#1  
قديم 11-25-2013, 03:06 PM
ام زهرة غير متواجد حالياً
متميز وأصيل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: العراق
المشاركات: 6,886
افتراضي الإعارة في الإسلام


الحمد لله ربِّ العالمين، نحمده حمدًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد: فالنَّاس متفاوتون في الأرزاق والفضل، وهذا من قضاء الله وقدره، ولذا تجد أنَّ البعض منهم قد تَعْرُضُ له الحاجة إلى نفع عينٍ من الأعيان، بيد أنَّه لا يستطيع تَمَلُّكها، ولا مِلْكَ ما يَدْفَعُ به أُجْرتَها، وتجد البعضَ الآخر منهم قد تَقْصُرُ به الهِمَّة فلا تقوى نفسُه على بعض سُبُلِ الخيْرِ كالصَّدقة والهِبة والعَطِيَّة، فشرع ربُّنا - جلَّ وعلا - أمرًا يَجْبُر لهذا ما قَصُرَت عنه همَّتُه، ويَدْفَع عن ذاك حاجته، ألا وهو الإِعَارَةُ أو العَارِيَة كما هو معروف عند أهل الفقة، صورة من صور التَّكافل والتَّعاون الاجتماعي بين المجتمع المسلم، وسبيل من سبل البرِّ والإحسان، أحيطت بضوابط وأحكام مبيَّنة في كُتُب الفقه والسُّنَّة بأتمِّ بيان.
فإليك أيُّها القارئ الكريم شيئًا من أحكامها مُلَخَصَةً ومُبَسَطَةً في النّقاط الآتية، عساك أن تنتفع بها فتكونَ لك عونًا على طاعة مولاك، فإنَّ الحاجة إلى ذلك ماسَّة، وممَّا تَعُمُّ به البلوى.
أوَّلاً - تعريفها:
العارية أو الإعارة كسائر المصطلحات الفقهية، لها مدلولٌ شرعيٌّ والآخر لغويٌّ.
أمَّا المدلول اللُّغوي: فالعاريّة بتشديد الياء وقد تخفَّف، مأخوذة من التَّعاور وهو التَّداول، يقال: تَعَاوَرَتْه الأيدي وتداولته، أي: ما أخذته هذه مرَّة وهذه مرَّة[1].
وقيل: مأخوذة من العارة، وهو بمعنىً.
قال في «القاموس»: «والعَارَةُ: ما تَدَاوَلُوهُ بَيْنَهُم جمع: عَوَارِيُّ مُشَدَّدَةً ومُخَفَّفَةً.أعارَهُ الشيءَ وأعارَهُ منه وعاوَرَهُ إياهُ وتَعَوَّرَ واسْتَعَارَ: طَلَبَها واسْتَعارَهُ منه: طَلَبَ إعارَتَهُ واعْتَوَرُوا الشيءَ وتَعَوَّرُوهُ وتَعاوَرُوهُ: تَدَاوَلُوهُ»[2].
فهي تدور على التَّداول والتَّناوب، فكأنَّ مالك الشَّيء يجعل للغير نَوْبَةٌ في الانتفاع بمِلْكِه على أن تعود النَّوبة إليه بالاسترداد متى شاء.
أمَّا مدلولها الشَّرعي: فعرفها الفقهاء بقولهم: «إباحة منافع أعيان، يصحُّ الانتفاع بها مع بقاء عينها»[3].
فقولهم: «إباحة منافع أعيان»، الإباحة رفع الحرج والجناح عن تناول ما ليس مملوكًا له، فكأنَّ مالك الشَّيء أذن لطالب العارية وأطلق له الانتفاع بملكه، فخرج بذلك ما كان بعوض فإنَّه ليس بعارية كالإجارة.
وقولهم: «يصحُّ الانتفاع بها» احترز به عمَّا لا يصحُّ الانتفاع به، فما لا يصحُّ الانتفاع به لا تصحُّ إعارته كالدِّيدان والخنافس فهذه لا نفع فيها، أو الدَّابَّة الزَّمِنَة[4].
وقولهم: «مع بقاء عينها» احترز به عمَّا لا ينتفع به إلَّا مع تَلَف عينه، كالأطعمة والأشربة، فليست عارية؛ ولكنَّها مِنْحَةٌ[5] أو صدقة لأنَّ هذه الأشياء إنَّما تراد للاستهلاك.
ثانيًا - حكمها:
أمَّا في حقِّ طالبها: فهي جائزة مشروعة، وليست من السُّؤال المذموم لجريان العادة بها، ودليل ذلك:
ما أخرجه الشَّيخان - البخاريُّ (برقم: 2627), ومسلم (رقم: 2307) - من حديث قتادة قال: سمعت أنسًا يقول: كان فَزَعٌ بالمدينة، فاستعار النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فرسًا من أبي طلحة يقال له: المندوب، فركب، فلمَّا رجع قال: «ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبَحرًا».
وما أخرجه البخاري (برقم: 2628) من حديث عبد الواحد بن أيمن قال: حدَّثني أبي، قال: دخلت على عائشة وعليها درع قِطْرٍ[6] ثمن خمسة دراهم فقالت: ارْفَعْ بَصَرَك إلى جاريتي، انظر إليها فإنَّها تُزهى[7] أن تَلْبَسَه في البيت وقد كان لي منهم درع على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فما كانت امْرَأَةٌ تُقَيّن[8] بالمدينة إلَّا أرسلت إليَّ تستعيره.
فدلَّ هذان الحديثان على أنَّ هذا الأمر ممَّا جرت به العادة زمن النُّبوَّة، وذلك دليلُ الجوازِ.
وأمَّا في حقِّ باذلها: فقربة مندوب إليها في قول أكثر أهل العلم[9]، بل عمل من أعمال البِرِّ والإحسان، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195], وقال تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
فهي «مستحبَّة أصالةً لشدَّة الحاجة إليها، وقد تجب؛ كإعارة ثوب توقَّفت صحَّةُ الصَّلاة عليه، وما يُنقذ غريقًا، أو يُذبح به حيوان محترم يخشى موته»[10]؛ لأن القاعدة عند أهل العلم أنَّ (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وقد تُحرَّم كمن استعار مُوسَى ليذبح بها شاةً لغيره دون إذنٍ, أو سيارةً ليسافر بها سفرَ معصِيةٍ؛ لأنَّها إعانةٌ على محرَّمٍ، فالأصل فيها أنَّها سنَّة مندوب إليها، وقد تجب أو تحرم.
وقد ذمَّ الله - عزَّ وجلَّ - من منع ذلك في ماعون البيت خاصَّة وعدَّه من أفعال أهل الكفر؛ فقال: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ [الماعون: 1]، ثمَّ قال: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: 7]، والذي عليه أكثر المفسرين أنَّ الماعون في الآية اسمٌ لما يتعاوره النَّاس بينهم من الدَّلو، والفأس والقِدر، وما لا يُمنع كالماء والملح[11].
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «كنَّا نعدُّ الماعون على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عاريةً؛ الدَّلو والقِدر»[12].
«ويلحق بهما بعضُ أمتعة البيت الَّتي يتعاطاها النَّاس بينهم؛ كرحى الطَّحين، وسلَّم البيت المنفصل، والسِّكِّين، والحبل، والمِنْخَل، والإبرة، والفأس، ونحوها ممَّا يمكن استعماله، ولا يَنقص بذلك الاستعمال غالبًا؛ فإنَّه لا يجوز منع شيءٍ من ذلك لما في المنع من عدم المروءة والرَّحمة والإحسان الَّذي يجب أن يكونوا خلقًا للمسلم يتمتَّع به في المجتمع الذي يعيش فيه[13]»[14].
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب إعارة هذا النَّوع على الخصوص[15]، وهو اختيار مسعود بن أحمدالحارثي (ت: 711هـ), وإليه ميل شيخ الإسلام ابن تيمية[16].
ثالثًا - أركانها وشروطها:
أمَّا أركانها فأربعة: مُعير، ومُستعير، ومُعَار، وصيغة.
1- المُعير: وهو باذل الشَّيء للغير لينتفع به، ويشترط فيه ما يلي:
أ - أن يكون مالكًا للعين، أو للمنفعة كالمستأجر ونحوه.
ب - أن يكون عاقلاً؛ فلا تصحُّ إعارة مجنون أو صبيٍّ غير عاقل.
ج - أن يكون جائز التَّبرُّع مختارًا؛ لأنَّ الإعارة تبرُّع بمنفعة عين، فلا تصحُّ ممَّن لا يصحُّ تبرُّعه كصبيٍّ أو مفلس، ولا من مستَكره[17].
2 - المُستَعير: وهو طالب الانتفاع بملك الغير، ويشترط فيه ما يلي:
أ - أن يكون أهلًا للتَّبرُّع عليه؛ بأن يصحَّ منه القبول لشبه العارية بالهبة[18]، فلا يعار مجنون ولا صبي لا يؤمن منه الضرر, إلا إذا كان مميزا يحسن التصرف في الأمور.
ب - القبض للعين المعارة؛ لأنَّ الإعارة عقد تبرُّع، فلا يَثبت حكمها بدون القبض كالهبة([19]).
3 - المُعَار أو المُسْتَعَار: وهو العين المطلوب الانتفاع بها ويشترط فيها ما يلي:
أ - أن تكون ممَّا يباح الانتفاع به؛ كالدُّور والمراكب، والثِّياب ومتاع البيت.
أمَّا ما لا يباح الانتفاع به فلا يجوز إعارته كآلات اللَّهو والغناء، أو كتب مشتملة على منكر وباطل، فذلك كلُّه من التَّعاون عن الإثم والعدوان، وهو محرَّم بنصِّ القرآن.
والضَّابط في ذلك: «أنَّ ما جاز للمالك (المُعير) استيفاؤه من المنافع مَلك إباحتَه إذا لم يمنع منه مانع»[20]، أو يقال: «جميع ما يُعرف بعينِه، إذا كانت منفعته مباحةَ الاستعمال؛ فإنَّه يجوز إعارته»[21].
ب - أن يكون ممَّا يمكن الانتفاع به مع بقاء عَيْنِه، فأمَّا ما لا يبقى بعد استيفائه فليس بعارية؛ ولكنَّه مِنْحَة، أو هِبَة ونحوها[22].
«فلا معنى لإعارة الأطعمة وغيرها من المكيلات والموزونات، وإنَّما تكون قرضًا أو نحوه؛ لأنَّها لا تُراد إلا لاستهلاك أعيانها»[23].
أمَّا ما لا يمكن الانتفاع به أصلاً فلا فائدة في إعارته[24]؛ كالآلة المعطَّلة، أو الدابَّة الزَّمِنَة كما سبق.
4 - الصيغة: وهي ما به تكون الإعارة من قول أو فعل، فكلُّ ما كان من ذلك يدلُّ على بذل المنفعة من غير عِوَضٍ فهو إعارة[25].
فمن القول: كنحو أعرتك هذا الشَّيء، أو أبحتك الانتفاع به، أو قول المستعير: أعطني هذه العربة أحمل عليها متاعي، فسلَّمها له.
ومن الفعل: كدفع الدَّابَّة لرفيقه عند تعبه، وتغطيته بكسائه لبرد ونحوه، فإذا ركب الدَّابَّة، واسْتَبْقَى الكِسَاء كان قبولا[26].
رابعا - أحكامها:
لعقد العارية جملة من الأحكام نجملها في النّقاط الآتية:
أولها: يجب على المستعير حفظ العارية، والمحافظة عليها، وصيانتها عمَّا يتلفها، حتَّى يردَّها إلى صاحبها سالمة.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].
والعارية أمانة في يد آخذها يجب أداؤها بعد استيفاء المنفعة، ولا يتمُّ ذلك إلا بالمحافظة عليها.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»[27].
والعارية من جملة ذلك فيجب الاهتمام بها ورعايتها حتَّى تُؤدَّى إلى صاحبها[28].
ثانيًا: أنَّ التَّسلُّط على الانتفاع هو بقدر التَّسليط[29]، فللمستعير الانتفاع بالعارية بحسب الإذن، أي إذن صاحبها. وهذا بإجماع أهل العلم, قال ابن قدامة - رحمه الله -: «وأجمعوا على أنَّ للمستعير استعمالَ المعار فيما أذن له فيه»[30].
فإن أعاره سيَّارة يحمل فيها متاعًا له لم يجز له أن يحمل فيها غيره، أو أعارَهُ أرضًا يزرع فيها حِنطة لم يجزْ له أن يغرس فيها شجرًا أو يبني فيها بناءً.
وقد نصَّ الفقهاء - رحمهم الله - أنَّ الحقوق الَّتي يمنحُها عَقْدُ الإعارة تختلف بين ما إذا كانت الإعارة مطلقة أو مقيَّدة.
فالمطلقة: ما لم يُبيِّن في العقد أنَّه يَستعمل المُستَعار بنفسه أو بغيره، أو ما لم يبين كيفية الاستعمال.
مثال ذلك: أن يعير شخص دابته لآخر، ولم يسمِّ مكانًا ولا زمانًا، ولم يحدِّد الرُّكوب ولا الحمل.
فحكم هذه: أنَّ المستَعير يُنزل مَنْزلة المالك، فكلُّ ما ينتفع به المالك ينتفع به المستعير؛ لأنَّالأصل في المطلق أن يحمل على الإطلاق.
غير أنَّه لا يحمل عليها فوق المعتاد لمثلها، ولا يستعملها ليلاً ونهارًا، ما لم يُستعمل مثلها من الدَّوابِّ؛ لأنَّ العقد المطلق مقيَّد بالعرف والعادة ضِمْنًا، كما يتقيَّد نصًّا، كما في الإجارة.
أمَّا المقيَّدة: فهي أن تكون مقيَّدة في الزَّمان والانتفاع معًا أو في أحدهما.
وحكمها: أنَّه يراعي فيها القيَّد ما أمكن؛ لأنَّ الأصل في المقيَّد اعتبار القيد منه؛ إلاَّ إذا تعذَّر اعتباره لعدم الفائدة ونحوه، فَيَلْغُوا؛ لأنَّ التَّقييد يجري مجرى العبث[31].
ثالثها: أنَّ للمستعير استيفاء المنفعة بنفسه أو بمن ينوبه من **** ونحوه، قال الموفَّق ابن قدامة - رحمه الله -: «لا نعلم فيه خلافًا»[32].
لكن يشترط في ذلك ما يلي:
أ - أن لا يكون في الاستنابة ضَرَرٌ زائد على استعمال المُستَعير[33].
ب - أن يرضى المالك (المُعير) بذلك[34].
رابعًا: أنَّه ليس للمستعير إعارة العين المُعَارة لغيره؛ لأنَّه لا يملك العَيْنَ، وإنَّما يملك أن ينتفع بها، فالمستعير مُسْتَبِيح، والمستبيح لا يملك الإباحة[35]، أي لغيره.
أمَّا من ملك نفع العين فتصحُّ عاريته كما نصَّ على ذلك أهلُ العلم، فقالوا: «تَصِحُّ العارية من مستأجر، ومن موصى له بمنفعة، أو من موقوف عليه؛ لأنَّه في الجميع يَملك المنفعة، فيجوز له إعارتها»[36].
يستثنى من ذلك: ما إذا أذن المُعير للمُستَعير في ذلك، أو عَلِمَ المُستَعير أنَّ المُعير لا يُمانع من ذلك عادةً[37].
كما أنَّه لا يملك أن يؤجِّرها، وذلك باتِّفاق أهل العلم، قال الوزير ابن هبيرة - رحمه الله -: «اتَّفقوا على أنَّه لا يجوز للمستعير أن يؤجِّر ما استعاره» اهـ[38].
وجه ذلك: أنَّ المستعير إنَّما ملك الانتفاع ولم يملك المنفعة، وأهل العلم فرَّقوا بين من مَلَكَ المنفعة وبين من ملك الانتفاع، فقالوا: في الأوَّل يجوز له المعاوضة عليه وفي الثَّاني: لا[39], فالأول أعم من الثاني[40].
ثم من جهة أخرى: أن عقد الإجارة أقوى من عقد الإعارة , لأنها لازمة, و الشيء لا يتضمن ما فوقه[41].
يستثنى من ذلك ما إذا أذن المعير فيجوز باتفاق أصحاب المذاهب الأربعة[42].
ومثل ذلك الرَّهن، فليس للمستعير رَهْنُ العين المستعارة إلاَّ بإذن مالكها؛ لأنَّ الشَّيء لا يتضَّمن ما فوقه[43].
قال ابن المنذر - رحمه الله -: «وأجمعوا على أنَّ الرَّجل إذا استعار من الرَّجل الشَّيء يرهَنُه على دنانير معلومة, عند رجلٍ سمِّي له إلى وقتٍ معلوم, فرهَن ذلك على ما أذن له فيه, أن ذلك جائز»[44].
ومثله كذلك الإيداع, فلا يملك المستعير أن يستودع الشيء المستعار لدى الغير, إما لاستغنائه عنه, أو لخوفه عنه من التلف, أو غير ذلك[45].
فالَّذي ينبغي على المسلم دائما أن يحتاط في حقوق الناس, وأن يتصرف على وفق ما اتفق عليه مع الطرف الثاني دون زيادة أو خروج عن العقد؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1], فأنت إذا قلت لأخيك المسلم أعرني قال: أعرتك، اختص الانتفاع بك لا بغيرك، فكما أنك لا تقبل أن يقوم غيره مقامه كذلك لا ينبغي لك أن تقيم غيرك مقامك، وكم من شخص يأذن لإنسان لحقه عليه ولا يأذن لغيره، «لأنَّ الْمُعِيرَ إنَّمَا قصد انْتِفَاعَ ذلك الشَّخْصِ الْمَخْصُوصِ الْمَوْصُوفِ بِكَوْنِهِ مُسْتَعِيرًا»[46]، خاصَّة في المنافع التي يكون بذلها للغير فيه إحراج لصاحبها ومالكها الحقيقي.
خامسا: أنَّ للمعير الرُّجوع في عاريته - أي استرجاعها - متى شاء، ما لم يترتَّب على ذلك إضرار بالمُسْتَعير، كما لو أذن المعير بشُغْل المُستَعار بشيء يتضرَّر المُستَعير بالرُّجوع فيه، أو كانت العارية لازمة.
فمن الأوَّل: كمن أعار غيره جدارًا ليضع عليه أطراف خشبه، فليس له الرُّجوع فيه ما دام عليه أطراف خشبه، لما في ذلك من الضَّرر بهدم البناء، وإن جاز له الرُّجوع قبل الوضع وبعده ما لم يَبْنِ عليه لانتفاء الضَّرر.
ومن الثَّاني: كمن أعار أرضًا لدفن ميِّت محترم، فليس له الرُّجوع في الموضع الَّذي دُفِنَ فيه، وامتنع على المستَعير ردّه، فهذه إعارةٌ لازمةٌ من الجانبين، حتَّى يندرس أثرُ المدفون بأن يصيرَ ترابًا.
وكمن استعار مكانًا لسكن معتدَّة، فليس للمعير الاسترداد.
وهذا قول جمهور أهل العلم من الحنفية والشَّافعية والحنابلة - في الجملة - وقول المالكية في الإعارة المطلقة دون المؤقَّتة[47]؛ فإنها عندهم لازمة[48].
سادسها: الضَّمان، فلا ضمان على المستَعير فيما إذا تلفت العين المُستَعارة بالاستعمال المأذون فيه، لحدوث التَّلف بسبب مأذون فيه، ولأنَّ الإذن في الاستعمال تضمَّن الإذن في الإتلاف، والقاعدة: «أنَّ ما ترتَّب على مأذون؛ فهو غير مضمون»[49].
فلا يضمن - مثلاً - انسحَاق الثَّوب بلبسه، ولا انمحاقه بذلك[50]، كما أنَّه لا ضمان عليه فيما لو تلفت الدَّابَّة بسبب الرُّكوب، أو الحمل المعتاد، ومثله لو تآكَّلت إطارات الشَّاحنة أو بعض آليات محركها بسبب الاستعمال المأذون فيه.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية - على تفصيل عندهم -، وقول عند الحنابلة حكاه ابن تيمية وغيره، واختاره ابن القيِّم، رحمه الله وغيره[51].
وجه ذلك: أنَّ العارية إنَّما حصلت في يد مستعيرها على وجه مأذون فيه، والقاعدة الشَّرعية: «أنَّ ما ترتَّب على مأذون فليس بمضمون»، فَيَدُ المُسْتَعير إذن يَدُ أمان وليست يَدُ خيانة، وإذا كانت كذلك فلا ضمان على مؤتمن ما لم يتعدَّى أو يفرِّط[52].
فالعارية إذَنْ تجري مجرى بقيَّة الأمانات، إن تعدَّى فيها المستعير، أو فرَّط ضَمِنَ، وإلاَّ فلا[53].
فالتَّعدِّي يكون بفعل ما لا يجوز من الاستعمال، كأن يستعمل العين المعارة استعمالاً غير مشروط أو غير مألوف،كمن استعار سيارة من جاره فسلك بها طريقا وعرة أو غير مسفلتة أو حمل عليها حمولة غير معتادة فأوقع بها خللا ما فقد تعد, والتَّفريط يكون بترك ما لا يجوز من الحفظ, كما لو أرسى السيارة في المثال السابق في مكان غير آمن فأخذت منها بعض الأغراض, أو صدمت من قبل سيارة أخرى فقد فرط0
يستثنى من ذلك ما إنْ شرط المستعير على نفسه الضَّمان، فحينئذ يضمن[54]، أو أراد صاحبها تضمينه ورضي لنفسه بذلك؛ فمجرَّد هذا الرِّضا مسوِّغ للتَّضمينِ[55].
سابعها: يجب على المستعير ردُّ العارية إلى مالكها بعد استيفاء المنفعة منها، أو بطلب من مالكها.
«ويبرأ به - أي الرَّدُّ - إن وصلت إلى المالك أو ال**** أو لمحلِّ أخذها منه إنْ علم بها المالك ولو بخبر ثقة»[56]، ويبرأ كذلك بردَّها إلى بيت المالك أو بدفعها إلى عياله؛ لأنَّ العادة جارية بذلك[57].
ثامنها: أن مُؤنة ردِّ العين المعارة على مُستَعيرها[58]، وجه ذلك: أن المستعير إنَّما قبض العين المعارة لحظِّ نفسه المحظ والمعيرُ مُحْسِنٌ، وما على المحسن من سبيل.
ويدلُّ عل ذلك عموم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ»[59]، وإذا كانت واجبة الرَّدِّ وجب أن تكون مُؤْنَة ذلك على من وجب عليه الرَّدُّ؛ لأنَّه من لازمه من باب: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، إذ لو لم يكلَّف المستعير بذلك لربَّما امتنع النَّاس منها.
هذا ما تيسَّر جمعه وتلخيصه ممَّا يتعلَّق بالإعارة في الفقه الإسلامي، ولذلك فروع وتفاصيل تنظر في مضانِّها من كتب الفقه، بقي بعض الصور المستجدة مما يتعلق بهذا الأمر ندرجها في ملحق مستقل, وفق الله الجميع لما يحبُّ ويرضى، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.


عبدالمجيد تالي
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الإسلام, الإعارة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الإعارة في الإسلام
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
نور الإسلام ام زهرة شذرات إسلامية 0 05-19-2013 09:14 PM
ما هو الإسلام؟ ام زهرة شذرات إسلامية 0 04-16-2013 02:15 PM
سماحة الإسلام وأخلاق الإسلام سعاد بن علو شذرات إسلامية 1 06-10-2012 12:08 PM
الدعوة إلى الإسلام Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 03-25-2012 07:37 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 07:21 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59