#1  
قديم 06-21-2013, 02:58 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه





للمستشرق الفرنسي الأستاذ جيرارتروبو
أستاذ فقه اللغة العربية في السوربون- باريس

لا شكَّ أن النظام النحويّ في كل لغة له أهمية كبرى، لأن النظام النحويّ يعبر عن بُنْية اللغة ويصوغ فكر الناطقين بها؛ ويُمْكِنُنا القول إن النظام النحويّ العربيّ يحتلّ محلّاً بارزاً بين النُظُم النحوية الكبرى الموجودة في العالم، من أجل موقعه المتوسِّط بين النظام اليوناني، في الغرب، والنظام الهندي، في الشرق؛ فكان من الطبيعيّ أن يلفت المستشرقون أنظارهم إليه، ليدرسوا نشأته وتطوُّره.
إن المستشرق الألماني Merx، الذي نشر في منتهى القرن التاسع عشر كتاباً عنوانه "تاريخ صناعة النحو عند السريان"، هو الذي زعم لأول مرة أن المنطق اليوناني أثَّر في النحو العربي، لأن الثاني قد اقتبس من الأول بضعة من المفاهيم والمصطلحات.
ثم نرى معظم المستشرقين قد اتخذوا هذا الرأي بدون تحفُّظ؛ فقال المستشرق الفرنسي Fleisch في كتاب أَلّفه في علم اللغة: "إنه من الواجب أن نشير إلى تأثيرٍ يونانيٍّ في النحو العربي، فقد اقتبس الفكرُ العربي مفاهيم أصلية من العلم اليوناني، لا من النحو اليوناني، ولكنْ من منطق أرسطو".
غير أنَّ المستشرق الإنكليزي Carter رفَضَ هذا الرأي في مقالة نشرها منذ عدة سنوات، وسمَّاها: "في أصول النحو العربي". فَبَيَّن في هذه المقالة أنّ سيبويه يستعمل في الكتاب مجموعتين من المصطلحات: مجموعة قليلة العدد تتضمّن مصطلحاتٍ لعلُّها يونانية الأصل، ومجموعة كثيرة العدد تتضمن المصطلحات العربية الأصل، منقولة من الفقه إلى النحو.
ومع ذلك فإن المستشرق الهندي Versteegh نشر في مستهلّ هذه السنة، كتاباً عنوانه "العناصر اليونانية في الفكر اللساني العربي"، يدافع فيه عن نظريّة التأثير اليوناني في النحو العربي، فيعتبر أن النُحاة العرب القدامى قد اقتبسوا بضعة من المفاهيم والمصطلحات، لا من المنطق اليوناني، كما زعم Merx، بل من النحو اليوناني، وذلك بواسطة اتّصالهم المباشر باستعمال النحو اليوناني الحيّ، كما يقول، في مراكز الثقافة اليونانية الموجودة في الشرق الأدنى بعد الفتح العربي.
فأود في هذه المحاضرة أن أفحص تلك الآراء المتناقضة في نشأة النحو العربي؛ وهذا في ضوء كتاب سيبويه، الذي سمّاه الناس "قرآن النحو" حسبما روى عنه النحوي الحلبي أبو الطيّب اللغوي.
* * *
إن المستشرقين، لِيُبيّنوا التأثير اليوناني في النحو العربي، يحتجّون على العموم بأن النُحاة العرب القدامى قد اقتبسوا من المنطق اليوناني تقسيم الكلام الثلاثي، ومصطلحاتٍ أربعة هي: الإِعراب والصرف والتصريف والحركة. فينبغي لنا أولاً أن نتساءل: هل كان من الممكن، من الناحية اللسانية، أن يكون هؤلاء النحاة قد اقتبسوا هذا التقسيم.
إنّ تقسيم الكلام أمر مهمّ جداً في كل نظام نحوي، لأنه يشترط هذا النظام؛ وبالنسبة إلى بُنية كل لغة، مَيّز النحاة عدداً مختلفاً من الأقسام. فإن النحاة اليونان قد مَيّزوا في لغتهم ثمانية أقسام، وهي، حسبما قال أرسطو في كتابه في الشعر: الحرف: stoikeion، المجموع: syllabe، الرباط: syndesmos، الفاصلة: arthron، الاسم: onoma، الكلمة: rhema، الوقعة: ptosis، القول: logos.
أما النحاة العرب فإنهم، كما تعلمون، لم يميّزوا في لغتهم إلا ثلاثة أقسام؛ وهي، حسبما قال سيبيويه في الكتاب: الاسم والفعل والحرف.
ولكنْ، على الرغم من الفرق الكبير الذي يظهر بين عدد الأقسام في النظامين، يَدَّعي بعض المستشرقين أن النحاة العرب قد اقتبسوا هذا التقسيم عن المنطق اليوناني. فَلِنَسْتَطيع أن نَرْدَّ على هذا الادّعاء الفاسد، سنبحث عن كل واحد من هذه الأقسام في النظام اليوناني، وعن القسم المقابل له في النظام العربي.
ليس لقِسْم الحرف اليوناني قِسْم يقابله في النظام العربي، لأنَّ سيبويه لم يجعل حروف الهجاء قسماً مستقلاً في تقسيمه، كما فعل أرسطو. وكذلك ليس لقسم المجموع اليوناني قِسْم يقابله في النظام العربي، لأن مفهوم المجموع المركّب من حرف غير مصوَّت وحرف مصوَّت، مفهوم صوتيّ يختلف عن مفهوم الحرف الساكن والحرف المتحرك الذي نجده عند سيبويه.
أما قسم الرباط اليوناني فإنه لا يقابِلُ إلا جزءاً من قسم الحرف العربي؛ ونجد فرقاً بينهما، لأنّ الرباط عند أرسطو لفظ خالٍ من المعنى، بيد أن الحرف عند سيبويه لفظ له معنى.
يشتمل قسم الفاصلة اليونانيّ على آلة التعريف والاسم الموصول، وهما عند أرسطو لفظان خاليان من المعنى؛ فليس لهذا القسم قسم يقابله في النظام العربي، لأنّ سيبويه يَعْتَبَر أن الاسم الموصول اسمٌ غير تامّ، يحتاج إلى صلة، فيدخله في قسم الاسم، كما أنه يَعْتَبر أن آلة التعريف لفظ له معنى، فيدخله في قسم الحرف.
أما قسم الاسم اليوناني فإنه يقابِل قسم الاسم العربي، غير أننا نجد فَرقاً بين القسمين، لأن الاسم عند أرسطو لفظ له معنى يدل على شيء، بيد أن الاسم عند سيبويه لفظ يقع على الشيء، فهو ذلك الشيء بعينه.
وكذلك يقابل قسمُ الكلمة اليونانية قسمَ الفعل العربي؛ فالكلمة عند أرسطو لفظٌ له معنى يدلّ على زمان، والفعل عند سيبويه مثال أخذ من لفظ حدث الاسم، فيه دليل على ما مضى وما لم يمض؛ غير أننا نجد فرقاً بين القسمين، لأن الصيغة غير المبيَّنة aparemphatos مضمَّنة في قسم الكلمة اليوناني، بيد أن المصدر مضمَّنٌ في قسم الاسم العربي، كما أن الصيغة المشتركة metochikon مضمَّنة في قسمي الاسم والكلمة معاً في النظام اليوناني؛ بيد أن اسم الفاعل مضمَّن في قسم الاسم فقط في النظام العربي.
وأخيراً، فليس لقسم الوقعة اليوناني قسم يقابله في النظام العربي، لأن مفهوم الوقعة التي تحدث في آخر الاسم أو في آخر الفعل، مفهوم غير موجود عند سيبويه؛ وكذلك قسم القول، الذي هو عند أرسطو مركَّب من ألفاظ لها معنى، ليس له قسم يقابله في النظام العربي، لأنّ سيبويه لم يجعل من القول قسماً مستقلاً في تقسيمه.
فمن الناحية اللسانية، يظهر لنا أنه من المستحيل أن يكون التقسيم العربيُّ منقولاً من التقسيم اليوناني، لأن عدد الأقسام ومضمونها يختلف في النظامين اختلافاً تاماً.
ثم يجب علينا أن نتساءل هل كان من الممكن، من الناحية اللغوية، أن يكون النحاة العرب القدامى قد أخذوا عن النحو اليوناني تلك المصطلحات الأربعة التي هي: الإعراب، والصرف، والتصريف، والحركة.
يزعم أتْباع التأثير اليونانيّ أن كلمة الإِعراب نُقلت من الكلمة اليونانية hellenismos. ما معنى هذه الكلمة في أصل اللغة اليونانية؟ hellenismos اسمُ فِعلٍ يوناني تعريبه: هَلَّنَ شيئاً تهليناً، أي صيَّره هِلّينيّاً.
قال أرسطو في كتابه في الخطابة: "إن أصل الكلام هو الوجه الهلّيني في التكلم"، أي الوجه الصحيح الذي يحصل عليه بمراعاة خمسة أشياء:
1- باستعمال الروابط، أي حروف العطف.
2- باستعمال الكلمات الخاصة.
3- بعدم استعمال الكلمات الملتَبِسة.
4- بتمييز الأجناس في الأسماء.
5- بتمييز الأعداد فيها.
ويرى فيلسوفٌ رواقيٌّ أن الهلين هو التكلم الصحيح على وجه الصناعة، لا على وجه العامة.
فنلاحظ أن الكلمة hellenismos كلمة عامة تختصّ بالكلام برمّته؛ فإنها اصطلاح خطابي وليس باصطلاح نحوي.
أما معاني الإِعراب في أصل اللغة العربية فهي ثلاثة: أولاً الإبانة والإفصاح عن الخواطر، ثانياً إزالة الفساد في الكلام، ثالثاً تغير آخر الكلمة.
فقال ابن جني في كتاب الخصائص: "وكأن الإعراب من قولهم: عربت معدته أي فسدت، كأنها استحالت من حال إلى حال، كاستحالة الإعراب من صورة إلى صورة". وقال ابن الأنباري في كتاب أسرار العربية: "إن الإعراب سُمّي إعراباً لأنه تَغَيُّرٌ يَلحق أواخر الكلم، من قولهم: عربت معدة الفصيل إذا تغيرت".
والواقع أن سيبويه يستعمل كلمة الإعراب لِيَدلّ على ما يسميه "مجاري أواخر الكلم"؛ يعني التغيُّرات التي تَحدُث في آخر الاسم المتمكن، والفعل المضارع لاسم الفاعل. والإعراب عند سيبويه نقيض البناء الذي يدلّ على عدم التغيّر في آخر الكلمة.
فنلاحظ أن الإعراب كلمة تختص ببعض الكلمات فقط في الكلام، فإنها اصطلاح نحوي وليست باصطلاح خطابي.
ثم يَدَّعي أنصار التأثير اليوناني أن كلمة الصرف نُقِلت من الكلمة اليونانية klisis، وأن كلمة التصريف نُقِلت من الكلمة اليونانية ptosis. ما هو السبب الذي دفعهم إلى هذا الادعاء؟ السبب هو أن النحاة اليونان كانوا يعتبرون أن الاسم، بالنسبة إلى حالته الأصلية التي هي حالة التسمية onomasticos، له ميل klisis إلى حالات أخرى، كما أن الفعل بالنسبة إلى حالته الأصلية التي هي حالة الحاضر enestos، له ميل إلى حالات أخرى؛ وكان النحاة اليونان يسمّون كل واحدة من هذه الحالات المتغيرة وقعة: ptosis.
قال أرسطو في كتابه في الشعر: "أما الوقعة فهي للاسم أو الفعل، وتدل على معنى حرف "ل" أو حرف "إلى" وما أشبه ذلك، أو على الإفراد أو الجمع أو نوع كلام القائل، مثل الاستفهام أو الأمر".
وقال في كتابه في الخطابة: "تَغَيُّرات الاسم المائل هي وقعات الاسم، كما أن تغيُّرات الفعل المائل هي وقعات الفعل".
أما معنى كلمة الصرف في كتاب سيبويه، فإن هذه الكلمة تدلّ على إلحاق حرف النون للاسم، وللاسم فقط، لأن هذا الحرف علامة التمكّن، يعني استقرار الكلمة في قسم الاسم.
وأما معنى كلمة التصريف فَيَسْتَعِمل سيبويه هذه الكلمة للدلالة على التغيُّرات التي تَحدُث في داخل الكلمة، فإنه لا يستعملها أبداً للدلالة على التغيُّرات التي تَحدُث في آخر الكلمة.
فنلاحظ أن مفهوم الميل ومفهوم الوقعة غير موجودين في النظام العربي، كما أن مفهوم التمكّن ليس بموجود في النظام اليوناني.
ثم يزعم أَتباعُ التأثير اليوناني أن كلمة الحركة تُرجِمَت من الكلمة اليونانية: Kinesis، وذلك لأن بعض النحاة اليونان حَدّدوا الوقعة بأنها حركة تَحْدُث في آخر الاسم، فيستنتجون من هذا التحديد أن الحركة عند النحاة العرب كانت تَدلّ في الأصل على المصوت الأساسي، يعني ذلك المصوت الذي يشير إلى الوقعة في آخر الاسم، ومن ثم استُعِمْلَت هذه الكلمة بصفة عامة للإشارة إلى المصوت.
نلاحظ أولاً أن مفهوم التحريك في النظام الصوتي العربي لا يتفق أبداً ومفهوم التصويت في النظام الصوتي اليوناني؛ فإن أرسطو يقسم الحروف إلى مصوَّتة ونصف مصوتة وغير مصوتة، بيد أن سيبويه يقسم الحروف إلى متحركة وساكنة.
ثم نلاحظ أن كلمة الحركة عند سيبويه تدلّ على حركات الشفة، من الضم والفتح والكسر، أو على حركات اللسان، من الرفع والنصب والجر أو الخفض، عند إخراج الصوت؛ أَتَحْدُث هذه الحركة في صدر الكلمة أم في وسطها أم في آخرها، فإن الحركة في نظام سيبويه كلمة عامة، لا تدلّ على آخر الاسم المعرب، لأنها تُسْتَعْمَل أيضاً لتدلّ على آخر الاسم المبني غير المعرب، ويمكن أن تكون كلمة معربة مجرّدة من الحركة، كالفعل المضارع المجزوم مثلاً.
فمن الناحية اللغوية، يبدو لنا أنه من المستحيل أن تكون هذه المصطلحات الأربعة منقولة من اليونانية إلى العربية، لأن المفاهيم التي تدلّ عليها تتباعد في النظامين كل التباعد.
* * *
يجب علينا الآن أن نتساءل: هل كان من الممكن، من الناحية التاريخية، أن يَعرف النحاةُ العرب القدامى النحوَ اليوناني والمنطق اليوناني فيتأثروا بهما؟
أما النحو اليوناني فلم يستطع النحاة القدامى أن يعرفوه بطريقة مباشرة، إذ إنهم كانوا يجهلون اللغة اليونانية، ولم يكن لديهم كتاب في النحو اليوناني مترجَم إلى اللغة العربية، فلم يستطيعوا إذن أن يعرفوا النحو اليوناني إلا بواسطة النحو السرياني. فعلينا أن نبحث عن العلاقات الموجودة بين النحو السرياني والنحو اليوناني من جهة، والنحو العربي من جهة أخرى.
كان النظام النحويّ السريانيّ مرتكزاً على الأقاويل الخمسة التي مَيَّزها منطق أرسطو في الكلام؛ وهي حسبما قال إيليا بن شينايا: السؤال، والأمر، والدعاء، والتعجب، والنداء.
فاختَرَعَ النحاة السريان نظام النُقَط، يعني نظام العلامات التي تقابِلَ في الكتابة الإشارات الدالّة على تلك الأقاويل في المشافهة. ثم يرتكز هذا النحو على القواعد الصوتية والصرفية التي اقتبسها السريان من كتابٍ في النحو اليوناني كان قد تُرْجِم إلى السريانية.
أما النحاة السريان فنقتصر على ذكر أشهرهم، وهم ثلاثة:
في القرن السابع: الأسقف يعقوب الرهاوي، الذي صَنَّف الكتاب الأول في النحو السرياني.
في القرن التاسع: المترجِم المعروف حنين بن إسحاق، الذي ألَّف كتاباً في النحو سماه "كتاب النُقَط".
في القرن الحادي عشر: إيليا بن شينايا، مطران نصيبين، الذي صَنَّف كتاباً صغيراً في النحو.
أما تعليم النحو السرياني فكان منتشراً في أديرة السريان ومدارسهم، كمدرسة دير قنى المشهورة، بالقرب من المدائن، وكالمدارس العديدة التي كانت موجودة في الحيرة عاصمة العباد، بالقرب من الكوفة. غير أننا لا نجد أي دليل في المصادر السريانية، ولا في المصادر العربية، على أن النحاة العرب القدامى قد اتصلوا بالنحاة السريان، أو تَعَلَّموا اللغة السريانية.
وفضلاً عن ذلك، كان النحاة السريان أنفسهم يَعتبرون أن النحو العربي يختلف عن النحو اليوناني من جهة، وعن النحو السرياني من جهة أخرى، اختلافاً تاماً. ومما يدل على ذلك أن حنيناً بن إسحاق ألَّف كتاباً في النحو العربي، على المنهاج اليوناني سمّاه "كتاب أحكام الإعراب على مذهب اليونانيين". وقد ذكر الخوارزمي فصلاً صغيراً منه في كتاب مفاتيح العلوم. وصَنَّف حنين كتاباً آخر في النحو العربي، زعم فيه، حسبما روى عنه إيليا بن شينايا: "أن العرب ليس لهم نحو يَعرفون به المعاني الغامضة كما للسريانيين"، ويستدل من قوله أن نحو العرب غير كاف ولا مقنع لما يحتاج إليه.
أما إيليا بن شينايا فأفرد مجلساً من المجالس التي جَرَت بينه وين الوزير الحسين بن علي المغربي، بمقارنةٍ بين النحو العربي والنحو السرياني، يوضح فيها الفرق بين النظامين، كما يدلّ على ذلك الحوار التالي بين الرجلين:
"قال الوزير: أترفعون الفاعل وتنصبون المفعول كما تفعل العرب؟ قلت: لا.
قال: فكيف تعرفون الفاعل من المفعول؟ قلت: يُدخل السريان على المفعول حرف اللام لِيُفَرِّق بينه وبين فاعله؛ ولما كان العرب إنما يرفعون الفاعل وينصبون المفعول، ليفرّقوا بينهما، وكان للسريان علامة تَدُلُّهم على الفرق بين الفاعل والمفعول هي أبين من الرفع والنصب، ما احتاجوا أن يرفعوا الفاعل وينصبوا المفعول كما تفعل العرب".
فيدلّ كلُّ ذلك على أن النحو اليوناني لم يستطع أن يؤثر على النحو العربي بواسطة النحو السرياني؛ وبعكس ذلك، في القرن الحادي عشر، نرى إيليا مطران طيرهان يصنِّف كتاباً في النحو السرياني يُدخِل فيه النظام العربي؛ فالنحو العربي هو الذي أثر في النحو السرياني.
أما المنطق اليوناني فلم يستطع النحاة القدامى أن يعرفوه في القرن الثاني للهجرة، الثامن الميلادي، إذ إن تآليف أرسطو لم تنقل بعد إلى اللغة العربية؛ فإننا نعلم أن الكتاب في العبارة والكتاب في المقولات لم يُتَرجَما إلا في القرن الثالث للهجرة، التاسع الميلادي، على يد حنين بن إسحاق؛ كما نعلم أن الكتاب في الشعر لم يُتَرجَم إلا في القرن الرابع للهجرة، العاشر للميلاد، على يد مَتّى بن يونس.
وإذا اطَّلَعْنا على هذه الترجمات لاحظنا أن المترجِمَ السرياني لم يَسْتَعْمِل مصطلحات النحو العربي ليترجِمَ مصطلحات النحو اليوناني، ولكنه اخترع مصطلحات عربية جديدة.
فإنه ترجم اللفظة stoikeion بأسطقس، ولم يترجمها بحرف، وترجم اللفظة syndesmos برباط، ولم يترجمها بحرف، وترجم اللفظة rhema بكلمة، ولم يترجمها بفعل، وترجم اللفظة klisis بميل، ولم يترجمها بإِعراب، وترجم اللفظة phone بمصوَّت، ولم يترجمها بحركة.
وفي القرن الرابع للهجرة، العاشر للميلاد، نرى الفلاسفة العرب يخترعون مصطلحات جديدة، ليُفَسِّروا كتب المنطق اليوناني في اللغة العربية. فإن الفيلسوف المنطقيّ الكبير، أبا نصر الفارابي، يقول في كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، بصدد حروف المعاني:
"إن هذه الحروف هي أصناف كثيرة، غير أن العادة لم تَجْرِ في أصحاب علم النحو العربي إلى زماننا هذا، بأن يُفْرَد لكل صنف منها اسمٌ يَخُصُّه؛ فينبغي أن نستعمل في تعديد أصنافها الأسامي التي تأدت إلينا عن أهل العلم بالنحو من أهل اللسان اليوناني، فإنهم أفردوا كلّ صنف منها باسم خاص". فاخترع الفارابي خمسة مصطلحات ليدلّ على هذه الأصناف من حروف المعاني، وهي: الخوالف، والواصلات، والواسطات، والحواشي، والروابط.
وفي نفس الحقبة، يروي لنا الفليسوف أبو حيّان التوحيدي، في كتاب الإمتاع والمؤانسة، مناظرة مشهورة جرت بين متّى بن يونس المنطقي وأبي سعيد السيرافي النحوي؛ فمما يبيِّن أن متّى كان يعتبر أن المنطق ليست له صلة بالنحو؛ الحوار التالي بين العالمين:
"قال أبو سعيد: أسألك عن معاني حرف واحد، وهو دائر في كلام العرب، وهو الواو، ما أحكامه، وكيف مواقعه، وهل هو على وجه أو وجوه؟ فبهت متى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ".
فيدلّ كلّ ذلك على أن المنطقيين السريان والفلاسفة العرب كانوا يشعرون بأن النحو العربي لا يتعلق بالمنطق البتّة.
فمن الناحية التاريخية، يظهر لنا أنه من المستحيل أن يكون النحاة العرب القدامى قد عرفوا النحو اليوناني والمنطق اليوناني فتأثروا بهما في نظامهم.
* * *
ينبغي لنا أخيراً، أن نتساءل: هل كان من الضروري، من الناحية المنهاجية، أن يكون النحاة العرب القدامى قد اقتبسوا بضعة مصطلحات من النحو اليوناني؟
فإذا اطلعنا على كتاب سيبويه، لاحظنا أن لغته غنيّة جدّاً لأنه يستعمل عدداً وافراً من المفردات ليعرض نظامه النحوي. ولكنّنا لم نكن نعلم بالضبط مبلغ هذا العدد؛ فعزمتُ أن أُحصي جميع المفردات التي استعملها سيبويه في لغته الشخصية دون لغة الشواهد القرآنية والشعرية، فوجدت أن عددها يبلغ: ألفاً وثمانمئة وعشرين.
ما هي المعلومات التي نستطيع أن نستنتجها من هذا الإحصاء؟
إذا ضربنا صفحاً عن المفردات المستعملة في معناها العام، بدون معنى اصطلاحي، وعددها مئتان وعشرون فقط، استطعنا أن نُميِّز في الكتاب خمسة أنواع من المفردات:
أولاً: المفردات التي تتعلَّق بالمفاهيم النحوية العامة، يعني: بأقسام الكلام وأنواع الألفاظ وأحوالها.
ثانياً: المفردات التي تختص بتركيب الجُمَل، يعني بمواضع الألفاظ في الكلام ومجراها من ناحية العمل.
ثالثاً: المفردات التي تتعلق بالتصريف، يعني بتغيير الألفاظ في اللغة وصياغتها بالاشتقاق.
رابعاً: المفردات التي تختص بالصوتية، يعني بإخراج الأصوات ومجراها في بنية الألفاظ.
خامساً: المفردات التي تتعلق بالمنهاج، يعني بالمفاهيم التي يستعملها سيبويه ليفسّر الوقائع النحوية والوسائل التي يستعملها ليوضحها.
أما توزيع تلك المفردات العددي، فإنّ المفردات التي تتعلّق بالمنهاج هي الأكثر، وعددها ستمئة وخمسون، ثم تتبعها المفردات التي تختص بالمفاهيم العامة، وعددها ثلاثمئة وتسعون، ثم المفردات المتعلقة بالتصريف والتي تساوي المفردات المتعلقة بالصوتية، وعددها ثلاثمئة وعشرون، وأخيراً المفردات التي تختص بالتركيب، وعددها مئتان وخمسون.
فمن البَيِّن أنَّ عدداً وافراً من المصطلحات النحوية كان تحت تصرف النحاة العرب القدامى؛ فمن المستحيل أن يكونوا قد احتاجوا إلى اقتباس بضعةٍ من المصطلحات الأجنبية، يونانيةً كانت أم سريانية فما تعني تلك العَشَرة من المصطلحات التي يزعم المستشرقون أن النحاة العرب قد اقتبسوها من اللغة اليونانية؟ ما تعني تلك العَشَرة بالنسبة إلى المئات من المصطلحات التي كانت متناوَلَةً في لغتهم؟
أظنُّ أن المستشرقين قد أخطأوا عندما اعتمدوا على بضعة من مصطلحاتٍ يونانية ليبرهنوا على مضارعة النظام العربي النظام اليوناني. لأنَّ كلّ واحد من المصطلحات جزء من نظام معقّد ليس له معنى، خارجاً عن هذا النظام.
* * *
فقد بَيّنّا أنه من المستحيل أن يكون النحو العربي القديم قد اقتَبَس مصطلحاتٍ من النحو اليوناني، وذلك من جميع النواحي: من الناحية اللسانية، ومن الناحية اللغوية، ومن الناحية التاريخية، ومن الناحية المنهاجية. غير أنه تَبَقَّى علينا الإجابة على هذا السؤال: كيف نشأت هذه المصطلحات التي نرى سيبويه يستعملها في كتابه؟
إذا فحصنا الكتابَ وجدنا أن سيبويه لم يُحدِّد المصطلحات التي يستعملها؛ فهذا يدلّ على أنه لم يَخْلِق مصطلحات جديدة، وأنه يستعمل تلك التي استعملها قَبْلَه النُحاة القُدامى الذين يذكرهم في الكتاب؛ كما يدلّ ذلك على أن معاصريه كانوا يفهمون تلك المصطلحات بدون صعوبة وبدون تفسير؛ لماذا؟
لأنه من المحتمل أن سيبويه استعمل المصطلحات المشتركة بين العلوم الإسلامية الأصليّة التي هي: القراءات، والحديث، والفقه، والنحو، وقد تكَّونت تلك المصطلحاتُ في وقت واحد في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، الثامن للميلاد، في مِصْرَي العراق المسلِمَين، البَصرة والكوفة، فكان القُرّاء والمحدِّثون والفقهاء والنحاة يستعملون نفس المنهاج ونفس المفاهيم ونفس المصطلحات، لأنهم كانوا يقصدون إلى نفس الهدف الذي هو سلامة لغة التنزيل الإلهي والحديث النبوي.
ويُمْكِنُنا القول إِن النحو، منذ بدايته، كان مرتبطاً بالحديث والفقه، إذ إن كتب أخبار النحويين تروي لنا عن نصر بن عاصم الليثي، وهو أول من وضع العربية بعد أبي الأسود، أنه كان فقيهاً عالماً بالعربية والحديث، كما أنها تروي لنا عن يحيى بن يعمر؛ وهو أول من نَقَّط المصاحف، أنه كان أيضاً فقيهاً عالماً بالعربية والحديث.
فكان العلماء، في غالب الأحيان، يتلقَّون جميع العلوم الإسلامية قبل أن يتخصَّصوا في واحد منها. فنعلم مثلاً أن النحوي المشهور الخليل بن أحمد، وهو واحد من أساتذة سيبويه، قبل أن ينصرف إلى النحو، تَعَلَّم الحديث والفقه عن أيوب السختياني، الذي كان فقيهاً من فقهاء البصرة ومحدّثاً من محدّثيها.
وكذلك، نعلم أن سيبويه قَدِمَ البصرة ليكتسب الحديث، فلزم حلقة حماد بن سلمة؛ ويروى عنه أنه بينما كان يستملي على حماد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس من أصحابي الا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء"، فقال سيبويه: "ليس أبو الدرداء" وظَنَّه اسم ليس، فقال حماد، لَحنتَ يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، وإنما "ليس" ههنا استثناء؛ فقال سيبويه: سأطلب علماً لا تلحنني فيه؛ فلزم الخليل فبرع.
وكذلك، يُرْوَى عن حماد بن سلمة أنه كان يقول: "من لحن في حديثي فقد كذب"؛ فَتَدُلُّنا هذه الرواية على العلاقات الوثيقة التي كانت تربط الحديث بالنحو.
وكان العلماء القدامى يَعتبرون أن النحو أول العلوم الإسلامية وأسبقها، فكانوا يفضّلونه على العلوم الأخرى؛ وذلك لأن النحوَ العلمُ الأساسي الذي يحتاج إليه جميع العلوم، والذي لا يستغني عنه عالم.
فَيُرْوَى عن أيوب السختياني أنه قال: "تَعَلَّموا النحو فإنه جمال للوضيع وتَرْكُه هجنة للشريف"، كما يُروَى أيضاً عن حماد بن سلمة أنه قال: "مَثَلُ الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو، مَثَلُ الحمار عليه مِخلاةٌ لا شعير فيها".
وفي الختام، فأنا اعتقد أن علم النحو أعربُ العلوم الإسلامية، وأبعدُها عن التأثير الأجنبي في طوره الأول، كما حاولتُ أن أُبيِّن ذلك في ضوء كتاب سيبويه، ذلك الكتاب المشهور الذي هو أقدم كتب العرب في النحو.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
العربى, النحو, سيبويه, نشأة, ضوء, كتاب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كتاب الاقتراح في أصول النحو عبدالناصر محمود دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 11-12-2015 08:38 AM
الأنماط التركيبية في النحو العربي Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 2 03-23-2014 03:22 PM
قراءة دلالية في كتاب "زكريا أوزون": "جناية سيبويه" Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 06-30-2013 11:41 AM
نـَظَرات في كتاب (جناية سيبويه) Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 07-01-2012 12:41 PM
اللغة بين لسان العربى وعقله.. تحيا العربية من دون أن يسقط سيبويه Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 07-01-2012 12:39 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:02 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59