومون بالاكتشافات، ويحيلون الأشياء غير المعروفة إلى معروفة)، وثانياً: تثبيته كان في خاتمة المطاف بهدف فهم وتحليل وتوكيد إدارة القوة والسلطة ضمن الثقافة. واسمحوا لي الآن أن أعبر عن ذلك على النحو التالي: نحن إنسانيون لأن هنالك شيئاً يدعى بالحركة الإنسانية التي تستمد مشروعيتها من الثقافة، ومن الثقافة أيضاً تُحظى بقيمة إيجابية. والشيء الذي يجب أن يكون محط اهتمامنا للتو هو تلك السيرورة التاريخية التي عمد بواسطتها الصميم المركزي للأيديولوجيا الإنسانية لإنتاج الاختصاصيين الأدبيين، الذي أوّلوا أن ميدانهم مقصور على شيء يدعى الأدب الذي أنيطت بمكوناته (بما في ذلك استئدابه "literarity") أولوية معرفية وأخلاقية وأنطولوجية. وهكذا فإن الناقد الأدبي، بانصرافه انصرافاً كاملاً لهذا الميدان، يعزز الثقافة والمجتمع الذين يفرضان تلك القيود تعزيزاً فعالاً، في الوقت الذي يقوي فيه هذا التعزيز المجتمعات السياسية والمدنية التي يكمن نسيجها في الثقافة نفسها. وأما ماينجم عن ذلك كنتيجة فهو مايمكن أن يدعى بمنتهى المنطق بتوافق الآراء توافقاً واسعاً: فتحليل الأعمال الجمالية الأدبية تحليلاً شكلياً مقيداً يضفي الصفة الشرعية على الثقافة، والثقافة تضفي الصفة الشرعية على المفكر الإنساني، والمفكر الإنساني يضفي الصفة الشرعية على الناقد، وهذا المشروع برمته يضفي الصفة الشرعية على الدولة. وهكذا فإن السلطة تصان بفضل السيرورة الثقافية، كما أن كل مايتعدى تزيين القوة محظور على الناقد المزيّن. وعلى هذا المنوال نفسه، كان صحيحاً أن "الأدب" كوكالة ثقافية زاد من تعاميه مؤخراً عن تواطؤاته الفعلية مع القوة. وما ذاك الوضع إلا بالوضع الذي نحن بأمس الحاجة لإدراكه.
هيا وتأملوا الكيفية التي جرى بها تكوين هذا الوضع خلال القرن التاسع عشر بواسطة الخطاب الثقافي: وهنا سرعان مايخطر على البال أناس من أمثال آرنولد وميل ونيومان وكارلايل و راسكين. فنفس إمكانية الثقافة قائمة على فكرة التزيين. وإن فرضية آرنولد القائلة أن الثقافة ماهي إلا أفضل مايقال أوما يتمخض عنه الفكر هي الفرضية التي تعطي هذه الفكرة شكلها المرصوص. فالثقافة أداة لتحديد واصطفاء وتوكيد بعض "أفضل" الأشياء أو الأشكال أو الممارسات، أو لتفضيل بعض الأفكار على غيرها، وهي بفعلها ذلك فإنها تنقل وتنشر وتجزّئ وتعلم وتطرح وتبث وتغري، وفوق كل هذا وذاك فإنها تخلق نفسها وتعيد خلقها من جديد كجهاز مختص لفعل تلك الأشياء كافة. والأهم من ذلك كله هو أن الثقافة، كما أعتقد، تصبح بمثابة الفرصة السانحة لذلك المشروع الكلامي المنكسر الذي علاقته بالدولة مفهومة دائماً، ومفهومة دائماً سراً إن تكرمتم وجوزتم لنا لحن القول. فالرواية الواقعية تلعب دوراً أساسياً في هذا المشروع، وذلك لأن الرواية -ما أن تتحول إلى شيء "أعجب" من ذي قبل بكثير في عمل جيمز وهاردي وجويس- هي التي تنظم الواقع والمعرفة بتلك الطريقة التي تجعلهما عرضة لتناسخ كلامي نظامي. إن تلبيس الرواية لبوس الواقعية بعيداً عن أي عالم ما يعني الإتيان بمعايير تمثيلية أو تصويرية مصطفاة من بين احتمالات عديدة. وهكذا فإن الرواية تسعى جاهدة كي تضم وتقرر وتؤكد وتسوّي وتطبّع بعض الأشياء والقيم والأفكار، ولاسواها. ومع ذلك ليس من الممكن رؤية أو إدراك أي شيء من كل هذه الأشياء مباشرة في الرواية نفسها، علاوة على أن المهمة الوحيدة لمعظم النقاد الشكليين المعاصرين صارت تتجسد اليوم في التأكد من أن ذلك الإفصاح الدقيق الرائع الذي تفصحه الرواية عن اصطفائيتها يبدو بمنتهى البساطة إما كواقعية من وقائع الطبيعة وإما كشكلية أنطولوجية مسلّم بها، لا كنتيجة للسيرورة الثقافية السوسيولوجية. فرؤية الرواية على أنها متعاونة مع المجتمع لكي تلفظ المنبوذين من الناس كما نعتهم غاريث ستدمان جونز، تعني أيضاً رؤية الكيفية التي تنجم بها الإنجازات الجمالية العظيمة للرواية -في ديكنز وإليوت وهاردي- عن تقنية ماتستهدف تصوير واقتناص الأشياء والناس والبيئات والقيم في علاقة تقرب مع المعايير الاجتماعية والتاريخية الدقيقة للمعرفة والسلوك والجمال المادي.
فالرواية، من أوسع المنطلقات، ومعها التيارات السائدة في الثقافة الغربية الحديثة، ليست اصطفائية وتوكيدية وحسب، ولكنها تمركزية وقوية أيضاً. وإن المدافعين عن الرواية يثابرون على توكيد دقة الرواية وحرية التصوير وماشابه ذلك، الأمر الذي يوحي مضمونه أن الفرص المفتوحة للتعبير أمام الثقافة لاحدود لها. وأما الشيء المقنّع والمعمّى خلف أمثال هذه الأفكار فهو بالتحديد تلك الشبكة التي تشد وثاق الكتّاب مع الدولة ومع امبريالية "ميتروبوليتانية" على نطاق العالم زودت الكتاب، وقتما كانوا يكتبون، من خلال التقنيات الروائية للسرد والوصف بنماذج ضمنية للتكريس والانضباط والمجاراة. وإن السؤال الذي يجب علينا أن نسأله فهو: لماذا ليس هنالك إلا نفر قليل جداً من الروائيين "العظماء" يتعاملون مع وقائع وجودهم الخارجية الاقتصادية والاجتماعية الكبرى -أي الكولونيالية والامبريالية- ولماذا يدأب نقاد الرواية، في الوقت نفسه، على إجلال هذا الصمت المهيب؟ ترى، ماهو الشيء الذي ترتبط به الرواية، ومعظم الخطاب الثقافي المعاصر. بمقدار مايتعلق الأمر بالموضوع نفسه، بصلة التقرب سيان في لغة التوكيد أو في بنية التكريس والنبذ والكبت والاختراق كما هو عليه الحال في وسم الشكل الجمالي الأساسي؟ وماهي الكيفية التي جرى بها بناء المبنى الثقافي على هذا المنوال الذي يفضي إلى كبح جماح الخيال ببعض الطرائق، وإلى إطلاق العنان له بطرائق أخرى؟ وماهي الكيفية التي يرتبط بها الخيال بأحلام وبناءات ومطامح المعرفة الرسمية، والمعرفة التنفيذية والمعرفة الإدارية؟ وماهي، ياترى، كتلة المصالح المشتركة التي تنتج كونراد وكتباً مثل كتاب س.ل. تامبل المعنون بـ "الأعراق المحلية وحكامها"؟ وإلى أي مدى ساهمت الثقافة في أسوأ تجاوزات الدولة، بدءاً من حروبها الامبريالية ومستوطناتها الاستعمارية وانتهاء بمؤسساتها التي تبرر لنفسها ذاتياً ممارسة القمع اللاإنساني والبغضاء العرقية والاستغلال السلوكي والاقتصادي؟
مامن شيء كنت أحاول قوله في هذه العجالة هنا يوحي ضمناً باختراق العمق الخصوصي للتحف الثقافية الفردية، أو باختزاله وعزوه إلى القوى اللاشخصية التي من المفروض أن تكون هي المسؤولة عن إنتاج تلك التحف فدراسة التقرب الثقافي تستلزم فهماً دقيقاً لخصوصية الأشياء لابل، وهذا الأهم حتى، لأدوارها العقلية أيضاً، علماً أن أيهما لايمكن إيفاءه حقه المناسب لا بالاختزال ولا بالتزيين اليقيني. وإني لأظن بأن النزعة المادية الثقافية، وهي المصطلح الذي أطلقه ويليامز، تناسب الموقف الميثودولوجي الذي أحاول وصفه. إن النقد الأدبي الأمريكي بمقدوره أن يتستر على انعزاله المشروع اجتماعياً والمفروض ذاتياً ولو إلى حد ما، بخصوص التاريخ والمجتمع على الأقل. فهنالك عالم بأسره قيد الاستغلال لإجراء الأسباب الحكومية المزعومة وحدها وحسب بل وجراء مختلف صور النزعة الاستهلاكية اللاتاريخية التي يبشر تقوقع نزوعها العرقي واستفحال أكذوبتها بإفقار واضطهاد معظم أرجاء المعمورة. وإن مايفتقر إليه النقد المعارض المعاصر لايتمثل بذلك النوع من الأفق الموجود في المنهج التمديني للثقافة والمجتمع لدى جوزيف نيدام ليس إلا، بل ويتمثل أيضاً بغياب شيء من الإحساس بالاهتمام الجاد في عمليات التقرب الجارية من حولنا على قدم وساق، سواء أكنا نقرها أم لا. ولكن هذه الأمور، بالشكل الذي مافتئت أقوله مراراً وتكراراً، لأمور على علاقة، بالمعرفة لا بالتزيين. وختاماً يخامرني الشك في أن أكثر سؤال ملحاح يتوجب طرحه الآن هو ما إن كنا ننعم حتى اليوم بنعمة الخيار بين الاثنين%


nnn



9- النقد بين الثقافة والمنظومة



بين نوع من أنواع التأويل، وليكن ذلك النوع الذي يأتي به عالم لغوي في إعادة بنائه قواعد لغة بائدة، وبين نوع آخر أكثر إبداعاً بمنتهى الوضوح، وليكن ذلك النوع الذي يتضمن تأملات عن شخصية ديكنز ككاتب من أبناء الطبقة الوسطى في العصر الفيكتوري، هنالك تشابهات أكثر مما هنالك اختلافات. وإن هذه التشابهات تنبثق عن التلوث المحتوم الذي يتلوثه ذلك الشيء الذي من المفروض به أن يكون معرفة إيجابية وطيدة الأركان -عن التلوث الناجم عن كل ماهو بشري من تأويل وتوهم وتعمد وتحيز، ألا وهي تلك الأمور المغروسة كلها في الجبلة البشرية، في الظرفية البشرية، في النزوع منزعاً دنيوياً. فلقد تكشف لنيتشه وماركس وفرويد، كل بطريقته الخاصة، أن أمثال تلك الخطوات المأمونة بتوضوح في إنتاج المعرفة كجمع الأدلة وترتيبها، أو قراءة نص ما وفهمه، تشتمل كلها ضمناً على درجة عالية جداً من الشطط التأويلي الذي لايخضع للعقلانية والانضباط العلمي بمقدار مايخضع لتوكيد الإرادة والتأمل العشوائي الظالم (والظليم). وهكذا لم يبق أمام النقاد حينئذ إلا خطوة قصيرة لسوق الدليل على أن السؤال عما كان يعني النص نفسه صار عويصاً بعد أن كان سابقاً سؤالاً بسيطاً. إن ميشيل فوكو ليطرح هذه الأسئلة عن الكيفية التي نستطيع بها عملياً أن ننظر إلى هذا العوص على شكل سلسلة من الخيارات المربكة التي يجب، بناء عليها، اتخاذ القرارات الإبيستبمولوجية:
وماهو أبسط، للوهلة الأولى، من محاولة الوصول إلى قرار عما تعنيه الأعمال الكاملة (oeuvre) لكاتب ما؟ ألا وهي مجموعة النصوص التي يمكن تحديدها باسم واحد من أسماء العلم. ولكن هذا التحديد (حتى لو تنحت جانباً مشكلات العزوة) ليس مهمة متجانسة التكوين: فهل اسم كاتب مايحدد بالطريقة نفسها نصاً نشره تحت اسمه، أونصاً نشره تحت اسم مستعار، أو نصاً آخر وجد بعد مماته على شكل مسودة ناقصة، أو نصاً آخر لايعدو
كونه مجرد مجموعة من المذكرات الوجيزة، أو مفكرة ليس إلا؟ إن تثبيت الأعمال الكاملة يفترض سلفاً عدداً من الخيارات التي يصعب تبريرها أو صياغتها حتى: فهل يكفي أن يضاف على النصوص المنشورة من لدن الكاتب نصوصاً غيرها كان ينتوي نشرها وظلت على نقصانها وقت مماته؟ وهل يجب على المرء أن يضيف كل مسوداته الأولية والتمهيدية بكل مافيها من تصحيحات وتشطيبات؟ وهل يجب على المرء أن يضيف تلك المسودات التي استغنى عنها هو نفسه؟ وماهي المنزلة التي يجب إناطتها بالرسائل والحواشي وبالمحادثات المنقولة عن لسانه، وبالمدونات الواردة عما قاله على ألسنة أناس كانوا حاضرين وقتما قاله، وباختصار ماهي المنزلة التي يجب أن تناط بتلك الكتلة الهائلة من الآثار الكلامية التي يخلفها امرئ بعد مماته، والتي تلغو وتهذر حتى اللانهاية بلغات مختلفة وعديدة جداً؟... ولئن تحدث المرء، في واقع الأمر، ضبط عشواء وعلى غير هدى عن الأعمال الكاملة لكاتب ما، فما ذلك إلا لأنه يتصور أن الواجب يقضي تحديدها من خلال وظيفة تعبيرية معينة ... بيد أن من الواضح للتو أن مثل هذه الوحدة، التي لايمكن خلعها مباشرة على الأعمال الكاملة، ماهي إلا نتيجة لعملية ما، وماهذه العملية أيضاً إلا تأويلية (باعتبارها تحل في النص لغز شيء مدون يخفيه النص ويكشفه في آن واحد معاً)(1).
بيد أن الأمر لايقف عند هذا الحد وحسب، إذ إن هنالك سلسلة من الأسئلة المسبقة التي يتساءلها فوكو والتي يعتقد بأنها يجب أن تؤرق ولابد كل من يصدق أن الأعمال الكاملة مؤلفة من "تجزيء الكتاب تجزئياً مادياً" أو معتمدة على ذلك التجزيء، إذ حتى الوحدة المادية للكتاب مسألة تأويلية:
فهل الأمر نفسه في حالة مختارات من القصائد، أو في حالة مجموعة من النتف المنشورة بعد ممات الكاتب، أو في كتاب وازارغ المعنون بـ "بحث في المخاريط"، أو في مجلد من مجلدات "تاريخ فرنسا" لميشيليه؟ وهل الأمر هو نفسه في حالة قصيدة "ضربة نرد" لمالارميه، أو في محاكمة "جيل دو ري"، أو في "سان ماركو" لبوتر، أو في كتاب قداس كاثوليكي؟ أوليست الوحدة المادية للكتاب، بكلمات أخرى، وحدة هزيلة وثانوية بالقياس إلى الوحدة المنطقية التي تجد لها التعزيز بالوحدة المادية؟ ولكن هل هذه الوحدة المنطقية نفسها شيء متجانس التكوين وقابل للتطبيق باطراد؟ فرواية لستاندال ورواية لديستويفسكي لاترتبطان بعضهما ببعض بنفس صلة الفردانية التي تربط بين روايتين من مجموعة بلزاك المعنونة بـ "الكوميديا البشرية"... إن حدود كتاب ماليست مرسومة البتة بتلك الدقة المتناهية، إذ خلف عنوانه وأسطره الأولى وآخر نقطة في منتهاه، وخلف هيئته الداخلية وشكله المستقل، يكون الكتاب أسير منظومة من الأسانيد لكتب أخرى ونصوص أخرى وجمل أخريات: إنه مفصل واحد ضمن شبكة كاملة. وإن هذه الشبكة من الأسانيد ليست هي نفسها فيما يتعلق بمقالة رياضية أو تعليق نصي أوتقرير تاريخي، كما أنها ليست هي نفسها فيما يتعلق بحدث من الأحداث في سلسلة روائية، وذلك لأن وحدة الكتاب، حتى وهي في حالة زمرة من الصلات، لايمكن اعتبارها أنها هي هي في كل حالة من الحالات. فالكتاب بتلك البساطة ذلك الشيء الذي يمسكه المرء بكلتا يديه، وليس من الممكن له أن يبقى حبيس تينك الدفتين المتوازيتين الصغيرتين اللتين تحتويانه: إذ وحدته متقلبة ونسبية. وما أن يضع المرء تلك الوحدة موضع التساؤل حتى تفتقد الدلالة على ذاتها بذاتها، وذلك لأنها لاتدل على نفسها، لاتبني نفسها إلا على أساس ميدان خطاب مركب(2).
إن قليلاً من الباحثين العاملين في ميدان العلوم البشرية يتعبون أنفسهم جدياً بهذه الأسئلة، لا لأنهم كسالى أو أغبياء بمقدار ما لأن عملهم -كما يستفيض عمل فوكو نفسه في التوضيح- يدار كفاعلية متواصلة ضمن ميدان خطاب كان قيد التأسيس من ذي قبل. فمعظم الباحثين الأدبيين في هذه الأيام، مثلاً، لايولون الاهتمام الكبير للمنزلة، الإيبستيمولوجية للنصوص ولا حتى للكتاب الذين يكتبون عنهم. ولربما أن ذلك ليس واجباً عليهم باعتبار أن المكتبات والمجلات ونسخ الكتب الميسورة المنال والمؤسسات والتلاميذ والممارسة البيداغوجية، وقبل كل هذا وذاك، الباحثين الآخرين يسلمون بداهة برسوخ وطيد الأركان لكتاب وأعمال كاملة من أمثال شيكسبير أو روايات ويفرلي* أو "الرباعيات الأربع". والجدير بالذكر أن هذه النقطة ماهي بالنقطة التافهة لأن الخطاب المركب، ومثل من أمثلته يكمن فيما دعوته بالبحث الأدبي، يسلم جدلاً بتوافق الآراء على بضع نقاط جوهرية كشيء اقتصادي ومريح في آن واحد معاً. ففي دراسة سويفت، كما قلت آنفاً في هذا الكتاب، لايمكن أن يكون من الضرورة بمكان، في كل مرة تتناوله الكتابة، إعادة تفحص مصدر كل ماهو معروف عن سيرته أو تعديل المفهوم الناظم لأعماله الكاملة. وإن من المفروض بداهة أن هناك كاتباً يدعى سويفت، وأن أعماله تتألف من (قصة حوض وأسفار غوليفر واقتراح متواضع)، وأنه عاش في مطلع القرن الثامن عشر، وهلم جرا. وماهذه الأشياء كلها إلا بما يمكن أن ندعوه بالأفكار العامة الأولية وبالتخوم التي لايشعر الخبراء بشؤون سويفت أنهم مضطرون لتجاوزها. فالتخم موضع الفهم ضمناً، مع أنه نادراً ما يصاغ إلا بتلك الطرق التي سأبحثها لاحقاً، وماهو إلا نتيجة لعوامل عديدة: كتوافق آراء الخبراء في ميدان ما، وكتلة الكتابات السابقة، وإدارة التعليم والبحث، والأعراف الرائجة عما هو عليه كاتب أو نص ما، وهكذا دواليك.
وبما أن أمثال هذه التخوم موجودة في العلوم البشرية (حتى لو كان ذلك التزايد الهائل الذي تزايدته الصحف والكتب يثبت على مايبدو غياب الحدود كلها)، فهذا لايعني أن تحديدها يمكن أن يكون يسير المنال. وأحد أسباب ذلك واضح جداً. فنحن عموماً نفترض بداهة أن المعرفة عن الكائنات البشرية شيء لاينضب وشيء تراكمي، ولذلك يجب أن يكون من الممكن دائماً قول أشياء جديدة. ولئن كان ذلك ممكناً، فإن التخوم أو الحدود التي ترسم الخطوط العريضة لاختصاص من الاختصاصات حدود فضفاضة جداً، إن لم تكن وهمية. وإن كل من يحمل هذا الافتراض على محمل الجد سيكتشف بأنه طوباوي، حتى لو كان السبب يتمثل بالقول أن مايحدد شيئاً بأنه جديد فإنه يحدد، في الوقت نفسه، كل الأشياء الأخرى بأنها غير جديدة، وفي كلتا هاتين الحالتين لن يكون بوسع امرئ واحد الإتيان بأمثال هذه الأحكام، الأمر الذي يجعل أي إنسان عامل في ميدان ما يتقبل، جراء عملية تثاقف وتشابك مهني، ثمة معايير نقابية معينة ليصبح بالإمكان، بناء عليها، إجراء التمييز بين ماهو جديد وماهو غير جديد. ولكن هذه المعايير ليست بالطبع مطلقة، وليست أيضاً موضع إدراك تام. ومع ذلك فمن الممكن تطبيق تلك المعايير بمنتهى الصرامة، ولاسيما حين يشعر الإحساس النقابي الجماعي أنه نفسه عرضة للهجوم.
وعلى غرار ما أسلفت قوله في بحثي فكرة الأصالة، فإن مصطلحي الجديد وغير الجديد مصطلحان نسبيان جداً. ففي سياق الدراسات الأدبية لايشير هذان المصطلحان لا للابتكارات المقرونة بأصالة أو جدة كاتب "خلاق" (كالقول أن ديكنز كان أول روائي فعل كذا أوكذا) ولا لتأويلات النقاد الذين يظهرون، بطريقة من طرائق عديدة، أنهم أصلاء أوجدد. ومع ذلك ففي بحث إنجازات كاتب خلاق أو إنجازات ناقد ما، يعتمد مفهوما الإبداع أو الاتباع، في نفاذهما، الاعتماد الكبير على مدى الإقناع -أي على مهارة بلاغية معينة لإقناع جمهرة من القراء بهذه الأصالة- وعلى الحس السليم في الوقت نفسه (3). وإن أي امرئ قد يظن أن مقولة "رونالد فيربانك كاتب أفضل من جين أوستن" لمقولة مثيرة للسخط، في حين قد يكون من الممكن التساهل مع التعليق القائل أن سكوت كاتب أكثر أصالة من أوستن.
ولكن أمثال هذه التعميمات السهلة أقل براءة مما تبدو عليه. فخلفها وحولها وفي صميمها أيضاً، إن جاز مثل هذا التعبير، يقوم مركب كامل من التقييدات التي بعضها واضح وبعضها أغبش، بحيث يفعل فعله لاعلى ماقلته آنفاً وحسب بل وعلى كل مايكتبه أويقوله أي باحث. وأما التقييد الأساسي من بين هذه التقييدات فهو تلك الحقيقة المطلقة التي مفادها أنه مامن إنسان قادر على الإتيان بقولات عن كتلة من النصوص التي تدور عن ميدان عذري، وذلك لوجود حيز مرسوم سلفاً ومفتوح للباحثين الذين كل مابوسعهم فعله لايعدو إدراج عملهم ضمن سلسلة من أمثاله (شأنهم بذلك شأن الروائي الذي يجد أمامه عدداً من روايات أخرى ذات علاقة ما مع مايفعله) في ميدان بعيد كل البعد عن العذرة. ولذلك حتى نتمكن من تحديد الاحتمالات لمعرفة حقيقة في أحد الميادين، يجب أن يكون بمقدورنا أولاً أن نحدد لا ماهية تلك المعرفة وحسب أو ماقد تكونه بل والمكان الذي قد تندرج فيه، وماذا قد تفعل بخصوص كل ماسبقها إلى ذلك المكان (هل ستنقحه أم تؤكده أم تعدله)، وماهو الشيء المعاصر لها، والشيء الذي يرتبط بها في ميادين أخرى، وماهي العلاقة التي ستكون لها مع ماسوف يأتي بعدها (هل ستيّسر اكتشافاً آخر، هل ستصده، هل ستسدّ أفق ذلك الميدان، هل ستخلق ميداناً جديداً؟)، وكيف سيكون نقلها أو حفظها، وكيف سيكون تعليمها، وكيف ستقبلها أو تنبذها المؤسسات: وماهذه الأسئلة إلا بعض تلك الأسئلة التي تطرح نفسها. بيد أن السؤال الملحاح فمختلف قليلاً عما سبقه. ترى، ما الدور الذي يلعبه في هذه الأمور ذلك الشيء الذي دأبت على دعوته بالوعي النقدي؟ فهل على الوعي النقدي أو النقد (وأنا سأستخدم هذين المصطلحين ليعني الواحد منهما الآخر) بالأساس أن يأتي بالتبصرات عن الكتاب والنصوص، أي أن يصف الكتاب والنصوص (متناولاً سيرهم الذاتية وأعمالهم من منطلق نقدي ومستفيضاً بالتعليقات والشروح والكتيبات المتبحرة المختصة)، وأن يعلّم وينشر المعلومات عن الروائع الثقافية؟ أوهل عليه -وهذه مهمته على ما أتصور- أن يجهد نفسه بالظروف الفعلية التي تصبح المعرفة بناء عليها شيئاً ممكناً؟ ونحن، كي نرى ماهو الشيء الذي نستطيع معرفته من دراستنا النصوص، يجب أن يكون بوسعنا فهم وحدات المعرفة على أنها من وظائف النصية، الأمر الذي يجب أن يكون نفسه قابلاً للوصف بعبارات تتناول لا وكالات الثقافة بالأشكال التي اتخذتها لنفسها من خلال التاريخ والمؤسسات والسياسة والأيديولوجيا وحسب، بل تتناول أيضاً مستلزمات المنهج الواضح والشكل المادي للمعرفة -ذلك الشكل الذي، إن لم يكن مصدره مقدساً أو من خوارق الطبيعة، يجري إنتاجه في هذا العالم الدينوي.
ولسوف يبدو هذا كله، كمشروع نقدي، ضخماً وطموحاً إلى حد الاستحالة، في حين أن ماهو أسوأ من ذلك فهو ظهوره أيضاً. بمظهر الشيء الذي لايمت بأية صلة لما فعله تقليدياً أي دارس أو ناقد أدبي. وأما نقطة انطلاقي أنا فتكمن في ذلك الشعور العام، لابل والشعور النموذجي في رأيي، الذي شعره بعض النقاد حيال ابتعادهم عن التقاليد الراسخة للعمل الأدبي وللعمل الفكري على العموم. فالأزمة في الثقافة الحديثة أزمة بديهية نظراً لأن النقد فن، وفي الوقت نفسه، موضوع أزمة أيضاً. ولكن في الشكل الحاد المعاصر الذي تتخذه الأزمة والرد على الأزمة والذي أتعمق بدراسته هنا، هو أن مشكلة المعرفة، أي كيفية معرفتنا مانعرف، تلعب دور المشكلة المركزية.
وهأنذا الآن بودي دراسة ما أرى فيه أقوى ردين متبادلين على الأزمة. وهاتان الصيغتان هما الصيغتان المقرونتان باسمي جاك ديريدا وميشيل فوكو. ولسوف أبحثهما بإسهاب نقدي وتحليلي كمثلين عن محاولة تحويل المشكلات النصية في العلوم البشرية إلى توصيفات لعمليات المعرفة النصية. وعلاوة على ذلك سأسوق الأدلة على أن ديريدا وفوكو ماكانا يعتزمان وصف المعرفة وحسب بل وإنتاجها أيضاً إنتاجاً من ذلك الصنف الذي لايدخل في القوالب الجاهزة المعدة من قبل الثقافة السائدة ولا في كل تلك الأشكال التي يتنبأ بها ويلفقها منهج شبه علمي. وفي كلتا الحالتين، مع أن الواحدة منهما قد تكون مختلفة اختلافاً صارخاً عن الأخرى، هنالك جهد مقصود بغية إطلاق ثمة نوع من الاكتشاف النصي، ونوع رفيع التخصص، من أكداس مكدسة من المواد والعادات والأعراف والمؤسسات التي تشكل ضغطاً تاريخياً مباشراً. بيد أن الشيء الذي ينطوي على أهمية خاصة بالنسبة لي هو الكيفية التي يضع بها كل من ديريدا وفوكو عمله ضمن الحدود التي يفرضها ذلك التاريخ. وهكذا فإن أصالتهما لاتتكشف على أنها تكمن في غرابة مفرداتهما أو تقنياتهما بل في إعادتهما النظر والتفكير بتلك التقنيات.
ومن الصحيح الآن أن نقول بأن المرء ليصاب بالذهول لدى قراءة نقد بأقلام أناس من أمثال فوكو وديريدا، وذلك لأن الحقيقة تدل على أن نقداً من هذا النوع لايمكن أن يكون فرعاً من فروع الأدب المحض، إذ أن من العسير جداً على هذا النوع أن يكون على تلك الشاكلة، أو حتى أن يكون شكلاً رفيعاً من أشكال الشرح. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ر.ب. بلاكمور، وقد كان بلاكمور بالمناسبة ممثلاً عظيماً (للنقد الجديد) العتيد، لم يكن أيضاً على تلك الشاكلة حتى وهو في أفضل حالاته، مع أننا نميل إلى تناسي ذلك. فالغموض الذي يكتنف هذا النقد ومستلزماته التقنية ومحذوفاته لاتجعل منه فلسفة "مدرسة" جديدة، مع أن من الممكن له أن يتحول إلى معتقد رصين. ومع ذلك فيدعي هذا النقد بأنه، من حيث المبدأ، يقف على طرفي نفيض مع النقد التقليدي، على الرغم من تفريخه المؤسف ذلك العدد العديد من الأدعياء والأشياع الذين أعطوه أسوأ مظاهر المعتقد الرصين الذي لايمكن أن تحوم حوله الشبهات. وهكذا فإن النقد المعاصر جاء إلى الوجود لمجابهة مشكلات من النوع الذي تخلت عنه الفلسفة حينما استحال إلى ضرب من التقوقع والتحذلق الكلامي على غرار ماهو عليه في الموروث الإنكليزي الأمريكي. فالمشكلة التي تعتور اللغة ووجودها العويص والفريد لمشكلة مركزية بالنسبة لهذا النقد الذي تنطح للقيام بعبء إنتاج طراز من التفكير الذي يجب أن يكون، وهو في غمرة انهماكاته كما يقول فوكو: "معرفة وفي الوقت نفسه تعديلاً لما يعرفه، تأملاً وفي الوقت نفسه تحويلاً لنمط الوجود الذي يتأمل فيه"(4).
***
واسمحوا لنا الآن أن نبدأ بالإشارة إلى ذلك الاختلاف الكبير المدبّر على أوسع نطاق والمطبوع بطابع المبالغة من جراء النزاع الجدلي بين ديريدا وفوكو. إن موقفيهما النقديين متعارضان بناء على عدد من الأسس. ولكن الأساس الجدير بالاستفراد، على وجه التخصيص، في هجوم فوكو على ديريدا يبدو قميناً بالبحث أولاً ومفاده: أن ديريدا لا يولي اهتمامه إلا لقراءة النص وحسب، وأن النص ليس أكثر مما فيه بالنسبة للقارئ(5) فلئن كان ديريدا يرى أن أهمية النص تكمن في وضعه الحقيقي بما معناه بمنتهى البساطة أنه عنصر نصي دون أي أساس في أرض الواقع -وهذه هي وضعية الكتابة في مهب الريح "écriture en abîme" التي لما يتمكن النقد من معالجتها، والتي يتحدث عنها ديريدا في "الجلسة المشتركة- فإن فوكو يرى أن أهمية النص تستقر في عنصر قوة "pouvoir" مفاده استحقاق جازم للنص في أرض الواقع، حتى لو كانت تلك القوة خفية أو ضمنية. وهكذا فإن نقد ديريدا يدخلنا في قلب النص، في حين أن نقد فوكو يدخل بنا في النص ويخرجنا منه.
ومع ذلك لو تسنى سؤال فيكو وديريدا لما أنكرا أن مايوحد بينهما، أكثر حتى من ذلك الطابع التعديلي والثوري العلني الذي يطبع نقدهما، هو محاولتهما تبيين الشيء الذي يحجبه النص في العادة، ألا وهو مختلف الأسرار والقواعد والتلاعب الذي تتلاعبه نصية النص. فباستثناء كلمة واحدة ماكان فوكو، على ما أظن، ليبدي اعتراضه على تعريف النصية بشكل اعتباطي بعض الشيء كما ساقه ديريدا في مستهل مقالته المعنونة بـ "عقاقير أفلاطون" إذ قال: "لايمكن للنص أن يكون نصاً مالم يحجب عن أول متصفح له، ومنذ النظرة الأولى، قانون تأليفه وقواعد تلاعبه. وفضلاً عن ذلك يبقى النص عصياً على الإدراك بالعقل إلى أبد الآبدين. فقانونه وقواعده ليست حبيسة صندوق أسرار محال المنال، إذ إن واقع الأمر لايعدو ببساطة تعذر اقترانها بتاتاً، في الزمن الحاضر، بأي شيء مما يمكن القول عنه بدقة متناهية أنه مدرك بالعقل"(6)، ولربما أن الكلمة المعضلة هي "بتاتاً" الموصوفة من قبل ديريدا بمنتهى التحايل بشكل تفقد فيه شيئاً من قدرتها على التصدي، الأمر الذي سيفرض علي تجاهل توصيفات العبارة والحفاظ على جزمها القاطع. فالقول بأن مغزى النص وتكامله أمران محجوبان عن الأنظار يعني القول بأن النص يتستر على شيء ما، وهذا يعني بدوره أن النص يلمح، ولربما يعرض أيضاً، ويجسد ويمثل، بيد أنه لايفصح تواً عن شيء ما. وماهذا المذهب أساساً إلا مذهب المعرفة الروحية للنص، والمذهب الذي يوافق عليه فوكو وديريدا كل بطريقته الخاصة.
ولكن مشروع فوكو برمته، كما ساق فوكو لاحقاً حججه، اعتبر الأمر حقيقة واقعة، أي إن كان النص يتستر على شيء أو إن كان هنالك شيء حول النص محجوباً عن الأنظار، فإن من الممكن كشف هذين الشيئين وعرضهما ولو بشكل مغاير، وذلك لأن النص أصلاً جزء من شبكة القوة التي يتعمد شكلها النصي التعتيم على القوة تحت ستار النصية والمعرفة (savoir). وهكذا فقوة النقد الموازية تتمثل بإعادة النص إلى شيء معين من الوضوح. وعلاوة على ذلك: إذا كانت بعض النصوص تلبس لبوس نصيتها، ولاسيما تلك النصوص التي تبلغ آخر أطوار التطور المنطقي، لأن مصادرها في القوة كانت إما مدموجة في صلب سلطة النص كنص أو مطموسة، تكون مهمة الناقد المجتهد لعب دور الذاكرة الموازية للنص، بوضعه الشبكة حول النص، وأمامه في النهاية ليصبح بالإمكان رؤيته. إن ديريدا يعمل بروح على مزيد من نوع من أنواع اللاهوت السلبي(7). فكلما زاد من تشبثه بتلابيب النصية من أجل النصية ذاتها، تعاظمت تفاصيل الشيء غير الموجود هناك لفائدته - وذلك لأنني أعتبر أن مصطلحاته الأساسية من أمثال "انتشار، استكمال، عقاقير، ترخيصات، آثار" وماشابه ذلك، ليست مصطلحات لوصف "قناع البنية" وحسب، بل ومصطلحات شبه لاهوتية أيضاً تتحكم وتفعّل الميدان النصي الذي افتتحه عمله.
وعلى الرغم من ذلك فإن الناقد يتحدى، في كلتا الحالين، والثقافة وقواها المهيمنة بمنتهى الوضوح في النشاط الفكري، ألا وهو ذلك الشيء الذي يمكن أن ندعوه بـ "المنهج"، والذي يتنطح في تعامله مع النصوص إلى بلوغ منزلة العلم. إن التحدي مطروح بإيماءات ضخمة تشير إلى المفاضلة على نحو متميز، إذ في الوقت الذي يشير فيه ديريدا أينما كان إلى الميتافيزيك والفكر الغربيين، يشير فوكو في باكورة عمله إلى عصور وعهود ومعارف "epistemes" شتى، أي إلى تلك الكتل الكاملة التي تبني الثقافة السائدة على شكل مؤسسات طاغية. فكل طريقة من الطريقتين، طريقة فوكو وطريقة ديريدا، لاتحاول فقط تحديد هذه الكينونات المستهدفة بالتحدي، بل وتحاول أيضاً وبشيء من الإصرار نقض تحديداتها تلك، بالهجوم على رسوخ سلطان قانونها وتبديدها إن لاحت في الأفق أية بارقة أمل لذلك. وإن المقصود بعمل هذين الكاتبين كليهما هو استبدال استبداد وتوهم الإسناد المباشر -أي مايدعوه ديريدا بالحضور presence، أو بالمبهم مُحدّداً- بعطالة وحنكة النصية الموطودة الأركان فوق أساسها الخاص البالغ الشذوذ، وفي إصرارها المتطاول عند فوكو إلى حد بالغ. فنقض التحديد ونقيض المرجعية هما الرد المشترك على تلك العبقرية الوضعية positivist التي كان يمقتها ديريدا وفوكو كلاهما معاً. ومع ذلك كان في عملهما استنجاد دائم بالتجريبية، وبالمنظورية بكل مافيها من دقيق الفروق، مع الإشارة إلى أن هذين الأمرين مستقيان معاً على مايبدو من نيتشه.
ومن سخرية الأقدار أن يكون ديريدا وفوكو معاً موضع الاستجداء في هذه الأيام طلباً للنقد الأدبي، في الوقت الذي يدل الواقع فيه على أن أياً منهما لم يكن ناقداً أدبياً. فأحدهما فيلسوف، والآخر مؤرخ فلسفي. ومادتهما، من الناحية الأخرى، مادة هجينة على العموم: فهي شبه فلسفية وشبه أدبية وشبه علمية وشبه تاريخية، علاوة على أن وضعهما في العالم الأكاديمي أو الجامعي، على نحو مماثل، وضع متشابه. وإن ما أحاول جذب الانتباه إليه، على ما أظن، هو الشك الأساسي في عملهما حيال مايحاول فعله: فهل هو يحاول التنظير فيما يتعلق بمشكلة النصية أم أنه -وهذا شيء صارخ الوضوح في حالة ديريدا، ولاسيما منذ نشره مقالة "Glas"، غير أنه ملحوظ أيضاً في حالة فوكو- يأتي بنصية بديلة من عنديات كل منهما؟. وأما لاحقاً فأنوي أن أبحث المظهر التعليمي والمذهبي لعملهما، بيد أنني الآن أريد أن أقول ببساطة أن ديريدا قد حاول الإتيان، عند كتابه المعنون بـ "غراما تولوجيا" على الأقل، بذلك النوع الذي دعاه بالكتابة المزدوجة "écriture double" الذي يحرض نصفه الأول على قلب الهيمنة الثقافية التي يطابق ديريدا بينها وبين الميتافيزيك وسلاسله الهرمية، في حين أن نصفه الثاني "يتيح تفجر الكتابة في صميم الكلمة بحيث يؤدي هذا التفجر إلى تمزيق النسق المعهود برمته وإلى احتلاله مركز الصدارة"(8). فهذه الكتابة غير المتوازنة وغير الموازنة (decalée et decalante) يتقصد بها ديريدا أن تدفع الطية (pil) غير المنتظمة وغير المحسومة باعتراف الجميع والقائمة في عمله بين وصف النص الذي يفككه، وبين فرض النص الجديد الذي يجب الآن على قارئه أخذه بالحسبان. والأمر على الشاكلة نفسها في حالة فوكو، إذ إن هنالك "كتابة مزدوجة" (ولكنه ما هو بالنعت الذي يطلقه عليها) مقصود بها أولاً أن تصف (بالتمثيل) تلك النصوص التي يدرسها بأنها خطاب وأرشيف وقولات وهكذا دواليك، ومن ثم أن تطرح لاحقاً نصاً جديداً، نصه هو، يفعل ويقول ماطمسته النصوص الأخرى غير المرئية، كما أن فوكو يفعل ويقول ذلك الشيء الذي لن يفعله ويقوله أي إنسان غيره.
إن هذا التداخل النصي في كتابة كل من ديريدا وفوكو، والجاري قبل الكتابة وبعدها في أن واحد معاً، كان من تصميمهما لكي يبالغ في الفروق بين مايفعلانه ومايصفانه، بين عالم التمركز الكلامي وعالم الاستطراد من ناحية أولى، وبين المقالة النقدية التي يسوقها كل من ديريدا وفوكو من ناحية أخرى. وفي كلتا الحالتين هنالك ثقافة مسلم بها ومحط البرهان عليها مراراً وتكراراً، وإليها يصوبان سهام التجريد من التحديدات. إن تصويرهما لخصائص هذه الثقافة فياض بالطبع، ولكن بمقدار مايعنيني الأمر بهذا السياق فإن مظهراً واحداً لتلك الخصائص هو المعضل إلى أقصى الحدود.
ولنبدأ أولاً بفوكو. فكما يوجز لنا في كتاب "علم آثار المعرفة" وفي "مقالة عن اللغة" يقول بأن من المفروض بمنهج التنقيب الأثري أن يكشف عن الكيفية التي يهيمن بها الخطاب -الموضوعي والنظامي والأسير للتنظيم الرفيع بالصيغ اللفظية- على المجتمع والتي يتحكم بها بإنتاج الثقافة. ففرضية فوكو هي أن التعابير الفردية، أو أن الفرص التي تتاح لكتاب فرديين وتمكنهم من الإتيان بتعابير فردية، ليست محتملة في واقع الأمر. ففوق وتحت أية فرصة لقول شيء ما، هنالك جماعية ناظمة من تلك التي دعاها فوكو بالخطاب، وهذا الخطاب نفسه محكوم بالأرشيف. وهكذا فإن دراساته عن انتهاك القانون ونظام العقوبات والكبت الجنسي لدراسات ذات غفلية معينة، غفلية خلالها ومن جرائها كان الجسد البشري، كما يقول فوكو في "النظام والعقاب": "داخلاً في آلية القوة التي تستكشفه وتحطمه وتعيد تنظيمه من جديد". إن المسؤولية عن هذه الآلية "machinerie" تقع على عاتق نظام، على انعطاف يتخذه الخطاب حالما يدخل صفوف العدالة الإدارية، ولكن فوكو حتى هنا يلغي المسؤولية الفردية لا لمصلحة المسؤولية الجماعية بمقدار ما هي لمصلحة الإرادة المؤسساتية. "فهذه المناهج التي يسرّت الضبط المحكم لتشغيل الجسد، ذلك الضبط الذي ضمن الخضوع الدائم لقوى الجسد وفرض عليها علاقة الخنوع/ والمنفعة، يمكن دعوتها بالأنظمة" (9).
وهكذا فإن فوكو بطرائق شتى مشغول بإخضاع "assujetissement" الأفراد في المجتمع لأنظمة أو سلطة أسمى منهم بكثير. وعلى الرغم من أن فوكو تواق بوضوح لتفادي الحتمية المبتذلة في توضيح أعمال النظام الاجتماعي، فإنه يتجاهل تماماً مقولة القصد برمتها. وإن فوكو على دراية بهذه الصعوبة، على ما أظن، ولذلك فإن وصفه لما يدعى بإرادة المعرفة -la volonté de savoir- يحاول بطريقة ما تقويم اعوجاج التناسق في عمله بين الشيء الغفل بكل تهور وبين الشيء المقصود. ومع ذلك فمشكلة العلاقة بين موضوع فارد قوة جماعية (وهو الأمر الذي يعكس أيضاً مشكلة الجدل بين التصميم الإرادي والحركة المحتومة) لاتزال صعوبة واضحة يقر بها فوكو على الشكل التالي:-
هل يستطيع المرء أن يتحدث عن العلم وتاريخ (ومن ثم عن شروط وجوده وتغيراته، وعن الأخطاء التي ارتكبها، وعن التطورات المفاجئة التي دفعته على مسار جديد) بدون الإشارة إلى العالم نفسه- وأنا لا أتحدث هنا فقط عن فرد معين يمثله اسم علم ما، بل عن عمله والشكل الخصوصي لفكره؟ وهل من الممكن الإقدام على محاولة ذلك التاريخ الصحيح الذي يتتبع من البداية حتى النهاية مجمل الحركة التلقائية لكتلة غفل من المعرفة؟ وهل من المشروع، بله والمفيد، الاستعاضة عن "الفكرة التقليدية س القائلة أن..." والإتيان بدلاً عنها بالقول "كان من المعروف أن..."؟ بيد أن هذا هو بالضبط الشيء الذي تنطحت لفعله. فأنا لا أريد أن أنكر صحة السير الذاتية الفكرية، أو إمكانية تاريخ عن النظريات أو المفاهيم أو الموضوعات. إن الأمر لايعدو بمنتهى البساطة أنني أتساءل عما إن كانت أمثال هذه التوصيفات كافية بحد ذاتها، وعما إن كانت توفر الإنصاف للكثافة الهائلة للخطاب العلمي، وعما إن لم يكن هنالك وجود، خارج إطار حدودها المألوفة، لشبكات من النواظم التي تلعب دوراً حاسماً في تاريخ العلوم. ولكم أحب أن أعرف ما إن كانت الموضوعات المسؤولة عن الخطاب العلمي ليست، في وضعها ووظيفتها وانطلاقاً من استعدادها وإمكانياتها العملية، أسيرة تحديد الظروف التي تتحكم بها، لابل حتى وتطغى عليها(10).
وهذا نقد ذاتي لاذع، وفيه شيء من الاستعطاف على الأرجح -بيد أن الأسئلة لاتزال تستوجب الإجابة. وإن من المؤكد أن عمل فوكو، منذ صدور كتابه "علم آثار المعرفة" ومنذ المقابلتين الطويلتين في عام 1968 مع (Esprit و Cahiers pour L’analyse)، تطور في تلك الاتجاهات التي أوحت بها ملاحظته عن الأفراد، وهي: "أتساءل عما إن كانت أمثال هذه التوصيفات كافية بحد ذاتها". أي أنه جاء بمجموعة تفصيلية هائلة من التوصيفات الممكنة التي هدفها الأساسي هو، من جديد، أن تطغى على الموضوع أو التصميم الفارد والاستعاضة عنه بقوانين صياغة منطقية سريعة الاستجابة مفصلاً، ألا وهي تلك القوانين التي لايستطيع أي فرد بأم عينه أن يغيرها أو يتحايل عليها. فهذه القوانين موجودة، كما يناقش الأمر، ويجب الامتثال لها وذلك لأن الخطاب بالأساس ليس مجرد توشيح المعرفة بالوشاح الرسمي وحسب، لا بل وهدفه التحكم بالمعرفة والتلاعب به، من لدن الهيئة السياسية، أي الدولة في خاتمة المطاف (مع العلم أن فوكو كان مراوغاً فيما يتعلق بهذه النقطة). ولربما كان اهتمامه بالقوانين يشكل جزءاً من السبب الذي منعه من معالجة التغير التاريخي، أومن تقديم وصف له.
إن تأفف فوكو من كون الموضوع سبباً كافياً للنص، ولجوءه إلى الغفلية الخفية التي تتسم بها القوة المنطقية والأرشيفية (الحكومية)، لعلى انسجام عجيب مع تلك النسخة الخاصة التي طرحها ديريدا عن الإكراه. فهذا الجانب من عمله جانب معقد جداً وجانب، بالنسبة لي، عسير جداً أيضاً. وإن هنالك، من ناحية أولى، إشارات متكررة يشير بها فوكو إلى الميتافيزيك الغربي، وإلى فلسفة حضور بكل ماتستدعيه وتوضحه فيما يتعلق بتشكيلة واسعة من النصوص بدءاً بأفلاطون مروراً بديكارت وهيغل وكانط وروسو وهايدغر وانتهاء بليفي شتراوس. وهنالك، من ناحية أخرى، تنبه ديريدا للتفصيلات والمحذوفات سهواً والتشوشات، والاحتياطات حيال بعض النقاط الأساسية الموجودة في عدد من النصوص الهامة. وإن الشيء الذي تتقصد الكشف عنه قراءاته للنص هو ذلك التواطؤ الصامت بين الضغوط التي تمارسها البنية الفوقية للميتافيزيك وبين البراءة الملتبسة لكاتب ما بخصوص تفصيل من التفاصيل على مستوى القاعدة -كذلك التمييز اللفظي المحض الذي ميزه إدموند هوسرل بين الإشارتين الدلالية والتعبيرية أو التذبب (المبحوث في Ousia et Grammé) بين ama وnun*لأرسطو(12). ومع ذلك فإن العميل الوسيط بين القاعدة والبنية الفوقية لاهو موضع الذكر ولاهو، في الوقت نفسه، موضع الأخذ بعين الاعتبار. ففي بعض الحالات، بما فيها الحالتين اللتين جئت على ذكرهما، مايشير إليه ديريدا هو أن الكاتب قد تملص عامداً متعمداً من المشكلات التي فاجأته من جراء سلوكه اللفظي، وهو الحدث الذي يجب علينا فيه أن نفترض أن الكاتب ربما كان، رغم أنفه، رهين ضغوط من البنية الفوقية ومن التحيزات الغائبة "للميتافيزيك". ولكن في أمثلة أخرى، فإن الممارسة النصية التي يمارسها الكاتب نفسه تكون منقسمة على نفسها، إذ إن القلقلة التي ينطوي عليها مصطلح ما -من أمثال pharmakos أو supplément أو hymn - مبنية في صميم النص وتحركاته. بيد أن السؤال عما إن كان الكاتب مدركاً لهذه القلقلة أم لا فسؤال مطروح من قبل ديريدا مرة واحدة ليس إلا ومن ثم يحال إلى غياهب النسيان. وهاكم الآن معالجته لهذه المشكلة معالجة فيها شيء من المواربة في كتابه المعنون بـ "of Grammatoloy":
بعد أن بينت بالحدس وعلى سبيل الاستهلاك- وظيفة الدلالة "تكملة" في نص روسو، فإنني أعد نفسي الآن لإعطاء امتياز خاص، بطريقة قد يعتبرها بعضهم مفرطة، لنصوص معينة مثل " مقالة عن أصل اللغات" ولبعض النتف الأخرى عن نظرية اللغة و الكتابة. ولكن بأي حق؟ ولم هذه النصوص القصيرة، المنشورة في أغلب الأحوال بعد وفاة الكاتب والصعبة التصنيف،
بلا أي تاريخ وإيحاء معينيين؟ فعلى هذه الأسئلة كلها، وضمن منطق الترتيب الذي هي عليه، ليس هنالك إجابة مقنعة. وإلى حد ما، وعلى الرغم من الاحتياطات النظرية التي أصيغها، يكون اختياري مفرطاً في حقيقة الأمر.
إن السؤال الذي يطرحه ديريدا فعلاً على نفسه هو ما إن كان الشيء الذي يفعله وما إن كانت النصوص التي اختارها لهذا التحليل لروسو على أية علاقة بروسو، أي بما يفعله روسو أو بما كان ينوي فعله. ترى، هل أضفى روسو القيمة والتوكيد على "مقالة عن أصل اللغات" أم لا؟ وبالإضافة إلى ذلك ألا يزال ديريدا نفسه، في طرحه تلك الأسئلة ومن ثم قوله بعدئذ ما من إجابة مقنعة عليها، معتمداً على نفس فكرة التصميم التي حاول جعلها "مفرطة" بالنسبة لمنهجه؟ إذ على الرغم من إصرار نقده على الإتيان بأفكار جازمة وقاطعة كالمصدر أو الأصل، فإن كتابته مفعمة بها. وإن كلمة "الامتياز" التي يستخدمها لوصف مايفعله هو لا تقلل، شأنها شأن هروبه في نهاية الصفحة إلى كلمة "الإفراط"، من اعتماده على تصور روسو ككاتب ذي عمر زمني ميسور تحديده، وذي معيار واضح للنصوص، وذي أعمال ومراحل ميسور تصنيفها والإدلاء بمعطيات عنها، وهلم جرا. وعلاوة على ذلك هنالك قرن معروف بالقرن الثامن عشر، وعصر معروف بعصر روسو، ومدى أوسع نطاقاً بكثير معروف بالفكر الغربي -فهذه الأمور كما يبدو تمارس شيئاً من التأثير على ماتعنيه النصوص، على إرادتها في القول "vouloir- dire". وإن مايدل عليه اسم "روسو" في هذا كله لشيء أكبر بكثير مما يستطيع ديريدا تجاهله بمنتهى الوضوح، حتى حين يطوق الاسم بالأقواس. فإلى أي حد يجب فهم عبارة "اختياري أنا" كدليل عن المشيئة الفكرية المحض، وإلى أي حد يجدر فهمها كفعل منهجي من أفعال الانعتاق الفلسفي من "عتو عصر تمركز الكلمات"؟ وهل أنيط التوكيد بكلمة "تكملة" قبل إناطته بكلمة "إفراط" التي جاء بها ديريدا، وهل هي، نظر لذلك، معبره الذي أعده له جزئياً روسو نفسه للخروج من عالم تمركز الكلمات، أو هل أن الخيار جاء على نحو مفرط ولذلك كان مجيئه من الخارج، وعندها تفرض علينا تلك الحالة أن نسأل عن الكيفية (باعتبار أن المنهج هو القضية) التي يتمكن بها من أن يضع نفسه منهجياً خارج عالم تمركز الكلمات في الوقت الذي لم يتمكن فيه أي كاتب آخر من تحقيق ذلك؟ وماهو سياق تلك المشيئة التي تيسر مثل هذا التحول الذي يتحوله فيلسوف رهين شرك الألفاظ إلى قارئ جديد وكفء؟
إن خطورة هذه الأسئلة مثبتة من قبل ديريدا نفسه الذي رقش مقالته النقدية عن كتاب "تاريخ الحماقة" لفوكو باعتراضات على تقصدها، بمنتهى الترفع، تجاهل تواطؤاتها المنطقية. فديريدا، في اتهامه فوكو بأنه لم يعالج كما ينبغي المشكلات الميثودولوجية والفلسفية المتعلقة ببحث صمت اللاعقلانية بلغة عقلانية إلى حد ما، يستهل مسألة الدقة المتناهية عند فوكو. إذ حتى لو كان فوكو يدعي بأنه نفسه يستعمل لغة محفوظة في نسبية محضة دون اللجوء للاستعانة بشيء آخر"، فلديريدا ملء الحق في أن يتساءل "وماهو ذلك الشيء الذي يعزز، في خاتمة المطاف، هذه اللغة دونما إعانة أو مساندة: من ذا الذي يعبر بالدقة عن إمكانية انعدام الإعانة؟ من ذا الذي كتب ومن ذا الذي سيفهم، بأية لغة ومن أي وضع تاريخي للكلمات، ومن ذا الذي كتب تاريخ الجنون هذا ومن ذا الذي سيفهمه؟"(14). فهنا تكمن المسألة في الادعاء الذي يدعيه فوكو من أنه يحرر الحماقة من حبسها القسري في صميم الثقافة الغربية. ورداً على هذا الادعاء يجيب ديريدا قائلاً: "يستميلني الإغراء لاعتبار كتاب فوكو بمثابة تلميح قوي للحماية والاحتواء، تلميح ديكارتي لصالح القرن العشرين، تجيير للسلبية من جديد. فالعقل، حسب ظواهر الأمور، هو الشيء الذي يحتبسه فوكو، بيد أنه يختار كديكارت عقل البارحة هدفاً له لا إمكانية المعنى على العموم"(15). إن الشيء الذي فعله فوكو، والشيء الذي ادعى ديريدا اكتشافه في فوكو، هو أنه قرأ ديكارت قراءة سطحية ساقته إلى إساءة فهمه وغلى تكييف أفكار الشك إلى الحد الذي جعل ديكارت يبدو وكأنه قد فصل الحماقة عن العقل، في حين أن قراءة دقيقة لنصوص ديكارت تدل، كما يقول ديريدا، على النقيض من ذلك تماماً، أي على مامفاده أن نظرية المغالاة في الشك لدى ديكارت تتضمن فكرة "العبقرية الشيطانية" التي لم تكن وظيفتها استبعاد الحماقة بل احتواءها كجزء لايتجزأ من ذلك التصدع البدئي والمبدئ الذي ينخر نظام العقلانية نفسه. وإن هذا التدبير المربك فيما بين العقل والجنون والصمت واللغة هو الشيء الذي يتهم ديريدا فوكو بتجاهله في الوقت الذي يبدو فيه بأنه يلمح إلى خارجية المنهج الأثري بالنسبة لبنى الاحتباس والتسييج بالشكل الذي يصفها فيه.
وبما أنني قد عملت على تبسيط مماحكة بالغة التعقيد فلن أكرر هنا إجابة فوكو على النقد الذي وجهه إليه ديريدا وذلك لأن اهتمامي يدور حالياً حول الافتراض الذي يفترض به ديريدا وجوداً فعلياً لعالم ميتافيزيكي متمركز الكلمات، كما يدور عن التساؤل عن الكيفية التي يصبح بها الكتاب الذين يفحصهم كشواهد عن ذلك العالم جزءاً منه: وإنني لأنظر إلى هذه المسألة نظرة طافحة بمنتهى الجد إذ ليس من الواضح بتاتاً كيف أن مغالطة تمركز الكلمات -التي تتخذ لها أشكالاً عديدة شتى: كالتعارض الثنائي الذي تتعارضه أحكام القيم الأخلاقية إذ يطغى الواحد منها على الآخر في الوقت الذي من الواضح فيه أنهما مصطلحان متكافئان، والسلاسل الهرمية المنظمة تنظيماً أبوياً متوارثاً، وتمتين التعصب العرقي، والخصاب الجنسي- أي كيف أن هوى تمركز الكلمات يدس نفسه خلسة لاستهلاك الميتافيزيك الغربي، أوكي يصبح القسط الأعظم فيه. وليس من الواضح في الوقت نفسه كيف أن الأهواء الميتافيزيكية، بما في ذلك إهمال العلامة والتوقان المرضي للحضور، يمكن أن تعزى، من الناحية الأولى، إلى سقطات الكاتب ومحذوفاته وانسلاله من مصطلح إلى آخر (dérapage)، ويمكن أن تعزى، من الناحية الثانية، إلى المخططات المحبوكة عامداً متعمداً بمنتهى الوضوح من قبل الميتافيزيك الغربي على أشياعه. فهنالك حرص ديريدا على عرض الأخطاء الصغيرة والزلات الهامة التي تزل بها أقدام الكتاب وهم ينتقلون من شيء إلى آخر انتقالاً طائشاً، وهنالك من ثم ديريدا في استغاثته بتأثير فلسفة الحضور التي تعمل -كما يبدو عليها- عمل وسيط لشيء آخر أكبر وأشد عتواً يدعى بالميتافيزيك الغربي.
ولئن كنا لانريد أن نقول أن بيت القصيد في فلسفة الحضور هو إنجاز بعض الأشياء لا في النص وحده بل وفيما هو خلف النص أيضاً، أي في مؤسسات المجتمع على سبيل المثال، نكون عندئذ مضطرين أن نقول أن إنجازات الميتافيزيك الغربي هي (أ) إفساد النثر الفلسفي ببعض عيوب منطق زائف و(ب) تفكيك النصوص الغربية من قبل ديريدا. إن إرادة ديريدا، كقارئ لهذه النصوص، تحقق إذاً ذاتها، ألا وهو الإجراء الذي لانهاية له نظرياً باعتبار أن عدد النصوص التي يجب تفكيكها كبير كبر الثقافة الغربية، ولذلك فهو من ثم عملياً لانهائي. فهل نبتعد عن الدقة تماماً حين نقول بأن استبعاد ديريدا الإرادة والتصميم لمصلحة مايدعوه بالبديل اللامحدود استبعاد يخفي، أو ربما يهرب، فعلاً من أفعال ديريدا الإرادية، وفعلاً تنطوي فيه استراتيجية التفكيك، المعتمدة على نظرية من نظريات انتفاء إمكانية التردد واستبعاد التحليل السيمانتي، على الإتيان بأفق سيمانتي جديد، والإتيان من ثم بفرصة تأويلية جديدة مقرونة باسم يدعى بديريدا؟ وإلى الحد الذي اغتنم فيه تلاميذ ديريدا فرصة الإفادة من هذه الاستراتيجية، ومن "مفاهيمها" أيضاً، برز إلى الوجود نوع من معتقد رصين تقوم أركانه على الإيمان بتعاليم وأفكار معينة بشكل لايقل عن الإيمان "بالميتافيزيك الغربي"، الأمر الذي لايتحمل مسؤوليته ديريدا طبعاً.
ولكنني لست على قناعة بأن أمثال هذه المعتقدات توجد بأية طريقة بسيطة جداً وسلبية نوعاً ما، أي أن الأكثر احتمالاً بكثير على مايبدو هو أن أية فلسفة أو نظرية نقدية تبرز إلى الوجود وتكون موضع الرعاية لا لتكون هناك وحسب، ولتتحدث حديثاً سلبياً عن أي إنسان وعن أي شيء، بل لكي تكون موضع التعليم والانتشار، لكي تستنقع بها مؤسسات المجتمع بشكل قاطع، لكي تكون الأداة لحفظ أوتبديل أو زعزعة أركان هذه المؤسسات وذلك المجتمع. وحيال هذه المقاصد الأخيرة كانت مختلفة استجابة كل من ديريدا وفوكو -علماً أن هذا الأمر هوما يستقطب انتباهنا لهما. فكل منهما حاول بطريقته الخاصة أن يفصّل شكلاً من أشكال الانفتاح النقدي والحنكة النظرية المتواصلة التجدد، أي ذلك الشكل الذي يستهدف تصميمه أولاً توفير معرفة ذات نوعية خاصة جداً، وثانياً إتاحة فرصة للمزيد من العمل النقدي، وثالثاً تفادي -إن أمكن- كلاً من العمليات التي تؤكد بها الثقافة ذاتها، ورتابة نظام نقدي سائب مفتوح كله للتنبؤ.
إن ديريدا، منذ باكورة تأملاته في مختلف البرامج المطروحة في المناهج الفلسفية والنقدية، تلمّس سمة الخدمة الذاتية في هذه المناهج. فالاستعارة العسكرية والصيودة استعارة ملائمة، على ما أظن، نظراً لأن ديريدا تحدث بأمثال هذه المصطلحات عما كان يفعل. وأما أنا فلا أشير هنا إلى المقابلات المنشورة في مجلة "مواقف" وحسب بل وأشير أيضاً إلى مقالته المعنونة بـ "كيف تبدأ وكيف تنتهي الهيئة التعليمية المنشورة في مجموعة "سياسات الفلسفة"(16). إن ماحرض واستقطب نواياه العدوانية هو الجانب البصري تقريباً لهذه المناهج، أي ذلك الجانب الذي يبدو فيه النص كله، أوالمشكلة التي يبحثها النص، ثنائياً أو مزدوجاً في نص الناقد أو الفيلسوف -الأمر الذي يجعل الحل من ثم مضللاً. ولكن لايمكن أن يحدث هذا إلا إذا كان النص الأصلي، أو المشكلة الأصلية ، موضع تصوير الناقد تصويراً تخطيطياً وذلك كي يتمكن النص النقدي من احتواء المشكلة على نحو كامل وكي يبدو النص النقدي واقفاً جنباً إلى جنب مع النص الأصلي وكأنه يحتاط لكل ما فيه أيضاً.
إن مجمل إجراء ديريدا يتقصد أن يبين، إما في الألفة المزعومة بين النصين الأصلي والنقدي وإما في تصوير المشكلة من قبل النص، أن هنالك شيئاً يملص دائماً لأن النقد عاجز عن الاحتياط لكل شيء من خلال التصوير المزدوج أو الثنائي. وبما أن الكتابة نفسها شكل من أشكال التملص من أية خطة يستهدف تخطيطها سد الطريق على الكتابة وكبح جماحها وتأطيرها ومطابقتها تماماً، فإن أية محاولة لإظهار الكتابة بأنها عرضة بشكل أو بآخر لأن تكون ثانوية ماهي إلا محاولة أيضاً للبرهان على أن الكتابة ليست أصيلة. ولذلك فإن العملية العسكرية التي ينطوي عليها التفكيك ماهي جزئياً إلا هجوم على المستعمرين الذين حاولوا تجيير الأرض وسكانها لتحقيق مخططاتهم، وماهي جزئياً أيضاً إلا هجوم بالمقابل لإطلاق سراح السجناء وجزئياً لتحرير الأرض المغتصبة بالقوة. وإن الشيء الذي يبينه ديريدا مراراً وتكراراً هو أن الكتابة "écriture"- وهنا علينا أن نلاحظ أن ديريدا يطرح فعلاً، سواء أقر بذلك صراحة أم لا، تعارضات وموضوعات وتعريفات وتسلسلات بين مختلف أصناف الكتابة- ليست مجرد عملية إنتاج وطمس، واقتفاء أثر شيء ما ومعاودة اقتفائه من جديد، بل وإنها بالأساس عملية إفراط زائد، عملية فيض واقتحام، شأنها شأن عمله نفسه في محاولاته اقتحام حدود مختلف ضروب قمع المفاهيم.
وهنا أود الإشارة، قبل أن أضرب الأمثلة عن التمزيق التنقيحي الذي يمارسه ديريدا فيما يتعلق بالاستنساخ والاحتواء النقديين، إلى شيء واحد هام بخصوص اختياره النصوص. فمعظم تلك النصوص هي النصوص التي ليس فيها من السرد إلا أقله، أو النصوص التي تستخدم السرد لتوضيح أو تصوير نقطة ما. وإن مثل هذا الاختيار للنصوص يماثل الاختيار الوارد في عمل أتباع ديريدا وحلفائه. فالسرد التوضيحي هو بالدقة وفي حقيقة الأمر -كما يستخدمه مثلاً أفلاطون أو روسو أو ليفي شتراوس- مايجتذب الاهتمام الشكاك لديريدا (في حالة ليفي شتراوس) إلى محذوفات الكاتب وتواطؤاته، أو إلى مايحاول الكاتب، في غموض ذلك السرد، إظهاره واستبطانه في آن واحد معاً (كالسرد الذي يسرد به روسو اللغة على نحو متفجر وكأنها تكملة لانفعال الإنسان البدائي). وبمقدار ما كان ديريدا ينهمك بنصوص ذات طابع تاريخي بمنتهى الوضوح (والمثل الوحيد كتاب "تاريخ الحماقة" لفوكو)، كتلك النصوص الملتزمة بفرضية عن التسليم ببداهة النتيجة في صميم بنيتها الداخلية، كان الشيء الذي يستقطب اهتمامه، على نحو مماثل، هو مايبدو على شكل انقطاع مؤقت في الوصف (نظرية ديكارت عن الأحلام والجنون).
فماذا يعني هذا التجنب للسرد؟ لقد كان ديريدا، باعتباره كان يركز على البعد النظري للوصف في تحليلاته يؤكد على أهمية الخلط الاحتيالي للتسلسلات الهرمية والتعاليم والتغرضات المدسوسة من باب تجاهل العارف، وينتقدها في الوقت نفسه. والآن فإن الرواية الواقعية، على نقيض غيرها من النصوص الأخرى، محكومة بنمط تصوير مختلف ولا متكلف. وعلى الرغم من صحة القول أن روايات عديدة تستخدم نفس تلك الحيلة المتمثلة بسرد الراوي لقصته على جمهور من المستمعين، فإن تلك الحيلة مندمجة في الرواية ولذلك فإنها تخيل موضع الإقرار به سلفاً -أي إنها، في مصطلحات ديريدا، محاكاة ساخرة أو تكملة أو صورة. وعلاوة على ذلك فإن الكثير من الروايات الحديثة -ماهي في حد ذواتها إلا، كما حاولت أن أبين فيما يتعلق بكونراد، تناوب فيما بين الكتابة والتحدث -والتناوب فيما بين الحضور والغياب. فحتى إشكالية النصية نفسها لا هي موضع التجاهل ولا هي موضع التملص في الوقت نفسه، بل يصار إلى تحويلها إلى مظهر متعمد وتكويني واضح من مظاهر السرد. ولسرعان ما يخطر هنا على البال ستيرن، لا بل وكذلك سرفانتس وبروست وكونراد، والكثيرون غيرهم. فبيت القصيد هو أن هذه الموضوعات، التي هي بمعنى مانفس الموضوعات التي يشكلها نقد ديريدا، توجد مسبقاً في السرد لا كعنصر خبيء (ومن ثم غير مقصود) بل كعنصر أساسي. ولذلك فإن أمثال هذه النصوص لايمكن تفكيكها، باعتبار أن تفكيكها كان موضوع الاستهلال من قبل وعن دراية ذاتية من لدن الروائي والرواية أيضاً. وهكذا فإن هذا الجانب من السرد يطرح التحدي، غير المطروح حتى حينه، فيما يتعلق بالشيء الذي يجب فعله بعد أن يكون التفكيك قد قطع لتوه شوطاً لابأس به، أي بعد أن تصبح فكرة التفكيك غير قادرة على تمثيل جسارة فكرية محبوكة.
وعلاوة على ذلك فتاريخ الرواية، أو تاريخ حبكة الرواية في قلب الرواية، قد خضع بطريقة هامة واحدة إلى تطور حاسم: فالرواية تتخطى وتتجاوز سيرة الفرد كبنية تنظيمية لها. فلئن تقارن روبنسون كروزو أو توم جونز بمارلو أو كيرتز أوجود يعني أن ترى للتو لا الاهتمام المطلق تقريباً في الفن الروائي بالدور المؤسس لسيرة الفرد وحسب، بل ويعني أن تلاحظ أيضاً بروز الكتابة نفسها في الفن الروائي بروزاً رائعاً متزايداً كبديل لسيرة الفرد، أو كتكملة لها. إن موضوع الأبوة وبرفقته كل صرح البنوة بما له من دور مركزي في إدارة الفن الروائي، فضلاً عن الأفكار الرئيسية للانتماء الذاتي وسلالة النسب والأبوة والزواج: كل هذه القضايا تتعرض لتبدلات عميقة خلال مسيرة الروايات في مؤخر القرن التاسع عشر ومقدم القرن العشرين. والقول الفصل فيما يتعلق بهذه التبدلات هو أنها لم تنجم بأية طريقة مبتذلة عن عوامل /اقتصادية/ سوسيولوجية عرضية، وإنما تبرز إلى الوجود إبان نزوع الفن الروائي منزعاً دنيوياً مطرداً. ففي الوقت الذي كان فيه الروائي يعزو إلى نفسه وإلى خلفه قوى إنجابية وشبه إلهية جازمة، كانت هذه القوى تتعرض، في مسيرة أدائها أداء معززاً في الزمن التاريخي الفعلي، للإقرار بظروفها الدنيوية أو الأرضية. وإن هذه الظروف لتكشف الروائي وهو يمارس الكتابة، لا على صورة إله صغير يمارس الخلق ولا على صورة امرأة أو رجل يعرض شيئاً ما. فالروائي، سواء أكان فلوبير أو بروست أو كونراد أو هاردي أو جويس، مدرك لذلك الخطاب الذي يشكل هو نفسه طوعاً جزءاً منه. وفي هذا كله نجد شيئين يعجز التفكيك، كاستراتيجية تأويلية عامة معتمدة زوراً وبهتاناً على السمات العامة للفكر الغربي، عن معالجتهما أولهما: الكتابة كفعالية سطحية بالغة التعقيد وعنصر شكلي في الفن الروائي، وثانيهما: الكتابة التي تبدو متميزة سلفاً عن أية فعاليات أخرى لا لأنها قرار من قرارات القضاء والقدر، بل لأنها ثمرة نشوء تاريخي فريد من نوعه بالنسبة للشكل الروائي نفسه، على الرغم من أنه نشوء عويص بشكل مطلق.
ـــــــــــ
إن ديريدا يتحدث في كتابه "Grammatology" عن "مضاعفة التعليق المطموس والمحترم"(17)، أي عن تلك الفكرة التي مفادها أن الناقد يقرأ تقليدياً نصاً معيناً في الوقت الذي يحترم فيه رسوخه المفترض ويستنسخ ذلك الرسوخ بمنتهى الأمانة في تعليق نقدي يقف جنباً إلى جنب مع النص الأصلي. وإن قراءة نص شعري تطرح، بشكل مماثل، الشكل على أنه بالأساس هناك لتلقي معنى النص. فالمكافئ النظري لمثل هذا الإجراء موصوف وصفاً رائعاً من قبل ديريدا على أنه هندسي (مربع أو دائري أو ذو محيط مخالف للمألوف) موضع الاستنساخ في نص آخر يتطابق في شكله تمام التطابق مع النص الأول. وإن من المفروض بهذين النصين أن يتيحا فيما بينهما مجازاً للناقد يدخل منه إلى "الثقة الآمنة التي تقفز فوق النص باتجاه مضمونه المفترض، نحو محض الدلالة" (18). فغائية هذا العمل بأسره هي الشيء الذي يتساءل عنه ديريدا بكل مشروعية كما حين يصف "البنيوية الغائبة" لدى جان روزيه إذ يقول: "لايبدو على روزيه أنه يفترض أن أي شكل جميل... بل أن الشكل الوحيد الجميل هو الشكل الذي يتسق مع المعنى، أي الشكل الذي من الممكن فهمه لأنه، قبل أي شيء آخر، متوحد مع المعنى. فلماذا إذاً، مرة أخرى، يتمتع بالامتياز هذا الاختصاصي بعلم الهندسة؟"(19). إن دقة كدقة روزيه لايمكنها أن تفعل شيئاً حيال تلك الصدمة الأساسية التي يستحيل تخفيفها والتي تطرحها الكتابة كلها، إذ إنها بمثابة التحريف الشائع لكل أنواع الكتابة "écriture". فالدقة عامل كبت سواء أكان الناقد يثنّي نصاً ما أو كان يقول بأن شكله يتطابق تماماً مع مضمونه، مع العلم أن الخطة العظيمة لديريدا كانت ترمي فتح اللغة أينما كان على الثراء الخاص بها بغية تحريرها بتلك الوسيلة من القيود التي تفرضها عليها المخططات المعينة.
ولكن ديريدا كان أقل حذاقة في رفع الحجب عن العديد من التوكيدات العظيمة التي دعاها، ولا سيما في أحدث أعماله، بالموضوعات أو الفئات (thémes- catégorémes)- وهي الكلمات التي تدعي الإشارة إلى شيء محدد وراسخ رسوخ الجبال خارج أنفسها، ألا وهو ذلك الشيء الذي من المفروض بها أن تكون نسخاً دقيقة طبق الأصل عنه. وإن هذه الكلمات لتنطوي ضمناً على مقدار كبير من المناورة اللغوية المحضة والمستورة خلف مظهرها المتناسق الهادئ. وليس من العبث في شيء أن يكون أول عمل موسع لديريدا قد تناول بالدراسة كتاب هوسرل المعنون بـ "التحليل المنطقي" الصادر في بحر عام 1900-1901 (علماً بأنه التاريخ الذي يدل دلالة تقريبية على صيرورة الفينومينولوجيا علم "المنشأ النظري" أو الأصلي)، إذ كانت بمثابة مجموعة من التحريات التي كان جهدها البين ينكب على فهم المعنى ووسائطه على نحو جوهري لم يسبق له مثيل. ففي كل تعريف من تعريفات هوسرل يلمح ديريدا إلى تقنية مجهوده، مبيناً على العموم أن انتقاص هوسرل من قيمة الرمز، أي إخضاعه الرمز لمعنى موجود باقتضاب للتعبير عنه كان محاولة فاشلة "لإقصاء الرموز من خلال جعلها ثانوية"(20)، مع العلم أن الأهم من هذا هو أن مثل هذا الموقف من الرموز واللغة كان يتظاهر بأن الرموز ماهي إلا مجرد تعديلات "لوجود بسيط"، وكأن الحضور، باستعمال اللغة، لايمكن أن يكون موجوداً البتة إلا كحضور ثان (أو تمثيل)، كاستنساخ، كتكرار -ألا وهي تلك الأمور التي لاتستدعي كلها وجود الرموز معها كضربة لازب وحسب، بل وتستدعي وجودها أيضاً، ويا للمفارقة، على أنها الحضور الوحيد، حضور ثان معلناً عن غياب الشيء الذي مثّله. وإن موقف ديريدا هو موقف المخبر الاستقصائي "اليقظان لعدم استقرار كل هذه التحركات التي يتحركها الفيلسوف واختلاط حابلها بنابلها، وذلك لأنها تروح وتجيء فيما بين بعضها بعضاً بشكل عاجل وسري". وهكذا فإن كل علم هوسرل عن الأصول يتكشف على أنه، بدلاً من أن يكون مجموعة من التمييزات الجوهرية بين شيء وآخر، "بناء غائي خالص مقصود بتخطيطه أساساً استبعاد الرموز وصغائر الأشياء الأخرى واستعادة "الحضور". وماهو الحضور إن لم يكن "إرادة المرء المطلقة لسماع نفسه وهي تتحدث؟ (21). فالتوكيد الذاتي لا للفلسفة وحدها وحسب بل ولنوع أيضاً من حضور المرء أمام نفسه حضوراً خبط عشواء نقياً وأخرق (أنانية وجودية)، وحضوراً ببساطة يتجاهل اللغة التي، في الوقت الذي هي فيه قيد الاستعمال، للإتيان "بالحضور"، تصبح موضع الإنكار في الوقت نفسه أيضاً. فاللغة، على الرغم من الدأب اليائس الذي يدأبه هوسرل لاستبقائها ثانوية وبديلاً مفيداً عن الحضور، تختلق نفس تلك المعاني التي تتمنى الفلسفة كبتها باعتبارها مربكة وهامشية وإضافية. وهكذا فلكل كلمة كبيرة من مثل "إله أو واقع" هنالك كلمات صغيرة من أمثال "واو العطف أو حرف الجر أو حتى الفعل يكون: is"، وإن الموقف الفلسفي لديريدا هو أن الكلمات الكبيرة لاتعني أي شيء خارج أنفسها: فهي دلالات مرتبطة، للحصول على معناها الكامل، بكل الكلمات الصغيرة (chevilles syntaxiques كما يدعوها) التي بدورها تدل على أكثر مما يمكن فهمه الفهم الكافي بأنها تعبر عنه.
إن الشيء الذي يسميه ديريدا تسمية طنانة بالميتافيزيك الغربي لهو موقف شعوذة نال ترخيصه السخري بواسطة اللغة وهو، إلى حد ما أعلم، ليس موقفاً غربياً بالضرورة. غير أن من المحتمل أن تكون هذه النقطة شيئاً صغيراً. فمماحكة ديريدا تؤكد مرة ثانية على الفرضية البصرية القائلة أن تثبيت الصوت والحضور والوجود لهو طريقة لصرف النظر عن الكتابة، وطريقة للادعاء بأن التعبير شيء فوري وما من حاجة تدعو لاعتماده على سلسلة بصرية دالة، أي على الكتابة "écriture". وهكذا فإن الموقف الغراماتولوجي ومعه استراتيجية التفكيك لموقف بصري ومسرحي، كما إن نتائجه بالنسبة للإنتاج الفكري (ولاسيما إنتاج ديريدا على وجه التخصيص) نتائج محددة جداً وخاصة جداً.
ـــــــــــ
إنني أود أن أبدأ هذا القسم بما قد يبدو شاهداً ليس على علاقة كبيرة بالموضوع، ألا وهو الفقرة الواردة أدناه اقتباساً من رواية "آمال عظيمة". فبيب وهربرت يسافران لمشاهدة عرض لمسرحية "هامليت" حيث يقوم بالدور الرئيسي فيه السيد وبسلي الذي هو مواطن من بلدة بيب. ويجري العرض قبل أن يكتشف بيب من هو المحسن إليه، ولذلك فإن المهزلة المباشرة لما يراه وهربرت على مصطبة العرض مقصود به أن يكون تلميحاً ساخراً للمزاعم الفارغة التي يعيشها بيب ومفادها أنه رجل من علية القوم.
حين وصلنا إلى الدانيمارك وجدنا ملك وملكة ذلك البلد وقد ارتفع بهما المقام على أريكتين فوق طاولة من طاولات المطبخ وهما يعقدان جلسة رسمية. لقد كان يحضر تلك الجلسة كل النبلاء الداينماركيين ومن بينهم غلام نبيل ينتعل جزمة جلدية لجده البدين، وأمير مهيب بوجه قذر كان يبدو عليه بأنه قد برز من بين صفوف العامة في مؤخر حياته، ورمز الفروسية الدانيماركية بساقيه الحريريين الأبيضين وشعره المشبوك بمشط مما يوحي بمظهر أنثوي على العموم لقد وقف ابن بلدتي الموهوب منفرداً وعليه مسحة من الكآبة وهو يطوي ذراعيه، ولكم كنت وقتها أتمنى لو كانت تجاعيد شعره وجبينه أكثر بروزا.عدة أمور صغيرة وعجيبة بدأت تتكشف في الوقت الذي كان فيه العمل المسرحي يسير قدماً إلى الأمام. فالملك المرحوم لذلك البلد لم يظهر بأنه كان يعاني الأمرين من السعال وقت مماته وحسب، لابل وأخذه معه إلى قبره وعاد به إلى الحياة الدنيا مجدد أيضاً. وأما الشبح الملكي فقد كان يحمل مايشبه المخطوط حول صولجانه للرجوع إليه على مايبدو بين الحين والحين، رجوعاً مصحوباً بمسحة من القلق وميل لتضييع مكان الإسناد -أمور كلها توحي بمناخ الموت. ولقد كان هذا المناخ، على ما أتصور، هو مادفع الشبح للعمل بنصيحة النظارة حين طلبوا منه أن "ينقلب"، وكانت نصيحة فهمها فهماً مغلوطاً إلى أقصى الحدود....إن ملكة الدانيمارك، وقد كانت سيدة بدينة جداً، كان يراها الجمهور، مع أنها كانت تاريخياً نحاسية البشرة، بأنها ترهق كاهلها بفيض كبير من النحاس. فبما أن ذقنها كان مربوطاً بتاجها بطوق عريض من ذلك المعدن (وكأنها كانت تحس بوجع شديد في أسنانها)، وبما أن خصرها كان مطوقاً يطوق آخر، وطوق آخر حول كل ساعد من ساعديها، كان يشار إليها صراحة بنعت "الطبل"... وأخيراً كانت أوفيليا ضحية لمثل هذا الجنون الموسيقي حتى إنها حين خلعت وشاحها المصنوع من الموسلين الأبيض، في الوقت المناسب، وطوته وطمرته، قام رجل عبوس من الصف الأمامي في القاعة، وقد عيل صبره بعد أن كان قد كظم غيظه لوقت طويل، وهدر قائلاً: "والآن، وقد أغفى الرضيع، هيا بنا لتناول العشاء"- سرّ كان فضحه، بأقل مايمكن أن يقال عنه، بعيداً عن الحشمة.فكل هذه الأحداث تكدس بعضها فوق بعض وعادت بالبهجة على ابن بلدتي التعيس، وكلما كان على ذلك الأمير المتردد أن يطرح تساؤلاً أو أن يتكشف عن شك ما، كان الجمهور يساعده في ذلك، كما كان عليه الأمر مثلاً حول التساؤل عما إن كان من الأسمى له أن يشعر بالمعاناة في ذهنه، بعض الجمهور زأر قائلاً نعم وبعضه لا، في حين أن قسماً ثالثاً ممن كان بين بين قال "أنت وحظك"، وللتو تشكلت لجنة لمناقشة الموضوع. وحين سأل ماذا يجب على أناس مثله أن يفعلوا وهم معلقون بين الأرض والسماء، وجد تشجيعاً له بصيحات صاخبة تقول "كلنا موافقون"... وبعد الاقتراع عليه... نودي عليه بالإجماع ملكاً لحكم بريطانيا. وحين نصح الممثل بألا يرجم بالغيب قال الرجل العبوس: "أولست تود ذلك أنت أيضاً، لأنت أسوأ منه بكثير"(22).
إن العنصر الهزلي الذي ينطوي عليه هذا الأمر واضح للتو. فديكنز يتناول مسرحية ذائعة الصيت، ولايذكرها بالاسم بتاتاً، ويسير قدماً إلى الأمام لوصف تلك التنافرات التي تضفي مسحة طفيفة من الانتقاص على المسرحية، والتي تحدث حين يمثلها فريق مضحك وعديم الكفاءة. ولكن تقنية الوصف التي يعتمدها ديكنز تقدم مزيداً من التحليل ولو كان طفيفاً. ففي المقام الأول هنالك عدة مستويات من العمل المسرحي تتجمع كي تشكل، نظراً لأن ديكنز يصف عرضاً مسرحياً في أحد المسارح، مشهداً واحداً من المأمول منه استبقاء كل تلك المستويات متميز بعضها عن بعض. فهنالك بيب وهربرت، وهنالك جمهور من المتفرجين، وهنالك عدة أفراد صخابين يبرزون وقوفاً على أقدامهم من بين صفوف الجمهور، وهنالك ممثلون سيئون، وهنالك إطار مسرحي مفروض به أن يكون الدانيمارك، وفي الختام، من المفروض أن تكون هناك مسرحية، ولو أنها نائية جداً على مايبدو، بقلم شكسبير ومهيمنة على مجريات الأحداث برمتها (مع أن الممثل الذي يلعب دور الشبح -يحمل النص معه).
والآن، في المقام الثاني، فإن هذه المستويات قلما تظهر بمظهر المتميز بعضها عن بعض خلال الأداء المسرحي، الأمر الذي يشكل السبب الذي يجعل العمل بأسره طريفاً جداً. وبما أنه ما من شيء وما من امرئ -ممثلين ومتفرجين وإطار مسرحي وبيب وهربرت- يؤدي الشيء المرتقب منه، فإننا نخلص إلى التيقن دون عناء كبير بأنه ما من فرد وما من شيء يتناسب مع الدور المخصص له. فالتناسب بين الممثل والدور، وبين المتفرجين والممثلين، وبين المتكلم والكلمات، وبين الإطار المسرحي المفترض والمشهد الواقعي: هذه كلها أشياء متنافرة بعضها مع بعض وتجري على نحو مغاير لما كان يجب أن تكون عليه لو أن الممثل والدور، مثلاً، كانا على تطابق تام فيما بينهما. وقصارى القول فما من شيء خلال هذا العرض المسرحي الأخرق العربيد يمثل تماماً الشيء الذي نتوقع تمثيله. فثمة صورة مطبوعة في أذهاننا توحي لنا أن هامليت يجب أن يكون نبيلاً، وأن المتفرجين يجب أن يكونوا هادئين، وأن الشبح يجب أن يكون شبه شبح. ولكن الأثر الذي تتركه هذه التوقعات المخيبة للآمال هو مسخ تلك المسرحية العظيمة التي تتمكن، على الرغم من مثالبها، من شق طريقها بهذا الشكل أو ذاك إلى صميم كل مايصفه ديكنز بقصد الإيحاء بكل مجريات الأحداث. ولسوف نصيب كبد الحقيقة والدقة حين نقول بأن مسرحية شيكسبير، أي نصها، لاتمت بأية صلة في الواقع لما يجري هنا على المسرح لأن مايجري ليس إلا نتيجة لنقص في قوة النص، أو عجزه، عن السيطرة على هذا العرض الخاص. فما يدور على نحو مغلوط لايعود، إلى حد ما، إلى قصور الفريق الممثل والفريق المتفرج وحسب، لابل ويعود أيضاً إلى قصور سلطان النص في تصويره أو تمثيله نفسه وهي تعمل "كما ينبغي لها أن تعمل".
وثمة شيء إضافي جدير بالذكر هو أن الأمر لايقتصر على خلط المستويات بعضها ببعض، ولا على عدم وجود أي تطابق بين النص الأصلي وبين ظهوره بالمظهر الواقعي ليس إلا، لا بل ويتعدى ذلك إلى الحقيقة التي مفادها أن مسرحية هامليت موجودة في كل مكان من الوصف الذي يصف فيه ديكنز هذه الأمسية المشؤومة. فما يقدمه لنا ديكنز ماهو في حقيقة الأمر إلا مشهد مزدوج أو، إن استعملنا استعارة موسيقية، لحن رئيسي وتنويعات طفيفة عنه، بحيث أن نثره يشتمل في آن واحداً معاً على نص أو لحن بأم عينه وعلى نسخة جديدة مشوشة عنه. إن السرد الذي يسرده ديكنز يتمكن، إلى حد ما، من أن يصور مسرحية هامليت الحقيقية ونسختها المزيفة الممسوخة بعضهما مع بعض، لا على شكل صور مركبة (مونتاج) وحسب، بل وعلى شكل انتقاد أيضاً بحيث يفتح مأثرة مهيبة على الضعضعة الكامنة فيها ويتيح لرائعة أدبية أن تتقبل وأن تتسع عملياً لاحتواء حقيقة كونها مكتوبة فعلاًن ومن ثم احتواء النتيجة المكشوفة، بما مفاده أنها في كل مرة تتعرض فيه للتمثيل يكون التمثيل بديلاً عن الأصل، وهكذا دواليك إلى أبد الآبدين وإلى الحد الذي يتحول فيه الأصل بشكل متزايد إلى "أصل" من باب الافتراض. وهكذا فإن ديكنز يسرد، في آن واحد معاً، نصاً مسرحياً إبان سيرورة تمثيله على النحو الذي أريد له فيه أن يكون موضع التمثيل، ويسرد أيضاً نفس النص في صورته الجديدة التي استحال إليها جراء التمثيل والمسخ الفادحين. وإن النصيين، القديم والجديد، ليس بوسعهما أن يتعايشا على هذا النحو بالنسبة لنا إلا لأن ديكنز يضع الاثنين جنباً إلى جنب ويتيح لهما أن يحدثا في آن واحد معاً في نصه وفقاً لطريقة دقيقة نسبياً من طرائق التقشّر الهزلي. ولئن قلنا أن مسرحية هامليت بالشكل الذي كتبها فيه شكسبير هي في مركز الحدث بأسره أو في أصله، يكون الشيء الذي يقدمه لنا ديكنز هو عبارة عن وصف حرفي ساخر لا للمركز الذي لايستطيع التشبث بتفكيرنا وحسب، بل وللمركز الذي أحيل إلى العجز عن مثل ذلك التشبث والذي يفضي، بدلاً من ذلك، إلى أعداد جديدة وفيرة من المسرحية، وأعداد مختلفة المراكز إلى حد التدمير. وهكذا فإن قوة النص تستحيل إلى النقيض الحقيقي لما قلته عنها آنفاً، لأن النص يسيطر، ويتيح ويختلق كل التفسيرات المغلوطة وكل القراءات المغلوطة، التي ماهي إلا بمثابة وظائف النص.
لقد كان ديريدا مفتوناً، منذ بداية حياته المسلكية، بإمكانات هذا الصنف من الأشياء. فبعض أفكاره الفلسفية عن الحضور، وعن الامتياز المنوط بالصوت على الكتابة، وعن وتلاشي فكرة المركز أو الأصل في الفكر الحديث، أمور يراها ديكنز من المسلمات بأكثر الطرق بعداً عن الطريقة الفلسفية، وماذلك إلا لأن تلك الحقيقة البسيطة التي لايرقى إليها الشك بما مفاده أن شكسبير قد يكون كاتب مسرحية عظيمة بعنوان هامليت، بيد أنه ليس في متناول اليد كي يمنع المسرحية من الاقتناص والاستنتساخ ببساطة من قبل أي إنسان يعن على باله أن يفعل ذلك، لهي حقيقة تشكل افتراضاً يماثل الانطباع الشخصي لدى ديريدا من أن أفكار الصوت والحضور و "الأصول" الميتافيزيقية ماهي ببساطة إلا أفكار قاصرة بخصوص الوقائع الوظيفية للغة. وأما الجانب الآخر لوجهة النظر هذه فهو ذلك الجانب الذي ينطوي على مغالطة عجيبة مؤداها أن نص شكسبير يدور بالطبع حول استنساخاته الممسوخة والمقيدة بحالة النص الكتابية وبمقتضات التمثيل، أو الأداء، لا بحضور شكسبير ككائن حي كان ذات مرة على قيد الحياة.
إن تقنية إظهار الكيفية التي تصر بها هذه الأساطير عن الصوت والحضور على البقاء في تفكيرنا وفي الكثير من الكتابة (إذ إن كل منزلة تلك الأساطير ملغومة بالفكرة القائلة أن الكتابة ماهي بمنتهى البساطة إلا انعكاس لشيء آخر، كالفكر أو الصوت الذي من المتوقع لها أن تمثله)، لهي تقنية ديريدا بمقدار ماهي تقنية ديكنز في هذا المشهد وتقنية مارك توين -إن جئنا على ذكر مثل آخر- في روايته المعنونة بـ "أمريكي من كونكتيكات في بلاط الملك آرثر". فديريدا نفسه هو من أصر على أن فضح الزيف، كما عمد إلى فضحه، يعيد تثبيت الأساطير القديمة بمعنى ما، الأمر الذي يماثل القول بأن المحاكاة الساخرة التي جاء بها ديكنز لمسرحية هامليت إن هي إلا فعل من أفعال الإجلال لشيكسبير. وهذا الشيء هو ما يعنيه ديريدا حين يتحدث عن فلسفته بأنها شكل من أشكال "التسمية القديمة". وأما السبب الذي يجعل الأفكار القديمة "تتشبث" بنا وبه مثل هذا التشبث (إذ إن prise هي الكلمة التي يستعملها في "الصوت والظاهرة") فهو أنها احتلت بحق الشفعة حيزاً كبيراً في تفكيرنا وإن لم يكن كله تماماً، ودفعت ببعض الانطباعات الشخصية المعينة (lmpensés) أن تكون مقبولة خبط عشواء، علاوة على أن ديريدا كفيلسوف- وهذا أهم مما سبق- لم يكن قادراً على اكتشاف طريقة تفكير جديدة تحررنا تحريراً كاملاً من الأفكار القديمة. لقد كان ديريدا في غاية الحرص على القول بأنه لايحاول الاستعاضة عن الأفكار القديمة بأفكار جديدة، باعتبار أن من الواضح أنه لم تكن لديه النية في أن يصبح مروّج عقيدة جديدة كي تحل محل عقيدة قديمة. ولئن برزت هذه العقيدة الجديدة في عمله أم لا فسؤال هام، وسؤال أتصور أن ديريدا وتلاميذه قد تجاهلوه على نحو متعمد مقصود.
ولكن ماهي استراتيجية ديريدا حيال التفكيك، كما يسميه، ولماذا يسلط أسطع الأضواء الكشافة على تقنيات التفكيك ذلك المشهد من رواية "آمال عظيمة"؟ فهيا بنا نبدأ بالتمثيل الذي هو بمثابة مشكلة من المشكلات الأساسية في كل النقد والفلسفة. إن معظم التوصيفات التي تتناول التمثيل، بما في ذلك التمثيل الذي جاء به أفلاطون، تعني ضمناً وجود شيء أصيل ونسخة عنه أو تمثيل، الأمر الذي يعني أن الأول سابق في الزمن وأعلى في المنزلة والثاني لاحق في الزمن وأدنى في المنزلة، بحيث أن الأول منهما يحدد الثاني. ومن حيث المبدأ فإن المقصود بالتمثيل التمثيلي هو أن يكون شيئاً لامناص منه في بعض الأحيان، وفي بعضها الآخر مجرد بديل مريح عن الشيء الأصيل الذي ليس بوسعه لأي عدد من الأسباب أن يكون حاضراً كي يكون نفسه ويفعّل نفسه. وهكذا فإن الشيء التمثيلي أو البديل مختلف نوعياً عن الأصيل لأن الأصيل جزئياً هو نفسه وليس ملوثاً باختلافه عن شيء آخر. وإنني لأبسط الأمور إلى حد كبير بالطبع، ولكن الموقف الفلسفي لديريدا هو أن الاختلاف -كما بين الأصيل والتمثيلي- ليس مجرد صفة مضافة إلى تمثيل أو إلى شيء ثانوي، بتلك الطريقة التي ينظر بها إلى الكتابة على أنها بديل عن الشيء الحقيقي (باعتبار أن من المفروض، مثلاً، أن اللغة تمثل فكرة أو شخصاً ليس حاضراً للتو). وعلاوة على ذلك يقول ديريدا أن الاختلاف يضاف، من ناحية أولى، إلى الأشياء حين تكون مصنفة بأنها تمثيلية ولكن الاختلاف، من ناحية ثانية أي على المستوى الكلامي الدقيق للتصنيف نفسه، مختلف مسبقاً ولذلك لايمكن التفكير فيه كصفة أو كفكرة أو كمفهوم له أصوله ونسخه. فالاختلاف شيء جوهري تماماً بالنسبة للغة، الأمر الذي يعني أنه علامة فارقة وأنه نفس فعالية اللغة نفسها حين تكون النظرة إليها كتابية لا لفظية. ولهذه الفعالية اللغوية الصرفة يستنبط ديريدا الكلمة "différance"، بمعنى الاسم الذي تتعذر تسميته (أو يتعذر لفظه). "إن الشيء الذي تتعذر تسميته هنا ليس نوعاً من الوجود المكنون الذي يتعذر الاقتراب منه باسم ما، كالإله مثلاً. فالشيء الذي تتعذر تسميته هو تلاعب الألفاظ إلى الحد الذي يفضي إلى الإتيان بالتسميات، بالبنى الذرية أوالتوحيدية، نسبياً، التي ندعوها بالأسماء، أو بسلاسل أو بدائل الأسماء" (23).
فلئن نسمي شيئاً يعني أن نحدد فكرة أو موضوعاً أو مفهوماً يتحلى بشيء من الأسبقية على نفس فعالية التسمية وعلى الاسم. إن ديريدا يريدنا أن نرى -إن لم يكن يريدنا أن نفهم- أننا مادمنا نعتقد أن اللغة ليست بالأساس إلا تمثيلاً لشيء آخر، فلن يكون بمقدورنا أن نرى ماتفعله اللغة، ومادمنا نتوقع أن نفهم اللغة في ضوء ثمة جوهر بدائي تلعب اللغة بالنسبة إليه دور الإضافة الوظيفية فلن يكون بمقدورنا عندئذ أن نرى أن أي استخدام للغة لايعني التمثيل وحسب، بل ويعني، ويا للمفارقة العجيبة، نهاية التمثيل أو تأجيله الدائم وبداية شيء آخر، ألا وهو الشيء الذي يدعوه ديريدا بالكتابة. ومادمنا لانرى أن الكتابة أكثر دقة ومادية من التكلم لأمر يدل على أن اللغة يجري استخدامها لاببساطة كبديل عن شيء أفضل منها بل كفاعلية بحد ذاتها هي، فلن يكون بوسعنا أن ندرك أن "الشيء الأفضل" لتوهم جوهري (إذ إن كان بمقدوره أن يكون هناك، فلسوف يوجد هناك). وهكذا فسنبقى، بوجيز العبارة، في قبضة الميتافيزيك.
إن اللغة المكتوبة تعني ضمناً التمثيل، شأنها بذلك شأن كون المسرحية التي يراها بيب تمثيلاً، ومع ذلك فإن القول بأن اللغة -أو بالأحرى الكتابة لأنها هي الشيء الذي يتحدث عنه ديريدا على الدوام- والأداء تمثيلان لايعني القول أن بوسعهما أن يكونا شيئاً آخر. فهما لايمكن أن يكونا شيئاً آخر لأن المسرحية المدعوة بهامليت بقلم شكسبير ماهي أيضاً إلى مثل عن الكتابة، كما أن الكتابة كلها ليست بديلاً عن أي شيء جاءت لتحل محله، بل إقرار مفاده أنه ما من وسيلة أخرى سوى الكتابة حين يقضي الواجب باستعمال اللغة، وعلى الأقل مادام الأمر يتعلق بإمكانية التمثيل المعزّز الصالح للتكرار. وعلى حين غرة نكتشف أن نفس فكرة التمثيل تحوز على شك جديد، كما هي عليه الحال تماماً في أن أي عرض لمسرحية هامليت -مهما كان مقدار تهريجه- يؤكد تضعضع كلمات المسرحية وحتى فكرتها الأساسية نفسها. وإن مانجد ديريدا فاعله هو الشيء نفسه الذي رأينا ديكنز فاعله تماماً، ألا وهو السماح لنفس فكرة التمثيل أن تمثل نفسها على مسرح (وهو المكان المناسب جداً بمنتهى الوضوح) حيث على الأقل نسختان من نص مألوف تعترض الواحدة منهما سبيل الأخرى وتعلو هذه على تلك وتلك على هذه، وتعكس الواحدة منهما اتجاه الأخرى، وحيث تكمل النسخة الجديدة منهما النسخة القديمة، والأمر برمته يجري في صميم نفس نثر ديكنز -ذلك النثر الذي يشكل المكان، والمكان الوحيد، لإمكانية حدوث الأمر المشار إليه. وهكذا فإن الهم المتواصل لدى ديريدا بخصوص التمثيل يورطه في نوع من الحشو الدائم ولو أنه في غاية الاقتضاب. فهو يستخدم نثره الخاص لتمثيل أفكار معينة عن الحضور، علاوة على تمثيلاتها، وهي تفعل فعلها في سلسلة كاملة من النصوص من أفلاطون إلى هيداغر، ويعمد من ثم لتبيين ماتمثله هذه النصوص بإعادة قراءتها وإعادة كتابتها إلى أن نتمكن من رؤيتها لا كتمثيلات لشيء ما، لا كتلميحات لأي مغزى غامض موجود خارجها، بل كنصوص تمثل أنفسها بطرائق تمثيلية كاملة كما هي عليه.
إن هذا الموجز يمثل الخلاصة المتناهية لماهو بدون أدنى شك نظرية من أكثر النظريات تعقيداً وتحبيكاً، ورواجاً أيضاً هذا اليوم، عن المعنى والنصية. وأما السبب الرئيسي لإتياني بهذا التلخيص فهو التوكيد على عدد قليل من أفكار ديريدا (لا على نهجه، إن كان هنالك مثل هذا الشيء) لكي أتحدث عنها بمزيد من التفصيل طفيف. فهذه الأفكار تنطوي اليوم على أهمية خاصة بالنسبة للنقاد الذين قد يرغبون بوضع أنفسهم، الفياضة بالشكوك، بين الثقافة ككتلة متراصة من الأفكار التي تهنئ ذواتها بذواتها وبين الطريقة أو المنهج الذي هو بمثابة أي شيء يماثل التقنية المستقلة التي تدعي التحرر من التاريخ أو الموضوعية أو الظرف. وعلاوة على ذلك، فإن عمل ديريدا يفرض علي، بمنتهى الإلحاح، المبادرة لمعالجته معالجة آنية نظراً لما أحمل من انطباع شخصي عن النقد الذي يجب، إذا أريد له ألا يتحول إلى مجرد شكل من أشكال توكيد الذات، أن يستهدف المعرفة كما يجب أن يحاول، وهذا أهم، التعامل مع المعرفة وتحديد هويتها وإنتاجها كشيء له علاقة معينة مع الإرادة ومع العقل.
إن العديدات من مقالات ديريدا تستخدم لا الاستعارات المكانية وحدها وحسب، بل وتستخدم الاستعارات المسرحية أيضاً بشكل أكثر تحديداً. فالنظرة إلى الكتابة "écriture" في عمل فرويد، مثلاً، هي أن لها نوعاً من النصية التي تحاول محاكاة الإطار المسرحي. فالمقالتان العظيمتان لديريدا في "LÉcriture et la différence" تستغلان اهتمام آرتو* بذلك التمثيل القابل للتكرار إلى مالا نهاية بغية تفسير فكرة ديريدا عن كون الكتابة بديلاً لا نهائياً لشكل يمثل شكلاً آخر، وبغية تحديد مدى النص على أنه عرضة للتفعيل جراء التورية "jeu". وعلى نحو مماثل يبين ديريدا ذلك الغموض الذي يتعذر تقليصه والذي تنطوي عليه أفكار آرتو عن المسرح، إذ أن آرتو كان يصر -إصرار ديريدا- على رؤية أي شيء من منطلق المسرح على الرغم من أنه "كان يتمنى استحالة وجود المسرح، وكان يريد طمس معالم المصطبة، علاوة على أنه بات لا يطيق رؤية كل مايرشح عن ذلك المكان المسكون على الدوام بشبح الأب والموبوء بتكرار جرائم القتل" (24). فتقنية شبه المونتاج التي جئت على وصفها سابقاً تحظى بوسم ديريدا لها بأنها على نوع من العلاقة الاستثنائية بكل الكتابة، حيث تدأب العملية الغرافولوجية* على تكرار اقتفاء آثار نفسها وعلى تكرار طمس تلك الآثار بشكل متواصل، الأمر الذي يفضي إلى اتحاد القديم والجديد فيما يدعوه بالمشهد المزدوج "la double scéne". وأما لاحقاً، وبعد استخدامه سلسلة من سلاسل التورية التي يلح على استغلالها، فيدعو ما يفعله بها بالعلم المزدوج "science double" الذي يعيد إلى أذهاننا محاضرته المزدوجة عن كتابة مالارميه "la double séance".
وهذا كله يوطد في عمل ديريدا تبادل المواضع فيما بين الصفحة وبين مصطبة المسرح. ولكن مكان ذلك التبادل -الذي هو بحد ذاته صفحة ومسرح- يقوم في نثر ديريدا، ذلك النثر الذي يحاول، في العمل الحديث لديريدا، التقليل من تحركه وفق التعاقب الزمني والترتيب المنطقي والحركة المستقيمة، والاستكثار من الحركة المفاجئة المتممة والجانبية التي تتعذر مواكبتها(25). وإن تلك الحركة تتقصد تحويل الصفحة عند ديريدا إلى موضع كاف بحد ذاته، وبكل وضوح، لقراءة نقدية، وصفحة مطروحة فيها النصوص والكتاب والمشكلات والموضوعات التقليدية بغية تجريدها من التحديد واختزال موضوعاتها على نحو مستديم إلى حد ما. وهكذا فإن النظرة إلى النصية هي أنها المكافئ المكتوب للمسرح الذي لاتقوم من حوله الحدود، وياللعجب، إلا ابتغاء القفز من فوقها، ولا يعمل فيه الممثلون إلا ابتغاء تفكيكهم إلى أقسام عديدة، ولا يعج بالمتفرجين إلا لكي يدخلوه ويخرجوا منه كما يشاؤون، فضلاً عن احتوائه على ذلك الكاتب الذي لايستطيع أن يقرر فيما إن كان يكتب أو يكتب من جديد أن يقرأ على هذا الجانب من الصفحة/ المسرح أو على ذاك. (وهنا يجدر الانتباه إلى التماثلات مع بيرانديللو وباكيت).
إن العبء الجدلي الذي تنطوي عليه المعروضات اللفظية لديريدا يتمثل عملياً بإعادة التفكير فيما يعتبره بمثابة الدعائم الأساسية للفكر الفلسفي (وحتى للفكر الشعبي)، إذ إنه يعتقد أن الفكرة التي تدور، من بين هذه الدعائم، حول حضور يتحلى بقوة الإقناع مثل "المادة /الوجود/ الجوهر (ousia)"(26)، وبصحبتها الخيال الآسر لتصورات توجيهية كالأفكار الأفلاطونية والتركيبات الهيغيلية ومجمل النقد الأدبي مما عفى عليه الزمن الآن ومما يجب النظر إليه على أنه كان هدفاً للتثبيت لإجراء قوة "خارجية" ما بل جراء قراءة النصوص قراءة مغلوطة. وإن قراءة النصوص قراءة مغلوطة تصبح شيئاً ممكناً بفعل النصوص أنفسها التي توجد أية إمكانية للمعنى بالنسبة لها -حتى في أحسن النصوص- في حالة فجة من حالات انعدام التوكيد. وإن هذا التصور ليمثل الفكرة الفلسفية الأساسية لديريدا، تلك الفكرة التي انبثق عنها ما أعلن عنه بأنه علم "grammatology" مع أنه لم يضعه موضع التطبيق، وماصار شيئاً ممكناً بشكل أولي. ومع ذلك فإن عمل ديريدا يتجاهل في الوقت نفسه إمكانية تقرير ما في النص، وما إن كان بمقدور المرء أن يقرر إمكانية فصل النص النقدي بتلك البساطة عن نصه الأبوي كما كان يعتقد النقاد، وما إن كان بالإمكان احتواء معنى النص في فكرة معناه نفسه، وما إن كان بالإمكان قراءة النصوص دون الارتياب الطاغي الذي مفاده أن كل النصوص تحاول -إذ كلما زادت عظمة النص، وربما عظمة الناقد، زادت براعته في المحاولة -إخفاء أسلوبها الخنثوي تقريباً في هيكل كامل من التوجيهات المضللة للقارئ، على شكل موضوعات خيالية، واحتكامات إلى الواقع سريعة الزوال وماشابه ذلك(27). ولما كان ما في حوزتنا لا يعدو الكتابة التي تتعامل مع الكتابة، فإن الواجب يقضي بتبديل أنماط فهمنا التقليدي تبديلاً أساسياً.
وثمة مثل هام عن الأسلوب الذي يعتمده ديريدا للتشويش على الفكر التقليدي خلف حدود إمكانية جدواه، موجود في هذا المقطع الذي يدور حول سلالة النص:
نحن نعرف أن الاستعارة التي يمكنها وصف سلالة النص وصفاً صحيحاً لا تزال ممنوعة (أي إذا حاولنا أن نفكر من أين يأتي النص، سنكون عرضة للبقاء مع فكرة خارجية ما "كالكاتب" على سبيل المثال، وهذا ما يمنعنا من محاولة وضع أيدينا على الأصول النصية الخاصة للنص- علماً أن هذا الأمر شيء مختلف تماماً). فالملحق التاريخي لنص من النصوص، في بناء جملته وفي معجمه وفي تباعد سطوره، ومن جراء تنقيطه وفراغاته وهوامشه، ليس بتاتاً في وضعية خط مستقيم. وعلاوة على ذلك فما هو بالوسيط السببي جراء العدوى، وماهو بتراكم الفئات تراكماً بسيطاً، وماهو حتى بوضع المقطوعات المستعارة إزاء بعضها بعضاً. ولئن كان النص يمنح نفسه دائماً تمثيلاً معيناً لجذوره هو، فإن تلك الجذور لا تعيش إلا بفضل ذلك التمثيل، بعدم ملامسة الواقع البتة إن جاز مثل هذا التعبير
(ألا وهو الأمر الذي من الممكن معارضته تماماً لأن ديريدا يمر مرور الكرام على تلك الطريقة التي ترتبط بها النصوص بغيرها من النصوص الأخرى، وبالظروف وبالواقع)، مع العلم أن هذا الشيء يقوض جوهرها الأساسي، بيد أنه لايقوض ضرورة وظيفتها التواشجية
Racination .(18).
وما نتيجة مثل هذا المنطق (the mise-en- abime) إلا تقليص كل مانظن أن له في صميم النص فعالية من خارج النص إلى وظيفة نصية. فالشيء الهام في النص هو أن نصيته تتخطى حتى حدود مقولاته عن أشياء من أمثال جذوره في الواقع أو وشائجه معه. وبدلاً من أن يصاب ديريدا بالإرباك جراء التشابه الواضح بين إنتاج الكتابة وإنتاج الحياة العضوية (بالشكل الذي من المسموح فيه قيام التشابه في المقارنة مثلاً بين semé [منقط] و semen [السائل المنوي])، فإنه يهشم التشابه، يشقلب الأمور رأساً على عقب. إن فكرة الكتاب المسموح بها ثقافياً هي فكرة وحدة متراصة -وخير مثال على ذلك هو الموسوعة- علماً أن تلك الوحدة تفسح المجال لإنتاج زمرة من الأفكار التي هي محط تصور ثمة شيء متفرد أصيل يشبه المعلّم أو الأب الذي يسلي نفسه بجعل المعنى حلقياً أي مستمداً من المصدر الوحيد وأسيراً له ، فكل مفهوم يقوم مقام الدليل على الاخصاب الذاتي حيث يعمل مفهوم على توكيد مفهوم آخر وعلى توكيده مراراً وتكراراً(29). وكشيء مضاد لهذه المفاهيم يطرح ديريدا ويستن من جديد- مع التذكير بأن اللغة الجنسية التي يستخدمها ديريدا في العادة لبحث المعاني والنصوص تكمن تماماً في صميم أكثر كتبه اتساقاً ومتعة ألا وهو كتابه الذي يحمل عنوان la dissémination -حركة معاكسة (تماماً بنفس ذلك الشكل الذي ينطرح فيه ممثلو هامليت لووبسلي في مسرحية هامليت لشكسبير). فهذه الحركة هي مايدعوها ديريدا بـ dissémination "الانتشار" التي ماهي بالمفهوم البتة بل ذلك الشيء الذي يصفه أينما كان بقوة النصية على اختراق آفاق السيمانتية (علم دلالات الألفاظ).
فالإخصاب لايفيد ضمناً أي شيء، ولايستدعي فكرة العودة إلى مصدر أو أصل أو أب، بيد أنه يسلتزم، على النقيض مما سبق، إخصاء مجازياً معيناً، مبيناً أن النص في كتابته قادر على إخصاء تلك الفكرة الأفلاطونية التي توحي لنا بآرائنا عن المعنى والتمثيل، وعلى إخصاء المثلث الهيغلي الوطيد الأركان في التركيب. إن الإخصاب يحافظ على التمزق الأبدي للكتابة، يحافظ على الترجرج الجوهري للنصوص التي لاتكمن قوتها الحقيقية في تعدد معانيها (والتي من الممكن جمعها تأويلياً، في خاتمة المطاف، تحت عناوين موضوعات شتى، أي بنفس تلك الطريقة التي يستجمع بها جان بيير ريتشارد كل عمل مالارميه ويصفه بعنوان أكثر ترجرجاً بكثير هو "عالم خيالي"(30)، بل لتلك النصوص التي تكمن قوتها في عموميتها وكثرتها اللامتناهيتين.
إن الإخصاب ليوطد، جنباً إلى جنب مع تمديده مفهوم النص تمديداً منظماً، أركان قانون مغاير يتحكم بمظاهر المعنى أو الفحوى (بداخلية "الشيء"، بواقعيته، بموضوعيته...)، أي بعلاقة مختلفة بين الكتابة، بالمعنى الميتافيزيقي لهذه الكلمة، وبين "مظهرها الخارجي"... علاوة على أن الإخصاب يفصح عن نفسه أيضاً... بأنه تعددية البذرة وخارجيتها المطلقة، إذ أن التشعب الرشيمي يحيل نفسه بالفعل إلى برنامج، بيد أنه ذلك البرنامج الذي يستحيل إضفاء السمة الشكلية عليه لأسباب يمكن إضفاء السمة الشكلية عليها. وهكذا فإن لانهائية رموزه، أي تصدعاته، لا تتخذ لها شكلاً مستنفعاً بالحضور الذاتي في الدائرة الموسوعية(31).
إن كل قراءة من قراءات ديريدا الرائعة روعة استثنائية تنطلق إذاً، منذ كتابته كتاب "De la grammatologie" الذي تتضمنه تلك القراءات أيضاً، من نقطة في النص تنتظم حولها نصيته المغايرة والمتميزة عن رسالته أو معانيه - ألا وهي تلك النقطة التي تتحرك باتجاهها نصية النص إبان تفجر الإخصاب الناجم عن النشاط الفوضوي للنص. وماهذه النقاط إلا تلك الكلمات التي تقف على طرفي نقيض مع المفاهيم، ألا وهي تلك النتف من النص التي يعتقد ديريدا بأنها مكمن نصية النص المناعة على التقليص: والتي يكشف من خلالها على ذلك. فهذه الكلمات التي تقف على طرفي نقيض مع المفاهيم والأسماء والأفكار تتملص من أي تصنيف محدد، الأمر الذي يشكل السبب الذي يجعل منها مجرد كلمات نصية، والسبب الذي يجعل منها نشازاً أيضاً. إن طريقة ديريدا في التفكيك تقوم بوظيفة إعتاق تلك الكلمات، شأنها بذلك شأن اللحظة المناخية في كون كل نص من نصوصه هو مجرد أداء بفعل هذه الكلمات المضادة للمفاهيم، أي تلك الكلمات المحضة ليس إلا. وهكذا فإن مايشير إليه ديريدا هو "مشهد كتابة في صميم مشهد كتابة وهكذا دواليك إلى اللانهاية، من خلال ضرورة بنيوية واضحة المعالم في النص"(32). فما من شيء بمقدوره إظهار النصية في مناخها الملائم إلا تلك الكلمات الفاذة syncatégoremes- ألا وهي تلك الكلمات التي لها، كصلات الوصل، وظيفة إعرابية في الوقت الذي تستطيع فيه الإتيان بوظائف دلالة أيضاً (33). وإن هذه الكلمات ذات مرونة لامحدودة مما يجعل منها كلمات منشّرة أيضاً، إذ إنها تعني هذا الشيء وذاك (مثلها تقريباً مثل كلمات الطباق الأساسية لدى فرويد)، ولكن السبب الذي يدفع ديريدا للاهتمام بها هو أنها هي، لا الأفكار الكبيرة، مايجعل من النص تلك الظاهرة المكتوبة الفذة التي هو عليها، أي شكلاً من أشكال التكملة لذلك المعنى القابل للتصييغ. وماهذه التكملة إلا سمة لذلك النص الذي يستطيع أن يكرر نفسه دون استنزاف نفسه ودون تكتمه على شيء (على فيض من المعاني السرية مثلاً).
وهكذا فقراءة ديريدا للشاعر فيدروس "phaedrus" ماهي إلا تفسير لكلمة "pharmakos" التي يستخدمها أفلاطون لكي تمكنه من الكتابة بطريقة تتيح إنتاج النص الذي تتعايش فيه الحقيقة واللاحقيقة جنباً إلى جنب كمثلين لا عن فكرتين بل عن تكرار نصي (34).
فديريدا يقول مايلي عما هو أثير على نفسه من هذه الكلمات، من هذه السلاسل النصية:
إن مايصح في رمز "hymen: غشاء البكارة" يصح أيضاً في كل الرموز الأخرى، من أمثال différence و supplément و pharmakon، التي لها قيمة رجراجة ومتناقضة ومزدوجة تنبثق دائماً من استعمال الرموز في الجملة، سواء أكان ذلك الاستعمال "داخلياً" بمعنى ما عاملاً على وصل وجمع معنيين متضاربين بصلة وصل واحدة "huph Pren"، أو كان "خارجياً" معتمداً على الرموز المشفرة التي تلقى فيها الكلمة لتؤدي وظيفتها. ولكن التركيب والتفكيك النحويين لرمز من الرموز يجعل مثل هذا التناوب بين الداخلي والخارجي شيئاً واهياً. فالمرء يتعامل بمنتهى البساطة بوحدات نحوية إلى حد ما إبان قيامها بعملها، وبفروق دقيقة جراء التعبير عن الأفكار بمنتهى الإيجاز. ودون
إيجاز هذه الأمور كلها إلى ماقيل آنفاً فإن بالإمكان التعرف، على النقيض من ذلك تماماً، على قانون تسلسلي معين في هذه النقاط ذوات المحاور اللامحدودة: فهي تسم مواضع ذلك الشيء الذي يستحيل البتة توسطه أو قهره أو حذفه أو إفراغه في صيغة ديالكتيكية من خلال أي تذكر أو نقل ×××××××.
فهل بمحض الصدفة أن كل هذه التلاعبات اللفظية، أي هذه الكلمات" التي تتملص من السيطرة الفلسفية عليها، يجب أن يكون لها، في قرائن تاريخية متباينة تبايناً واسعاً، علاقة فريدة جداً بالكتابة؟ إن هذه "الكلمات" تقر في تلاعباتها بوجود كل من التناقض وعدم التناقض (وبوجود التناقض وعدم التناقض فيما بين التناقض وعدم التناقض). وبمقدار مايعتمد النص عليها، أي بمقدار مايتقيد بها (s’y plie)، فإنه نظراً لذلك يمثل مشهداً مزدوجاً على مسرح مزدوج، فهو يعمل في مكانين مختلفين اختلافاً صارخاً في آن واحد معاً، حتى لو كانا مفصولين بحجاب
يسير اختراقه وعسير اختراقه في الوقت نفسه، أي متشابك (entrouvert).ولو أن أفلاطون كان حياً لخلع على العلم المزدوج المنبثق عن هذين المسرحين، بالنظر لهذا التقلقل والترجرج، نعت النزوة "doxa" لا نعت المعرفة "epistémé"(35).
إن الكلمات كلها لا تتشاطر فيما بينها معنى مشتركاً بمقدار ما تتشاطر بنية مشتركة من مثل كلمة hymen التي يستخدمها ديريدا لإرشاده في قراءة مالارميه، أومن مثل كلمة tympan: الطبلة المستخدمة لاستهلال مقالة "هوامش الفلسفة"(36). فالمعنى المتقلقل للكلمة -لاحظوا كيف أن بالإمكان تفكيك كلمة hymen وتحويلها بضربة ريشة إلى كلمة hymne: ترنيمة دينية - ماهو إلا كغشاء ذي نخاريب بالغ الحساسية يسم مراميه المختلفة ومواقعه المختلفة وجوانبه المختلفة (مثله مثل الورقة المطوية)، بيد أن اختراقه في غاية اليسر بالنسبة لذلك النشاط الذي يستهله ويجذبه وأخيراً يضطر للانعتاق من خلاله. وعلاوة على ذلك فإن الكلمات الأساس لدى ديريدا ماهي إلا رموز حروف: إذ إنه يقول عنها بأن من المحال جعلها دالة أكثر مماهي عليه الدلائل. فهنالك إذاً، وبشكل فيه كثير من الإلحاح، ثمة شيء سخيف عنها لأنها عقيمة وبلا جدوى، مثلها بذلك مثل كل الكلمات التي تستعصي على التكيف مع فلسفة الحاجة، أو المنفعة، الماسة.
فبعد أن وطد ديريدا عزمه على اقتراح في كوندياك، ومن ثم على تناوب دائب في كتابة نيتشه فيما بين الفلسفة التنويرية وبين مايبدو ظاهرياً تافهاً من أغنية أو خرافة أو قول مأثور أو لفظة نبوية، انطلق لاستهلال أسلوب في النقد والتحليل الفلسفيين: ذلك الأسلوب الذي يجوب بمنتهى البساطة والتعمد (علماً أن كلمة ديريدا ليجوب هي errance، في حين أن مشتقاتها تقوم في كلمة erreur) تلك الزوايا التي أهملها ما المفروض به أن يكون نقداً وفلسفة جادين. إن شكل عمله، المطروح على شكل عمل لوكاش بصورة مقالات عرضة للتهمة عمداً أنها مقالات وحسب، شكل نشور أي أن تلك المقالات تتقصد استكثار المعنى لاتقييده. وأما كياسات العرض المعهودة فشيء مطروح جانباً، كما أن الانزلاق من التلميح إلى التورية إلى غريب الألفاظ فأمر تتعذر مواكبته في بعض الأحيان. ولكن التقنية التفكيكية لديريدا ماهي، بأدق المعاني، إلا شكل من ذلك الاكتشاف الذي (وهأنذا أستخدم متعمداً العبارة الشهيرة لمارك شورر) مادته ليست مجرد نصية النصوص، وليست اختلاف المراكز اللفظية الخاصة التي تنأى بأنفسها عن التصنيفات، وليست حتى تلك النصوص التي يوجد في بنيتها شك لا حل له قائم بين كتابتها ومعناها المؤكد، وإنما تتجسد مادته في التعارض بين الأسلوب والنص المكتوب، بين الكلمة الحاضرة/ الغائبة وتكرارها اللامحدود في الكتابة. فالشيء الذي يريد ديريدا تحفيز فعاليته هو "الاقتراح المكتوب عن وسطية الكلمة، أي التوكيد على كون الخارجي خارجياً والتوكيد، في آن واحد معاً، على تغلغله البريء في صميم الداخل"(38). ولسوف يجد المرء، بشكل لا مناص منه، أن هذا اللغز يكمن لا في الخطاب الحقيقي الثابت بل في، وهنا يتحدث ديريدا بلغة نيتشه بشكل إيجابي، ذلك الخطاب الذي تتمثل أدواته ووسائطه الخبيئة في الطاقات المجازية للأدب. وإن هذه النقطة الأخيرة هي مايحاول ديريدا توكيدها في مقالته المعنونة بـ"La Mythologie blanche"* (39). وإن مايحاول فعله أي عمل من أعمال ديريدا هو تبيان entame -الشق، الثلم- في كل بنية من البنى التي تنطوي عليها الفلسفة، ألا وهو ذلك الثلم المنقوش في اللغة المكتوبة نفسها جراء إلحاح رغبته على الكشف عن نفسه للعيان، على الإفصاح عن نفسه بأنه ناقص وعديم الجدوى بلا حضور وصوت. وهكذا فإن الصوت يبدو ثانوياً بالنسبة للكتابة، وذلك لأن براعة الكتابة ماهي بالتحديد إلا براعة كل الأدب القصصي -أي تلك البراعة التي توثق نقيضها، لابل وتخلقه، كي تعمل من ثم كشيء ثانوي بالنسبة إليه وكي تصبح محجوبة عنه.
إن سلسلة النصوص التي وقع عليها اختيار ديريدا ابتغاء التحليل والاكتشاف لسلسة -على نقيض السلسلة الضيقة التي وقع عليها اختيار أتباعه بغية تحليلها- واسعة نسبياً إذ تبدأ بأفلاطون وتنتهي بهيداغر مروراً بكل من سولرز وبلانشو وباتيل. وبمقدار ماتسعى قراءاته لزعزعة الأفكار السائدة في الثقافة الغربية، فإن نصوصه تبدو محط الاختيار لأنها تجسد الأفكار تمام التجسيد. وهكذا فإن روسو وأفلاطون وهيغل يتكشفون على أنهم أمثلة لا مفر منها للفكر المتمركز حول الكلام -أي لذلك الفكر الأسير لتناقضاته اللامتناقضة والتي يجسدها في الوقت نفسه. وأما كتاب ذوو عهد أحدث- من أمثال ليفي شتراوس وفوكو- فقد وقع الاختيار عليهم كما يبدو بهدف قيام مماحكة فكرية شاقة في الذهن. وحتى قراءة سطحية لعمل ديريدا ستفضي إلى الكشف عن سلسلة هرمية ضمنية مصبوغة بصبغة تقليدية أعتى لا لكونها معروضة على ذلك النحو بل لكونها ثمرة الكشف الرائع الذي يكشفه ديريدا عن المغزى الجديد في نصوصه. وهكذا فإن أفلاطون وهيغل وروسو، بالنسبة لديريدا، إما أن يستهلوا حقباً تاريخية أو أنهم يعززونها، فمالارميه مثلاً يستهل تطبيقاً عملياً شعرياً ثورياً، في حين أن هيداغر وباتيل يتصارعان صراحة مع تلك المشكلات التي هما نفساهما وضعا لها القوانين وأعادا طرحها من جديد. وإن الطريقة التي تحظى بها هذه الشخصيات بوسمها التاريخي تعزز أية سلسلة يعمل على جمعها أستاذ في الدراسات الثقافية أو في مآثر الفكر الغربي. ومع ذلك فما من جواب على التساؤل عن السبب الذي يحول دون تسمية عصر روسو بعصر كوندياك أيضاً، أو عن السبب الذي يرتقي بنظرية روسو عن اللغة إلى مركز الصدارة، لا بنظرية فيكو أو نظرية سير وليام جونز، ولا حتى نظرية كولردج. ولكن ديريدا لا يخوض غمار هذه المسائل، على الرغم من أنني أتصور أنها ليست مشكلات تأويل تاريخي ثانوية بالنسبة لما يفعله ديريدا وإنما، على النقيض من ذلك، تبدو لي بأنها تقود إلى الأسئلة الكبيرة التي يثيرها عمل ديريدا.
لقد أدليت بملاحظاتي عن ديريدا وفوكو بالقول أنهما كلاهما، على الرغم من أنهما يمثلان وجهتي نظر مختلفتين بخصوص النقد، يحاولان بكل دراية اتخاذ مواقف رجعية حيال هيمنة ثقافية طاغية- ونظراً لموقف كهذا فإن نقدهما يزودنا بوصف عما هو عليه واقع الهيمنة الثقافية -وأنهما كلاهما أيضاً مدركين، من ناحية أخرى، للخطر المتمثل في أن مايفعلانه قد يتحول نفسه إلى عقيدة نقدية، إلى منظومة فكرية طائشة عصية على التبديل ومستهترة بمشكلاتها هي. والآن فإن موقف ديريدا وكل إنتاجه كانا مكرسين لاستكشاف كل من التصورات المغلوطة والأفكار المكرورة عشوائياً بالشكل الذي تلعب فيه دوراً مركزياً في الثقافة الغربية. ولقد أوضح ديريدا، في مناسبة واحدة على الأقل، أن أستاذ الفلسفة العامل في مؤسسة تحت إدارة الدولة يتحمل مسؤولية خاصة فيما يتعلق بالطريقة التي تنتقل بها الأفكار من المعلم إلى التلميذ ومن هذا إلى ذاك من جديد. وهذا يحدد الموقع التعليمي الذي صادف وكان يحتله رسمياً، ويشير إلى التهكمات التي ينطوي عليها مجرد اسم الموقع -agrégé- répétiteur- الذي يثير في نفس ديريدا التقزز الساخر. وعلاوة على ذلك فديريدا ينتمي إلى الهيئة التعليمية (enseignant corps) التي معنى منزلتها الوسطى يثير لدى ديريدا نفس ذلك التقزز أيضاً:
إن جسدي متألق. كل النور منصب عليه. ففي البداية يتساقط عليه من عل نور المصباح الكهربائي الذي يشع من ثم ويجتذب إليه تحديق المتفرجين. بيد أن جسدي يبقى متألقاً طالما تنتفي عنه صفة الجسد بمنتهى البساطة، انه يتسامى بنفسه لكونه يمثل هيئة واحدة على الأقل، (La corps enseipnant)- تلك الهيئة التي تفرض عليه أن يكون جزءاً منها وأن يكون هي كلها أيضاً في آن واحد معاً، أي ذلك العضو الذي بمقدوره رؤية الكل، وهذا الكل الذي ينتج نفسه من جراء طمس نفسه تحت ستار الممثل الشفاف المنظور الأوحد الذي يمثل الهيئة الفلسفية والذي يمثل في الوقت نفسه الجماعة السياسية /السوسيولوجية، مع العلم أن العقد فيما بين هاتين الهيئتين غير مكشوف لأعين الملأ جهاراً البتة(40).
إن الاستعارة المسرحية موظفة هنا وفي أي مكان آخر على أحسن مايكون التوظيف في التحليل السافر الوحيد الذي يحلل فيه ديريدا الآثار الناجمة عن ظروف السياسة والتاريخ والمؤسسة، والذي يحلل فيه وقائع كينونته هو كفيلسوف ومعلم ذي مشروع خاص به من عندياته. ولكنه قصّر بعض الشيء توصيف هذا الموقع الخاص الفياض بالامتياز. فهل يكفي القول أن المنهج التفكيكي يجب ألا يحاول التمييز بين سلسلتي الأفكار الفلسفية الطويلة منهما والقصيرة، ويجب عليه أن ينهمك بطريقة عامة جداً بالكيفية التي "من الممكن دائماً فيها للعدد العديد من قوى جهاز من أعتق الأجهزة [ويشير في هذه الحالة إلى مجمل البنية الفعالة للفكر الغربي كما يمثلها الموروث الفلسفي] أن يكون موضع تجديد الاستثمار والاستغلال في وضع غير مطبوع"؟(41) وأما شعوري حيال الفكر الغربي فهو أنه سيبقى، طالما هو محط الإسناد على العموم أوحتى طالما هو موجود بشكل حقيقي في نصوص بأم عينها، شيئاً نظرياً وكما هو عليه في حقيقة الأمر، لا لأن ديريدا لا يقاومه -إذ إنه يقاومه ولا يقاومه في آن واحد معاً ببعض الطرق البارعة التي حاولت وصفها- بل لأن الفكر الغربي أكثر تميزاً واندماجاً وأكثر تمثيلاً للمؤسسة، وهذا أهم مافي الأمر، مما يبدو على ديريدا الاستعداد للإقرار به.
بيد أن المشكلة لاتتوقف عند هذا الحد وحسب. فإلى الحد الذي كان فيه ديريدا حريصاً غاية الحرص على القول بأن تقنيته التفكيكية الإيجابية لم تكن لتطمح حتى أن تكون برنامجاً مناسباً للحلول محل المنظومة الفلسفية العتيقة الطراز، إلا أنه اشتط في الوقت نفسه إلى حد تزوير قرائه (وتلاميذه في فرنسا وفي كل مكان آخر) بمجموعة من المفاهيم المضادة. وإن الشيء الأساسي الذي ادعاه مريدو ديريدا بخصوص تلك الكلمات، وبخصوص منهجه التفكيكي بالفعل، هو أنها عصية على الاختزال في معجم سيمانتي محدود. وفضلاً عن ذلك ليس من المفروض بها أن تكون تلك المرايا التي تعكس تلك العقائد والأفكار المضادة والمستوطنة في الميتافيزيك الغربي التي تتحداها. فكلمة Différance، على سبيل المثال، تعرضت للتحديد لأول مرة في عام 1968 على أنها ذات معنيين جذريين أو ربما ثلاثة وكلها مختلفة عن معاني كلمة différance(42). وفي عام 1972 قال عن هذه الكلمة نفسها أنها تماثل "زمرة المفاهيم التي أراها على شكل منظومة عصية على الاختزال حيث يطل كل فرع منها برأسه على حين غرة، لا بل ويتخذ له شكلاً، في اللحظة الحاسمة إبان غمرة العمل" (43). وأنا أتصور أنه يقول أن هذه الكلمة، أو أي مظهر منها، تعتمد في معناها الدقيق على استخدامها بلحظة معينة في قراءة نص ما. وعلى الرغم من ذلك فإننا نبقى حيارى حيال الكيفية التي يتمكن بها ثمة شيء من أن يكون عملياً ونصياً ونظامياً وميسور التمييز ومعسور الاختزال، وألا يكون في الوقت نفسه بالفعل لا فكرة ولا مذهباً ولا مفهوماً ثابتاً، بالمعنى القديم لهذه الكلمات. فهل بوسعنا أن نبقى نحن معلقين في الفراغ إلى أبد الآبدين بين معنى قديم ومعنى جديد؟ أولن تبدأ هذه الكلمة الرجراجة الوسطى بتجميع المزيد والمزيد من المعاني لنفسها هي، شأنها بذلك شأن الكلمات القديمة؟ وعلى نحو مماثل، إن كانت تلك النصوص التي قرأها ونظمها حول الكلمات الرئيسة نصوص لا ترتقي بالضرورة بتلك الكلمات إلى مستوى الكلمات الرئيسة الشاملة (بالمعنى الذي يقصده ريموند وليامز)، فإنها لن تكون مجرد كلمات حيادية بتلك البساطة. وخير مثال على ذلك يتجسد في كلمة supplément التي وجدها ديريدا في روسو والتي نحت منها مخزوناً صغيراً من الكلمات في ذلك suppléntarité (التكميل) وكلمة supplément أي تكملة شيء بشيء آخر، مع العلم أن كل تلك الكلمات كان لها استخدامات جلية في قراءة نصوص أخرى. فكلمة مثل supplément تحوز على مزيد ومزيد من الاعتبار والتاريخ، علاوة على أن تركها دون شيء من الاهتمام باستخدامها في مكانها الصحيح الجوهري في عمله لهو، بالنسبة لديريدا، تجاهل غريب.
إن عمل ديريدا يواصل، كما أرى، تأثيره التجميعي على ديريدا نفسه، ناهيك عن تأثيره البين على تلاميذه وقرائه. وتساورني بعض الشكوك في أنه كان ناجحاً، في محاولته الحكيمة تجنب شبهة السقوط في منهج نظامي كان سيزعن له على أرجح الظن كأستاذ فلسفي ذي شأن كبير، في تفادي النتيجة الطبيعية لتجميع مقدار واف مما يشبه المنهج أو الرسالة أو السلسلة الكاملة من الكلمات والمفاهيم الخاصة. وبما أن من الخطل (والإهانة حتى) أن نقول أن التجميع الذي جمع فيه ديريدا المعرفة من خلال سيرورة عمله الفلسفي ليس بأكثر من مزاج أو مناخ، يتوجب علينا قبوله بأنه يشكل موقفاً -ألا وهو تلك الكلمة التي استخدمها بنفسه بمنتهى الارتياح. ولما كان ذلك الموقف موقفاً فإن من الممكن تحديده بالطبع لا بل وتصديره حتى، بيد أن التردد الذي تردده ديريدا حيال تحويل موقفه التاريخي إلى برنامج، وحيال ارتباط عمله بأنواع خاصة من الأعمال دون سواها: أمور كلها تحرم عمله، وبشكل مبرمج أيضاً، من موقفه ونفوذه الكبيرين. وعلاوة على ذلك فإن النصوص التي جرى تطبيق هذا الموقف عليها من لدن ديريدا انحرمت بدورها أيضاً من كثافتها وخصوصيتها ووطأتها التاريخية. فالصورة التي يأتي بها ديريدا لكل من أفلاطون وروسو ومالاريه وسوسور تدفعنا إلى التساؤل: هل كل هؤلاء المفكرين مجرد نصوص، أم هل هم حالة سائبة من حالات المعرفة من وجهة نظر مؤمن ليبرالي بالثقافة الغربية؟ وماهي الأهمية المهنية التي يتحلون بها بالنسبة إلى فيلسوف وعالم لغوي وناقد أدبي، وكيف هم مجرد أحداث بالنسبة لمؤرخ فكري؟ إن سلسلة هذه الكياسات عرضة لأوسع مايكون من التمديد، شأنها شأن ذلك الجهاز المعقد الذي ينشر أفلاطون وروسو والآخرين، في الجامعات وفي اللغة التقنية لاحترافات شتى في العالم الغربي وفي غيره من العوالم الأخرى، وفي فصاحة الأقليات المهووسة، وفي وضع السلطة موضع التطبيق العملي، وفي خلق أو تفجير الموروثات والمعارف والبيروقراطيات، والجهاز الذي يتمتع بالسلطة وبالدمغة التاريخية الفعلية الأبدية على الحياة البشرية. ولكن الجدير بالذكر أن ذلك الجهاز بحاجة لدرجة كبيرة من التحديد، لابل وأكبر مما استفاض بد ديريدا.
ليس في نيتي أن أشتط إلى حد القول أن موقف ديريدا يرقى إلى مستوى العقيدة الجديدة. بيد أن بمقدوري أن أقول أن ذلك الموقف لم يوضح بما يكفي من التفاصيل، على الرغم من رفعته وتميزه، ذلك الشيء الذي يشير إليه ديريدا في وصفه الهيئة التعليمية "corpo enseignant"، ألا وهو "التعاقد فيما بين كل هذه الهيئات" (أي هئات المعرفة والمؤسسات والسلطة)، تعاقداً ضمنياً وذلك لأنه "لايظهر البتة على الواجهة". فالكثير الكثبر من عمل ديريدا دلل على أن مثل هذا التعاقد موجود، فضلاً عن أن النصوص التي تبين انحيازات تمركز الكلمات ماهي إلا دلائل على وجود التعاقد وعلى ديمومة وجوده من فترة إلى أخرى في الثقافة والتاريخ الغربيين. ولكن يحق لنا شرعاً أن نتساءل، على ماأظن، عن الشيء الذي يحافظ على تماسك ذلك التعاقد، عن الشيء الذي يجعل من الممكن لمنظومة معينة من الأفكار الميتافيزيكية، علاوة على بنية كاملة من المفاهيم والتطبيقات العملية، والأيديولوجيات المستمدة منها، أن تحافظ على نفسها من غابر الأزمان الإغريقية حتى الزمن الحاضر. فما هي تلك القوى التي تستبقي كل هذه الأفكار ملتحمة بالغراء بعضها ببعض؟ وماهي القوى التي تحشرها في النصوص؟ وكيف يتسمّم ذهن الفرد بهذه الأفكار التي تطغى لاحقاً عليه؟ فهل كل هذه الأشياء من باب المصادفة المحض، أم أن الواجب يقضي في حقيقة الأمر إقامة صلة حميمة، ومشاهدة تلك الصلة بأم العين، بين الشواهد الدالة على هذا التمركز الكلامي وبين الهيئات العاملة على تأييده ضمن سيرورة الزمن؟ وحين يقول بورجز: "لكم كنت أصاب بالعجب كيف أن الحروف الموجودة في كتاب مغلق لايختلط عاليها بسافلها وتتلاشى بين عشية وضحاها"، فإننا نحن بدورنا نقول، لدى قراءتنا عمل ديريدا، ياللعجب من ذلك الشيء الذي يحفظ ديمومة أفكار الميتافيزيك الغربي هناك في كل النصوص ليلاً نهاراً، ولردح من الزمن على ذاك الطول. فما هو ذلك الشيء الذي يجعل من هذه المنظومة منظومة غربية؟ وقبل أي شيء آخر، ماهو الشيء الذي يستبقي التعاقد خبيئاً والذي يسمح، وهذا أهم من سابقه، لآثاره بالظهور في طريقة بالغة الإحكام والترتيب المنهجي؟
إن الإجابات على هذه الأسئلة لايمكن العثور عليها بقراءة نصوص الفكر الغربي نصاً إثر نص آخر مهما بلغ تعقيد منهج القراءة ومهما بلغت أمانة تسلسل النصوص المقروءة. وإن من المؤكد أن أي منهج للقراءة كمنهج ديريدا الذي يطمح أساساً لتبيان هذا العنصر الرجراج أو ذاك في النص بدلاً من تبيان رسالة اختزالية بسيطة من المفروض أن يتضمنها النص، ويطمح في الوقت نفسه أيضاً، من الناحية الأخرى، للتراجع عن جعل أية قراءة للنص جزءاً من تلك الفرضية الصريحة المرصوصة البنيان عن إصرار الفكر الميتافيزيكي الغربي على وجوده التاريخي، سوف يعجز بالتأكيد في خاتمة المطاف عن وضع يده على العمق والسلطان الماديين والموضعيين للأفكار كواقع تاريخي. وأما السبب لذلك فيعود لا لأن تلك الأفكار ستكون عديمة الذكر وحسب، بل لأن تسميتها ستكون حتى من المستحيلات -وهذا شيء متفق تماماً مع النزعة المطلقة لدى ديريدا المضادة للفلسفة الإسمية، ومع فلسفته المناهضة للتعريف، ومع تجريده اللغة من كسائها السيمانتي. وقصارى القول فإن البحث في صميم النص عن شروط النصية سوف يتعثر عند نفس تلك النقطة التي يصبح فيها الطرح التاريخي للنص موضع شك بالنسبة للقارئ، ومعضلة بالنسبة للناقد.
وهنا يصبح الاختلاف بين ديريدا وفوكو اختلافاً صارخاً جداً. فليس من الوافي بالغرض أن نقول أن ديريدا، كما أشرت ضمناً، يخرج بالنص من محطة تأمل النصية الداخلية إلى العراء ليشق طريقه إلى واقع خارج النص بغية إقامته فيه والبقاء هناك. ولسوف يكون أكثر إفادة أن نقول أن اهتمام فوكو بالنصية يتجسد في تقديم النص عارياً من عناصره الغامضة أو من طلاسمه، وفي الإتيان بهذا من خلال جعل النص متشحاً وشاح علاقاته الحميمة مع المؤسسات والدوائر والوكالات والطبقات والأكاديميات والهيئات والجماعات والنقابات، ومع المهن والأحزاب المحلية أيديولوجياً. وإن أوصاف فوكو لنص أو خطاب ما تحاول من خلال التفصيل وفخامة الوصف أن تعيد إضفاء الصفة السيمانتية "resemanticise" على المصالح الخاصة وأن تعيد، بالقوة، تحديدها ورصدها -أي تلك المصالح التي تخدمها النصوص كلياً. وثمة حالة تامة في صميم الموضوع هي النقد الذي يسوقه لديريدا. ففوكو ليس قادراً فقط على أن يبين بشكل مقنع أن ديريدا قد أساء، في نقطة عويصة واحدة، قراءة ديكارت جراء استخدامه ترجمة فرنسية تضيف كلمات ليس لها وجود في الأصل اللاتيني لديكارت، لابل وإنه قادر أيضاً بمنتهى الوضوح على أن يبرهن أن كل مناقشة ديريدا عن ديكارت مناقشة مغلوطة، لابل ومصبوغة بالنزق. فما سبب ذلك ياترى؟ والجواب هو أن ديريدا يصر -مع الإشارة إلى أن القول التالي يصح فيما يتعلق بمنهجه لافيما يتعلق بالرواسب السيمانتية للنص- على محاولة البرهان أن فرضية فوكو عن ديكارت، وهي الفرضية التي عزل فيها ديكارت الحماقة عن الاحتلام، لم تكن بالفعل عن ذلك الأمر البتة بل كانت مناقشة عن الكيفية التي كانت بها الأحلام أكثر غلواً حتى من الحماقة، كون الحماقة مجرد شاهد هزيل عن الاحتلام. وإن تلك المناقشة لاتتعدى قراءة النص، تاركة آراء القارئ (أي آراء ديريدا) وشكوكه وجهله تطغى على منظومة من الأفكار الخفية، ولو أنها موجودة وفاعلة، مما يجعل النص يقول تحديداً إن الجنون يجب بالإكراه تمييزه واستثناءه عن الفعالية البشرية السوية التي تتضمن الاحتلام.
إن مشكلة هذا الطغيان الواضح على النص، هذا الطغيان الذي يعاني فوكو الأمرّين لتبيانه، هي أن قراءة ديريدا لديكارت لايمكنها أن تقرأ تلك الأمور التي تتمتع، بمنتهى البساطة، بالقوة المقصودة التي تنطوي عليها سلطة طبية وقضائية نافذة، ومصالح مهنية محددة فاعلة. وعلاوة على ذلك فإن صيغة نص ديكارت تحذو بدقة متناهية حذو نمط خطابين اثنين هما الممارسة التأملية والدليل المنطقي، حيث تعمل في كليهما معاً المنزلة الافتراضية للموضوعين المبحوثين -أي الحلم والحماقة- والدور الافتراضي للفاعل (أي الفيلسوف الذي يضبط ويوجه كلا الخطابين في نصه) على تشكيل النص وحتى على تحديده أيضاً. إن التنصيص الذي يأتي به ديريدا له تأثير "اختصار الممارسة المنطقية إلى فتات نصي" اختصاراً أفضى إلى قيام بيداغوجيا مقترنة بديريدا.
ما أود قوله بهذا السياق هو أن بيداغوجيا صغيرة تكشف عن نفسها هنا بعد أن عقدت عزمها جيداً على ذلك. [إن عبارة une petite pedagogie عبارة مهينة عن عمد].وإنها تلك البيداغولوجيا التي تعلم التلميذ أن ليس هنالك ثمة شيء خلف النص، وأن في صميمه، في فراغاته البيضاء وفي أصواته غير المنطوقة، يجثم الأصل على شكل احتياط -الأمر الذي لايستدعي أية حاجة للتفتيش في أي مكان آخر غير هذا المكان الذي يتمحور هنا، إذ لافي واقعية الكلمات بل في الكلمات الممحوّة، في الشباكة التي تشكلها تلك الكلمات يجاهر "الإحساس بالوجود" بالتعبير عن نفسه. وهذه هي البيداغوجيا التي تمنح صوت المعلمين نوعاً من السيادة المضادة واللامحدودة التي تتيح لهم أن يعيدوا كتابة النص [يعيدوا قوله] إلى اللانهاية(44).
إن هذه الذروة المريرة كل المرارة لجواب فوكو على ديريدا ماهي إلى حد ما إلا طريقة للتعبير عن الغضب من أن بيداغوجيا ديريدا تبدو بمنتهى البساطة، مع العلم أن منهجه ليس على تلك الشاكلة إلى هذا الحد، أنها عرضة للتعليم والانتشار ولربما أكبر شأناً حتى، في الوقت الراهن، من عمل فوكو. وإن الحقد الشخصي الذي يقف وراء الحكم الذي يطلقه فوكو يزود ذلك الحكم بفصاحة مشحونة بشجب غاضب. ولكن أوليس الرأي الفكري لفوكو القائل أن قراءة ديريدا النص مالا تفسح المجال لدور يؤديه الإيحاء البتة، وأن ديريدا لايبدو، لدى قراءته نصاً ما ووضعه "en abime" (في مهب الريح)، في مناخ أثيري نصي كامل، راغباً في معاملة النص على أنه سلسلة من الأحداث المنطقية المحكومة لامن قبل كاتب ذي شأن بل من قبل مجموعة من القيود المفروضة على الكاتب جراء نوعية النص الذي يكتبه، وجراء الظروف التاريخية وماشابه ذلك؟ فلئن كان المرء يعتقد أن ديكارت كتب نصه وانتهى الأمر، وأن نصه لايتضمن المشكلات التي تثيرها حقيقة نصيته، يكون المرء عندئذ يروغ ويتجاهل تلك السمات التي تسم نص ديكارت وتربطه طواعية بكتلة كاملة من النصوص الأخرى (نصوص طبية وقضائية وفلسفية) وتفرض على ديكارت سيرورة معينة لإنتاج المعنى الذي هو نصه والذي من جرائه يتحمل المسؤولية القانونية ككاتب. وهكذا فإن ديريدا وفوكو يصطدمان حول كيفية وجوب وصف النص: أيوصف كتطبيق عملي تطفو على سطحه وتغور في ثناياه إشكالية غراماتولوجية شاملة، أم يوصف كتطبيق عملي لوجوده الواقعي سلطان تاريخي في غاية السمو والتمييز، ومقرون لا بالنفوذ البين للكاتب بل بخطاب يشكل الكاتب والنص والموضوع ويضفي عليهم جميعاً وضوحاً وفاعلية بمنتهى الدقة؟ فهذا التصادم كان له، على ما أظن، أكبر الأثر على النقد المعاصر.
إن أهمية موقف ديريدا تتمثل في أنه حاول في عمله إثارة أسئلة ذات صلة وثيقة وفريدة بصلب موضوع الكتابة والنصية، بما مفاده الميل لاحتلال مركز الصدارة أو التجاهل فيما خلف التعليق على النصوص. فمراوغة النصوص نفسها، أي الميل للنظر إليها، كونها متجانسة التكوين، إما كوظائف لفلسفة أو منظومة تخطيطية، وإما كطفيليات عليها نظراً لاعتماد النصوص عليها (كتوضيحات وأمثلة وتعبيرات) هي ماتتوجه إليها، أو بالأحرى لكل هذه الأشياء، طاقات ديريدا الهامة ابتغاء تجريدها من تحديداتها. ولقد طور ديريدا، فضلاً عن ذلك، طريقة للقراءة على مقدار استثنائي من السلاسة والشأن. ومع ذلك فإن عمله يجسّد تحديداً ذاتياً صارماً جداً، انضباطاً ذاتياً من نوعية معوقة وشلاء تماماً. ففي طريقته تلك فضل ديريدا سلاسة العنصر الرجراج في النص، إن جاز مثل هذا التعبير، على قوة النص الواضحة المعالم، إذ أن اختيار المرء للسلاسة العقيمة التي ينطوي عليها المشهد المزدوج التقريري في النصوص كان يعني، كما قال ذات مرة، إهمال القوة الفعالة والمتكاملة لمقولات النص (45). وهكذا فإن عمل ديريدا لم يكن في موقف يتيح له احتواء المعلومة النصية التي هي من ذلك النوع الذي يضفي على الميتافيزيك الغربي والثقافة الغربية أكثر من معنى تلميحي على نحو كرار. لا ولم يكن ذلك العمل مهتماً بتبديد نزعة التشرنق العرقي التي كان يتحدث عنها بين الحين والحين بوضوح نبيل، علاوة على أنه لم يطالب أشياعه بأي انهماك ملزم بأمور تتعلق بالاكتشاف والمعرفة، أو بالحرية أو القمع أو الظلم. فلئن كان أي شيء في نص ما مفتوحاً دائماً للتشكيك وللتوكيد عل قدم المساواة، تكون الفوارق وقتها بين مصلحة طبقة وأخرى، وبين غالب ومغلوب، وبين خطاب وأخر، وبين أيديولوجيا وأخرى، فوارق واقعية -ولو أن اتخاذ القرارات فيها ليس من الأمور العويصة- في عنصر التسويه الحاسم والكامن في النصية.
فلئن كان ذلك الشيء الذي لايمكن أن يخطر على بال "impensé" يعني بالنسبة لديريدا، الذي هاجمه مراراً وتكراراً، تفهماً كسولاً للإشارات واللغة والنصية، فإنه بالنسبة لفوكو يعني ذلك الشيء الذي لايمكن أن يرد على البال في وقت محدد وبطريقة محددة وذلك لأن هنالك أشياء معينة أخرى انفرضت على الذهن بدلاً منه. وفي ذينك المعنيين لـ "impensé"، اللذين أولهما سلبي وثانيهما فعلي، يمكننا رؤية التعارض بين ديريدا وفوكو -ويمكننا من ثم اتخاذ موقفنا كنقاد يفعلون شيئاً قد يكون من الممكن وصفه والدفاع عنه.
إن النصية، بالنسبة لفوكو وديريدا سواء بسواء، هي ذلك المفهوم الأكثر تقلباً وأهمية من المفهوم الميت بعض الشيء والمفروض عليها جراء تمجيد طقوس النقد الأدبي التقليدي. فلقد كان فوكو، منذ بداية حياته المسلكية، يولي اهتمامه للنصوص باعتبارها قسطاً جوهرياً، لا مجرد قسط ثانوي، من العمليات الاجتماعية الطافحة بالتمييز والاستبعاد والاحتواء والحكم. وقال ذات مرة عن النص، عن أي نص بما في ذلك نصه هو، بأنه "ذلك الحدث المستهدف الذي يستنسخ نفسه ويكررها ويحاكيها ويثنيها كي يتلاشى في خاتمة المطاف دون أن يتيح للإنسان الذي أنتجه فرصة الادعاء بالهيمنة عليه". وقال بشكل أكثر تحديداً: "إنني لا أحب لأي كتاب أن يخلع على نفسه منزلة النص الذي من الممكن معاملته معاملة الوجيز كثمرة من ثمار البيداغوجيا أو النقد. وأفضل بدلاً من ذلك أن يتحلى من الكتاب بصفه اللامبالاة في طرح نفسه كخطاب، كمعركة وأسلحة في آن واحد معاً، كاستراتيجية وصدمة، كنضال وتذكار (أو جرح)، كأزمة وآثار، كمجابهة غير نظامية ومشهد قابل للتكرار (46)". إن الصراع في كل نص بين كاتبه وبين الخطاب الذي يشكل الكاتب جزءاً منه، لأسباب اجتماعية وأبيستيمولوجية وسياسية، لهو صراع مركزي بالنسبة للنظرية النصية لدى فوكو. فمشروع فوكو، على نقيض وجهة نظر ديريدا القائلة أن الثقافة الغربية قد وطدت أركان الكلام على حساب الكتابة، يريد أن يبين عكس ذلك بمنتهى التحديد، منذ زمن الانبعاث الحضاري على الأقل، كما يريد أن يبين أيضاً أن الكتابة ليست بتلك الممارسة الخاصة التي تمارسها إرادة كتابية حرة، وإنما على الأرجح هي التفعيل الناجم عن شبكة من القوى ذات تعقيد هائل، ألا وهي تلك الشبكة التي تعتبر النص مكان ضمن أمكنة أخرى (بما فيها الجسد) حيث تدور فيه معارك استراتيجيات الهيمنة في المجتمع. وإن مجمل الحياة المسلكية لفوكو بدءاً من "تاريخ الحماقة" ومروراً بـ "إرادة المعرفة" كانت محاولة لوصف هذه الاستراتيجيات بمزيد من التفصيلات وبمقدار أوفى من عتاد الوصف النظري العام والفعال. إن من الممكن الإتيان بالأدلة، كما أظن، على أنه كان في الشق الأول أنجح منه في الشق الثاني، وأن كتباً من مثل "المراقبة والمعاقبة" ذات أهمية وقوة حقيقيتين أكثر مما في كتاب "علم آثار المعرفة". ولكن الشيء الذي تتعذر البرهنة عليه هو المقدرة الجزئية لدى فوكو على أن ينحي جانباً عتاده النظري البالغ التعقيد وعلى أن يتيح للمادة التي نبشها أن تخلق ترتيبها الخاص بها ودروسها النظرية الخاصة بها أيضاً. وإن هناك بعض المفاهيم والافتراضات النظرية الأساسية وبعض مبادئ التشغيل ظلت كلها بجوار مركز ماكان يفعله، الأمر الذي يحثني الآن على رسم خطوطها العريضة بمنتهى الإيجاز.
إن من الواضح أن بعض تلك الأمور مستمد من الفطرة. ففوكو هو ذلك المتبحر الذي لايقنع باستحالة التنقيب في أية زاوية مهما كان ظلامها دامساً، ولاسيما حين يستقصي آلية الهيمنة الفكرية والجسدية في طول التاريخ الغربي وعرضه. وعلى الرغم من صحة القول بأنه كان أساساً يولي اهتمامه لوجهين في عملة واحدة -أي عملية الاستبعاد التي تحدد بها الثقافات خصومها وتعز لها، ونقيضتها أي تلك العملية التي تحدد بها الثقافات وتعزز سلطة الاحتواء فيها- فقد صار من المؤكد الآن أن أعظم مساهمة فكرية ساهمها فوكو هي فهم الكيفية التي تمكنت بها إرادة ممارسة الهيمنة الطاغية في المجتمع والتاريخ من اكتشاف طريقة لإكساء نفسها وإخفائها وصقلها وتدثيرها منهجياً بدثار الحقيقة والنظام والعقلانية، وبقيمة المنفعة والمعرفة. وهذه اللغة، أي ذلك الدثار، في بساطتها وسطوتها واحترافها وجزمها، وفي صراحتها اللانظرية، هي مادعاها فوكو بالخطاب "discourse". وإن الفرق بين الخطاب وبين غيره من ضروب النزاع الاجتماعي من مثل الصراع الطبقي الذي ينطوي على جلافة أكبر في الوقت الذي لاينطوي فيه على أهمية أقل هو أن الخطاب يجهد لتفعيل محصلاته وتحيزاته ورقابته وتحريماته وتوهيناته على العقلاء من الناس، وفي مستوى القاعدة لافي مستوى الهيكل العلوي. فقوة الخطاب تكمن في أنه موضوع الصراع وأداته الذي يدار بها الصراع في آن واحد معاً، إذ في علم البانولوجيا، مثلاً، تكون اللغة القضائية، التي تحدد مخططاً للجانحين وللأسوياء من الناس متجسداً في بنية السجن المادية، بمثابة الأدوات لضبط الجانحين وبمثابة القوى (الممنوعة على الجانحين بالطبع) بين أيدي هذا الفريق ضد ذاك. إن هدف الخطاب هو الحفاظ على نفسه وصنع مادته، وهذا أهم من سابقه، على الدوام، فلا عجب أن يكون فوكو قد قال، بشكل استفزازي، أن السجون ماهي إلا مصنع لخلق المجرمين. فانطلاقاً من فطرته، ونظراً بلاشك لكونه ذلك المفكر الموهوب إلى حد فريد مكنه من أن يرى أن المفكرين جزء من منظومة القوة المنطقية، كتب كتبه تضامناً مع الضحايا الصامتين في المجتمع لكي يجعل واقعية الخطاب شيئاً منظوراً ولكي يجعل الصوت المكبوت لضحايا الخطاب مسموعاً.
إن الخطاب الرئيس للمجتمع هو مادعاه فوكو بـ "الخطاب الحقيقي أو خطاب الحقيقة"(47) في "نظام الخطاب". وعلى الرغم من أنه لم يصف هذا حتى في كتابه المعنون بـ "علم آثار المعرفة"، فإنني أتصور بأنه يشير إلى ذلك العنصر الذي ينطوي على أكبر مقدار من الغموض والعمومية من بين كل العناصر الأخرى في الخطاب، والذي يجعل ألفاظه الخاصة تبدو متحدثة دفاعاً عن الحقيقة وحولها وفيها. ومع ذلك فكل فرع من فروع الخطاب، كل نص، كل قول، له معاييره الخاصة به عن الحقيقة، مع العلم أن هذه المعايير هي ماتحدد أموراً من أمثال الصلة بصلب الموضوع والملاءمة والاتساق والقناعة وهلم جرا. إن فوكو على صواب حين يشير إلى أن المرء حين يكتب كفيلولوجي مثلاً، أومن منطلق الفيلولوجيا، فإن مايكتبه، في شكله وهيئته وقولته، يساق إلى أن يكون ملائماً بمنتهى الدقة من خلال مجموعة من الاحتمالات اللفظية الموقوفة حصراً على الفيلولوجيا في ذلك الزمان وفي ذلك المكان. فهذه التقييدات الميدانية على الكتابة، ولو أنها وفيرة التفريخ، هي ماتجعل قراءة فوكو للنصوص، فضلاً عن تأويل النصوص لاحقاً، عملية مختلفة جداً عن قراءة ديريدا، غير أنها نظرياً تضع أو تموضع النصوص وماتمثله على نحو أكثر فاعلية بكثير مما هو ممكن في مسرح التصويرات لدى ديريدا.
إن أكثر الفرضيات الفلسفية التاريخية إشكالاً وتشويقاً لدى فوكو هي الفرضية التي مفادها أن الخطاب، والنص أيضاً، قد صار محجوباً عن الأنظار، وأن الخطاب بدأ يتقنع ليظهر مجرد كتابة أو نصوص، وأن الخطاب أخفى القوانين المنهجية المتعلقة بتشكيله وبعلاقاته الحميمة الملموسة بالسلطة، لافي وقت محدد من الزمن بل كحدث في عموم تاريخ الثقافة وفي تاريخ المعرفة على وجه التخصيص. ففوكو يبذل جهداً جهيداً هنا وفي كل مكان من عمله كي يكون في غاية الدقة حتى لو لم نكن على ثقة تامة عما إن كان الشيء الذي يحاول وصفه هو حدث بالمعنى العادي لتلك الكلمة، أو حدث بمعنى أكثر تحديداً بقليل، أو حدث بالمعنيين معاً. وأما أنا فأميل إلى الاعتقاد بأن فوكو يحدد حقبة زمنية مرت بها الثقافة بشكل لابد منه، أي مرحلة زمنية قابلة للتحديد ولو بشكل تقريبي. وبما أن هذه الحقبة دامت لردع طويل من الزمن على أرجح الظن، فإن من الممكن إذاً وسم الحدث بأنه تغيير تدريجي في العلاقة المكانية أساساً بين اللغة والتمثيل. وهانحن نجد أنفسنا من جديد في الحيز المسرحي، على الرغم من أنه ينطوي على بعد تاريخي أوفى بكثير مما هو عليه لدى ديريدا. ففي كتاب "نظام الأشياء" يبني فوكو توصيفاته للحدث حول تباين من نوع بسيط ومفيد تماماً. فلقد كان من المعتقد، حتى نهاية القرن الثامن عشر على الأقل، كما يقول، أن الخطاب (أي اللغة كممثل لنظام من أنظمة الوجود Being) "تكفل بحشد التمثيل العشوائي العفوي الأولي ضمن طاولة" أو ضمن، كما يحسن بنا أن نضيف، حيز شبه مسرحي. والآن يبدو أن الوضع كان هكذا على الأقل قبل الحدث الذي يوشك فوكو أن يصفه، إذ إن ذلك الحدث غيّر نوع العلاقة التي قامت بين اللغة والواقع تغييراً هائلاً وتاماً جداً مما جعل من العسير تبينها حتى.
لقد حدث التغيير حين "كفّت الكلمات عن التشابك مع التصويرات وعن توفير شباكة عفوية لمعرفة الأشياء"(48)، وعندها صار الخطاب إشكالياً وبدا عليه بأنه يطمس نفسه وذلك لأنه لم يعد مضطراً أن يمثل لتوه أي شيء إلا نفسه- فهذه اللحظة هي اللحظة التي يدعوها فوكو "باكتشاف اللغة" ولو أنها لغة شتيتة. وإن مايصفه لشيء نستطيع فهمه على نحو أفضل بقليل في ضوء مشهد من رواية "الآمال العظيمة". فديكنز لايقول في أي مكان بأن مايصوره هو مسرح من المساراح، كما أن مسرحية "هامليت" لاتحظى بشرف التسمية (أي مسرحية هامليت لشكسبير، التي يعتمد التصوير كله على نصها). فمهزأة الموقف هي أننا نعرف إلى حد ما أن الشخصيات التي تحاول تمثيل المسرحية لاتستوعبها إلا بشكل ناقص. ولكننا لانعرف هذا إلا لأن لغة ديكنز توجه المشهد كله مواربة، وتصور المسرح وممثليه، وتضفر لنا ردود أفعالنا كقراء. وهذا كله لايصبح ممكناً إلا جراء العرف الروائي الذي من المسموح فيه وجود مقدار معين من المرجعية واستعمال اللغة استعمالاً شبه واقعي، والذي يست*** القراء إليه توقعات وردود أفعال متخصصة. وبكلمات أخرى فإن المسرح الذي يصفه ديكنز لاوجود له إلا في لغة الرواية، أي في تلك اللغة التي تشربت الواقع وتبنّته إلى ذلك الحد الهائل الذي جعلها مسؤولة عنه مسؤولية مطلقة. ولكن العرف الروائي هو اللغة العتيقة من عبء تمثيل الواقع حصراً في طاولة أو شباكة، إذ ليست الطاولة على الأرجح، أو المسرح في هذه الحالة، إلا استخدام واحد من استخدامات العرف الروائي حيث يتوجب عليه أن يؤدي ماتؤديه الروايات، أي الإشارة إلى الأشياء روائياً، ولاشيء سوى ذلك. وأما فيما يتعلق بالعرف الفيلولوجي فإنه يتصور الكلمات على نحو مختلف تماماً. ولذلك فالجدير بالذكر أن هنالك أنواعاً عديدة للغة، وكل نوع منها ينجز الأشياء بطريقته الخاصة، وكل منها بحاجة لمعرفة مختلفة كي ينتجها أو ينقلها أو يدونها، وكل منها له وجوده وفقاً لقوانين ليست في متناول اليد إلا بعد بحث مستفيض.
إن هذه اللغات الخاصة هي الشكل الحديث للخطاب: في بداية القرن التاسع عشر اكتشفت الكلمات من جديد عمقها الملغز القديم، لا لكي تعيد انعطاف الكلمة الذي عشش في الكلمات خلال عصر الانبعاث الحضاري، ولا لكي تخلط الأشياء في منظومة دائرية من الإشارات أيضاً... فما أن انفصلت اللغة عن التصوير حتى احتازت لها على وجود، وصولاً إلى يومنا هذا، بطريقة شتيتة ليس إلا(49).
فالشاهدان على هذا التشتت الذي تتشتته اللغة- واللذان ينتظم بينهما ذلك المجال الذي من الممكن للغة أن تنشط فيه- هما نيتشه ومالارميه: ففي الوقت الذي يرى فيه أولهما أن اللغة بقضها وقضيضها موضع تقرير التاريخ وتقرير الظرف، وموضع تقرير الاستخدام الفردي للغة في أية لحظة معينة وموضع تقرير مصطلحات المتحدث، يرى ثانيهما أن اللغة هي كلمة الله النقية التي "في وحدانيتها وفي اهتزازها الرقيق وفي خوائها تجسد الكلمة نفسها- لامعنى الكلمة، بل وجود الكلمة الملغز والمشكوك فيه". وهكذا فإن كل تحير فكرنا الآن يكمن في التساؤل التالي: ماهي اللغة، وكيف بوسعنا أن نعثر على طريقة من حولها لكي نجعلها تظهر على حقيقتها في حد ذاتها، في كل فيضانها؟" وبما أن اللغة قابعة بين ذينك القطبين اللذين أوضحهما نيتشه ومالارميه، فإن فوكو يضع عمله بينهما أيضاً، هناك "لاكتشاف التلاعب الهائل الذي تتلاعبه اللغة بعد احتوائها مجدداً في صميم مجال وحيد". فالواجب يقضي جعل اللغة تظهر من جديد، والخطاب إن أمكن، في ساحة ذلك التشتت غير المنظور الذي آلت إليه اللغة منذ نهاية العصر الكلاسيكي.
إن الفقرات التي جئت بها على سبيل الاستشهاد من كتاب "نظام الأشياء" تجسد، على ما أظن، آراء فوكو في مطلع شبابه. فجعل اللغة والخطاب يظهران من جديد لهو مهمة، كما نلاحظ، من مهمات المؤرخ الفكري، إذ حتى اختفاء الخطاب ليس موصوفاً على أنه أكثر من حدث أثري ومهمة من مهمات التنقيب عن الآثار إن جاز لنا استخدام مثل هذا التعبير. إن كل عمل فوكو كان، منذ كتاب "نظام الأشياء"، إعادة توضيح الإجابة على السؤال التالي: "كيف ومتى ولماذا اختفت اللغة والخطاب"، محيلاً إياه إلى مسألة أثرية وسياسية ذات أهمية قصوى. فبالإجابة أن الخطاب لم يختف بكل تلك البساطة بل صار محجوباً عن الأبصار، يستهل فوكو جوابه على السؤال السالف الذكر، مضيفاً قوله أنه إن اختفى فقد اختفى لأسباب سياسية، متيحاً بذلك فرصة أفضل لاستخدامه على نحو أخبث للإتيان بهيمنته على مادته وموضوعاته. وهكذا فمجرد فعالية الخطاب الحديث مربوطة باحتجابه عن الأنظار وبندرته أيضاً. وماكل خطاب، أي كل لغة -خطاب الطب النفسي والبانولوجيا والنقد والتاريخ- إلا جعجعة إلى حد ما، ولكنه في الوقت نفسه لغة الهيمنة وزمرة مؤسسات في صميم الثقافة التي يشكل فيها ميدانها الخاص.
فالانقلاب الكبير الذي طرأ على فكر فوكو في عام 1968- بعد كتاب "الكلمات" وقبل كتال "... الآثار..."- هو إعادة تصور مشكلة اللغة لافي إطار أنطولوجي بل في إطار سياسي أو أخلاقي، أي في الإطار النيتشوي. وهكذا فنحن نستطيع فهم اللغة على أحس مايكون بجعل الخطاب ظاهراً للعيان لا كمهمة تاريخية بل كمهمة سياسية، وحينئذ يجب أن يكون النموذج استراتيجياً لا لغوياً في خاتمة المطاف:
كلما زدت تعمقاً تبدى لي على نحو أفضل أن تكوين الخطابات وسلالة المعرفة أمران بأمس الحاجة للتحليل، لا بلغة نماذج الوعي وأنماط الإدراك وأشكال الأيديولوجيا، بل بلغة تكتيكات السلطة واستراتيجياتها. لقد احتشدت التكتيكات والاستراتيجيات من خلال المغروسات والتوزيعات وتحديد التخوم، والسيطرة على البقاع والميادين المنظمة التي بمقدورها أن تشكل على أحسن مايرام نوعاً من علم السياسة الطبيعية حيث تتشبث انهماكاتي بتلابيب مناهجكم. فالموضوع الذي أود دراسته في السنوات القليلة القادمة هو موضوع الجيش كمنبت للتنظيم والمعرفة، إذ إن المرء بأمس الحاجة لدراسة تاريخ القلعة والحملة والتحرك والمستعمرة والإقليم.ولذلك فإن الجغرافيا ستكون بالضرورة فعلاً في صميم
([1]) كنايةعن توأمين متماثلين تماماً إلى حد يتعذر فيه التمييز بينهما - المترجم.

* أول رواية للسير والترسكوت منشورة في عام 1814-المترجم

*nun: راهبة و ama: ممرضة باللغة البرتغالية -المترجم.

* أرتو: كاتب مسرحي فرنسي ومدير مسرح، 1896-1948. المترجم.

* -غرافولوجيا: دراسة خط الكاتب بهدف تحليل شخصيته- المترجم.

* الأساطير الخاوية -المترجم.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 08-28-2012, 12:11 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي

اهتماماتي(50).
فبين سطوة الثقافة المهيمنة، من ناحية أولى، وبين منظومة المعارف والمناهج (savoir) غير المجسمة، من ناحية ثانية، يقف الناقد. وهانحن الآن نعود إلى صيغتي الأولى وإلى مزيد من الإدراك، كما آمل، لما قد يعنيه الموقف الجيوبوليتيكي [علم السياسة الطبيعية] الذي وقفه فوكو. ففي الوقت الذي تتعمد فيه نظرية ديريدا عن النصية إلى استجلاب النقد للاعتماد على دلالة متحررة من أي التزام حيال أي شيء مبهم مدلول عليه، تتعمد نظريات فوكو نقل النقد من تأمل الدلالة إلى وصف مكان الدلالة، ألا وهو ذلك المكان الذي قلما يكون بريئاً أو بلا أي بعد، أو بدون القوة الجازمة للنظام المنطقي. وبكلمات أخرى فإن فوكو مهتم بوصف القوة التي تحتل بها الدلالة مكاناً بها، وهكذا فإنه قادر في كتاب "النظام والعقاب" على تبيين الكيفية التي كان بها الخطاب الجنائي قادراً بدوره على أن يخصص أمكنة الجانحين في التنظيم البنائي والإداري والنفسي والأخلاقي الذي ينطوي عليه مبنى السجن الشمولي النظرة. ولكن على الرغم من ذلك فلا يبدو على فوكو أنه مهتم باستقصاء السبب الذي أدى إلى هذا التطور.
والآن فقيمة مثل هذه النظرة التاريخية البحتة، وحتى الجبرية، ربما، للدلالة في النص لايتأتى من كونها تاريخية ليس إلا. فقيمتها العظمى هي أنها توقظ النقد إلى الإقرار بأن دلالة تحتل لها مكاناً، تقوم بفعل التدليل في مكان ما هي فعل إرادي- أي أكثر من كونها تجسيداً للفعل الإرادي- له نتائجه الفكرية والسياسية التي يمكن التحقق منها، وفعل ينفذ رغبة استراتيجية لإدارة وتفهم ميدان مادي شاسع وتفصيلي. فعدم الإقرار بهذا الفعل الإرادي هو الشيء الذي يجد المرء أن المفكك لايحسن تمييزه إلى الحد الذي يدفعه إلى رفضه أو تجاهله. وهكذا بفضل النقد الذي جاء به فوكو تمكنا من أن نفهم الثقافة على أنها كتلة من المعارف التي تتحلى بالقوة الفعالة للمعرفة المرتبطة منهجياً بالسلطة ذلك الارتباط الذي ليس، بحال من الأحوال، مباشراً أو حتى مقصوداً.
فالعبرة التي نستفيدها من فوكو هي أنه في الوقت الذي يستكمل فيه عمل ديريدا بمعنى ما، فإنه بمعنى آخر يخطو خطوة في اتجاه جديد. إن الرؤيا التاريخية التي يطرحها تنطلق من ذلك التحول العظيم الذي تحولته المعرفة منذ نهاية القرن الثامن عشر، وقد كان بالمناسبة تحولاً لاتفسير له إلى حد كبير، من تلاحم السلطة والمعرفة تلاحماً استبدادياً إلى تلاحم استراتيجي. فسلسلة المعارف المتخصصة الذي برزت في القرن التاسع عشر كانت معارف ذوات تفاصيل تداعى من جرائها الموضوع البشري إلى فيض التفاصيل أولاً ليصار إلى تكديسه ثانياً واستيعابه في تلك العلوم التي كان مقصد تصميمها جعل التفاصيل وظيفية ومطواعة في آن واحد معاً. ومن ذلك الوضع نشأ جهاز إداري واسع الانتشار بغية الحفاظ على انتظام وفرص الدراسة. وهكذا فما يقترحه فوكو، على ما أظن، هو ذلك النوع من النقد الشامل ضمناً والمفصل في توصيفاته، مثله بذلك مثل المعرفة التي يبدو تفهمها عليه. فحيث توجد المعرفة والخطاب يجب أن يوجد النقد: كما يرى فوكو، لتبيين الأمكنة الحقيقية للنص -والتزحزحات- ولرؤية النص بتلك الوسيلة كسيرورة دالة على إرادة تاريخية فعالة على أن يكون له وجود، كرغبة فعالة من لدنه على أن يكون نصاً وعلى أن يكون موضعاً محتلاً.
إن هذا النوع من النقد لتلك الفاعلية التي تنطوي على مغزى هام في صميم الثقافة، على الرغم من أنه مفصول عمداً عن الهيمنة الثقافية. فهو يحرر النقاد من العوائق المفروضة عليهم شكلياً من قبل الأقسام والمعارف والتقاليد البالية للدراسة، ويفتح إمكانية الدراسة العدائية لوقائع الخطاب، ألا وهي تلك الوقائع التي تحكمت، منذ القرن الثامن عشر على الأقل، بإنتاج النصوص. ولكن على الرغم من هذا المنزع الدنيوي المتطرف الذي ينزعه العمل، فإن فوكو يتبنى نظرة سلبية وجدبة لا حيال استخدامات السلطة بمقدار ماهي حيال كيفية وسبب احتياز السلطة واستخدامها والتشبث بناصيتها. وماهذه النتيجة إلا أخطر النتائج لاختلافه مع الماركسية، علماً أن محصلتها تمثل أقل جوانب عمله إقناعاً. فحتى لو أبدى المرء موافقته التامة على رأيه القائل أن مايدعوه بفيزياء جزئيات السلطة "شيء موضع الممارسة أكثر مماهو موضع الاحتياز، فضلاً عن أنه ليس الامتياز المكتسب أو المصون للطبقة المهيمنة،، وإنما هو النتيجة الشاملة لمواقعها الاستراتيجية"(51)، لما كان بالإمكان، لما ورد آنفاً، تقليص الانطباعات الشخصية عن الصراع الطبقي وعن الطبقة نفسها- علاوة على تسنم سلطة الدولة عنوة والهيمنة الاقتصادية والحرب الامبريالية وعلاقات التبعية وضروب مقاومة السلطة- إلى مرتبة التصورات الباطلة التي جاء بها القرن التاسع عشر عن الاقتصاد السياسي. وعلاوة على ذلك فمهما كان الزي الذي قد تتزيا به السلطة كنوع من أنواع التحكم والنظام البيروقراطيين بشكل غير مباشر، فهنالك ثمة تغييرات هيئة التحقق ومنبثقة عن التساؤل عمن يمسك بزمام السلطة وعمن يهيمن على من.
وقصارى القول فإن السلطة لايمكن تشبيهها بشبكة العنكبوت بمعزل عن العنكبوت ولا برسم تخطيطي يتدفق عاملاً على هينته، وذلك لأن مقداراً كبيراً من السلطة يبقى في بنود فظة من أمثال العلاقات والتوترات بين الحكام والمحكومين والشراء والامتياز واحتكارات القمع، وبين الجهاز المركزي للدولة. ففي تلك الرغبة المفهومة التي يرغبها فوكو لتفادي الفكرة الفجة القائلة أن السلطة عبارة عن هيمنة بدون وساطة، يتجاهل إلى حد ما الديالكتيك المركزي للقوى المتعارضة -ذلك الديالكتيك الذي لايزال يستند عليه المجتمع الحديث، على الرغم من وضوح تكامل مناهج التحكم "التكنوقراطي" والجدارة اللاإيديولوجية ظاهرياً التي تتحكم بالأشياء كافة على مايبدو. وإن الشيء الذي يفتقده المرء عند فوكو لشيء يماثل تحليلات غرامشي للهيمنة والكتل التاريخية وطواقم العلاقات المنطلقة من منظور عامل سياسي ملتزم لايرى في الوصف الساحر لممارسة السلطة بديلاً أبداً عن محاولة تبديل العلاقات السلطوية داخل المجتمع.
إن الموقف المعيب الذي يقفه فوكو من السلطة يتأتى، إلى حد كبير جداً، من اهتمامه الناقص التطور بمشكلة التغيير التاريخي. فعلى الرغم من أنه محق في اعتقاده أن التاريخ لايمكن دراسته حصراً كسلسلة من الانقطاعات العنيفة (الناجمة عن الحروب والثورات والرجال العظام)، يقلل بالتأكيد من شأن قوى حافزة أخرى في التاريخ من أمثال الربح والطموح والتدله بحب السلطة، ولايبدو عليه بأنه يعير اهتمامه للحقيقة التي مفادها أن التاريخ ليس إقليماً ناطقاً بالفرنسية متجانس التكوين بل تفاعل معقد فيما بين اقتصادات ومجتمعات وأيديولوجيات متفاوتة. إن جلّ مادرسه في عمله ينطوي على أعمق المعاني لا كنموذج متقوقع عرقياً عن كيفية ممارسة السلطة في المجتمع الحديث، بل كجزء من صورة أشمل تتضمن، مثلاً، العلاقة بين أوربا وبين بقية أرجاء العالم. ولقد كان غافلاً على مايبدو عن الحد الذي كانته فكرتا الخطاب والترشيد فكرتين أوربيتين بشكل قاطع، وعن الكيفية التي جرى بها استخدام الترشيد، فضلاً عن استخدامه لتوظيف كتل من التفاصيل (والكائنات البشرية)، لإدارة ودراسة وإعادة بناء كل العالم غير الأوربي تقريباً، ومن ثم لاحتلاله بالتالي وحكمه واستغلاله.
فالحقيقة البسيطة المتمثلة في أنه بين عام 1815، حين كانت القوى الأوربية تحتل 35 بالمائة من سطح المعمورة على أكثر تقدير، وبين عام 1918، حين توسع ذلك الاحتلال إلى مانسبته 85 بالمائة من سطح المعمورة، تزايدت القوة المنطقية وفق هذا المعيار نفسه، ويحس المرء صنعاً إن تساءل ما الذي يجعل من الممكن لماركس وكارلابل وديزرائيلي وفلوبير ونيرفال ورينان وكوينت وشليغل وهوغو وروكبرت وكوفيير وبوب أن يوظفوا جميعهم كلمة "شرقي" لكي يحددوا بالأساس نفس الظاهرة المشتركة، على الرغم من الفروق السياسية والأيديولوجية الهائلة فيما بين بعضهم بعضاً(52). إن السبب الرئيسي لهذا كان تشكل كينونة جغرافية تدعى بالشرق، كما أن دراستها صارت تدعى بالاستشراق، الأمر الذي حقق عنصراً هاماً جداً من الإرادة الأوربية للسيطرة على العالم غير الأوربي، وجعل من الممكن خلق لامجرد فرع دراسي منظم وحسب بل ومجموعة من المؤسسات والمفردات المستترة (أو زمرة من الإمكانات المنطوقة)، وموضوعاً دراسياً، وأخيراً -كما يتجلى في كتابة كل من هوبسون وكرومر في نهاية القرن التاسع عشر -خلق أعراق بشرية تبائع. فالتماثل بين نظام السجن لدى فوكو وبين الاستشراق تماثل مذهل. فالاستشراق كخطاب، ككل الخطابات الأخرى، "مؤلف من إشارات، ولكن الشيء الذي تفعله هذه الخطابات لشيء أكثر من استخدام هذه الإشارات لتحديد الأشياء. فهذا الشيء "الإضافي" هو مايحول دون تقليص تلك الخطابات إلى لغة وإلى كلام، وهذا "الشيء الإضافي هو مايتوجب علينا كشفه ووصفه"(53).
ففي خطاب الاستشراق وترشيده يكون هذا الشيء "الإضافي" بمثابة القوة القادرة على الإتيان بالتمييزات بين لغاتنا الأوروبية الهندية وبين لغاتهم السامية -مع إعلاء شأن هذه على تلك إعلاء واضحاً وجلياً بمجرد إجراء التمييز- وعلى تبيين سطوة المؤسسات القادرة على إطلاق التقولات عن الذهنية الشرقية، وعن الشرق الملغز، وعن كل ماهو شرقي منحط لايمكن الركون إليه، وهلم جراء. وعلاوة على ذلك فإن النمو الهائل الذي تنامته اختصاصات الأساتذة الجامعيين في الشؤون الشرقية في طول أوربا وعرضها، وتفريخ الكتب عن الشرق (إذ عن الشرق الأدنى وحده كان التقدير صدور 60000 كتاباً بين عام 1850 وعام 1950)، وانبثاق الجمعيات المهتمة بالشرق، وتكاثر رصيد الأموال لاستكشاف الشرق، والجمعيات الجغرافية، وفي النهاية خلق بيروقراطية استعمارية هائلة ودوائر حكومية ومرافق بحوث -هذا كله "أكبر" بكثير جداً مما يطيق الشرق احتماله من نعته البريء ظاهرياً بالشرق. وقبل أن شيء آخر كان الاستشراق يتحلى بقوة إبيستيمولوجية وأنطولوجية تتحكم عملياً بالحياة والموت، أو بالحضور والغياب، على كل شيء وكل إنسان موسوم بأنه شرقي. ففي عام 1833 زار لامرتين الشرق ودون خبراته عنه في كتابه المعنون بـ "رحلة إلى الشرق" الذي احتوى كثيراً من مناقشاته مع بعض المواطنين المحليين وزياراته لقراهم ووجبات الطعام التي تناولها معهم. ولكن كيف بوسع المرء أن يفسر قولته في "الموجز السياسي" الملحق بكتاب "رحلة..." إذ جاء فيها أن الشرق منطقة بلا مواطنين أو بلا مواطنين حقيقيين أو بلا حدود -إلا من خلال قوة الخطاب الشرقي الذي يخصص تصنيفين مختلفين، أنطولوجيا، يحددان الوجود وعدم الوجود. فالاستشراق، ككل الخطابات الأخرى، متلازم مع الخطاب القضائي- كنظرية أمير دي فانيل مثلاً عن البقاع المأهولة قانونياً وعن حق الأوربيين في الاستيلاء على تلك البقاع وتحويلها إلى بقاع مفيدة في حالة عدم وجود مواطنين حقيقيين فيها. والاستشراق متلازم مع الخطاب البيولوجي، لا مع دراسة الرموز التي أجراها كيوفيير عن الأعراق وحسب بل ومع مبحث عجائب المخلوقات حيث تناول فه جيوفري دي سانت هيلاري دراسة النماذج المنحرفة ذوي الخلائق المشوهة، ومتلازم أيضاً مع الميدان البيداغوجي من ذلك الصنف الذي أفصح عنه محضر جلسة رسمية لماكولي في عام 1835 عن التربية الهندية.
إن الاستشراق ليبدو، قبل كل هذا وذاك، كميدان مختص بالتفاصيل، كنظرية بالفعل عن التفاصيل الشرقية حيث تبدى من خلالها الجوهر الشرقي لكل ماعبرت عنه من دقائق مظاهر الحياة الشرقية، وحيث تكشفت رفعة الاستشراق وسطوته وسلطته المؤكدة على الشرق الذي اختصه لنفسه. فلقد كان الاستشراق يعني أن أكداساً مكدسة من النصوص، مخزونات هائلة من المخطوطات الشرقية، كان مصيرها الشحن باتجاه الغرب لتصبح موضع دراسة تفصيلية معمقة، كما كان يعني أن أكداساً من الأجساد البشرية واجهت المصير نفسه إبان القرن التاسع عشر بعد أن احتاز الغرب على مزيد ومزيد من الأعراق الشرقية وبلدانها ووضعهم تحت ظل السيادة الأوربية: فلقد سارت هاتان العمليتان جنباً إلى جنب وعلى النحو الذي سارت فيه عملية ترشيدهما معاً. ولئن صدقنا أن حديث كيبليننغ عن الرجل الأبيض الشوفيني كان مجرد هذر بمنتهى البساطة، فلن يكون بوسعنا عندئذ رؤية الحد الذي بلغه الرجل الأبيض في أنه كان بمثابة التعبير الوحيد عن علم يستهدف -شأنه شأنه القانون الجنائي- فهم وحشر غير البيض في خانتهم، خانة غير البيض، ابتغاء جعل فكرة بياض البشرة فكرة أوضح وأنقى وأقوى. وإذا لم يكن بمقدورنا رؤية هذا الشيء، يكون مانراه أقل بكثير جداً مما رآه أي مفكر أوربي كبير وأية شخصية ثقافية من عمالقة القرن التاسع عشر، بدءاً بشاتوبريان وهوغو وغيرهما من أوائل الرومانسيين، ومروراً بآرنولد ونيومان وميل وت.إ.لورانس وفورستر وباريس ووليام روبيرتسون سميث وفاليري، وبالكثيرين غيرهم ممن لاعد ولاحصر لهم. فالشيء الذي كان يراه هؤلاء كلهم هو العلاقة الضرورية والنافعة بين السطوة الجازمة للخطاب الأوربي- أو للدلالة الأوربية إن شئتم- وبين الممارسات المتواصلة للقوة مع أي شيء أختص بخانة غير الأوربي، أو غير الأبيض. وأنا هنا أشير بالطبع إلى هيمنة الثقافة الامبريالية. ولكن الشيء المرعب يتمثل بالمبلغ الذي بلغه الكثير من النقد المعاصر، الذي ضاع في المتاهة السحيقة لعنصر النصية، في عماه المطلق حيال السلطان التكويني المذهل في النصية لقوة كقوة الترشيد الثقافي القائم على قاعدة عريضة، بالمعنى الذي قصده فوكو بهذه العبارة.
وهأنذا الآن بودي أن أختتم هذه المقالة بملاحظة تنطوي على مزيد من الإيجاب. لقد كنت أوحي ضمناً أن النقد هو، أو يجب أن يكون، فرعاً من أصل، وأنه شكل من أشكال المعرفة. وأجد الآن لزاماً علي أن أقول أن المعرفة إن كانت كلها مشاكسة، كما حاول فوكو أن يبين، فعلى النقد أن يكون، كفاعلية ومعرفة، مشاكساً صراحة أيضاً. فاهتمامي هو إعادة استثمار الخطاب النقدي في شيء أكثر من الجهد التأملي أو في طريقة قراءة النصوص قراءة تقنية إطرائية باعتبار أن النصوص موضوعات رجراجة. ومن الواضح أنه ليس هنالك بديل للقراءة بشكل جيد، وأن النقد، في فرع من فروعه التي يمثلها ديريدا، يحاول أن يفعل شيئاً ويحاول بالفعل أن يعلم. وأما إحساسي حيال الوعي النقدي المعاصر كما يمثله ديريدا و فوكو هو أن هذا الوعي، بعد أن عزل نفسه مبدئياً عن الثقافة السائدة وبعد أن تبنى من ثم موقفاً وموقعاً معارضاً مسؤولاً لمصلحته، يجب عليه أن يستهل فعاليته الفرعية المفيدة في محاولة منه أن يأخذ في حسبانه قوة التعابير في النصوص، وأن يكتشفها ويعرفها عقلانياً: أي التعابير والنصوص وهي تفعل شيئاً مجدياً إلى حد ما، فضلاً عن النتائج التي يجب على النقد أن يجعل تبيانها مهمة من مهماته. فلئن كانت النصوص شكلاً من أشكال النشاط البشري الرائع، يقضي الواجب أن تتلازم مع غيرها من أشكال النشاط البشري الرائع حتى لو كانت قمعية أو تهجيرية، لا أن تتقزم إلى مستوى هذه الأخيرة.
إن النقد لايمكنه أن يدعي أن مهمته مقصورة على النص وحسب، حتى لو كان نصاً أدبياً عظيماً. ويجب عليه أن يرى نفسه مقيماً، مع خطاب آخر، في فضاء ثقافي موضع نزاع كبير، ألا وهو ذلك الفضاء الذي ماكان يحسب حسابه فيه بخصوص استمرار ونقل المعرفة كان الدلالة، كحدث ترك بصماته الدائمة على الكائن البشري. وما أن نأخذ بوجهة النظر تلك حتى يختفي الأدب كحيز معزول ضمن الميدان الثقافي العريض، وتختفي معه الفصاحة البريئة للنزعة الإنسانية التي تسلي نفسها بنفسها. وبدلاً من ذلك سيكون بمقدورنا، على ما أظن، أن نقرأ ونكتب بإحساس فياض بالمراهنة على الجدوى السياسية والتاريخية التي ينطوي عليها النص الأدبي وغيره من النصوص الأخرى%


nnn



10- النظرية المهاجرة



إن الأفكار والنظريات لتهاجر مهاجرة الناس والمدارس النقدية -من شخص إلى شخص ومن حال إلى حال، ومن عصر إلى عصر آخر. فالحياة الفكرية والثقافية تجد غذاءها عادة وأسباب بقائها غالباً في تداول الأفكار على هذا النحو، وذلك لأن هجرة الأفكار والنظريات من مكان إلى آخر ماهي إلا حقيقة من حقائق الحياة وماهي، في الوقت نفسه، إلا شرط مفيد للنشاط الفكري، سواء اتخذت تلك الهجرة شكل التأثير الذي يقر به الناس أو الذي يأتيهم عفو الخاطر، أو شكل الاستعارة الخلاقة، أو شكل المصادرة والاستيلاء جملة وتفصيلاً. ولكن القول بأن على المرء أن يمضي قدماً بغية تحديد أنواع الهجرة الممكنة لقول يبعث على التساؤل ما إن كانت أية فكرة أو نظرية تتزايد قوة أم تتناقض جراء هجرتها من عصر تاريخي وثقافة قومية إلى مكان وزمان آخرين، وما إن كانت ثمة نظرية تتحول إلى شيء مغاير تماماً في انتقالها من ثقافة قومية وعصر تاريخي إلى عصر أو حال آخر. وهنالك حالات تستدعي التأمل العميق على وجه التخصيص في مهاجرة الأفكار والنظريات من ثقافة إلى أخرى، مثلما جرى في استيراد الأفكار المعروفة بالأفكار الشرقية حول التسامي على الخبرة البشرية إلى أوربا في مطلع القرن التاسع عشر، أو مثلما جرى نقل بعض الأفكار الأوربية عن المجتمع إلى مجتمعات شرقية تقليدية في مؤخر القرن التاسع عشر. ولكن مثل هذه الهجرة إلى بيئة جديدة لاتخلو البتة من المعوقات، وذلك لأنها تستدعي بالضرورة عمليتي التمثيل والتأطير في المؤسسات على نحو مغاير عما كانت عليه تلك الأفكار والنظريات في موضعها الأصلي، الأمر الذي يعقّد عليها أية محاولة من محاولات الازدراع والانتقال والتداول والاتجار.
بيد أن هنالك نمطاً كراراً وقابلاً للتمييز لهذه المهاجرة نفسها، ألا وهو تلك الأطوار الثلاثة أو الأربعة المألوفة التي تمر بها أية نظرية أو فكرة مهاجرة.
فهنالك أولاً موضع أصلي، أو مايبدو أنه كذلك، أي مجموعة من الظروف الأولية التي صادف أن ولدت فيها الفكرة أو راجت من خلالها في الخطاب. وثانياً: هنالك ثمة مسافة تعترض سبيل الفكرة التي تنتقل من موضع سابق إلى زمان ومكان آخرين ولذلك عليها أن تجتازها، أن تشق لها درباً في خضم ضغوط قرائن شتى، حتى تحظى بلألائها الجديد. وثالثاً: هنالك مجموعة من الظروف -قل عنها إن شئت ظروف التقبل، أو ضروب المقاومة لكونها جزءاً لايتجزأ من ظروف التقبل- التي تواجه من ثم النظرية أو الفكرة المزدرعة، والتي تتيح لها الاحتواء، أو التساهل مهما كان كبيراً مظهر غربتها. ورابعاً: تتعرض هذه الفكرة، التي أضحت الآن موضع الاحتواء أو الدمج بشكل كامل أو جزئي، إلى شيء من التحوير جراء استخداماتها الجديدة، أي من خلال الموقع الجديد الذي تحتله في زمان ومكان جديدين.
وإن من الواضح أن الإقدام على وصف كامل ومقنع لهذه الأطوار سيكون مهمة شاقة. ومع أنني أفتقر إلى النية والمقدرة بخصوص الاضطلاع بعبء هذه المشكلة، فإنني أرى أنها جديرة بالوصف بشكل عام ومقتضب حتى أتمكن في النهاية من أن أعالج بالتفصيل جانباً واحداً منها، وجانباً على أضيق مايكون من التحديد وعلى أوثق ارتباط بصلب الموضوع. وأما التناقض الصارخ بين المشكلة العامة وبين أي تحليل خاص ليستحق منا التعليق بحد ذاته طبعاً. وإن الانحياز إلى جانب تحليل مفصل محلي للكيفية التي تهاجر بها هذه النظرية أو تلك من مكان إلى آخر يعني إبداء مقدار أساسي من الشك حيال تخصيص أو تحديد الميدان الذي قد تنتمي إليه تلك النظرية أو الفكرة. لاحظوا مثلاً أن الطلاب الذين يحترفون الأدب الآن ليس من المفروض بهم، حين يستعملون كلمات من أمثال النظرية والنقد، أن يقيدوا اهتماماتهم بالنظرية الأدبية أو بالنقد الأدبي، ولا يجب عليهم ذلك. فالتمييز بين هذا النوع من المعرفة وذاك صار أغبش، وذلك يعود بالتحديد إلى أن ميادين كالأدب والدراسة الأدبية لم تعد النظرة إليها أنها جامعة مانعة أو إجمالية كما كانت حالتها عليه ذات مرة، وحتى عهد قريب. وعلى الرغم من أن بعض دارسي الأدب من المحجاجين لايزال بمقدورهم أن يهاجموا بعضهم الآخر لكونهم غير متبحرين بما يكفي في مضمار الأدب، أو لكونهم لايفهمون (ومن ذا الذي يتسنى له الفهم الكامل؟) أن الأدب ماهو أساساً إلا، على نقيض غيره من أشكال الكتابة، محاكاة، وماهو أساساً إلا الشيء الأخلاقي، وما منزعه أساساً إلا المنزع الإنساني، علاوة على أن المناظرات التي تدور حول هذه الأمور وتنجم عنها ماهي بحد ذاتها إلا دليل على الحقيقة التي مفادها انعدام توافق الآراء حول الكيفية التي تتحدد بها الحدود الخارجية لكلمة الأدب أو لكلمة النقد. فقبل بضعة عقود تنطح التاريخ الأدبي والنظرية التصنيفية، من ذلك النوع الذي استهله نور ثروب فراي، ووعدا بالإتيان ببنية نظامية ومنفتحة وصالحة للسكنى، أي تلك البنية التي قد يكون من الممكن فيها مثلاً إقامة الدليل على أن من الممكن تحوير مقومات الصيف لتصبح، بشكل قاطع، مقومات الخريف. "إن الفعل البشري الأساسي في منظومة فراي" كما يكتب فرانك لانتريشيا في (بعد النقد الجديد) مستشهداً "بالخيال البارع" على حد قول فراي "كونه نموذجاً لكل الأفعال البشرية، هو فعل توجيهي خلاق يحوّل عالماً موضوعياً خالصاً، معداً سلفاً ضدنا بحيث نشعر فيه بالوحشة والرعب والنبذ، إلى موطن مأمون"(1). بيد أن معظم الدارسين الأدبيين يجدون أنفسهم في هذه الآونة، مرة ثانية، موضع التجاهل. وعلى نحو مماثل: فإن تاريخ الأفكار والأدب المقارن، ألا وهما الفرعان المرتبطان ارتباطاً وثيقاً بدراسة الأدب والنقد الأدبي، لايزود روتينياً ممارسيهما بنفس الإحساس الذي كان يحسه غوته- الإحساس بانسجام كل الآداب وكل الأفكار.
ففي كل هذه الأمثلة يبدو أن الموقع أو الموضع المحدد لمهمة فكرية بعيد بعداً مؤكداً عن التوحد والتلاحم والتكامل الخرافي لذلك الميدان العام الذي ينتهي إليه المرء مهنياً، فضلاً عن أنها لاتنال من ذلك كله إلا مساعدة بلاغية طنانة. ويبدو أن هنالك عدداً أكثر مما ينبغي من الانقطاعات ومن التشوهات ومن النشازات تتدخل في شؤون ذلك الميدان المتجانس التكوين الذي من المفروض به أن يقرّب الدارسين فيه بعضهم من بعض. فتشعب العمل الفكري، الذي صار يعني تزايد الاختصاصات، يزيد طمس أي إدراك مباشر قد يخطر على بال الفرد بوجود ميدان واحد متكامل للأدب والدراسة الأدبية، لابل وعلى النقيض من ذلك فإن الغزو الذي يتعرض له الخطاب الأدبي من جانب اللغات الاصطلاحية الشاذة "outré" التي ترطن بها السيميوطيقا ومابعد البنيوية والأقوال المقتضبة للتحليل النفسي، كلها زادت في انتفاخ عالم النقد الأدبي إلى حدود يتعذر تبيانها تقريباً. وقصارى القول لايبدو أن هنالك أي عنصر أدبي محض في صميم دراسة تلك الأمور التي كانت النظرة التقليدية إليها بأنها نصوص أدبية، ومامن نزعة أدبية مهما كان عمقها يمكنها أن تمنع ناقداً أدبياً معاصراً من اللجوء إلى التحليل النفسي أو السوسيولوجيا أو علم اللغة. فالتقليد والعرف التاريخي والاحتكام إلى بروتوكولات الفلسفة الإنسانية والدراسة التقليدية كلها مطروحة بالطبع على نحو منتظم كدليل على صمود تكامل هذا الميدان، بيد أنها تميل بشكل متزايد للظهور بمظهر الاستراتيجيات البلاغية في مناقشة عما يجب أن يكون عليه الأدب والنقد الأدبي لا بمظهر التعريفات المقنعة لما هما عليه في حقيقة الأمر.
لقد خلع جيوفري هارتمان كساء مسرحياً أنيقاً على ذلك المأزق بتحليله التوترات والتذبذبات التي تتحكم بالنشاط النقدي المعاصر. فالنقد في هذه الأيام "كما يقول، نقد رجعي جوهرياً لأنه بعد "تحرره من لياقة الكلاسيكية الجديدة التي خلقت طيلة قرون ثلاثة نثراً متنوراً ولو أنه كان مجاملاً أكثر من اللزوم، يعاني في هذه الآونة مما يدعوه "حركة لغوية استثنائية"(2). وفي بعض الأحيان تكون هذه الحركة اللغوية مختلفة المراكز إلى الحد الذي يجعلها تضاهي الأدب نفسه، لابل وتتحداه أيضاً، في حين أنها في بعض الأحيان الأخرى تستحوذ على النقاد المولودين على تياراتها فيما يتعلق بالمثل الأعلى للغة "نقية" تماماً. وأما في أحيان ثالثة فالناقد يكتشف أن "الكتابة ماهي إلا بمثابة المتاهة والأحجية الطوبولوجية واللغز النصي للكلمات المتقاطعة، هذا في حين أن على القارئ، من جانبه، أن يغرق نفسه لهنيهة من الزمن حتى تضيع في متاهة تمديد لانهائية تأويل ما إلى مالانهاية له مما يجعل كل قوانين الإغلاق تبدو ضرباً من العبث"(3). وسواء أحظيت هذه البدائل للخطاب النقدي بنعت الإرهابية أو بنعت "طراز جديد من التعالي أو من التسامي الوليد"(4)، فذلك متوقف على الحاجة للناقد الإنساني كي يحدد بمزيد من الوضوح "الحيز الخصوصي الذي تحتله الآداب الإنسانية" وكي يضفي، في الوقت نفسه، صبغة مادية (لا روحانية) على الثقافة التي نعيش فيها(5). ومع ذلك فإن هارتمان يستنتج أننا نعيش مرحلة انتقالية، الأمر الذي يعني القول بطريقة مختلفة (كما يقول في عنوانه "النقد في البراري") أن النقد اليوم وحيد، بين حدين سائبين، عاثر الحظ، حزين، ولعوب لأن مملكته تتحدى الإغلاق واليقين.
إن الحماسة المفرطة لدى هارتمان -لأن موقفه بالأساس حماسي- كانت تقتضي التعديل بذلك التعليق الفتاك الذي ساقه ريتشارد أوهمان في كتابه المعنون بـ "اللغة الإنكليزية في أمريكا" والقائل أن الأقسام الإنكليزية تمثل "جهداً متواضعاً ناجحاً في لدن الأساتذة لاغتنام بعض منافع الرأسمالية وتفادي مخاطرها في الوقت نفسه، وللإحجام عن إبداء إقرارهم أيضاً بوجود أية علاقة بين الكيفية التي ننجز بها عملنا وبين الطريقة التي يدار بها المجتمع الكبير"(6). ولكن هذا القول لايعني أن الأكاديميات الأدبية تطرح جبهة إيديولوجية متحدة، حتى لو كان أوهمان مصيباً مائه بالمائة "grosso modo". فالانقسامات فيما بين النقاد لايمكن تقليصها ببساطة إلى صراع بين أقدمين ومحدثين أو إلى أيديولوجيا سائدة وطيدة الأركان مناهضة للمحاكاة، على النحو الذي يسوق أدلته فيه جيرالدغراف بمنتهى التضليل. ولئن قلصنا عدد مسائل الخلاف إلى أربع للاحظنا أن الكثيرين ممن يتصدرون الدفاع عن مسألة ما يصبحون محافظين جداً في مسألة أخرى:
1-النقد كدراسة، كفلسفة إنسانية، "خادم" للنص، منحاز للمحاكاة، ضد النقد كنزعة رجعية وضد كونه بحد ذاته شكلاً من أشكال الأدب.
2-دور الناقد كمعلم وقارئ جيد: يكمن في صيانته المعيار ضد تخريبه أوضد خلق معيار جديد. فمعظم نقاد مدرسة ييل رجعيون بالقياس إلى رقم (1)، ومحافظون بالقياس إلى رقم (2).
3-النقد باعتزاله العالم الاجتماعي/ السياسي ضد النقد كشكل من أشكال الميتافيزيك الفلسفي والتحليل النفسي وعلم اللغة، أو أي فرع من هذه الفروع، ضد النقد كنشاط عليه أن يتعامل عملياً مع ميادين "ملوثة" من أمثال التاريخ ووسائل الإعلام والنظم الاقتصادية. وهنا يكون الانتشار التوزيعي أوسع نطاقاً بكثير مما هو عليه في رقم (1) أو رقم (2).
4-النقد كنقد للغة (اللغة كلاهوت سلبي، كعقيدة خاصة، كميتافيزيك لا تاريخي) ضد النقد كتحليل للغة المؤسسات ضد النقد كدراسة للعلاقات فيما بين اللغة وبين الأشياء اللالغوية.
ففي غياب ميدان مسيّج يدعى الأدب، وله حدوده الخارجية الواضحة، لن يكون هنالك موقع رسمي، أو مفوض، للناقد الأدبي. ولكن في الوقت نفسه لن يكون هنالك أي منهج جديد فعّال، ولا أية تقنية جديدة قادرة على فرض الولاء والإخلاص الفكري. وبدلاً من ذلك سيكون هناك هياط ومياط في تلك المماحكات التي تدافع عن لامحدودية التأويل بأسره، وفي تلك الأيديولوجيات التي تدعي سرمدية وجزم قيمة الأدب، أو "الآداب الإنسانية" وماذلك إلا لأن المناهج التي تجزم على أنها قادرة أصلاً على أن تنجز مهما تؤكد ذاتها بذاتها لاتفسح المجال لقيام دليل مناهض للدليل الواقعي. إن بمقدوركم أن تدعوا مثل هذا الموقف بالتعددي إن شئتم، أو باليائس إن كنتم تتذوقون الموقف الميلودرامي. وأما أنا من طرفي فأفضل النظر إليه بأنه فرصة سانحة للبقاء شكاكاً ونقاداً ودون أي إذعان لا للدوغمائية (اليقينية) ولا للغم العبوس.
وهكذا فإن المشكلة الخاصة التي تحدث لنظرية مهاجرة من مكان إلى آخر هي أنها تطرح نفسها كموضوع شيق جدير بالبحث. فلئن كان هنالك ميادين كالأدب أو تاريخ الأفكار دون أية حدود محسومة أصلاً، ولئن كان معدوماً، على النقيض مما سبق، وجود أية منظومة يتعذر عليها تقبل فرض ذلك الشيء الذي هو بالأصل حيز نشاط مفتوح ومتعدد العناصر - أي الكتابة وتفسير النصوص- يصبح من الحكمة إثارة الأسئلة عن النظرية والنقد بتلك الطرق الملائمة للوضع الذي نجد أنفسنا فيه. ومايعنيه هذا القول، بادئ ذي بدء، هو المدخل التاريخي. ولذلك افترضوا قيام نظرية أو فكرة ما، كنتيجة لبعض الظروف التاريخية الخاصة، وهي على أوثق ارتباط بتلك الظروف. فماذا يحدث لها إن صادف وتم استعمالها مرة ثانية في ظروف مغايرة ولأسباب جديدة، ومرة ثالثة في ظروف أشد اختلافاً؟ وماذا بوسع هذا الشيء أن ينبئنا عن النظرية نفسها- عن حدودها، إمكانياتها، مشكلاتها الكامنة فيها- وماذا بمقدوره أن يوحي لنا حول العلاقة بين النظرية والنقد، من ناحية أولى، وبين المجتمع والثقافة من ناحية ثانية؟ إن العلاقة الوطيدة لهذه الأسئلة بصلب الموضوع سوف تتجلى في الوقت الذي يبدو فيه النشاط النظري كثيفاً وانتقائياً في آن واحد معاً، وفي الوقت الذي تتكشف فيه صعوبة تحديد العلاقة بين الواقع الاجتماعي وبين الخطاب النقدي المهيمن والساحر، وفي الوقت الذي يتبين فيه، نظراً لكل هذه الأسباب وغيرها من الأسباب التي أشرت للتو إليها، عقم الإتيان ببرامج نظرية لمصلحة النقد المعاصر.
إن كتاب لوكاش المعنون بـ "التاريخ والوعي الطبقي" (1923) حظي بالشهرة عن جدارة نظراً لتحليله ظاهرة التجسيد المادي، ألا وهي المصير الشامل الذي ابتليت به كل جوانب الحياة في عصر هيمنت عليه فيتيشية السلع. فبما أن الرأسمالية هي أكثر النظم الاقتصادية تمفصلاً وتفصيلاً كمياً، فإن ماتفرضه على الحياة والجهد البشريين في ظل سطوتها، كما يأتي بالبينات لوكاش، يفضي إلى تحويل جذري لكل ماهو بشري وفياض ومطرد وعضوي ومترابط إلى أشياء ومواد وذرات مفككة، عديمة الحياة، ومن "مقتنيات" أناس آخرين. وعندئذ فالزمن، في مثل هذا الوضع، يتجرد من طبيعته الفياضة والمتقلبة والنوعية، ويتجمد على شكل سلسلة متواصلة مفصولة الحدين بمنتهى الدقة، وقابلة للقياس الكمي ومليئة بالأشياء" القابلة للقياس الكمي أيضاً (أي "بأداء" الصانع البشري أداء خاضعاً للتجسيد المادي ومصبوغاً بصبغة موضوعية بشكل آلي): أي أن الزمن يستحيل، بوجيز العبارة، إلى مدى زمني. وفي هذا المناخ الذي يستحيل فيه الزمن إلى مدى مادي مجرد قابل للقياس بمنتهى الدقة، ألا وهو ذلك المناخ الذي هو للتو سبب ونتيجة إنتاج مقصد الجهد المخصص والمتبعثر ميكانيكياً وعلمياً، يقتضي الواجب بعزقة فَعَلة الجهد عقلانياً وعلى نفس تلك الشاكلة. إن إضفاء السمة المادية على قوة عملهم وتحويلها إلى شيء مناقض لمجمل هويتهم الشخصية (وهي العملية التي يتم إنجازها بمجرد بيع قوة العمل تلك كسلعة) تتحول الآن، من ناحية أولى، إلى واقع حياتي دائم لا مفر منه في حياتهم اليومية. فهنا أيضاً لاتتمكن الشخصية من فعل أي شيء يتعدى النظرة البلهاء في الوقت الذي يجري فيه تقزيم وجودها إلى ذرة معزولة وتقديمها لقمة سائغة إلى نظام غريب. وأما من الناحية الثانية فإن التفكك الآلي الذي تتفككه عملية الإنتاج إلى عناصرها المكونة تدمر بدورها أيضاً تلك الروابط التي كانت قد ربطت فيما بين، الأفراد وجعلت منهم جماعة مشتركة في الأيام التي كان فيها الإنتاج لايزال "عضوياً". وبهذا الإطار أيضاً تجعل المكننة منهم ذرات مجردة معزولة إلى الحد الذي لايعود فيه عملها يقرّب فيما بينها على نحو مباشر وعضوي، إذ إن ذلك العمل يصبح عرضة بشكل متزايد للوساطة التي تتوسطها حصراً القوانين المجردة للمكننة التي تحبس الأفراد(7). ولئن كانت هذه الصورة للعالم بأسره كئيبة، فإن من الممكن مقارنتها بالوصف الذي وصفه لوكاش لما يحدث للفكر، أو للعقل "the subject" كما يسميه. وبعد أن يأتي لوكاش بوصف رائع مذهل عن تناقضات الفلسفة الكلاسيكية من ديكارت إلى كانط إلى فيخته وهيغل وماركس، حيث يبين فيه تراجع العقل تراجعاً مطرداً إلى حالة من التأمل الشخصي السلبي واتخاذه موقفاً على مزيد ومزيد من الانفصال عن وقائع الحياة الصناعية المعاصرة الممزقة إرباً إرباً إلى حد مرعب، يمضي قدماً إلى وصف الفكر البورجوازي الحديث بأنه قد وصل إلى طريق مسدود وأضحى متسمراً ومشلولاً في وضع من السلبية النهائية. فالعلم الذي ينتجه قائم على مجرد جمع الحقائق، ولذلك فالأشكال العقلانية للفهم لايمكنها مجاراة لاعقلانية المعطيات "données" المادية، وحين تبذل الجهود لإجبار "الوقائع" على الإذعان "للنظام" فإن بعزقتها والتجزيء الدائب لوجودها إلى ذرات إما أن يخلصا إلى تقويض النظام أو إلى تحويل العقل إلى سجل سلبي لأشياء منفصل بعضها عن بعض.
بيد أن هنالك شكلاً واحداً من أشكال الخبرة بمقدوره الإتيان بالتمثيل المادي لجوهر التجسيد وقصوره في الوقت نفسه: ألا وهو الأزمة. فلئن كانت الرأسمالية هي رمز التجسيد المادي بلغة الاقتصاد، يجب عندئذ أن تخضع الأشياء كافة، بما فيها الكائنات البشرية، للقياس الكمي ولنوال قيمة السوق. وهذا بالطبع هو مايقصده لوكاش حين يتحدث عن التمفصل تحت مظلة الرأسمالية، وهو مايسمه في بعض الأحيان وكأنه لائحة هائلة متبعزقة. فمن حيث المبدأ ما من شيء- لاشيء لاشخص لامكان أو لازمان- متروك خارج تلك اللائحة، باعتبار أن من الممكن حساب أي شيء. ولكن هنالك ثمة لحظات يتحول فيها "الوجود النوعي للأشياء التي تعيش حيواتها خارج قوانين علم الاقتصاد كأشياء بحد ذواتها ضحايا سوء الفهم والإهمال، كقيم انتفاع [وهنا يشير لوكاش إلى أشياء "لاعقلانية" من أمثال الوجدان والعاطفة والحظ]، ويصبح فجأة بمثابة العامل الحاسم (فجأة أي بالنسبة للفكر العقلاني المتجسد مادياً). أو بدلاً من ذلك: فإن هذه القوانين تخفق في أداء وظيفتها ويصبح العقل المتجسد مادياً غير قادر على إدراك أي نموذج في خضم هذه الفوضى"(8). ففي لحظة كهذه يغتنم العقل أو الفكر لحظته الوحيدة كي يتهرب من التجسيد المادي: بالتفكير من خلال الشيء الذي يجعل الواقع يظهر بمظهر مجموعة من الأشياء والمعطيات الاقتصادية. وإن مجرد التفتيش نفسه عن العملية الكامنة خلف مايبدو بأنه كان محط العطاء والتشيء بشكل أبدي، يجعل من الممكن للعقل أن يعرف نفسه كفكر لا كشيء عديم الحياة، وأن يمضي قدماً بعد ذلك خلف الواقع التجريبي ليدخل حيز الإمكانية المأمول. فحين تستطيع أن تتصور، بدلاً من حيرتك في أمر قلة الخبز، العمل البشري، ومن ثم بالتالي المخلوقات البشرية التي تنتج الخبز وكفت عن ذلك لأن هنالك إضراباً للخبازين، تكون قد قطعت شوطاً لابأس به على طريق معرفتك أن الأزمة معرضة للفهم لأن العملية معرضة للفهم، ولئن كانت العملية عرضة للفهم يكون كذلك عرضة للفهم شيء من الإحساس بالكل الاجتماعي الذي خلقه الجهد البشري. وقصارى القول فإن الأزمة تتحول إلى نقد الوضع القائم: فالخبازون مضربون لسبب ما، والأزمة يمكن تعليلها، والنظام لايعمل بشكل معصوم عن الخطأ، والفكر تكشف لتوه عن انتصاره على الأشكال الموضوعية المتحجرة.
إن لوكاش ليضع هذا كله في ضوء العلاقة بين الفكر والشيء. بيد أن الإنصاف المناسب لهذه المماحكة يتطلب متابعتها إلى النقطة التي يبين فيها أن التسوية بين الفكر والشيء ستكون أمراً ممكناً، على الرغم من إقراره أن مثل هذا الاحتمال بعيد جداً في غياهب المستقبل. ومع ذلك فهو على يقين أن بلوغ مثل هذا المستقبل أمر محال بدون تحويل الوعي التأملي السلبي إلى وعي نقاد وفعال. فالوعي النقدي (الوعي الذي يدرك أنه انبثق عن الأزمة) يصبح مدركاً بشكل حقيقي، في افتراضه وجود واسطة بشرية خارج متناول التجسيد المادي، لقوته "التي تدأب بلا انقطاع لتقويض الأشكال الموضوعية التي تحدد حياة الإنسان"(9). إن الوعي ليمضي قدماً إلى ماخلف المعطيات التجريبية وليدرك، دون أن يختبر عملياً، التاريخ والمجموعية، والمجتمع ككل -أي تلك الوحدات التي أخفاها التجسيد المادي وتنكر لها في آن واحد معاً. فالوعي الطبقي، في جوهره، موضع الظن بأنه يحاول أن يشق طريقه من قلب البعزقة إلى الوحدة، كما أنه موضع الظن بأنه مدرك لموضوعيته الخاصة كشيء فعال ونشيط، وشعري أيضاً بأعمق المعاني (وعلينا هنا أن نشير إلى أن لوكاش كان قد ساق الحجج، قبل عدة سنوات من صدور كتابه "التاريخ والوعي الطبقي "، على أنه ليس من الممكن التغلب على قيود النظرية المحض وقيود الأخلاق المحض إلا في ميدان الجمال، حيث كان يقصد بالأولى تلك النظرية العلمية التي ترمز موضوعيتها نفسها إلى تجسيدها المادي نفسه، أي إلى عبوديتها للأشياء، في حين أنه كان يقصد بالثانية ذاتية كانطية ليس لها أية علاقة بأي شيء إلا ذاتيتها هي. ومامن شيء إلا العنصر الجمالي يحيل معنى الخبرة إلى خبرة معاشة في شكل مستقل ذاتياً: وبذلك يصبح التفكير والشيء شيئاً واحد(10).
والآن بما أن الوعي يرقى فوق الأشياء، فهو يدخل مضمار الاحتمالية، أي مضمار الإمكانية النظرية. إن الإلحاح الخاص الذي يلحه وصف لوكاش لهذا هو أن لوكاش يصف شيئاً بعيداً بعض الشيء عن مجرد التهرب إلى ميدان الخيال الجامح. فالوعي الذي يتوصل إلى الوعي الذاتي ليس هو البتة كإما بوفاري في تظاهرها أنها سيدة في (يونفيل). إن الضغوط المباشرة التي يمارسها القياس الكمي الرأسمالي، أي الإعداد الصارم للائحة عن كل شيء على سطح الأرض، يتواصل الشعور بها كما يرى لوكاش، وأما الشيء الوحيد الذي يتبدل فهو أن العقل يدرك طبقة من الكائنات على شاكلته تتمتع بقوة التفكير عموماً، لاتستوعب الحقائق إلا لكي تنظمها على شكل زمر، كما أنها تدرك العمليات والاتجاهات التي لايتيح فيها التجسيد المادي ظهور دليل سوى دليل الذرات عديمة الحياة. وهكذا فإن الوعي الطبقي يبدأ بالوعي النقدي. فالطبقات ليست واقعية بتلك الطريقة التي تكون بها الأشجار والبيوت واقعية، إذ إن من الممكن إرجاعها إلى الوعي الذي تستغل طاقاته لافتراض نماذج مثالية تعثر على نفسها فيها بصحبة كائنات أخرى، إن الطبقات نتيجة فعل من أفعال العصيان المسلح يرفض الوعي من خلاله أن يكون مقيداً بعالم الأشياء، ألا وهو المكان الذي كان مقيداً فيه في مخطط الأشياء الرأسمالي.
لقد انتقل الوعي من عالم الأشياء إلى عالم النظرية. وعلى الرغم من أن لوكاش قد وصفه على أحسن ما يكون الوصف المتاح لفيلسوف ألماني شاب- بلغة طافحة بالميتافيزيك والتجريدات أكثر من اللغة التي كنت أستعملها- يجب عليا ألا ننسى بأنه يقوم بفعل من أفعال العصيان السياسي. إن بلوغ النظرية يعني تهديد التجسيد المادي، علاوة على تهديد مجمل النظام البورجوازي الذي يعتمد عليه التجسيد المادي، بالتدمير. ولكن هذا التدمير، كما يؤكد لقرائه، "ليس بمثابة تمزيق وحيد لايتكرر للحجاب الذي يقنّع عملية التجسيد المادي وإنما هو تناوب دائب للتحجر والتناقض والتحرك"(11). فالنظرية، بوجيز العبارة، تكون موضع الاغتنام كنتيجة للعملية التي تبدأ حين يختبر الوعي لأول مرة التحجر المريع الذي هو عليه في التجسيد المادي الشامل لكل الأشياء تحت مظلة الرأسمالية، ولكن حين يعمّم الوعي (أو يصنف) نفسه كشيء معارض لأشياء أخرى، وحين يشعر بنفسه أنه مقاوم للتشييء (أو أنه بمثابة الأزمة في صميم التشييء)، يبرز وعي التغيير في الحالة الراهنة، وفي الختام يتنطح الوعي، إبان تحركه نحو الحرية والتحقق، لاستكمال تحقيق الذات، ألا وهي بالطبع تلك العملية الثورية التي تمتد مسافات إلى الأمام في المستقبل، والتي ليس من الممكن الآن إدراكها إلا كنظرية أو مشروع.
وماهذا الشيء إلا بالمادة المتهورة فعلاً. ولقد أوجزتها كي أطرح مؤشراً بسيطاً عن عتو ردود الأفعال لأفكار لوكاش عن النظرية على النظام السياسي الذي جاء على وصفه بمثل هذا الاتزان والرعب المخيفين. فالنظرية بالنسبة إليه كانت بمثابة الشيء الذي أنتجه الوعي، لا على شكل تفادي الواقع بل على شكل إرادة ثورية ملتزمة مطلق الالتزام بالنزعة الدنيوية والتغيير. إن وعي البروليتاريا كان يمثل، بالنسبة للوكاش، النقيض النظري للرأسمالية، كما أن البروليتاريا التي كان يعنيها ماكان لها أن تتشبه البتة، كما قال ميرلوبونتي وآخرون، بمجموعة من العمال الهنغاريين ذوي الثياب الرثة والوجوه المتجهمة. فالبروليتاريا كانت رمزه للوعي الذي يتحدى التجسيد المادي، وللعقل الذي يؤكد طاقاته فوق المادة المحض، وللوعي الذي يطالب بحقه النظري في إقامة عالم أفضل خارج إطار عالم الأشياء البسيطة. وبما أن الوعي الطبقي ينجم عن عمال عاملين ومدركين للواقع الذي هم عليه، فإن على النظرية ألا تفقد ارتباطها بتاتاً بجذورها في السياسة والمجتمع والاقتصاد.
هذا هو إذاً لوكاش وهو يصف أفكاره عن النظرية -وطبعاً عن نظريته حول التبديل التاريخي الاجتماعي- في مطلع العشرينيات. هيا وتأملوا الآن تلميذ لوكاش ومريده لوسيان غولدمان الذي كان كتابه المعنون بـ "الإله الخبيء"(1955) بمثابة إحدى أوائل المحاولات ومن بين أروعها لوضع نظريات لوكاش موضع التطبيق العملي الاستبحاري. ففي دراسة غولدمان لباسكال وراسين جرى تحويل الوعي الطبقي إلى "رؤية دنيوية"، أي إلى شيء ماهو بالوعي المباشر بل بالوعي الجماعي الذي يعبر عنه عمل بعض أكابر الكتاب الموهوبين(12). ولكن هذا ليس كل مافي الأمر. فغولدمان يقول أن هؤلاء الكتاب يستمدون نظرتهم الدنيوية من ظروف اقتصادية وسياسية حاسمة شائعة بين أفراد زمرتهم، بيد أن النظرة الدنيوية نفسها لها منطلقها لافي التفاصيل التجريبية بمقدار ماهو في إيمان بشري بوجود الحقيقة "التي تتجاوزهم كأفراد وتجد تعبيرها في عملهم"(13). ولما كان غولدمان يكتب كأستاذ ملتزم سياسياً، (لا على غرار لوكاش المناضل المعني بالأمر على نحو مباشر)، فإنه يسوق الأدلة على أن عمل باسكال وراسين، باعتبارهما كاتبين من ذوي الامتيازات، يمكن أن يشكل كلاً متكاملاً هاماً من خلال عملية تنظير ديالكتيكي، ألا وهي تلك العملية التي يعزى فيها الجزء إلى الكل، والتي يتحقق فيها تجريبياً ذلك الكل المفروض من خلال الأدلة التجريبية. وهكذا فإن النظرة إلى نصوص بأم عينها هي أنها أولاً: تعبر عن رؤية دنيوية، وثانياً: أن الرؤية الدنيوية هي مايشكل كل الحياة الاجتماعية والفكرية للجماعة (أي الجماعة المدعوة باسم جانسينيي بور رويال)*، وثالثاً: أن أفكار ومشاعر الجماعة هي التعبير عن حياتهم الاجتماعية والفكرية(14). وفي هذا كله -حيث يسوق الأدلة غولدمان بروعة وفخامة نموذجيتين- يكون المشروع النظري، أي الدائرة التأويلية، بمثابة عرض للتلاحم: بين الجزء والكل، بين الرؤية الدنيوية والنصوص في أدق تفاصيلها، بين واقع اجتماعي حاسم وبين كتابات بعض الأفراد الموهوبين بشكل استثنائي ضمن جماعة ما. فالنظرية، بكلمات أخرى، هي ميدان الباحث، هي المكان الذي تتوحد فيه الأشياء المتباينة، والأشياء المتفككة بمنتهى الوضوح، لكي تتطابق فيما بينها تطابقاً تاماً: الاقتصاد والعملية السياسية والكاتب الفارد وسلسلة من النصوص.
إن الدين الذي يدين به غولدمان للوكاش دين واضح، على الرغم من عدم الإشارة إلى أن ماهو تناقض مضحك، لدى لوكاش، بين الوعي النظري وبين الواقع المتجسد مادياً قد تحول وتموضع، على يد غولدمان، إلى تطابق مأساوي بين الرؤية الدنيوية وبين الوضع الطبقي التعيس الذي كانت عليه طبقة "أشباه النبلاء"** الفرنسية في مؤخر القرن السابع عشر. ففي حين أن الوعي الطبقي لدى لوكاش يتحدى النظام الرأسمالي، لابل ويتمرد عليه لمقاومته فعلاً، نجد أن النظرة المأساوية إليه من لدن غولدمان موضع التعبير التام والمطلق من قبل أعمال باسكال وراسين. إن من الصحيح أن نقول أن النظرة المأساوية ليست موضع التعبير المباشر من قبل ذينك الكاتبين، وصحيح أيضاً أن نقول أن الباحث الحديث بحاجة ماسة، للإتيان بالتطابق بين الرؤية الدنيوية وبين التفاصيل التجريبية، لأسلوب من أساليب البحث الديالكتيكية البالغة التعقيد، مع العلم أن التكييف الذي أجراه غولدمان على نظرية لوكاش ينزع عنها دورها الثوري. فمجرد وجود الوعي الطبقي، أو النظري، بالنسبة للوكاش، كاف بحد ذاته للإيحاء له بمشروع الإطاحة بالأشكال الموضوعية. وأما بالنسبة لغولدمان فإن إدراك الوعي الطبقي أو الجماعي ماهو قبل أي شيء إلا ضرورة استبحارية ومن ثم التعبير -في أعمال كتاب من ذوي الامتيازات الرفيعة- عن وضع اجتماعي محدود بشكل مأساوي. إن الوعي المنسوب لمصدره لدى لوكاش هو حاجة نظرية ممتنعة على الإثبات، ولو أنها حاجة نظرية مسبقة بشكل مطلق، إن كان المرء يود الإتيان بالتغيير في الواقع الاجتماعي، إذ في النسخة التي جاء بها غولدمان عن ذلك الوعي، وهي النسخة المقصورة باعتراف الجميع على وضع محدود جداً، يقوم التعبير عن النظرية والوعي في الرهان الذي يراهنه باسكال على إله صامت ومحجوب عن الأنظار "deus absconditus"، كما ويقوم التعبير عنهما بالنسبة لغولدمان الباحث العلمي، كما ينعت نفسه، في التطابق النظري بين النص والواقع السياسي. ولئن وضعنا الأمر في إطار آخر لقلنا إن النظرية عند لوكاش تبدأ كنوع من التنافر الممنوع من التقليص بين العقل والشيء، في حين أنها بالنسبة لغولدمان هي العلاقة المتماثلة التي من الممكن رؤيتها موجودة بين جزء فارد وكل متلاحم.
إن الفرق بين النسختين المطروحتين عن نظرية لوكاش حول النظرية لفرق واضح تماماً: فلوكاش يكتب كمشارك في صراع (الجمهورية السوفياتية الهنغارية لعام 1919)، في حين أن غولدمان يكتب كمؤرخ منفي في السوربون. فانطلاقاً من وجهة نظر واحدة يمكننا أن نقول أن التكييف الذي كيف به غولدمان نظرية لوكاش يخفض منزلة النظرية، يقلل من أهميتها، يشذبها بعض الشيء وفق مقتضيات أطروحة دكتوراه في باريز. ولكنني لا أتصور هنا أن ذلك التخفيض ينطوي على أي مضمون أخلاقي، بل إنه (كما يدل أحد معانيه الثانوية) ينقل تخفيض اللون، وزيادة ابتعاد المسافة، وفقدان القوة المباشرة الذي يطرأ حين إجراء المقارنة بين أفكار غولدمان عن الوعي والنظرية وبين المعنى والدور اللذين يقصدهما لوكاش بالنظرية. وليس في نيتي فضلاً عن ذلك أن أوحي أن هنالك شيئاً من الخطأ الكامن في التحويل الذي حول به غولدمان الوعي من وعي مقاوم ومعارض معارضة جذرية إلى وعي بمقدوره استيعاب التطابق والتماثل. فكل مافي الأمر لايعدو القول بأن الوضع قد تغير بما يكفي لحدوث التخفيض، مع أنه مامن شك في أن قراءة غولدمان للوكاش تمحو تلك المسحة النبوية تقريباً عن النسخة التي جاء بها هذا الأخير عن الوعي.
يالكثرة ماتعودنا أخيراً على أن نسمع أن كل الاقتباسات والقراءات والتأويلات ماهي إلا قراءات مغلوطة وتأويلات مغلوطة حتى كدنا أن نعتبر أن حادثة غولدمان/لوكاش ليست إلا قسطاً ضئيلاً آخر من الدليل على أن أي إنسان، حتى الماركسي، يسيء القراءة ويسيء التأويل. بيد أنني أعتبر أن مثل هذا الاستنتاج مقنع بتاتاً. فهو يوحي ضمناً، قبل أي شيء آخر، أن البديل الممكن الوحيد عن النسخ الذميم هو القراءة المغلوطة الخلاقة، وأن إمكانية الوساطة شيء لا وجود له. وثانياً: إن الفكرة القائلة أن كل القراءة قراءة مغلوطة ماهي أساساً، حين يصار إلى رفعها لسوية مبدأ عام، إلا إلغاء لمسؤولية الناقد. فليس من الكافي بتاتاً بالنسبة للناقد الذي يحمل فكرة النقد على محمل الجد أن يقول بمنتهى البساطة أن التأويل هو إساءة تأويل، أو أن الاقتباسات تنطوي ضمناً على قراءات مغلوطة بشكل لامناص منه. إن الأمر على النقيض من ذلك تماماً: إذ يبدو لي أن من الممكن تماماً تقويم القراءات المغلوطة (بالشكل الذي تحدث فيه) بأنها جزء من الانتقال التاريخي الذي تنتقله الأفكار والنظريات من إطار إلى آخر. لقد كتب لوكاش لصالح وضع، وفي وضع، كان ينتج أفكاراً عن الوعي والنظرية، وأفكاراً مختلفة جداً عن الأفكار التي جاء بها غولدمان في وضعه الذي كان فيه. فلئن تدعو عمل غولدمان بأنه قراءة مغلوطة لعمل لوكاش، ولئن تربط للتو مباشرة بين قراءة مغلوطة لنظرية عامة عن التأويل وبين إساءة التأويل، يعني عدم إعارة أي اهتمام نقدي للتاريخ وللوضع اللذين يلعبان كلاهما دوراً هاماً وحاسماً في تغيير أفكار لوكاش وتحويلها إلى أفكار خاصة بغولدمان. وإن هنغاريا إبان عام 1919 وباريز في أعقاب الحرب العالمية الثانية تمثلان محيطين مختلفين الاختلاف كله. وإلى الحد الذي تتم فيه قراءة لوكاش وغولدمان قراءة دقيقة، يصبح بمقدورنا إلى ذلك الحد نفسه أن نفهم التغيير النقدي -في الزمان وفي المكان- الذي يحدث بين كاتب وآخر، مع العلم أنهما يعتمدان معاً على نظرية لإنجاز شيء معين من العمل الفكري. وهنا ما من حاجة تدعوني للجوء إلى نظرية عن التداخل النصي الذي لاحدود له لكي تكون نقطة أرخميدس* خارج إطار الوضعين معاً. فالرحلة الخاصة من هنغاريا إلى باريز، بكل ماينجم عنها من نتائج، تبدو قاهرة جداً وكافية جداً لصالح التمحيص النقدي، إن لم نكن راغبين في الاستغناء عن الوعي النقدي واللجوء إلى الشعوذة النقدية.
ففي المقارنة بين لوكاش وغولدمان نتيقن من الحد الذي تكون فيه النظرية رد فعل على وضع تاريخي واجتماعي محدد، ألا وهو الوضع الذي تشكل فيه المناسبة الفكرية قسطاً منه. وهكذا فإن الشيء الذي يكون وعياً متمرداً في مثل من الأمثلة يصبح رؤية مأساوية في مثل آخر، وذلك نظراً لتلك الأسباب التي تتوضح عند إجراء مقارنة جادة بين بوادبست وباريز. وهنا لاتحدوني الرغبة إلى الإشارة بأن بوادبست وباريز هما اللتان حددتا نوعية النظرية لدى كل من لوكاش وغولدمان، بل ماأقصد بالفعل هو أن بودابست وباريز هما الشرطان الأوليان الممنوعان من التقليص، وهما الشرطان اللذان يطرحان الحدود ويمارسان الضغوط التي يرد عليها كل كاتب منهما، مع التسليم بداهة بمواهب ونوازع واهتمامات كل منهما على حدة.
هيا بنا الآن نجتاز خطوة إضافية مع لوكاش، أو بالأحرى مع تلك النسخة التي استخدمها غولدمان عن لوكاش: أي نسخة غولدمان التي أفاد منها ريموند وليامز. فبما أن وليامز كان قد ترعرع في تراث الدراسات الإنكليزية في كامبردج وتدرب على تقنيات ليفز وريتشاردز، كان تكوينه تكوين ذلك المتبحر الأدبي الذي لم تكن فيه أية فائدة للنظرية. إنه يتحدث بلغة تثير الحنق إلى حد ما عن الكيفية التي تمكن مفكرين تثقفوا بالطريقة التي تثقف بها من أن يستخدموا "لغة مستقلة تحدد ذاتها بذاتها" وتعبد التفاصيل الدقيقة الملموسة عبادة الأصنام، الأمر الذي كان يعني أن بمقدور المفكرين التقرب من السلطة والتحدث بلغة التطهير عن أدق الرموز، وأن عليهم أن يجاهروا بالولاء للتجسيد المادي لابنيّة استنتاجه، وأن يتحدثوا بدلاً من ذلك عن التلازم الموضوعي، لا لتبيين مكان التسوية على الرغم من معرفتهم بموضع التنفيس(15). فها هو وليامز يخبرنا أن غولدمان جاء إلى كامبردج في عام 1970 وألقى محاضرتين هناك. وهذه الزيارة كانت حدثاً ضخماً، طبقاً لما جاء به وليامز في المقالة التذكارية الشجية التي كتبها عن غولدمان بعد مماته، وذلك لأنها طرحت النظرية على كامبردج، كما يدعي وليامز، حيث استوعبها واستخدمها، بالشكل الذي كانت عليه، كل المفكرين المتضلعين في التراث الأوربي الرئيسي. ولقد حرض غولدمان وليامز على إطراء مساهمة لوكاش كونها جعلتنا نفهم تلك الكيفية التي استحال بها التجسيد المادي إلى موضوعية زائفة بمقدار ماكان الأمر يتعلق بالمعرفة، وإلى تشويه ينخر، في الوقت نفسه أيضاً، كل ثنايا الحياة والوعي أكثر من أي شكل آخر من أشكال النشاط البشري في عصر "هيمنة الفعالية الاقتصادية على كل ما عداها من الفعاليات البشرية". ويتابع وليامز قائلاً:
إن فكرة الانجماع كانت إذاً سلاحاً نقدياً ضد هذا التشويه بالحصر، لابل وضد الرأسمالية نفسها في حقيقة الأمر. ومع ذلك لم يكن هذا الإجراء بمثابة نزعة مثالية- أي توكيد سيادة قيم أخرى. ولكن على العكس تماماً: فكما أن هذا التشويه لايمكن فهمه في جذوره إلا من خلال تحليل تاريخي لنوع خاص من الاقتصاد، كذلك محاولة التغلب عليه وتجاوزه لايمكن أن تقوم في شاهد فارد أوفي فعالية مستقلة، وإنما تقوم في جهد عملي بغية العثور على غايات اجتماعية إنسانية أسمى، وتوكيدها وتوطيدها، بوسائل اقتصادية وسياسية وإنسانية أسمى(16).
ومرة ثانية تعرضت فكرة لوكاش -وهي في هذه الحالة الفكرة الثورية العلنية عن الانجماع- لشيء من الترويض. فبدون أية رغبة عندي بشكل من الأشكال للتقليل من أهمية مافعلته أفكار لوكاش (من خلال غولدمان) لصالح الدراسات الإنكليزية وقتما كانت في حالة جمود عليل في كامبردج في مؤخر القرن العشرين، أرى أن الحاجة الماسة تدفعني للقول بأن تلك الأفكار قد صيغت بالأصل لتفعل شيئاً أكثر من مجرد قلقلة حفنة من أكابر أساتذة الأدب. بيد أن هذه النقطة نقطة واضحة ناهيك عن أنها بسيطة، إذ إن الأهم هو التالي: فنظراً لأن كامبردج ماهي بوادبست الثورية، ونظراً لأن وليامز ماهو لوكاش المناضل، ونظراً لأن وليامز ناقد تأملي- وهذه نقطة عويصة- أكثر مماهو ثوري ملتزم، فإن بمقدوره رؤية حدود نظرية ماتبدأ كفكرة تحريرية ولكنها يمكن أن تتحول، على الرغم من ذلك، إلى فخ لذاتها هي.
على أعلى المستويات العملية كان يسيراً علي أن أوافق [على أن نظرية لوكاش عن الانجماع كانت رداً على التجسيد المادي]. ولكن الحديث عن مجمل قوة التفكير بلغة الانجماع يعني التوكيد على أننا جزء منه، أي وضع كل وعينا وعملنا ومناهجنا في زاوية نقدية محفوفة بالمخاطر. لقد كان في ذلك الميدان الخاص، ميدان التحليل الأدبي، هذه العقبة الواضحة: ألا وهي أن معظم العمل الذي كان علينا أن نتفحصه كان نتاج نفس هذا الوعي المتجسّد مادياً، حتى إن ذلك الشيء الذي ظهر بمظهر الغنيمة المنهجية (الميثودولوجية) صار، وعلى جناح السرعة، مظنة الفخ المنهجي. ولكن لما يكن بوسعي حتى الآن إطلاق هذا الحكم النهائي على لوكاش كوني لما أتوصل بعد إلى عمله كله، غير أن بعض ما جاء في عمله على الأقل، كالتبصرات الأساسية الواردة في كتاب "التاريخ والوعي الطبقي"، التي تنصل حالياً منها ولو بشكل جزئي، تتعذر ترجمته إلى ممارسة نقدية [وهنا يلمح وليامز إلى العمل التالي الذي أصدره لوكاش عن الواقعية الأوربية، والذي كان أقل صقلاً بكثير من كتاب "التاريخ و...."] فضلاً عن أن بعض العمليات الأقل إتقاناً تدأب على معاودة الظهور -ولا سيما ما يتعلق منها بالقاعدة والهيكل العلوي. وأما أنا فلا أزال أقرأ غولدمان بروح من التعاون والنقد ولا أزال أطرح السؤال نفسه لأنني على ثقة تامة أن تطبيق الانجماع لا يزال بالنسبة لأي واحد منا، وفي أي زمان، غاية في العسر لا بل وغاية في الوضوح أيضاً.
إن هذا المقطع لمثار الإعجاب، ولكن على الرغم من أن وليامز لا يقول شيئاً عن التكرار الكرار في العمل الذي أصدره غولدمان لاحقاً، فإن من الأهمية بمكان كبير أن يكون قد تعلم، ولو من نظرية إنسان آخر، رؤية حدود النظرية ولا سيما حقيقة إمكانية تحول الغنيمة إلى فخ، إن تم استخدام النظرية بشكل عشوائي وكرار وبلا حدود. فما يعنيه، على ما أتصور، هو أن أية فكرة ما أن يكون لها رواجها نظراً بمنتهى الوضوح لفعاليتها وقوتها حتى تقوم كل الاحتمالات، خلال مهاجراتها، لتقزيمها وتصنيفها وتوشيحها وشاح المؤسسات. إن ذلك العرض الرائع المعقد الذي عرض به لوكاش ظاهرة التجسيد المادي استحال بالفعل إلى نظرية تأملية بسيطة، ولو إلى حد ما طبعاً، على يدي غولدمان، مع العلم أن وليامز لم يقل ذلك عن صديق قديم مات منذ عهد قريب لأنه كان حزيناً عليه ذلك الحزن الوقور. فالتماثل، بعد كل ما قيل، ما هو إلا نسخة منقحة عن نموذج القاعدة والهيكل العلوي الدولي الثاني القديم*.
إن تأملات وليامز، علاوة على تذكيرها لنا بالشيء الذي يحدث بالتحديد لنظرية طليعية، تساعدنا على الإتيان بتعليق آخر حول النظرية بعد أن تنبثق من صميم وضع ما وتصبح من ثم قيد الاستخدام وتهاجر وتحظى بالقبول على نطاق واسع. فلئن كان من الممكن لنظرية "التجسيد والانجماع" (إن حولنا الآن نظرية لوكاش إلى عبارة موجزة لتبسيط المرجعية) أن تكون أداة للتقليص، لن يكون هنالك أي سبب يمنعها من أن تكون شاملة جداً وفعالة جداً بدون انقطاع، وأن تنشر عادة فكرية على أوسع نطاق. وبوجيز العبارة، إن كان بمقدور نظرية ما أن تنزل إلى تحت، إن جاز التعبير أي أن تصبح تقليصاً دوغماتياً لنسختها الأصلية، يكون بمقدورها أيضاً أن ترتفع إلى فوق حتى تصل إلى نوع من اللاتناهي الرديء، ألا وهو الاتجاه الذي كان يقصده لوكاش نفسه بخصوص نظرية التجسيد والانجماع. فالحديث عن نبذ لا يكل ولا يمل للأشكال الموضوعية، والحديث كما يتحدث في المقالة عن الوعي الطبقي، عن كيفية كون النهاية المنطقية للتغلب على التجسيد المادي هي الإبادة الذاتية للطبقة الثورية نفسها، يعني أن لوكاش قد دفع نظريته أشواطاً إلى الأمام وإلى الأعلى، أي إلى حد غير مقبول (في رأيي أنا). إن التناقض الذي تنطوي عليه هذه النظرية- ولربما معظم النظريات التي تتطور كردود على ضرورة التحرك والتبدل- هو أنها تخاطر بالتحول إلى مبالغة نظرية، إلى مسح نظري لذلك الوضع الذي صيغت بالأصل لمعالجته أو التغلب عليه. فلئن يصف المرء "تعاقباً دائباً للتحجر والتناقض والتحرك" نحو الانجماع كعلاج نظري للتجسيد المادي ما هو إلا، بمعنى ما، استبدال صيغة ثابتة بصيغة أخرى. وإن القول عن النظرية والوعي النظري بأنهما، كالقول الذي يقوله لوكاش، يتداخلان في التجسيد المادي ويستهلان عملية ليس بالقول الدقيق بما يكفي كي يأخذ في اعتباره، وفي حساباته، التفاصيل وضروب المقاومة التي يبديها واقع حرون متجسد مادياً للوعي النظري. وعلى الرغم من البهاء الذي يتحلى به الوصف الذي جاء به لوكاش للتجسيد المادي، وعلى الرغم من كل دقته فيه، فإنه لم يكن قادراً على أن يرى كيف أن التجسيد المادي نفسه حتى تحت مظلة الرأسمالية لا يمكن أن يكون كلي الهيمنة- ما لم يكن لوكاش مستعداً بالطبع أن يترك شيئاً يقول بأن الانجماع النظري (وسيلته الثورية للتغلب على التجسيد المادي) أمر ممكن، أي أن الانجماع على شكل تجسيد مادي كلي الهيمنة أمر ممكن نظرياً تحت مظلة الرأسمالية. فلئن كان التجسيد المادي كلي الهيمنة، كيف يكون إذاً بمقدوره لوكاش أن يفسّر عمله هو كشكل من أشكال الفكر البديل تحت وطأة التجسيد المادي؟
ولربما أن هذا بقضه وقضيضه مجرد هياط ومياط وشعوذة. ومع ذلك يبدو لي أن المسافة التي نأى بها وليامز عن لوكاش الشاب المتأجج حماسة تنطوي، مهما كانت بعيدة زماناً ومكاناً، على فضيلة استثنائية حتى بالنسبة لبرودة تأملاته النقدية حول لوكاش وغولدمان اللذين لولا ذلك لكان فكرياً على أوثق ارتباط حميم معهما كليهما. فهو يأخذ عن هذين الرجلين إدراكاً نظرياً نفاذاً بالقضايا التي ينطوي عليها ربط الأدب بالمجتمع، بالشكل الذي يطرحه فيه في مقالته النظرية الوحيدة المثلى المعنونة بـ "القاعدة والهيكل العلوي في النظرية الثقافية الماركسية". فالمصطلحات الفنية المطروحة في النظرية الجمالية الماركسية لرسم حدود ذلك الميدان المتعرج والمعقد القائم بين القاعدة والهيكل العلوي لمصطلحات غير وافية بالغرض على العموم، ولذلك فإن وليامز يمضي قدماً للإتيان بالعمل الذي يجسد نسخته النقدية عن النظرية الأصلية. إنه يعرض نسخته على أحسن ما يرام، كما أتصور، في كتابه المعنون بـ"السياسة والأدب" حيث يقول: "مهما بلغت هيمنة نظام اجتماعي ما، فإن معنى هيمنته نفسها تقضي ضمناً بوجود تحديد أو اصطفاء للفاعليات التي يغطيها، ولذلك لن يكون بوسعه تحديداً استنفاد كل الخبرة الاجتماعية التي تشتمل دائماً، نظراً لذلك، على حيّز لقيام أفعال بديلة ونوايا بديلة من تلك التي لما تتبلور بعد كمؤسسة اجتماعية أو حتى كمشروع اجتماعي"(18) فكتاب "الريف والمدينة" يدوّن كلاً من حدود الهيمنة وبدائلها على شكل ردود أفعال عليها، مثلما عليه الأمر في حالة جون كلير الذي يسم عمله "نهاية الشعر الرعوي [كتقليد منهجي لوصف الريف الإنكليزي] بمجرد الصدمة التي واجهته جراء اصطدامه بالخبرة الريفية الفعلية". إن نفس وجود كلير كشاعر صار محفوفاً بالمخاطر نظراً لإزالة النظام الاجتماعي المقبول من المشهد المألوف الذي تزيا بالزي المثالي على أيدي جونسون وثومسون، الأمر الذي أدى إلى ذلك التحول الذي تحوله كلير- كإجراء بديل لما يكن وقتها قد صار موضع التحقق الكامل ولما يكن قد استسلم الاستسلام المطلق للعلاقات اللاإنسانية التي ترسخت في ظل نظام استغلال السوق- إلى "اللغة الخضراء للطبيعية" أي إلى الطبيعة لتكون هدف التمجيد بطريقة جديدة على ألسنة أكابر الشعراء الرومانسيين"(19).
ما من سبيل لتقزيم الحقيقة التي مفادها أن وليامز ناقد هام نظراً لمواهبه وتبصراته. بيد أنني على قناعة أن من الخطأ التقليل من أهمية الدور الذي لعبه في كتاباته الناضجة ذلك الشيء الذي كنت أدعوه بالنظرية المستعارة أو المهاجرة. فعلينا أن نستعير بالتأكيد إن كنا نريد التملص من كوابح محيطنا الفكري المباشر. ونحن بأمس الحاجة لنظرية لكل أنواع الأسباب التي قد ينطوي تكرارها الآن على ملل كبير. ولكن الشيء الذي نحتاجه أكثر بكثير من النظرية هو الإدراك النقدي الذي مفاده أنه ما من نظرية قادرة على التنبؤ بكل الحالات التي قد تكون مفيدة فيها، وتغطية تلك الحالات وتطويقها. وهذا القول ما هو إلا طريقة أخرى للقول، كما يقول وليامز، بأنه ليس بوسع أي نظام فكري أو اجتماعي أن يكون على هيمنة كبيرة إلى الحد الذي يجعله لا محدوداً في قوته. وهكذا فإن وليامز يتوفر له ذلك الإدراك النقدي الذي يستخدمه بمنتهى التعقل لكي يصف ويسوغ ويصقل استعاراته من لوكاش وغولدمان، علماً أن علينا أن نعجل ونضيف أن حيازته ذلك الإدراك لا تجعله معصوماً عن الخطأ ولا أقل تعرضاً للمغالاة. ولكن ما لم تكن النظرية قاطعة، من خلال جوانب نجاحها أو جوانب فشلها، حيال هذا الوجود الفوضوي أساساً، والسائب أساساً، الذي يشكل قسطاً كبيراً من الأوضاع الاجتماعية والتاريخية (وهذا ينطبق سواء بسواء على النظرية التي تنبثق من أي مكان وعلى النظرية "الأصلية")، فإنها تصبح فخاً إيديولوجياً تنصيد وتسمّر مستخدميها والشيء الذي يدور استخدامها عنه في آن واحد معاً. وفي هذه الحالة يصبح النقد أمراً غير ممكن أبداً.
فالنظرية، باختصار، لا يمكن لها أن تكون كاملة البتة، شأنها بذلك شأن ولوع المرء بالحياة اليومية ولوعاً لا سبيل لاستنفاده أبداً من خلال الإتيان بمتشابهات عنه أو بصور نموذجية أو بتجريدات. إن المرء ليستمد المتعة بالتأكيد من فلاحه في أن يجعل الأدلة تحتل مكانها المناسب في مخطط نظري أو تفعل فعلها فيه، وإن لمن السخف بمكان كبير أن يتقول المرء أن "الوقائع" أو "النصوص العظيمة" لا تستدعي أي إطار عمل نظري أو أي منهج لتكون بموجبه موضع إطراء مناسب أو قراءة مناسبة. فما من قراءة حيادية أو بريئة، وعلى المنوال نفسه ما من نص وما من قارئ إلا، إلى حد ما، نتاج منطلق نظري مهما كان هذا المنطلق ضمنياً أو لا شعورياً. وهأنذا أسوق الحجج على أننا نميز بين النظرية وبين الوعي النقدي بالقول أن هذا الأخير نوع من أنواع الإحساس المكاني، أي نوع من أنواع تقدير المقدرة الشخصية على تحديد موقع النظرية أو مكانها، وهذا يعني أن الواجب يقضي بإدراك المكان والزمان اللذين تنبثق عنهما النظرية كقسط من ذلك الزمان حيث تفعل فعلها فيه ولفائدته وحيث تستجيب له، ومن ثم يصبح بالإمكان لاحقاً إجراء المقارنة بين المكان الأول وبين الأمكنة التالية التي تبرز فيها النظرية كي تكون قيد الاستعمال. فالوعي النقدي هو إدراك الفروق القائمة بين مكان وآخر، علاوة على أنه إدراك الحقيقة التي مفادها أنه ما من منظومة أو نظرية تستنفد المكان الذي تنشأ فيه أو المكان الذي تترحل إليه. والوعي النقدي هو، قبل أي شيء آخر، إدراك ضروب المقاومة للنظرية، وإدراك ما تواجه من ردود أفعال أو تأويلات متضاربة معها. وإنني لأود بالفعل أن أشتط إلى حد القول أن مهمة الناقد ما هي إلا الإتيان بضروب المقاومة للنظرية، وتشريع أبوابها باتجاه الواقع التاريخي، باتجاه المجتمع، باتجاه الحاجات والمصالح البشرية، لتوضيح تلك الأمثلة الملموسة المستمدة من الواقع اليومي الذي يقع خارج أو خلف إطار التأويل المحدد سلفاً بالضرورة والمقيد من ثم بأية نظرية.
إن الكثير من هذا يؤول إلى التوضيح إذا قارنا لوكاش ووليامز من ناحية أولى مع غولدمان من ناحية ثانية. لقد قلت من قبل أن وليامز عارف بما يدعوه بالفخ المنهجي. وأما لوكاش، من طرفه، فيبين في حياته المسلكية كمنظّر (إن لم يكن في النظرية الناضجة نفسها) معرفة عميقة بضرورة الانتقال من متاهة النزعة الجمالية إلى العالم الواقعي المتمثل بالسلطة والمؤسسات، في حين أن غولدمان، على النقيض من ذلك، أسير شرك حتمية التماثل التي تكشف عنها كتابته الرائعة والمقنعة لاسيما في كتابه المعنون بـ"الإله الخبيء" (Le Dieu caché). إن التسييج النظري، شأنه شأن العرف الاجتماعي أو العقيدة الثقافية، لعنة على الوعي النقدي الذي يفقد حرفته حين يفقد معناه الفعال المتمحور حول عالم مفتوح عليه أن يمارس مقدراته فيه. إن أفضل الدروس الناجمة عن ذلك هو الدرس الموجود في الكتاب الفخم للانتريشيا المعنون بـ "بعد النقد الجديد" الذي هو بمثابة سرد مقنع كله للشيء الذي يدعوه بـ"المساجلات المشلولة حالياً حول النظرية الأدبية المعاصرة(20). ففي مثل في أعقاب مثل آخر يبين التوهين والترقيق اللذين يلحقان بأية نظرية ليست نسبياً موضع الاختبار من قبل العالم الاجتماعي وليست معرضة لتسييجه المعقد، ألا وهو ذلك العالم الذي ليس البتة مجرد بيئة لينة العريكة يسيرة الاستخدام لسن قوانين المواقف النظرية. (فكترياق لبلاء الخواء الذي ابتلى به الموقف الأمريكي، يوجد في كتاب فردريك جيمسون المعنون بـ"اللاوعي السياسي" وصف مفيد غاية الفائدة لثلاثة "آفاق سيمانتيه" يجدر أخذها بالحسبان ديالكتيكياً من قبل المفسر على أنها أجزاء من عملية فك طلاسم الرموز، الأمر الذي يدعوه أيضاً "بالنمط الثقافي للإنتاج")(21).
ومع ذلك علينا أن ندرك أن الواقع الاجتماعي الذي كنت ألمح إليه ليس بأقل تعرضاً للمبالغة في التلخيص النظري، حتى حين يتعمد، كما سأبين في حالة فوكو، بحث تاريخي في غاية القوة إلى الخروج بنفسه من الأرشيف إلى عالم السلطة والمؤسسات، وتحديداً إلى تلك المقاومات للنظرية التي تتغافل عنها وتسقطها من حاسبها أشد النظريات شكلية- كالتفكيك والسيميوطيقا والتحليل النفسي اللاكاني* والماركسية الآلثوسيرية التي كانت هدفاً لهجوم إ. ب. ثومبسون(22). إن العمل الذي قام به فوكو لمن أكثر الأعمال تحدياً وذلك لأن النظرة إلى فوكو هي أنه بحق خصم نموذجي للشكلية اللااجتماعية واللاتاريخية. بيد أنه يقع أيضاً، كما أتصور، ضحية لتقليل قيمة النظرية تقليلاً منهجياً بتلك الطرق التي يعتبرها أتباعه أدلة على عدم إذعانه للشعوذة.
إن فوكو ليجسد مفارقة عجيبة. فحياته المسلكية تقدم لجمهوره المعاصر له مساراً أخاذاً بشكل استثنائي يبلغ ذروته، في زمن أحدث عهداً بكثير، في الإعلان الذي أعلنه هو نفسه، والذي أحاله أتباعه لمصلحته، ومفاده أن موضوعه الحقيقي هو العلاقة بين المعرفة والسلطة. ونظراً لبهاء أدائه في الميدانين النظري والعملي، فإن السلطة والمعرفة (pouvoir and savoir) أتاحتا لقرائه (ولسوف يكون من الوقاحة ألا أعد نفسي بينهم، لا بل وراجعوا أيضاً كتاب جاك دونزيلوت المعنون "بشرطة العائلات") العدة للتعامل مع المفاهيم لتحليل الخطابات الذرائعية التي تتناقض تناقضاً صارخاً مع ذلك الميتافيزيك الجديب نسبياً الذي كان ينتجه عادة تلاميذ منافسيه الفلسفيين الكبار. ومع ذلك فإن أقدم عمل من أعمال فوكو كان من وجوه عديدة غافلاً بشكل ملفت للنظر عن قوته النظرية الخاصة. فحين تعيدون قراءة كتاب "تاريخ الحماقة" بعد كتاب "الرقابة والعقاب" ستصابون بالذهول من جراء الاستشراف المذهل الذي كان عليه الكتاب الأول بالنسبة للثاني، ولسوف تصابون بالذهول أيضاً حين تكتشفون أن فوكو حتى وهو يعالج الحبس والحجر، وهو الموضوع الذي كان يهجس في ذهنه، في بحثه البيمارستانات والمستشفيات، لم يأت على ذكر السلطة صراحة أبداً، لا ولم يأت على ذكر الإرادة "volonté" أيضاً. وأما كتابه المعنون بـ "الكلمات و..." فيقوم عذره، في التغافل عن ذكر السلطة، في أن الموضوع الذي كان يبحثه فوكو فيه كان تاريخ الفكر لا تاريخ المؤسسات، في حين أن كتاب "علم آثار المعرفة" يتضمن بعض التلميحات هنا وهناك مما يدل على أن فوكو بدأ يدنو من موضوع السلطة من خلال عدد من التجريدات التي تعني السلطة ضمناً: إذ إنه يشير فيه إلى أشياء من أمثال القبول والتكديس والمحافظة والتشكيل المعزوة كلها لإنشاء المقولات والخطابات والأرشيفات والوظائف التي تقوم بها، غير أنه يفعل ذلك دون أن يهدر شيئاً من وقته على ذكر ما قد يكون المصدر العام لقوتها ضمن المؤسسات أو في ميادين المعرفة أو حتى في المجتمع نفسه.
فنظرية فوكو عن السلطة -التي سوف أقيد نفسي بها هنا- تنبثق عن محاولته تحليل الفعل الذي تفعله أنظمة الحبس من الداخل، أي تلك الأنظمة التي تعتمد في أدائها وظائفها على كل من ديمومة المؤسسات ومن تفريخ الإيديولوجيات التقنية التي تسوغ وجود تلك المؤسسات.
وما هذه الإيديولوجيات إلا الخطابات والمعارف التي ينهمك بها فوكو. ففي عرضه الواقعي لبعض الواقف المحلية التي تحتشد فيها مثل هذه السلطة ومثل هذه المعرفة لا نظير له، علاوة على أن ما فعله لشيء في غاية التشويق بأي معيار. إن السلطة كي تكون فاعلة يجب أن يكون بوسعها، كما يقول في كتاب "الرقابة والعقاب"، تدبير التفاصيل والتحكم بها وحتى خلقها أيضاً: إذ كلما تزايدت التفاصيل تزايدت السلطة الفعلية، إدارة تفرخ وحدات يسيرة الإدارة، الأمر الذي يفرخ بدوره معرفة ذات مزيد من التفاصيل، ومعرفة ذات تحكم أدق. فالسجون، كما يقول في تلك الفقرة التي لا تنسى، ما هي إلا المصانع التي تنتج الجنوح، وما الجنوح إلا المادة الخام للخطابات التأديبية.
إنني لا أجد أية مشكلة فيما يتعلق بأوصاف وملاحظات مخصصة من هذا النوع، ولكن حين تتحول اللغة الخاصة لفوكو إلى لغة عامة (أي حين ينتقل بتحليلاته للسلطة من التفاصيل إلى المجتمع ككل) تتحول الغنيمة المنهجية إلى فخ نظري. ومن الطريف أن هذا الأمر يزداد وضوحاً زيادة طفيفة حين يقوم نقل نظرية فوكو من فرنسا وزرعها في عمل أتباعه فيما وراء البحار. فمنذ عهد قريب، على سبيل المثال، كان موضع التهليل بلسان إيان هاكينغ باعتباره بديلاً صعب المراس لأولئك الناس المتخلفين أكثر من اللزوم والتقدميين "الحالمين" من الماركسيين (ومن هم أولئك الماركسيون؟ الماركسيون كلهم؟)، وباعتباره خصماً فوضوياً لدوداً لناعوم تشومسكي الموصوف وصفاً غير مناسب بأنه "مصلح ليبرالي حصيف إلى حد الروعة"(23). هذا في حين أن كتاباً آخرين، ممن يرون بشكل صائب أن بحوث فوكو عن السلطة تلعب دور نافذة الإنعاش المفتوحة على العالم الواقعي للسلطة والمجتمع، أساءوا عشوائياً قراءة إعلاناته ونعتوها بأنها أحدث شيء عن الواقع الاجتماعي(24). وما من شك أن عمل فوكو بديل هام بالفعل للشكلية اللاتاريخية التي كان يتجادل معها على نحو ضمني، وأن رؤيته تتحلى بميزة عظيمة لكونه مفكراً مختصاً (كشيء مناقض للمفكر العام(25)) قادراً وآخرون من أمثاله على خوض معركة فدائية نطاقها صغير ضد بعض مؤسسات القمع، وضد "الصمت والتكتم".
بيد أن ذلك كله لايعني تقبل رؤية فوكو المطروحة في كتاب "تاريخ الغريزة الجنسية" والقائلة أن "السلطة موجودة في أي مكان"، وتقبل كل النتائج التي تنجم ولابد عن مثل هذه الرؤية المبسّطة ذلك التبسيط الهائل(26). إن بمقدور أي واحد أن يرى أن فوكو، كما أسلفت القول، في حماسته لتفادي الوقوع في شرك النزعة الاقتصادية الماركسية، انساق إلى طمس دور الطبقات، ودور الاقتصاد، ودور العصيان والثورة في المجتمعات التي يبحثها. هيا ولنفترض أن السجون والمدارس والجيوش والمصانع كانت، كما يقول، مصانع للتأديب في فرنسا إبان القرن التاسع عشر (باعتباره يتحدث حصراً على وجه التقريب عن فرنسا)، وأن الحكم الجامع كان يهيمن عليها كلها. فما هي ضروب المقاومة التي تصدت لنظام التأديب، ولماذا لم يبحث فوكو البتة ضروب المقاومة التي تخلص دائماً إلى الإذعان لهيمنة النظام الذي يصفه، كما يسوق الأدلة نيكوس بولانتزاس بمنتهى حدة الذهن في كتاب "الدولة والسلطة والاشتراكية"؟ وأما الوقائع فإنها أكثر تعقيداً بالطبع، مثلما يستطيع أن يبين أي مؤرخ جيد لقيام الدولة الحديثة. وعلاوة على ذلك، يتابع أقواله بولانتزاس، فحتى لو قبلنا الرأي القائل أن السلطة عقلانية في جوهرها، وأنها ليست بحوزة أي إنسان ولكنها استراتيجية ومزاجية وفعالة إلى الحد الذي يجعلها تستثمر كل زوايا المجتمع، كما يدعي كتاب "الرقابة والعقاب"، فهل من الصواب أن نستنتج، كما يستنتج فوكو، أن استخدام السلطة يستنفد السلطة؟(27) أوليس من الخطأ بمنتهى البساطة أن نقول، كما يتساءل بولانتزاس، أن السلطة لاتستند إلى أي أساس في أي مكان وأن النضال والاستغلال لا يحدثان(28)، مع الإشارة إلى أن كلا هذين التعبيرين غائبان عن تحليلات فوكو؟ فالمشكلة تكمن في أن استخدام فوكو لمصطلح السلطة "pouvoér" يدور ويدور أكثر من اللزوم إلى الحد الذي يجعله يبتلع أية عقبة تعترض سبيله (المقاومات التي تقاومه، الطبقة والقواعد الاقتصادية التي تنعشه وتزكي ناره، والاحتياطات التي يكدسها هو نفسه)، ويطمس التغيير، ويعمي سلطانه المادي الصغير(29). وعلامة من العلامات الدالة على الانتفاخ الكبير الذي يمكن أن ينتفخه تصور فوكو للسلطة حين يهاجر وتنأى به المسافات هي قولة هاكينغ أنه "ما من كائن حي يعرف هذه المعرفة، وما من كائن حي يتنازل عن سلطة كهذه". فما هذا القول بكل تأكيد إلا غاية في الشطط لكي يبرهن على أن فوكو ليس ذلك التابع الساذج لماركس.
إن نظرية فوكو عن السلطة هي، في حقيقة الأمر، تصور من تصورات اسبينوزا، ألا وهو ذلك التصور الذي خلب لا لب فوكو وحده بل وألباب الكثيرين من قرائه ممن يتمنون تجاوز تفاؤل اليسار وتشاؤم اليمين لكي يسوغوا الخنوع السياسي بنزعة فكرية متكلفة، ويتمنون في الوقت نفسه الظهور بمظهر الواقعيين وعلى ارتباط بعالم السلطة والواقع، علاوة على لبوسهم لبوس التاريخيين والمعادين للشكلانيين في انحيازهم. فالمشكلة تكمن في أن نظرية فوكو رسمت دائرة حول نفسها مسيجة بذلك فسحة منفردة حيث سجن فوكو نفسه فيها وسجن آخرين معه. وإن من الخطل بالتأكيد أن نقول، مع هاكينغ، أن الأمل والتفاؤل والتشاؤم قد تبدت كلها على يد فوكو بأنها مجرد توابع لفكرة عن عقل متسام موطود الأركان، باعتبار أننا تجريبياً نختبر الأمور يومياً ونتصرف بها وفقاً لتلك الأشياء دونما أية إشارة لأي "عقل" كذاك العقل الذي لاعلاقة له بتلك الأمور. وهنالك، بعد كل ماقيل، فرق معقول بين hope وHope* ، كذلك الفرق الموجود بين Logos- words**: الأمر الذي يفرض علينا ألا ندع فوكو يعبث بالخلط بين هذا وذاك، وبألا يجعلنا ننسى أن التاريخ لايمكن أن يتسنى له البناء دون عمل ونية ومقاومة وجهد وصراع، وأن لاشيء من هذه الأشياء عرضة للامتصاص بصمت في صميم صغريات شبكات أعمال السلطة.
وهنالك نقد أهم من سابقه يجدر توجيهه لنظرية فوكو عن السلطة، ألا وهو ذلك النقد الذي ساقه لها تشومسكي على أحسن ماتكون البراعة. ويبدو، لسوء الحظ، أن معظم القراء الجدد لفوكو في الولايات المتحدة، لايعرفون شيئاً عن المناظرة التي جرت بينهما قبل عدة سنوات خلت على التلفزيون الهولندي (30)، ولا عن المقالة النقدية البليغة لتشومسكي عن فوكو الموجودة في كتاب "اللغة والمسؤولية". فلقد وافق كلا الرجلين على ضرورة مقاومة القمع -وهو الموقف الذي صار فوكو يجد مزيداً من المشقة منذ ذلك التاريخ في تبنيه بشكل لا لبس فيه. وأما بالنسبة لتشومسكي فقد كان يرى أن المعركة السياسية السوسيولوجية يجب أن يخوضها المرء وفي ذهنه مهمتان: أولاهما "تخيل مجتمع مستقبلي يتطابق مع مقتضيات الطبيعة البشرية بالشكل الذي نفهم فيه تلك المقتضيات على أحسن مايكون، وثانيهما طبيعة السلطة والقمع في مجتمعاتنا الراهنة"(31). لقد وافق فوكو على الثانية دون أن يتقبل الأولى بشكل من الأشكال. فأية مجتعمات مستقبلية قد نتخيلها الآن ماهي إلا، كما كان يرى، "ابتكارات حضارتنا وثمرة نظامنا الطبقي". وإن تخيل مجتمع مستقبلي تسوده العدالة لن يكون محدوداً بوعي زائف وحسب، لابل وإن التخطيط له سيكون أيضاً طوباوياً جداً بالنسبة لأي إنسان كفوكو الذي يعتقد أن "فكرة العدالة بحد ذاتها لهي تلك الفكرة التي جرى تلفيقها بالنتيجة واستغلالها في مجتمعات مختلفة كأداة لسلطة اقتصادية وسياسية معينة أو كسلاح ضد تلك السلطة"(32). وماهذا الرأي إلا شاهد حي على إحجام فوكو عن التعامل الجاد مع أفكاره عن ضروب المقاومة ضد السلطة. فلئن كانت السلطة تقمع وتهيمن وتستغل، فإن أي شيء يقاومها ليس موازياً لها أخلاقياً، ليس حيادياً وليس بمنتهى البساطة سلاحاً ضد تلك السلطة. فالمقاومة لا يمكن أن تكون بديلاً مناوئاً للسلطة ولا أن يكون وجودها مشروطاً بوجود السلطة في آن واحد معاً، إلا بمعنى من أكثر المعاني المتيافيزيكية تفاهة. وحتى لو كان من العسير إجراء التمييز، فهنالك تمييز جدير إجراؤه- مثلما يفعل تشومسكي، مثلاً، حين يقول أنه على استعداد لتقديم ماندته لطبقة بروليتاريا مسحوقة إن هي وضعت نصب أعينها العدالة كهدف لنضالها.
إن التداول المزعج لنظرية فوكو عن السلطة لشكل من أشكال المغالاة في التلخيص النظري الذي تنطوي مقاومته ظاهرياً على مزيد من الصعوبة وذلك لأنه، على نقيض العديد من الأشكال الأخرى، موضع التصييغ، وموضع تكرار التصييغ والاقتباس لاستعماله فيما يبدو عليها بأنها حالات موثقة تاريخياً.
ولكن الجدير بالذكر أن التاريخ لدى فوكو ماهو، في خاتمة المطاف، إلا نصي، أو بالأحرى مصبوغ بصبغة نصية، علاوة على أن شكله هو ذلك الشكل الذي لو سئل بورجز عنه لانتسب إليه، في حين أن غرامشي لو سئل السؤال نفسه لقال بأنه واجد عدم التجانس فيه. ولو طولب غرامشي بإبداء الرأي في التنقيبات الأثرية لفوكو لأطرى دقتها بالتأكيد، ولأبدى استغرابه من أنها لاتتيح حتى مبرراً إسمياً للحركات الصاعدة، ولا أي مبرر للثورات أو الهيمنة المضادة أو الكتل التاريخية. ففي التاريخ البشري هنالك دائماً شيء ما خارج متناول الأنظمة السائدة مهما كان عمق استنفاع المجتمع بها، وهذا الشيء هو مايجعل التغيير أمراً ممكناً بمنتهى الوضوح، أي مايقيد السلطة بالمعنى الذي يقصده فوكو ويكبح جماح نظرية تلك السلطة. والمرء ليس بوسعه أن يتخيل فوكو مكابداً مشقة تحليل معزز لمسائل سياسية موضع نزاع شديد، ولا ملزماً نفسه، على غرار تشومسكي نفسه وغيره من الكتاب الآخرين كجون بيرغر، بتوصيفات للسلطة والقمع بشيء من النية لتخفيف المعاناة والآلام البشرية، وآمالها الخائبة.
إن أنواع النظريات التي كنت أبحثها يمكن أن تتحول بسهولة متناهية إلى عقيدة ثقافية، الأمر الذي يعني أن التوصل إليه قد يبدو بمثابة النتيجة المفاجئة. فما أن تقوم عملية تخصيصها للمدارس أو للمؤسسات حتى تحوز لها على جناح السرعة على منزلة السلطة ضمن الزمرة أو النقابة الثقافية، أو ضمن الأسرة الثقافية المتواشجة. وعلى الرغم من أن الواجب يقضي بتمييزها عن أشكال عقائد ثقافية أكثر فظاظة منها كالعرقية والقومية، فإنها ماكرة في كون مصدرها الأصلي -أي تاريخ منشئها المعارض والمناوئ- يجعل الوعي النقدي كليلاً بإقناعه أن تلك النظرية التي كانت ذات مرة متمردة لاتزال على تمردها وحيويتها وردها على التاريخ. فالنظرية، ما أن تستبقى بين أيدي اختصاصييها وكهانها، حتى تميل لإقامة الأسوار حول نفسها، إن جاز مثل هذا التعبير، غير أن هذا لايعني أن على النقاد إما أن يتجاهلوا النظرية وإما أن يفتشوا يائسين عن بدائل أجد. إن قياس المسافة بين النظرية بالأمس وفي هذا اليوم، وهنا وهناك، وتدوين الصدام الذي كانته النظرية مع ضروب المقاومة لها، والتحرك الشكاك في العالم السياسي الفسيح حيث يتوجب النظر إلى الآداب الإنسانية أو إلى الآداب الإغريقية والرومانية بأنها فروع صغيرة من المغامرة البشرية، وتعيين حدود المساحة التي تتغطى بكل تقنيات الانتشار والاتصال والتأويل، واستبقاء شيء ضئيل (ولربما متضائل) من الإيمان بجماعة بشرية معادية للقمع: فإذا لم تكن هذه الأشياء إلزامية، فإنها على الأقل تبدو بالفعل بدائل جذابة. وماهو الوعي النقدي في جذوره إن لم يكن ذلك النزوع والجموح للتفتيش عن البدائل؟

nnn



11- ريمون شواب ورومانسية الأفكار



على الرغم من أن ريمون شواب كان شاعراً وكاتب سيرة وأديباً وروائياً ومحرراً صحفياً ومترجماً وأستاذاً، فإنه مجهول (من قبل معظم الهيئات الأنكلو -أمريكية النموذجية المهتمة بالحركة الرومانسية، على سبيل المثال)، علاوة على أن لاعمل من أعماله حظي بالترجمة إلى الإنكليزية. فبالنسبة لإنسان ما كانت اهتماماته تعرف أية حدود وطنية كما كانت طاقاته مكرسة ذلك التكريس العميق لكل مايتخطى الحدود الوطنية، فإن هذا التجاهل مفعم بسخرية كئيبة. لقد ولد في نانسي في عام 1884 ومات في باريز في عام 1956. وإن الشيء القليل الذي اكتشف بسهولة عن حياته وشخصيته يأتي من ثلاثة أعداد من "Mercur de France"،= (رسول فرنسا) حيث ظهرت بعض أشعاره ومذكراته التي لم تكن قد وجدت طريقها إلى النشر حتى حينه، علاوة على الذكريات التي كتبها عنه أصدقاؤه(1). ويبدو عليه أنه كان ذلك الإنسان المتواضع بعض الشيء والهادئ الذي قضى معظم حياته في خدمة الأدب. ولبضع سنين (1936-1940) أصدر بالتعاون مع غي لافود مجلة مكرسة للشعر بعنوان "Yggdrasill"(*) حيث كان من الملفت للنظر فيها شمولية اهتماماتها وانفتاحها على تيارات في الشعر غير التيارات الأوربية والعصرية. إن شواب يخلف وراءه الانطباع بأنه رجل مرهف الحس والذوق وذو تأمل عميق بطبعه وانطوائي بعاداته، وذو نوع من الإحساس الديني العنيف، ولو أنه خامد، إلى الحد الذي يدفعه لترجمة "المزامير" أو كتابة ملحمة شعرية عن "نمرود" دون أن يكون ملتزماً بالضرورة بأي دين منظم.
إن شواب يماثل خورخس(**) في وجوه عديدة، هذا إن لم يكن أيضاً شخصية من شخصيات قصصه القصيرة المجموعة تحت عنوان "Ficciones"+ . فحين كان يتعاطى الأدب كان ينتج كتباً عن شخصيات مغمورة إلى حد ما من مثل ألامير بورج، وحين طلب منه أن يكتب مقدمة لترجمة فرنسية لحكايات "ألف ليلة وليلة" كتب بدلاً عن ذلك عملاً من ثلاثمائة صفحة عن أنطوان غالاند، الذي كان تلك الشخصية التي عاشت في أواخر القرن السابع عشر، والذي كان أول مترجم فرنسي "لألف ليلة وليلة". ويحكى لنا عن اهتمام خورخس بشخصيات شاذة كجون ويلكينز وج.ك. تشسترتون، اللذين أفادا من الاهتمام الجاد المفاجئ، إلى حد ما، المعروض في دراسته عنهما، وذلك لأن الكتب المجهولة والكتاب المغمورين لايستقطبون في العادة مثل هذا النوع من الاهتمام. إن كلاً من شواب وخورخس يتكشفان عن تكتم شخصي جوهري مقرون بفكرة تقريباً من أفكار مالارميه عن الكتاب المقدس -البحث عنه، عن حياته، كياسة وهدوء البطولة الموجودة فيه بصرف النظر عن الجهود المبذولة لصالحه إلى حد لايخطر على بال. وإن المرء ليخالجه الإحساس في شواب، وفي خورخس، بالطبع، بأنه يجسد مكتبة إنسانية عرضة للاكتشاف رويداً رويداً، للسير فيها ولوصفها، غير أن القيمة لاتأتيها من آدابها الكلاسيكية العريضة بمقدار ماتأتيها من شواذها المستغرب.
إن التفاصيل اللامتناهية هي مايسم أهم أعمال الاستبحار لشواب حيث يمثل كتاب "الانبعاث الشرقي" أهم المنجزات(2). فالموضوع الكامن في هذا العمل هو الخبرة الأوربية للشرق، ألا وهي تلك الخبرة التي تعتمد بدورها على الحاجة البشرية لاستيعاب "الغريب والمغاير". وللوصف الذي يصف فيه شواب هذه الخبرة يضيف موهبة نادرة للتعامل مع تفاصيل شديدة التمركز ومجموعة بمنتهى الصبر والأناة. فالشرق، في رأي شواب، مهما قد تبدو درجة شذوذه "outré"، مكمل لنصف المعمورة الغربي، والعكس بالعكس.
وإن المشهد، كما عبر عنه أحد المعجبين بشواب، لمشهد إنسانية متكاملة(3). وأما شكله -أي العبارة الاصطلاحية اللفظية علاوة على زاوية رؤياه -فشكل جليل وعسير في آن واحد معاً، وذلك لأن شواب يحاول دائماً أن يصف ظاهرة ما بالشكل الذي هي عليه بحد ذاتها وكشيء كان له أثره على حيوات عديدة على مدى ردح طويل من الزمن. إنه أهل لبذل ذلك الجهد المضني اللازم لتوثيق التبادلات الثقافية بين المشرق والغرب الأوربي. ولكن بمقدوره أيضاً أن يخلق بعض الزوايا الخلابة، المحجوبة عن الإطار العريض لموضوعه الكبير، التي تظهر فيها من حين إلى حين فراغات جديدة أساسية.
فمثالان كافيان هنا. فأولاً: في الوصف الذي يصف فيه شواب سلسلة الأحداث المعقدة التي تسبق مغادرة غالاند باريز إلى تركيا، لايعدم الوسيلة أيضاً للكشف عن الكيفية التي كانت فيها هذه الأحداث موضع تلميح موليير في مسرحية "البورجوازي اللطيف"(4). وبعدئذ في كتاب "الانبعاث الشرقي" يبين شواب لا ذلك التكافل العجيب بين العلوم البيولوجية وبين علم اللغة الأوربي الهندي وحسب، بل وتفاعل هذه القوى في عمل كوفييه، علاوة على الأثر الاجتماعي الذي خلفه ذلك التكافل في الصالونات الباريزية في تلك الآونة. فسواء أكان الأمر يتعلق بحفنة من العبارات الشفافة ظاهرياً المنطوقة بلسان م.جوردين أوبلسان كوفييه في الصالونات التي كان يرتادها بلزاك، فإن شواب يفتح مغاليق سلسلة رائعة من التلميحات مبرهناً بذلك، مثلاً، أن تجاذب أطراف الحديث بين محدثي النعمة كان يخفي بعض الإشارات عن نشوب أزمة في العلاقات بين لويس الرابع عشر وبين البلاط التركي، أو أن فهم بلزاك للمنجزات التي جاء بها كوفييه كان مظهراً من مظاهر الانتشار الثقافي المقصور على باريز في عشرينات ذلك القرن(1820).
فالتفاصيل في أمثال هذه الشواهد هي تفاصيل التأثير -أي كيفية تأثير كاتب بأم عينه أو حدث على آخر. ولكن شواب، على غرار إرخ أورباخ، شحيح في إعطاء التفسير النظري عما يفعل، علاوة على أنه قنوع، على غرار إرخ أورباخ أيضاً في بحثه في كتاب "المحاكاة" (Mimesis) الفكرة الكلاسيكية عن الأسلوبين الأدبيين الرفيع منهما والمبتذل، باعتماد موضوع صريح صراح تقريباً، أي تأثير الشرق في الغرب، والسماح لبصمات ذلك الموضوع بالظهور في أمكنة لاعد لها ولاحصر في كتلة هائلة من الأدب اللاحق. وبالفعل فإن التماثل مع إرخ أورباخ لابل وحتى ذلك التماثل الأكثر سحراً وأسراً مع أيرسنت روبرت كورتيوس يفرضان الانكفاء داخل الوطن على المعرفة الفيلولوجية لدى شواب، ولاسيما على قدرتها على الكيفية التي تتمكن بها وحدات ضخمة (أي السطوة الثقافية اللاتينية، الشرق) من أن توحي وتعيش وتتخذ شكل كتلة نصية في عصور وثقافات تالية. إن شواب مهووس إلى حد كبير جداً، على غرار أورباخ وكورتيوس وخورخس، بصورة النص كمكان للجهد البشري، كخصوبة نصية "****-ile* محشودة في هوية ثقافية تنشر الحياة البشرية أينما كان في الزمان والمكان كنتيجة. فأهمية الانبعاث الشرقي (وهو التعبير المأخوذ من العمل المهمل الذي أصدره صدره إدغار كوينت عام 1832 بعنوان "جنّي الأديان") بالنسبة لشواب تكمن في أن هذا الانبعاث الثاني عرض العالم كله أمام الإنسان الأوربي، في حين أن الانبعاث الأوربي حبسه ضمن حدود حيز لاتيني/ إغريقي مكتف بذاته. إن هذا الانبعاث الثاني، كما يسميه شواب في إحدى التعميمات المتراصة التي يفيض بها عمله، جمع الهند والعصور الوسطى وأزاح بذلك عصري أوغطس ولويس الرابع عشر فبمهمة الإزاحة توزعت بالتساوي على العواصم الكبرى: فكالكوتا زودت ولندن وزعت وباريز نقحت وعممت.
إن نظرة شواب للشرق نظرة فياضة بالعمق والفائدة حتى لبوسع المرء أن يكون بلاشك على مزيد من الدقة إن وصفه بأنه شرقي أكثر مما هو مستشرق، فضلاً عن أنه إنسان أكثر اهتماماً بالإدراك الواسع منه بالتصنيف النزيه(5). وبمقدار مايمكن أن يقال عن إدراك الأوربي للشرق كان له تأثير، فإن شواب يعتقد بأنه كان تأثيراً منتجاً، وذلك لأن التأثيرات الشرقية يمكن العثور عليها أينما كان في الثقافة الرومانسية وفي الثقافة السابقة للرومانسية أيضاً. ولكن على الرغم من ذلك فإن باحثين حديثين اثنين للفترة الرومانسية، هما هارولد بلوم و و.ج. بيت، جاءا بفرضية مناقضة مفادها أن التأثير كله عاد بالقلق وإحساس بالدونية والتخلف على كتاب العصر فمن كانت الأصالة غير المتأثرة بشيء بالنسبة لهم هي الهدف الأسمى (والأقل احتمالاً). ولكن شواب يتخذ لنفسه الموقف الذي مفادها أن الحركة الرومانسية هللت للشرق كتأثير فيه النفع للشعر والنثر والعلم والفلسفة. فهنا يساهم عمل شواب تواً مساهمة دراسية ونظرية جلى: التأثير في الأدب الرومانسي باعتباره عامل إغناء وديمومة مفيدة أكثر مما هو عامل توهين وحضور مقلق. فالتفصيل هو من جديد ذلك الشيء الذي يراه شواب ويورد فيضاً منه لتعزيز التعميم. والشيء الذي يقوله على مايبدو هو أن عملاً بهذا الحجم الكبير جداً -الذي يؤرخه زمنياً بدقة متناهية تدوّخ القارئ- إذا دأب على اكتشاف الشرق بشكل إرادي وواع، يجب علينا وقتئذ أن نعتبر التأثير بأنه يزودنا، في خاتمة المطاف، بشيء لولا ذلك لكان الشعور حياله بأنه غياب مربك. والشيء الذي ينجم ماهو بالنزاع العنيف بين الكتاب حول الزمان والمكان المرسومين تخطيطاً من قبل بلوم بمثل ذلك الإلحاح، بل توفيق لاحدود له مماثل للتوفيق الذي يراه شواب في الفطرة الآسيوية، ألا وهو ذلك التوفيق الذي لايغاير فيما بين البدعة والوافد الجديد بل يرى بدلاً من ذلك أن الزمن كله ملك الشاعر: "إنه يكرر نفس النماذج المتشابكة إلى مالانهاية، لالتوفير الوقت، بل لأن بحوزته تحديداً، على النقيض من ذلك، ردحاً طويلاً من الزمن تحت تصرفه بحيث أن استنفاده له في الإتيان بتفاصيل صغيرة عابرة بالضرورة أمر لاينطوي على أية مخاطر.
وهكذا فإن نقد شواب نقد مطبوع بطابع المشاركة الوجدانية. فالثنائيات والتعارضات والاستقطابات -كما بين الشرق والغرب، وبين كاتب وأخر وزمن وأخر- تتحول في كتابته إلى خطوط متصالبة ومتقاطعة، وهذا صحيح بيد أنها ترسم في الوقت نفسه صورة إنسانية هائلة. فقبل عام واحد من وفاته كانت تراوده فكرة مؤداها أن الحاجة تفضي بوجود "تاريخ عن الشعر العالمي"، ولكن من المؤسف أنه لم يكتبه، إذ كان يحاول أن يتنبأ بصورة عن الأدب كخطوة في ذلك الاتجاه(7). إن الصورة البشرية كانت دائماً تطغى على نقد شواب، ولكن مايثير اهتمامنا بها هو أن مثل هذه الصورة، حين ندركها، من منجزات الكاتب وماهي بمثابة الهبة إليه بتاتاً. فهنالك تفاصيل الجهد البشري، ومن ثم تنظيمها، وبعدئذ تصويرها كلها في نهاية الأمر. إن نقد شواب، في محاولته تخصيص موضوع دراسته واستنساخه، لقد على أوثق ارتباط بنقد كل من جورج باولي وآلبرت بيغوين وآلبرت ثيبوديه وجين ستاروبينسكي، وبنقد آخرين من أمثالهم، ممن خيالهم الصابر الدؤوب يهيمن على عمل جمع الحقائق المضني. فشواب، على نقيضهم كلهم (باستثناء ستاروبينسكي على الأرجح في "ابتكار الحرية")، يسير دائماً على هدى الأحداث واللحظات التاريخية المتميزة والتحركات الكبرى التي تتحركها الأفكار. إن الوعي، بالنسبة إليه، مسألة ثقافية مثقلة بالخبرة التجريبية في هذه الحياة الدنيا ومنها. ولئن كان يصف نشوء علم اللغة استناداً إلى المكتشفات العديدة التي جاءت من لغة الزند آمنيستا أوالسنسكيريتية أو إحدى اللغات السامية أو الأوربية /الهندية، أو كان يصف ذلك الانحباك الغني الخرافي الذي تنحبكه الموضوعات الشرقية في الكتابة الإنكليزية والفرنسية والألمانية والأمريكية، أو كان يصف حتى المعطيات الدقيقة المرتبطة بالنشاط الفني أوالعلمي في غضون تلك السنوات بين عام 1771 وبين عام 1860 على وجه التقريب، فإن عمله دائماً بمثابة الكنز الحقيقي للتبصر والمعرفة. وقبل كل هذا وذاك فعمله يعمق إطراءنا لذلك النوع النادر ندرة بالغة وخاصة من الدراسة المتأنية التي قلما يخطر فحص دورها على بال واحد من منظري النقد أو الأدب، كما أشعر.
إن شواب، بصرف النظر عن ظواهر الأمور، ليس بتين "Taine" أو لانسون. فالنقد التاريخي ليس علماً بالنسبة إليه، على الرغم من أن الوقائع التاريخية جديرة بالاحترام طبعاً. ولكن تاريخ الإنسان ينال حوافزه من الرغبة بنشدان الحقيقة، لا من توطيد أركانها بمنتهى البساطة، فالتاريخ "يعلمنا أن توطيد أركان الحقيقة أقل أهمية من جعل حقيقة معينة أمراً مرغوباً. ومن هو ذلك المبتكر العظيم الذي وجد في الدنيا كلها حقيقة جديدة من دون أن يكون قد فتش عنها قبلاً في المكان المغلوط؟"(8). فلقد كتب شواب هذا الشيء عن أوائل المستشرقين، بيد انه ينطبق على عمله أيضاً. إن عجائب الأمور الثقافية التي كانت تنكب عليها كل دراسته تتمثل بالصراع بين زمرة الحقائق (لا الوقائع) التي هي موضع الاكتساب وزمرة الحقائق التي هي موضع الشعور، بالشكل الذي يحدث فيه في صميم ثقافة ما وفيما بين ثقافتين في آن واحد معاً. فشواب، الذي كان يجد له مايعززه في خلفيته، يرى أن المركب المسيحي/اليهودي في الثقافة الغربية كان مضطر للإذعان لاكتشاف حضارة أقدم منه، الأمر الذي جعل علم اللغة الأوربي/ الهندي ينافس أولوية المجتمع العبري في العقل الأوربي. وهكذا فإن ذلك العقل يستوعب لاحقاً ذلك الاكتشاف ليجعل من العالم وحدة تامة مرة أخرى. ولكن المأساة المزعجة التي عاشها الاستشراق، كما يعبر عنها شواب في الصفحات الثلاثين الأول من كتاب "الانبعاث الشرقي". تكمن في المناقشة التي استهلها الكتاب عن معنى "البدائي"، أي كيف أن عالمين مختلفين يبدوان للناظر كأنهما يطالبان بحقهما في الأصالة والعبقرية، وكيف أن فكرتين عن الحضارة والهمجية، وعن البداية والنهاية، وعن الأنطولوجيا والغائية، تعانيان من تحول صارخ في السنين الواقعة بين عام 1770 وعام 1850: وتحديداً في ذلك الزمان الذي قامت فيه رغبة عارمة للاختلاف وانتشرت في طول أوربا وعرضها واتخذت شكل الأزمة الوحيدة الناجمة عن موجة الثورات السياسية، طغت على سطح الأحداث تلك الجوانب الاستشراقية التي لاتعد ولاتحصى(31)". فمهمته إذاً هي دراسة التطور الذي أدى إلى تبديل صورة الغرب عن الشرق من صورة بدائية إلى فعلية، أي من انبهار ش**** إلى توقير لامثيل له. إن من الواضح أن هنالك توهيناً محزناً من صورة إلى أخرى. ومع ذلك فإن التصوير تصوير حصيف وتعديلي جداً كما أن نطاقه نطاق موسوعي جداً إلى ذلك الحد الذي يجعلنا نشعر أن التوهين قانون من قوانين التغيير الثقافي أكثر مما هو فكرة عاطفية. فالشرق يتحول من مكتبة... خاصة بالأقسام الدراسية (30) ويصبح قطاعاً أيديولوجيا أو دراسياً: فالإلهامات تفضي إلى الاختصاص(131). فقبل عام 1800 كانت أوربا تعيش عالم التصنيف الطبقي "le monde du classé" حيث كان هوميروس يمثل فيه نموذج الكمال التقليدي الأول والأخير، ولكن بعد عام 1800 يتطفل "المنشق" على ذلك العالم. فإلى جهنم وبئس المصير بالاعتماد على الخرافات والموروثات والكلاسيكيات. وبدلاً من ذلك ثمة نصوص ومصادر، وعلوم قائمة على عمل مضن ومجهد وعسير، طفقت تفرض حقيقة جديدة وغريبة على العقل. وهكذا فإن الشغل الشاغل لشواب صار ينصب على كيفية حدوث هذا الأمر وعلى السرعة العجيبة التي تسلم نفسها فيها حتى الغرابة للتحول إلى معتقد رصين.
ثمة سمة خاصة تطبع دراسة شواب هي أنه لايولي اهتماماً واضحاً لمجرد الحماقة والفوضى اللتين يثيرهما الشرق في أوربا. وما ذلك إلا لأن الانبعاث الشرقي، كموضوع، لا يشكل تياراً في الخيال الرومانسي أقل شذوذاً من تلك التيارات التي يوثقها ماريو براز، مع الإشارة إلى أن شواب ليس أقل كفاءة من براز للتعليق عليها. بيد أنه لايقدم على ذلك، حتى وهو يدون بالتفاصيل -مثلاً؛ جنون حياة آنكوتيل دوبرون الذي على الرغم من تجشمه مشاق سفر فعلي مستحيل وعبوره أدغالاً فياضة بالأبخرة، لم يحظ بشرف الإقرار به كباحث إلا في أواخر سنوات حياته، فهضم المتبحرين حقوقهم "des érudits abnégatoin" ليس مفيداً جزئياً إلا كتعليل لرجال من هذا القبيل. وإن ما رأوه وشعروا به حيال الشرق في حالات عديدة استحوذ على عقولهم عملياً، ولكن شواب منهمك أكثر مما ينبغي بتبيين التناسق الإنساني فيما بين هذا الانبعاث والانبعاث السابق لكي يهجس بتلك الحماسات المجنونة التي كان بمقدورها إنتاج بيكفورد أو آنكوتيل أو رينان أو روكرت. وعلى النقيض من ذلك فإن نظرة شواب إلى الانبعاث الشرقي تتفادى، في الوقت الذي تتجنب فيه المظاهر المربكة للخبرة الأوربية في الشرق، الميول الفطرية الرومانسية الكبيرة الأخرى نحو الطبيعية، أي الوعي المشحوذ الرهيب بخصوص الثقافة الشعبية.
إن كتاب "الانبعاث الشرقي" يمثل في الحقيقة ذروة الحياة المسلكية الدراسية لشواب، على الرغم من أنه يحتل زمنياً مركز الصدارة تقريباً فيها. فكما أن موضوعه يعد العدة لتقبل الغرب الشرق والمجابهة معه ومن ثم استيعابه، فإن هذه الأمور كانت هي الأشياء التي أوحى بها عمل شواب الأسبق كما كانت أيضاً في الوقت نفسه من الأمور المفروغة في عمله اللاحق. ولسوف أتحدث هنا بإيجاز عن حلقة من الكتب والكتيبات التاريخية والدراسية التي تتحلق حول كتاب "الانبعاث الشرقي"، ألا وهي تلك الحلقة التي تستثني الكتلة الأساسية من أشعاره وقصصه وترجماته. إن التناوب الذي يتناوبه شواب بين الأمانة لموضوعه أمانة وراثية أو سلالية، وبين مطامحه البنيوية الشاملة لتبيين التنبؤ والاستتار والانكسار والاستبدال على الرغم من مسيرة التاريخ المستقيمة -ماهو بوجيز العبارة إلا التناوب في منهجه بين القربى والتقرب كأسلوبين من أساليب فهم التاريخ ومواكبته.
وأول كتاب من كتب شواب كان "حياة آنكوتيل دوبرون" (1934)، أي سيرة حياة ذلك الدارس الفرنسي، والمنظّر لفلسفة المساواة، وداعي الدعاة لتوحيد العقائد (الجانسينية والكاثوليكية والبراهمية) الذي بين عامي 1759 و 1961 نسخ "الزند آفيستا" وترجمه لاحقاً وقتما كان في منطقة سيورات الهندية. إن هذا الحدث بالنسبة لشواب يتنبأ بفيض من الوثائق المترجمة التي ستظهر في الغرب لاحقاً خلال الانبعاث الشرقي. وعلاوة على التحليل الاعتباطي لحماقات وحماسات آنكوتيل الغريبة نجد في الكتاب بشائر معظم الموضوعات التي كان يعتزم شواب معالجتها لاحقاً. والأول بين تلك الموضوعات هو موضوع نكران الذات لدى المتبحرين "selflessness= abnégation des érudits" إبان لهاثهم خلف مخطوطة ما، أي مطلق الالتزام بقضية التعلم: "إن ماكنا نراه نكبات كان في نظره فرصة إضافية أخرى لتعلم شيء ما"(9). وأما الموضوع الثاني فهو التولع الذي يتولعه شواب بالإدلاء بالتفاصيل، كما حين يصف الظروف الحقيقية للحياة على ظهر السفن في القرن الثامن عشر أوحين يؤرخ زمنياً علاقات آنكوتيل مع كل من غريم ودريدرو ووليام جيمز وهيردر. والموضوع الثالث هو اهتمام شواب بالخلاف في العقل الأوربي بين الأسبقية الشرقية وبين "التاريخ" التوراتي. ومن الجدير بالذكر أن كلاً من آنكوتيل وفولتير كان مهتماً بالهند وبالكتاب المقدس، بيد "أن هم الأول كان جعل الكتاب المقدس أكثر بعداً عن التفنيد، في حين أن هم الثاني كان جعله أكثر بعداً عن التصديق"(10). إن تلك الموهبة المحكمة لدى شواب سوف تتعزز في عمله اللاحق بفقرات ذات جمال شعري فائق.
ولكن الموضوع الذي انكب عليه خيال شواب أكثر من كل الموضوعات الأخرى هو حياة الصور والأشكال في الوعي البشري، أي وضعها دائماً وجودياً في سياق تاريخي محدد وعدم تركها البتة تطفو هنا وهناك كما تشاء. فالتاريخ الثقافي ماهو إلا بمثابة سلسلة من الأحداث الوجدانية لأن الأفكار التي تستمد وجودها من صور ذات طراز بدئي تدفع الناس، من الناحية الأولى، للنضال دفاعاً عنها وتغرس في أذهان الناس، من الناحية الثانية، نوعاً من السلبية اللعوب أو حتى من، كما هو عليه واقع الحال في حالة آنكوتيل، الميل الفطري المضطرب: نحو الأفكار أو المعتقدات بصرف النظر عن التناقض الذي هي عليه. إن الصور أمور تاريخية، مصنّعات شبه طبيعية ناجمة عن تفاعلنا كلنا أجمعين "nous, à tous". وعلاوة على ذلك فهي محددة العدد، فالخيال نفعي جداً ومداها قوي جداً: الشرق، الغرب، الجماعة، الأصل، المقدس. زد على أن تلك الصور تشكل فيما بينها مستنبتاً يولد قصة ومغامرة ثقافيتين للتعبير عنها كأفكار متصارعة فيما بينها أو منسجمة بعضها مع بعض. وعلى الرغم من أن الصورة والفكرة تتحركان بمنتهى الحرية على مايبدو، فإنهما أولاً من إنتاج البشر والنصوص التي يكتبها البشر، ومن ثم تصبحان النقطتين المحوريتين للمؤسسات والمجتمعات والعصور والثقافات. وبما أن الصور هي الثوابت في الخبرة البشرية، فإن الأفكار التي تحظى بمشروعيتها منها تتخذ لها أشكالاً مختلفة وقيماً متفاوتة. فها هنا في فقرة من كتاب "حياة..." يبين شواب ذلك التفاعل الذي سيهيمن على كتابته: "إنه يذهب إلى آسيا ليعثر على برهان علمي عن أولوية (الشعب المختار) وعن سلالات الكتاب المقدس. ولكن سرعان ما أفضت استقصاءاته، عوضاً عن ذلك، إلى انتقاد نفس تلك النصوص التي ظلت حتى حينه محط الاعتبار أنها من وحي الله، ألا وهي تلك السيرورة التي كان "علم تاريخ الآشوريين" سيبرهن لاحقاً على تعذر الإتيان بنقيض ذلك"(11).
إن هذه الأفكار المرتبطة بالضرورة لها بعد مادي بحيث أنه ينقل لا التناوب بين المحدود واللامحدود في الثقافة وحسب (كما حين يتحدث شواب عن الاستشراق في المرحلة السابقة لمرحلة آنكوتيل قائلاً: "تنبثق الرغبة في الأشياء الجليبة من طرافتها")(20) بل وينقل أيضاً تحولات أفكار المسافة والزمان والعلاقة والذاكرة والمجتمع واللغة والجهد الفردي.
في عام 1759 ينهي آنكوتيل ترجمة كتاب آفيستا في سيورات، وفي عام 1786 ينهي ترجمة كتب الأوبائيشاد في باريز- لقد حفر قناة فيما بين عالمي العبقرية البشرية، مطلقاً بذلك العقال للنزعة الإنسانية لدى حوض
البحر الأبيض المتوسط. وقبل ذلك بخمسين سنة تقريباً كان مواطنوه يتساءلون كيف بمقدور أي امرئ أن يكون فارسياً، في الوقت الذي كان يعلمهم فيه أن
يقارنوا بين مآثر الفرس ومآثر الإغريق. فقبله كان المرء يفتش عن المعلومة عن الماضي البعيد لكوكبنا حصراً بين أكابر الكتاب اللاتينيين والإغريقيين واليهود والعرب. لقد كانت النظرة إلى الكتاب المقدس بأنه الصخرة الوحيدة، النيزك السماوي. ولكن كونا صار متاحاً في الكتابة إلى الحد الذي ندر فيه أن يشك امرؤ في شسوع هذه الأراضي غير المعروفة. فلقد نشأ التيقن من ذلك من ترجمته لكتاب الآفيستا، وبلغ أوج ذراه نظراً لاكتشاف اللغات التي تكاثرت في أعقاب بابل إذ كان ذلك الاكتشاف في آسيا الوسطى. ففي مدارسنا، التي كانت مقصورة حتى ذلك الوقت على الإرث اللاتيني/الإغريقي الذي جاء به الانبعاث الحضاري الأول، أقحم ملامح حضارات لاتحصى في غابر الأزمان، وملامح سلسلة لانهاية لها من الآداب، وفضلاً عن ذلك صار من المعروف أن بلداننا الأوربية القليلة ماهي بالأمكنة الوحيدة التي تركت بصمتها على التاريخ، "وأن الاتجاه الصحيح للكون لم يعد متمركزاً بين شمال إسبانيا وشمال الدانيمارك من ناحية وبن انكلترا والحدود الغربية لتركيا من ناحية أخرى"(13).
إن تصوير شواب لآنكوتيل يشتط كثيراً في محاولته تبديد الغموض الذي يخفي دائماً بدايات الاكتشافات"(14). ففي خاتمة المطاف يحدد شواب مكان البداية في تبديل التركيز الناجم عن جزيء غامض من كتاب "الزند" الذي يظهر في أوكسفورد، في الوقت الذي كان فيه الدارسون ينظرون إلى هذا الجزيء الهام ليعودوا من ثم إلى دراساتهم، بينما آنكوتيل نظر مثلهم ومضى إلى الهند"(15).
فعلى الرغم من أن شواب كان سيعبر لاحقاً عن بعض الشكوك في طريقة الغرب في تناول السيرة تناولاً مصبوغاً بصبغة عبادة الأصنام، فإن عمله التالي، "حياة الأمير بورج"، محكوم بإطار عمل يتناول الحياة والأعمال. لقد امتدت حياة بورج من عام 1852 إلى عام 1925، ومع أنه كان موضع إعجاب عدد من الكتاب -من بينهم كان إدمون جلو وهنري دي رونييه- فيلسوف يبقى على الأرجح كاتباً مغموراً وضئيل الشأن (16). إن كتاب شواب عن بورج لأقل كتبه شهرة، وإن المرء ليتعجب من السبب الذي جعله -علاوة على العلاقات الشخصية البسيطة المشار إليها بين بورج وشواب- يضطلع بعبء هذه المهمة الشاقة والخاصة كي تكون أطروحته التكميلية في السوربون. وبين الحين والحين نلتقط بعض التلميحات عن شواب الحقيقي، ولاسيما في تحليلاته لاصطفائية بورج، وأيضاً في قدرته على إحياء المشاعر الروحية في حياة، لولا ذلك، لبقيت حياة عرضية. وفي هذا السياق علينا ألا نتغاضى عن الحقيقة التي مفادها أن شواب كان في مطلع سنواته الستين حين تقدم رسمياً للحصول على شهادة الدكتوراه، إذ إنه حوّل نفسه، كأحد موضوعات دراساته، من رجل أدب إلى دارس أكاديمي. فتعرجات عمل شواب- ذلك الفيض المتوسع الجذاب الذي حدث في صميمه نفس تغيير الأفكار الذي كان خبيراً جداً بوصفه- هي ما أتاح له الحد الأعظم من التحول الذاتي بالحد الأعظم من التماسك المنطقي والوضوح. ولذلك من العسير أن يصدق المرء أن عمق الانكفاء الداخلي في حياة بورج ليس هو العمق نفسه فعلاً في حياة شواب، مطروحاً من قبل شواب كشيء يخص بورج بتلك الأمانة التي تقتضيها الزمالة.
فالتغاير مع كتاب "الانبعاث الشرقي"، الذي كان سيجيء بعد عامين في عام 1950، واضح لتوه. إن عنوانه الفرعي المفصل يدل على أنه شيء يماثل الموسوعة، إن لم يكن يماثل برنامجاً لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب الشرقية الغربية (وعرضاً كان ذلك الكتاب أطروحة رئيسية لنوال شواب الدكتوراه) في: "الاكتشافات السنسكريتية- عصر الكتابات المحلولة الطلاسم- ظهور الإنسانية المتكاملة- أكابر الشخصيات الشرقية- فلسفة الأديان والتاريخ- العلوم اللغوية والبيولوجية- فرضيات الآرية- الهند في الآداب الغربية- آسيا والرومانسية- الهندوسية والمسيحية". فهذا العمل بدوره تلاه عملان آخران كلاهما كانا محصلتين منطقتين. الأول منهما، وقد كان عبارة عن مائتي صفحة حول "مجمّع تاريخ الآداب" وبعنوان "الميدان الشرقي" ويحمل تواضعاً عنواناً فرعياً هو "الرواق الشرقي". فلقد حول شواب اهتمامه هنا لكل تلك المادة التي كان قد دون آثارها من قبل بمنتهى الاجتهاد والكد. والأمر بدا وكأن مالارميه قرر في خاتمة المطاف أن يكتب حول ذلك الموضوع الذي كان يؤرقه فيما مضى (وذلك طبعاً لأن كتاب "الانبعاث الشرقي" عبارة عن عمل دراسي مكتوب من منطلق رمزي). وبعدئذ صدر بعد مماته، في عام 1964، كتاب "حياة أنطوان غالاند". وعلى الرغم من أن هذا الكتاب كان أقل تشويقاً من كتاب "حياة آنكوتيل دوبرون"، فإنه أكمل العمل السابق واختتم الحياة المسلكية لشواب في الوقت نفسه أيضاً، نظراً لمعالجة الظاهرة السابقة للاستشراق كأسلوب وأدب في تلك اللحظة التي سبقت استسلام الشرق للعلم الغربي)(17).
ثمة سمة رئيسية لكل العمل الناضج لشواب هي اهتمامه بما يدعوه بالثانويين "le secondaire"، بالشخصيات الصغيرة -كالمترجمين والوراقين والدارسين ممن يفضي جهدهم الجهيد لإتاحة الفرص لظهور الأعمال القيمة لغوته وهوغو وشوبنهاور وأمثالهم. وهكذا فإن الانبعاث الثقافي العظيم الذي نعته شواب "بالشرقي" كان موضع استهلال الترجمات التي أنجزها رجلان منسيان عملياً هما آنكوتيل وغالاند -إذ واحد منهما شق الطريق أمام الثورة العلمية واللغوية في أوربا، والثاني استهل الأسلوب الأدبي الغريب المقرون في أوربا بالاستشراق(18). فالشيء الذي يفتن شواب في أمثال هذين الرجلين هو، بمنتهى الوضوح، أنهما لايتمتعان بأية سمة من السمات التي تدفع أكابر الشخصيات الأدبية أو الثقافية، ولا بأي شكل يسير التمييز لحياتهما المسلكية، ولا بأي دور جدير بالإطراء الكامل في التحركات الكبيرة التي تتحركها الأفكار التي يعملان على خدمتها. إنهما يشبهان على الأرجح النتف الصغيرة التي تساهم، كما قال شواب ذات مرة، في مخطوطة خيالية من تلك المخطوطات التي يذعنان لمشيئتها(19) والتي تشبه كليتها جمعاء ماكان سيدعوه فوكو، لو سئل، بأرشيف عصر معين. وعلاوة على ذلك فنكرانهما الذات يفرض نوعاً من رد الفعل المعكوس في نفس الدارس المعاصر الذي لن يتيح لتواضعهما الاختفاء خلف أكابر الأعمال أو الشخصيات التي ساهما بظهورها بكل ذلك الوضوح. فإحدى المحاولات الناجحة التي حاولها شواب لإحياء الإنصاف تحدث حين يبين كيف أن أسلوب غالاند، أكثر من كونه نسخاً مباشراً لأصل عربي، يخلق بالفعل ذلك المناخ الذي تصاغ في صميمه مآثر الرواية الرومانسية المعنونة بـ "أميرة دي كليفز"* .
هنالك مظهر آخر لاهتمام شواب بالشخصيات الثانوية: ألا وهو إطراؤه، الواضح في طول وعرض "الميدان الشرقي"، لغفلية الأدب الآسيوي والإهمال النسبي للفردية الذاتية القوية التي يتكشف عنها. فما مقدار نشوء هذا الإطراء من انطباعات شواب عن الأدب الذي يبحثه ومامقدار كونه عاملاً حقيقياً فيه (إذ إن المرء ليصاب بخيبة الأمل لدى اكتشافه أن شواب لايعرف الأدب الشرقي إلا بالأساس من خلال الترجمة)، أمران ليس بوسعي تقديرهما. ومع ذلك يخالجني الشك في أنه بعد أن تقدمت به السنون كان يفتش عن وسائل أخرى -وكان يجدها بطريقته الخاصة- لنقل التاريخ الثقافي، أي لنقل وحدات جديدة يجدّ في طلبها الدارس الأصيل النيّق، ألا وهي تلك التعميمات الأكثر فاعلية. إن عمله ليستهل تلك العملية التي كانت ستقلص الفجوة بين المؤرخين الموسوعيين -شكلانيين كلهم على بكرة أبيهم- من أمثال إيلي فور وهنري فوسيون وأندريه مارلو، وبين ماكان على يسارهم من مادية التحريات الأثرية لفوكو، تلك المادية المنهجية والفعلية والمؤسساتية. وهنالك بالطبع مغزى سياسي لهذا النوع من العمل، على الرغم من أن شواب نفسه قلما يفصح عن ذلك. فسابقاً في "الميدان الشرقي" يقول بالفعل أن أوربا، أو الثقافة الغربية، يجب تذكيرها بأنها ومنجزاتها وأبطالها ماهم، في خاتمة المطاف، إلا مجرد حالة خاصة في العمومية السامية للثقافة البشرية ككل(20).
إن تجنب المواقف العرقية المتمركزة، في الوقت نفسه، حول اعتبار الإنسان محور الوجود، يملي وجوب الاهتمام بالأدب الشرقي كرمى لذاته ليس إلا. وما "الميدان الشرقي"، ضمن الحدود المرسومة آنفاً، إلا تأمل شعري منثور رائع. فالأسلوب الذي اعتمده شواب في خريف عمره لأسلوب صعب ومجهد، في بعض الأحيان، كأسلوب ر.ب. بلاكمور. وهاكم هذا المثال:
على الشكل الذي كانت فيه لانهائية الآثار الأدبية الزاخرة بالانفعالات تستدعي إجراء التسويات مع الكلمات الجوفاء والبدائل المؤقتة للكلمات المعينة، فإن الاحتجاجات الصارخة للدعاة الأخلاقيين تبدو بدورها عقيمة جزئياً للأجيال القادمة. وماذلك إلا لأن تلك الأشياء التي تصبح موروثاً تتخذ لها أشكالاً صارمة تعلي من شأنها بعدئذ بتحويلها إلى أدوات معينة للذاكرة، ومن ثم فإن هذا الدرع المنيع يصبح، جراء منعته ذاتها، مصدراً للضعف والتفسخ، وهكذا فإن الذاكرة تثبط همة الخيال وتخلص فضائل التكرار إلى الإفراط: كأدب المختارات والمنتخبات في الهند وفارس والجزيرة العربية، وأدب الخطابات والتلميحات والمقتطفات في الصين واليابان ومملكة يهوذا(21).
فنثر محكم جداً كهذا ينطلق من تعميمات كبيرة عن الأدب الآسيوي إلى أمثلة مقتضبة عن تنوعه. وفي الواقع فإن إحدى مميزات ذلك الأدب، كما يدأب على توكيدها شواب، هي أنه مضرب مثل للجمع بين وحدته وبين أشكاله المختلفة في آن واحد معاً. وإن الجانب (الباخي)* من "الميدان الشرقي" ليبين، مثلاً، كيف أن بعض الشخصيات المعينة -كالرعاة والعمال والأشجار والرحالة والخيالة والباعة المتجولين- تمنح الأدب الآسيوي دعامته القوية في أرض الواقع. ولكن شواب لايظهر على أروع مايكون إلا في دراسته للوسائل اللفظية والجمالية. فانطلاقاً من الفكرة التي مفادها أن الآداب الشرقية تتصور الواقع التاريخي كشيء جدير بالتحويل، ظلماً وعدواناً، إلى "قطاعات مكافئة خرافية"، يتحرى شواب هيمنة الصبغة الإسمية على القواعد الفنية الشرقية للغة، وتحليل رموز النبرة المتواترة وشاعرية الطول، والنظرة إلى الزمن كمفهوم تأملي، واستخدام جذور الألفاظ "mot- germes" في بنية الشعر الإيقاعية الساحرة، والتفاعل بين خصوصية لانهائية وعمومية لانهائية، وتوظيف مزاج الابتهاج مراراً وتكراراً فيما يدعوه بالملاحم المشرقية العظيمة. فهذا كله خاضع، مع سلسلة واسعة من الإيضاحات، إلى الافتراض بأن الأدب الغربي يحاول أن يحول كل الوسائل الموجودة تحت تصرفه إلى لفظ ونطق، في حين أن الأدب الشرقي يسعى لتحويل أي شيء، بما في ذلك الكلمات، إلى جرس موسيقي.
إن الخلخلة النسبية الموجودة في "الميدان الشرقي" هي من عمل القيود المفروضة على شواب من جراء العمل العام الجماعي الذي كان يساهم فيه ومن جراء اتساع الموضوع الذي كان يحاول معالجته اتساعاً خارج إطار التخيل. ولكن ما من قيود مماثلة كانت موجودة بالنسبة إليه في كتاب "الانبعاث الشرقي" الذي يأتي فيه على ذكر مقادير ضخمة من المعلومات التفصيلية التي كانت كلها موضع المعالجة المباشرة بمنتهى الوضوح. فقراءة هذين العملين كليهما تدل على أنهما بمثابة توطئة وتكملة لكتاب فوكو المعنون بـ "الكلمات والأشياء"، الذي ينطوي على أهمية فائقة لفهم ذلك التحول الكبير الذي حل بالثقافة والتعلم في أواخر القرن الثامن عشر وفي أوائل القرن التاسع عشر. ولكن في الوقت الذي يبدو فيه فوكو على شيء من الغموض فيما يتعلق بتحديده لزمرة خاصة من الأسباب التي أدت إلى ذلك التحول، فإن شواب ليبدو أكثر تزمتاً وأكثر تقيداً بالمعلومات التي تعزز موقفه برد السبب إلى الشرق. ولكن كلا الرجلين يدركان أن حيازة المعرفة ومؤسساتها ورواجها ماهي إلا تلك الأمور التي تحدد لا التطبيقات العملية الثقافية على العموم وحسب، بل وتحدد في الوقت نفسه أيضاً التطبيقات العملية الجمالية. فلا دارس من هذين الدارسين يتبنى النظرة التي مفادها أن تقديس "الشاعر" شيء كاف بحد ذاته لفهم الإنتاج الأدبي، ولايتبنى أي منهما الرأي القائل أن من الممكن دراسة الأعمال الأدبية في عزلة اعتباطية عن ظروف الإنتاج الكلامي والثورة النصية، أي تلك الظروف التي كانت تتحكم بكل أنواع النشاط الكلامي خلال عصر معين. إن شواب ليضفي التوكيد القاطع على صحة مقولات فوكو صحة لايرقى إليها الشك -من مثل أننا كنا نعيش ذلك العصر، حوالي بداية القرن التاسع عشر، الذي شهد ولادة الفيلولوجيا والبيولوجيا في آن واحد معاً. وإن شواب ليبين، علاوة على ذلك، بصبر كصبر أيوب المعنى الفعلي لدعوة فوكو (التي صاغها في كتاب "علم آثار المعرفة" بعد مرور تسعة عشر عاماً على صدور كتاب "الانبعاث الشرقي") بضرورة إقامة أرشيف.
فوسطاء وأبطال التشكيل والتغيير الثقافيين هم، بالنسبة لشواب، الدارسون وذلك لأن التحولات الثقافية لاتقوم إلا لأن البشر يميلون فطرياً للمعرفة أولاً ومن ثم لتنظيم الأشياء الجديدة. وماهذه الصيغة إلا بالصيغة البسيطة، بيد أنها تعني ضمناً، في كتاب "الانبعاث الشرقي"، إعادة تثقيف قارة بأخرى. إن هذا العمل منقسم إلى ستة أبواب رئيسية فضلاً عن عشرات الأقسام الفرعية والخاتمة. فكما أفلح موضوع "الاستشراق الشرقي" في أداء مهمته من خلال الإسهاب والاختزال على مايبدو، كذلك أفلح الكتاب. إن الباب الأول يرصد ويؤكد ظاهرة الإدراك الأوربي للشرق -كيف أن الاكتشاف الجغرافي، والمقام الرفيع لعلم الآثار المصري، والمهمات الاستعمارية المختلفة للهند، أمور عززت كلها التحدي الشرقي والنزوع للتعامل معه منهجياً في المجتمع الأوربي. والباب الثاني يشرح مفصلاً ذلك التكامل الذي تلقت أوربا فيه الشرق وأدخلته ضمن كتلة بناها الخيالية والمؤسساتية والعلمية. ويتضمن هذا الباب موجة الدراسات السنسكريتية التي اكتسحت القارة الأوربية، واتخذت من باريز قاعدة أساسية لها، والحماسة التي ضاعفت العالم على حد العبارة البهيجة لشواب. وفي الباب الثالث يكرر شواب مجدداً البابين الأولين كي يبين التحولات الفعالة التي تحدث في معرفة الشرق. والشيء المركزي هنا يكمن في تحول المعرفة عن اللغة من كونها مسألة دينية إلى كونها مسألة لغوية وعلمية وحتى عرقية. وفي صحبة هذا التحول يأتي التحول الذي حازت الهند بموجبه على بعد رمزي كامل في الأدب الغربي، من ذلك الاستشراق السابق لكل من ميلتن ودرايدن مروراً بشعراء البحيرات وصولاً إلى أميرسون و ويتمان والمتسامين على الخبرة البشرية وريختر ونوفاليس وشيلينغ وروكيرت وهاين وغوته، وفردريك شليغل بالطبع.
وأما الباب الرابع فهو بنية محبوكة لكتلة فسيفسائية من "السير التاريخية" والمواد حول شهود شخصيين على التأثير الشرقي مستمدة كلها من حيوات أربعين شخصية أو قرابة ذلك العدد. إن شواب مهتم بتقديم ملامح أساسية وبانورامية أيضاً عن إعادة التوجهات في أعمال الدارسين والعلماء والنقاد والفلاسفة والمؤرخين. إن كل صورة تضاعف تعقيد الاستشراق كظاهرة من ظواهر التلقي والنقل. فمعالجة موضوع الكتاب لهي معالجة تصويرية، أي أن شواب سواء أكان يتفحص بلزاك أو كوفييه أوجيل مول أوسيلفستر دي ساسي أو أمبير أو أوزانام أو فورييه، فهو يصور أيضاً تبدل التصورات عن الزمان والمكان لدى كل منهم. إن القضبان الهوائية (الأنتيلات) لدى شواب تفرز التحولات التي طرأت على العلاقات اللارسمية فيما بين الناس المتأثرين بالشرق (في الصالونات والزمر شبه السرية في مصانع القال والقيل) وفيما بين المعارف (كعلم اللغة والجيولوجيا والبيولوجيا). فتحرياته للتشكيلات المنطقية يمكنها أن تبين، مثلاً، أن المكتبة والمتحف والمخبر تعرضت كلها لتعديلات داخلية ذات أهمية قصوى. وإن مايرقش شبكة شواب هو الأشياء التي لاتعد ولاتحصى من تواريخ وأسماء ومجلات وأعمال ومعارض وأحداث (كمعرض نينوى، مثلاً، الذي أقيم في باريز في عام 1846)، ألا وهي تلك الأشياء التي تضفي على سرده فورية أخاذة:
والبابان الخامس والسادس يرفعان الآلاف المؤلفة من التفاصيل عن الاستشراق من مستوى المدارس والدارسين والأكاديميات والعلوم والصالونات والأيديولوجيات، ليدخلا بها في سلسلة الأحداث المثيرة الأكثر تمييزاً والجارية في الحياة المسلكية لأكابر الكتاب الخياليين. فالباب الخامس يعني بالكتاب الفرنسيين في عراكهم مع مشكلة الخلق الشاقة التي كانت تنوء بعبء المعرفة الواسعة: من أمثال لامارتين وهوغو وفيني وميشيليه و كونت ليل وبودلير. وهنالك، فضلاً عن ذلك، قسم عما يدعوه شواب بـ "الشرق الخارجي"، أي ذلك الشرقي العجيب النافذ التأثير في أعمال نيرفال وغوتييه وفلوبير، مع العلم أن هنالك بعض التعليقات الشيقة على وجه التخصيص على عمل فلوبير المعنون بـ "قصة الآثار"، ذلك العمل الذي مادته مقتبسة من كوابن غير أن لهجته تناقض صراحة لهجة ذلك الكاتب. وأما الباب السادس، المعنون بـ "التحولات والاستطالات"، فيركز في معظمه على الكتاب الألمان (ومن بينهم نيتشه وفاغز وشوبنهاور) والكتاب الروس في مؤخر القرن. إنكم لواجدون غوبينو في هذه الصفحات، علاوة على مذهبه عن تفاوت الأعراق. فشواب يولي اهتمامه، حين تقترب دراسته من نهايتها، للأقسام الخبيثة غالباً (كإيران قبالة الهند، والآريين قبالة الساميين، والشرق قبالة الغرب) التي تتسرب من خلال الكتلة الثقافية الهائلة الناجمة، طيلة قرن تقريباً من المقارنات، عن الوعي الاستشراقي. وإن من الممكن اقتفاء آثار هذه الأقسام كلها وردها إلى اثنتين من "التقنيات الروحية" (techniques spirtuelles) تقابل واحدتهما الأخرى من الغرب إلى الشرق. وهكذا:
في غضون القرنين التاسع عشر والعشرين، قامت ثلاثة اتجاهات مختلفة بعضها عن بعض: المدرسة الصارمة للتقنيين -أي الفيلولوجيين والفلاسفة -ممن واظبوا على الإتيان بالتعريفات الضيقة مما أدى إلى إقصاء الهواة، وحلقة الأيديولوجيين والمبتدئين ممن طعّموا الخبرة المحلية بالتأثيرات الأجنبية، وبين اللاهوتيين ظهرت من جديد الحماسة التبشيرية القديمة إذ أدت إلى قيام الشكوك المتصارعة بين العلم والضمير. وإن هذه النظرات الثلاث لتوضح تلك الاحتكاكات، العديدة والمتواصلة، التي تعاظمت بشكل لم يسبق له مثيل من قبل فيما بين مختلف الثقافات.
إن الباب الختامي، المكتوب بأسلوب رصين ومعقد، يؤكد أن الانبعاث الشرقي كان في جوهره ظاهرة من ظواهر الاختلاف، وظاهرة ولّدت تقنيات المقارنة، في حين أن الانبعاث الأول كان في جوهره انبعاثاً استيعابياً في كونه تملق أوربا دون قلقلة المركزية الثقافية لأوربا مركزية تؤكد ذاتها بذاتها. وهكذا فإن الانبعاث الثاني أفضى إلى تزايد، لا إلى تناقص، نقاط المقارنة والتقنيات المتاحة للثقافة الغربية "ومحاوريها المحتجبين عن الأنظار"، الأمر الذي تزايد على هذا النحو لأن الانبعاث اللاحق كان حدثاً كلامياً لا حدثاً كلامياً ومصطنعاً كما كان عليه الانبعاث السابق. فالاستشراق أتاح الفرصة أمام العالم الأول كي يتكلم "premier tour du monde parlé"، الأمر الذي استهل بدوره نظرية لغوية ذات أصول على انكماش واستحالة متواصلتين. فمثل هذه النظرية، بوقوفها بين التاريخ والإيمان، كانت حدثاً
ذا شأن: إذ إن اللغويين اعتقدوا أنهم قد وجدوا الجواب على بابل، كما أن الشعراء توقعوا عودة جنة عدن، فضلاً عن أن موجة عارمة من الهوى بالأصول قامت في نفوس الناس لدى العثور على أي اكتشاف أثري جديد، وشيئاً فشيئاً تولد الانطباع، مع كل صيغة جديدة مطروحة بلسان صيدلاني، بأنه خلق حياة جديدة: فمسلمة عن لغة أم أدت إلى ولادة لغويين عن طريق التوالد العذري. غير أن فكرة البدائي الأولي ماكان بالإمكان توكيدها إلا بتشويهها، علاوة على أنه لم يعد بالإمكان اعتبارها كنقطة بداية التاريخ، بل مجرد نقطة متزايدة الهبوط في كفة ميزانه. لقد كانت قابلة للتحريك ولذلك أدت إلى تنشيط الأفكار عن التغيير - فالتاريخ لم يعد بمثابة الحصن للزمان كله، ولم يعد يستطيع بالتأكيد أن يقوم مقام الأساس. وفي الوقت نفسه، فإن جملة المعايير الجمالية والنظريات العلمية تخلت كلها عن مطالبها بحق الديمومة، فضلاً عن أن أي عامل في مضمار ماكان حقائق قديمة في قديم الزمان صار يشعر بأنه موضع الخذلان إن تعلق بأي شيء ثابت أو احتاز عليه. فالحركة الجمالية الرومانسية، والعقيدة البيولوجية بخصوص النشوء، وامبريالية اللغة في الامبراطوريات الفكرية، صارت الآن هي الأشياء الجديدة والهامة التي بوسع المرء الموافقة عليها. ففي يومنا هذا يتعمد ورثة شعراء التذبذب، وميتافيزيقيو اللاشعور، ودهاقنة الأسطورة، أن يتحدثوا عن "الكلمات الحرة" وكأنهم يتحدثون عن "خبرة روحية" -وإنهم بذلك ليؤكدون، على غير دراية منهم، صيغة بورنوف "Nomina numina"
(التسميات المقدسة) [498-497].

إن المصادفة بين ورود الرومانسية ومجيء الاستشراق في الغرب، بالشكل الذي يصورها فيه شواب بمنتهى الحذاقة، أعطت الأولى أبعادها المعقدة وساقتها لإعادة تصييغ الحدود البشرية -وفعلاً إلى ذلك الحد الذي يستطيع فيه اللاشعور وحتى المستغرب أن ينتحلا لقب الشيء الطبيعي. وإن مايتحكم بتلك المصادفة ثمة قانونان هما: "صدفة العصور" و "مهمة الأجيال" (502). ولذلك فإن تصور شواب للتاريخ الثقافي في كتاب "الانبعاث الشرقي" تصور كوني لأنه يرى نفسه تتوسط بين القانونيين وبين استحقاقهما على الفهم الثقافي.
إن كتاب "الانبعاث الشرقي"، وهو على شيء من الإيجاز نسبياً والإسهاب نسبياً (وهما نعتان من نعوت شواب)، لتثقيف فعلي في معنى المغامرة الفكرية، لنوع من العمل الكشاف الحيوي، الذي لايهمل لا الصغائر المادية ولا الكبائر التأملية المتعلقة بتصييغ الأحكام العامة. وأهمية شواب، تلك الأهمية الباقية على مر العصور، تكمن في أنه لايسمح للشكوك أن تساورنا البتة في أن الفيلولوجيا، كما يستعملها بذلك المعنى العريض الذي كان يقصده نيتشه وكما يدرسها في تاريخ علم الآثار الفيلولوجي الذي جيء من خلاله بالنصوص الشرقية إلى صميم المعرفة والوعي الغربيين، هي دراسة النصوص وكأنها آثار خالدة موضع التنقيب المتواصل لتنظيم وإعادة تنظيم إدراك الثقافة لهويتها. إن الدراسات الحديثة عن الأدب الرومانسي -من أمثال العمل الذي جاء به كل من آبرامز وبلوم وهارتمان ودي مان -ستجد ولابد دعامتها التي لامفر منها في شواب، وذلك لأن الاستفاضة النصية لشواب تقدم المادة الأولية الضرورية لتلك الدراسات، إذ أخذنا في الحسبان أن فهم الكتابة الرومانسية لايكون على أفضل مايرام، كما يبدو، إلا إذا اتخذ شكل الاستقصاء المتطاول للشكل الشعري واللغوي الذي يدأب على تركيب وتفكيك مستويات المعنى. وإذا لم يكن هنالك دائماً، بعد قراءة شواب، معبر منتظم يمكن رؤيته من الكلمات إلى الأشكال، أومن الاكتشاف اللغوي إلى الأداء اللغوي والجمالي، تكوين المشكلة هي أننا، كتلاميذ أدب، لما نتقن بعد العلاقة بين اللغة في التاريخ واللغة كفن. فشواب يرتأي أن العلاقة عويصة، بيد أن منهجه يستند إلى التهويل، المطروح على نحو معقد وموسوعي، فيما يتعلق بمواجهة ثقافية، ألا وهي تلك المواجهة التي تقوم بين عشق الكلمات، شبكة النصية، وبين جمعية التعليم والتخصيص الثقافي. وهكذا فإن المرء ليحسن صنعاً، على ما أظن، إن أطرى شواب، بدلاً من قراءته كمنظر فاشل، على إنجازه الدراسي العظيم الذي يوفر الفرصة لقيام توجه نظري وتفحص ذاتي.
إن الأشياء التي لايعيرها اهتماماً شواب إلا تلميحاً على مايبدو هي القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تفعل فعلها خلال العصور التي كان يدرسها. فهو خبير في إعطائنا ظروف العصر، مع العلم أن هذه الظروف قد تتضمن تفاصيل اجتماعية واقتصادية. بيد أن ظرفية تفصيلاته بعيدة عن أن تضيف شيئاً على القوى الفاعلة في تكوين تلك القوى العاملة في صميم التاريخ. وهكذا فإنه يذكر أن أوائل المستشرقين البريطانيين كانوا من رجالات الطبابة ذوي المهمات التبشيرية الدينية، كما كانوا، علاوة على ذلك، على علاقة وثيقة مع المشروع التجاري في المستعمرات الهندية. ومع ذلك فإنه لايحاول في أي مكان أن يدمج هذه الظروف المتباينة في تفسير سياسي للاستشراق البريطاني. وعلى نحو مماثل يشير هنا وهناك إلى أن تعاظم الموجة العظيمة للسنسكريتية وتفاقم الأستاذية السنسكريتية في طول أوربا وعرضها كانا على ارتباط بالتجارة الاستعمارية المتنامية على جناح السرعة، وأن المنزلة السامية التي حظي بها علم الآثار المصرية كانت نتيجة للمغامرة النابليونية في الشرق الأوسط. غير أن الجدير بالذكر أنه لم يطرح البتة أية فرضية مترابطة منطقياً عن الاستشراق باعتباره علماً أو موقفاً أو مؤسسة لمصلحة الهيمنة الأوربية على المستعمرات الشرقية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
إن التباين القائم بين الشيء الذي يعرفه شواب من خلال التفاصيل المرعبة وبين الشيء الذي يستنتجه من تلك التفاصيل لتباين صارخ، فالأمر لايقتصر على استنكافه عن عزو النتائج السياسية التي حلت بالشرق إلى تدميره على أيدي الأوربيين وحسب، لابل ويختار أن يرى أيضاً أن العلاقة بين الشرق والغرب علاقة متكافئة -في حين أنها لم تكن في الواقع في شيء من مثل هذا القبيل بالطبع. فلقد كانت السنسكريتية بمثابة اللغة التي احتازت على قيمة ثقافية في أوربا، بيد أنها كانت لغة بائدة وعلى بون شاسع عن التخلف الذي كان عليه الهنود الحديثون. وإن الخيال الرومانسي الذي كان يتحلى به الكتاب والدارسون الأوربيون كان مستنقعاً بالاستشراق، ولكنهم نالوا استشراقهم هذا على حساب أية رأفة يمكن أن يكونوا قد شعروا بها حيال المواطنين المحليين الجهلة الذين كانوا تحت وطأة حكمهم. فمن بين مسارات الفكر كان هنالك مسار واهن ناشط في الدراسة الاستشراقية في مطلع القرن التاسع عشر ألا وهو ذلك المسار القائل -كما في عمل آبيل ريمو سات مثلاً- أن الحماسة الاستشراقية تجد وقودها غالباً في الجهل المطبق لا بالشرق القديم وحده بل وبالشرق الحديث على وجه التخصيص. ولئن قرأتم شواب لن تنسوا أن كيرتز في رواية كونراد كان أحد النواتج الأساسية للاستشراق، أو أن النظرية العرقية ومعاداة الساميّة أكاديمياً وبراعم الفاشية ماهي إلا النواتج الفعلية للفيلولوجيا الاستشراقية في القرن التاسع عشر. وفي نفس ذلك الوقت الذي كان فيه فردريك شليغل ويلهيلم فون هامبولت وإيرنست رينان يقيمون تمييزهم بين الإنسان الهندي/ الأوربي الرائع والحيوي والمتناسق وبين الإنسان السامي القميء والجاسئ والمتهافت، كانوا يختلقون تلك الدراسة الاستشراقية التي كانت ستواصل تسبيحها بحمد الله في القرن العشرين على معاداتها العرب ومعاداتها اليهود. فهذا الشيء كله صار ممكناً لا عن رغبة في المعرفة بل عن رغبة في التملك والتحكم، كما كان يدرك شواب على مايبدو.
وإن القول بأن هذه المسألة ماهي بالمسألة الأكاديمية المحض لقول بالإمكان البرهنة عليه ببساطة كافية إن ضربنا مثلاً حياً عما يدور في هذه المرحلة الراهنة. فالمستشرق الأكاديمي المعاصر هو الوريث المباشر للفيلوجي المستشرق زمن القرن التاسع عشر. ففي المسائل التي تنطوي على أهمية سياسية عاجلة يُسعى إليه طلباً لوجهة نظره ولمعلوماته ومساعداته، على الشكل الذي تصاغ فيه سياسة الولايات المتحدة حيال الشرق الأوسط، على سبيل المثال. ولكن بما أن الاستشراق هو تلك الظاهرة السياسية التي لايمكن فصلها عن الكولونيالية الأوربية (بيضاً وذكوراً)، فإن أبناءه الحديثين يحملون ذلك الماضي القبيح على كاهلهم وفي عملهم: إنهم يعتبرون الإنسان كائناً بشرياً بدائياً ومتخلفاً أساساً، وهو بأمس الحاجة لتلك الهيمنة التي تعمل على تحضره. وإن آراءهم كمستشرقين، مهما كان مقدار تحبيك الشكل الذي تظهر فيه، لآراء خسيسة في خاتمة المطاف. فحرب أكتوبر لعام 1973، على وجه التخصيص، جاءت بكتلة هائلة من التحليلات المستندة بالأساس على بعض المعتقدات الموغلة في القدم إلى حد لايصدق تقريباً عن الذهن العربي والعقلية الإسلامية والمجتمع العربي، والقائمة كلها على رأي استعماري مبسط شرير عن الشخصية المشرقية- ألا وهو ذلك الرأي العنصري في أشرف تعبيراته بمنتهى الصراحة.
وهكذا علينا إذاً ألا نقول ببساطة إن الشيء المفقود لدى شواب هو إدراك فوكو للهيمنة السياسية والمادية المتمثلة في منظومات خطاب كخطاب الاستشراق، كما يجب ألا نقول حصراً أن شواب يفشل في أن يأخذ بحسبانه الجانب السياسي السوسيولوجي الذي ينطوي عليه التقوقع العرقي بالشكل الذي يمثله فيه الاستشراق. فعلينا بدلاً من ذلك أن ننبه إلى المشكلة التي تعترض سبيل أي عمل فكري موسوعي مثل "الانبعاث الشرقي" الذي فضائل نطاقه وتكريس كاتبه جهده للتفصيلات الظرفية تجعله خجولاً من الإتيان بتعميمات سياسية مغرضه. وبالأساس فإن ما أفضى إليه طموح شواب كان الرغبة في توكيد وجود وأهمية أي انبعاث شرقي، وفي فعل ذلك بأكبر قدر ممكن من الأمانة للقوى الداخلية الفاعلة في الحركة. وعلى الرغم من التوفيق الديالكتيكي الذي أجراه شواب فيما بين مختلف الحالات التي مرت بها الحركة، يبدو عليه أنه كان محجماً عن الإقرار بأن الاستشراق كان على تلك الإشكالية التي كانت تلامس في أي مكان، بشكل دقيق ومنهجي، المواقف والوقائع السياسية/ السوسيولوجية. ولذلك فهو يثير في أذهاننا ذلك السؤال الدائر عن الكيفية التي يتمكن فيها المرء من كتابة أفضل نوع من أنواع التاريخ الثقافي في الأكاديمي ومن الأخذ بعين الاعتبار، في الوقت نفسه، السلطة والنقود والغزو الاستعماري. ومن الواضح أنه لا أية غائية مبتذلة ولا أية نظرية مبتذلة ذات فكرة آنية بمقدورها الإجابة على هذا السؤال. ولكن حتى تفادي السؤال ولو بمنتهى الحذاقة والدقة لن يجدي فتيلاً أيضاً.
وعلى الغالب يبدو أن الاعتقاد السائد عن الدراسة الدقيقة في ميدان الآداب الإنسانية عموماً، وفي ميدان الأدب خصوصاً، أن إحراز المدى والتفاصيل لايمكن أن يستقيم إلا بالبقاء بمعزل عن التشبث بالميول وأما النقيض لذلك فليس أقل صحة أيضاً: أي أن التنظير الرائع يأتي بلا أية مبالاة بالظرف أو بعمق المعرفة أومدى الشاهد الملموس. ولربما أن من طبيعة الدراسة وطبيعة المعرفة الفكرية المعاصرة أن يكون تخيل العمل بأنه فاعل هذا النوع من الشيء المختص أو ذاك، أي رؤية المهمة العقلانية بأنها تنطوي ضمناً على ظروف المنظر أو الدارس، أو الصحفي الشعبي إن استشهدنا بحالة راهنة. فالمنظر يرى نفسه مستجيباً لظروفه الخاصة به: سواء أكان ماركسياً أو بنيوياً أو ناقداً جديداً أو فينومينولوجياً. ولكن الأمر الهام، بالنسبة للمؤرخ، فهو الماضي "كما كان عليه في واقع الأمر"، في تفاصيله وفي عمقه. وثمة واحد قد يعترض ويقول بأنه لم يعد هنالك أي مفكر يعمل وفق مثل هذه الخطة المتهافتة، بيد أن الفروق توطد أركانها عملياً بمنتهى الصرامة. فليس هنالك من التفكير أو الوقت إلا القليل جداً، مع التسليم جدلاً بفهم ديالكتيك الضغط ورد الفعل عليه في العمل الأدبي، لانتهاك حرمة الظرفية التي ينوء بعبئها الإنتاج النقدي أو النظري أو التاريخي أو، في خاتمة المطاف، انتهاك حرمة الطريقة التي قد يتمكن بها إنسان ما من أن يكتب بدقة في الوقت الذي يكتب فيه أيضاً بشيء من الإدراك للقضايا السياسية الحادة التي هي على أوثق ارتباط بصلب الموضوع، كما هي عليه الحال مع الاستشراق بالضبط.
إن هذا المكان ليس بالمكان المناسب لمعالجة هذه المسائل، بيد أن دراسة شواب، بفضل فخامتها وأهميتها، تعود بها إلى الذهن كما تعود بها ورطة أي دارس لايشعر أنه ملزم باتخاذ موقف سياسي صريح حيال العمل الذي يقوم به أو تقوم به أو حيال كل الأشياء على العموم. غير أننا هنا نصل إلى تلك المشكلة العويصة المتعلقة بتحديد الموضوع الدراسي أو حتى النظري الذي يستلزم أو لايستلزم اتخاذ موقف أو موقع سياسي صريح حتى تنال معالجة الموضوع كفايتها من الدقة والإنصاف. فالاستشراق كموضوع يصرخ غالباً بملء أشداقه مطالباً بحقه في الفهم الصريح لخلفيته القبيحة الغارقة في مستنقع التعصب العرقي واللهاث الاستعماري. ومع ذلك فإن الواجب يحتم علي أن أقول بأنني أفضل دراسة شواب البعيدة عن السياسة على أي تحليل كامل للاستشراق تحليلاً فياضاً بالجعجعة والدقة ولو كان أكثر بعداً عن تناول التاريخ -بيد أن من الواضح تماماً أن هذا البديل ليس بالبديل الوحيد. ولربما من الصحيح أن نقول أن المرء ليستطيع على الأقل، في عمل كعمل شواب بصرف النظر عن غنى توثيقاته، أو يشير إلى غياب بعض جوانب الواقع علماً بأنه قد يستطيع استكمالها أيضاً، علاوة على أن بعض الدراسات الأخرى، الأقل إثارة للإعجاب، تنطوي بالأساس على تلك المواقف التي (وهي تلغي التاريخ في أحيان كثيرة) بوسع المرء أن يساندها أو أن يهاجمها فضلاً عن شيء طفيف آخر.
ولكنني سأحاول أن أكون دقيقاً حيال الكيفية التي تكشف فيها بعض الدراسات، حتى وهي تستبعد بعض الأمور، عن تعقيد ماتشتمل عليه ومالا تشتمل عليه في آن واحد معاً. فما من طريقة جراحية هناك لتحديد مقدار التعقيد والغنى الكافي والمناسب. إن الشواهد النموذجية تقدم لنا العون، من مثل كتاب "الانبعاث الشرقي"، على الرغم من انعدام إمكانية التعامل معها وكأنها تلك النماذج الأصلية التي تستوجب المحاكاة بمنتهى العبودية. وهكذا فإننا نعود إذاً إلى أمور من أمثال الصبر والمؤالفة والحماسة التي تعبر كلها عن أنفسها بشكل معدٍ وضمني في عمل الدارس مهما كان تعلمه هائلاً ونزيهاً. ولئن تبسم المرء أحياناً من هول البساطة التي تنطوي عليها بعض العبارات كعبارة "الذهن الآسيوي" (الواردة في "الميدان الشرقي")، فإنه يدرك دائماً على الرغم من ذلك أن نية شواب في تعميماته نية ودية وما هي بالعدائية أو العدوانية. وبالاختصار فإن عمل شواب، وبالمقدار نفسه تماماً في موضوعه ومناهجه، يزيد الفرص للدراسة والتعلم، ولا يحد منها حتى لوكان الخنوع السياسي الذي يخنعه شواب يمنعه من اعتماد الحكم القاطع بما مفاده أن الجشع الثقافي لهو مبعث الاستشراق. وكوننا نتمكن بعد ذلك من أن ندرس الحركة الرومانسية، أو أن نتحرى تأثير الأكاديميات على الحياة الفكرية إبان القرن التاسع عشر، أو أن نحلل العلاقة بين الفيلولوجيا والأيديولوجيا- أو أن نتمكن من التعامل مع كل تلك الأمور ومع العديد غيرها- هو السبب الذي يجعل رومانسية أفكار شواب نفسها جديرة بالاهتمام الجاد، وهناك مكمن المتعة الخالصة في تعلمها.
ولكن استخدام "المتعة" بهذا الاستخفاف الكبير لوسم "التعلم" لايعني ضمناً الاستمتاع الرخيص. فليس في جعبة شواب من فن يحلله أو إنجاز فكري يخطط له إلا وله مايناسبه من إدراك حيال علاقته الفعلية بهذه الحياة الدنيا. ولذلك فالشيء الذي يكشفه له بحثه التاريخي، والذي يجعل قراءه يجدون فيه متعة فعلية، هو الدعامة الحقيقية التي تستند عليها الحياة الثقافية، ألا وهي تلك الدعامة التي تعني أن أية ثقافة ليست مجرد تجمع أو اندماج لزمرة من الذوات المنتصرة هنا وهناك، وإنما هي العمل الذي أنجزته الوسائط البشرية -القائمة في المجتمع، في الأواصر الاجتماعية، في مكان التوالد، في التاريخ. وهأنذا أستخدم هنا المفردات التي استخدمها كوانتين آندرسون كي أضع رأيين متناقضين عن الثقافة الأدبية والدراسة الأدبية أحدهما قبالة الآخر(22). فشواب ليس من المؤمنين بكفاءة أنفس ذوات شأن عظيم. والشيء الجدير ذكره عنه هو أنه، على الرغم من كل المغزى التجميلي والتمديني والتحويلي الذي ينطوي عليه الحدث الثقافي الذي يصفه، وعلى الرغم من كل الهزال السياسي الذي يصوره به، لايفترض أبداً أن يكون العمل نتيجة الهوى المباشر لفرد ما لإعادة صياغة العالم بكل تلك البساطة التي يضع بها امرؤ رفاً من رفوف الكتب، فالثقافة بالنسبة لشواب قاعة محاضرات أكثر مما هي محراب، لابل وقاعة طافحة بالهرج والمرج فيما يتعلق بذلك الخصوص. وأما بالنسبة للناقد المعاصر، الذي لايزال متسمراً بلا جدوى بالشكل المحض وغالباً ما يستخفه الطرب بالأشعار البنيوية غير المقرونة بالظروف، فإن شواب يجب أن يكون ترياقه الكافي الوافي لأنه يصر على نشر الشبكة حتى فوق أصغر النخاريب المعزولة. وختاماً مامن منظور غير هذا المنظور يتيح إمكانية فهم الثقافات على أنها تلك المنظومات التي كما هي عليها قولاً وفعلاً، والمنظومات التي يكبح جماح فاعليتها لجام فهم تاريخي يقظ وحكم أخلاقي بين يدي مؤرخ نقاد لامثيل له.

nnn


* بور رويال: مؤسسة ثقافية غربي باريز انتشعت منذ عام 1638 حتى عام 1704 حيث أغلقها البابا بأمر بابوي لأنها صارت بؤرة ثقافية حيث كان الأساتذة فيها يعملون في مضمار علم اللغة -جانسينيي: نسبة إلى كورنيل جانسين، صاحب المذهب الديني في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية- المترجم.

** أشباه النبلاء: طبقة من الأغنياء كانوا يشترون لقب النبالة بالمال ولكن ماكان يحق لهم توريث اللقب لأبنائهم -المترجم.

* من المعروف عن أرخميدس قوله أنه لوتسنت له نقطة يقف فيها على سطح الأرض لتمكن من تحريك العالم كله -الترجم.

* الاتحاد الدولي للأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية الذي بدأ في باريز عام 1889 وانهار خلال الحرب العالمية الأولى- المترجم.

* نسبة إلى جاك لا كان- المترجم.

*Hope: إحدى ثلاث إلهات شقيقات كن رمزاً للفتنة والجمال لدى قدماء الإغريق، في حين أن hope تعني الأمل أو الرجاء -المترجم.

**Logos: ترمز في العهد الجديد إلى السيد المسيح (الابن -أو كلمة الله) في حين أن words تعني الكلمات المحض- المترجم.

* إغدراسيل: أسطورة نورويجية تتحدث عن شجرة من الرماد تظلل العالم بأسره، وتجمع الأرض والسماء في حين أن الجحيم يكمن في جذورها وأغصانها. وهي كلمة مؤلفة من مقطعين يعنيان ربما "الحصان المخيف"-المترجم.

(**) خورخي لويس خورخس: أرجنتيني من مواليد عام 1899، شاعر وباحث أدبي وكاتب قصة قصيرة، له مجموعة قصصية بالعنوان المشار إليه -المترجم.

+Ficciones: "الخيال"- المترجم.

***** تعني النص في الإنكليزية، في حين أن ****ile تعني النسيج أو المنسوج المحبوك -وكأن الكلمة الثانية مشتقة من الأولى -المترجم.

* رواية رومانسية لمدام دي لافاييت منشورة في عام 1678- المترجم.

* نسبة إلى جوهان سيبيستيان باخ، عازف الأورغ والمؤلف الموسيقي الألماني -المترجم.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 08-28-2012, 12:16 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي

12- الإسلام والفيلولوجيا والثقافة الفرنسية: رينان وماسينون



إن قراء ماثيو آرنولد قد يتذكرون لوائحه الساخطة والمرتبكة التي تقارن بين الريفية الإنكليزية في الثقافة وبين نضج وكمال الثقافة الفرنسية أو الألمانية. فثمة فقرة رائعة بالانكليزية الكلاسيكية بقلم آديسون سرعان ما تكشف عن ابتذال فكرها لآرنولد حين يقارنها بجوبير، كما أن اللغة الطنانة لجيريمي تايلر تبدو سمجة للسبب نفسه عند مقارنتها بالفخامة البسيطة لجمل بوسييه. فإنكلترا ما كان لها البتة أكاديمية أدبية للإشراف على الجهد الثقافي، كما يقول آرنولد، وكان هذا النقص بركة لصالح حرية المناخ الذي أتاحه في الحياة الفكرية الإنكليزية، بيد أنه كان في الوقت نفسه عيباً لأنه لم يتمكن من منع السوقية والابتذال(1).
ثمة نقطة هامة على وجه التخصيص يأتي بها آرنولد في هذا السياق خلال بحث ما يدعوه "بعادات التصميم وغرابة الأطوار" الإنكليزية. وشاهده على ذلك يتمثل في جون وليام دونالدسون، وهو ذلك الفيلولوجي الذي حاول في عام 1854 سوق الأدلة على أن الكتاب المقدس منبثق بالفعل عن كتاب ملغز بعنوان “Jashar” (جاشار). ويقول آرنولد: "فأنا لا أتظاهر، مع أنني لست بمستشرق، بأنني أصدر حكمي على هذا الكتاب: ولكنني أترك القارئ أن يلاحظ الشكل الذي اتخذه بكل بساطة بناء على حكم مستشرق أجنبي. ورينان يسميه بـ (الاعتباط البائس)، أي الفشل الذريع باختصار، الأمر الذي قد يكون كذلك أو قد لا يكون، فأنا لست بالحكم الترضى حكومته". ويتابع قائلاً: "إن من المذهل أن تكون مقالة حديثة... قد طرحت... عملاً كهذا العمل من تأليف دكتور في جامعة كامبريدج، وكان مصيره الشجب على أوسع نطاق بأقلام النقاد الألمان". ويثابر آرنولد على الاستشهاد برينان مرة ثانية -ولكن يتحدث هذه المرة عن كتاب تشارلز فورستر المعنون بـ "إماطة اللثام عن الدين المحمدي (1829)، وهو الكتاب الذي خلب ألباب رجالات الدين الإنكليز المبجلين لأنه يصور أن محمداً كان القرن الصغير للتيس الذي يظهر في الفصل الثامن من "كتاب دانيال"، وأن البابا كان القرن الكبير". ويفسر آرنولد رينان بالقول أيضاً أن على المرء ألا يستغرب أي غلو باعتبار أن من كتب هذه الأشياء رجل إنكليزي. إن أمثال هذه التقييمات تأتي "من مستشرق وقور وعلى موضوع اختصاصه، وهي تشير إلى حقيقة واقعية -مفادها أن غياب أية سلطة ذات رأي مستنير علمي وأدبي، في هذا البلد، يجعل الزيغ... أمراً لا مفر منه"(2).
وعلى الرغم من أن آرنولد نفسه كان أقل ريفية وسذاجة من كل الكتاب الإنكليز في القرن التاسع عشر، فقد كان يجسد الثقافة الفرنسية على إتاحتها الفرص أمام الناس المتعلمين على صياغة المقولات التي كانت موثوقة وأساسية في آن واحد معاً. فلقد كان لآرنولد رأي صائب على وجه التخصيص حول الميدانين اللذين أقر بطول باع رينان فيهما، ألا وهما الفيلولوجيا والدراسات الشرقية. وحتى لو كانت فرنسا، طبقاً لما تقوله مدام دي ستايل في (من ألمانيا)، متخلفة جداً عن ألمانيا في ثروة المؤسسات الأكاديمية ومناهج الإرشاد، فإنها مع ذلك تسبق إنكلترا بأشواط كبيرة. فهذا هو هانز فان آرسليف يؤرخ في كتابه المعنون بـ "دراسة اللغة في "إنكلترا، 1780- 1860"، البطء العجيب الذي كانت عليه إنكلترا في تناولها (الفيلولوجيا الجديدة)، أي ذلك العلم الذي كانت له اليد الطولى في فرنسا وألمانيا منذ بدايات القرن. فإنكلترا لم تكن متخلفة بهذا المضمار جراء التأثير العظيم الذي أثره فيها هورن توك وحسب، بل ولأن الجامعات أنفسها لم تكن لتوفر الإمكانية الجادة للتعامل مع الفيلولوجيا إلا بعد مرور قسط طويل من ذلك القرن. ولذلك فقد كانت النتيجة أن الفيلولوجيا ظلت مقصورة في إنكلترا على "الهواة وعشاق الفن وجامعي التحف الفنية الأثرية وحدهم ليس إلا"(3). وحين تعرض كتاب بوب المعنون بـ "نظام تصريف الأفعال" في "المجلة اللندنية" في عام 1820 أشار الكاتب إلى أن "انكلترا" على الرغم من فضائلها الخاصة، لم تفعل الكثير مما كان متوقعاً منها في هذا المضمار".
وإن أي دارس مهتم ذلك الاهتمام الجاد بالفيلولوجيا كان على ما يبدو في أرجح الظن منهمكاً في بحث خاص جداً أكثر من انهماكه في تحقيق مشروع وطني كبير من ذلك الصنف الذي كان يمثله رينان في فرنسا وراسك في الدانيمارك وبوب في ألمانيا. فها هو آرسلاف يقول حتى لو كان هنالك فيلولوجي كفء كفاءة فردريك أوغسط روزن -الذي تعلم تحت إشراف ساسي في باريز ومع بوب في برلين- ما كان من الممكن أن تتسنى له وقتها حياة مسلكية مناسبة في إنكلترا إذ كان مضطراً "أن يهتبش الرزق لنفسه بكتابة المقالات عن الفيلولوجيا "للموسوعة ذات البنس الواحد"(4).
إن هذه الحالة كانت نفسها تقريباً في الدراسات الشرقية الاختصاصية التي كانت تعتمد، على الرغم من نجاحها ومقامها الرفيع الأوربيين، الاعتماد الكبير على التقدم المنظم والمنهجي (للفيلولوجيا الجديدة).
فأناس من أمثال دونالدسون وفورستر يبدوان عرضة لتبادل المواضع مع شخصيات روائية من مثل شخصية السيد كاسوبون في رواية "ميديل مارش" لجورج إليوت -تلك الشخصية التي كانت منهمكة في مهمة عقيمة كتأليف "مفتاح" لكل الأساطير، والتي كانت على جهل مطبق بأحدث ما يدور عن هذا الأمر في الدراسة الأوربية، ومن الجدير بالذكر فعلاً أن الشرق حين يظهر على تلك الوفرة في الأدب الانكليزي في مطلع العصر الفيكتوري يظهر بداهة كشيء غريب وشاذ، ولا يظهر البتة كشيء هام وأساسي بالنسبة للثقافة الأوربية المنظمة، ولكن الوضع الذي كان عليه إدوارد وليام لين كان وضعاً استثنائياً بالطبع، على الرغم من أن عمله لم يكن ينتمي بادئ ذي بدء لعالم الثقافة الرفيعة وإنما لعالم الثقافة المفيدة، ولئن كان بمقدور جورج إليوت أن يقول (تقول) في عام 1856 أن حضارتنا كلها (بمعنى عام جداً) جاءت من الشرق(5)، فمن الهام أن نتذكر لا أن كوينيه كان قد تحدث في فرنسا عن انبعاث شرقي قبل ذلك التاريخ بخمس وعشرين سنة وأن فردريك شليغل كان قد قال شيئاً من هذا القبيل في ألمانياً في عام 1800 وحسب، بل ويجب أن نتذكر أيضاً أن الاحتكاك الثقافي المتتالي لكليهما معاً مع الشرق كان بالأساس وبالحصر من خلال فرع الفيلولوجيا. وحتى هوغو كان قد أعلن عن مثل هذا الشيء في مقدمة كتاب "المستشرقون".
ولو افترضنا، علاوة على ذلك، أن الاستحقار الشهير الذي عبر عنه ماكولي في عام 1835 للأدب في اللغتين السنسكريتية والعربية يمكن اعتباره تعبيراً عن وجهة نظر أوربية عامة بخصوص الضعة الشرقية الحديثة، فإن من الصحيح إلى حد ملفت للنظر أن الشرق -والمقصود هنا الشرق الإسلامي في هذه الحالة- كان قانونياً في إنكلترا أكثر اقتراناً في غالب الأحوال بمشكلات الامبراطورية أو بعفونة التوهم منه بهيبة الثقافة الرفيعة والتعلم المنهجي والمعرفة الفيلولوجية. وإن من الواضح أن آرنولد يعني هذا ضمناً ويأسف عليه بالطبع بمقدار أسفه على ما يتلازم معه أيضاً، ألا وهو العجز الإنكليزي المطلق عن إطراء فرنسا، الأمر الذي يبدو بدوره مقروناً في معظم الأحيان بالتفاهة وبمقدار مماثل من نقصان الجدية الأخلاقية.
وهنا ليس بمقدوري أن أقاوم إغراء الإتيان على ذكر مثل طريف ودقيق عن هذا الموقف الذي يتبدى، تجاه فرنسا والمشرق، في رواية "مرتع الغرور" لثاكاري، فبكي شارب حسناء نصف فرنسية، وهي حقيقة تصمها في المجتمع الإنكليزي بأنها موضع الشبهة علاوة على أنها ليست تحديداً ذات ذوق رفيع.
إن مغامراتها شهيرة جداً إلى الحد الذي يجعلها في غنى عن التلخيص هنا، ولكن مشهداً واحداً كشّاف على وجه التخصيص من جراء الطريقة التي يدل بها على حجم النهاية الوخيمة التي قد تسوقها إليها فرنسيتها وتسلقها الاجتماعي وذوقها المشبوه. وهذا المشهد هو المشهد الذي يدور في (بيت غونت) حين تشارك بيكي، وكانت حينها لا تزال في عصمة زوجها رودون كراولي، في تمثيليات تحزيرية منظمة حول موضوع "العربدة الشرقية". وتبلغ هذه التمثيليات ذروتها في الفصل الثالث الذي تلعب فيه بيكي دور كليمانسترا (وهو الدور الذي لا يناسبها اجتماعياً، ناهيك عن ميلودرامية الدور الحمقاء القذرة).
إن ما يعد العدة لظهورها في ذلك المشهد هو الكاريكاتور التالي عن الخيال الشرقي المجنح:
ويحدث القسم الثاني من تلك التمثيلية، في الوقت الذي لا يزال فيه المشهد شرقياً. فحسن يتخذ، في ثوب آخر، وضعية زليخة المتصالحة معه تماماً. وكيسلر آغا أضحى عبداً طيعاً أسود اللون.إن الوقت وقت شروق الشمس في الصحراء، ولذلك فإن الأتراك يديرون رؤوسهم صوب الشرق ويحنون هاماتهم على الرمل، ولما لم يكن هنالك أية إبل في متناول اليد، فإن الفرقة الموسيقية تعزف بشكل فكه لحن "ها هي الإبل قادمة".ومن ثم يظهر في المشهد رأس ضخم لإنسان مصري. وهو موسيقار ويغني، ويا لدهشة المسافرين الشرقيين، أغنية من تأليف السيد واغ. وهنا ينطلق المسافرون الشرقيون بالرقص، كما يرقص بابا غينو والملك المراكشي في (المزمار *****ي).(6)
وبعد هذا المشهد مباشرة تندفع بيكي على المسرح بدور كليما نسترا "في خيمة يونانية"، في ذلك الدور الذي ابتذل ثوبها وسكونها فيه يدفع أقارب زوجها لإدانة "معروضاتها غير المحتشمة".
ولاحقاً يرتب ثاكاري، وكأنه يريد أن يصل بتلك المسألة إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، عودة ارتباط آميليا بوليام دوبين والاحتفال بذلك في (بومبرنيكل)، وهي البلدة الألمانية التي يشاهد فيها هذان الزوجان المناسبان بعضهما لبعض حفلة لأداء لا التمثيليات التحزيرية الشرقية بل (فيدليو) لبيتهوفن. وفي بلدة (بومبر نيكل) -طبقاً للوصف التفصيلي التام لثاكاري- يقوم ذلك الجسر الذي بناه فيكتور أورليوس الرابع عشر، "وفوق الجسر ينتصب تمثاله محاطاً بحوريات البحر ورموز النصر والسلم والرخاء، وقدمه فوق عنق تركي مطروح على الأرض".(7)
إن ثاكاري لا يشكل استثناء لما هو رأي مروّع تقريباً يحمله الروائيون والشعراء عن الشرق المسلم. فحكايات "ألف ليلة وليلة" مثلاً مقرونة بانتظام بالأحلام المجنحة للطفولة، وهي أحلام مفيدة، وهذا صحيح بيد أنها مطروحة بذلك الشكل الذي يتيح تناسيها سريعاً. تصوروا تصوير وردزورث لها في "المقدمة"، أو فكروا في الإعجاب الذي كانت تستثيره "ألف ليلة وليلة" في نفس نيومان أيام مراهقته، الأمر الذي كان له ميزة إضافية، في حالة نيومان، هي المساعدة في إعداده لاحقاً على الإيمان بالمعجزات. أو خذوا، من جديد، جين آير التي كانت تجد لها ملاذاً في روعة "ألف ليلة وليلة" وفي رومانسيتها اللامعقولة، ومهرباً من تجهم مطلع حياتها في منزل (ريد) ومن ثم لاحقاً في محنتها في مدرسة (لووود). وحتى آرنولد، الذي تدل قصائده العصماء نوعاً ما على أنه كان ينظر إلى تلك المادة نظرة جادة أكثر من غيره، مولعاً أحياناً بربط المبالغة الجمالية أو الأسلوبية بأشياء شرقية على العموم، وعلى الأخص بالفجاجة وقلة التحضر البذيئة. وإن أبرع الإشارات عن الشرق جاء بها عرضاً بايرون في (بيبو) حيث يقول:
عن ذاك كان بحوزتي فن الكتابة اليسيرة فماذا يجب أن تكون القراءة اليسيرة! وأنى لي أن أتسلق برناسوس، حيث عروسات الشعر يجلسن وينظمن تلك القصائد الجميلة التي لن تنقرض البتة، وأنى لي أن أسارع لطباعة حكاية آشورية أو سورية أو يونانية
(ياما أمتع الدنيا).وأسوّق عليكم عينة من أحلى عينات الاستشراق ممزوجة بالنزعة العاطفية الغربية!(8)

إن الجهود الفيلولوجية التي بذلها (لين) تبدو بمثل هذا السياق أكثر خصاباً وتفرداً منها في أي وقت مضى. فبالنسبة لمواطنيه كان الشرق مجرد ذلك المكان الذي يعمل فيه المرء أو يسافر إليه أو يجنّح مع توهماته. لقد كانت الفيلولوجيا الشرقية في إنكلترا موضوعاً ذا أهمية هامشية قصوى، أي مجرد موضوع فيلولوجي عام لا أكثر ولا أقل. وأعتقد أن من الصحيح أن نقول أيضاً أن الإسلام والمعارف العربية كانت، بالنسبة للمثقف الإنكليزي، تمثل على العموم تلك القيم والخبرات والأعراف والنزعات التي احتيازها في غاية اليسر، واستيعابها في غاية السرعة لخيال وقاد أو لطاقة قادرة على التجنيع المحبوك، حتى تكون جديرة بالاحترام. إن المعرفة المشرفية لم تحظ بأي مقام رفيع في إنكلترا إلا بعد أن مضى شوط طويل من ذلك القرن، وأطول بالتأكيد مما كان قد طواه في فرنسا بكثير، لا لأنه لم يكن هنالك أي واحد لا يعرف أي شيء عن الشرق بل لأن التشكيلات الثقافية في إنكلترا كانت تستمد حاجاتها، على نقيض فرنسا، من الدراسة الخاصة والجهد الفردي والتنور الشخصي، أكثر مما كانت تستمدها من الحاضرة والأكاديمية. ولذلك ليس من باب المصادفة في شيء أن توجد جذور الدراسة العربية والإسلامية في الموروث الإنكليزي الحديث لدى (لين)، ذلك المفكر الذي نسبياً ليس بالإنسان الأكاديمي ولا من سكان الحواضر، هذا في حين أن الموروث الفرنسي استهلته لا بل وجسدته أيضاً شخصية أساسية ومؤسساتية، أي ملكية بالفعل، مثل سيلفستردي ساسي.
فعن ساسي قال دوق بروغلي: "إن هذه المؤلفات الضخمة تتسنى للمستشرقين الذين تقاسموا فيما بينهم، علنا وجهاراً، آسيا برمتها، ألا وهي تلك المؤلفات التي تنكشف عن مواصلة حبها لحركات الصوت"(9).
هيا واسمحوا لي أن أقترح فرضيتين أو ثلاث لتوضيح هذا الفرق بين فرنسا وبريطانيا.
فالأولى هي أن المفكرين، في فرنسا بعد الثورة، خضعوا للتنظيم الملكي كي ينشروا إشعاعهم من باريز التي كانت تتحكم بهم تحكماً كاملاً تقريباً، وتمركزوا في معظمهم حصراً في مؤسسات الدولة التي كانت هدفها جعل المعرفة معتمدة على كل ما هو مأذون رسمياً من علوم وهيئات علمية ومعايير رصينة. ولقد جاء آرنولد بمثل هذه الملاحظة ولكنها كانت أضيق نطاقاً بكثير. وأما في إنكلترا، من الناحية الأخرى، فإن "التجميع الاجتماعي الجديد الذي تنامى على أساس الفورة الصناعية الحديثة ينكشف عن تطور اقتصادي مشترك واضح المعالم ولكنه لا يتقدم إلا تقدم السلحفاة في الميدان السياسي/ الثقافي"(10). وما يعنيه هذا هو أن التقدم الفكري في إنكلترا لم يكن متمركزاً، وإنما حدث جراء اقتران عضوي مع التطورات التي قامت في المضمار السياسي/ السوسيولوجي (ومن هنا جاءت هيبة وسطوة الاقتصاد السياسي)، في حين أن قيم طبقة تقليدية من ملاك الأراضي هي التي هيمنت على الثقافة في كل الزوايا كافة، مما يعني، في ميادين كالفيلولوجيا والدراسات التوراتية، أن الهيمنة كانت للآراء التقليدية التي لم تتأثر (حتى أواخر عام 1830، أو حواليه على الأقل) بالتطورات الثورية الأوربية.
وأما الفرضية الثانية فهي الفرضية التي اقترحتها أينما كان فيما يتعلق بالفرق بين الدراسات الشرقية البريطانية والفرنسية: فالإمبراطورية البريطانية كانت أقدم وأكثر اتساعاً من الإمبراطورية الفرنسية، كما أن مكانها في الحياة الثقافية الإنكليزية كواقع وكمصدر أو موضوع للمعرفة كان قائماً على اختلافها وبعدها عن المجتمع المحلي الوطني، فضلاً عن تسخيرها له أخلاقياً(11). فكروا ثانية برواية "مرتع الغرور" أو رواية "جين آير" وسوف ترون ما أحاول الإشارة إليه: ألا وهو الكيفية، مثلاً، التي يجري بها دائماً تنسيب جوسيا سيدلي إلى الهند ولاحقاً بالطبع إلى بيكي وكأن ثاكاري، على الرغم من الثروة الاستعمارية التي تتمتع بها سيدلي، كان يرغب في التوكيد على رفضه الأخلاقي والاجتماعي لاستيعابها في صميم المجتمع الإنكليزي الكيّس. وها هي بيرثا موريس، زوجة روشستر، امرأة هندية غربية، الأمر الذي يجسد حقيقة ما هي بالعرضية للدلالة على بربريتها، ومع ذلك فإن الواجب يقضي بطرد الأرواح الشريرة منها (أو الهيمنة عليها) قبل أن يستطيع روشستر الزواج من جين. فهذه هي الطريقة التي تحاول بها برونتي أن تقول لنا أن مواطني الامبراطورية الوافدين من الأطراف البعيدة مفيدون كمصدر ثروة أو كمحنة أخلاقية لكي يختبرها الرجال والنساء الإنكليزية، ولكنهم ليسوا البتة بشراً جديرين بالقبول في قلب المجتمع المتمدن. إن هذا النمط ليتكرر كثيراً في الكتابة الإنكليزية، ولكنني لا أقصد أن أقول أن الثقافة الفرنسية اتخذت لها موقفاً أكثر رأفة حيال مستعمراتها، بل إن تعاملها معها كان مختلفاً ليس إلا.
وفرضيتي الأخيرة، وقد تكون أكثر الفرضيات الثلاث أهمية، هي الفرضية المطروحة بأكثر الأشكال شفافية وتردداً. فيبدو لي في إنكلترا أن تحدي (الفيلولوجيا الجديدة) للدين كان مجهولاً إلى أن مر نصف القرن تقريباً، أي، إلى حين ظهور "مقالات وتأملات" في عام 1860 تقريباً.
إن الموقف الإنكليزي من اللغة، وفي أوساط الفيلولوجيين والشعراء بالأساس، كان موقفاً دينياً أو فلسفياً إلى حد كبير جداً. فهنالك لما يكن قد قام بعد حتى حينه ذلك الفصل القاطع بين الظاهرة اللغوية وبين الفرضيات المسيحية/ اليهودية عن أصول الأشياء (أو، فيما يتعلق بذلك الأمر، بين اللغة وبين نظرية فلسفية عن العقل) فصلاً كان سمة بارزة (للفيلولوجيا الجديدة) الأوربية. فلقد فهم كولريدج وشيلي، على سبيل المثال، مجرد تشكيلات اللغة كما كان يفهمها أي واحد في أوربا، ولكن لم يتجاوز أي منهما الأفكار عن اللغة التي كانت بمثابة معرفة بديهية لكوندياك أو هيردر أو روسو، أي قبلهما بجيل كامل، أي لم يكن أي واحد منهما، بكلمات أخرى، قادراً على فصل اللغة عن استجلاء الأفكار أو عن الدين. وعلاوة على ذلك لم يكن أي منهما، ولا الفيلولوجيا الإنكليزية كميدان بالتأكيد، قد فهم على ما يبدو اللغة بتلك اللغات الدنيوية، اللغوية المحض، التي جاءت بها (الفيلولوجيا الجديدة).
لقد جئت بهذه الافتراضات الثقافية كمقدمة لموضوعي الرئيسي الذي يتناول لا عمل رينان وماسينون وحسب بل والكيفية التي انطوى فيها عملهما على السلطة الثقافية المركزية التي كانتها في فرنسا، والكيفية التي كان بها عملهما معروفاً ومقبولاً من جمهرة المثقفين الفرنسيين على نحو أفضل مما كان عليه عمل نظرائهم في إنكلترا. إن ما أريد تبيانه هو أن رينان وماسينون كانا جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الفرنسية كل في حقبته -رينان من 1850 إلى 1900 وماسينون من 1900 إلى 1960- كي يخلعا على عملهما عن الإسلام وحتى على الإسلام نفسه منزلة وسلطة بالنسبة للجمهور الثقافي غير الاستشراقي أكبر بكثير مما كان من الممكن أن يتاح في إنكلترا ولربما في أي مكان آخر في الغرب. وبكلمات أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار مواهبهما الفذة ككاتبين نثريين ذوي أسلوب عظيم وكدارسين إسلاميين عظيمين، فإن من الجدير أن نحاول فهم الكيفية التي أتاحت وجود رينان وماسينون في فرنسا فقط، لا في إنكلترا وبالنظر لبعض الأسباب التي جئت على ذكرها حتى الآن. وأنا لا أقصد أن أظهر بمظهر القائل أن الثقافة الفرنسية هي ما أنتجت في رينان وماسينون دارسين للإسلام أسمى بالضرورة من أمثالهما في إنكلترا أو في أي مكان آخر. إن المقارنة مع إنكلترا ما هي بمنتهى البساطة إلا طريقة مفيدة لتبيان الفرق المذهل في الإنتاج والأسلوب الثقافيين.
ولكن هنالك شيء ما يجدر قوله عن أمثال هذه الفروق في الأسلوب والإنتاج. فدراسة الإسلام في الغرب كانت تعيش أزمة حادة. إن الاستشراق الغربي صار يواجه، للمرة الأولى في تاريخه، تعديات على ميادين دراسته الموقوفة عليه من قبل فروع دراسية أخرى (كالعلوم الاجتماعية والماركسية والتحليل النفسي) ومن نفس المنطقة التي كانت هدف الدراسة، والتأثير الإيجابي الخالص لأمثال هذه التعديات هو أن الاستشراق صار لأول مرة مطلوباً منه أن يتفحص بشكل انتقادي لا مجرد صواب أو خطل أسطورته ونتائجها الشكوك وحسب، لا بل وأن يتفحص أيضاً علاقته بكل من الثقافة التي استقي منها والفترة التاريخية التي جيء فيها بأفكاره الرئيسية. وهذا ما يقود إلى السؤال التالي:
كيف يكون الاستشراق قادراً على مساءلة نفسه هذه الأسئلة الحساسة، مع التسليم جدلاً بتكوين الاستشراق كميدان خاص ذي مضمار وتقاليد وتطبيقات علمية قابلة كلها للتمييز؟ وأتصور أن من الصحيح أن نقول أنه في فرنسا، حيث لعبت دراسة الإسلام دوراً مركزياً كرمى له ذاته أكبر بكثير منه في أي مكان آخر في أوربا، تجلت الروابط بين الاستشراق في إطاره العريض، وبين الثقافة والتاريخ المعاصر، على أنها أكثر بروزاً وأكثر وضوحاً وأكثر أهمية لفرع الاستشراق منها في أي مكان آخر.
ولذلك فهنالك قيمة هائلة في دراسة شخصيات نموذجية وشيقة ضمناً من أمثال رينان و ماسينون نظراً لأن مثل هذه الدراسة قد تبين لنا التعاون الواضح بين عملهما وثقافتهما: إذ من خلال الدراسات التاريخية والنقدية يتمكن المستشرقون والمؤرخون الثقافيون والفكريون ونقاد العالم الثالث للاستشراق التقليدي من أن يصدروا حكماً أفضل على الطابع الأقل وضوحاً لدراسات حيز ما" كالاستشراق في الثقافات (كهذا على سبيل المثال) الذي تستند مزاعمه لدراسة مجتمعات أخرى لا على الرأفة ولا على المقام الثقافي بل على موضوعية علمية وفضول فكري نزيه. فرأيي هو أنه حتى لو كان كل من ماسينون ورينان عبقرياً، وكل بطريقته الخاصة، وهني البال مع الثقافة التي كان يخاطبها والتي كانت تعترف بفضله، فلم يكن أي من هذين الرجلين قادراً على أن يفحص بشكل انتقادي تلك الفرضيات والمبادئ التي كان يعتمد عليها عمله. ولسوف أجادل ضمناً أن الميادين الإنسانية المحافظة على تماسكها لا بالنقد ولا بالمعرفة الفكرية، بل بالمقام الاعتباطي للثقافة (كما في فرنسا) أو بالعلم (كما في العالم الأنكلو ساكسوني)، تمحو إمكانية نوع قيم من النقد الذاتي الراديكالي الذي كان يعني، في حالة الاستشراق، الطمس الكامل لتوفر أية إمكانية للاعتراف بأن "المشرق" بحد ذاته شيء أسير التأليف، أو بكونها راغبة في الإقرار بدور السلطة في إنتاج المعرفة. ولقد كانت النتيجة، بالنسبة للاستشراق، تثبيت الذات بالذات والتستر بالطلاسم، مع تقلص حظوظه تقلصاً كبيراً في فهم رؤوف له من قبل ثقافات أخرى، أو من قبل الثقافة نفسها.
وأما من ناحية أخرى فإن رينان وماسينون يساعداننا على معرفة قسط كبير عنهما لا كمجرد رجلين في جعبتهما أشياء نيرة يقولانها عن الإسلام، بل وكرجلين يكشفان العمليات التي تصاغ بها المعرفة. والشيء الشيق عل وجه التخصيص هو أن مشكلاتهما الشخصية واهتماماتهما ونزعاتهما تشكل قسطاً كبيراً جداً من عملهما وموقعهما العامين كمستشرقين. فنحن لن نرى أن الإنسان الخصوصي لا يتدخل في شؤون الإنسان الدارس وحسب، وإنما على العكس من ذلك لأن الاستشراق الفرنسي عمل على تعزيز الشخصية ثقافياً، لا لأن تعزيز الشخصية كان أمراً يسيراً بل لأن علاقة الشخصية بالثقافة كانت شيئاً ذا أهمية قصوى(12).
وهكذا علينا أن نقرأ في ماسينون ورينان وصفاً للعلاقة بين المعرفة وبين الظروف الثقافية والشخصية، والتاريخية بالتأكيد، التي يتم فيها إنتاج المعرفة- وليس من باب المصادفة في شيء أن كان رينان وماسينون معاً حساسين حساسية خاصة تجاه المشكلة، على الرغم من أنهما واجهاها بطريقتين مختلفتين تماماً. إن كلا الرجلين يوظفان نوعاً خاصاً من أنواع الأنتروبولوجيا الثقافية المقارنة، أكثر دقة ومتعة لا أقل، مع أن السلسلة الهرمية التي يستخدمها رينان لإجراء المقارنات لسلسلة أقرب ما تكون إلى السطح، ولذلك فإنها أكثر وضوحاً وصلابة مما هي عليه عند ماسينون. ومع ذلك فإننا نلاحظ أنهما في المكان الذي يوشكان فيه أن يدركا الإسلام، يضلان طريقهما إليه في الوقت نفسه أيضاً. فهذا الدارس منهما يفهم الدين بمصطلحات دنيوية ولكنه لا يفقه في الإسلام ذلك الشيء الذي لا يزال يغذي أشياعه تغذية أصيلة، والآخر يراه بمصطلحات دينية ولكنه يتجاهل إلى حد كبير الفروق الدنيوية التي تقوم في صميم تنوع العالم الإسلامي، وفي كلا هذين الشاهدين، إذاً، يرى الاستشراق نفسه ويصاب بالعمى مما يراه.
***
واحد من الأشياء التي جذبت بالتأكيد ولا بد ماثيو آرنولد إلى ايرنست رينان لم يكن مجرد أن كتابة رينان كتابة مستنقعة بخبرة المجيء بعد فوات الأوان وحسب بل وأن رينان يقدم كل المؤشرات على أنه تخطى تلك المشكلة بمنتهى النجاح. ولكن بالنسبة لآرنولد فإن المجيء بعد فوات الأوان يعني حزناً عميقاً على المعاش في عصر لا يشبه عصر أثينا البريكليسية ولا عصر إنكلترا الأليزابيثية، مع العلم أن هذا الشعور يتخلل نثره أينما كان، ففي قصائد مثل "شاطئ دوفر" و "كنيسة روكبي" و "أشعار الذكريات" المنظومة في عام 1850، هنالك ما ينم عن مشاعر الأسى والغم لكونه افتقد في ذلك العصر شخصية عظيمة كانت تشيع في نفسه الطمأنينة -أباه ووردزورث وغوته. إن الورطة الجديدة التي صار يعيشها آرنولد هي أن ولادته كانت بعد اختفاء عصر خلاق عظيم أو اختفاء شخصية أخلاقية خلاقة عظيمة.
وهنالك ورطة مماثلة بالنسبة لرينان باستثناء أن الفاجعة الكامنة في فقدان شيء ما سرعان ما تحولت مما كان معرضاً أن يكون صدمة شخصية شلاء إلى ظفر عام، ثقافي بالأساس، بالقوة والبهجة والثقة. فكتاب "ذكريات الطفولة والشباب" يتحدث في آن واحد معاً عن فقدانه تزمته الديني والاستعاضة عنه على نحو موات بالفيلولوجيا والعقل و "علم النقد". وإن لدى رينان شيئاً طفيفاً من الاستبطان السقيم -لكنه ليس البتة في شيء من ذلك الحوار الأخفش الذي يتحاوره العقل مع ذاته لدى آرنولد- حتى وهو يتحدث عن نفسه في كتاب "ذكريات.." قائلاً أنه كان في حرب مع نفسه، إذ كان رومانسياً ضد الرومانسية، كتلة من المتناقضات، هذَّار في حديثه كالهذر الذي كان يتحدث به اللاهوتيون السكولاستيون. فدونما حرج قال رينان عن نفسه بأنه كان يفكر كرجل ويشعر كامرأة ويتصرف كطفل، غير أن طريقة المعاش هذه عادت عليه، كما يقول بضرورة ليس بقليل، "بأروع بهجة فكرية ممكنة"(13) إن الجدل اللاهوتي بين الطلبة الشباب في المعهد اللاهوتي كان يتخذ طابع الشكل النصي الواقعي، والفضل كل الفضل يعود لـ (لوهير)، أستاذه الفذ، الذي ساعد رينان على قراءة النصوص المقدسة بلغاتها الأصلية. "فلقد ثبت لي حياتي (م. لوهير)، إذ كنت بالفطرة فيلولوجياً، وكل ما أنا عليه الآن كدارس كان بفضل (م. لوهير). (14) وصادف أن تضمن هذا تلك الحقيقة التي مفادها، وفقاً لما قاله رينان نفسه، أن كلا الرجلين كانا "أنصاف مستعربين" (arabisants médiocres) .
إن النموذج الفكري الذي يدأب رينان على تدوينه دائماً هو ذلك النموذج الذي يمكنه من الإعتراف قائلاً: "وبالنتيجة تغيرت في حياتي تغيراً طفيفاً، وما ذلك إلا لأن القدر أحكم وثاقي وفق مشيئته.
وخصص لي منذ طفولتي الدور والمهمة اللذين كان علي إنجازهما مستقبلاً.(15) فللتعبير عما يعنيه أن يعيش المرء بعد استسلام معتقد ديني متكامل للتصدعات التي صدعتها فيه العقلانية - تلك هي المهمة التي أفصح عنها رينان. بيد أن ما يتعلق بتلك المهمة لهو أكثر من ذلك، كما ستكشفه تواً قراءة دقيقة. إن قسطاً وافياً مما كتبه وبحثه رينان منظم حول إشكالية زمانية وسيكولوجية خاصة بعض الشيء. فرينان، على غرار فيكو وروسو، تقبل الفكرة القائلة أن أصول اللغة والدين كانت لحظات إلهام مشابهة للنشوة الشعرية، أو ربما للنشوة الدينية “raptus” ولكن رينان على نقيض أي واحد من سلفيه لا يبذل جهداً حقيقياً لإعادة بناء، أو حتى لفهم، ما كانت عليه تلك اللحظات فيما يتعلق بمسألة خارجية. إن الإلهام لشيء يقرنه رينان دائماً بحدث حدث مرة واحد وكفى في حيز يستحيل بلوغه، حيز أقدم من زمانه وخارج إطاره أساساً في آن واحد معاً. وحين بدأ رينان بالتعارك مع أصل اللغة في عام 1848 كان راغباً تماماً بالتسليم أن الله قد يكون استهل الأشياء كافة "بالمعنى الذي من الممكن فيه نعت الله، بعد أن وضع في الإنسان كل ما هو ضروري لابتكار اللغة، بأنه كاتب اللغة". ولكن أن يتحدث المرء عن الله بهذا السياق يعني أن يستخدم، كما يتابع رينان أقواله: "عبارة وحيدة ومقلوبة" ولا سيما حين يكون هنالك مزيد من العبارات الطبيعية والفلسفية التي بوسعها القيام بذلك العمل"(16).
من المحتمل أن يكون الإلهام قد حدث أو لم يحدث، بيد أنه ليس بحال من الأحوال ذلك الشيء الذي يحاول رينان تجديده. إن ما يعتبره شيئاً مفروغاً منه هو أنه على الأرض كي يبين الكيفية التي من الممكن فيها لأشياء أخرى أن تحل محل الهيجان البدائي أو الإلهام الأصلي- إلى ذلك الحد الذي صار فيه التاريخ بالنسبة إليه مكافئاً تماماً لكتابته عن التاريخ، ومن الممكن للواحد منهما أن يحل محل الثاني، فمهمة رينان هي القول: إنك لن تستطيع أن تختبر ماضي الزمان، وإنك لن تستطيع أن تغامر بتضييع نفسك في ندب ضياع عالم بدائي بغيض وإلهام كما جنة عدن، لا تنظر إلى ما ضيعته في الواقع بأنه ضياع، لا بل وانظر إليه عوضاً عن ذلك بأنه فضيلة مواجهتي، ومواجهة كتابتي.
ولكن نادراً ما يصاغ هذا الادعاء العام للاتكال على الشخص المحض لرينان ككاتب أو عالم، وذلك لأن كتابته تشكل قسطاً من تلك المغامرة التي تتخطى حدود المغامرة الشخصية التي يدعوها "بالعلم أو علم النقد" في معظم الأوقات، والتي يكمن سبب وجودها لا في أنها تحل محل الإلهام ومحل الأفراد الذين يدعون حيازة الإلهام، بل في أنها أعادت تنظيم الوجود وأي إدراك للوجود بتلك الطريقة التي تجعل الإلهام الديني غير ضروري، إن ثقة رينان فيما تفعل واكتئابه من مهمته لا يتأتيان عن المهمة وحدها وحسب، بل يتأتيان عن كونها محط وساطة ومشروعية شخص عظيم أو مؤسسة عظيمة.. وإن ما رآه رينان بمنتهى المكر، وبمنتهى الصواب على ما أظن، هو ذلك المدى الذي كانت تعتمد فيه أمور من أمثال العبقرية والوحي أو الإلهام على توهمات الفرد أو على مواهبه الفطرية أو عباداته الشخصية. فعلى نقيض التلميذ الغجري الذي كان، لدى آرنولدد، ينتظر عبثاً هبوط وميض من السماء، انطلق رينان منطقياً بمسعاه الجاد كعالم عموماً، وكفيلولوجي خصوصاً، استناداً إلى ذلك التصور الذي مؤاده أنه إن كان هنالك ثمة سماء أو وميض، فإنه لن يكون الإنسان الذي سيستفيد منهما، فزمانه ما كان بالزمن الماضي- ألا وهو ذلك الموضع الذي يضع المرء فيه النسغ الأصلي "originale séve” الذي أشار إليه في حديثه عن الأيام الأول للوحي الديني- وإنما الزمن الحاضر، بل والمستقبل لو توخى الدقة. ولذلك كان من الضروري الغوص في معارف كالفيلولوجيا التي ابتعدت بالتاريخ عن المشكلات الوجودية للوحي الديني وجاءت به نحو ما كانت دراسته ممكنة، نحو تلك الأشياء الحقيقية التي كانت لا تزال تؤرق الجنس البشري بعد مضي ردح طويل من الزمن على خمود جذوة الهيجان البدائي (أو الوحي الديني فيما يتعلق بذلك الأمر) خموداً تاماً. وهكذا فإن الحياة المسلكية لهذا الإنسان حازت على صياغتها في صميم هذا الواقع اليسير المنال، أي في الثقافة الحديثة كما عرّفها رينان بالطبع، وتحت إشراف أساتذة مثل (لوهير) الذي أكد على أصالة المواهب الثقافية لدى ذلك الشاب.
ولكن الفيلولوجيا لا تحل بمنتهى البساطة محل الدين أو الموقف الديني حالما يبادر المرء لدراسة اللغة، بل إن الفيلولوجيا، بناء على ما يقوله رينان في "أصل اللغة" تحول اهتمام الفرد من احتمال كون اللغة نتيجة سبب خارجي وسابق (كالله مثلاً) إلى اليقين بأن اللغة كانت "تلك العضوية التي تتمتع بحياة خاصة"، الأمر الذي يوجب دراستها في "علم الحياة". وهكذا فإن الفيلولوجيا تأخذ اللغة وتعيد نقلها من الماضي إلى الحاضر، وتعيد تنظيمها ضمن "ميدانها الحقيقي"، أي ضمن "الشعور النقدي" الذي يفعل فعله في الحاضر وفي المستقبل أيضاً. وهكذا فإن مهمة الفيلولوجي يجب أن تكون الربط بين تلك اللحظة التي تلت تواً ومباشرة نزول اللغة وولادتها وبين الزمن الحاضر، وبعدئذ تبيان كيفية كينونة الشبكة الكثيفة للعلاقات بين مستخدمي اللغة واقعاً دنيوياً عنه سينبثق المستقبل. ولقد ظل رينان أميناً أمانة فائقة لهذا المشروع: فكل دراساته الدينية والفيلولوجية العميقة عالجت ما بمقدونا أن ندعوه بالعقابيل، أي تلك الحالة التي أعقبت للتو الحالة البدائية والتي شكل وجودها الوحيد، بالنسبة للفيلولوجي، لا شكل إيمان المؤمن أو شكل التعاقب النبوي أو شكل جماعة حية، بل مجموعة من النصوص التي تتيح للفيلولوجي أن يميز فيها كل تلك المساوئ والفضائل الخبيئة خلف السجود في الصلوات والإعلانات عن الإيمان والآلام التي عاناها الشهداء فلقد قام رينان بعمله بأدوات استقصاء حديثة، وكانت نقطة انطلاقه نقطة انطلاق محترف دنيوي أحكامه اعتمدت على تلك الحقيقة التي لا يرقى إليها الشك، والساخرة إلى حد كبير، والتي مفادها أن الثقافة، على الرغم من الوحي، تقدمت بالعلم الذي خلّف الدين وراءه على بعد أشواط وأشواط.
إن وجهة النظر هذه هي المسؤولة بالتحديد عن رؤية رينان للإسلام رؤية راديكالية لا تقبل المساومة. ولكن قبل إقدامي على بحث ذلك يجب علي أن أقول بضعة أشياء إضافية عن آراء رينان بخصوص الثقافة والعلم.
إن النص العويص هنا هو "مستقبل العلم" المنشور في عام 1890 بيد أنه مكتوب أصلاً في عام 1848. ويجب علي بادئ ذي بدء أن أعترف بأن الثقة العمياء للكتاب ومناخ الإجلال الذاتي فيه أمران منفران. ولكن الكتاب، كائناً ما يكون وضعه، كتاب هام جداً بالنسبة لرينان، ففيه يتقصد بمنتهى الوضوح أن يضع نفسه في صميم الثقافة الحديثة -التي هي في جوهرها فيلولوجية كما يقول -الأمر الذي يسوقه للدفاع عنها بنفس المقدار الذي يتحدث فيه عنها. إن العنوان ليفصح عن أن العلم هو المستقبل ويفصح، أكثر من ذلك، عن أن العلم سوف يغير الحياة البشرية إلى ذلك الحد الكبير الذي سيتيح حتى إدراك الله نفسه. "ولما كان القول الفصل للعلم الحديث فإنه رتب الإنسانية بشكل علمي... وبعد ترتيبه الإنسانية سيرتب أمر الله"(18) والشيء الممتع هو أن رينان يرى هذا الأمر على قدم وساق كنتيجة لتغيّر المنظور الذي نجم عن الاكتشاف العلمي الحديث. وهكذا ففي الوقت الذي كان فيه العالم القديم (وقد كان يعني بذلك العلم الديني) مغلقاً وضيقاً، فإن العالم العلمي الجديد الذي خلقه (همبولت) لعالم مفتوح وغني ومليء بالاحتمالات. فهنا تم إلغاء الماضي إلغاءً تاماً، وإعادة تقييمه بناء على معايير جديدة، وتحويله إلى شيء لا يستطيع استغلاله والعربدة فيه والشعور حياله بشعور الإبداع إلا العقل الجسور والاستقصائي عقلانياً(19). وإن ما يقصده رينان ضمناً بمنتهى الوضوح، على الرغم من أنه لا يقوله بصراحة، هو أن الثقافة الفيلولوجية التي هو ممثلها الموثوق تهيمن على ذلك الميدان العقلاني الذي برز كنتيجة للاكتشاف العلمي الحديث. وبناء على ذلك فثمة ثلاثة مواقع متحدة المركز تحظى بالمشروعية. فعلى السطح الخارجي يقوم الغلاف المادي الذي تقوم أقدم تخومه بتحديد المكان الذي يبرز منه العالم المفتوح اللاحق للعالم البدائي، وفي صميم ذلك تقوم الثقافة نفسها، تاريخية وفيلولوجية، في معالجتها كل نواتج التاريخ البشري، وفي صميم هذا الموقع الثالث، في قلبه، يجثم الفيلولوجي الذي يدفع بنشاطه التاريخ البشري إلى الأمام. إن كل موقع من هذه المواقع وكل مكان من هذه الأمكنة يعزز الآخر، علاوة على أن أي موقع من الثلاثة يجعل الاثنين الآخرين ممكنيين. "أنا الذي نقش اسمه في الصميم كي ينشر العطر على كل شيء.
وهأنذا أنظم وأقارن لكي أتوصل من ثم إلى منهج الأشياء(20). فعلى الرغم من أن تلك الأنا (moi) المتغطرسة تبدو وحيدة بأم عينها، فإنها في الحقيقة تحظى لها بالتعزيز من كل أنواع المؤسسات والشخصيات التي تمنحها السلطان والوقار: فلا همبولت وحده، بل وكوسين وبورنوف ولوهير وكوفييه وسانت هيلاري -كلهم كرينان يلعبون دوراً مركزياً بالنسبة للفعاليات الأساسية في الحياة الحديثة.
إن مقارنة عاجلة بآرنولد لشيء تنويري هنا: ففي كتاب "الثقافة والفوضى" قال آرنولد عن الناقد بأنه إذا لم يقع فريسة للمصالح الطبقية الضيقة (برابرة أو رعاع أو همج) وإذا أراد أن يكون ناقداً نزيهاً بالفعل، يجب عليه أن ينتمي إلى زمرة جريئة مكونة من رجالات الثقافة. وإن هؤلاء المخلوقات هم من يمكن أن ندعوهم بذوي المرتبة المتواضعة، ومن الواضح وضوح الشمس أن رينان ليس واحداً من هؤلاء. فكل ما حوله ينشر إشعاع سلطان المؤسسات المركزية الكبيرة كالمدارس والمعارف والهيئات الثقافية وزمر التعاون المنظمة كلها على شكل تسلسل هرمي من عمال علميين. إن مثل هذا الجهاز الدائر بمنتهى الرفق بالنسبة لرينان، لا كما دعاه آرنولد بالآلية وحسب، هو الفيض الحقيقي للوجود التالي للوجود السريع الزوال. وبعيداً عن معالجة رينان لهذا كله وكأنه مجرد ملحق ثانوي لسقم الحياة بدون إلهام، فإنه يطلق حكمه على هذا المشروع الكثيف برمته بأنه الحياة الحديثة، وبأبهى مظهر لها.
فلا عجب إذاً أن يظهر الإسلام بهذا المظهر الرديء جداً. وذلك لأن الإسلام، كما قال رينان في مناسبات عديدة جداً، هو ذلك الدين الذي لم يتظاهر مؤسسه البتة، حتى مجرد تظاهر، بالقداسة، ولم يتظاهر بالأصالة الحقيقية أكثر مما سبق بكثير. فلئن تمكن رينان من معالجة أديان منظمة كاليهودية والمسيحية بأنهما جاءتا بعد تصادف مؤسسيهما بالمقدس، فكيف كان بمقدوره أن يعامل محمداً معاملة مختلفة عما عامله كآخر وافد من الوافدين بعد فوات الأوان؟ فلا سر ولا معجزات ولا قدسية، ولا حتى نساء كما يقول في فقرة رائعة حوالي نهاية كتابه المعنون بـ "محمد وأصول المذهب الإسلامي"(21) إن الإسلام بكلمات أخرى مفتوح كله على الحاضر، ولن يبقى على قيد الحياة في المستقبل، علاوة على أنه لا يقدم أي شيء مهم لأي إنسان يحاول إحياء ماض ديني غامض في غابر الأزمان. إنه عقيم وعاجز عن تجديد نفسه تجديداً حقيقياً، ولسوف يتلاشى برمته تحت تأثير العلم الغربي الحديث.
إن تلاشي الإسلام لهو الشيء الذي تعهد رينان التعجيل به إلى حد معين، وقد فعل ذلك بالإصرار على آرائه عن الثقافة والعلم إصراراً يفضي إلى فتور أكيد. ففي عام 1883 ألقى محاضرة في السوربون بعنوان "الإسلام والعلم" وكانت بمثابة ملحق مناوئ لـِ "مستقبل العلم": فالإسلام في هذه المحاضرة هو النقيض عينه للعلم والمستقبل. إن أكثر الأشياء التي تتكشف عنها المحاضرة إصرار رينان على أن الثقافة الإسلامية هي حصراً لا بالعلم ولا بالفلسفة (كما كان قد أكد كتابه عن ابن رشد)، بل مجرد لغة (وشاهده هنا هو أبو الفرج). فلغة الإسلام، وقد انقصّت من جذورها في إلهام قديم، أو حتى في علاقة حميمة مع القداسة، ليست باللغة الملائمة لتغذية العلم. إن الإسلام ولغته العربية، على النقيض مما قيل آنفاً، يجسدان الكراهية للعقل، ونهاية الفلسفة العقلانية، وعداوة متواصلة للتقدم. "لم يكن الإسلام، بالنسبة للعقل البشري، إلا مؤذياً.(22) فلم بالضبط؟ لأنه جعل من البلدان التي حكمها "ميداناً مغلقاً". أي أن الإسلام، بكلمات أخرى، أعاد الإنسان إلى عالم البدائيين المغلق وابتعد به عن العالم المفتوح للعلم الحديث.
فيما أن الإسلام جاء بعد اليهودية والمسيحية بزمن طويل، فقد ارتبط بعصر أقدم، عصر الجهد البشري الجهيض الواهن الذي لم تكن لديه ذكرى الإلهام الفياض بالحيوية المطلوبة لإرشاده. وهكذا فإن خدمته لمن يمارس الثقافة الأوربية الحديثة كانت بمثابة الدليل السلبي لقانون التقدم.
إن المغالطة العجيبة في صميم رؤية رينان للإسلام لا تجد لها حلاًّ إلا حين نفهمه بأنه يستبقي الإسلام حياً لكي يباشر تقويضه، في كتابته الفيلولوجية، معاملاً إياه كدين لا لشيء إلا لكي يبين الجدب الأساسي في جوهره الديني، مذكراً إياناً أن الإسلام، حتى لو كانت كل الأديان أساساً بمثابة الحواشي الملحقة بإلهامات تلاشت إلى الأبد، كان مهما لأي فيلولوجي كحاشية لحاشية أخرى ليس إلا، كأثر لأثر آخر وحسب ولما كان الواقع على هذا النحو فقد كان يشكل تحدياً للفيلولوجي الذي، في حديثه دفاعاً عن الثقافة الغربية، كان يثبت المنزع الدنيوي الجديد في ذلك الحيز الفارغ المفتوح لا نظراً لاضمحلال الدين، كما كان يعتقد رينان، بل نظراً للامبالاة جوهر الدين نفسه بالعلم والثقافة تلك اللامبالاة المتواصلة، ألا وهو ذلك الجوهر الذي كان يعود إليه على غير دراية منه في كتاب إثر كتاب آخر وخلاّه بلا مساس تماماً.
فرينان لم يعالج البتة بالفعل الواقع الدنيوي للأديان في إصرارها على وجودها كما هو عليه واقع الأمر بالنسبة للإسلام، أي تلك الأديان التي لا يزال بمقدورها أن تحافظ على وجودها وأن تكون قوية حتى في عصر بوسعه أن يبرهن ثقافياً بدون أدنى شك على أن الدين شيء من غابر الأزمان. وإن هذه الورطة هي الورطة الثقافية لرينان وبؤرة العمه فيها كائناً ما كان عمق اعتقاده بنفسه أنه قد تحظى الدين وتسامى عليه.
إن كل ذلك العمل الضخم الذي أنجزه ماسينون يتوجه صوب هذه المسألة بالضبط، أي مسألة بقاء الدين على قيد الحياة: فماسينون يجلوها ويعيشها مرة أخرى ويتعلق بها، ويكتبها ويعيد كتابتها بعبقرية وتبصّر لا نظير لهما. وما هذا القول إلا طريقة أخرى للقول بأن المهمة الفيلولوجية الكامنة في صميم الثقافة الفرنسية تتعرض للتحول التام على يدي ماسينون. فها نحن الآن نتعامل مع عقل ذي شأن من نوع آخر، ومع خبرة عميقة ورائعة حتى إن تماثلاتها ودعاماتها الثقافية الجليلة ما هي إلا جمالية وسيكولوجية، وما هي بالمؤسساتية والأكاديمية كما كانت عليه الحال لدى رينان. ولكي نفهم ماسينون علينا أن نقدم كل شيء أفضل، أي على قراءة مالارميه ورامبو أكثر من قراءة سيلفين ليفي. ومع ذلك فالنظرة إلى ماسينون يجب أن تكون أنه، بشكل لا يقل عن رينان، ضمن تلك البنية العظيمة كهيمنة الفرنسية على العالم الإسلامي هيمنة ثقافية وسياسية واستعمارية. فكل منهما، بطيقة مختلفة جداً، يسلم جدلاً أن هنالك مهمة فرنسية خاصة للعالم الإسلامي وفيه، ولكن في الوقت الذي كان رينان يراها تكوين رأي عنه ابتغاء الفتك به في خاتمة المطاف، كان ماسينون يراها وجوب تفهمه والشعور بالرأفة حياله ومن ثم البقاء في آخر الأمر على انسجام مع كروبه وحاجاته وورطته القدسية. إن الموقف المعرفي لرينان من الإسلام هو، إذاً، موقف تعرية له وإصدار حكم عليه، في حين أن موقف ماسينون موقف الاحتضان والتقارب الودي. فما كان أي منهما ليشك بأن من الممكن للإسلام أن يكون موضوعاً للدراسة أمام الدارس الأوربي، باعتبار أنهما يفترضان بداهة أن الدراسة المعمقة تحل كل العقبات، وتيّسر احتياز كل الأشياء، ويمكنها تصوير أي شيء، بالحكم النقاد والنبذ بالنسبة لرينان، وبالرأفة الودود بالنسبة لماسينون.
إن ما هو على أوثق ارتباط بالموضوع بالنسبة لكل من يحاول أن يفهم نقدياً جوهر الاستشراق الحديث هو أن المرء ليواجه في قراءة رينان عقلاً نيراً قادراً على الإتيان بكل أنواع الفروق الدقيقة، ورجلاً يتجسد مشروعه الرئيسي في طي صفحة الإسلام. وإن رينان، لا الإسلام، هو الذي يخلف المرء في خاتمة المطاف طبعاً وبحوزته الانطباع عن شيء محدود وسطحي وغير حماسي. والعكس هو الصحيح عن ماسينون الذي سأحاول في بقية هذه المقالة أن أشير إلى بعض الطرائق التي يتحدى بها هذا المتبحر العظيم التحليل الروتيني، والذي يمكن اعتباره أيضاً جزءاً من الاستشراق. ففي عمله، الذي يغطي تقريباً الستين سنة الأولى من هذا القرن، يجد القارئ تجسيداً لا لمجرد تلك البانوراما الهائلة للثقافة الفكرية الفرنسية وحسب (في نسختها الكاثوليكية الرفيعة)، بل ويجد أيضاً أعظم المشكلات الكامنة في الاجتياح الاستعماري وفي الانسحاب الاستعماري. وعلاوة على ذلك فإن ماسينون يعالج أموراً معقدة كحركة الإصلاح في الإسلام، والعلاقة بين الإسلام والمسيحية والمجابهة بين العلم والوحي وعلم اللغة والأنتروبولوجيا، ومواجهة التحليل النفسي للفيلولوجيا والدين والإيمان، ويكشف قبل هذا وذاك عن تلك الصراعات التي يخوضها عقل مصقول وقوي إلى أبعد الحدود إبان تعامله مع معظم مؤسسات الإيمان ومع الثقافة التقليدية والحديثة سواء بسواء، وهو في غمرة نشاطه الدائب في الحكومة والأكاديمية والكنيسة.
فماسينون هو النقيض الحقيقي لرينان في مسألة الوحي. إذ في الوقت الذي يتحدث فيه رينان ويكتب بعد أن كان قد قرر سلفاً أن الوحي لم يعد يتعارض مع الحداثة، فإن مجمل الحياة المسلكية لماسينون تنبثق من قلب لحظة وهي في عام 1907. وهاكم هنا كيف يصف تلك اللحظة بلغة إنكليزية طريفة ومغلوطة بيد أنها مثيرة للأشجان إلى حد ما:
بعد دراستي السنسكريتية (ومخطوطات آنغور) عمدت لدراسة العربية والبلدان المسلمة، وسافرت طيلة سنوات على تخوم الصحراء العربية في أفريقيا وآسيا، وخضت كما يجب غمار صراعات عديدة، وعلى حين غرة داهمني نور الوحي. ومع أنني كنت متخفياً ووقعت ضحية الأسر على تخوم الصحراء وحقول الأرز في العراق، فما كان بمقدوري أن أتخلص من ضربة الشمس عند الظهيرة والحفاظ في الوقت نفسه على الومضات الخفيفة عند الفجر لتلك الأساطير الشعبية السلفية. وفضلاً عن ذلك عادت هذه الأساطير الشعبية حية في ذاكرتي حين اكتشفت في الإسلام رموزاً دينية مماثلة للثقافة التقليدية عند الفلاحين، وخاصة في إسلام بلدان الرياح الموسمية الممتدة من الجزيرة العربية ذات البخور إلى إندونيسيا ذات التوابل(23).
هذا مكتوب في عام 1959، أي قبل وفاته بثلاث سنوات، فماسينون يربط تلك الخبرة بالتبجيل المفاجئ الذي يحل به أبوه الفن الياباني في عام 1890، ذلك التبجيل الذي صار يشعر، على أثره، بنوع من التوقير تجاه حتى الورق الذي كانت التصاوير منقوشة عليه. إن ما كان عليه الورق بالنسبة للأب صارت عليه اللغة بالنسبة للإبن. "إن الكلام البشري ما هو إلا نداء شخصي برز إلى الوجود كي يخرجنا من أنفسنا، من بلادنا، من تربتنا، وليذهب بنا باتجاه الحب"(24). وهنالك شيء من التماثل لكلا مظهري هذه الخبرة في الاكتشاف الثاني الذي اكتشف فيه مارسيل "فرانسوا لوشامبي" لجورج صاند في مكتبة غورمانتس، حوالي نهاية "الزمن الموجود" لبروست. إن دمجاً لا إرادياً لوضعين منفصلين يجتث بلمح البصر على ما يبدو كروب المسافة والزمان والهوية. فما يفهمه ماسينون الكهل هو الهوية المادية لعمله وللفن الياباني، إذ كان بالمناسبة نحاتاً. ولكن ما يعطاه الابن في الوحي يأتيه مباشرة من الكلمة المنطوقة، علاوة على أن مهمته كفيلولوجي تتمثل في أن يرى كيف أن النصوص في لغة أجنبية تتضمن ذلك الحضور المقدس الذي تمثله أية لفظة في هذه اللغة، فضلاً عن شهادتها على وجوده.
ولكن ماسينون ليس مشوقاً لمفكر حديث لمجرد أن وحياً تسنى إليه وتذكره من ثم في عمله. ويمكننا أن نقول أن ماسينون كان، إن أعدنا صياغة قول سارتر عن فاليري، ذلك الرجل الذي كانت له حياة روحية غنية، ولكن ليس كل من لديه حياة روحية غنية بكون صنو ماسينون، فالسؤال عما يعطي حياته المسلكية قوتها الراسخة هويتها البينة من البداية حتى النهاية يمكن الإجابة عليه بعبارات فكرية. ويمكننا أن نقول، لا بمقصد تبسيط ماسينون أو الاستخفاف برأيه، أن اللغة والثقافة إن كانتا جديرتين بالمعالجة فيلولوجياً في منظور زماني كمظهرين لدراسة رموز الحقب التاريخية، كما يرى رينان، فإن مشكلات اللغة ومشكلات المهمة الفيلولوجية موضع دراسة ماسينون في صميم منظور مكاني “spatial” كمظهرين لدراسة المسافات والتمايز الجغرافي وكائنات مكانية معزولة بعضها عن بعض بصقع ما يفرض على الدارس أن تكون مهمته رسم خريطته بالدقة الممكنة، والانتصار عليه بعدئذ بطريقة أو بأخرى. فالتنظيم الكامن في العمل المترامي الأطراف لماسينون هو الحقيقة الكلية الوجود للمسافة، حقيقة تواجد وحدات منفصلة حتى في لحظة الوحي، وبكلمات أخرى يحاول ماسينون أن يختبر أساساً المسافة بين الإسلام والمسيحية كشكل مختلف عن المسافة بين الإنسان والله أو بين الكلمة والروح.
وهكذا فقد تفحص الإسلام لا كشيء بحد ذاته بمنتهى البساطة، بل كظاهرة متميزة، كشيء موضع الشعور به في الجزيرة العربية وإندونيسيا ومراكش، ولكن لا في فرنسا أو في إنكلترا على سبيل المثال. ولقد حاول مالارميه، بالطريقة نفسها تقريباً، فهم اللغة كتفاعل بين الأسود والأبيض، كما أن بروست حاول استنباط طريقة لتقليص المسافة بين الماضي والحاضر، وذلك بعد أن اختبر تماماً المسافة بينهما وحافظ على هوية الإثنين. إن منهج ماسينون لا ينبثق عن العادة المسيحية، عادة الشهادة والرأفة، وحسب، لا بل وينبثق أيضاً عن علم جمال رمزية مؤخر القرن التاسع عشر، تلك الرمزية التي يتعايش فيها شيء في اللغة مع غيابه، والتي فيها وضع الأشياء في مواضعها ونزعها منها -لعبة المبادلات التي تلعبها- هما ما تجسدهما اللغة.
هنالك أمثلة عديدة عن هذا في عمل ماسينون، إلى ذلك الحد الذي يجعل تكرير بعضها يقدم فكرة كاملة عن هذا الإجراء، وإن اهتمامه بالحلاج لمثل من أوضح الأمثلة بالتأكيد باعتبار أن الحلاج هو الشخصية الرئيسية القوية جداً في الأعمال الكاملة لماسينون. لقد كان منصور الحلاج قديساً مسلماً بغدادياً في القرن العاشر كان مصيره الاستشهاد لأنه تجرأ لا على الاقتراب مباشرة من الله وحسب بل ولأنه تحدث عن نفسه باعتباره الحقيقة أيضاً، كنوع من أنواع التجسد المسيحي الشامل. فلا لأن الحلاج نفسه جسد مثلاً من أمثلة استبدال شيء بشيء آخر في رجل واحد نفسه (البشري والمقدس كقول الحلاج أنا الحق)، بل لأن خبرات الحلاج الإسلامية تتماثل مع التصوفات المسيحية الأوربية على الرغم من ابتعادها عنها مسافة شاسعة. وضمن هذا السياق هنالك "الخبرة الصوفية ونماذج النهج الأدبي" (1927) حيث يقارن ماسينون بين التقنيات اللفظية لكتاب أوربيين من أمثال إكارت والقديس جون الصليب وكلوديل، وبين تقنيات الشعراء المسلمين المتدينين، ومن الجدير بالذكر بخصوص هذه المقارنات هو أنها لا تبين التشابهات في التعابير وحسب، لا بل وتبين أيضاً أنها دقيقة ومحكمة على الرغم من "تمايز" الظروف الجغرافية الفاصلة فيما بينها. وإن ماسينون ليحافظ، حتى في تحليلاته للمواجهات الصوفية الأوربية والمشرقية مع المقدس، على ما كنت دعوته بورطته في دراسة الرموز: إذ إن اهتمامه بالتشبه الكامل الذي يتشبهه الإنسان بالله لأقل من اهتمامه بالصراع الباطني بين الإنسان والله وبين الإنسان والإنسان، صراعاً يغامر فيه الإنسان بفقدان تطابقه مع الله.
إن التاريخ مؤلف، كما يقول ماسينون، من سلاسل مشاهدات فردية متناثرة هنا وهناك في طول وعرض أوربا والمشرق حيث يشفع بعضها لبعض وتنوب واحدتها مناب الأخرى. فالمبادلة تعني ضمناً سلسلة متواصلة من التبادل الكرار إلى ما لانهاية له، ألا وهي تلك السلسلة التي يوجد فيها شيء قادر على الحلول محل غيره بشكل مستديم. ولقد كان الإسلام، بالنسبة لماسينون، بمثابة الشيء الذي، على الرغم من ظهور الحلاج وأمثاله من حين إلى حين وعلى الرغم من كونه ديناً ابراهيمياً، من الممكن وصفه بأنه البدل الناقص للمسيحية في الشرق. فماسينون كان يرى أن الإسلام والمسيحية يتبادلان عملية الزحزحة فيما بين بعضهما بعضاً، وأن هوية الإسلام تكمن في مقاومته التجسيد المسيحي وصلابة موقفه إزاء ذلك التجسيد. ولما كان الأمر على هذا النحو فقد جذبه الإسلام إليه وقاوم الإنسان المسيحي في صميمه، على الرغم من أنه كان يتصور -وهنا مكمن العبقرية الفذة عند هذا الرجل- عمله الفيلولوجي علماً رؤوفاً كونه يفسح مجالاً للإسلام والمسيحية أن يدنو واحدهما من الآخر وأن يحل محله، مع بقائهما منفصلين لديمومة حلول واحدهما محل الآخر. وعلاوة على ذلك فإن المجموعة الخاصة التي وطد أركانها للعبادة دعيت بـ "المجموعة الدينية البدلية" التي تشير "نصوص الفرائض" فيها إلى أن "البدلية تستوجب النفاذ إلى الأعماق نفاذاً يتأتى عن الوصل بين الأعماق وبين العناية الفائقة بحياة العائلات وبين الأجيال المسلمة ماضياً وحاضراً(25).
إن ما يكمن خلف فكرة المبادلة هو النقيضة الموجودة أبداً بين الشيئين البديلين لبعضهما بعضاً. فالمسيح كقربان ما هو بمنتهى الجلاء إلا البديل الأسمى لكونه ضحية قربانية عن البشر أجمعين ولكونه ابن الله في آن واحد معاً. فالمسيحية كمنظومة دينية، كطقوس دينية، كلغة، مبنية من صميم تلك النقيضة الجوهرية. وإن صرامة منهج ماسينون لصرامة تتنطح لنقل هذه النقيضة والمبادلة الدينية إلى ميدان اللغات ومن هناك إلى العربية والإسلام.
فاللغة "حج وتزحزح روحي" وذلك لأننا لا نحبك اللغة إلا لكي نتمكن من الخروج من أنفسنا صوب آخر ما. ولكي نستحضر وهذا الآخر إلهاً غائباً، الشخص الثالث، "الغايب" كما ينعت النحاة العرب الله. ونحن نفعل هذا الشيء بغية اكتشاف كل هذه الكينونات ومطابقة الواحدة منها مع كل واحدة أخرى. فهذا ما يمكننا من نقل مشاهدتنا إلى الله، لأن الله هو الحقيقة بعد أن تقبلناه بمقتضى موافقة القلب على ذلك، وإن هذا الوجود، أو الكون (be) ، مذكور ثماني مرات في القرآن تعبيراً فيها كلها عن "كلمة الله (العقل)، ويسوع بن مريم" ويوم الدين(26).
إن ماسينون يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ويستشهد هذه المرة بمالارميه. فالكلمات تدل بمعنى ما، كما يقول، على غياب “maanque” ، بيد أن أهمية اللغة المنطوقة في العربية هي أنها (شهادة)، وإذا اشتط بنا المسار إلى شكلها النحوي الأخير فتعني (الشهيد). فلكي تشهد يعني أن تتكلم، وأن تتكلم يعني أن تخرج من نفسك صوب آخر، ان تزحزح الذات بغية إيواء آخر، أي نقيضك وضيفك، لا بل وحتى إنساناً آخر غائباً ممن غيابه يناقض حضورك أنت. ومن سخرية الأقدار أنك لن تستطيع البتة أن تتلاقى مع الآخر: فشهادتك تستطيع في أحسن الأحوال أن تؤوي الآخر، وهذا هو بالطبع ما تفعله اللغة، وهو نقيضة الحضور والغياب باستثناء أن الذات، في حالة "الشهيد"، تمحى كرمى للآخر الذي يصير من جراء محبة الشهيد أكثر بعداً، كائناً أكثر آخرية مما كان عليه من قبل. وهذه هي التضحية الأسمى، الجلال الأسمى، والنقيضة الأسمى بالطبع: إنها الخزي البشري والحب القدسي، وهي النقاء الممزِّق “déchirante pureté” لمنصور الحلاج الذي كان انتهاكه الحرمات يتمثل في أنه تجاسر على تجاوز الإسلام والانطلاق باتجاه المسيحية والله. وكما عبر عن هذه الحالة بييردو فوكو بقوله "حين يختار الله شهيداً، حتى في أكثر الميادين تواضعاً، فإن الله يحول شكل ذلك الشهيد إلى إنسان ما، إنسان يبغضه الآخرون ويعجزون عن إدراكه"(27).
فكل كتابة ماسينون برمتها تشكل كوكبة من الصور حول هذه الأفكار. فاللغة العربية عالم مغلق فيه بالتأكيد عدد من النجوم، وعالم ما أن يدخله الدارس حتى يجد نفسه في موطنه ومستبعداً عن عالمه الخاص(28). وهكذا فثمة زوج مركزي من الصور هو صورة الضيف وصورة المضيف. لاحظوا كيف أن هنالك دائماً نقيضة تستوجب المواجهة وقطباها يسمحان للمرء أن يقطع المسافة من اللغة إلى الدين وأن يعود أدراجه مرة ثانية: من العربية إلى الفرنسية، من الإسلام إلى المسيحية، ومن ثم عود على بدء مرة أخرى. وفي صميم كل قطب من النقيضة هنالك المزيد من النقيضات -ففي العربية على سبيل المثال، هنالك فروق موضحة، وهي الفروق التي تعمق الانفصال، فماسينون يسم العربية بأنها أساساً لغة التركيز والانفصال التي حروفها الساكنة على السطر بمثابة الجسد، في حين أن أحرف العلة فوق السطر أو تحت السطر بمثابة الروح، وما ذلك الوسم إلا جزء من النقيضة الأصلية عن التناوب بين الحضور والغياب. وإن الخبرات والشعائر الدينية التي يوليها اهتمامه على وجه التخصيص (كالمباهلة مثلاً)، تكرر أيضاً طقس المبادلة والمقاومة.
وعلى نحو مماثل فإن أسلوب ماسينون، وبنفس مقدار موضوعه، لأسلوب متقطع ومبتور- وقد كان بكل تأكيد واحداً من الأساليب الفرنسية العظيمة في ذلك القرن- وكأنه كان يتمنى على الدوام تجسيد البعد وتناوب الحضور والغياب، ومفارقة الرأفة والتنفير، وموضوع الإيواء والاستبعاد، والوقار والعار، والصلاة الابتهالية والحب الشفوق، وقبل هذا وذاك نجد عند ماسينون التناوب المتواصل للبعد والقرب بين الإسلام والمسيحية بحيث أن عمله كان يجسد على الدوام الفكرة الأساسية للمبادلة، للجذب والنبذ نفسيهما. ولذلك فلشكل صلاة الابتهال ضمّن ماسينون عمله الفلسفي فكرة التضحية الرحيمة البديلة، التي صيغتها المسيحية هي بالطبع آلام المسيح، والتي صيغتها اليونانية القديمة هي ما تدعى "pharmakos" ، في حين أن صيغتها الإسلامية هي الأبدال.
ومن الممكن أن تكون أفكار ماسينون عن التضحية قد جاءته من جوزيف دوميسر ومن آلفريد لويسي، بيد أنه خلع على تلك الأفكار صيغته المميزة. فلئن كانت الكلمة حضوراً وغياباً في آن واحد معاً فإن بوسع المرء أن يقول أيضاً أن الشخص الذي يعاني الآلام نيابة عن الجماعة، والذي معاناته تعود لما يدعوه ماسينون بـ "تحول الألم إلى رأفة" لهو في آن واحد معاً الشر كله والخير كله، والضحية والظالم والأجنبي والمواطن، والمنبوذ، والضيف والمضيف المقبول، والحضور والغياب. فطيلة حياته المسلكية كان ماسينون منهمكاً بمنتهى الفاعلية لا بالإسلام وحده بل وأيضاً بالمعذبين والشهداء واللاجئين والضحايا وبالعمال المغتربين، حتى في الوقت الذي كان فيه دارساً عظيماً للغة وقارئاً عظيماً للنصوص الصعبة ومفسّراً عظيماً للأديان الأخرى، وشخصية عامة مرموقة جداً. فالإسلام والعربية يثيران في نفسه الرأفة المسيحية التي حاول، على نقيض أي مستشرق آخر من ذلك القرن، أن يقلبها إلى تفهم نيّق لهما كليهما. ولقد قال في إحدى المناسبات أن معظم الفيلولوجيين في القرن التاسع عشر خلصوا إلى مقت اللغات التي درسوها، في حين أن مهمته الفيلولوجية انطلقت، على نقيض مهمة رينان، من الرغبة بعدم تكرار ذلك المقت وتحويل التنفير إلى محبة.
ولا يزال هناك شيء عجيب حيال خليط فطين جداً في هذا الرجل الثر ثروة مذهلة فياضة في معظم الأحيان بالخصاب العقلي، وبالتركيز على الشهادة، على وصمات العار، على المعاناة المجانية، على الحجاج اليائسين، على الموت، على الصحارى، على السجون، وعلى التنسك، وعلى الغياب والظلام. وإن إرث هوسمانز، عراب ماسينون، لهو أكثر من فضولي فيه. فجاك بيرك مصيب حين يقول أن ماسينون سار بالإستشراق إلى أقصى حد ممكن، وبنفس تلك الطريقة التي سار بها هيغل بالفلسفة إلى حدودها المطلقة، ومصيب أيضاً حين يقترح أن تعلق ماسينون بإبراهيم كأول سامي يجب إعادة التوازن إليه بجرعة قوية من هيراقليطس(29). إن ماسينون نفسه كان مدركاً تماماً لتحريره الاستشراق من القيود التي فرضها عليه رينان. ولقد أشار مرات عديدة إلى تلك القيود وعبر عن معارضته لتزمت ذلك الرجل عرقياً وعقلانياً، حتى إنه اشتط في كراهيته له إلى الحد الذي جعله يصادق حفيد رينان، إيرنست بيشاري، المتصوف والمعادي للنزعة الرينانية.
***
إن رينان وماسينون هما قطبا التعارض في ميدان الاستشراق: فرينان هو الحكم الفيلولوجي والدارس الفرنسي الذي يمعن النظر في أديان ذات مرتبة دنيا كالإسلام نظرة طافحة بالاحتقار، والذي يتحدث استناداً لا على سلطة أوربي علمي وحسب بل وعلى سلطة مؤسسة ثقافية عظيمة، في حين أن ماسينون هو الضيف الفيلولوجي والمسافر الروحي الفذ الذي -إن استعملنا كلمات جيرارد مانلي هوبكينز في وصف دونس سكوتس- ما عنت على باله أدنى فكرة لنسل خيط من حبيكة الحضارة الإسلامية، والذي أنجبه الغرب.
ثمة تعليق نقدي أخير يجب طرحه. أضرب من المبالغة أن نقول أن رينان وماسينون، كمستشرقين، كنقيضين وخصمين بطريقة ما، يمكن اعتبارهما أيضاً بديلين أحدهما للآخر؟ إن منطلق عمل رينان لهو بالطبع الاختلاف -أي خلافات رينان مع الدين ومع الشرق. ومنطلق عمل ماسينون هو الاختلاف أيضاً، بيد أنه أضاف الرأفة إليه -رأفته المسيحية على الإسلام التي جاءته، كما أخبره فوكو في عام 1915، "من المجابهة مع هؤلاء المسلمين الذين فرض الله علينا كلينا ثمة واجبات خاصة تجاههم"(30) ولكن بمقدار ما يقبل هذان الرجلان كلاهما ذلك الحد الفاصل بين الشرق والغرب الذي ابتني عليه الاستشراق كفرع مستنير من فروع المعرفة، فإن من الممكن اعتبارهما بديلين إحدهما للآخر، وجهين مختلفين لعملة واحدة، فكلاهما يؤديان عملهما ضمن ذلك المبنى الذي ندعوه بالدراسات الاستشراقية، والذي يسلم كلا الرجلين جدلاً أن الثقافة الأوربية/ الفرنسية قد أناطته بهما والذي أدى عملهما إلى تعزيزه. إن السؤال المطروح إن وضعنا عمل هذا قبالة عمل ذاك هو السؤال عينه الذي لا يستطيع الاستشراق طرحه فعلاً، ناهيك عن إجابته عليه- ألا وهو مسألة الشرق. فحقيقة وجوده الطاغية لكل من رينان وماسينون كانت مبعث رفض الأول له ومبعث المحاولات المتواصلة للثاني لإنقاذ الإسلام من نفسه، ولكن ولا في حالة من كلتا هاتين الحالتين كان بوسع المستشرق أن ينظر بالفعل إلى نفسه نظرة نقدية أو أن ينظر إلى ميدانه بعين النقد وبمنظور دنيوي برمته، في حين أن الأسئلة الهامة الأخرى- عن الجهد البشري، عن السلطة، عن الرجال والنساء في المجتمع- كان من الممكن طرحها والعناية بها.
وعلى الوضع الذي هو عليه استشراق ماسينون واستشراق رينان كعلم نقدي، من المفيد تطبيق الوصف الساخر الذي جاء به لوكاش: فكلاهما في "وضعية ذلك الناقد الخرافي الهندي الذي كان في مواجهة القصة القديمة القائلة أن العالم يستند على فيل. ومن ثم أطلق العنان للسؤال "النقدي" التالي: وعلى أي شيء يستند الفيل؟ وما أن يرد الجواب على أن الفيل يقف على سلحفاة حتى يعبر "النقد" علنا عن قناعته بالجواب. وإن من الواضح أنه حتى لو ثابر على إقحام أسئلة "نقدية" بمنتهى الجلاء لما تمكن إلا من تلفيق حيوان عجيب ثالث، ولما كان بوسعه أن يكتشف الحل للمسألة الحقيقية"(31).

nnn

الخاتمة: النقد الديني



إن فكرة الشرق، شأنها شأن فكرة الغرب باعتبارها قطباً مناقضاً لذلك القطب، قامت بدور اللجام لما كنت أدعوه بالنقد الدنيوي. فالاستشراق هو الخطاب المستمد من "الشرق" والمعتمد عليه. والقول عن مثل هاتين الفكرتين الكبيرتين وعن خطابيهما أن لهما شيئاً مشتركاً مع الخطاب الديني يعني القول بأن كل واحدة منهما تؤدي دور المغلاق لكل ما هو بشري من استقصاء ونقد وجهد، إذعاناً منهما لسلطان ما هو أكثر من البشري، الخارق للطبيعة، صاحب الأمر والنهي في الدنيا والآخرة. ولذلك فالدين يزودنا، كالثقافة، بنظم للسلطة وبمعايير للطقوس الدينية من تلك التي تخلص بشكل منتظم إلى فرض الخنوع أو إلى اكتساب الأشياع. وهذا الأمر بدوره يفضي إلى عواطف جماعية منظمة من ذوات النتائج المشؤومة فكرياً واجتماعياً في أغلب الأحيان. فإصدار هذه النتائج على بقائها، وإصدار غيرها من الآثار الثقافية/ الدينية، يثبتان أكثر مما ينبغي ضرورة توفر اليقين والتضامن الجماعي وحس الإنتماء إلى جماعة لدى تلك المقومات التي تبدو أنها من المقومات الأساسية للحياة البشرية. وإن هذه الأشياء لأشياء مفيدة بالطبع في بعض الأحيان. ولكن لا يزال صحيحاً أيضاً أن الشيء الذي يتيحه موقف دنيوي- وهو الإحساس بالتاريخ وبالإنتاج البشري، علاوة على شيء من الش****ة الصحية حيال مختلف أنواع الأوثان الرسمية التي تحظى بالتوقير من الثقافة والنظام -يكون مآله التقليص، إن لم يكن الحذف، من جراء الاستغاثات بذلك الشيء الذي لايمكن التفكير من خلاله وشرحه إلا بإجماع الآراء والاستغاثات بالسلطة.
وهنالك فرق كبير بين الشيء الذي وصفه فيكو في كتاب (العلم الجديد) بعالم الأمم المعقد والتعددي و "العصبوي"، وبين الشيء الذي وسمه، على نحو مناقض، بأنه ميدان التاريخ المقدس.
وإن جوهر ذلك الفرق هو أن العالم الأول يبرز إلى الوجود ويتطور في اتجاهات شتى ويتحرك صوب عدد من التأوجات، ويتداعى ليبدأ من ثم من جديد -وذلك كله بطرق يمكن تحريها لأن المؤرخين، أو العلماء الجدد، بشر وبمقدورهم أن يعرفوا التاريخ على أساس أنه من صنع الرجال والنساء. فالمعرفة تعني المبادرة لصنع شيء ما، كما قال فيكو، وما تستطيع الكائنات البشرية أن تعرفه لا يعدو أن يكون ما صنعوه، أي، ذلك الشيء التاريخي والاجتماعي والدنيوي. وأما فيما يتعلق بالتاريخ المقدس فإنه من صنع الله ولذلك لا يمكن معرفته بالفعل، على الرغم من أن فيكو كان يعلم تمام العلم أن الله، في عصر موبوء بالقساوسة كعصره، كان الواجب يقضي باحترامه وتمجيده على رؤوس الأشهاد.
وفي زماننا هذا حدث تحول عجيب جعل العالم الدنيوي -ولا سيما الجهد البشري الذي يدأب على إنتاج النصوص الأدبية- يكشف عن نفسه على أنه ليس بشرياً خالصاً وليس من الممكن إدراكه تماماً من منطلق بشري فقط، والسبب ما هو ببساطة أن هذا التحول هو نتيجة اللاعقلانية (على الرغم من وجود فيض من ذلك الشيء) ونتيجة تبسيط مفرط، إذ إن النظرة الدنيوية البحتة إلى الواقع ليست بالتأكيد ضمانة لا ضد هذا ولا ضد ذاك. والأقرب إلى المنطق هو الزيادة المفرطة في عدد الاستغاثات بالسامي على البشري، بالمجرد الغامض، بالمقدس، بالملغز والسري. فكما أسلفت القول، إن تلك التعميمات الضخمة الزائدة عن المعقول من مثل الشرق أو الإسلام أو الشيوعية أو الإرهاب تلعب دوراً متزايداً جداً في صبغ "الآخر" بالصبغة اللاهوتية المانوية المعاصرة، وأن هذا التزايد لدلالة عن مدى قوة التأثير الذي أثره الخطاب الديني على ذلك الخطاب المتعلق بالعالم التاريخي الدنيوي.
ولكن الدين عاد بطرق مختلفة، وعلى أوضح ما يكون في أعمال بعض الصناديد الدنيويين السابقين (من أمثال دانيال بيل ووليام باريت) ممن يبدو إليهم الآن أن العالم الاجتماعي/ التاريخي لرجال ونساء حقيقيين صار بأمس الحاجة للتسكين الديني. فهذا المزاج الجديد يشبه من حيث الظاهر -ولو أنه نقيضها تماماً- طوباوية إيرنست بلوش الذي كان عمله عبارة عن محاولة لمسخ الحماسة الاجتماعية الكامنة في النزعة السلفية إلى واقعة يومية. وإن ما يتبينه المرء في هذه الأيام هو الدين كنتيجة للإنهاك والعزاء والإحباط: فأشكاله في النقد، نظرياً وتطبيقياً معاً، عبارة عن تشكيلة من شلل التفكير والتردد والمفارقة المقرونة كلها بإلحاح ملحوظ على مناشدة ***** أو الطقوس الدينية أو النصوص المقدسة.
وحين ترى زمرة من النقاد النافذين الذين ينشرون الكتب الضخمة تحت عناوين من أمثال "منشأ السرية، الدستور العظيم، القبلانية والنقد، العنف والمقدس، التفكيك واللاهوت، تدرك أنك في حضرة توجه هام. إن عدد الأفكار النقدية السائدة التي جوهرها لا يعدو أن يكون نسخة عن نظرية عتيقة من البشري والظرفي ليزيد في التوكيد على هذا التوجه.
وحين القراءات الرجعية لنقاد ونظريات نقدية من الماضي -كالتداول الراهن لوالتر بنيامين لا كماركسي بل كباطني مستور، أو لنسخ عن تلك المواقف الراديكالية الناشطة كالماركسية أو الدعوة للمساواة بين الجنسين أو التحليل النفسي التي تعلي مقام الخاص والمشعوذ على مقام العام والاجتماعي -يجب النظر إليها على أنها جزء من ذلك التحول العجيب الذي يتحوله الاتجاه صوب الأديان. وما ذلك التصور الذي جاء به مارشال ماك لوهان عن فردوس تكنولوجي وما يلازمه من "عودة إلى حياة البداوة" كما يقول، إلا نذير هام لهذا الجنوح الديني المفرط والعشوائي أساساً. فهذا كله بقضه وقضيضه يعبر علناً، على ما أظن، عن تفضيل مطلق للحماية المضمونة التي توفرها منظومات الإيمان ( مهما كانت خصوصيتها) ولا يعبر عن نشاط نقدي أو وعي نقدي في الوقت نفسه.
إن تكلفة هذا الإنجراف، الذي بدأ قبل أربعة عقود خلت في (النقد الجديد) وما يعشش فيه من نزعة جمالية لا تمت بصلة للتاريخ ودينية بشكل فاضح، لتكلفة بغيضة إن عنت على البال، وهنالك كوثر من المفردات الخاصة والثابتة التي عدد عديد منها مستغلق على الفهم، وغامض عامداً متعمداً وغير منطقي بكل تقصد. وقلة من الناس ممن يستخدمون هذه المفردات اليوم قد يجدون أن بمقدورهم الموافقة مع رولان بارت على أن منظومة لغة خاصة تنزلق غالب الأحيان نحو "نوع من التبسيط والاستهزاء":
وهنالك شيء من هذا القبيل بكل تأكيد في خطاب الاستشراق، في التفكيك وفي السيميوطيقا سواء بسواء.
وإننا نجد أمامنا اليوم، بدلاً من نفاذ الإدراك والتقييم، حيزاً مكثفاً من الجهد الفكري، فضلاً عن أن تلك الموضوعات المدروسة، وقد صارت ضحية الإفراط في استبعاد العنصر البشري، باتت تستحوذ على اهتمام النقاد، في حين أن المداولات الفكرية صارت أشبه ما يكون بحوار الطرشان في غرف ضيقة. وأما ثالثة الأثافي فتكمن في ذلك التشابه المتزايد بين المحافظين الجدد السياسيين الصرحاء وبين النقاد الميالين للتدين ممن لا تتيسر، لكلا الفريقين، خصخصة الحياة الاجتماعية والخطاب الثقافي إلا من خلال الإيمان ببازار شبه ديني وديع الطابع. وهكذا فإن النقد، بعد نكوصه على عقبيه، يرفض أن يرى وشائجه مع العالم السياسي الذي يعمل في خدمته، ربما عن قصد وربما عن غير قصد. فالناقد الحديث أضحى، بعد أن كان مفكراً ذات مرة، رجل دين بأسوأ ما تعنيه هذه الكلمة.
وأما السؤال عن الكيفية التي من الممكن أن يعود بها خطاب النقاد كلهم إلى مشروع دنيوي حقيقي فهو من أخطر الأسئلة، على ما يبدو لي، التي يمكن أن يطرحها النقاد بعضهم على بعض في هذه الآونة.

nnn


__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
العالم, النقد. إدوارد سعيد


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع العالم و النص و النقد
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
معركة النص عبدالناصر محمود بحوث ودراسات منوعة 0 04-27-2015 07:15 AM
مظاهر التعدي على النص الشرعي عبدالناصر محمود دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 06-04-2014 07:09 AM
دور القارئ في النص الأدبي Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 1 05-08-2014 03:04 PM
درس عمل لمعة متدرجة على النص Eng.Jordan الصور والتصاميم 0 01-31-2012 08:07 PM
عمل لمعة ألماسية على النص بالفوتوشوب Eng.Jordan الصور والتصاميم 0 01-30-2012 10:08 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 06:13 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59