#1  
قديم 05-20-2017, 07:46 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,044
ورقة نظرة الإسلام لحوار الحضارات


نظرة الإسلام لحوار الحضارات
ــــــــــــــــ

(د. طاهر أحمد الريامي)
ـــــــــــ

24 / 8 / 1438 هـ
20 / 5 / 2017 م
ــــــــــــ

الحضارات c18c42931e5f830cad2bd0263425bef5-796x427.jpg


مَرَّت بهذا العَالَمِ أحدَاثٌ مُختَلِفَةٌ مِن حُرُوبٍ وفِتَنٍ واضطِرَاباتٍ وصِرَاعَاتٍ، مِنها الحُروبُ العَالميةُ والحُرُوبُ المختَلِفَةُ، وتَسَارَعت الأَحدَثُ بعد الحادي عَشَر مِن سبتمبر 2001م، فتَغَيَّرَت ظُرُوفُ الحِوارِ بين الحضَارَاتِ وتَطبِيقَاتِه بصُورَةٍ جَذرِيةٍ.

وكان مِن جُملَةِ هذه التَّغيرَاتِ أن "تموضَعَت العَلاقَاتُ الدُّولِيةِ في حَيِّزٍ مِن النِّظام الدُّوليِّ الجَدِيدِ المتَمَيِّزِ بأُحَادِيةِ قُطبَيه تُهيمِنُ عليه الوِلاياتُ المتحِدَةُ الأَمرِيكيةُ، مُقابِلَ أُحَادِيةٍ قُطبِيةٍ مُهَيمَنٍ عليها، ومُمثَّلَةٍ بالعَالمِ الإسلامي والعَرِبي مِنه تحديدا"[1].

ونَشَأَ بسَبَبِ ذلك صِرَاعٌ حَقِيقيٌّ بين هذين القُطبَينِ، يُحتِّمُ علينا أن نَعُودَ إلى الفِكرِ الحوَارِيِّ الحضَارِيِّ، لإنقَاذِ العَالَمِ مِن تِلكَ الأَزمَةِ القَائِمةِ.

مفهوم حوار الحضارات:
-------------

اشتقَاقُ لفظِ الحِوارِ في اللُّغَةِ مِن مَادَةِ (ح و ر) التي تَحمِلُ مِن الدَّلالاتِ الكَثِيرَ. وقد ذَكرَ عُلمَاءُ اللُّغةِ أنَّ لها معَاني مُتَعدِّدةً تَبعًا لتَفعِيلاتها الصَّرفِيةِ. فقد جَاءَ في صِحاحِ الجوهري، ما يلي: "المحَاوَرةُ المجَاوَبَةُ. والتَّحَاورُ: التَّجَاوبُ. و يُقال: كلَّمتُه فما أحَارَ إليَّ جَوابًّا، وما رَجَّعَ إليَّ حُوَيرًا، ولا حُوَيرةً، ولا مَحوُرَةً، ولا حِوَارًا. بفَتحِ الحَاءِ وكَسرِها. أي: ما رَدَّ جَوابًا"[2]. ووَرَدَ في تَاجِ العَرُوسِ: " الحَويرُ كأَمِير، والحَوارُ بالفتح، ويكسر... كلَّمتُه فمَا رَجَّعَ إليَّ حَوارًا، وحِوارًا، ومحَاوَرةً وحَويرًا، ومُحورَةً. وإنَّه لضَعِيفُ الحِوارِ، أي: المحورة"[3].

والحِوارُ اصطِلاحًا: هو "نَوعٌ مِن الحَدِيثِ بين شَخصَين، يَتِمُّ فيه تدَاولُ الكَلامِ بَينَهما بطَرِيقَةٍ ما، فلا يَستَأثِرُ به أَحدُهما دون الآخَرِ، ويَغلُبُ عليه الهُدوءُ والبَعدُ عن الخُصُومَةِ والتَّعصُّبُ"[4].

وأمَّا الحضَارَةُ فقد جَاءَت لها عِدَّةُ تعَارِيفَ مُختَلِفةٍ؛ مِنها: "ذلك الطَّورُ الأَرقَى في سُلَّمِ تَقَدُّمِ الإنسَان"[5]؛ وقال آخَرُون هي "مجمُوعَةُ المفَاهِيمُ الموجُودَةُ عند مَجمُوعَةٍ مِن البَشرِ، وما يَنبَثِقُ عن هذه المفَاهِيمُ مِن مُثُلٍ وتقَالِيدَ وأفكَارٍ، ونُظُمٍ وقَوانِينَ ومُؤسَّساتٍ، تُعالِجُ المشكِلاتِ المتَعلِّقةِ بأفرَادِ هذه المجمُوعَةِ البَشَريةِ، وما يَتَّصِلُ بهم مِن مَصَالحَ مُشتَركَةٍ، أو بعِبَارَةٍ مُختَصَرِةٍ: جَمِيعُ مَظَاهِرِ النَّشاطِ البَشَري الصَّادِرِ عن تَدبِيرٍ عَقلِي"[6].

وقَولٌ رَأى: "أنَّ الحضَارَةَ تعني الحَصِيلَةُ الشَّامِلةُ للمَدَنيةِ والثَّقافَةِ؛ فهي مجمُوعُ الحيَاةِ في صُورِها وأَنمَاطِها المـَادِيةِ والمعنَويةِ"[7]. ولهذا كانت الحضَارَةُ هي الخِطَّةُ العَرِيضَةُ كَمًّا وكَيفًا، التي يسير فيها تَارِيخُ أُمَّةٍ مِن الأُمَمِ. ومِنها الحضَارَاتُ القَدِيمةُ والحضَارَاتُ الحَدِيثَةُ والمعَاصِرَةُ، ومِنها الأَطوَارُ الحضَارِيةُ الكُبرَى، التي تُصوِّرُ انتِقَالُ الإنسَان أو الجمَاعَات مِن مَرحَلَةٍ إلى مَرحَلةٍ.

والتَّعرِيفُ الثَّالثُ هو الأقرَبُ مِن التَّعَارِيفِ السَّابقَةِ، لأنَّه جمعَ بين الجَانِبين المهمَّين، وهما: المادَةُ والرُّوحُ، وهما أهم مُقوِّمَاتِ الحضَارَةِ.

فالحِوارُ بين الحضَارَات -مِن خِلالِ هذه التَّعارِيفِ- هو عِبارَةٌ عن تَزاوجُ وتبَادُلُ الثَّقافَات الإنسَانيةِ بين مُختَلفِ الحضّارَات، ليَشمَلَ هذا التَّزاوجُ مُختَلفَ الجوَانِبِ -السِّياسِيةِ والاجتِماعِيةِ والتكنُولوجية، مع احتِفاظِ كُلِّ حضَارَةٍ بما لها مِن قِيمٍ خاصَّةٍ.

موقف الإسلام من حوار الحضارات:
-------------------

إنَّ التَّدافُعَ بين الأُمَمِ سُنَّةٌ مَاضِيةٌ، بها تتحقَّقُ حِكمَةٌ مِن حِكمِ اللَّهِ البَاهِرَةِ؛ قال سبحانه: ((ولَولَا دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضلٍ عَلَى العَالَمِينَ))[8].

والاختِلافُ سُنَّةٌ طَبِيعيَّةٌ، قدَّرَها اللهُ تعالى في البَشرِ، فالنَّاسُ مختَلِفُون في عِدَّةِ نواحِي مِنها: اختِلافُ البَشرِ في أشكَالِهم: ((ومِن آيَاتِهِ خَلقُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ واختِلَافُ أَلسِنَتِكُم وأَلوَانِكُم إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلعَالِمِينَ))[9]؛ واختِلافُهم في أعمَالِهم وتَصرُّفَاتهم: ((إِنَّ سَعيَكُم لَشَتَّى))[10]؛ واختِلافُهم في أفكَارِهم ومُعتَقدَاتِهم: ((ومَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاختَلَفُوا))[11]، ((ولَو شَاءَ رَبُّكَ لجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ولَا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُم))[12].
ونَستَخلِصُ مِن هذه الآياتِ السَّابِقةِ نتِيجَتين حتمِيَّتين:

الأولى: أنَّ الاختلافَ بين البَشرِ أَمرٌ ليس مِنه مَفرٌ، فهو طَبِيعَةٌ بَشريةٌ وسُنَّةٌ كَونِيةٌ.

الثانية: أنَّ التَّدافُعَ بين البَشرِ سُنَّةٌ كَونِيةٌ ونَتيجَةٌ حَتمِيةٌ لوُجودِ الاختِلافِ.

ولولا وُجُودُ هاتَين الظَّاهِرتين لأَصبَحَ البَشرُ نُسخَةً وَاحِدةً على مَنهَجٍ وَاِحدٍ، ومِلَّةٍ واحِدةٍ، وهذا خِلافُ مُقتَضَى الحِكمَةِ: ((ولَو شَاءَ اللَّهُ لجَعَلَكُم أُمَّةً وَاحِدَةً ولَكِن لِيَبلُوَكُم فِي مَا آتَاكُم فَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ))[13]، ((ولَو شِئنَا لَآتَينَا كُلَّ نَفسٍ هُدَاهَا ولَكِن حَقَّ القَولُ مِنِّي لأَملَأَنَّ جَهَنَّمَ مِن الجِنَّةِ والنَّاسِ أَجمَعِينَ))[14].

إنَّ الإسلامَ كمَنظُومَةٍ ذاتِ قِيمٍ ومُثُلٍ ومبَادِئَ عُليا، يُحفِّزُ ويُحرِّضُ المسلمين، في كُلِّ العُصُورِ، على ممَارَسةِ دُورِ الشُّهودِ والحُضُورِ في هذه الحيَاةِ. ولا يمكن أن يمَارِسَ المسلمون هذا الدَّورَ إلَّا بالتَّفوقِ الحضَارِي، الذي يُؤَهِّلُ المجالَ الإسلامي لممَارَسةِ دُورِه ووَظِيفَتِه التَّاريخيةِ. وفي إطَارِ ممَارسَةِ دَورِه التَّاريخي، يُؤكِّدُ الإسلامُ على ضَرُورَةِ التَّواصُلِ والحِوَارِ مع الثَّقافَاتِ والحضَارَاتِ الأُخرَى، وذلك مِن أَجلِ تَعمِيقِ الجوَامِعِ المشتَركَةِ وتَفعِيلِها، وصِيانَةِ المنجَزَاتِ الإنسَانِيةِ والحضَارَيةِ، وبَلورَةِ دعَائِمِ نِظَامٍ عالميٍّ يكون أَقرَبَ إلى الحُريةِ والعَدلِ والتَّسامُحِ. لأنَّ الإسلامَ ليس في صِراعٍ إلا مع العنَاصِرِ العُدوَانيةِ الشِّريرَةِ التي تُهدِّدُ وُجُودَ الإسلامِ ومُعتَنِقِيه؛ تَارِكًا للجَميعِ حُريَّةَ اختِيارِ العَقِيدَةِ والفِكرِ والمذهَبِ وطَرِيقَةِ الحيَاةِ. وقد أكَّدَ الخَالِقُ -تبَاركَ وتعَالى- ذلك بقَوله: ((فَذَكِّر إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر * لَستَ عَلَيهِم بِمُصَيطِرٍ))[15].

يقول الشيخ القرضَاوي: "إنَّنا -نحن المسلمين- نُؤمِنُ بالحوَارِ لأنَّنا مَأمُورُون به شَرعًا، وقُرآنَنا مَلِيءٌ بالحوَارَاتِ بين رُسُلِ اللهِ وقَومِهم، بل بين اللهِ تعَالى وبَعضِ عِبادِه؛ حتَّى إنَّه سُبحَانَه حَاورَ شَرَّ خَلقِه: إبليس! ولهذا نحن نُرحِّبُ بثَقَافةِ الحِوارِ بَدلَ ثقَافَةِ الصِّراعِ، سَواءً بين الحضَارَات أم بين الدِّيانَات. ولا نُوافِقُ على مَنطِقِ بعضِ المثقَّفِين الأَمرِيكِيين، مِثلَ هانتنجتون، الذين يُؤمِنون بحَتمِيةِ الصِّدامِ بين الحضَارَات، وخُصُوصًا بين الحضَارةِ الإسلامِيةِ والحضَارَةِ الغَربيةِ"[16].
ولبيان رَأيِّ الإسلامِ في حِوارِ الحضَارَاتِ لا بُدَّ مِن تحدِيدِ المقصُودِ بهذا الحِوارِ، فإنَّ الحكمَ على الشَّيءِ فَرعٌ عن تَصوُّرِه. فالحِوارُ بين الحضَارَات أنوَاعٌ، وكُلُّ نَوعٍ له حُكمٌ خَاصٌّ به، ينبَني على مَعرِفَةِ المرَادِ والمقصُودِ به.

أنواع الحوار بين الحضارات:
---------------

أولاً: حِوارُ التَّعريفِ بالحضَارةِ الإسلامية:
========

وهو المرتبة الأولى مِن مَراتِبِ الحِوارِ. ويعني الحِوارَ مع أتبَاعِ الأَديَانِ الأُخرَى لبيَانِ صِحَّةِ الدِّينِ الإسلامي، وأنَّه نَاسِخٌ لكُلِّ الأديَانِ السَّابقةِ، وإيضَاحِ صِحَّةِ نُبُوَّةِ محمد -صلى الله عليه وسلم، وإظهَارِ محَاسِنِ الإسلامِ، وبيَانِ باطِلِ الأديَانِ الأُخرَى. ولا غَروَ أن هذا النَّوعُ مِن الِحوارِ هو الذي يُنادِي به الإسلامُ، وهو المطلُوبُ شَرعًا، وهو ثَابِتٌ بآيَاتٍ وأحَادِيثَ كَثِيرَةٍ.

ثانياً: حِوارُ التَّعايُشِ مع الحضَارات:
===========

هذا النَّوعُ مِن الحِوارِ يُعرَّفُ على أنَّه الحِوارُ الذي يهدِفُ إلى تَحسِينِ مُستَوى العَلاقَةِ بين شُعُوبٍ أو طوَائِفَ، ورُبَّما تكون أَقلِّياتٍ دِينيّةٍ؛ ويُعنى بالقضَايا المجتَمَعيّةِ، كالإنمَاءِ، والاقتِصَادِ، والسَّلامِ، وأوضَاعِ المهَجَّرِين، واللَّاجِئين ونحو ذلك، وقد يُطلِقُ عليه البَعضُ اسم التَّسامُحِ. وهو نَوعٌ مِن التَّعَايشِ والتَّسامُحِ مع أَهلِ الأَديَانِ الأُخرَى لا يَرفُضُه الإسلامُ، ولا يَزِيدُ في مَفهُومِه عن حُسنِ المعَامَلةِ والعَيشِ بصُورَةٍ مُلائِمةٍ بين كَافَّةِ المجتَمعَاتِ، مع الاختلافِ الدِّيني والفِكرِي والثَّقافي. وهذا هو المقصُودُ مِن قوله تعالى: ((لَا يَنهَاكُم اللَّهُ عَن الَّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ ولَم يُخرِجُوكُم مِن دِيَارِكُم أَن تَبَرُّوهُم وتُقسِطُوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الـمُقسِطِينَ))[17].

مع الأَخذِ بالاعتِبارِ أنَّ هذا التَّعَايُشَ لا يَتضمَّن الاعتِرافُ بصِحَّةِ الأديَانِ، وليس فيه تنَازُلٌ عن أحكَامِ الدِّينِ لتَرغِيبِهم في التَّعَايُشِ أو إعطَاءِ صُورَةٍ حَسَنَةٍ عن الدَّينِ. وهذا النَّوعُ مِن الحِوارِ وَارِدٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ إذا سَارَ على ضَوَابِطِه الصَّحِيحَةِ. ويُقرِّرُ أركَانَ هذا النَّوعُ مِن الحِوارِ ومَدَى التَّعامُلِ به أهلُ الحَلِّ والعَقدِ والخِبرَةِ والعِلمِ.

ثالثاً: حوار التقارب:
===========

هذا النَّوعُ مِن الحِوارِ لا يمكِنُ قَصرُه على مَدلُولٍ اصطِلاحيٍّ بعَينِه، فلَفظُ التَّقَارُبِ والتَّقرِيبِ مَأخُوذٌ مِن القُربِ، وهو أَمرٌ نَسبيٌّ تَتَفَاوتُ حَقِيقَتُه وتَطبِيقُه، فيَختَلِفُ حُكمُه باختِلافِ مَدلُولِه. فكُلمَّا كان التَّقارُبُ فيه مَسٌّ بالثَّوَابِتِ أو تنَازُلٌ عن المسلَّمَاتِ كُلمَّا تَأكَّدَت حُرمَتُه، وكُلمَّا كان التَّقَارُبُ بَعيدًا عن مَسِّ الثَّوابِتِ الدِّينِيةِ والمسلَّمَاتِ كُلمَّا زَالَت الحُرمَةُ.
فالإسلامُ قد دعَا إلى الِحوارِ، بل هو طَرِيقَةُ الأَنبيَاءِ –عليهم الصلاة والسلام- في دَعوَتِهم وإِيصَالِ رِسَالاتِ رَبِّهم. فهو سُنَّةٌ نَبَويةٌ. لكن الحضَارَةَ الغَربِيةَ لم تَنظُر إلى تعَالِيمِ الإسلامِ ونُصُوصِه الصَّريحَةِ في الأَمرِ والدَّعوَةِ إلى الحِوارِ والتَّفاعُلِ الثَّقَافي بين الشُّعوبِ والحضَارَاتِ بعَينِ الحيَادِ والتَّجُرُّدِ مِن الهوى؛ فالحِوارُ والاعتِرافُ بالآخر طريقُ تَطوِيرِ القَواسِمِ المشتَركَةِ بين النَّاسِ، وإيجَادِ السُّبلِ الكَفِيلةِ بتَحقِيقِ ذلك بما يُساعِدُ على العَيشِ بسَلامٍ وأَمنٍ وطُمَأنِينةٍ: وهو يحفَظُ الإنسانَ مِن أن يحيَا حيَاةَ الإبعَادِ والإقصَاءِ ونُكرَانِ الآخَرِ. لهذا أَمرَ الإسلامُ بالحِوارِ والدَّعوَةِ بالتي هي أَحسَن، وسُلوكِ الأسَاليبِ الحَسَنةِ، والطُّرقِ السَّلِيمةِ في مخَاطَبةِ الآخَرِ، قال تعالى: ((ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحِكمَةِ والمـَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُو أَعلَمُ بِالـمُهتَدِينَ))[18].

على هذه الأُسُسِ يُرسِي القُرآنُ الكَرِيمُ قَواعِدَ الحِوارِ في الإسلامِ، على أسَاسِ الحِكمَةِ والموعِظَةِ الحَسنَةِ والجِدَالِ بالتي هي أَحسَن. إنَّه مَنهَجٌ حضَارِيٌّ مُتكَامِلٌ في تَرسِيخِ مبَادِئِ الحِوارِ بين الشُّعوبِ والأُمَمِ. يقول تعالى: ((ولَا تُجَدِلُوا أَهلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُم وقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَينَا وَأُنزِلَ إِلَيكُم وإِلَٰهُنـَا وإِلَٰهكُم وَاحِدٌ ونَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ))[19].

فالحِوارُ مُمكِنٌ إذا وُجِدَت قَواسِمُ مُشتَركَةٌ، ومجَالٌ للتَّفَاهم والتَّقَارُبِ، وهي الإيمَانُ بما أُنزِلَ على المسلِمين وغَيرِهم. قال تعالى: ((قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَة سَوآءِ بَينَنَا وبَينَكُم ألَّا نَعبُدَ إِلَّا اللَّهَ ولَا نُشرِكَ بِهِ شَيئًا ولَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابًا مِن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشهَدُوا بِأَنَّا مُسلِمُونَ))[20].

ولا يخفَى أنَّ الأُمَّةَ الإسلامِيةَ تملِكُ رَصِيدًا ضَخمًا مِن القِيمِ الهَادِفةِ، وهذه القِيمُ كَفِيلَةٌ عند استِثمَارِها بأن تجعَلَ الأُمَّةَ الإسلاميةَ في وَضعٍ يَسمَحُ لها بأن تُنمِّي فَلسَفتَها الحضَاريةَ الإنسَانيةَ، وتتَسَابقُ مع أُممِ الأَرضِ في بِنَاءِ حضَارَةٍ إنسَانيةٍ.

ومِن خِلالِ ما تَقدَّمَ ذكره تَتَبيَّنُ نظرَةُ الإسلامِ لمفهُومِ حِوارِ الحضَارَاتِ، وأنَّه يتَوافَقُ مع هذا المفهوم بضَوابِطَ وأُسسٍ واضِحَةٍ للحِوارِ.

---------------------------------------------
[1] بين توتر الذات وصمم الآخر ثمة محاولات للعقلنة، أكرم حجازي، ورقة قدمت إلى ندوة حوار الثقافات التي عقدتها كلية الآداب في جامعة تعز -اليمن، الموسم الثقافي السنوي، خلال الفترة: 23/5- 3/6 –2004م.
[2] الصحاح، الجوهري، دار العلم للملايين، بيروت، ط1979م.
[3] تاج العروس من جواهر القاموس، الزَّبيدي، تحقيق مجموعة من المحققين، دار الهداية.
[4] فنون الحوار والإقناع، محمد راشد ديماس، دار ابن حزم، الرياض، ط1999م: ص11.
[5] التراث والمستقبل، محمد عمارة، دار الرشاد، القاهرة، ط2/1418ه- 1997م: ص215.
[6] الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، أحمد عبدالرزاق أحمد، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1990م: ص11.
[7] قيم حضارية في القرآن الكريم: عالم ما قبل القرآن، توفيق محمد سبع، دار المنار، القاهرة: ج1/31.
[8] البقرة: 251.
[9] الروم: 22.
[10] الليل: 4.
[11] يونس: 19.
[12] هود: 118- 119.
[13] المائدة: 48.
[14] السجدة: 13.
[15] الغاشية: 21- 22.
[16] الحوار بين الإسلام والنصرانية، يوسف القرضاوي، موقع إسلام أون لاين، في: 13/8/2005م.
[17] الممتحنة: 8.
[18] النحل: 125.
[19] العنكبوت: 46.
[20] آل عمران: 64.




ـــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
لحوار, الحضارات, الإسلام, وغرب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع نظرة الإسلام لحوار الحضارات
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حوار الحضارات وخناجر في جسد الإسلام Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 01-15-2016 08:11 AM
نظرة المستشرقين للإصلاح والتَّجديد في الإسلام عبدالناصر محمود دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 04-30-2014 07:38 AM
أدوار أمريكية تتغير Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 03-20-2013 01:52 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:00 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59