#1  
قديم 10-12-2014, 08:24 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة أزمير تسترد من الأعداء فتخرب


أزمير تسترد من الأعداء فتخرب (1)
ــــــــــــــــــ

(أ. د. مصطفى حلمي)
ــــــــــ

18 / 12 / 1435 هــ
12 / 10 / 2014 م
ـــــــــــــ

الأعداء hqdefault.jpg

أزمير تسترد مِن الأعداء فتخرب (1)
النص المحقق من كتاب: "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"

إن أزمير أُضيعت عامرةً، واستُردَّت خَرِبة، وكذا بلاد كثيرة، وقُرى يبلغ عددها ألوفًا في الأناضول ترَكها الكماليون أنفسهم بتوسيع نار الحرب الموقَدة على أزمير، ثم استردوها خَرِبة لم يبقَ في أكثرها أثر ولا طلل، وفي أزمير وقع الخراب بعد الاسترداد، وهذا أمر عجيب؛ حتى إن كثيرًا من البلاد المعمورة المدنيَّة سلَّمها أهلها فيما مضى مِن تاريخ الحروب وهم ذوو روية وحميَّة إلى الأعداء عند الإضرار، واجتنَبوا اتخاذها معركة صونًا لها عن التخريب، وقد شاهدتُ مثالها وقت احتلال الألمانيين "بيخارست" أثناء الحرب العظمى، وأنا في تلك البلدة مع كونها محصَّنة إلى الغاية، فرب بلدة راقية تُسلَّم إلى الأعداء لئلا تُخرَّب ثم تسعى لاستردادها بوسائط سياسية، وأزمير تُسترَد من الأعداء فتخرب، ففكِّر في الفرق بين الحالتين أيها القارئ وتأمَّل في ماهيَّة المُستردِّين ووطنيتهم، وأنعم النظر فيما كتبتُه لك واقفًا بين أسطرها متجردًا عن عواطف تَنبو عن الإنصاف والاعتدال، ثم انظر هل يقاس ذلك بشؤون المصريِّين التي ناظَروني بها.

هذا، وما ذكرنا طيلة الصفحات بعضٌ مما اكتسبته أيدي الاتحاديين والكماليين الذين قبَضوا على زمام الدولة العثمانية منذ ستَّ عشرة سنة، فارجع البصر إلى ما قبلها كيف تَجدها عند القياس بحالتها التي هي عليها اليوم؛ من حيث فُسحَة المملكة وضيقها وعمارتها وخرابها، ومن حيث كثرة نفوس الأمة وقلَّتها، ومِن حيث معيشتهم وثَروتهم وأمَّتهم وراحتهم[1].

ثم ارجع البصر كرَّتين حتى تهتدي إلى إدراك الفرق بين ما كانت عليه الدولة - أعني: الدولة المعظمة الجامعة للسلطَنة العثمانية والخلافة الكبرى الإسلامية، مُقترنة إحداهما بالأخرى مع ما استتبعتْه تلك المقارنة التي هي أزهى وأبهى مِن قران السعدَين عند الثقلَين مِن حالات وعادات وملَكات دينية وأدبية واجتماعية توارثْناهنَّ مِن آبائنا، وكنَّ كالمُشخصات لأمتنا تمتاز بهنَّ، ولكل منهنَّ قيمة عظيمة لا تَعدِلها فوائد العالم عند أقوام ذوي السجايا الرزينة التي تقوم بها حياة الأمم وتدوم على قدر ما يَحظون منها - وبين ما آلت إليه اليوم، وأعني به الدولة الصغيرة اللادينية القومية، كإحدى الدول البلقانية في قطْع علاقتها عن ماضيها العثماني والإسلامي والتشبُّه بالأمم الغربية في التباعُد عن الإسلام لا في حضارتها وانقيادها بإرادة الشعب، بل وإنما تسحَق إرادتهم تحت إراداتها، وتَجتهِد أيضًا في إنشاء العصبية الجنسية المبنيَّة على الموهومات والخرافات القديمة المنسية، والأمة لا يَفهمون مِن تلك العصبية شيئًا، ولا يَنساقون إليها بقلوبهم وغرائزهم، وإنما العصبية الجنسية والمحبَّة التركية سلاح الاتحاديين والكماليين، يُقاتِلون به أمة الترك قبل الأمم، ويعتزون عليهم، فاحكم - أيها القارئ المتبصر - بعدما أحطتَ علمًا وتفكيرًا لهذه التطورات والتقلبات الهائلة أنه هل أحسنَ الاتحاديون والكماليون في تركيا وبدولة الترك وأمتها أو أساؤوا جمعاء[2].

ومُعارضوهم ما فعلوا في هذه المدة فعلاً غير الإنكار على أفعالهم التي أضرَّت الأمة والبلاد، ليس في كتاب أعمالهم شيء يؤخَذون به غير "أزمير"، وحقيقتها أنها أضاعها الاتحاديون بالنتيجة الطبيعية التي أفضى بنا إليها دخولهم ومغلوبيتهم في الحرب العظمى، لا مُعارضوهم الذين كانت الوزارة بأيديهم عند إحلال بها، وإن اتَّفقت كلمات الاتحاديين الذين أضاعوها مع كلمات الكماليين الذين شارَكوا الاتحاديين في إضاعتها - أولاً - على قذف تُهمتِها إلى المعارضين؛ كاتِّفاق شريكي الجناية في قذفها إلى غير، وشهادة كل منهما ببراءة صاحبه، أجل، أضاعها الاتحاديون ولم يُقدِم المعارضون على استردادها تَحرُّزًا عن إحداث خلاف بيننا وبين الدول الكبرى التي أحللْنَها، وأبلغْنَنا أن مقاومتهم في الاحتلال بمثابة مقاومتهنَّ في الخطر، وهذا على حين انقضاء الحرب التي تمَّت بغلبتهنَّ إيانا، ولم ينطفئ بعد شيء مِن نيران حنقهنَّ علينا، فأي دولة مغلوبة، أو أي رجل مِن رجالاتها يتجاسَر على حركة تُسبِّب استئناف تلك الحرب بعد معايَنة عواقبها الهائلة بعَين ربِّ المال الذي يُحتاط عليه ويُحترَز عليه عن وضعه في طريق تجارة قد جرَّب مَسارها بداء رِبحها وآثار الخَسار أمامه، ولا يُحيط بها أن يُقال أمامه، فلو عُدَّ الكفُّ مِن تجديد خطر الحرب عقب انتهائها بالمغلوبية القطعية خيانة الوطن وتضحيته لكان جميع الألمانيِّين والنمساويين والبلغاريين الذين خضعوا لأحكام المغلوبية وجانَبوا استئناف الحرب خونة أوطانهم مضحِّيها، حتى إن المصريِّين الذين جادَلوا الإنجليز منذ سنين بألسنتهم وأقلامهم، ولكن لم يَرتقوا مِن الهجاء إلى الهَيجاء لمَّا أحسُّوا في ذلك الارتقاء مِن المضارِّ والأخطار التي تَعصِف بأمتهم خونة أيضًا؛ بِناءً على منطقهم وقانونهم الذي طبَّقوه على معارضي الكماليين من الأتراك، وعدُّوهم به خونةً باعة أوطانهم مِن الإنجليز، كما أثنَوا على الكماليِّين بالحميَّة والوطنية[3].

[1] مقارنة ذات نتائج مُفحِمة لكل مكابر، وما زالت قائمة الحجَّة لمواجهة القوميِّين ودعاة التغريب والمتحمِّسين للأنظمة المستوردة، ولننظر بعين الإنصاف؛ فقد تراكمت مشاكلنا، ومسحتْ شخصيتنا، وتقطَّعت أوصال أمَّتِنا، وساقنا أعداؤنا كيفما شاؤوا.
[2] ولعلك بعد التحديق إلى هذه الحقائق والإحداق بها تَنكشِف لك ماهية نجاح عصمَت باشا في مؤتمر "لوزان"، وارتقاء ذلك النجاح إلى كونه نجاحًا تجاه جولات لم تَغرُب الدول الكبرى عن حوزة شمولها، ولم تَقتصِر على اليونان فقط، حتى محا الحسابات العتيقة الامتيازية معهم، وكان عاتق الدولة العثمانية تحمل أثقالها منذ عهد بعيد، مع أن عصمت باشا لم يظهَر بسلاحه على الإنجليز في ميدان الحرب وميدانها، ولم يضيِّق الأرض بما رَحُبت عليهم كما ضيَّقها على اليونان، فكيف عمَّهم ظفره في مؤتمر لوزان.
هذا الذي ترَك الأوهام حائرةً
وصيَّر العالِم النِّحرير زِنديقَا
وقد لَمَّح مستشار الوزارة الخارجية البريطانية إلى هذا السرِّ العميق في برلمانهم - [هذا السر العميق كشفَت عنه الوثائق فيما بعد، ومنها معاهدة "كرزن" نسبةً إلى وزير خارجية بريطانيا آنذاك؛ فقد أوفد مصطفى كمال زميله عصمت أينونو إلى لندن برسالة يَحملها إلى الإنجليز ويقول لهم فيها: لماذا تُقاتلوننا مرة أخرى؟ لقد كنّا إمبراطورية كبيرة وكنتم تخشون جانبنا فانسلخت عنا أكثر البلاد ولم يبقَ إلا العنصر التركي في الأناضول.
وبعد محادثات ومفاوضات استمرت مدة طويلة ودخل خلالها وسيطًا "حاييم ناحوم" حاخام اليهود الأكبر في تركيا، ومع هذا فقد كان ردُّ الإنجليز "إننا نخشى أن تعودوا فتُصبحوا مركز تجمع المسلمين ونواة لوحدتهم"، وهنا عرض مصطفى كمال هذه الشروط الأربعة عليهم:
1- إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيًّا في تركيا.
2- أن تقطَع تركيا كلَّ صِلة مع الإسلام.
3- أن تضمن تركيا تجميد وشلَّ حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا.
4- أن يَستبدلوا الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت.
ينظر كتاب الشيخ محمد الصواف: الخطوات الاستعمارية لمكافحة الإسلام (ص: 174)] - بعدما أتم مؤتمر "لوزان" عمله وعاد مندوب كل دولة إلى بلادهم وقد جرى بحث عن تلك المعاهدة فاعترض بعض النواب عليها قائلاً: إنها انهِزام سياسي لم يَسبِق مثله في تاريخ الإنجليز تجاه الأتراك، ولو غلَبونا على الحرب العُظمى ما استفادوا بأكثر مما مُنحوا بهذه المعاهدة، فقال المستشار: "عليك بوزن المسألة مِن حيث الفرق بين دولتي الترك القديمة والجديدة، فهي اليوم دولة مليَّة متَّحدة" -[وحقَّقت إنجلترا غرَضها بواسطة مصطفى كمال، ومِن المُذهل أن نكتشف أنه كان أداة طيعة في أيدي الإنجليز أيضًا - فضلاً عن خضوعه لليهود بلا حدود - وللقارئ الكريم المعلومات الجديدة التي فاجأنا بها الأستاذ مصطفى السعدني؛ إذ يقول: "وعندما أصبح أتاتورك الرجل الأول في تركيا تلقَّفتْه أيدي المخابرات البريطانية حتى أصبح ألعوبة في يدها، وعندما عُين سير برسي لورين سفيرًا لإنجلترا في "تركيا الصغرى" وضعت وزارة الخارجية البريطانية تحت يده - كما هي العادة - الملفات الخاصة بسياسة إنجلترا في النفَقة، كما قدمت إليه جميع الدراسات والتحليلات النفسية التي أُجريَت على شخصية الرجل الأول في تركيا، ويبدو أن سير برسي لورين قد عكَف على دراسة طبيعة مصطفى كمال كما صورها أساتذة علم النفس التجريبي مِن الإنجليز، واطَّلع على نواحي الضعف والقوة في شخصه، ثم بدأ يُمارس معه الأسلوب الذي جعل منه أداة طيِّعة، حتى وثق في سير برسي لورين الثِّقة العُظمى إلى الحد الذي جعل أتاتورك يَعرض على السفير البريطاني أن يخلفه في رئاسة الجمهورية التركية، الأمر الذي لم يَحدث مثله في التاريخ!! (ص: 218) من كتاب "الفكر الصهيوني والسياسة اليهودية"] - يعني مقصورة في هذه الدائرة المحدودة، ومُنقطعة عن تعلقاتها العميمة لأقطار العالم باشتمالها على الخلافة الكبرى الإسلامية، وإن كان الغافل لا مانع له مِن أن يستدلَّ بظاهر هذا الكلام على قوة دولة الترك الحاضرة، والحال أنه كم مِن دولة صغيرة ملية متَّحدة لا يعبأ بها ولا تسلم لها منافع ومكاسب إلا عند مَن غلبتْه بجيشِها، وظهرت الدولة العثمانية مِن قبل اليونان حتى انتهت بجيشها من "تساليا" إلى أبواب "آتنة"، ولكن ما نفع ذلك في إلغاء الامتيازات الأجنبية عند الدول العظيمة، مع أن تلك الغلبات على اليونان لم تكن مشوبة بمغلوبية قريبة العهد تجاه أولئك الدول مثلما كانت في زمن معاهدة "لوزان".
وقد باحَت جريدة "وقت" التركية عن السرِّ العميق الذي ذكرناه آنفًا في الأيام الأخيرة التي حدث فيها الخلاف بين صحُف الأستانة وصحف أنقرة؛ حيث قال كاتبها "محمد عاصم" في مقالة رئيسية نشرها في 10 من نوفمبر 1923م "لم ننسَ أن الجرائد الإنجليزية لا زالت تَكتُب في أيام وحيد الدين الذي جمع الخلافة والسلطة في نفسه بأنه ما دام شكَّل الحكومة في تركيا فلا يمكن تطبيق قاعدة المساواة على الأقليات غير السلطة فيها، ولا جعل تلك الحكومات حكومة عصرية، وأن القيود المُدهِشة التي كانت تحتويها معاهدة "سيفر" باسم حقوق الأقليات، إنما نتيجة طبيعية لذلك الشكل مِن الحكومة؛ أي: الحكومة الحائزة للخلافة"، ولعلك - أيها القارئ - بعدما كشفنا عنك غطاءك يظهر لك أنه إن كان للإنجليز - [وابحث أن الإنجليز ساهموا بقدر وفير في الكيد للإسلام وأهله ودولته، وكانوا استمرارًا لحملات الحروب الصليبية في العصر الحديث؛ فقد حصلوا على أكبر نصيب مِن ميراث الخلافة العثمانية، ولا يفوتنا أن نستشهد بما وقع في مصر أيضًا؛ فإن "الكاهن" "دانلوب" خلع عنه ثوب الكهَنوت ودخل في خدمة الحكومة يُدير مدارسها في خلال ربع قرن، فكان يُناهِض القرآن الكريم مناهضة سرية متواصلة، وكان "جلادستون" يقول - أخزاه الله - في برلمانهم: إن القرآن أصل البر في هذا العالم! أوجين يونغ: "الإسلام وآسيا أمام المطامع الأوربية" (ص: 157)] - كيد دولة الخلافة لم يقع ذلك الكيد باتفاق الإنجليز مع السلطان وحيد الدين، بل وقع باتفاقهم مع رجال الحكومة التركية الكمالية متوجِّهًا على الدولة والخلافة ومقام السلطان المشار إليه، بل ومقام عبدالمجيد، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112] (م. ص).
[3] مع أن بيننا وبين المصريِّين فرقًا يَعذرنا بالنسبة إليهم في اختيار السلم على الحرب، وهو مصادفة وزارتنا بصبيحة الحرب الكبرى التي حاربنا الدول بها، وذقنا مرارة المغلوبية في آخرها، ثم إننا لا نَعرِف الإنجليز ولا هم يَعرِفوننا، وإنما جاء بهم إلى بلادنا ودعاهم إليها برسول الدخول في الحرب العامة الاتحاديُّون إخوان الكماليين وخلطاؤهم قديمًا وحديثًا، فكان مسعى الإنجليز في أرضنا إعادة أرواح الاتحاديين في أجساد الكماليين ليدوموا في إفساد دولتنا وأمتنا - [نجَح الإنجليز في إفساد العلاقة بين المصريين وبين الأتراك لغرض في أنفسهم، وقد اعتمدوا في ذلك ضمن ما اعتمدوا عليه إشاعة فكرة الوطنية المصرية وفصلها عن الرابطة الإسلامية.
وللإنصاف، ينبغي أن نَذكُر هنا رأي مصطفى كامل - زعيم مصر الشاب رحمه الله - الذي تنبَّه إلى حقيقة الصِّلة بين المسألة المصرية والمسألة الإسلامية على حدِّ قوله، وكتب في مقدمة كتابه "المسألة الشرقية" محذرًا من خطط إنجلترا التي عملت منذ يوم احتلالها لمصر على تقسيم الدولة العثمانية، إذا لم ترَ لوجودها في مصر سلامة إلا بهَدمِها ووضع يدها على مصر بصفة نهائية، وضمِّ بلاد العرب إليها، وجعل الخلافة عربية في قبضة رجل يكون آلة لها!
المسألة الشرقية، ينظر المقدمة (ص: 278) مطبعة الأدب بمصر 1898 م] - ولم يدَّع الإنجليز لهذا البعثِ بعد الموت وقبل الحساب أسبابًا تُضعف وتوهن مواقع الصلحاء أهل الاعتدال في بلادنا إلا توسَّل إليها بأنواع مكايد تخصُّه وتغيب عن الأفهام، فصعَّب في كل الأمور على حكومات السلطان وقيَّد حركاتها بصفة الغالب المحتل بأرض المغلوب حتى أعجزها.
فلما قامت مقامها الحكومة الكمالية يسَّر لها كل أمر عَسُر على الحكومة الأولى، وليس للعاقل أن يحمل هذا التحول إلى قوة مصطفى كمال الطارِدة لليونان؛ لأن هذه القوة لا تغني عن صاحبها من الإنجليز شيئًا يضطرها إلى مساعدته وملاينته، بل طرد اليونان من الأزمير، وقد ساقه إليها الإنجليز بين تبعات الحرب العامة وتتماتها التي حالف عليها اليونان وحاربنا معه يلزم أن يؤثر في نخوة المخالَفة ويُسخط الإنجليز فضلاً عن أن الطارد إليهما؛ إذ الإنسان لا يرتاح بظفر عدوه على حليفه، بل يعدُّ ظفره عليه ظفره على نفسه كما عده الناس كذلك، ولن يقنع العاقل بمغلوبية الإنجليز أمام مصطفى كمال - [حقًّا لا يقتنع عاقل بهزيمة إنجلترا أمام مصطفى كمال، وهي إحدى الدول الكبرى حينذاك، وخرجَت من الحرب العالمية الأولى ظافرة، ووصفَت بأنها صاحبة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، إذًا هل كانت هناك تمثيلية تُحركها أصابع وراء الستار غرضها "تصوير" مصطفى كمال في دور "البطل الوطني" لخداع شعبه والتغرير به بعد ذلك؛ لكي يقبل الشروط التي تمليها عليه إنجلترا؟] - "وكان في وسعها على الأقل ألا توقع الصلح معه، وألا تحطَّ عن عاتقه أثقال العهود العتيقة"، وإنما يقنع بمكيدتها الإسلام في أن تتراءى كذلك - أعني: مغلوبة أمامه - حتى تَعظُم فتنتُه في أبصار المسلمين وبصائرهم، والرجل مَن لا تجد الإنجليز مثله لو جدَّت في طلبه؛ من حيث إنه يهدم مِن ماديات الإسلام ومِن أدبياته - لا سيما أدبياته - في يوم ما لا تَهدم الإنجليز نفسها في عام، فلما أثبتت كفايته وقدرته مِن هذه الجهات فوق كفايته وقدرته في طرد اليونان من الأناضول استخلفتْه لنفسها وانسحبَت من بلادنا - [أجل، هذه هي الحقيقة، والشواهد كثيرة للذين درَسوا هذه الفترة الغامضة مِن تاريخ المسلمين، بما لاح أن كمال أتاتورك وعصابته كانوا متواطئين مع الإنجليز، ومِن أدلَّة ذلك رد مستشار وزارة الخارجية البريطانية على بعض النواب المُعترضِين، فردَّ عليهم بقوله: "عليكم بوزن المسألة من حيث الفرق بين دولتي الترك القديمة والجديدة"؛ د/ يوسف القرضاوي: الحلول المستوردة (ص: 123) التعليق.
مشيرًا إلى ما قاله الشيخ مصطفى صبري، ينظر: (ص: 175)] - فما غادرتْها حتى هيَّأ مغادرتنا إياها قبلها، وما غادروا حتى استخلف مَن يُعادينا والإسلام أكثر منه، فمِن المتَّفق مع الإنجليز؟ نحن الذين صارت سياستها ويلاً وحربًا لهم أو مَن تساعده سياستها كل المساعدة؟ وهل نحن بِعْنا منها الوطن على ما رمانا به المصريون؟ والحال أن الإنجليز حلَّت بأرضنا فخرجْنا منها صفر الأيدي، وحلَّت بأرضهم فظلوا يخوضون في غمرات الغِنى، ونحن مع بلوغنا أقصى مراتب الدنيا لم نتلطَّخ مِن حُطامها بشيء، وما زال رأس مالنا فيها فقرنا وعفافنا، فلا نعرف التجارة ولا نكون لفَقرِنا كفؤ الإنجليز في البيع والشراء، لا في بيع الوطن ولا في بيع الناس، فلا يرى مَن رأى غيرها، حتى إنها التي تملأ ما انتقص من نفوسنا، نقابل أدنى تعريض وقع عليها بأنكى شدَّة، وهي بوضوحها ووجودها الممتاز بين أعدائنا تكلُّ الأبصار وتقطَع الألسنة التي تستطيل إليها كالحسام المجرَّد، ونحن أناس صدقتنا كلمة حق عند سلطان الباطل، ولا يتقرَّب بمكاننا في قلوب أمتنا الطاهرة أدناس "مادام غوليس" التي كانت رمانا بها، وهي يومئذ بين سَحْرِ مصطفى كمال ونَحرِه، وما نالني من الإنجليز نائل غير حمايته يوم مغادرتي الأستانة مِن تسلُّط الأشقياء الكمالية الذين ألقوا القبض في ذلك اليوم نفسه على الشهيد المغفور له علي كمال بك إلى أن ركبتُ الباخرة، وغير بضع أغطية قديمة خاصة بالأفراد العسكرية أعطونيها لما ضبط البوليس الجرم الذي يحمل رحالنا بين المرفأ والباخرة بلا أدوات تَقينا من برد الشتاء، وبين العائلة نسوان وأطفال ومرضى.
فإن كان ساقهم الحكم بكونِنا خوَنة الوطن باعته أننا لم نُخرج الإنجليز من بلادنا ولم نَضطرها إلى الخروج بالشدة والعنوة حتى فعل ذلك مصطفى كمال وطهَّر البلاد منها فإذًا اسألهم: لماذا لم يُطهِّروا بلادهم مِن الإنجليز، أيُّ شيء يحتاجون إليه في نَيل هذه السعادة العظمى، ولكن يتقاصَر بوعهم عنه، فهل حماسة شعبِهم وحميته في درجة غير كافية لذلك أو كفاية زعيمهم وجرأته ومهارته، وكل شيء يلزم له في هذا الأمر فوجوده فيه دون وجوده في زعيمنا مصطفى كمال، أم إنهم باعوا أوطانهم مِن إنجليز، وفي وفرهم ريبة للمُرتاب، كما أن في فَقرِنا حُجَّة الأمانة، لا سيما أنه يعضد الريبة حصول تلك السعة والدعة بعد حلول الإنجليز بأرضهم، ولا يلومنا مِن هذا التقريع المرِّ الأجاج، ففي أمثال الإفرنج لا يُرامَى مَن سكن في قصر مِن الزجاج، مع أنا جاريناهم على منطقهم وقانونهم الذي طبقوه بنا معاشر الأتراك غير الكماليين، وما ظلمناهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. (م. ص).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-12-2014, 08:27 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

أزمير تسترد من الأعداء فتخرب (2)
ـــــــــــــــــــــ


النص المحقق من كتاب: النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة
----------------------------------------

عندما بنيتُ الكلام على قانون المصريِّين - مع قطع النظر عن صحَّة ذلك القانون وفساده - أُذكِّرهم ما سبَق منهم في الحرب العظمى؛ حيث حاربوا الترك تحت قيادة الإنجليز، لا أقل من أنهم عزَّروه ونصروه مِن وراء جبهة الحرب، وهو الذي استخدمهم بتلك الصورة، فلو ساقَهم إلى المُعترَك لانساقوا، وناهيك بأن المرشال "اللنبي" أعلنَ شُكرَه لهم عقب انقضاء الحرب، واعترف بأن ظفر الإنجليز على جيش الأتراك في جهة البرِّ حصَل بخدمتهم ومعونتهم، وأن المصريِّين ذكروا تلك الخدمة والمعونة بلسان رسميٍّ، وعدوها مِن أقوى حُجَجهم التي بنَوا عليها دعوى استحقاقهم الاستقلال تجاه الإنجليز، وقد قرأتُ بحثًا بذاك الصدد في صحُفهم حين كنت نزيل قُطرِهم، فهل يجعل المصريون في كفارة ما وقع مِن خيانتهم الأتراك أن اتَّهمونا بالخيانة، ولا أدري أن استعانتهم الكماليين في مؤتمر "لوزان" وقد استُجيب لهم الحرمان هل كانت من جهلهم بحال الكماليِّين أم مِن جهلهم بحال أنفسهم؟

وما كنتُ أردتُ أن أتكلم فيما يتعلق بالمصريِّين أنفسهم، وأن أتدخل في مسائلهم الوطنية؛ كيلا أقع فيما وقعوا عندما بحَثوا عنا وعن مسائل تتعلَّق بِنا وبوطنيتنا غير واقِفين عند حدود صلاحيتهم وغير واقفين على حقائق الأحوال، ولستُ مع المصريين ممن يقول:
ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا
فنجهلَ فوق جَهلِ الجاهِلينا

ولا ممَّن يقضي غريم الدين مِن جنسِه، لكني أردتُ أن أُعلِّمهم تبعة الجهل والتسافُه على أعراض أهل العفَّة والأنَفة، وأن أقذف بالحق على الباطل فيَدمغه فإذا هو زاهق، إني ما رأيتُ قومًا أخطؤوا وأخطؤوا في درجة المصريِّين، وما رأيتُ وما سمعتُ فضوليةً كفُضوليتِهم في دخولهم بين فريقي الأتراك؛ بحيث لا يَسوغه أدنى أدبٍ سياسي أو اجتماعي في أمة مدنية، ولقد لقينا في مصر مِن المُقابلة الناشئة مِن سوء تأدُّبهم ما لم نلقَ جزءًا مِن آلاف الأجزاء في الأستانة إلى أن خرجْنا منها مُهاجِرين، مع أن مغادرتنا إياها كانت لاستيلاء السُّفهاء الذين يعادوننا لدِيننا على حكومتها، ولم يصحْ أحد على وجهي حتى يوم دخلتُ مصر بأني خائن ولم يرمِ علينا الكساحة والطماطم أحد في غير مصر[1]، فما للمِصريِّين ولنا وليس بيننا وبينهم علاقة وطنية، وما بقي مِن طرف الاتحاديين في الشرق الأدنى فهو وطنُنا لا وطنهم، وما لم يزل الاتحاديُّون والكماليون مؤتَمِرين ضدَّه منذ سنين فهو دينُنا لا دينهم، وما طحَنوه في رحى الحرب والنهْب نفوسُنا وأموالُنا لا نفوسهم ولا أموالهم، بل ولا نفوس ساداتهم الكماليين أبناء سلانيك، فاليوم أفلسْنا - نحن الأتراك - مالاً ونسمة وصحة بل وأخلاقًا، نال الاتحاديون وإخوانهم الكماليون والعودتيون آمالهم في إفسادها بوساوس الدعاية ووسائل الاختلاط في الحرب الكبرى مع الألمانيين ذكرانًا وإناثًا وسائر الأمم الأجنبية الذين خالفوهم تارة وحالفوهم أخرى، واضمُم إليه اختلاط الخائر بالزباد من إدامة الحروب في البلاد بمدِّها والعاصفات لا يرى أثر الحرب الكبرى على امتدادها شيء ما خلا الاتحاديين والكماليين فُقراء مفاليس، حتى إنه قد استهزأ بي بعض الصحف المصرية إبان نزولنا بديارهم؛ حيث كتَب أني فقدتُ في طريق السفر ألفَي جنيه مصري، مع أني سافرت وعندي أسرتي المكونة مِن بضع عشرة نسمة وبينها نسوة وصبوة في الدرجة الثالثة مِن درجات الباخرة التي حملتنا مِن الأستانة ببيع كتبي، مع أني وليتُ منصَّة المشيَخة الإسلامية أربع مرات، ولو كنتُ شيخ الإسلام في حكومة الاتحاديِّين لوُجِد عندي ما يُعادل آلاف بل عشرات آلاف جنيه مصري، وأمكن ضياع ألفَين منها في الطريق، وما كنتُ أحببتُ أن أبحث عن فقري[2] الذي به فَخري لولا اضطرَّتني تلك الجريدة، وأنا بحمد الله غني عن استعانة مصري في حالتي هذه، وفي حال مروري بقطْر مصر، وقس عليَّ سائر المهاجِرين المسلمين، وعند تحرير هذه الكلمات اطلعتُ على ورود قافلة منهم إلى الإسكندرية، ولا أسأل المصريِّين أن يسدُّوا خلتهم أو أن يرحموا فاقتهم، وإنما أسألهم أن ينظروا إلى شَعبِهم ونكد عيشهم، وأكثرهم كرام قومهم في بلادهم، ويستحيوا من أن ينعتوهم بالخوَنة البائعين لأوطانهم والآخِذين من الأجانب دنانير وجنيهات جمة.

والحاصل أنكم - أيها المصريون - لا تقدرون ما جرى علينا وعلى بلادنا مِن بعيدٍ حقَّ قدره، ولا يؤثِّر في قلوبكم ما حلَّ بنا تأثيره في قلوبنا، ثم إن معاملتكم الأحزاب التركية بمَعزل عن مقتضى العقل والتمييز، لا تُشبه قطعًا معاملة مَن يُحبُّ الترك ويريد الخير لها؛ إذ مِن المعلوم المجزوم منذ سنين أن في تركيا فريقًا يبثُّ الدعوة اللادينية ويُضادُّ دين الإسلام والأقوام الإسلامية - لا سيما العرب - بسبب أن الإسلام وصل إلى الترك منهم، وتأسَّس بنفوذ لسانهم في الترك، فمِن جرَّاء ذلك نرى هذا الفريق يَسعون بكل جهدهم في إبعاد اللغة العربية عن تركيا، ويعادونها بأشد من معاداتهم[3] سائر الألسنة الأجنبية، مع كون لغة الترك في حاجة عظيمة إلى الاستعانة بلغة العرب لا تُقاس على حاجتها إلى الاستعانة بغيرها، ومع عدم كون اللغة العربية مِن مؤخَّر اللغات فصاحةً ورقيًّا حاشا لله مِن ذلك، لكن السبب الأصلي - كما قلنا - خصومة الديانة الإسلامية، وانهماك أمة الترك مِن مديد الزمان في حبِّ لسان العرب وعدِّهم حبَّه من لوازم محبتهم وارتباطهم بدين الإسلام، فذاك الفريق اللاديني مع كونهم في غاية القلة بالنسبة إلى الأتراك المتدينين، جادلوهم وقاتلوهم منذ عشر ونيف سنين واستفزوا مَن استطاعوا بصوتِهم وخيلهم ورجالهم، وشاركوا في أموالهم ووعدوهم بما لا يخطر على بال الشيطان، وتغلبوا على سلطتهم وسلطانهم، فليس في تركيا منذ تلك المدة والحقبة شيء أعظم خطورة وأهمية مِن هذه المجادلة والمحاربة الأهلية، لا الحرب العامة ولا الحرب الخاصة ولا ضياع البلاد ولا استرداد بعض منها؛ لأن البلاد والأيام مما يُداولها الله بين الناس ليمحِّص الذين آمنوا ويمحَق الكافرين، وإنما الشأن الخطير لهذا التمحيص وذاك المحْقِ لا لنَفسِ البلاد والأيام، ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقَى الكافر منها شربة ماء))[4].

وإني - بحمد الله تعالى وتوفيقه - ظهرتُ عن ساق المجاهدة في هذا السبيل منذ أحسسْتُ الخطر على دين الإسلام في تركيا، وما أرسلتُ مِن ثوبي المشمَّر إلى هذا اليوم، مع أنه كثيرًا ما أعدي من ذلك الخطر المتوجِّه إلى الدين نفسي وأهلي، وما زلت ناصبًا في مقدمة الصف الذي يُصادم الذين يصادمون دين الإسلام[5]، وجاعلاً قلمي "العاجز" وقفًا على هذا الشأن جاريًا، ولا فخر ولا كذب، إن قلتُ أنا ابن جلا أو يضرب بهذه الخطة في خطتنا مثلاً، ثم إني رأيت المصريين في هذا العراك الذي نجم في بلادنا وتفاقم عونًا لأعداء الدين ولسان العرب، وحربًا لأحبتهما المتفانين فيهما بأموالهم وأنفسهم، وحتى إني لما نزلتُ بساحتهم وعاينتُ هذه الحالة النفسية المعكوسة - مع ما عاينتُ من سوء لقائهم - كدتُ أموت حيرة وعجبًا بعدما كنتُ لم أمتْ في تركيا بالرغم من شدائد الأخطار والمهالك التي حاقت بي طيلة بضع عشرة سنة.

وقد بلغ القارئ مِن لدني عذرًا في الإطناب، فلنختم الكلام بالتنبيه على جهالة أخرى مصرية: وهو أن الرجل الذي كتَب في المُقطَّم بعدما اتهمنا بقِلة محبتنا الوطنية، زاد على جهله بحالنا جهله بأحاديث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع كونه أزهريًّا، وظنَّ الكلمة التي ذاعت على الألسنة حديثًا نبويًّا فقال: "ألا حبذا لو كنت كتبتَ هذه الكلمة وأنت في البر لما قلتُ لك أكثر مِن تذكيري إياك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((حب الوطن من الإيمان))[6].

وأقول في خاتمة كلامي:
--------------
إن هذا الذي أُلخِّصُه بالخروج عن الدين ما حكمتُ به على الاتحاديين لا أغيِّر حكمي فيهم، ولو رجع المجلس الوطني في مسألة الخلافة والسلطة إلى وضعهما الأصلي الذي غيروه - وهو محتمل عندنا، ومتمنًّى عند مَن يُحبُّهم من المسلمين - وذلك لأن رجوعهم عن ذلك لا يَنبعِث مِن رجوعهم إلى الدين، بل مما أدت إليه تجاربهم المنبئة عن استياء عالم الإسلام، فيرون الدوام على المنافقة أسلم لخطتهم مِن المُجاهَرة، ويصير ماهية ذلك رجوعًا من قفرِ الكفر إلى ظل النفاق؛ قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً * بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 137، 138].

[1] لا نَستبعِد أن يتمَّ ذلك بفعل بعض العناصر المتعاونة مع الإنجليز، لا سيما وأنهم سعوا لإفساد العلاقة بين المصريين والأتراك.
[2] لا نجد برهانًا أسطع من هذا البرهان الذي أفحمَ به الشيخ خصومه، ثم تفجَّرت عواطفه عندما نشرت الصحف العالمية خبر صيام "غاندي الهندوسي"، احتجاجًا على سياسة الإنجليز في بلاده، فارتجَّت بهذا النبأ أرجاء العالم، عندئذ تفجَّرت عواطف الشيخ فعبَّر عن ذلك بأبيات من الشعر، قال فيها:

صام شيخ الهند الحديثةِ غِندي
صومة المُستمِيت والمُتحدِّي
وأراني على شفا الموت أُدعى
شيخَ الإسلام بله هندٍ وسِنْدِ
غير أن الصومَين بينهما فر
قٌ عجيب أُبديهِ مِن غير ردِّ
صام مع وجده، وصمتُ لعدْم
دام مذ ضفتُ مِصرَ كالضَّيفِ عِندي
وغدا صومه حديث جميع النَـ
ـناس، أما صومي فأَدريه وحدي

وقد لا يدخل في موضوعنا الحديث عن غاندي إلا أنني أرجو توجيه القارئ إلى سرِّ الحركة الإعلامية التي أحاطته بهالة كبرى، بينما حقيقة أمره - كما أثبت ذلك الأستاذ أنور الجندي - أنه أسهم بنصيب وافر في إجهاض الحركة الإسلامية في الهند التي كانت غرضها رفع راية الجهاد حتى إجلاء الإنجليز عن البلاد، ولكن غاندي عرقل بحركته إخراج الإنجليز من الهند، ثم يَستطرِد بعد ذلك مستهينًا بما لاقاه في سبيل الإسلام ناعيًا على مسلمي العصر تركهم لدينهم فيقول:

في سبيل الإسلام ما أنا لاقٍ
ولئن متُّ فليَعِش مَن هو بعدي
فليعشْ - رغم مسلمي العصر - دين
ضيَّعوه ولم يَفوه بعهد
كان مثلي يموت ولا يُعرف
لو كان شيخهم شيخ هند!

"عبدالفتاح أبو غدة: صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل"، (ص: 61)، ط مكتبة المطبوعات الإسلامية لبنان 1391 هـ 1971 م.
[3] وكان قرار إلغاء الكتابة بالحُروف العربية بمثابة انعكاس للعداء نحو الإسلام وللحيلولة بين الأتراك والقرآن الكريم، هذا فضلاً عن الآثار المدمِّرة لهذا القرار، "وهكذا بمرسوم واحد ألغى كل التراث الثقافي للمملكة التركية، فتحوَّلت إلى أمة أمية لا تقرأ ولا تَكتُب، وبدأت تتعلم القراءة والكتابة مِن جديد، وهو أعجب وأغرب قرار صدر في التاريخ، وأصبح أتاتورك أول حاكم فرض الأميةَ على أمة بأكملها؛ ولهذا السبب لم تُنجِب تركيا الحديثة أديبًا عالميًّا ولا عالمًا ولا مؤرِّخًا، وكيف تفعل وهي قد اكتشفت الكتابة منذ جيلَين؟!"؛ الأستاذ محمد جلال كشك: حوار في أنقرة (ص: 49، 50).
[4] عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء))؛ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
[5] سبق الإشارة إلى ذلك في أبيات الشعر التي أوردناها وذلك بقوله:

في سبيل الله الإسلام ما أنا لاقٍ
ولئن متُّ فليعش من هو بعدي
فليعش - رغم مسلمي العصر - دِين
ضيَّعوه ولم يَفوه بعهد

[6] وقد نبهتُ على كونها حديثًا غير نبويٍّ في مجلد سميته "مجددو الدين" ديني مجددلر، وكنت حينما تمَّ طبع هذا الكتاب غادرتُ الأستانة بغتةً ولم يُساعدْني الزمان لأن أستصحب النسخ المطبوعة في سفري، فبقي ألف نسخة منه إلا خمسين في مطبعة الأوقاف موضوعة في الصناديق، فغصبتها الحكومة الكمالية - على ما فهمتُ مِن نشرات الصحُف - وموضوع الكتاب بأَسرِه الدفاع عن كثير من الأحكام والشعائر الإسلامية التي لا يزال يطعن فيها كفار المسلمين في حادث الأزمنة ويَنتقدونها بعقولهم الضئيلة على تقاليد الإسلام القديمة، ولو طالعه ذوو الغيرة الدينية من علماء الإسلام واطَّلعوا على مفاده ثم اطَّلعوا على أن الحكومة الكمالية قد صادرت نسخَه المطبوعة في مطبعتها وحجزتْها عن الانتشار لكفاهم ذلك وحده مُرشدًا لتصحيح عقائدهم في خطط الحكومة الكمالية الباذلة جهدها في منعِ الخدمة الإسلامية والحيلولة دونها، وفيه أيضًا ما لا يَخفى مِن حَجرِ العلم وتضييق الأفكار، هذا، مع ما فيه مِن النصْب والسلبِ القبيحَين المتعلِّقين بصريح مالٍ أستحقُّه؛ بحيث لا استحقاق فوقه، وقيمته المادية جنيه تركي بعدد النُّسخ، وعلى أمثاله يَنحصِر ثراء مثلي، وعندي منها عدد لا يزيد على معظم جمع القِلَّة وواحد كنت أهديته إلى صديقي الفاضل النحرير حضرة محمد زاهد، **** الدرس سابقًا في المشيخة الإسلامية، فأخبرني أنه أودعه إلى المكتبة العمومية بالقاهرة مع كتاب آخَر لي - مسمى بقيمة المجتهدين الحديثين في الإسلام العلمية - ليقرأهما إخواننا المسلمون، وإن كانا مكتوبين على اللسان التركي. (م. ص).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-12-2014, 08:32 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

فتح أزمير ذريعة لهدم الإسلام والشرع (1)
ـــــــــــــــــــــ



النص المحقق من كتاب: "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"
-----------------------------

فكان حقًّا لهم بمثوبة هذا الفتح أن أخرجوا الخلافة عن الحكومة وخرَجوا عن الدِّين، ولم يُنكرْه عليهم أهل الإسلام، وزادوا على ذلك أن حاوَلوا إلغاء المحاكم الشرعية - وإن وقع منهم إحجام ما في ذلك فيَستمهلونه إن أمهلهم الله، ولقد كفى في الدلالة على خبث نيتهم مجرد محاولتهم - وهي المحاكم التي كان الاتحاديون اكتفوا بنزع رابطتها من المشيخة الإسلامية ونقلها إلى الوزارة العدلية، ولم يتجاسَروا على إلغائها بالكلية، فتجاسر عليه إخوانهم الكماليُّون[1]؛ لأنهم فاتِحو إزمير، وكأنهم مأذون لهم من طرف المسلمين عامة بمثوبة ذلك الفتح أن يهدموا قواعد الدين التي كانت هذه الدولة الإسلامية موضوعة ومبنيَّة عليها حتى تنسلخ عن كونها دولة إسلامية، وضمائرهم مطوية مِن قديمٍ على المُروق مِن الدين، فوجدوا فرصة الجرأة عليه بين أعيُن المسلمين وظهرانيهم في خلال التصفيقات والتهاني التي نالوها منهم بذلك الفتح، فإن لم يكن القصد هو المروق بحكومتهم عن الدين فاسألوهم ماذا قصدوه مِن تخلية الخلافة عن السلطة والتفريق بينهما عقب ما حصل لهم من بطَر الظفر بفتح أزمير، وأي حاجة ساقتْهم إليه؟

واحتمال كون السبب الذي ألجأهم إلى ذلك التفريق استراقةُ السلطة من آل عثمان إلى مصطفى كمال[2]، وعدم اجترائهم على استراقة السلطة والخلافة معًا ليس بشيء؛ لأن اغتصابهما معًا كان أهون مِن التفريق بينهما؛ لأن فيه استهانة بآل عثمان فقط، وفي تجريد الخلافة عن السلطة استهانة بالدِّين بواسطة الاستهانة بالخلافة وإلغائها عن العمل كما سنوضِّحه، واستهانة بآل عثمان أيضًا، مع أنه قد تبيَّن أنهم لا يَجتنبون الاستهانة بهم بما لا مزيد عليه، وقد احتاجوا إليها في نزع السلطة عنهم، ومَن استُهين به للسلطة كيف لا يُستهان به للخلافة، وهل هذا إلا استهانة بالخلافة؟

وقول مَن عارضَني بمقالته في جريدة "اللواء المصري" نصرة للكماليين: "إن في هذا المنطق تضليلاً للعقول والأفهام؛ أيُّ علاقة بين فصل إحدى السلطتين عن الأخرى وبين الانصراف عن الدين الإسلامي؟! وهل إذا أخذت الأمة سلطة الحكم في يدها؛ حرصًا على مصلحة البلاد وقطعًا لدابر النكايات والدسائس التي طالَما كان مقام الخلافة محوطًا بها، واستئصالاً لشأفة شيخ الإسلام السابق وزمرتِه حتى لا يستعملوا نفوذهم الديني على الخليفة لتحقيق مآربَ وأغراضٍ لا تتَّفق مع الإسلام في شيء، ولا هي في مصلحة البلاد".

مِن لغوِ الكلام، يمر بمنطقي الذي هو صخرة الوادي إذا ما زوحِمت، ولا يُحرِّكه عن موقعه في نفوس أولي الألباب؛ لأني أبحث في تجريد الخلافة من السلطة، وأوجِّه إنكاري على هذا التجريد والتفريق، فإن كان مقام الخلافة محوطًا بدسائس شيخ الإسلام[3] السابق فالواجب في قطع تلك الدسائس تبديل شخص هذا الشيخ وحده أو تبديل الخليفة، وهذه غاية لا يتخطَّى إلى ورائها بتبديل قاعدة الخلافة التي أُسِّست في الشرع مقترنة بالحكومة والسلطة، ولو كان ذلك التبديل حرصًا على مصلحة البلاد، وإلا كان كالقول بتبديل دين الإسلام حرصًا على مصلحة البلاد. وهل غفل الشرع - عندما أسَّس بُنيان الخلافة على الحكومة والسلطة - عن مصالح بلاد المسلمين، ثم انتبه الكماليون لما غفَل عنه الشرع؟ إن هذا هو الضلال المبين، وكأني بذا الضلال أصل كل خِلاف وقع بيننا وبين الاتحاديِّين والكماليين، ثم إنه هل كانت الإحاطة بالدسائس مقصورة على مقام الخلافة، مع كون مقام السلطة مأمون الثقة في ذلك حتى التزم إلغاء الخلافة لاستئصال تلك الدسائس دون السلطة؟

[1] يشير هنا إلى كل مِن "الاتحاديين" و "الكماليِّين"، والاتحاديون هم أعضاء "جمعية الاتحاد والترقي"، والكماليون هم أتباع مصطفى كمال أتاتورك، ثم اجتمع الفريقان على أمر واحد مستندين إلى قوة الجيش، وقد اتبعت جمعية "الاتحاد والترقي" منذ عام 1909م فرض سياسة "التتريك" ولو بالقوة الغاشمة، وأحذت تتحدى الكرامة العربية في أعزِّ ما لديها مِن دين ولغة، فهيأت هذه السياسة التربة الصالحة لبذور الحركة الانفصالية كي تنمو وتترعرع، وهذا ما يعرف بـ "الاتحاد الطوراني".
لذلك ينبغي التمييز بين فترة حكم "العثمانيين" وبين فترة حكم هؤلاء "الاتحاديين"؛ حيث كانوا أعداء للشعبين التركي والعربي معًا كما سيوضِّح ذلك الشيخ مصطفى صبري في كتابه، وكانت الحقيقة البارزة في تكوين هذه الجمعية أنها "غير تركية" و"غير إسلامية"؛ فمنذ تأسيسها لم يظهر بين زعمائها وقادتها عضو واحد من أصل تركي صافٍ؛ فأنور باشا مثلاً هو ابن رجل بولندي مرتدٍّ، وكان "جاويد" من الطائفة اليهودية المعروفة بـ"دونمة"، و"كراسو" مِن اليهود الإسبان القاطنين في مدينة سالونيكا، وكان طلعت باشا مِن أصل غجَريٍّ اعتنق الإسلام دينًا، أما أحمد رضا - أحد زعمائها في تلك الفترة - فكان نصفه شركسيًّا والنصف الآخر مجريًّا، إلى جانب كونه من أتباع مدرسة "كونت" الفلسفية؛ ينظر كتاب الدكتور يوسف القرضاوي: الحلول المستوردة، (ص: 152)، نقلاً من "ستون وتسون".
[2] وقد ظهر الآن، لكل باحث محقِّق مُنصف، أن مصطفى كمال قام بتمثيلية محبوكة الأطراف لذر الرماد في العيون؛ حتى تمكن من الانفراد بالسلطة أخيرًا، فكشر عن أنيابه - كما يذكر مؤلف كتاب "الذئب الأغبر" - ومِن ثَمَّ أصبح التقييم النهائي لانتصاراته العسكرية في الخارج وإجراءاته في الداخل، وأنها لم تكن في حقيقتها سوى تمرُّده وتنكُّره للإسلام والأمة، وحمل لواء الطورانية، ومحاولته جعل جنسًا أوربيًّا، حدث كل هذا وسط موجة من التزييف الكامل للحقائق، واضطهاد لكل معارض على طريقة "هولاكو" و"جنكيز خان" و"هتلر" وكل جبابرة التاريخ.
وانقضت "المِحنة الكمالية"، ولتزيح الستار عن بداية المآسي الإسلامية؛ حيث ظلت تتكرر بالتقليد والمحاكاة بصورة أو بأخرى في بلاد العالم الإسلامي، وأخذت الأمة - على يد بعض المنتمين لها - تقضي على نفسها بالتجارب الفاشلة تلو التجارب، ولكن جاء الشيخ مصطفى صبري بكتابه هذا ليَلفتنا إلى أنه من المستحيل قلب حقائق الفطرة الإنسانية، أو تغيير حقائق التاريخ، أو تزييف البديهيات المقرَّرة، "وقد ينتصر هذا الزيف الفكري لحقبة قد تطول وقد تقصر، لكن النهاية المحتومة هي أن تنهزم الترهات، وتَخلد الحقائق الأصلية التي لا تتأثر بسيف رجل قوي، أو مزاعم مُفكِّر منحرف، أو افتئات فلسفة عرجاء"؛ من كتاب د. نجيب الكيلاني: "الطريق إلى اتحاد إسلامي"، مكتب النور، طرابلس، ليبيا: 1381هـ - 1962م.
[3] يعني نفسه، ويعبِّر هذا الرأي عن أقوى الحجج في وجه الطاعنين في شخص كلٍّ مِن الخليفة وشيخ الإسلام مصطفى صبري، فلو أُخلِصت النوايا لقام مصطفى كمال بالتخلص منهما وحدهما دون المساس بالخلافة، ولكن أعماله تفضَح أغراضه؛ إذ استهدف نظام الخلافة كله كإطار لوحدة المسلمين وتجسد لتاريخ أمتهم، وبما يمثله من تميزها برسالة نيطت بها وحدها - أي: حمل خلافة النبوة.
ولمن يتشكك في أهمية هذا النظام للمسلمين ندعوه ليقرأ معنا إحدى وثائق لورنس السرية؛ حيث يقرِّر فيها ما يلي: "مهما تمخَّضت عنه هذه الحرب - العالمية الأولى - فيجب أن تكون نتيجتها القضاء نهائيًّا وإلى الأبد على السيادة الدينيَّة للسلطان التركي"، وإذا سألنا: لم؟ فسنجد الإجابة في تقرير مسؤولَين إنجليزيَّين يقولان فيه بالحرف الواحد: "من حق بريطانيا أن تنظر بعين الاهتمام إلى سقوط الإمبراطورية العثمانية الذي كان يعني دعوة خطرة بالنسبة إليها - أي: بريطانيا - خصوصًا وأن هذه الإمبراطورية كانت عبارة عن وحدة دينية متماسِكة، يَحكمها السلطان كخليفة للمسلمين، وزعيم لمسلمي العالم"، وهذا هو هدف الغرب كله الذي احتفل يوم إعلان إلغاء الخلافة!
وينظر "لورنس العرب" لزهدي الفاتح (ص: 71، 72).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-12-2014, 08:34 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

فتح أزمير ذريعة لهدم الإسلام والشرع (2)
ـــــــــــــــــــــــــ

النص المحقق من كتاب: "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"
-----------------------------------------------

فإن كان فتح أزمير للدولة العثمانية التي كان مصطفى كمال وأصحابه ممَّن تربى بنعمتها، ووضَع نفسه تحت أَمرِها ونَهيها، فهم عَصوها وبغَوا عليها، ثم هدَموها وأرادوا أن يَمحقوا اسمها ورسمها، حتى إن واحدًا منهم اقترح سنَّ قانون يأمر الأمة[1] بتجريد طربوشاتهم عن زرٍّ معلق عليها؛ لكونه من آثار الدولة العثمانية، فإن أوجبَ كلُّ فتح فاز به قائدُ جيشٍ حقَّ البغي والوثوب على دولته المَتبوعة له وأميرِه المعظَّمِ شأنُه، فويل للدول مِن القائدين الفائزين، وإني أتعجَّب مِن المرشال (فوش)، و(اللنبي) وأمثالهما؛ لماذا لم يتحكَّموا، ولم يَبغوا على دولهم، فإن قلت: إن مصطفى كمال وأصحابه عصَوا دولتهم قبل فتح أزمير؛ لكونها آمرة بالصبر على احتلال اليونان بها، ومِن أجلِ أنها ساقَت عليهم الجيش كاليونان وحكمَت عليهم بالإعدام، قلت:
أولاً: ليس من حق الجيش وقائده أن يَحكُم في سياسة دولته، ويعمل برأيه على خلاف رأيها؛ لأن موقف الجيش[2] في الدولة إنما هو موقف أداة الإجراء، لا مصدر الأحكام والآراء، وإن كان رأي دولته متضمِّنًا لما يشقُّ احتماله على الأمة، ألا يرى أن جيش الألمانيين مع كونه أقوى بكثير من جيشنا، ما خرج عن طاعة حكومته التي عقدت معاهدة (فرساي)، مع كونها في غاية الشدة والثِّقل على أعناق الأمة الألمانية!

وثانيًا: إن خروج الكماليِّين عن طاعة أمير المؤمنين لم يتولد من مقاتلتهم والحكم بالإعدام عليهم، بل تولدت مقاتلتهم والحكم بالإعدام عليهم من خروجهم عن الطاعة؛ حتى إنهم توجهوا وهجموا على الآستانة قبل التوجه إلى أزمير، فقوتلوا بعد ذلك، على أنه لو كان هذا الخروج لاسترداد أزمير، ولم يكن مقصودًا لهم بذاته، لانتهى وزال بحصول أمر الاسترداد.

(2)
وإن قلنا: إن ذلك الفتح للإسلام ولإعلاء كلمته، فهم فارَقوا الإسلام بعد ذلك؛ لما أنهم فرَّقوا بين حكومتهم وبين مقام الخليفة وجرَّدوه عن نفوذه، وقد بينا أن ذاك التفريق تضمن تلك المفارقة؛ لأن الخلافة صفتها المميزة عبارة عن الرئاسة الدينيَّة التي تَستتبِع الحكومة الدنيوية الجسمانية، وبعبارة أخرى كون المسلمين تحت حكومة رجل، وكون ذلك الرجل تحت حكومة الدِّين لنيابته عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حكومته بين أمته، فلما جُرِّدت الحكومة عن الخلافة، وصارت حكومة عادية زمنية، ولم يكن فرق بينها وبين حكومة الخلافة إلا كونها غير مقيَّدة بقيد النيابة وحكومة الدين عليها، فلا جرم صار معنى افتراق الحكومة عن الخلافة افتراقها عن الديانة، ومع ذلك فإنهم كثيرًا ما قد صرَّحوا بأن تجريدهم الخلافة عن السلطة والتفريق بينهما إنما وقع بقصد التفريق بين الدنيا والدين، وكان فتح أزمير عملاً واجتهادًا في سبيل تلك الدنيا التي جرَّدوها عن الدين لا في سبيل الدين، وليس في ذلك الفتح نصيب للدِّين إلا تَجريده عن نفوذه وتبعيده عن حكومته[3]، فهم بما أفادهم فتح أزمير مِن القُدرة والجراءة أظهروا خُلَّتهم اللادينيَّة، والغافل يستدلُّ به على دفاعهم عن بيضة الإسلام، مع أنهم الذين ترقَّبوا فرصة لافتراس دين الإسلام بادِّعاء احتراس الإسلام، وقد وجَدوها في فتح أزمير، فلو كان كل مَن حلَّ بأزمير وأحرزه ناصبًا نفسه للدفاع عن بيضة الإسلام مِن غير أن ينظر إلى حال الفائز ظاهره وباطنه، وما صدر منه، لكان اليونان الذين حلُّوا قبل هذا بأزمير ناصبي أنفسهم للدفاع عن بيضة الإسلام، وإذا كان مصطفى كمال لما تغلَّب على أزمير تغلَّب على دين الإسلام، فماذا يعود مِن هذه الغلَبة للإسلام؟ وماذا يَعود للمسلمين بصفة أنهم مسلمون؟ ولئن كانت أزمير شرَّ ذريعة وشر قوة في أيدي الكماليِّين لهدمِ ما كان للدين من الحكم على الحكومة في تركيا، فلعنة الله على أزمير وعلى فتحها واستردادها، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 36]، وإن قومي الأتراك إن نالوا شوكة وقوة وعُدموا دينهم، فلا تؤسيني قوتهم؛ بل تُضاعِف أسفي؛ لأنهم ليسوا - إذًا - بقومي؛ بل أعداء ديني، ولا يَسرُّني قوة الأعداء[4].

ومما لا يَجوز أن يُغرَّ به العاقل؛ بل يدلُّ على تلاعبهم بالأفكار الإسلامية - تصريحُهم عند إعلان حكومتهم الجمهورية بأن دين الدولة الإسلام، وليس معنى ذاك التصريح مرجعة منهم إلى الإسلام، بل مراجعة جديدة إلى مخادَعة المسلمين في أقاصي البلاد الذين استاؤوا مِن مُروقهم عن الدِّين، لكن ذلك فرية ما فيها مرية، وقول يُناقضه فعل؛ بل ينقضه أقوال، وقد صرَّح مندوبهم في لوزان وغيره أن حكومتهم لادينيَّة، وأن جمهوريتهم ليست بجمهورية إسلامية، فكيف يتَّفق هذا مع ذلك، ومؤسِّسو هذه الحكومة الجمهورية هم بأعيانهم مؤسِّسو الحكومة التي تقدمتها، وهي حكومة المجلس الوطني، التي فاتَها هذا التصريح عند إنشائها، بل اقترنت بها التفرِقة بين الخلافة والحكومة التي هي بمنزلة التصريح بضدِّ الإسلام، وأبيت هذه التفرقة أيضًا في الحكومة الجمهورية على حالها؛ ولأنَّ مُناقشة الديانة وضدها ما زالت تجري في صحفهم حال كون الذين يَختارون الخطة اللادينية عبارة عن أنصار الحكومة الجمهورية ومؤسسيها مثل جلال نوري بك وأغا أوغلو أحمد بك وضيا كوك آلب بك، والذين يلتزمون الخطة الدينية مثل صاحب جريدة (توحيد أفكار) في جانب المعارضين للحكومة.

ويجب للمصريين أن يتذكروا هذه المناقشة والاختلاف، التي طالما بحثَت عنها صحفهم وتبحث الآن، إلا أن الصحف المصرية لا تصرِّح كون الحكومة في هذا الاختلاف متَّفقة بل متحدة مع أصحاب الخطة اللادينيَّة تصريحًا تامًّا، وتحيل ذلك إلى إمكان تفهُّم الحقيقة بتصنيف الرجال المختلفين في هذه المسألة، وتعيين مواقفهم في داخل الحكومة أو خارجها، فبينما دام الخلاف والمناقشة؛ إذ أُعلنت الجمهورية بغتة مع التصريح بالديانة، على عكس ما ينتظر ويستدلُّ مِن جرَيان المباحثات، فثبت أن هذا التصريح ليس بمبني على الحقيقة والإخلاص، بل جعل ذلك ضم إيلاف إلى وحش الجمهورية مسوقًا لتحسينها في الأسماع، فقد دلت المناقشات التي تقدَّمت إعلانها على مشروعين: الجمهورية والإلحاد، يدعو لهما فريق، ويضادُّهما فريق؛ فالفريق الأول لما رأوا صعوبة في قَبول مشروعيهما معًا، اجتزوا بإعلان أحدهما وإضمار الآخر إضمارًا وقتيًّا، مع أنه أعلن ذلك أيضًا مِن قبلُ في ضمن تفريق الحكومة عن الخلافة، وفي صراحة أقوال وأفعال، وليست هذه المناداة بالديانة رجوعًا منهم إلى الإيمان بعد الكفر كما ذكرنا، بل من قبيل ما دل عليه قوله تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: 14].

وتؤيد كل ما ذكرنا مقالةٌ رئيسية انتشرت في جريدة (ابلري) لسان حال مصطفى كمال في الآستانة بتاريخ 24 من شباط 1340 هـ، وعنوان المقالة: "التضاد وإدارة المصلحة"، والشطر الثاني من العنوان يطلق في اللغة التركية على قول أو فعل يُراد به قضاء الحاجة الوقتية، ولا يقترن بدافع الصدق والإخلاص، وفي تلك المقالة هذه الكلمات نصُّها عُنينا بتعريبها؛ لتكون عبرة للمُعتبر، ويقظة للغافل الذي أبطأ في يقظته كل الإبطاء: "إن مجلس الأمة فصَل بين الخلافة والحكومة، وما باله حتى الآن لم يُلغِ الوزارة والمحاكم الشرعيتين؟ نريد أن نعيش عيشة لادينية ثم نبحث في قانون الأسرة عن الأزواج الأربعة، كلما تواصَينا بفكِّ الدنيا عن الدين، جرَينا على عكس ذلك المبدأ أو نقع في مهاوي التضاد، فإذا نظرنا إلى آخر شكل لقانوننا: "التشكيلات الأساسية" الذي كتبْناه بمديد تنقب وتأهب وشجاعة، فأول تضادٍّ يُصادم النظر فيه:
(1) أن دين الدولة الإسلام.
(2) أن أهالي تركيا يُسمَّون بالترك.
(3) أن في الجمهورية التركية حرية الوجدان.

فلنقف عند هذه الأسس؛ نفك السلطنة عن الخلافة، ثم نبحث حتى الآن عن دِين رسمي، فما هذه الحميَّة، وما مخلل الملفوف ذاك[5]؟ فإذا كنا نمشي على التضاد وإدارة المصلحة والجبانة، فلا نمشي عليها في دورة الجمهورية، وإلا فعالم يضحك منا لا يثق بجدِّنا وإخلاصنا، فهل نحن نَخدع أنفسنا أو نخدع العالم؟".

ولا يكون دين الحكومة دين الإسلام بمجرد أن يقال: إن دينها كذلك، مع أن القرون الماضية والحالية كلها قائمة على خلافه، ويأباه التفريق بين الخلافة والسلطة قبل هذا وإبقاؤهما الآن مفترقتَين؛ لأن كون الحكومة متديِّنة بدين الإسلام لا يتحقَّق إلا بجعل الدِّين عاملاً وذا نفوذ في الحكومة، والحال أن الحكومة خرجت عن رِبقتها وقطعَت تدخُّله فيها بتفريق الخلافة عن السلطة، كما أثبتنا ذلك وأوضحناه في هذا الكتاب على طوله، والحاصل أن ديانة الأمة تتصوَّر لها جهتان وحيثيتان[6]؛ الأولى: كون أفرادها منتسبين إليها ومقيدين بها باختيارهم التام، غير مخاطَبين في ذلك بأمر أحد أو نهيه يبلغ درجة السلطة، فهذه ديانة الأمة بالنظر إلى أحوالهم الانفرادية، ثم إن لهم حالة الجمعية وحالة الحكومة، ودين الإسلام لما لم يَعزُب عن عنايته ورقابته حال الإفراد وحال الجمعية معًا، بل كان شديد العناية والعلاقة بالأحوال الاجتماعية والمدنية، فلا جرم كان شرطًا لصحة أن تعد الأمة أمةً مسلمة إسلامُ فردها الحكمي وشخصيتها الاجتماعية والسياسية كإسلام أفرادها الجزئية، بكون هذا الفرد الحكمي أيضًا منقادًا لأحكام الشريعة الإسلامية ومعترفًا بها، فإن أذعَنت الأمة لأحكام الإسلام وحدانًا ولم تُذعن لها في حالة الجمعية والحكومة التي تمثِّل فرد الأمة الحكمي، ما صحَّ إسلامها، وإذا اختارت الأمة حكومة لا تعترف بكونها تحت مراقبة الأحكام الشرعية، بل تكون حرة مُطلَقة العنان؛ كما صرح بذلك في برنامج حزب الخلق - أعني: حزب مصطفى كمال - وكما تمناه ضيا كوك آلب إمام الاتحاديين وواضع أساس الجمهورية الكمالية وأنكر خلافه حيث قال: فالأمة بمجرد اتخاذهم بطوعهم حكومة لهم كتلك، يَنخلِعون عن بُردة الإسلام عندي قطعًا، ويَنخلِع عنها مَن ارتاب في ذلك أيضًا، ولا ينفعهم ديانتهم من حيث أفرادهم، ما لم يُقرُّوا بحكم الدِّين وحكومتهم عليهم، بل يكون ذلك ارتدادًا منهم بجملتهم؛ كما حكمنا به قبل هذا بسنَة في مقالتنا التي نشرناها بالمقطم والأهرام، ولا نفتؤ نَحكم به.

فإن قلتم: إن الحكومة التي وضعتْ نفسها تحت قيود الدين كيف تكون حرة ومستقلة؟ وهذا السؤال مماس للداء العُضال الذي حدا المُتفرنِجين إلى الفصل بين الحكومة والدين، لكنا نقول بحول الله وتوفيقه: إنا إذا اعتقدنا أن دين الإسلام نعمة للمسلمين وسعادة لهم في دنياهم وأُخراهم، وأنه داخل في مُشخصات شعوب المسلمين الذين يَشعرون بها أنفسهم، ويعدونها من مزاياهم النفسية، فلا يُنافي حريتهم واستقلالهم كون حكومتهم ممنوعة من التخطي إلى ما وراء حدود الدين، كما أن كونها ممنوعة بالطبع عن العمل بما يُغاير الوطنية والشعائر الكلية، لا يُنافي الحرية والاستقلال.

وهنا مزلقَة فِكرية يجب أن ننبِّه عليها؛ وهي أنَّا إذا أحببْنا الحرية، وأطربْنا مكانها عند النفوس الشريفة، فلا بد أن نريد بها حرية الأمم تجاه الحكومات، لا حرية الحكومات في القيام بأمور الأمة، حتى إن الزيادة في حرية الحكومة تضرُّ بحرية الأمة وتَنقصها؛ ولهذا يحب جدًّا أن تكون الحكومة في معاملاتها مع الأمة مقيَّدة بقوانينها، والإدارة القانونية مَثل سائر في الترقي والتمدن، والمراد بها أن تُثبت الحكومة لقاء الأمة وتبرَّ في عهدها الذي تضمنُه قوانينها، وأن تتجنَّب التزحزح عنها أو التلاعب بها، ثم إن هذا الثبات وعدم التزحزُح، وإن كان عبارة عن ألا تَخرُج الحكومة في أعمالها عن قوانينها إلى أن تُبدِّل تلك القوانين، وكان فرق يبن ذاك الخروج عنها وبين الإكثار في تبديلها، ثم المشْي الجديد على القوانين الجُدد، إلا أن الثاني أيضًا لا يَخلو مِن أن يكون تلاعبًا بالقوانين، ولا يوجد عظيمُ فرقٍ بين تخطِّي القوانين بإهمالها وبين تخطيها بإبدالها، ولا يجوز أن يجعل القوانين المسنونة لتَحول بين النفوس وأهوائها آلاتٍ بيد الحكومة لإجراء الأهواء، وكون التبديل باختيار الأمة لاقترانه بآراء نوَّابِها غير مجدٍ في استئصال المَحاذير، إذا لم يكن آراء النواب في الحقيقة آراء الأمة بعينها وإن عدَّت كذلك، دعُوا آراءَ النواب في تركيا؛ لأنهم ليسوا بنواب الأمة، فضلاً عن أن تكون آراؤهم آراءها، بل ابحث عن النواب الحقيقيِّين، ولهذا يحتاج في بعض البلاد إلى توثيق القوانين الصادرة مِن البرلمان بعرضها على الأمة، مع أن الأمة نفسها أيضًا تحتاج إلى رقيب مِن نفسها ودساتير أولية فكرية وأدبية ارتكزت فيها تقيها الخطأ والزلل في اجتهادها الذي تَبني عليه قوانينها[7]، وبعد ذلك ربما يتقاصَر أكثر أفراد الأمة أن يُراقب القوانين ويُماشيها، لا سيما إذا جعلت عرضةً للتبديل، أو سنَّت على خلاف طبيعتها الأولى أو الثانية، ويذكر هنا مثالاً مِن قوانين حكومة أنقرة؛ فقد حكمَت على لطفي فكري بك بمُقتضى قانون الخيانة الوطنية السالب حق الانتقاد على بعض مبادئها، وكيف ذهل عنه فكري بك مع كونه نقيب المحامين بالآستانة، ولم يتقدم عهدُه ليطرأ عليه النسيان، حتى استمدَّ عند الدفاع عن نفسه في محكمة الاستقلال من تفسير القانون بأنه لا يَمنع حرية الكلام، ولا يكون به أن يمنعه، وإني ألفت النظر إلى أن واضعي ذلك القانون بحُجَّة حرية الحكومة في سَنِّ القوانين كيف اضطهدوا الحرية، ورأس الخطيئة أن تعدَّ الحكومة - بل الأمة - نفسها حرة في سَنِّ أي قانون شاءت.

[1] يُشير إلى إرغام الشعب التركي على ارتداء القبَّعات، ومحاكمة الرافضين للبسِها بواسطة محاكمات صورية غاشمة سُمِّيت "محاكم الاستقلال"، والأصحُّ تسميتُها "محاكم الإذلال"؛ فقد اتَّخذها مصطفى كمال سوطًا رهيبًا يُلهب به ظهور كل مُعارضيه، وقد سخط الناس على ما أُرغموا عليه مِن لبس القبعة الأوربية أكثر مما سخطوا من أي إجراء آخَر اتخذتْه الحكومة الجمهورية؛ جب، وجهة الإسلام (ص: 209).
[2] اعتمد مصطفى كمال على الجيش في تنفيذ أغراضه، وقد مر بنا قول الشيخ مصطفى صبري: "إن المعسكر كان في زمن الآلة وقوة الظهر لسياستهم، فتفرَّقت تلك الآلة في الدولة الكمالية، وغدَت عاملةً بنفسها"، وكان شيخُنا سابقًا لعصره بمثل هذا الرأي؛ حيث ذهب إلى أن حُكام تركيا الجدُد لا يَستندون إلى الشرعية، ويَعني بها الأحزاب السياسية المعبِّرة عن إرادة شعبية حقيقية، فاستخدموا الجيش أولاً كأداة، ثم تولى رجاله بعد ذلك الأمور بأنفسهم، وهو أسلوب الانقلابات العسكرية التي انتشرَت في دول العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، فهل هي مجرَّد مصادَفات؟ أم أن وراءها مخططات مرسومة بعناية ودهاء؟
نعود إلى أتاتورك الذي احتال للجمع بين القوة العسكرية والشرعية المُستندة إلى إرادة شعبية، فهداه تفكيره إلى إنشاء "حزب الشعب"، الذي أخذ يَحكم باسمه، فكيف تكوَّن هذا الحزب، وما هم أعضاؤه؟
يجيبُنا على ذلك أرمسترونج بقوله: "إنه يطمَع في أن يَصير دكتاتورًا، ولكن علامَ يَعتمِد في بلوغه غايته أن الجيش الذي يؤيده اليوم سوف يَنسى انتصاراته وأمجاده غدًا حين يتقادَم به العهد في أحضان السلام والفقر وحفنة من أنصاره مِن النواب المُستعدِّين لتأييده بمُسدَّساتهم، لن يستطيع أن يُرهب بهم الجمعية والبلاد كل حين، وإذًا ينبغي أن يكون له سند غير القوة، أن يَخلق آلة سياسية محارِبة يتَّخذها سلاحًا له، وهنا نحن في لجانِ المُقاومة المحليَّة التي أنشأها في الأقاليم، بمعاونة رؤوف ورفعت سنة 1919، والتي كانت نواة المنظمات الشعبية للمُجنَّدين التي طردت الإنجليز واليونانيين من البلاد وقادتها إلى النصر، ولما كانت هذه المنظمات التي يلتهب أفرادها وطنية وحماسة ذات صبغة عسكرية؛ أي: تخضع لأمره مباشرة، فقد قرَّر أن يَحملها إلى آلة حزبية منظَّمة تخضَع لإشرافه، وتُصبِح الحاكم الفِعلي لتُركيا وفي وسعه أن يُطلق عليها "حزب الشعب"، ويمنَح كل لجنَة منها سُلطة اختيار عمدة القرية وواعظها وناظر مدرستها ومدير شُرطتِها وبريدها وكنَّاسي شوارعها، ومِن هنا تَرتبِط اللجان به ارتباطًا شخصيًّا؛ بحيث يَنعكِس على كل منها نجاحه أو فشله"؛ (المصدر نفسه ص: 196/197).
[3] هذه هي القضية الرئيسة التي خصَّص لها المؤلف أكبر عنايته في كتابه؛ لأن نزع "الحاكمية" عن الإسلام حوَّلتْه إلى عاطفة فردية وسُلوك شخصيٍّ، وقضى على شوكته وسلطانه في المجتمع والدولة.
[4] تلخيص الكلام أنه لا شبهة لأحد مِن المسلمين في داخل تركيا أو خارجها أن الكماليين وحكومتهم تلاعبوا بأحكام الدين، وأتوا ما يدلُّ على استخفافهم بها مِن قول أو فعل، وقلَّما يمضي يوم إلا وتُخبِر عنهم الصحف بشيء من ذلك، ولعلَّ القراء المسلمين المخلصين المستبْقين لهم مودة وعاطفة إلى الحكومة التركية مُنتقلة من ماضيها إلى حالتها الحاضرة، بعدما رأوا لا مَندوحة عن تصديق ما قلتُه فيهم، يودُّون لو كنت اجتزأت في نقدي عليهم بالانتقاد الديني والعلمي، غير مُجاوِز به مِن مسلك النصيحة إلى معترك السياسة، ودون أن أُناضلهم في تلك الساحة؛ لكي أعلم أن الأمور مُنتهية إلى السياسة، ومنها يَستفيد كل خير أو شر قوة الوجود في الخارج ابتداءً وبقاءً، وأن المساعي المتعلِّقة بمصلحة العامة إن تجرَّدت عن السياسة تذهب هباءً وهواءً، وكل نصيحة لا تؤيدها السياسة، فهي بمنزلة تَضرُّع العاجز إن شاء المنصوح له يسمعه مع كون المسألة أهمُّ مِن أن تكون معلَّقة على نصَفتِه أو سماحته، وإن شاء يضحك مِن عجز الناصح، وربما يعاقبه عليه إن لجَّ.
والذين جرَّدوا الدين في ديارنا عن السياسة كانوا هم أو إخوانهم لا يرَون الاشتغال بالسياسة لعلماء الدين؛ بحُجَّة أنه لا يَنبغي لهم وينقص مِن كرامتهم، ومُرادهم حكر السياسة وحصرها لأنفسهم، ومُخادَعة العلماء بتنزيلهم منزلة العجَزة، فيُقبِّلون أيديهم ويُخيلونهم بذلك أنهم محترمون عندهم، ثم يفعلون ما يشاؤون بدين الناس ودنياهم محرّرين عن احتمال أن يجيء إليهم مِن العلماء أمر بمعروف أو نهي عن منكر، إلا ما يعدُّ مِن فضول اللسان، ويَكمُن في القلب، وذلك أضعف الإيمان؛ فالعلماء المعتزلون عن السياسة كأنهم تواطؤوا مع كل الساسة صالحيهم وطالحيهم على أن يكون الأمر بأيديهم، ويكون لهم رواتب الإنعام والاحترام، كالخليفة المتنازل عن السلطة وعن نفوذ سياسي، ولما أن الله - تعالى - هداني من قديم إلى التنبُّه لمكايد السياسيِّين ذوى المبادئ اللادينية، وواجب علماء الدين لقاءهم، ما تنحَّيتُ عن المُجاهَدة في غمرات السياسة، لا على اتخاذ الدِّين آلة للسياسَة، بل على جعل السياسة آلة للدِّين، مُستخدَمة في تعزيزه وتنفيذه؛ لكونها أقوى الآلات ممثلة لقوة الحكومات، فإن فاتنا الظفَر في زمان أصبحت فيه نصرة الدين مهلكةً أو متعبَة، وأصبح هو وناصره غريبًا، فلا يفوتنا جهد المقلِّ في الواجب المُعضل، على أنَّا موقنون بأن الظفر النهائي لنا، فإن لم يكن في الدنيا، ففي الآخرة.
رأيت في بعض الصحف العربية منشورًا لجماعة مِن علماء الإسلام الذين جمعهم البيت الحرام مِن بلاد وأمم إسلامية بموسم الحج الشريف في السنَة الراحلة، يَصفون فيه حالة المسلمين في أَمسِهم الدابر ويومهم الحاضر، ويدعونهم إلى الاستمساك بعرى الشريعة السمحاء، ويرون أن العِلَّة في انحطاط المسلمين هي تركهم العمل بدِينهم، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإهمالهم سنَّة نبيهم والسير على هَديِها، ويَستشهِدون على ذلك بتاريخهم المجيد؛ فقد سادوا الدنيا وشادوا أيام استمسَكوا بهذا الدين؛ حتى جُبيت لهم الأرض ودانت لعزِّهم في طولها وعَرضِها، فلمَّا تولوا، أزاغ الله قلوبهم، وأذهب ريحَهم، وحاقت بهم أسباب الانحطاط والمذلَّة.
نِعمَ ما قالوا، وحبذا ما فعلوا مِن إذاعة ذلك المنشور الذي لم يُعرِب إلا عن الصدق والحقِّ، ولم يُنبئ إلا عن نيَّة طيبة وفِكرة شريفة، ولكن لا أرى لهذا السعي المُحتَرم عظيم جدوى عملية إن لم يُتبِع أولئك العلماءُ الكرام عملَهم ذاك باستعمال الأدوات السياسيَّة لتنفيذ ما أوصوا به المسلمين في منشورهم مِن الخُطَط التي يُريدون أن ينتهجها المسلمون؛ لأن أشدَّ البواعث على المفاسد، أو أقوى الموانع مِن المصالح في الأمم إنما هي الحكومات المُتولية عليهم، وخطاب هؤلاء العلماء الكرام الذي يكون تعلقه بحال الفرد أكثر منه بحال الجمعية، يلزَم أن يتوجَّه إلى تلك الحكومات، فما دام لم تُساعدهم الحكومات على ما يَستهمُّون المسلمين به في منشورهم، فذلك المنشور لا يُسمن ولا يغني مِن جوع، ولا ينهض بالمسلمين مِن الهجوع، وصفوة الكلام أن الأحوج إلى النصيحة إنما هي الحكومات، ولكنهنَّ لا يقبلنَ نصيحة لا توجد وراءها سيطرة، فالواجب للعلماء أن يغرسوا في الأمم الإسلامية تلك السيطرة الرشيدة التي تَهتدي بها حكوماتهم طوعًا وكرهًا إلى صراط مستقيم، لا تفضلاً منهنَّ، وإلا فيتمادين في أهوائهنَّ وتتدهور الأمم مِن ورائهنَّ إلى مهاوي الانحطاط والضلال، أو تنجم في الأمم سيطرة جاهلية تَبذُر بذورَها شياطينُ الإنس، فتهدي الأمم وحكوماتها إلى هاوية البوار (م. ص).
ويتَّصل ذلك برأيه عدم فصل السياسة عن الدين - كما بيَّنا - وإلى هذا الرأي أيضًا يذهب الزعيم المصري الشاب مصطفى كامل الذي وضع نصب عينيه طوال حياته خدمة القضية المصرية باستثارة الحمية الإسلامية في النفوس، ولم يرَ غرابة إذا تكلم على "المسألة المصرية مِن الوجهة الدينية الإسلامية؛ فإن السياسة لا انفصال لها عن الدين، وبالإحساسات الدينية تُقاد الأمم أسهلَ ما تُقاد بالاعتبارات السياسية".
وقد فجَّر الزعيم الشاب بهذا الرأي قُنبلتَين لعلهما يُثيران رواد الفكر السياسي والمؤرخين؛ فقد حسم النزاع حول فصل الدين عن السياسة، ووجَّهنا إلى إسلامية الثورة المصرية سنة 1919؛ "مصطفى كامل - المسألة الشرقية" (ص: 279)، مطبعة الآداب بمصر، سنة 1898م.
[5] تعريب مثل تركي. (م. ص).
[6] فتقَت تصرُّفات الحكومة الكمالية إزاء "الخلافة" هذه المسألة الهامة التي نظنُّ أنها لم تُبحَث في العصر الحديث قبل الشيخ مصطفى؛ لافتقاد الداعي لها، أمَا وقد حدَث، فإن رأيه غير مسبوق إليه فيما نعلم؛ إذ اشترط لإسلام الأمة شرطَين: الأول: كون أفرادها مسلمين، والثاني: حكم الدولة بالإسلام.
[7] تتضمَّن هذه الصفحة وما بعدها نظرات ثاقبة للمؤلف، تتناول نقد النظام البرلماني؛ حيث لا يوثق فيه بالقوانين الصادرة مِن المجالس النيابية؛ لأنَّها قد لا تُعبِّر تعبيرًا صادقًا عن رأي الأمة، فضلاً عن عجز سلطة المراقبة في التنفيذ، فهل تنبَّه إلى إحدى أزمات الأنظمة الديمقراطية في هذا الوقت المُبكِّر؟
وهنا تُصبح المقارنة مفيدة إذا اطلعنا على رأي الفيلسوف المسلم المعاصر "رجاء جارودي"؛ حيث وضع يده على إحدى أزمات النظام السياسي الغربي، متتبِّعًا إياه منذ نشأته كفكرة فلسفية عند "روسو" إلى تطبيقاته العملية في شكل إنشاء أحزاب وقيام برلمانات؛ يقول جارودي: "وقد انطلق جاك روسو في "العقد الاجتماعي" مِن مفهوم مجرَّد حول "الفرد"، ولم يكن يستطيع تصوُّر عملية اندماج الفرد بالمجتمع إلا عبر هذه الأسطورة التي سماها "الإرادة المشتركة"، وقد تجلَّت تاريخيًّا في برلمانات وأحزاب لم تُحقِّق إلا الوصاية على الشعب والمزيد مِن الاستلاب؛ لتصل إلى "ديمقراطية" كاريكاتورية ليستْ مُشاركة الشعب فيها إلا وهمًا وخديعة"؛ جارودي: "ما يعد به الإسلام"، ترجمة: قصي أتاس، وميشيل واكيم، دار الوثبة- دمشق سنة 1982 م.
وإذا صحَّ هذا بدول أوروبا؛ حيث لا ينكر أحد درجة الوعي والثقافة واليقظة التي بلغتها الشعوب هناك، فماذا يمكننا القول في البلاد "النامية"؟ إن وصف "الكاريكاتورية" الذي أطلقه جارودي على الديمقراطية الغربية يُصبح هنا أكثر انطباقًا!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-12-2014, 08:37 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

فتح أزمير ذريعة لهدم الدين (3)
ـــــــــــــــــــ

النص المحقق من كتاب: "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"
---------------------------------


إذا كانت غاية القوانين وزْع الأمة أو الحكومة عن النزوع إلى أهوائها، فمُستبعد جدًّا ومُستغرَب وَزعُها بما تستقلُّ في سَنِّه وتبديله متى شاءت؛ فنحن ندَّعي أن كل إنسان يجب أن يكون تحت أمر القانون وحكمه، مع أن القوانين مِن موضوعات الإنسان، فأيهما يَحكم على الآخَر؟ وهل الذين يَضعون القوانين خارِجون مِن نوع الإنسان الذي حكمْنا بلزوم كونه تحت حكم القانون، حتى عندما يضع القوانين التي تُساس بها البلاد، فيلزم أن يكون لسنِّ القوانين حدود يُوقَف عندها، وبعبارة أخرى يلزم أن يوجد قوانين أساسية لا يَتخطَّاها نظام القوانين، ولا يسوغ لهم تبديلها؛ حتى تَنتهي القوانين الموضوعة فيها، ويستفيد قوة الوَزعِ منها، وتلك القوانين الأساسية أكملها ما كانت سماوية؛ لِمَا أن تَغييرها ليس في وسع البشر[1]، فهي أحرى أن تكون تُخوم الاستناد، وتتَّخذ آخر مفزع لإصلاح الفساد الناشئ مِن أنفسهم ومنهم نُظَّام القوانين، ويذكر الطبيعيُّون بدل القوانين السماوية القوانين الطبيعية، مع أن وازعيَّتها غير تامَّة؛ لخُلوِّها عن القوة التأييدية كالثواب والعقاب، وفي الدرجة الثالثة بعد القوانين السماوية والطبيعية قوانين أساسية موضوعة الأمم، ولياقتها للاستناد المبحوث عنه ولوَصفِ الأساسية بقدر اعتدادها مصونة مِن التبديل؛ حتى كأنهم لم يسنُّوها فلا يستطيعون تبديلها، لا كالذي جرى في بلادنا مِن تبديل القانون الأساسي في خمس عشرة سنة خمس عشرة مرة، والمصونية من التغيير كما يجب في القوانين الأساسية يستحبُّ في القوانين الفرعية أيضًا؛ ولهذا نرى أسعد البلاد إدارة، وأثبتها أمنًا، بلادًا تسنُّ فيها القوانين وتُصان من التلاعب بها بكل معنًى لكلمة التلاعب، وعكس ذلك ما يُرى في بلادنا مِن هرج ومرَج القوانين.

فقد علمت دعاوى الكماليِّين ودعاياتهم في إعزاز الأمة وترقية الإدارة، حتى ما اجتزؤوا بحرية الشعب؛ فترقَّوا إلى مملكتها، وبمشروطية الإدارة؛ فترقَّوا إلى جمهوريتها، ومع كل ذلك الذي يتعلق بدعوى الحرية والترقي إلى عليا درجاتها، سنُّوا قانون الخيانة الوطنية وأبطلوا به حرية الفكر والاجتهاد عن أصلها[2]، وقد قرأت قول واصف بك نائب (صاروخان) في المجلس الوطني الكبير والنائب العمومي لمَحكمة الاستقلال عند محاكمة لطفي فكري بك، مبيِّنًا للسبب الذي ساق المَجلس إلى نظم هذا القانون، ومجيبًا عن اعتراض لطفي فكري بأن معه القانون، إذا كان كما فهمه النائب العمومي، فأين تبقى حرية الفكر وحرية المناقشة وحرية الكلام؟ "إن كل مَن يَعيش في وطنِ الترك تحت حكم قوانينه، فلا يكون له حق الكلام في هذه المسألة، والحريات مقدَّسة بشرط ألا تتعارَضَ هي والقانون"، يعني ما دام هذا القانون يَمنع حرية الفكر والمناقشة والكلام، فلا يجوز البحث عنها في هذه البلاد، وعلى ما قاله النائب العمومي للمحكمَة الكماليَّة؛ فدعاوى الحرية السامية مبنيَّة على السقوط والحُبوط بعدما كان مِن حقِّ الحكومة أن تمنعَها متى شاءت بقانون تسنُّه، ومِن كلامه: "إن نُظَّام ذاك القانون رأوا ما أصيبت به البلاد (تركيا) تحت دعاوى الحرية من الحوادث والكوارث المسبقة"، ومَن سمع هذا الكلام يظنُّ أن قائله يُصوِّر أدوار الاتحاديين والكماليين؛ لأن تلك الحوادث والكوارث وليدة هذَين العهدَين، وفيهما أيضًا بولغ في دعوى الحرية ودعايتها، وإذا كانت الحرية أضرَّت بالبلاد على ما ادَّعاه حضرة النائب العمومي للحكومة الكمالية، فما الذي كان عيب الحكومة المُطلَقة وذنبها، ومِن أين لزوم تلك المحاكم الاستقلالية الموضوعة لإرهاب الناس على احتمال الرجوع إلى غير الحكومة الجمهورية، وما هذه السخرية والشعوَذة مِن إماتة الحرية لإحيائها وإعزازها، ورأس البليَّة، ومنبَع الخديعة تلبيسُ حرية الحكومة بحرية الأمة، وسلطنَة شركة اللصوص بسلطنة الأمة المسكينة وإراءتها بمرآهما.

وقد تبيَّن مِن تفصيل ما ذكرنا في هذا المقام غفلةُ أُناس يتبرَّمون بدِين الإسلام؛ لكونه مبنيًّا على قوانين ثابتة؛ كهاشم ناهيد بك، الذي ناظرتُه وجادلتُه على مبادئه ومذاهبه في كتابي المطبوع باسم "ديني مجددلر" - مجددو الدين - وتبرُّمُه بقوانين الإسلام الثابتة ناشئٌ مِن أنه يراها منافية لحرية الإنسان في وضع القوانين[3]، مع أن الإنسان إذا خُلِّي ونفسه الطاغية يضع بيده قانونًا يقضي على الحرية ويَجعلها كلُعبة لاعب ودعوة كاذب، فلا بد له مِن بعض قوانين ثابتة تكون أول حائل بينه وبين طغواه، وما يضادُّه مِن دعواه، هذا وإني جرَّبت اللادينيِّين، فوجدتهم كاذبين في دعوى الحرية، كما أنهم كاذبون في كل موعد لهم تَرتاح له نفوس الناس، وأهل الديانة أصدق في فُسحَة الحرية ومأزق القانون.
---------------------------------------

[1] حجَّة قوية مِن حُجَج الشيخ مصطفى التي يتحدى بها خصومه، لا سيما القائلين بأن "الحريات مقدَّسة ما دامت لا تتعارض مع القانون"، فيَسخَر سخرية لاذعة مِن هذا المبدأ المُصطنَع بقوله: "إذا تُرك الطاغية، فإنه يضع قانونًا يحكم به الحريات"! كذلك يتَّهم اللادينيِّين بأنهم كاذبون في دعوى الحرية؛ إذ يُضمرون الرغبة الأكيدة في كبتِ الحريات وفرض إرادتهم على الجماهير، ويرى أنه ما دام الأمر مَتروكًا للإنسان ليضع القوانين والتشريعات، فسينتهي الحال بأحد الطغاة إلى أن يضع بيده قانونًا يقضي على الحرية!
[2] لقد عانى المؤلف كثيرًا مِن تهمة الخيانة الوطنية، هذا السيف المُشهر في يدِ كل دكتاتور، لإسكات أصوات المعارضة وخَنقِ حرية الكلمة.
[3] يُقصَد بالقوانين الثابتة القوانين السماوية - أي: الشرع - لأن تغييرها ليس في وسع البشر.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10-12-2014, 08:39 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

فتح أزمير ذريعة لهدم الدين (4)
ـــــــــــــــ

النص المحقق من كتاب: "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"
---------------------------------------------


نرجع إلى مسألة أزمير، وإن قلنا: إن ذلك الفتح للأمة لَنعني بهم الأتراك المسلمين؛ ففي قلوبهم شنآن مَن اعتصم منهم بدينه، وخُطتهم التي يَتناجَون بها ولا يَحيدون عنها استئصالُ المُخلِصين من المسلمين، كما أن خطَّتهم استئصال الدين وإنقاذ البلاد مِن نفوذه، حتى إن إفناء الدين عندهم يتوقَّف على إفناء المتديِّن[1]؛ إذ لا أثر بعد عين، ففتح أزمير حين قوَّاهم وشجعهم في مذاهبهم ومراميهم، جرَّأهم أيضًا على نكاية رجال خلصوا دينهم، وأبغضُ المسلمين إليهم علماؤهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.

وهل تدري - يا أخا الإسلام - ما جرى في الأناضول قبل الفتح وبعده مِن دماء أمثالهم المُنتقاة خاصة تقشعرُّ منه جلود الذين يَخشون ربهم، وفي تَجريدهم الخلافة عن الحكومة إعلان الحرب على مَن بقي منهم[2]، فهل سلامة أوطان المسلمين مطلوبة لسلامة المسلمين أم لقَهرِهم وشقوتِهم؟ وهل يكون فوق معاداة المسلمين الناشئة مِن ديانتهم عداوة يحذرون بها؟ وهل يَبلغ الإنجليز أو اليونان أو غيرهما مِن الذين يُهدَّد بهم الإسلام وقتًا دون وقت مبلغ أن يُكلفوهم بإلغاء ما لدِينهم عليهم من الحكْم والنفوذ، أو هل بلغَ ذلك في أقوام وقَعوا في أَسرِهم ونِيرهم؟

وإني مع تضرعي إلى الله - تعالى - لأن يفكَّ رقاب إخواننا المسلمين بأتمِّ صورة هو خير لهم مما هم فيه، أبوح بأن الإنجليز - مثلاً - قد عمر لهم مِن دنياهم ولم يخرب مِن دينهم ما خرَّب الاتحاديون والكماليون من ديننا ودنيانا؛ ولهذا نراهم في معمورية البلاد، وتزايد الأعداد، وتوافي الغِنى؛ بحيث لا يجوز قياسهم علينا، والذين يقيمون في خارج تركيا ويُحبِّذون مُتتابع التقلبات فيها - غير واقفين على سوائقها وخباياها وآثارها التي حاقَت بِنا، فطحنَت مِن نُفوسنا وأموالنا، وجعلتنا كعصفٍ مأكول، أراهم يَهون عليهم تحبيذ ما نزل بالغير، وساحتهم النازحة سالمة من ذلك، ولو تأمل المصريُّون في الحرب العظمى التي نفعتهم حتى أصعدتهم إلى منازل الدول، وأضرَّت الدولة العثمانية ففضَّتها ونقضَت مِن مادياتها وأدبياتها أضعاف ما بقي منها، لعرفوا ما فعلتْ بنا تلك التقلُّبات، مع أن دخولنا في الحرب العمومية واحد منها، ولو انساقَت مصر معنا إلى تلك التقلبات كواحد مِن بلاد الأناضول، لرأينا فيها بلادًا تركتْها البلايا بلاقع، وأناسًا يبيتون القفر والفقر والرَّوع والشوع، بدل ما نرى فيها مِن جنات عشقها فاعتنَقها أنهارٌ وليالٍ كالأنهر في نورها لا في حرورها، ومبانٍ كالصرح الذي بناه هامان تبلغ أسباب السماء مدى، ومئات ألف عددًا، ولما رأينا المصريين يتكلمون عن بضعة عشر مليونًا في بلادهم مِن النسمات، وأضعافها في ميزانيتهم مِن الجُنيهات، ودولتُهم أثرَى يومَ انفصالها بدرجاتٍ مِن الدولة التي انفصلت عنها، والثروة في عصرنا أساس كل قوة، فهم رابحون في متجرة المعيشة، وسابِحون لُجَج الراحة والأمَنة على أموالهم وأنفسهم.

هذه دنياهم، ومِن جهة الدين تراهم أقوى ارتباطًا به، وأحفظ عملاً واعتقادًا، وأسلم مِن التلاعُب به، والسعي لهتك حرمته وإزالة كرامته وكرامة أصحابه وأنصاره، وبقي فرق ما بيننا وبينهم؛ من حيث الاستقلال، وهو مع كونه عظيم الأهمية جدًّا، وقطع النظر عن كونه عبارة عن استقلال شِرذِمة واستبعادهم الأمة، فإذا كنا في استقلال دولتنا نَختار الحكومة اللادينيَّة حينئذٍ إلى غيرنا، ونكون نحن معذورين غير مختارين، وعند الاستقلال يُضاف شكل الحكومة وجميع تطوراتها وتصرفاتها إلينا، وإن كان أكثرنا غير راضين بها؛ لأن المفروض والمُدَّعى أن ساسة الحكومة مِنا، لا سيما وأن السلطة الشخصية زالت وصارت السلطة إلى الأمة.

وإذا انتهى الكلام إلى هذا الموضوع، فيأبى بِنا الحق والإنصاف إلا أن[3] نَعترِف بأن الحكومة التركية كانت قبل الكماليِّين والاتحاديين أيضًا لا تمشي تمامًا على الصراط السويِّ والنهج الشرعي، بل كانت لا تَحكم بما أنزل الله به في كل الأمور، وتقلد الحكومات الزمنية الأوربائية.

لكن الحق مع ذلك يأمرنا أن نشهد - أولاً - بعدم بلوغها في إهمال الشرع وإعمال التقليد مبلغَ الحكوماتِ الاتحادية والكمالية، ولا سيما أنها لم يقع منها تصريحٌ ما بكونها حكومة لادينية، بل التصريح كان يقع دائمًا بضدِّه، وبأن دين الدولة الإسلام، وأن مِن حقِّ السلطان إجراء الأحكام الشرعية والمحافظة عليها، وثانيًا أن تلك الحكومات لم تكن لتسلَم في أدوارها الأخيرة مِن تغلُّب الحكومات الأوربائية[4] عليها.

[1] وهكذا أخذت الحرب ضدَّ الإسلام أبعادًا جديدة تتمثَّل في "التصفية الجسدية".
[2] ومِن أدلِّ دليل على صدق ما قلنا: أن الكماليين أصروا على خطة الفصل بين الخلافة والسلطة بعدما تبيَّن لهم استياء العالم الإسلامي العمومي منه، حتى عتوا وقالوا: ليس مِن حق العالم الإسلامي أن يتداخلوا بشأنهم، وشدَّدوا في القضية، فأصدروا قانونًا يحكم على مَن يُخالفهم في تلك الخطة بالإعدام؛ إرغامًا لأنوف أهل الإسلام، ومناقضة لحكم الشريعة الغراء، فرحمة الله وسلامه على الإسلامية وحرية الأفكار والآراء، وشددوا حملاتهم أيضًا على العلماء أصحاب العمامة، حتى صرَّح مصطفى كمال الغازي في سبيل الله والهازئ بدين الله في خطبته التي نطق بها حينما جول في الأويات في ملأ حضروا ليسمعوه - وحرَّرها جرائد الترك بنصِّها - أنه عازم على قهرِ أولئك الطائفة المُعمَّمة الباحثين عن الديانة، وسيكفي هو وحده أصحابه في أمر القهر، فسيَكفيكهم الله - يا أخا الحميَّة الدينية والعلمية - وهو السميع العليم.
واضطهاد علماء الدين بدأ في عهد الاتحاديين، وبلَغ كماله في زمن الكماليِّين، وكان في بلاد الترك مراكز لعلم الدين ودراسته - كمعهد جامع السلطان محمد الفاتح بالآستانة - وهم كانوا يهابونها ويَخشون مواقعها عند الأمة، والآن أبادوا أهلها وجعلوهم أحاديث، والعادة تقرَّرت مِن عهد الاتحاديين بشنِّ الغارة في كل ثورة أو حادثة سياسية على الطائفة المعمَّمة، ولا أظنك نسيتَ يوم 31 مارس 1825 كيف حمل أوزاره على طلبة العلوم الدينية واللغة العربية واتخذ شرَّ ذريعة لتدميرهم، حتى إن الجيش المجهَّز المنساق مِن سلانيك - فهم الشيخ مصطفى صبري من واقع هذه التصرُّفات والأفعال، ويدعونا أيضًا لكي نفهم، أن مصطفى كمال لم يكن غازيًا في سبيل الله تعالى، بل في سبيل الشيطان، وتنفيسًا عن أحقاده وعداوته، مُتضافِرًا مع بني جلدته من يهود "الدونمة" المقيمين في بلدة "سلانيك" - عند دخوله الآستانة، عمَّم القبض على كل مَن لقي في شوارعها من العلماء ومتعلميهم وسمتهم العمامة، وكل حادثة سياسية أعقبت شرًّا على طائفة من الأمة، تجد بينهم العلماء والمعمَّمين أكثر من غيرهم بالحساب النسبي؛ مثل معتقلي "سينوب"، ثم إن معارك الدردنيل "جناق قلعة" الهائلة داست مِن شبانهم وكهولهم ألوفًا ودسَّتهم في التراب، وبعد هدنة الحرب العظمى كم قتل الكماليون أو شنقوا من كهولهم وشيوخهم في بلاد الأناضول! وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله ورسوله ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولا يركنوا إلى الذين ظلموا، علماء مصر لا يدرون العيشة الدستورية التي غدَوا في عنفوانها، وما يروَّج فيها مِن موائد المتفرنجين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة.
والحاصل أن علماء الدين، والذين لم يَقتدوا بفكرة الكماليين في مبادئهم ولم يداروهم - قد قُطعت رؤوسهم من أبدانهم، أو علائقهم من أوطانهم، ولا أقل مِن قَطعِ رواتبهم التي كانت لهم، كما قطعوا رواتب الأشراف الذين كانوا شرفًا لبلادنا، فبهذه الصور المختلفة أخذ عليهم الزمان وأفناهم، وأدخلهم في خبر كان، ما مرَّ عصر ولا نِصفُه ولا ربعُه ليستوعب مثل هذا التقلب العظيم، وكنتُ قبل خمس عشرة سنة أروح إلى جامع السلطان محمد الفاتح المارِّ ذِكرُه، وكان الأزهر المصري وهذا المعهد فرسَي رهان، فأجده على سعته ملآن إلى خارج أبوابه رُكَّعًا وسجَّدًا، وأربعة أخماس الجماعة المالئين المعمَّمون، والآن هو وأمثاله في بلادنا كما قال الشاعر:
كأنْ لم يَكن بين الحجون إلى الصَّفا
أنيسٌ ولم يَسمُر بمكَّة سامِرُ
وأقوى ما يتمسَّكون به في دعوة الناس إلى عدم الاعتداد بالعلماء المعمَّمين وبأقوالهم أنهم يقولون: "لا اختصاص لواحد مِن صنوف المسلمين في العلم بالدين، ولا امتياز ولا رهبانية في الإسلام"، أقول: نعم؛ ولكن هناك طائفة قال الله - تعالى - في شأنها: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]، حتى استثنى - سبحانه وتعالى - تلك الطائفة عن فريضة الجهاد، وكان العمل في الدولة العثمانية بذلك الاستثناء، إلى أن صارت الحكومة الاتحادية أول مَن ألغاه في الحرب العظمى، فهم رفعوا استثناء العلماء مِن الجهاد، وحاربوا معهم في صفٍّ واحد، وترقَّى الكماليُّون فشنُّوا الحرب عليهم، وكان ما ينبغي بالنظر إلى الآية الكريمة أن يكون مَن يُنذر قومه ويُحذِّرهم هم العلماء، والكماليون يُنذرون العلماء ويُهدِّدونهم بقومهم، وفي الآية أيضًا عِظَة للعلماء المعتزلين والمحايدين، ودلالة على أن جِهادهم إنذار قومهم، ثم إن تلك الطائفة الذين حثَّهم الله في كتابه على أن يتفقَّهوا في الدين ويُنذروا قومهم، يلبَسون العمامة مِن قديم الزمان، بل كان جميع المسلمين يلبسونها قبل هذا، ثم نزعها الأتراك ودام عليها علماؤهم، فالعمامة التي اعتدى عليها الكماليون وعلى من يلبسها ما هي إلا زي علماء الدين، وقد يوجد بين مَن تزيا بها مَن لا يكون أهلاً لها، كما أنه يمكن أن يوجد بين غير المتزيين بها مَن تعلم أحكام الدين وتفقه فيه، ولكن الغالب المستفيض كون علماء الدين مِن أصحاب العمائم؛ لأنهم الذين يتوغلون بعلم الدين ويُفنون شبابهم في درسه، كما أن المستفيض المتعارف أن يُسلم علم الطب للصنف الذي يشتغل به ويكتسبه في مدرسته الخاصة، وكذا سائر العلوم والصنائع يتفقَّد كل منها بين أربابه المختصين به، وإن كان قد يوجد بينهم مَن لم ينلْ منه بحظٍّ وافٍ ووافِر، وفي خارجهم مَن نال ذلك بسعيه الذاتي الخصوصي، لكن الحكم على الغالب لا على النادر؛ حتى إن دعوى التقدم في علم الطب مِن غير الأطباء على الأطباء تكون من خلاف المفروض ومِن المستحيل، كما أن دعوى التقدم في الفنون العسكرية على العساكر مِن غيرهم كذلك، وطبقه دعوى التقدم في علم الدين على العلماء من غيرهم، وإنكار هذا إنكارٌ لأساس الإخصاء أو إنكار لعدِّ علم الدين شعبة من العلوم التي تخوِّل لأهلها حق الكلام الحاسم، والموافق للواقع المُضمَر في نفوسهم هو الاحتمال الثاني؛ لأنهم لا يَعترفون بأصل الدين، فضلاً عن أن يعدُّوا العلم بالدين مِن شعبات العلوم التي يَجري فيها الإخصاء، وهذا منشؤ عداوتِهم لعلماء الدين؛ أعني أن عداوتهم غير متوجِّهة إلى جهل الذين يُعدُّون علماء الدين بالدين، بل إلى علومهم وإلى ما يتعلق به علومهم، وهل كانت مخالفة العلماء الأحرار لمبدأ الفصل بين الخلافة والحكومة وصولة مصطفى كمال عليهم لأجلها - ناشئةً من جهلهم بأحكام الدين، أو مِن علمهم بها؟ فإن صحَّ الشق الأول، فها أنا صاحب هذا الكتاب مقرٌّ بأني اليوم أجهل جاهل، ويُنبئك عن ماهية هذه العداوات والاعتداءات ما ترى من أن أكثر ما تروج هي فيه قديمًا وحديثًا للصحف اللادينية، وما نَسينا ما نشر في جريدة "الاجتهاد" للدكتور عبدالله جودت المعروف بخطته اللادينية من مقالات متسلسلة بعنوان إعلان الحرب على علماء الدين "صوفته لره إعلان الحرب".
بقي أنه لا يقال: لعلَّ هتْك الاحترام لعلماء الدين مِن الغازي مصطفى كمال وأمثاله إنما نشأ مِن الانحطاط العلمي الذي طرأ عليهم في الأعصار الأخيرة، وهو مما لا يُنكَر؛ لأنَّا نقول: إذا سلم انحطاط علم الدين في ذويه بعصرنا، فيلزم أنه يكون ذلك الانحطاط أشدَّ في غيرهم؛ مثل مصطفى كمال، ومِن أين له ولأشباهه حق التكلم ودعوى التقدم في علم الدين الذي لم يَدِنْ به ولم يقرأ شيئًا مِن كتبِه؟ ولكن السيف أصدق إنباء من الكتب.
[3] نوجه عناية القارئ إلى هذه الفقرة التي يلتزم فيها المؤلف بالأمانة حين المقارنة بين العهدَين؛ أي: تركيا قبل حكم الكماليين والاتحاديين ثم في عهدهم، ولكن تبقى الكفة راجِحة لآل عثمان، ونرجو أن تأخذ هذه المقارنة مكانًا في أبحاث المحللين والمؤرخين.
[4] وهذا حق؛ فقد تكالبت على الدولة العثمانية دول أوروبا مرارًا وتكرارًا في حروب ومنازعات لم تنقطِع، ولكي نعطي القارئ فكرة عن ضراوة هذه الحروب واستمرارها، يكفي أن نَذكُر أن الأمير شكيب أرسلان قد ترجم صفحات كاملة مِن كتاب "مائة مشروع لتقسيم تركيا" تأليف دجوفارا الوزير الروماني، وكلها تنضَح بالحقد الدفين على الإسلام والمسلمين؛ ينظر كتاب حاضر العالم الإسلامي (ج: 3)، "التعصب الأوروبي أم التعصب الإسلامي؟" مِن (ص: 208) إلى (ص: 342)، دار الفكر 391 هـ / 1971م.
ويقول شكيب أرسلان: "ومما أذكره أن أحد وزراء الدولة العثمانية - رحمها الله وجزاها عن الإسلام خيرًا - كان مرة في أحد المجالس في جدال مع بعض رجال دول أوربة فيما يتعلق بهذا الموضوع، فقال لهم الوزير العثماني: إننا نحن المسلمين مِن ترك وعرب وفُرسٍ وغيرهم مهما بلَغ بنا التعصُّب في الدين، فلا يصل بنا إلى درجة استئصال شأفة أعدائنا ولو كنا قادرين على استئصالهم، ولقد مرَّت بنا قرون وأدوار كنا قادرين فيها على ألا نُبقي بين أظهرنا إلا مَن أقرَّ بالشهادتين، وأن نجعل بلداننا كلها صافية للإسلام، فما هجس في ضمائرنا خاطرٌ كهذا الخاطر أصلاً، وكان إذا خطر هذا ببال أحد مِن ملوكنا كما وقع للسلطان سليم الأول العثماني، تقوم في وجهه المِلَّة، ويُحاجُّه مثل زمنبيلي علي أفندي شيخ الإسلام ويقول له بلا محاباة: ليس لك على النصارى واليهود إلا الجِزية، وليس لك أن تزعجهم عن أوطانهم، فيرجع السلطان عن عزمه؛ امتثالاً للشرع الشريف، فبقي بين أظهرنا حتى في أبعَدِ القُرى وأصغرها نصارى ويهود وصابئة وسامرة ومجوس، وكلهم كانوا وافرين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، أما أنتم معاشر الأوربيين، فلم تُطيقوا أن يبقى بين أظهركم مسلم واحد، واشترطتم عليه إذا أراد البقاء بينكم أن يتنصَّر، ولقد كان في إسبانيا ملايين وملايين من المسلمين، وكان في جنوبي فرنسا وفي شمالي إيطاليا وفي جنوبيها مئات ألوف منهم، ولبثوا في هاتيك الأوطان أعصرًا مديدة، وما زلتم تَستأصلون منهم؛ حتى لم يبقَ في جميع هذه البلاد شخص واحد يَدين بالإسلام، ولقد طفْتُ في بلاد إسبانيا كلها، فلم أَعثُر فيها على قبر واحد يُعرَف أنه قبر مسلم، فلما سمعوا هذه المقارنة بهتوا ولم يُحيروا جوابًا"، (ص: 210) المصدر نفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-12-2014, 08:42 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

فتح أزمير ذريعة لهدم الدين (5)
-------------------


النص المحقق من كتاب: "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"
---------------------------------------------------


الأمة من قديم الزمان تحت تغلب الحكومات السلطانية المطلقة، فكانت للحكومة معذرة وللأمة معذرتان، وأما إذا أحرزت الحكومة استقلالها التام بالنسبة إلى الأجانب والأمة استقلالها بالنسبة إلى حكوماتها - لا سيما بعد انتقال السلطة إليها، فضلًا عن حريتها - فكل ما وقع من إجراءات الحكومة فهو في ذمة الأمة يعد مقترنًا بمرضاتها، ونكتب حسناته وسيئاته عليها؛ لأنها مختارة ومستقلة، ولها الحكم والحكومة في مملكتها، وبيدها أزمة الأمر والنهي.

فالاستقلال على قدر ما فيه من الشرف والعزة يستتبع تبعة المسؤولية، وإنما الغرم بالغنم، وإني من استقلال مذهبي لا أُلجلج في القول بأن فقد الاستقلال على درجاته أهون من فقْد الدين، ولا تقل: أين فقد الدين بعد ما اختارت الحكومة الخطة اللادينية وصارت هي بهذه الصبغة حكومة الخلق (الشعب)؟
هذا ما وقعت فيه أمتنا جمعاء في خطوة واحدة بيد حكومتها الحاضرة، وزد عليه المساعي المستمرة المصروفة في تربية أفرادها - لا سيما شبانها - على عقائد جديدة متجردة ومتشردة عن عقيدة الإسلام[1].
------------------

وإني أرجو منك أيها القارئ المصري والهندي أن تحمل كلماتي هذه على الإفراط في الحكم الناشئ من نظري إلى حكومة الكمالية بعين السخط، وها أنا أذكر لك ما كتبته جريدة (الأهرام) من لدنها كاشفة عن ماهية الكماليين من غير قصد الطعن فيهم، وهي من الصحف التي لا تعنيها معارضتها، وهذا نصها:
"حزبان في تركيا من الوجهة الإسلامية".

---------------------------------------------------

[1] وكلمة الحق التي يجب على المسلم الحر أن يجهر بها أن قومًا من الأقوام غير الإسلامية أو دولة كذلك لم تفعل ولن تفعل بنا معاشر المسلمين ما فعل الاتحاديون الكماليون، وإن تغلبهم علينا أشد ضررًا من تغلبهم، كما أن كلمة الباطل التي طالما أضلتنا أن الداهية الاتحادية أو الكمالية مهما عظمت، فإمكان إزالتها فيما بيننا باق في كل زمان، هذا ما سولته لنا أنفسنا منذ سنين، مع أن الداهية قد قطعت جمًّا من مسافة سيرها في نفوسنا، وتمشَّت في مفاصلنا، واقتربت ساعة نرى فيها استقالتنا إلى نسل جديد لا ديني، قد ساوَمنا هذه الاستحالة له، وربَّيناه بأيدي الكماليين، ثم لا يمكننا الخلاص من الصبغة الجديدة التي مكناها في نفوسنا وحببناها إليها، والإنسان يمكنه النجاة ممن بعده من أعدائه لا ممن بعده من أحبائه.
كيف احتراسي من عدوي إذا
كان عدوي بين أضلاعي
فذلك العدو الذي لو ظفر بنا لاستفسر جسومنا ترجو الخلاص من أسره يومًا ما بسوائق أنفسنا المصونة من التغير، لا سيما في عصر استقلال الأُمم، وهذا العدو الذي تكون عاقبة ظفره بنا تصرفه في أرواحنا ولا يقر بعداوته لنا من أول الأمر إلى آخره، بل يقنعنا بمودته وصداقته ومشاركته الجنسية، فكيف يرجى لنا النجاة منه، بل وإرادة النجاة؟
و﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 86].
هذا، ومن الواجب أن أذيل هذا المقام بالإيضاح الآتي: وهو أني لا أقبل أن يتلقى كلامي ويفسر بمعنى أني أختار للمسلمين على طيب نفس مني أن يدخلوا تحت سلطة الأجانب أو يبقوا فيها، كلاَّ، بل أخبرهم بفرق ما بين الشرين وأستعيذ بالله منهما كليهما، وأزيد على ذلك بأن دولة أو أمة آثرت الحكومة اللادينية بعد الإسلام بالله منهما كليهما، وأزيد على ذلك بأن دولة أو أمة آثرت الحكومة اللادينية بعد الإسلام، فالاندراس أحق بتلك الدولة ووقوع بلادها في أيدي الأجانب الذين لا يتدخلون في دين من يدخل تحت حكمهم أهون في حق تلك الأمة، فلعل الأمة المسكينة يبقى دينهم محفوظًا وسالمًا من التعرض والتغير، ثم يستعيدون دولتهم ببركته في أوانها، إذا قدر ضياعها فليكن الدولة أول ضائع ثم الدين، هذا ما أختاره فيما أخاف ولا أبالي لومة لائم، وما كنت بدعًا في التشديد على الكماليين بتنزيلهم إلى ما دون الكافرين؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء: 145].
ثم إني أعلم أن شياطين اللادينين يبادرون أن يستفيدوا من كلماتي هذه ويردوها حجة على في خيانة الوطن، بل إضاعة مجد الإسلام، وإن المسلمين الذين يعرفونني ويعرفون مكاني ببلادنا في المجاهدة لدين الإسلام ضد أعدائه الخفية القوية المجهزة بجميع أنواع القوة ومكان ما قاسيته منهم من الشدائد والمهالك، يتمنون أن كنت لم أتكلم بهذه الكلمات الثقيلة التي هي مظنة لسوء تفسير الخصماء، لكني قلتها وقلبي محترق من ضياع الإسلام بعد ضياع نفس الإسلام كمن يطلب أثرًا بعد عين، ثم إني قلت: ما قلت وقلبي محترق أيضًا من إهمال أهل الديانة ما يجب عليهم في حراسة دينهم من تسلط أولئك الأعداء وتوانيهم في نصرة الحق إزاء تفاني اللادينيين في نصر باطلهم، فكأن هؤلاء المسلمين وجدوا هذا الدين ميراثًا من آبائهم، فما عرَفوا قدره ومن يريد شره أو خيره، فتركوه عرضة لكل مفسدة ومكيدة، فهل لا يخافون يوم القيامة نسلهم الذين تسببوا وتسامحوا في إضاعة دينهم أن يأخذوا بتلابيبهم ويجروهم معهم إلى النار؟ (م. ص).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
أزمير, الأعداء, تشتري, فتخرب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع أزمير تسترد من الأعداء فتخرب
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الصبر والتوكل في مواجهة الأعداء عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 06-01-2014 06:07 AM
ماذا يريد منا الأعداء!؟!!إ ام زهرة أخبار ومختارات أدبية 0 03-03-2014 11:19 PM
ماذا يريد منا الأعداء!؟!! ام زهرة مقالات وتحليلات مختارة 0 02-16-2014 05:02 PM
قطر تشتري نظام باتريوت عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 11-22-2013 07:52 AM
الشركات الأمنية الخاصة، وحروب جمع المعلومات و تصفية الأعداء Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 04-07-2012 09:33 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:47 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59