#1  
قديم 01-15-2016, 09:13 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي حوار الحضارات وتصادمها (رؤية مغايرة)



الحضارات 20910_0.jpg?itok=hBfMxlBh


رؤية مغايرة
يبدو أن مسألة حوار الحضارات أو تصادمها ليست بهذه الدرجة من التبسيط الذي نشهده في ساحاتنا الإعلامية والثقافية والفكرية والسياسية لما يزيد عن عقد من الزمان. ويعود ذلك إلى عوامل متعددة متداخلة، منها أسباب إثارته والذهنية السائدة في الأمة، وطبيعة الموضوع المثار، وطريقة تعاملنا معها.
لقد درج خطابنا النهضوي في كافة صوره وأشكاله على أسلوب تهييجي، يرفع الشعارات، ويهمل البرامج، ويعجز عن تحويل الفكر إلى واقع ملموس. وغدت القضايا الفكرية المصيرية تطرح وكأنها "موضة" تظهر وتملأ الفضاء السياسي، وتلهي الناس ردحا من الزمن، ثم ما تلبث أن تختفي وتشغل محلها أخرى في سلسلة متصلة العرى أيان يوم انفصامها!؟ وربما يرجع ذلك إلى أن الفكر عندنا ردة أفعال لا إبداعا، ولأن العمل عندنا عادة سابق للفكر الذي يأتي مبررا أو رافضا له بأسلوب عاطفي غير ممنهج. فالفكر عندنا في هذا العصر الذي نعيشه ليس بمنشئ للعمل. ولك أن تتأمل كل مراحل النهضة الحديثة وإخفاقاتها تجد ذلك واضحا جليا، انظر في مسائل "التحديث" و"التغريب"، وفي الوطنية والقومية، وفي اللبرالية والاشتراكية، ثم أخيرا في الصحوة الإسلامية وما تتابع فيها من تناول قضايا "الأسلمة" والتأصيل ثم الآن حوار الحضارات أو تصادمها.
والمشكلة الكبرى أن هذه الذهنية تتعامل الآن مع أكثر موضوعات الدراسات الإنسانية تعقيدا، وهو موضوع الحضارة، بما درجت عليه من التبسيط، وما ألفه خطابها التهييجي من ثنائية حادة، فأضحت في هذه الحالة إما حوارا أو "صراعا". هذا في الوقت الذي تجد أن مفهوم الحضارة مختلف عليه أشد الاختلاف، والمصطلحات الدالة عليه متباينة أعظم التباين. فهذه وتلك متعددة بتعدد العلوم المتناولة لها، بل تتعدد في العلم الواحد. من هذا المدينة الفاضلة والتمدين والمدنية والعمران والحضارة والثقافة والمجتمعات.
ومما يزيد الأمر إرباكا أن التساؤل عن عوامل قيام الحضارة وانحلالها وسقوطها لا يُثار عادة إلا في مرحلة الضعف؛ وحسبك ابن خلدون في الحضارة الإسلامية وشبنغلر وتوينبي والسلسلة الطويلة من المتميزين من المؤرخين وعلماء الاجتماع وعلماء الأجناس في الحضارة الغربية المعاصرة. وأفضت هذه الدراسات إلى تساؤلات أكبر وأكثر مما خرجت للإجابة عنها، من هذا هل تموت الحضارة موتا طبيعياً أم أنها تقتل؟! أم أنه يعاد تشكيلها ؟! وما مدى التشابه أو الاختلاف بين الحضارات1؟ وما العلاقة بين الحضارات المتعاقبة والمتعاصرة؟ أهي علاقة تداخل أم تفاعل أم تمازج أم تنافس أم تصادم؟ ومتى وكيف ولماذا يكون هذا اللون أو ذاك من العلاقات.

وإذا تأملت آراء أولئك الدارسين حول هذه التساؤلات وجدتها في غاية الاختلاف سواء كانت تلك الآراء مبسوطة أو وجيزة، ولكنها كلها تتفق، باستثناء المدرسة الأًلمانية، في أن للحضارة مكونين؛ ثقافي ومادي. والثقافي الذي يحتوي القيم والمعايير هو الذي يعطي الحضارة طابعها الخاص وسمتها المميز، وبه تتفرد(2). غير أنهم يختلفون في جوهره أهو الدين أم اللغة أم العرق أو بعض هذا أو كله. أما المكون المادي فهو نتاج للمكون الأول في تفاعله مع بيئته وفقا لشروط معينة. وهذا المنتج مجال لتلاقي الحضارات، فتأخذ الحضارة اللاحقة عن السابقة، ويتداخل فيه الأخذ والعطاء في الحضارات المتعاصرة. والمحصلة النهائية عملية تراكمية، يتقدم فيه اللاحق على السابق، ولكنه تراث إنساني مشترك أسهمت فيه كل حضارة بنصيب يتفاوت كما ونوعا. ويتسع تداخل الحضارات فيه يوما بعد يوم بتعدد وسائل الاتصال وتسارع رتمها.
ومع أن الحضارات تختلف في المكون الثقافي فإن الناظر في تاريخ الحضارات لا يلمح صراعاً بينها، فالصراع عادة مايكون بين الدول، سواء منتمية إلى حضارات مختلفة أو منتسبة إلى حضارة واحدة، وذلك عندما تتصادم المصالح. ويؤدي هذا الصراع في الحضارة المتوثبة إلى ما يدعوه كويغلي (Quigley) بـ "الامبراطورية الكونية" ، ويطلق عليه توينبي A.J.Toynbee) ) "الدولة الشاملة"(3). ومن هنا فلك أن تستنتج أن الصراع يقوم بين دول متضاربة مصالحها، وليس بين حضارات مختلفة ثقافاتها. ومن ثم تظهر أهمية النظر إلى مسألة حوار الحضارات أو تصادمها التي يجري حولها الآن النقاش في إطار الظروف التي أفرزتها والأسباب التي أثارتها.
ظروف إثارة الموضوع وأسبابه
من اللافت أن هذا الموضوع لم تفرزه الدراسات التقليدية التي تتناول الحضارة بالبحث، فهو لم يخرج من حضن علم التاريخ، ولا رحم علمي الاجتماع والأجناس، ولا من إفراز تأملات الفلسفة. لقد انطلق من دائرة جديدة سميت علم المستقبليات الذي ابتدعه الذين يبحثون في الاستراتيجيات لدواعٍ أمنية في عالم شديد التغير، ومتسارعة خطاه فيه. وشاع مفهوم "صدام الحضارات" مع صمويل هنتنغتون (Samuel Huntington) ) في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي. وهو أحد المخططين الاستراتيجيين السياسيين الأمنيين الذين وضعوا اطروحات أو خرائط ونماذج للسياسة العالمية في نهاية الحرب الباردة (انظر ص.30،51،59) (4). ولم يحركهم شعور بانحلال حضارة الغرب والخوف عليها من الأفول كالذي دفع من قبل أولئك العلماء التقليديين الذين درسوا الحضارة تشوقا لاكتشاف وسائل لتدارك الحضارة الغربية الآيلة إلى السقوط، وإنما حفز علماء المستقبليات هؤلاء شيء مناقض لذلك تمام التناقض. لقد عاشوا تفوق الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة، ولمسوا تفرده وهيمنته، وأرادوا المحافظة على هذه المسيرة الظافرة بتبيان مواطن القوة والعمل على توكيدها، واستجلاء المهددات والسعي لدرئها، فتعددت القراءات والاطروحات أو الخرائط والنماذج وفقا لمصطلحات هنتينغتون الذي يقول عن كتابه أنه لا يهدف لأن يكون دراسة في علم الاجتماع وإنما يطمح إلى أن يقدم إطار عمل أو نموذجا لرؤية السياسة العالمية بعد الحرب الباردة يكون ذا قيمة للعلماء ومفيدا لصانعي السياسة (ص. 31) .
ما أن بدأت إرهاصات سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار النموذج الاشتراكي في الثمانينات، وسقوط جدار برلين في سنة 1989م، واختفاء الاتحاد السوفيتي في ختام عام 1991م، أخذت دوائر تخطيط السياسة العالمية في طرح خرائط ونماذج مستقبلية لإعادة تشكيل العالم. وجاءت الاطروحات تلك من الدوائر الأمريكية بصورة لافتة، ويمكن تصنيف أصحابها إلى ثلاثة أصناف:
الأول، جماعة مارست العمل في السياسة الدولية، واشتركت في صنع أحداثها المصيرية، من هؤلاء هنري كسنجر (Henry. A.Kissinger) وزيبغنيو بريجنسكي (Zbigneo Brezgezinski).
الثاني، طائفة اشتهرت بعلمها الفكري التنظيري ، من هؤلاء فرانسيس فوكوياما (Froncis Fukuyama) وصوموئيل هنتينغتون (samuel Humtimgtom).
الثالث، فرقة كبيرة، جمع رجالها بين منهجي الصنفين السابقين أو تميزوا في احدهما ولم يشتهروا مثل أولئك، وعددهم كبير يجهله جل مثقفينا، ويعرف أهل التخصص في السياسة الدولية بعضهم، وقد يجهلوا أكثرهم لأن التخصصات الدقيقة في العلم الواحد جزأت المعرفة عندنا، وشيدت بين فروعها چدراً سميكة.
ومن الممكن تبين أربع خرائط ونماذج، وقد رصدها هنتينغتون ونقدها، وخلص إلى نموذج خامس ملأ الدنيا وشغل الناس. والنماذج الخمس هي:
1- يقول منظرو الأول بأن العالم متجه نحو تشكيل عالم واحد منسجم نسبيا، وذلك نتيجة لانتهاء الحرب الباردة، وحسم الصراع العالمي الكبير بانتصار الليبرالية الديمقراطية الغربية، ومن ثم وضعت حرب الأفكار أوزارها، وستعم اللبرالية العالم وتتخذ شكلا نهائيا للحكومة الإنسانية . ويمثل هذا النموذج فرانسيس فوكاياما في أطروحته "نهاية التاريخ وظهور الرجل الأخير"(5).
2- يرى أصحاب الثاني أن العالم منشطر إلى ثنائية تضادية، "مناطق سلام" (هي الغرب واليابان) و"مناطق اضطراب" (هي بقية العالم) أو إلى دول غنية واخرى فقيرة، عادة ما يرمز إليها بثنائية الشمال والجنوب. وخير من يمثل هذه الخريطة ماكس سنغر (Max Singer) وآرون فيلدافسكي (Aron Wildavsky). وهي صدى للثنائية التضادية القديمة، الشرق والغرب(6).
3- يذهب أهل الثالث إلى أن الدول هم اللاعبون الوحيدون في الشؤون العالمية، وأن العلاقة بينها علاقة فوضى وتصادم مصالح، وعليه فإن كل دولة تعمل لتضاعف قوتها أو تتحالف مع غيرها وفقاً لمصالحها. وهذا النموذج يعرف بـ"نموذج الدولة" أو بـ "النظرية الواقعية". ويبدو أن جون ميرشيمر (John Mearcheimer) أحسن من يعبر عنها(7).
4- ويتنبأ جماعة الرابع بأن العالم سيغرق في فوضى عارمة نتيجة لظهور "الدولة الواهنة" لأسباب متعددة، فتنهار السلطة المركزية للدولة، وتتفكك باتساع نطاق الصراعات القبلية والعرقية والدينية، ويتزايد اختراق حدودها. ويمثل هذا النموذج زبيغنيو برجينسكي ودانيل باتريك موينيهان(8). (Daniel Patrick Moynihan).
5- يمثل الخامس صمويل هنتينغتون الذي يرى أن الخرائط والنماذج السابقة متنافرة ومتناقضة فيما بينها، وفي كل منها شيء من الواقع، ولكنها تعجز عن استيعاب أكثر الواقع الذي جوهره صراع وصدام، ولهذا ليس يصلح من بينها ما يوضح ما هو أكثر أهمية مما هو أقل أهمية. وهذا هو الهدف لأي نموذج. فطفق يبحث فيها عن شيء لها جامع وعنها بديل، فوجد قوى الاندماج في العالم في النموذج الأول حقيقة غير أنها لن تثمر حضارة عالمية واحدة لأن اللغة والدين هما المكونان الرئيسان للحضارة (ص. 59) . فالإنجليزية إحدى لغات التواصل بين نخب الثقافات الآن وليست مصدرا للهوية،ـ وقد انخفضت نسبة المتكلمين بها من 8، 9% عام 1958تم إلى 6،7% عام 1990م. وحدث الشيء نفسه لمجمل اللغات الأوروبية من 1،24% إلى 8،20% في الفترة ذاتها (ص. 61) . والدين العالمي أقل احتمالا من اللغة (ص. 64).
إن تلك القوة الاندماجية ستولد قوة ثقافية مضادة، ومن ثم تفرز عالمين، عالم غربي واحد وكثرة من العوالم الغير غربية ، وتغدو الثنائية التضادية قوامها أسس ثقافية حضارية مختلفة ومتعددة لأن انهيار الماركسية في الاتحاد السوفيتي وتطويعها في الصين وفيتنام لم يجعلا غير الغربيين يهرعون إلى اتخاذ الديمقراطية الليبرالية الغربية نظاما (ص. 68، 53) ، ولم يمنع تزايد العلاقات المتداخلة بين الشعوب الصراع والحروب بين الأمم (ص. 67) ولم تنتج موجة التحديث العالمية تغريبا، وقد ميز الصينيون واليابانيون بين ثقافتهم، وبها تمسكوا، وبين التقانة الغربية، وإليها اكتسبوا، وعزا الشرق آسيويون نموهم الاقتصادي لتمسكهم بثقافتهم (ص. 66 ، 68، 74، 93).
من ثم فإن النموذج الثالث عنده أكثر واقعية من الاثنين الأولين. لأن الدولة القومية ستظل أهم اللاعبين في الشؤون الدولية، بيد أن مصالحها وصراعاتها وصداقتها وعداواتها ستشكل بدرجة متزايدة بعوامل ثقافية وحضارية ( ص. 125) ويربط بين هذا النموذج وبين النموذج الرابع، ويرى أن ما سينتاب العالم من فوضى أهم مظاهرها ماسيكون بين حضارات مختلفة، لأن الناس عنده لا تتمايز بالأيديولوجية أو المصالح الاقتصادية أو السياسية بل بالفروق الثقافية (ص. 21) والدين هو المكون الأساسي للحضارة. ولاحظ أن الحضارات الرئيسة في التاريخ الإنساني كانت دائما متوحدة ومتطابقة مع ديانات العالم الكبرى بدرجة كبيرة (ص. 42،66) ويستخدم مصطلحي الدين والثقافة بتطابق شديد (ص. 51).
والحضارات الحية التي يحل تصادمها مكان تسابق الدول العظمى ثمان حضارات p.45KSqq) ) ويميز بين السياسة المحلية والعالمية، فالأولى عرقية والأخيرة حضارية. وينتهي إلى أن وحدة غير الغربيين وثنائية الشرق والغرب ماهي إلا أساطير صنعها الغرب (ص. 33) وبناء على ذلك ذهب إلى أن إدارة صدام الحضارات سيعيد تشكيل العالم.
وإذا تأملت في تفاعل مجتمعاتنا مع هذه الخرائط الخمسة تجده ضعيفا أو يكاد أن يكون منعدما مع الخرائط الثانية والثالثة والرابعة، وعنيفا مع الخريطتين الأولى والخامسة لمناسبتهما لذهنيتنا، فاًلأولى مستفزة والثانية مستثيرة ثقافيا. بيد أن الأولى فقدت بريقها عندما بدأت العولمة تفرز نقيضها، ليس في العالم الغير صناعي وإنما في العالم الصناعي ذاته علاوة على أن الخريطة الخامسة في غاياتها النهائية ترمي إلى ما تبتغيه الخريطة الأولى ولكن بأسلوب مختلف سيرد بيانه. فما مدى تماسك هذا النموذج؟
النموذج:
لم يكن صمويل أول من قال بصراع الحضارات، فقد أشار إلى ذلك ليستر بيرسون (Lester Pearson) رجل الدولة الكندي في كتابه المنشور في عام 1956م "الديمقراطية في السياسة العالمية" وقال أن المجتمعات الشرقية التي ولدت حديثا لن تكون نسخة مما ألفه الغرب، وذهب إلى أن المشاكل في العلاقات الدولية لن تكون بعد الآن بين دول حضارة واحدة، كما كان الحال لعدة قرون بين دول أوربا، وإنما بين الحضارات المختلفة(9).
ثم غاب هذا الافتراض في أتون الحرب الباردة، وظهر بصورة مامع فرناند برديل في سنة 1980م(10).، ثم عاد وملأ أفق الدراسات المستبقبلية في مطلع العقد العاشر، وتناوله جماعات قبل صمويل أو تزامنوا معه، من أهمهم Johan Galtung و
William Lind و Zsolt Rostrovangi Michael Vlahos (11). بيد أن تلك الدراسات على كثرتها وتنوعها لم تحدث شيئا شبيها بالضجة التي أثارتها كتابات صمويل، وكان أكثرها ناقدا، وجاء من حضارات مختلفة في كل القارات، وذلك منذ أن ألقى هنتنغتون محاضرة عن "صراع الحضارات" في عام 1992م ، ونشرت في مقال صيف 1993م، وطورها في حلقات تدريسية في هارفارد في 1994 - 1995م، ثم نشرها أخيرا في كتاب في سنة 1996م، ولهذا جاءت هذه الوقفة معه دون غيره. فما عناصر الاستثارة فيه؟
عناصر نموذجه:
تقول خريطته أو نموذجه (Paradigm) إن الثقافة والهويات الثقافية، وهي هويات حضارية، ستشكل أنماط الوحدة والتجزئة والصراع في عالم مابعد الحرب الباردة (ص. 20) الذي أصبحت فيه الثقافة مجمعة ومفرقة في وقت واحد أو موترة. وضرب مثلا على الأولى بألمانيا، وعلىة الثانية بالاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا، وعلى الثالثة بأوكرانيا ونجيرا والسودان والهند. وذهب إلى أن المنظمات الدولية ذات الثقافة المشتركة أنجح من غيرها وشاهده على ذلك الاتحاد الأوروبي (ص. 28).
وقد توصل إلى هذه الخريطة بتأمل العلاقات بين الحضارات عبر التاريخ الانساني، حسب قوله. ووجد أنّ مدى تأثير الزمان والمكان في الفصل بينها يحدد نوع تلك العلاقات ومراحلها، فتبين أنها مرت بثلاث حقب تاريخية، الأولى قبل سنة 1500م، وهي مرحلة المواجهات (encounters) . وكانت فيها الاحتكاكات بين الحضارات "غير موجودة أو متقطعة أو متوترة مع بعض الاستثناءات". وأخذ انتقال الأفكار والتقانة من حضارة لأخرى في تلك الحقبة قرونا عديدة. ثم أعقبتها مرحلة ثانية ابتداء من القرن السادس عشر عندما برز الغرب وأثّر على كل الحضارات تأثيرا قويا ومستمرا وذا اتجاه واحد بسبب ما يسميه غيوفري باركر (Geoffrey Parker) "الثورة العسكرية" الناتجة عن "الثورة الصناعية"(12). واستمر ذلك لمدة أربعة قرون تميزت فيها علاقة الغرب بالآخرين بأنها علاقة سيطرة وتبعية. ثم مثّل بروز الماركسية فترة انتقال من نظام عالمي أوربي إلى نظام عالمي متعدد الحضارات، وذلك عندما انتهى توسع الغرب، وبدأ التمرد عليه، وخمد الصراع بين الدول الأوربية، وتوجه الغرب نحو العالمية (ص. 48 - 53).

واتسمت كل مرحلة من هذه المراحل - حسب رأيه - بنوع مختلف من الصراع؛ كان في الأولى بين الملوك والأباطرة ، وفي الثانية بين الشعوب جسدته صراعات الدول القومية داخل الحضارة الغربية. فهو نظام متعدد الأقطاب داخل الحضارة الواحدة. وأصبح ثنائيا مع صراع الأيديولوجيات الذي يمثل مرحلة انتقال من نظام عالمي أوربي متعدد الأقطاب في حضارة واحدة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب من حضارات مختلفة وهي المرحلة الثالثة في تاريخ العلاقات بين الحضارات (p.21,52053 .) ويرى أن هذا التحول الأخير حدث بسبب عاملين أساسيين، أولاً التحديث وثانياً إنحسار الغرب وتدهور تأثيره النسبي على غيره.
يفرق هنتنغتون بين التحديث والتغريب، فالأول ممكن وميسور للعالم كله، والأخر محصور وخاص بالغرب دون غيره لأنه نتاج لثمان خصائص يزعم أنها موجودة فيه قبل عملية التحديث، وبـإتلافها واتحادها ميزته عن غيره(ص. 69 - 72) ونتج عن عملية التحديث في المجتمعات غير الغربية قوة متنامية أدت إلى إحياء ثقافتها وإفشال جهود تحويلها من حضارة إلى أخرى. وأفرز ذلك ظاهرتين متلاحمتين؛ العودة إلى المحلية والصحوة الدينية (ص. 20 - 21 - 91-93 ).
وهذه الصحوة عالمية شاملة لكل حضارة وقارة ودولة، وهي في المسيحية والإسلام واليهودية والهندوسية والبوذية والأرثوذكسية، وما الأصولية إلا إحدى تياراتها. وهي تهدف إلى أنجلة ثانية لأوربا، وأسلمة الحداثة.. الخ(ص. 96) ونسبة لعالميتها فإن أسبابها عالمية كذلك، وأرجعها إلى مشكلات التحديث والهوية والهجرة من الريف إلى المدن. وخلص إلى أن الدين الموروث إذا لم يستجب لقضايا التوتر والاستلاب الناجمة عن هذه المشكلات يتحول أهله إلى غيره، مثل التحول من البوذية إلى الكاثوليكية في كوريا الجنوبية، ومن الكاثوليكية إلى البروتستانتية في أمريكا الجنوبية، وتنامى انتشار المسيحية في الصين في ال ثمانينات أيام نهضتها الاقتصادية (ص. 97،99) ولهذا يركن إلى مقولة ريجيه ديبراي ) Regis Debray إن الدين لم يعد أفيون الشعوب وإنما فيتامين الضعفاء(13). لأنه يقدم المعنى والاتجاه للنخب الصاعدة، ويعبر عن رفض المجتمعات غير الغربية للتغريب، ويرمز لاستقلالها الثقافي.
أما انحسار الغرب وتدهور تأثيره النسبي على غيره فقد تبينه على الرغم مايبدو من قوة الغرب الظاهرية المتمثلة في قدرته على اتخاذ القرارات السياسية (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) والاقتصادية (الولايات المتحدة وألمانيا واليابان) الحاسمة، وفي تأثيره القوي على كل الحضارات باستثناء اليابان. والوجه الآخر للغرب فيه اضمحلال واضح ولكنه بطيء ويسير في خط غير منتظم والمصادر المتاحة له تتناقض بصورة جلية. واستنتج كل ذلك من مقارنة حال الغرب عام 1920م وما سيكون عليه في عام 2020م . فالدراسات الاحصائية تشير إلى أن سيطرته على مساحة العالم ستتدهور من 49% إلى 24%، وعلى سكان العالم من 48% إلى 10% ، وعلى مجمل الانتاج الاقتصادي العالمي من 70% إلى 30% ، وعلى الانتاج الصناعي من 84% إلى 20% ، وعلى القوة البشرية العسكرية في العالم من 45% إلى 10% فهو لا يستغرب هذا التحول الهائل لأن الاستعمار الأوربي قد ولى، والهيمنة الأمريكية انحسرت، بينما تتصاعد مراكز قوة جديدة غير غربية بفضل عودته اإلى المحلية وصحوتها الثقافية (ص. 81، 84. 90).
ويخلص إلى أن صراع الحضارات سيكون السمة البارزة للنظام العالمي الجديد، ومع أن ظاهرتي العودة إلى المحلية وإحياء الدين عالميتان، إلا أن التحدي الأكبر للغرب سيأتي من حضارات أسيا، خاصة الصين، والإسلام ، لأنها "الحضارات الديناميكية في الربع الأخير من القرن العشرين"(ص. 102) الأولى بسبب نموها الاقتصادي والثانية، وهي الأعظم خطرا، بسبب انفجارها السكاني. ولهذا وقف مع هذه الحضارات، وخاصة الإسلام، وقفات طوال تمثل معظم كتابه، وجاءت الوقفة الأطول مع الإسلام.
لقد ظهرت حضارات آسيا في رأيه نتيجة لنموها الاقتصادي إذ حافظت النمور الأربعة والصين على معدل تنمية سنوية بين 8% إلى 10%. ولم تعد اليابان استثناء في آسيا. وأصبح الاقتصاد الأسيوي ناميا متطورا في الوقت الذي تواضع فيه اقتصاد أوربا وأمريكا. وبما أن الثروة مثل القوة برهان على التفوق الثقافي فقد حرص الشرق آسيويون على تأكيد ثقافتهم، وعلى ما يجمعهم ويميزهم عن الغرب. واعتبروا أنفسهم نموذجا يحتذيه غير الغربيين ليلحقوا بالغرب، ويحتذيه الغرب ليجدد نفسه (ص.103 - 104 ).
وعندما انهار الاتحاد السوفيتي ونجحت الرأسمالية في اليابان اختطت الصين منهجا يجمع الرأسمالية والسطة المطلقة السياسية والثقافة الصينية التقليدية، فانبثقت قومية صينية معيدة للكنفوشية اعتبارها ومتخذة لها مصدرا لنهضتها المتميزة عن الديمقراطية واللينينية. وأصبح شعارها "المعرفة الصينية من أجل المبادئ الأساسية والمعرفة الغربية من أجل الاستخدام العملي"، تماما مثل ما كان شعار اليابانيين "واكون يوشي" (Wakon Yasei) : "الروح اليابانية والتقنية الغربية للفائدة العملية". وسعى يابانيو الأحياء الثقافي في آخر القرن العشرين للتوجه نحو آسيا والابتعاد عن أمريكا، ومن ثم كان سعيهم لأسينة اليابان مع تأكيد ثقافتهم الخاصة (ص. 7 - 74- 93 -105).
ثم يُبرز خطر الإسلام على الغرب في محورين مختلفين عما أثاره عن خطر الحضارات الآسيوية وهما الانفجار السكاني والصحوة الإسلامية. ولاحظ أن العالم الإسلامي شهد نمواً سكانيا متصاعدا في الفترة بين عامي 1965م و 1990م، فبينما ارتفع سكان العالم فيها بزيادة سنوية نسبتها 85،1% ، فقد بلغت النسبة في المجتمعات الإسلامية 2%، وأحياناً 5،2%، وربما تزيد أحيانا عن 3% (ص. 117 - 118). وأشار إلى ثلاثة أخطار على الغرب من هذا لنمو السكاني.
1- أوضح أن الزيادة ستكون أساساً في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين بين الشباب الذين بين 13 و 20 سنة، ومعظمهم من سكان المدن. وربط بين حجم السكان و"التعبئة الاجتماعية"، لأن أولئك الشباب من "عراة المدن الكبرى"، وهم وقود الحركات الإسلامية التي استقطبت جندها من فئات الطلاب والمثقفين والنساء والمهاجرين من الريف إلى المدن. وأعطى إحصاءات كافية، ووجد شاهدين من إيران السبعينيات وجزائر التسعينيات (pp.112-3K148) ولا غرو أن يذهب إلى أن هاتين الظاهرتين ستقدمان جنوداً "للأصولية والإرهاب والتمرد والهجرة" في مناخ الصحوة الإسلامية (ص. 3- 103).
2- بين أن النمو السكاني عاملا مساعداً في الصراعات على طول حدود العالم الإسلامي مع الشعوب الأخرى (ص. 119) حتى أن حروب الانتقال ستتحول إلى حروب خطوط التماس الحضاري (ص. 46). ونسبة لأهمية هذا الأمر فقد أوقف عليه فصلين كاملين (العاشر والثاني عشر).
3- قال إن ركودا اقتصاديا سيصاحب النمو السكاني، فيؤدي كل ذلك إلى هجرة المسلمين إلى المجتمعات الغربية وأخرى غير إسلامية. وستشكل هذه الهجرة معضلة كبرى للمجتمعات المستقبلة لها من حيث التكيف الاقتصادي أو السياسي أو الأمرين معا.. ولهذا تجده يخصص فصلا كاملاً للموضوع. ويشير إلى أن المشكلة في الولايات المتحدة تنبع من الهجرة المكسيكية التي ستغير تركيبة المجتمع الأمريكي جذريا، بينما مشكلة أوربا مع الهجرة الإسلامية التي ستؤدي إلى ردات فعل متطرفة في المجتمعات الأوربية (ص.6 - 205).

أما الصحوة الإسلامية فهو يرى أنها جزء من الصحوة الدينية العالمية التي هي نتاج للتحديث وتسعى للإمساك به والإسهام فيه(ص. 112، 116) فالصحوة الإسلامية تقبل الحداثة وترفض الثقافة الغربية. وهي "تيار عام وليست تطرفا، ومتغلغلة وليست منعزلة". والمتطرف فيها يشبه الماركسية، فلكل منهما نص مكتوب يرشدها ، ومثل أعلى لمجتمع مثالي تنشده، والالتزام بالتغيير الجذري وسيلة، ورفض للدولة القومية. ومن وجه آخر تشبه حركة الإصلاح البروتستانتي من حيث رفض المؤسسات القائمة لتحجرها وفسادها، ومن حيث الدعوة للدين النقي الصافي الموجه، ومن حيث التوجه العملي المنظم المنضبط، ومن حيث استهواء أپناء الطبقة الوسطى النامية النشطة.
ثم يوضح أن هذه الحركات الأصولية (الإسلامي السياسي) نجحت في إنشاء مؤسسات أهلية إسلامية تقوم بما يتفرض أن توفره مؤسسات الدولة المتحجرة الفاسدة المعزولة والآيلة إلى السقوط حتى ولو استمرت طويلا. وهذا النشاط هو مصدر قوة تلك الحركات جاعلا لها بديلا للدولة المهترئة (ص. 11، 98 ، 115) لاسيما وأنها لقيت تمويلا من الطفرة النفطية من أنظمة ذات توجهات متصادمة، مثل السعودية وإيران وليبيا(ص. 116).
ومما يجعل الإسلام - في رأيه - خطرا عظيما على الغرب أ، الحركات الديمقراطية الليبرالية تكسب قوة وتصل إلى السلطة في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية وأطراف شرق آسيا ووسط أوربا وتفشل في المجتمعات الإسلامية فشلا ذريعا بسبب طبيعة الثقافة الإسلامية والمجتمع الإسلامي الرافضة لمفاهيم الغرب الليبرالية مما يضعها في تصادم مع الغرب(ص. 114).
ومما يضاعف الخطر الإسلامي في رأيه أن السياسة العالمية الناشئة تحل فيها "دول المركز" أي "دولة القيادة" (ص. 20) في الحضارات الرئيسة محل القوى الكبرى. وهو أمر واضح في الحضارات الغربية والأرثوذكسية والصينية، ولا وجود له في الإسلام الذي يفتقر إلى دولة مركز، ولكن فيه وعي إسلامي مشترك متسع دون أن يفرز تماسكا سياسيا مركزيا (ص. 155) ، ذلك لأن بنية الولاء السياسي في الفكر الإسلامي ترفض الدولة القومية التي تناقض مفهوم الأمة القائم على الثقافة والدين والإمبراطورية(ص. 174 - 177) ، ولهذا وجد في الإسلام الآن مراكز قوى متعددة متنافسة، وكلها غير مؤهلة، وليس من المنظور أن تصبح واحدة منها "دولة مركز". وغياب مثل هذه الدولة يضعف الإسلام، داخليا ويهدد الحضارات الأخرى خارجيا (ص.177- 179).
من هنا فهو يذهب إلى القول بأن مشكلة الغرب مع الإسلام كله، معتدله ومتطرفه، ويلقي باللائمة على بعض الغربيين، بما فيهم بل كلنتون، الذين يرون أن المسألة محصورة في العناصر المتطرفة، ويؤكد وجهة نظره بأن العلاقات بين "المسيحية" والإسلام كانت عاصفة غالبا على مدى أربعة عشر قرنا. فالصراع فيها هو القاعدة، وما الصراع بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية إلا "ظاهرة تاريخية عارضة وزائلة مقارنة بعلاقات الصراع المستمرة والعميقة بين الإسلام والمسيحية"(ص. 209) . فلا عجب أن نبه على خطورة الصحوة الإسلامية عامة، ووضعها في مصاف الثورات العالمية الكبرى مثل الإصلاح الديني والفرنسية والروسية مؤكدا ذلك بكتابة أول حرف في كل كلمة إنجليزية بحرف كبير (The Islamic Resurgencep.109) .
ومع كل هذا يختتم نموذجه بأن تجنب حرب حضارات عالمية ممكن ولكنه.. يتوقف على قبول العالم بالشخصية متعددة الحضارات للسياسة الدولية وتعاونها للحفاظ عليها. فإلى أي مدى يتماسك النموذج الذي يطرحه!؟
مظاهر تهافت نموذجه:

إن هذا النموذج يبدو وكأنه متماسك، بيد أن النظر في قضاياه المنهجية يكشف تهافته الشديد. وهذا يتضح من نظرات، ولو عجلى، في المصطلحات ودقتها، والمفاهيم وتناسقها، والمنظور وسلامته.
المصطلحات وعدم دقتها:
يلاحظ أنه يستخدم المصطلحات بشيء من الحرية وعدم الضبط مع أنه يعي في ممهدات كتابه أهمية توضيح المصطلحات ودلالاتها في نقل المفاهيم إلى المتلقي، ولكنه لا يعير ذلك اهتماما في استخدامه لمصطلحات رئيسة في أطروحته. لقد بدأ في مقالة سنة 1993م مستخدما مصطلح "صراع" (Conflict) وتخطاه إلى تصادم/ صدام (Clash) في كتابه. فالأول يشيء إلى اختلاف مصالح يمكن تسويته والثاني يدل على عراك يصعب تجنبه، إلا أنه طوال الكتاب يستخدم المصطلحين وكأنهما شيء واحد.
وكذلك استعماله لمصطلحات "الثقافة" (Culture) والحضارة (Civilization) والمجتمع (Society) والدين (مثل المسيحية، الإسلام.. الخ) والشعب في شيء من الترادف الغريب مع أنه في مفتتح كتابه مايز بين المصطلحات، واختار مصطلح "الحضارة" لأنه شامل للجانبين، القيمي والمادي (p.40:Sqq) وحاولت توثيق هذه الظاهرة المربكة فجاءت عدد الإشارات تفوق عدد صفحات الكتاب كله.
المفاهيم واختلافها
بما أن نموذجه يقوم على تعريفه لماهية "الحضارة"، وأن الحضارات تتمايز بمحتواها الثقافي، والدين هو المكون الرئيس لها (ص.47) ، فقد صنف الحضارات المعاصرة إلى سبع أو ربما ثمان (ص.21) ولكنه في خريطته رقم 1:3 يذكر تسعاً (ص. 26 - 27)، وأخيراً اعتمد ثمان (ص. 45 - 47) . وهذا التناقض الذي ظهر هنا سيصاحبه في كثير من التصنيفات التي يعتمدها، والآراء التي يبديها والأحكام التي يصدرها عن الحضارات المعاصرة، وهي وفقا لتصنيفه، الصينية (Sinic) واليابانية والهندية والإسلامية والأرثوذكسية والغربية واللاتينية الأمريكية والإفريقية (والأخيرة احتمال في ظنه). وإذا ألقيت نظرة عابرة على هذا التصنيف تجد أن الدين بـإطلاق ليس المكون الرئيس إلا مع الإسلام، فهو على تعدد مذاهبه العقائدية يشكل عنده حضارة واحدة، غير أنّ المسيحية في خريطته متعددة الحضارات بتعدد مذاهبها، واختلاف أعراق أهلها، وتباعد أراضيها أو أحد هذا أو بعضه أو كله. فالأرثوذكسية حضارة قائمة بذاتها في أوربا الشرقية، والكاثوليكية والبروتستانتية قوام حضارة واحدة مع مافيها من ثنائية مذهبية ومع اختلاف الجغرافية وتباعد الأراضي (ص.46 - 70). فكيف يكون المذهب عامل وحدة حضارية مرة، وفي أخرى يصبح عامل تمايز حضاري!؟. والغريب أنه لاحظ أن صراعات ذينك المذهبين الغربيين أفضت إلى سلسلة من الحروب الطويلة الدامية، وأن أهل المذهبين حاربوا أبناء مذهبهم في الحربين الكونيتين الأخريتين. فألمانيا البروتستانتية حرب على رصيفتها الأنجلوساكسونية، وإيطاليا الكاثوليكية عدو لفرنسا أختها في المذهبية. وتجاوز هذه الظاهرة، ولم تعدل في أحكامه شيئا مع أهميتها بالنسبة لنموذجه، ويبدو أنه شاح بوجهه عنها لأنها تنقض نموذجه أو تعدله.
وتجمع الحضارة الغربية عنده أوربا الغربية وأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا وينعتها باليورأمريكية أو الشمال أطلسية (ص. 47) ، بينما يخرج منها أمريكا الجنوبية، مع أنها كاثوليكية بصورة غالبة، وكوريا الجنوبية والفيليبين، وهكذا يكون الدين مفرقا تارة، ومجمعا جزئيا تارة أخرى، وليس بذي اعتبار تارة ثالثة وفيها تغدو الجغرافية أهم من الدين.
إن الجغرافية تفرض نفسها على تصنيفه، دون اعتراف بها، في ثلاث حضارات، هي الأمريكية اللاتينية والإفريقية والشرق أسيوية التي تصبح عنده أسيوية في حالات كثيرة. فحضارته الأمريكية اللاتينية حضارة منفردة، وقائمة بذاتها، ومنفصلة عن الغربية مع أن دينهما واحد، ولكن تفصلهما الجغرافية تماما مثل أمريكا الشمالية، ولكن هذه داخلة في الحضارة الغربية وتلك ممنوع عنها ذلك، حتى أّنّه يرى أن استيعاب المكسيك في منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية يعتمد وبدرجة كبيرة على قدرة المكسيك في منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية يعتمد وبدرجة كبيرة على قدرة المكسيك في إعادة تعريف نفسها ثقافيا أمريكية شمالية لا أمريكية جنوبية(ص. 127).
والجغرافية بينه واضحة في الحضارة الإفريقية "المحتملة" لأنها تضم مناطق إفريقيا جنوب الصحراء، وهي متعددة الأعراق ومختلفة الأديان (ص. 47) وأحيانا تضيق الجغرافية ويتحدث عن حضارة حبشية (ص.51).
أما المعضلة الرئيسة في تصنيفه فتتمثل فيما يدعوه بالحضارة الشرق أسيوية أحيانا، ويوسع إطارها ويجعلها أسيوية بـإطلاق أحيانا أخرى. ويشعرك بحيرته بين الجغرافية والدين في كثير من محاجاته ومجادلاته عنها. يقول بأن شرق أسيا يضم ست حضارات مختلفة (ص. 127) وفي موضع آخر يحصر حضارات الشرق كله في أربع، هي الصينية واليابانية والبوذية والإسلامية، وفي الموضع ذاته تصبح هذه الحضارات اثنتين فقط، "أسيوية" وإسلامية " (ص. 102) وهكذا تختلط فيها الجغرافية بالدين باستثناء الإسلام.
وتجده في مواضع أخرى يتخلى عن الدين كمحدد للحضارة، فبعد أن أطلق على الحضارة الصينية في مقاله سنة 1993م سمة دينية هي الكنفوشية يعود في كتابه سنة 1996م لاستبدال ذلك بشيء عرقي جغرافي، فيدعوها بالصينية، مبررا ذلك بأن هذه الصفة أكثر دقة لأنها أكبر من دينها المكون للحضارتها، كما أنها تتجاوز الكيان السياسي الضيق(ص. 45). ولا عجب بعد هذا أن يهمل تصنيفه الحضاري جملة ويتخذ آخر جغرافيا، فيحدثك عن اقتصاد آسيوي أو أوروبي أو أمريكي (ص. 103).
ويضطرب في أمر ماليزيا وأندونيسيا، فهما ضمن حضارة شرق آسيا، ويصف ثقافة إندونيسيا بأنها خليط من مؤثرات محلية وإسلامية وهندوسية وصينية ومسيحية(ص. 177) . ولكنه في مواضع أخرى يمايز بينهما وبين بقية آسيا دينيا، ويرى أنه إذا استمر تقدمهما الاقتصادي قد يقدما نموذجا اسلاميا ينافس النموذجين الغربي والآسيوي (ص. 121). ويذهب في هذا الاتجاه إلى مدى أبعد عندما يتنبأ بأن العلاقات في آسيا بين المسلمين من جهة والصينيين والمسيحيين من جهة ستكون متوترة وعنيفة أحيانا (ص. 127) وهنا لك أن تسأل أين الدين المكون للحضارة الشرق أسيوية أو الأسيوية!؟ ولا تثريب عليه في ذلك لأن بعض قادة أهل هذه "الحضارة" مضطربون في ذلك اعظم إضطراب. فها هو مهاتير (Mahathir) يخاطب المؤتمر الاقتصادي لشرق آسيا معتبرا له "جماعة ثقافية وليست جغرافية" ، ولكنه عندما خاطب اليابانيين لينضموا له جعله "حقيقة ثقافية جغرافية"(ص. 132 - 133) ، وفي حالة أخرى يحدثك مهاتير نفسه عن قيم شرق آسيا ويقول بأنها قيم "اسيوية" بل عالمية مقارنا لها بالأوربية التي هي أوربية فحسب (ص. 109).
وتستطيع أن تلمح في تصنيفاته واستخداماته للمصطلحات ودلالاتها مايشي أحيانا إلى شيء من العرقية أو اللغوية أو الأمرين معا. وهذا واضح في إشاراته إلى حضارة "حبشية" أو أمريكية لاتينية أو صينية. ويتنبأ بأن الصينيات الصغرى الثلاث، تايوان وهونغ كونغ وسينغافورا، والجاليات الصنيية في جنوب شرق اسيا ستصبح، بصورة متزايدة، متداخلة ومعتمدة على أرض الصين الرئيسة (ص. 127).
إن هذه الملحوظات لا تعني أن الثقافة/ الحضارة قد لا تكون مجمعة أو مفرقة فهناك حالات على ذلك دالة، وهناك حالات أخرى على الضد مبينة، ولكن هنتنغتون يختار من الأمثلة ما يعضد حجته ويقوي أطروحته، ويهمل مايخالفها أو يضعفها أو ينقضها. وهذا واضح في تقليله من شأن البوذية وتغافله عن اليهودية وفشلهما في تأسيس حضارة مستقلة (ص. 47 - 48) . وفي مثال آخر يجعل التجمعات الإقليمية ذات الثقافة المشتركة يتصاعد نجاحها، ويتنامى عطاؤها، ويضرب المثل بالاتحاد الأوربي(ص.28 - 127) . ولكنه يغفل عن فشل جامعة الدول العربية وهي متجانسة دينيا ولغويا وعرقيا، ولا يتذكر محدودية إنجازات منظمة المؤتمر الإسلامي ودولها متجانسة دينيا. وفي غمرة انشغاله بالثقافة أو الحضارة الموحدة ينسى أن دول شرق آسيا (ASEANN) نجحت وهي متعددة الديانات أي مختلفة الحضارات إذا أخذنا بتعريفه للحضارة، وهو يريد إجبارك على التسليم بأنها حضارة واحدة.
ومن المفاهيم الرئيسة في نموذجه التي يتجلى فيها إضطراب أفكاره وتناقضها وتحيزها الثقافي مفهوما "دولة المركز" و"دولة الصدع"، وكلاهما يحتل مكانا مركزيا في خريطته. لعلك قد لاحظت أن من أهم مقولاته أن الأقطار ذات الثقافة المتشابهة تتقارب وتتحالف وتتوحد. وقوة دولة المركز تجذب المشابهين لها ثقافيا وتطرد المخالفين لها. والعجيب أنه يذكر حالات تناقض هذا المفهوم تناقضا كبيرا ولا يعدله أو على الأقل يقيده ولا يعممه. من هذا صراع جورجيا وروسيا وهما كاثوليكيتان وفيتنام والصين وهما كونفوشيتان (ص. 155).
والأكثر إثارة للاستغراب أنك إذا تأملت الحضارات المعتمدة في نموذجه لا تجد "دولة المركز" إلا مع الأرثوذكسية والصينية واليابانية، فأين هي في الحضارات الخمس الأخرى!! والأعجب أنّه يعتبر غيابها في الإسلامية عامل ضعف داخلي ومسبب خطر خارجي في الوقت الذي يشكل غيابها ضعفا في حضارات أخرى. لقد غدت الغربية قوية بالتحديث، وطامحة للهيمنة والتغريب. وأصبحت الشرق آسيوية ناجحة اقتصاديا نجاحا أُفضى إلى قوتها ثقافيا وحضاريا(ص. 104 - 133) وفيهما دولة المركز غائبة كما في الإسلامية.
ويزيد تناقضه ويزيدك حيرة عندما تجده يحور عمليا مفهوم "دولة المركز" من مفهوم الوحدة السياسية إلى مفهوم جغرافي في الحضارة الغربية التي يعتبرها قد مرت بمرحلتين الأولى أوربية والثانية أمريكية. وهنا لك أن تسأل كيف أصبحت أوربا متعددة الأقطاب تقوم مقام دولة المركز؟ وكيف تصبح الولايات المتحدة بديلة لها وهي في الوقت نفسه "دولة صدع" (Cleft country) أي أنها تعاني من التفتت الداخلي ويخشى عليها من الانقسام (ص. 204). فكيف تكون مثل هذه الدولة جاذبة لغيرها وموحدة له وهي تفتقر لمقومات الوحدة؟ ولقد صعق هو ذاته بهول هذه المفارقة بعيد نشر كتابه عندما كتب مقالا في اكتوبر 1997م في مجلة الشؤون الخارجية عن تآكل المصالح الأمريكية، وفيه وضّح الآثار السيئة للتعددية الثقافية في أمريكا، ولم يجد طريقا للمحافظة على الوحدة القائمة إلا إذا قامت على أيديولوجية سياسية مما يلمح لتخليه غير المعلن عن نموذجه الذي ظل عنه ينافح .
ويصور مفهوم دولة الصدع تناقضات مرتكزات مفاهيمه أبلغ تصوير. يعرف هذه الدولة بأنها البلد الذي به جماعات كبيرة من البشر ينتمون إلى حضارات مختلفة، وبما أن ما يهم الناس - حسب رأيه - الدم والعقيدة (أي السلف والدين واللغة)، فإن مثل هذا البلد في مرحلة تصادم الحضارات يؤول إلى التصدع. وضرب مثلين هما أو كرانيا والولايات المتحدة ، والعامل الرئيس في الأولى اختلاف الدين، وهي متصدعة لا محال (p.166Sqq) ، وفي الثانية العرق والثقافة بسبب تصاعد نسبة السكان ذوي الأصول الإسبانية والسود وتدني نسبة البيض (الغربيين)، ولكنه تصدع يمكن تدار كه (p.204 Sqq) ثم عاد وأذهله وصدمه ذلك لاحقا ، وقد سبقت الإشارة إليه.
وأيضا هنا تلمح تناقضا وتحيزا. فالمناطق التي يسميها "دول صدع" في مناطق تماس الحضارة الغربية بغيرها يدعوه عند غيرها "حروب خطوط التماس الحضاري (Fault line Wars) مما يشي إلى إمكانية عدم التصادم في الأولى وحتميته في الثانية. ويزول استغرابك حين تعلم أنه يحصر الثانية في الإسلام وحده وكأن بقية الحضارات خلو من خطوط التماس!! ويتصل بهذا النوع من التحيز قضايا المنظور، فلو استقام سلمت الأطروحة وإلا زاد تهافتها وتهاوت.
المنظور وقضاياه:
لقد حشد في كتابه كما هائلا من المعلومات، وعززها بالإحصاءات المستفيضة والاستفادة من دراسات كثيرة. ولكن من الواضح أن أسس مخططه ما تغيرت ولا تحورت ولا تبدلت، بل أفرغ جهده لجمع كل ما يؤيد نموذجه، وما خالفه إما أغفله أو تأوله ليتناسب مع نموذجه مع وضوح اختلافه عنه.
من النوع الأول ما أورده في كتابه مستفيضا ولم يعطه عناية أول مرة، أو طوره بعدما جاء ذكره عابرا من قبل . لقد جاء بمعلومات كثيرة في قضايا النمو السكاني وأثره على الاستقرار وتوازن القوى دعما لمقولته بأن الإسلام هو الخطر الأعظم على الحضارة الغربية. وتوسع في مقولته بأن "صدام الحضارات هو الخطر الأكبر المهدد للسلام العالمي"، وطور استثناء أدخله عليه حين قال بأن "نظاما عالمياً يقوم على الحضارات هو الضمان الأكيد ضد حرب عالمية. لقد نص في مقدمة كتابه أن هاتين المقولتين خلا منهما المقال واستفاض فيهما في الكتاب. ولئن جاءت الثانية في المقال في شكل سؤال فقد تضمنها الآن عنوان الكتاب (ص. 13).
أما النوع الثاني فحسبك تأويله لقوى كيسنجر (H.Kissinger) الرئيسة الست التي ستتسيد السياسة العالمية في القرن الحادي العشرين(14). وهي دول، تصبح عند هنتنغتون خمس حضارات رئيسة (ص. 28 - 29) أو تحويره لمقولة ادورد مورتيمر (E.Mortimer) عن التزايد الكبير المحتمل لدور الدين في الشؤون الدولية(15) التي تصبح عنده تصادم الحضارات ذاته (ص. 54) . وانظر أيضا استشهاده بساكاكيبارا (Eisuke Sakakibara) الذي يقول بتنافس الحضارات لا تصادمها(16)، فيورد منه ما يوافق نموذجه، ويشيح بوجه عن أطروحته الرئيسة التي تميزه (ص. 95) إن كل هذا يدل على أن المنظور أثر تأثيرا عظيما على نموذجه، وفيه تحيز عظيم قاد إلى نتائج وخيمة هي إفراز منهجه في تكامله.
ولعل من أهم قضايا المنظور التي كان لها أثر سلبي هي اعتماده وتفسير الظاهرة التاريخية أو الاجتماعية تفسيرا أحادياً متمحورا حول عامل أو متغير واحد. وقد بعدت الدراسات التاريخية والاجتماعية الحديثة والمعاصرة عن هذا النهج بعدا متعاظماً، ودرست مسائلها في ضوء العوامل المتعددة المتشابكة المعقدة، دون إهمال لاحتمال أن يكون لأحد العوامل دور أكبر وتأثير أعظم في زمن ما ومكان ما وحدث بذاته. ولم يعد يحكم تلك الدراسات التبسيط الهيغلي العقلي ولا الماركسي الاقتصادي.. مع أن مثل هذا التفسير سهل ومحبب للنفوس لا سيما عند أصحاب الغايات الذين يريدون أن يبرروا آراءهم أو توجهاتهم أو سياساتهم. تماما كمحاولة وصف مناخ الحضارة الذي نعيشه اليوم بمتغير واحد وتسميته بالثورة الثالثة أو العصر الإلكتروني أو المعلوماتي.. الخ . فقيام دراسة مستقبلية على هذا المنهج، كالذي فعله هنتنغتون أمر جذاب لأنه يمس عالم اللاشعور مسا شديدا باعتماده على متغير الثقافة أو الحضارة أو الدين في ترادف مطرد، فأصبح صدام الحضارات أو حوارها "موضة" أتخمت سوق الثقافة أو كما يسميها صلاح قنصوه في مقدمته لترجمة الكتاب "آخر صيحة"(17).
وهناك عدة تساؤلات مهمة تضعّف أو تدحض الأطورحة القائمة على متغير أو عامل واحد هو "الثقافة". ومن الطبيعي أن نتساءل ألم يغلف اختلاف الثقافات الحروب والصراعات في التاريخ الإنساني كله؛ ولم يكن عصرنا بدعة في ذلك؟ وهل يعني هذا أن دوافع تلك الحروب والصراعات وبواعثها كانت ثقافية فقط أم أنها كانت متعددة ومتباينة الأسباب واستثمر الخطاب السياسي فيها الثقافات المختلفة؟ ثم ألم تكن الفروق الدينية والعرقية واللغوية فاعلة في حروب وصراعات الحضارة الواحدة كما فعلت بين الحضارات؟ إن مثل هذه التساؤلات تدعو الدارس للنظر في المتغيرات في صيرورتها لا ديمومتها.. خاصة وأنّ النموذج المطروح يجعل الخطر على حضارة واحدة، هي الغربية، وآت من اثنين هما الأسيوية، خاصة الصينية، والإسلامية والأخيرة أشد خطرا. فأين تصادم الحضارات بينما التصادم بين ثلاث فقط من ثمان؟
إن غياب مثل هذه النظرة الشاملة والتمسك بتفسير أحادي قائم على الثقافة وحدها أوقعاه في تناقضات شديدة، فحاول أن يفصل فصلا قصريا بين الظواهر المتداخلة. وعلى ذلك أمثلة عديدة، وحسبك ثلاثة منها:
الأول تمييزه بين الصراعات المحلية والعالمية، معتبرا الأولى إثنية والثانية حضارية(ص. 28) . وهنا يحق لك أن تسأل أين ذهبت "دولة الصدع" و "دولة المركز" و"حروب خطوط التماس الحضاري" وقوام كل ثقافي في أساسه وفقا لنموذجه.
والمثل الآخر من تناقضه في العلاقة السببية بين الوعي الثقافي والقوة الحضارية من جهة والنمو الاقتصادي من جهة أخرى، فأيهما السبب وأيهما النتيجة. إن هنتنغتون مضطرب ومتناقض في هذا بصورة لا تخفى على من يطالع عمله. فأحيانا تلقاه يجعل الأولى سببا والأخرى نتيجة وفي أحيانا أخرى يعكس ذلك تمام. انظر ما يقوله عن النمو الاقتصادي الأسيوي وارتباطه بالروح الآسيوية (ص. 29 - 104) أو رأيه في تقدم دول الاتحاد السوفيتي السابق ذات المكون الثقافي الغربي اقتصاديا وليبراليا وعدم تأكيد ذلك في المناطق الأرثوذكسية وقلة احتماله أو غموضه في الإسلامية(ص.29).
والمثل الثالث فصله القاطع بين التحديث والتغريب. فإذا كان هذا ممكنا فلماذا ساد التطرف في العالم الثالث عصرنا الحاضر كله نتيجة للعجز عن اللحاق بركب التحديث دون تغريب أو هيمنة سياسية أو اقتصادية غربية. ويتوشح ذلك التطرف في كل فترة ثوبا مختلفا، فإذا كان التطرف الآن إسلاميا، فقد كان بالأمس أيديولوجيا، ومن قبل ذلك قوميا أو وطنيا.
والغريب أيضا أنه كثيرا ما أشار إلى ما ينقض نموذجه ويوضح أن أسباب الصراع ترجع إلى تضارب المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدول. وكعادته إما مرَّ على مثل هذه الشواهد مرورا عابرا أو همشها أو تأولها. من هذه اشاراته إلى المصالح الاقتصادية التي دفعت استراليا لإعادة تعريف نفسها "أسيويا" بالانضمام إلى آسيان (Asean) . وهنا يركز على رفض الشرق أسيويين لها بعلة ثقافية معتبرين إياها أوربية الثقافة حسب عبارة مهاتير. وشبيه بذلك ما يورده عن حال تركيا مع الاتحاد الأوربي فيبرز الاختلاف الثقافي الحضاري الذي تذرع به الأوربيون وهمش البواعث الاقتصادية التركية (انظر 151 - 152- 153) . وما كان له أن يتغافل عن هذه المصالح الاقتصادية التي دفعت استراليا للانعتاق عن الغرب وسعي للحاق بركب شرق آسيا الناهضة اقتصاديا لأنه أشار إلى أن استراليا لن تكون حالة شاذة واحدة وإنما ستلحق بها دول آخر حاثة السير لتركب سفن الحضارات غير الغربية الصاعدة (ص. 163).
ويبدو أنه يشعر أحيانا بأهمية المصالح المختلفة المتعددة في علاقات الدول، وأن ذلك لا يمكن تبسيطه في مسألة حضارية ثقافية لا غير. وهذا الشعور واضح في محاولاته لتلطيف أو تخفيف مقولاته الثقافية عن السياسة الكونية للحضارات (الفصل التاسع) وعن دول المركز في الحضارات (الفصل التاسع).
يقول عن الحالة الأولى: "قد تقيم الدول والجماعات التي تنتمي إلى حضارتين مختلفتين علاقات وتحلفات تكتيكية محدودة، لاسيما لتنمية مصالحها ضد كيانات تنتمي إلى حضارة ثالثة أو من أجل أهداف مشتركة أخرى. على أن العلاقات بين الجماعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة غالبا لن تكون وثيقة، بل عادة ماتكون باردة وعدائية في معظم الأحوال "(ص. 207) السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة أين التصادم في المصالح بين دول الحضارة الواحدة، وهي ظاهرة شاملة للتاريخ الإنساني كله، وضحاياه في التاريخ المعاصر أكثر من ضحايا تصادم الحضارة..
وعلاوة على هذا فهو يقر بأن صراعات دول المركز بين الدول الرئيسة في الحضارات المختلفة ظاهرة تاريخية. ودون أن يتوقف عند جذورها، التي تختلف عن مقولته ، يركز على مايظن أنه يقوي حجته فيردف قائلا"ولكن الصراع يكون حادا عندما تكون الدول المتصارعة من حضارات مختلفة"(ص. 208) . بيد أن في هذا القول نفسه اعتراف ضمني بأن الاختلاف الحضاري عامل مساعد في الصراعات وليس باعثا عليها!! ويظهر هذا الانطباع جليا واضحا في تناوله في الفصل السابع سعي دول المركز لدمج شعوب من حضارات أخرى لدوافع أمنية فيما يزعم، ويعطى مثلا من الصين في التبت والأويغر، ومن روسيا في التتار والشيشان وأسيا الوسطى (ص. 155).

إن هذا كله يدل دلالة واضحة على أن الصراع هو صراع دول لها مصالحها المتضاربة، ويشتد التضارب عندما تصبح إحدى دول حضارة ما أو حضارات ما دولة أو دولاً كبرى، تماما مثل تلك "الدول الشاملة" التي قال بها توينبي أو "الإمبراطورية الكونية" في مصطلح كويغلي. ومن هنا فإن الدول تتصارع ولكن الحضارات تتنافس ولكنها قد تستغل في صراعات الدول. والحالة هذه ينبغي تثمين مقولة ساكاكيبارا، لأنها تعبر عن حقائق الواقع المعاش أكثر من أطروحة هنتنغتون إذا يقول أن فترة التقدمية المتوشحة الأيديولوجيات قد انتهت، وبدأت فترة الحضارات المتعددة المختلفة والتي ستتفاعل وتتنافس وتتعايش وتطيق بعضها بعضا(18). وعلى الرغم من تفاؤله المفرط فإن قوله هذا يؤكد أن الحضارات تتنافس ولا تتصادم، والدول هي التي تتصارع. وإذا كان هذا الرأي مقبولا فلماذا الإصرار والإلحاح على تصادم الحضارات بعد الحرب الباردة في هذا النموذج المطروح؟!
تقتضي الإجابة على هذا السؤال التنبيه إلى المنظور الذي ينطلق منه صاحب النموذج، وهو منظور غربي خالص على الرغم من نقده لهذا المنظور في مفتتح كتابه مستشهدا بآراء شبنغلر وتوينبي وبرودل، فقد غرق فيما انتقضه عند الآخرين وزعم أنه سيتجنبه. وتجلى ذلك في صورتين ذواتي دلالة واحدة هامة:
أولاً، حدد مراحل الصراع في ثلاث؛ الأولى الملوك ضد الأباطرة ، الثانية صراعات الشعوب متمثلة في الدول القومية، والثالث الصدام/ التصادم بين الحضارات بعد فترة انتقال كان الصراع بين الأيديولوجيات. وهذه هيكلة تقوم على قراءة للتاريخ الأوربي وحده، وليست منبثقة عن التاريخ العالمي. وهكذا انتهى صاحب النموذج إلى ما أخذه على الآخرين من تمحور في الذات.
ثانيا، على الرغم من محاولاته لتلطيف حدة نتائج النموذج الذي طرحه أول مرة في مقالة 1993م بالحديث عن إمكانية التعايش، إلا أن أراءه تفضي إلى نتيجة واحدة يمكن تلخيصها في أنّ الحضارة الغربية هي المثل الإنساني الأعلى الذي إليه يُهرع وسيُهرع، ويجب أن يحمى. وهو في هذا لا يختلف عن فرانسيس فوكوياما في الغاية وإنما في الوسائل لآن فرانسيس اعتبر انتهاء الحرب الباردة انتصارا للحضارة الغربية وفتح الطريق لتعم العالم كله. ولكن هنتنغتون يرى أن الانتصار لم يحدث بعد، ومازال طريقه محفوف بالمخاطر ومحكوم بالمكاره.
يشهد على وحدة الغاية عند الاثنين قول الأخير بأنه في نهاية القرن العشرين تحول الغرب من مرحلة دولة الحرب إلى مرحلة الدولة العالمية، وإذا كانت الدول العالمية في الحضارات السابقة امبراطوريات، فإن الدولة العالمية التي بدأت بالنشوء في مرحلة تصادم الحضارات ليست امبراطورية وإنما مركب فدراليات وكونفيدراليات ونظم مؤسسات دولية لأن الديمقراطية هي الشكل السياسي للحضارة الغربية (ص.53) وبعبارة أخرى فهو مثل فوكوياما يذهب إلى أن الديمقراطية هي الشكل النهائي للحكم؛ ويختلف عنه في وقفه على مرحلة تصادم الحضارات بينما يجعلها الأول نهاية للتاريخ كله. وبناء على ذلك يحكم على درجة التصادم مع الحضارات الأخرى وفقا لما سيؤول إليه مصير الديمقراطية والليبرالية التي يرى أن القبول بها متسع عالميا (ص. 114، 121) ولكنه يربط اتساع القبول بها بمدى انتشار المذاهب الدينية للحضارة الغربية ولهذا يستثني الصين والإسلام من هذا التحول نحو الليبرالية . وإذا كان في الصين بارقة أمل مع مايظهر فيها من مؤشرات التكيف مع المتغيرات والمستجدات فإنه في حالة الإسلام لا أمل مطلقا بسبب العجز الديمقراطي المفرط والنمو السكاني المهدد (ص. 29). ومثل هذه النتيجة تسقط نهائياً إمكانية قيام نظام عالمي متعدد الحضارات ومتعايشا مما يلقي ظلالا هامة وخطيرة على الوسائل لتحقيق تلك الغاية.
القوة وسيلة لتحقيق الغاية
لقد درج على إعطاء أحكام متعارضة متناقضة في المسألة الواحدة حسبما سبق بيانه. وتصادم الحضارة الغربية مع الحضارتين "الأسيوية" والإسلامية ليستا استثناء من ذلك. فهو يتنبأ بأن الصحوة الإسلامية ستخمد في العقدين الثاني والثالث من القرن الحادي والعشرين بضعف معدل النمو السكاني فيهما، ومن ثم يقل الصراع داخل الإسلام، وبينه وبين غيره ومع الغرب بالذات، ولكن العلاقة لن تكون وثيقة. هذا على الرغم مما يتنبأ به في فشل الصحوة الإسلامية في حل قضايا الظلم الاجتماعي والقمع السياسي والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري مع نجاحها في إثبات أن الإسلام هو الحل في مشكلات الهوية والعقيدة والأخلاق. أما في آسيا فإن النمو الاقتصادي سيؤدي إلى تعددية أكثر وديمقراطية أشمل، غير أن ذلك لا يعني أن يكون هناك توجه نحو الغرب.
ومع هذا كله يؤكد أن الحضارتين ستؤديان إلى عدم استقرار النظام العالمي؛ الآسيوية اقتصاديا والإسلامية سكانيا. وستفرز السنوات المبكرة من ذلك القرن إحياء قوة غير الغربيين وثقافتهم ومن ثم تصادمها مع الغرب (ص. 121 - 122) . ولا غرابة أن يرى أن طريق مواجهة هذا التصادم هو القوة، ذلك لأنه يقرر في وضوح أن سيطرة الغرب على العالم لم تأت من تفوق أفكاره ولا قيمه ولا دينة "بل من تفوقه في استخدام العنف المنظم" (ص. 51) . وهو دائما كلف بالتركيز على موضوع القوة في صنع الحضارة، ومن مقولاته الثابتة أنّ الثقافة تتبع القوة (مثلا (ص. 91) وقد سبق توضيح رأيه في أن المجتمعات غير الغربية عادت لهوياتها وتمسكت بأصولها الثقافية الحضارية يوم اكتسبت القوة الاقتصادية. وبالرغم من تناقض هذا الموقف مع مواقف أخرى سبقت الإشارة إأليها، إلا أنّ هذا الرأي ربما هو الذي دفع به إلى اعتبار الصين العدو الآسيوي الخطر لقوة اقتصادها مقارنة بدول شرق أسيا التي تهاوى اقتصادها في ختام العقد الماضي لهشاشته لأنه معتمد على رؤوس الأموال التي خرجت بالسرعة التي بها دخلت، فانهارت قدراتها الاقتصادية. غير أن السؤال يبقى لماذا لم يعتبر اليابان عدوا؟ ولماذا يصنفها في كثير من الحالات حليفا للغرب؟
يبدو أن بحثه عن القوة لإنقاذ الغرب يمثل أهم ركن في أطروحته، وقد سبقت الإشارة إلى ملاحظته الذكية عن تلازم ظواهر القوة الغربية وظواهر ضعفها، وقد أپرز ذلك بشكل لافت. أفلا تستدعي هذه النتيجة مايدعوه توينبي بـ "سراب الخلود" عندما تنشئ حضارة ما دولتها العالمية، ويظن أهلها أنهم بلغوا الكمال وفي الحقيقة أن مرحلة انحدارهم قد بدأت وهم لا يشعرون!؟ (19). وهنا موضع الاختلاف بين فوكاياما وهنتنغتون ، فكلاهما يقول بأن الغرب وصل مرحلة الكمال ولكن الأول يقدر أنه كمال خالد غير أن الثاني تلمس مواطن الضعف الداخلي والخارجي التي تتهدد بقاء الكمال الغربي فسعى لإيجاد طريق لاستئصالها، فصاغ حلا من شقين؛ الأول أن ذلك البقاء يتوقف على تأكيد الأمريكيين على الهوية الغربية، وأن يتحد الغربيون للحفاظ عليها من الأخطار الآتية من المجتمعات غير الغربية. والثاني أن يقبل الغربيون بأن حضارتهم فريدة وليست عامة. (ص. 20 - 21) .
ومن الواضح أن الشق الثاني يسقط تصادم الحضارات نهائيا، وحتى إذا قبل الغربيون بالتنفاس الحضاري هل تقبل به القوى الناشئة المتشوفة الطامحة؟ ولهذا يلاحظ أنّ هنتنغتون ركز في نموذجه كثيرا على الشق الأول والذي تحتل الولايات المتحدة "المركز الرئيس" فيه، ولكنها دولة صدع ومهددة بالتمزق والانقسام فلا سبيل إلى توحيدها داخليا وتماسكها مع الغرب كله إلا بالتضاد مع الآخرين، ولن يتحقق التماسك الاجتماعي إلا بوجود عدو مشترك، والحرب معه ترسخ الهوية. وهنا يكمن سر تركيزه الشديد على عداء الصين والإسلام في النموذج الذي طرحه.

وهكذا تغدو المسألة ليست تصادم حضارات وإنما استثمار تمايز الغرب مع بعض الحضارات لتحقيق "مصالح" معينة. ولهذا لما ذهل، بل صدم، بالآثار السيئة للتعددية الثقافية في أمريكا، الدولة المرشحة لانقاذ تدهور الغرب، أسرع في مقال 1997م للتخلي عن نموذجه إذ تبين وقتئذ عظم ما تواجهه الحضارة الغربية، والولايات المتحدة خاصة، لغياب العدو المشترك القريب الماثل، إذ أن "الأصولية الإسلامية" بعيدة ومشتتة، وحالة الصين معقدة، فاقترح البحث عن أهداف لاستخدام القوة الأمريكية مدخلا للتوحيد. وهذا هو نفس ما كان مستشار جورباتشوف قد قاله للأمريكيين عندما بدأ الاتحاد السوفيتي بالضعف والتفكك!! "نحن نقوم بأمر مروع لكم، فنحن نحرمكم من عدو". والإسلام هنا المرشح الأكبر إذ يمكن استفزازه واستثارته وتصوير الصراع حضاريا معه مما يستهوي أوربا ويقربها إلى الولايات المتحدة بدوافع تاريخية وأخرى مستجدة أحدثتها الهجرة. إذا القضية ليست الصين ولا الإسلام ولا الحضارة إنها المصالح. ولهذا فإن النموذج شديد التهافت ولا يصمد للتجربة الفعلية، وهذا ما حدث بعد 11 سبتمبر 2001م حينما اشتدت موجه العداء للإسلام والمسلمين ووحدت الأمريكيين بصورة غير مسبوقة، ووحدتهم والأوربيين، غير أنها وحدة اللحظة لم تلبث أن تبخرت، وتركت آثارا اقتصادية وسياسيّة مدمرة تزيد كل يوم ولا تنقص ، وتتجذر ولا تستأصل. فكيف تعاملنا مع هذا النموذج المتهافت؟
تعاملنا مع النموذج
نعم إن هذا النموذج مستفز ومستثير للمسلمين في كل مفاصله، لاسيما وأن قراءته المستقبلية وضعت بصورة القطع لا التمريض، وصيغت بعبارات الجزم لا الاحتمال، ولأن فيه تناقضات كثيرة لا تخفى على ذي لب ليس عليه غطاء كثيف من الهوى أو الغرض مما يدفعه لمقاومته أو معارضته ببديل أحسن منه. لقد جاءت ردة أفعالنا متطرفة مثله، تأخذ بأحد قطبي ثنائية محببة للنفوس ونهواها. وهذه المرة بين قبول مقولة التصادم ودفعها أو الدعوة إلى حوار حضارات لأننا أهله وأحق الناس به. ولكننا ظللنا نراوح بين هذين القطبين دون سبر غورهما والبحث عن بدائل أخرى لأن مراكز الدراسات الاستراتيجية عندنا إما لم تنشأ بعد أو أسست ديكورا تزين به أنظمتنا، فلا نحن معها جادين ولا لآرائها - إن وجدت - قابلين أو بها مستنيرين. فما ردات الأفعال هذه؟ وما سلبياتها وما إيجابياتها؟ وهل من بديل أو بدائل لها؟
نهج القبول والرفض
أحسب أن أول ردة فعل تبلورت جاءت ممن أطلق عليهم "الإسلام السياسي" ، وهذا ليس بمستغرب فالصحوة الإسلامية كانت في بداية التسعينات قد انتشرت وتجذرت، ولها دول قد قامت (إيران والسودان) وأخرى أوشكت (الجزائر ، وربما تركيا) وغيرها أصبح لها فيها وجود قوي اجتماعيا، وضاغط سياسيا، ومهيمن فكريا (الأردن ، فلسطين، أندونيسيا، باكستان ودول الخليج واليمن)، وحضور بارز وسط مسلمي مجتمعات الحضارة الغربية. ولاغرو أن تجد هذه الحركة المنتشرة من القوى المسيطرة صدا وخشية، ومن القوى ذات التوجهات الليبرالية تبرما وتخوفا وتربصا. فسعى من سعى لتحجميها. وجهد آخرون لكسب مرضاتها وولائها مع شيء من الحذر حوّلته حرب الخليج الثانية إلى عدم ثقة فيها وخشية منها.

في هذا المناخ انطلق شعار تصادم الحضارات فعده "الإسلام السياسي" موجها عليه لأنه يمثل ضمير الأمة بزعمه أصدق تمثل، والمعركة ضده تعني معركة ضد الإسلام الحي الفاعل الذي تخشاه الحضارة الغربية ومن يحالفها من أنظمة في ديار المسلمين. وزادت قناعتهم بمقولة تصادم الحضارات معتبرين الغرب عدوهم الأول وأنه يخشى الإسلام لأنه فيه حل ليس لمشكلات المسلمين بل للبشرية كلها.
وذاعت هذه القناعات وانتشرت، ووجدت في مناخ بيضت فيه فكرة المؤامرة وفرخت مرتعا خصيبا، فأنبتت وأينعت. ومع مطلع كل شمس كان أهل هذا النهج يزدادون قناعة بذلك. فكان الخطاب التهييجي أولا والفعل لاحقا، داخليا ثم خارجيا. فربط الغرب بينه وبين الإرهاب، وأصبح عدوهم الأول. ووجد فيه أهل نموذج تصادم الحضارات ضالتهم المنشودة، وفي أقوال منظريه وأعمال اتباعه دليل صدق نبوءتهم التي صاغوها نموذجا من بين نماذج عديدة. وذلك النموذج المتهافت ذي النبوءة الكذبة أصبح حقيقة واقعة.. إن ردة الفعل هذه من "الإسلام السياسي" جعلت من النموذج "التنبؤ المحقق لنفسه" ، لو استعرنا عبارة إرنست ناجل، أي أن التنبؤ في ذاته غير صحيح، ويضحى صحيحا نتيجة لأفعال تتخذ نتيجة للاعتقاد بصحته: تماما كإفلاس بنك الولايات المتحدة عام 1928م عندما سحبت الودائع نتيجة ظن خاطئ بأن البنك أفلس. وهذا ماحدث بعد 11 سبتمبر إذا أصبح تصادم الحضارات حقيقة ماثلة مع أنه مقولة متناقضة داخليا وغير مستقيمة منطقيا، وتخالف أكثر الحقائق المعروفة.
نهج الرفض والحوار
هذا تيار معتدل في مجتمعاتنا، رفض التسليم بنموذج تصادم الحضارات وبيّن خطله، وسعى إلى طرح بديل عنه، فدعا إلى الحوار بين الحضارات، وبلا ريب أن مستنده سليم ، ليس في الإسلام بل في سائر الديانات، ومثلهم مثل هنتنغتون فالدين والحضارة شيء واحد، ومسألة الحوار وسيلة دعوة وطريقة تواصل. وفي الإسلام كلية من الكليات وثابت من الثوابت. ونص القرآن على حوار الله مع ملائكته(20)، وحوار الأنبياء معه(21)، وأكد تأكيدا مستفيضا أن مهمة الرسول(ص) والرسل كلهم أجمعين البلاغ لا الإكراه، والتذكير لا السيطرة ولا التنفير. ونتيجة لرفض أهل هذا النهج نموذج التصادم وإيمانهم بربانية الحوار هرع معتدلو الصحوة الإسلامية من أهل السلطة، بما فيهم خاتمي، ومن أهل الفكر، سواء منتمين إلى حركات إسلامية أم لا، إلى رفع شعار حوار الحضارات بديلا عن تصادمها. وأقاموا له سوقا نافقة في مجتمعاتهم منذ أن أطلقت منظمة المؤتمر الإسلامي إعلان طهران في سنة 1997م. وتتابعت جهودهم لتأصيل الحوار فكريا. وبعدهم اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1998م قرارا بأن تكون سنة 2002م سنة الأمم المتحدة للحوار. وظل المسلمون، من خلال دأب مؤسسي وعمل شعبي، أكثر أمم الأرض وشعوبها عناية بالأمر، وعقدوا له ندوات إقليمية وأحيانا عالمية ، مثل ندوة برلين في سنة 2000م وأصدروا القرارات والإعلانات والبيانات، ووضعوا التقارير. ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بفضل سعيهم، وعظم حرصهم. ووثقت الاسيسكو كل ذلك في كتاب أصدرته تحت عنوان "الكتاب الأپيض حول الحوار بين الحضارات". وكل هذا جهد مقدر، ويبقى السؤال مامدى فاعليته في التصدي لنموذج تصادم الحضارات؟
لعل خير معيار لتقييم نتائج تلك الجهود ينبغي أن يكون مدى تأثيرها على قبول أهل ذلك النموذج أو رفضهم أو تعديلهم له. وأخال أنها على عظمها وتتابعها لم يكن لها إلا تأثير خافت في مفردات النموذج ظهرت عند هنتنغتون في قوله بـإمكانية قيام نظام عالمي متعدد الحضارات إذا قبل قادة العالم به، وحتى هذا ظهر عنده في كتابه قبل الجهود الحوارية المكثفة سابقة الذكر، وربما نتيجة مناقشات أكاديمية في دوائر الغرب ذاته، وفي الولايات المتحدة خصوصا. وهذا ما تشير إليه ردود الفعل التي ظهرت في المجلات المتخصصة في هذا الشأن في تلك الديار، وقد صدر 90% منها عن أهلها أنفسهم. وقد يرجع ضعف التأثير هذا إلى عدة عوامل، منها المكان والمخَاطَب والمخاطـِب وطبيعة الخطاب.
غير خاف أنّ ساحات تلك الجهود، وبصورة كبيرة، هي المجتمعات الإسلامية التي لا تحتاج غالبا في هذا الموضوع إلى كل الذي بذل. بل إن أهل النهج الأول مازادهم هذا التكالب، "الرسمي" على دعوة الحوار مع الغرب، وهو العدو، إلا تطرفا في حربهم إياه واتهامهم للمعتدلين، دعاة الحوار، بالاستسلام له. والحالة هذه ليس بمستغرب أن ظلت العلاقة مع الغرب في مسألة الحوار وكأنه حوار "الطرشان". وحسبك ردود الفعل لأحداث 11 سبتمبر ومابعدها عند أهل السياسة فيهم، من واضعي الاستراتيجيات ومتخذي القرارات ومنفذيها . ويكاد التأثير أن يكون منعدما عند أكاديمييهم ومثقفيهم إلا من ثلة قليلة جدا ممن درجنا على دعوتهم إلى منتدياتنا الحوارية زينة في ظل هشاشة علاقة مؤسساتنا التعليمية العليا برصيفاتها عندهم. أما جماهير شعوبهم فحدّث ولا حرج إذ أنّ خطابنا الإعلامي موجه داخليا وعاجز خارجيا إن وجد. علاوة على أن المخاطب نفسه لا يمارس الحوار في مجتمعه، بل لا يطيقه إن ظهر، وفاقد الشيء لا يعطيه. وهذه المفارقة بين الفكر والعمل من أعظم بلايانا وأكثرها خطرا، فضلا عن تحويلنا لقضية تصادم الحضارات من مفهوم عملي يهدف إلى تنظيم الواقع في السياسة العالمية إلى موضع حوار بين الأديان، وجعلناه تبشيرا بالإسلام، وهو هدف هام، ولكننا صرفنا الموضوع المثار عن بابه وغاياته، وطفقنا نخاطب غير أهل الشأن، فتعاظم الإخفاق. من كل هذا نخلص إلى أنه لابد من النظر في بديل واقعي.
النهج العملي
لست بمؤهل للإبحار في هذا المجال، وأحسب أن التنبيه عليه يكفي في هذا الأوان . ولكن من المتسحسن وضع بعض العلامات الدالة على الطريق، وإعطاء إشارات مرشدة إليه، وعندكم منها مزيد مما سيغني "الحوار" حول البديل ويفيد.
أولا: إن جوهر الموضوع متصل بقضايا مصالح الدول، وقد تتوافق المصالح فيحدث الائتلاف أو التحالف. أو تتضارب المصالح، فإما يجري التنسيق ويحدث التقارب وإلا وقع التصادم والاحتراب، وهنا تُستثمر كل مواطن القوة ومنها شحذ الهمم، واختلاف الثقافات دائما قابل للاستثمار لأن الحضارات في ذاتها لا تتصادم ولكنها قد تتحاور أو تتفاعل أو تتداخل أو تتمازج أو تتنافس إلا أنها قد تستخدم آلة في الصراع، وما نموذج "تصادم الحضارات" إلا مثال واحد دال على ذلك. ونقد هذا النموذج ينبغي أن يكون في هذا الإطار، وهو أدعى للوصول لأهل السياسة وتبصيرهم بالأخطار المحدقة بمصالحهم التي قد تعشو عنها الأپصار.
ثانيا: أن طبيعة الموضوع تتطلب تناوله من أهل الذكر في شتى العلوم لمعرفة المتغيرات، وتحديد التوجهات، وتبيين المصالح وتوافقها مع الآخر أو تصادمها، واقتراح الأمثل للتعامل مع هذه الحالات. ومثل هذا العمل لا يكون مجديا بغير دراسات متخصصة ومعمقة في الموضوعات ذات الصلة. وفي مثل نموذج التصادم هذا نحتاج إلى دراسات سكانية من حيث النمو والهجرات، ودراسات اقتصادية من حيث الإنتاج وأنواعه ومعدلاته وتوقعاته.. الخ. وهذا كله لن يكون مجديا إلا بـإنشاء مراكز للدراسات الاستراتيجية وتفعيل القائم منها، وأخذ ما تتوصل إليه بجدية وروح مسؤولة. وهذا لا يعني استبعاد أو تحجيم دور أهل الفكر والنظر، بل هو دعوة لتفاعلهم مع أهل العمل كي يسلم التوجه ويصح العمل. فلا مندوحة عن دراسة مصالح دول العالم الإسلامي مع شتى دول العالم والمناطق، ووضع استراتيجيات لتنظيم العلاقات معها لتحصل الفائدة القصوى منها ولتوظيف ذلك في قضايانا السياسية والثقافية.. الخ والحالة هذه فإن مكان نقاش هذا النموذج مراكز دراسات استراتيجية في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وليست الكسو ولا اسسكو مع تقدير جهودهما في مجالات اختصاصهما فهذا الموضوع ليس بثقافي وإن كانت الثقافة أحد مكوناته.
ثالثا: لماذا التعاطي مع الغرب وحده سواء أكان تصادما أم حوارا.. فالمجتمعات غير الغربية تتشابه مع مجتمعاتنا في البحث عن تأكيد الذات، وحل المشكلات، والتحول من التخلف إلى التقدم. والمخاطر المحدقة تكاد أن تكون واحدة ومتطابقة. فأين الحوار معها؟ فلأننا نظرنا إلى الموضوع في إطار حضارة مهيمنة مسيطرة تتآمر علينا دون غيرنا ضللنا طريق التعاون مع من يشابهنا في الأحوال.
إن بمثل هذا ينقل التعامل مع نموذج "تصادم الحضارات" من المناخ الفكري المجرد إلى الواقع العملي المحسوس، إذ هو باعثه. وعلينا النظر في الأمر كما هو، لا كما نتصور أنه هو أو أريد لنا أن نتصوره كذلك. وبذلك تركز الجهود، وتستثمر الطاقات ، وتنبع الإبداعات، ويتوقف التغني بالماضي، ويبدأ البحث عن الحاضر والتشوف نحو المستقبل، وهذا هو جوهر الدين لأننا محاسبون بكسبنا لا بكسب الآخرين.

-----------------------
1 - أخذت عبارة "صدام الحضارات" شهرة واسعة ترجمة لعبارة صمويل هنتنغتون "The Clash of civilizations" وأحسب المصدر على وزن تفاعل أكثر دلالة من وزن فعال، ولهذا فضلته.
2 -F.Braudel, On History, (1980)pp.177,202 .
3 - Quigley, Evolution of Civilizations, pp.146 Sqq, D.C.Somervell in His abridgement of Toynbee, A Study of History, 1964. (pp.4,18) .
4 - كل الإشارات إلى صفحات داخل المتن هي إلى كتاب S.P.Huntington, The Clash of Civilizations Remaking the World Order, New York, Touchstone, 1999..
5 - Francis Fukuyama, "The End of History, The Nationl Interest, 16 (Summer 1993), (pp.4,18). .
6 - Max Singer and Aaron Wildavsky, The Real World Order, Zones of Peace, Zones of Turmoil,(1993). .
7 - John J.Meardheimer, "Back to the Future: Instability in Europe after the Cold war" International Security, 15 (Summer 1990), 5-56..
8 - Zbigniew Brzezinski, Out of Control: Global Turmoil on the Eve of the Twenty-first Century (1993).
9 - Lester B.Pearson, Democracy in World Politics (1995) pp.210-211..
10 - Fernand Braudel, On History (1980), pp.210-211..
11 - Johan Galtung "The Emerging Conflict Formations" in Katharine and Majid Tehranian, Eds, Restructuring for World Peace; On the Threshold of the Twenty-First Century (1992), pp.23-24. William s. Lind, "North South Relations Returning to a World of Cultures in Conflict" Current World Leaders, 35 (Dec. 1992), 1073 - 1080, Zsolt Rostovanyi, "Clash of Civilizations and Cultures: Unity and Disunity of World Order )1993); Michael Vlahos, "Culture and Foreing Policy" Foreign Policy, 82 (Spring 1991) 59 - 78..
12 - Geoffrey Parder, The Military Revolution: Military Innovation and the Rise of the West, (1988), p.4..
13 - Regis Debry, "God and the Political Planet, "New Perspectives Quarterly, 11 (Spring 1994) 15..
14 - Henry A. Kissinger, Diplomacy, (1994), pp.23 - 24.
15 - Edward Mortimer, "Christianity and Islam, "International Affairs, 67 (Jan.1991),7.
16 - Eisuke Sakakibara, "The End of Progressivism : A Search for New Goals, "Foreing Affairs, 74 (Sept.Loct. 1995), 8 - 14..
17 - نقل الكتاب إلى العربية طلعت الشايب بعنوان: صراع الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي، وقدم له صلاح قنصوه، سطور، الطبعة الثانية، 1999م.
18 - أنظر أعلاه هامش رقم (15).
19 - Arnold J.Toynbee, A Study of History, V.9,pp.421-422.
20 - أنظر البقرة 30 - 32.
21 - أنظر البقرة 260، الأعراف 143.



المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
(رؤية, مغايرة), الحضارات, حوار, وتصادمها


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع حوار الحضارات وتصادمها (رؤية مغايرة)
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اطروحة صدام الحضارات......نهج السياسة الامريكية Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 01-15-2016 08:19 AM
حوار الحضارات وخناجر في جسد الإسلام Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 01-15-2016 08:11 AM
حوار البنادق ينسف حوار الفنادق عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 05-23-2015 08:30 AM
يسعون لكسر نظرية صدام الحضارات عبدالناصر محمود أخبار منوعة 0 02-26-2015 07:32 AM
قصيدة تحث على مغادرة إسرائيل عبدالناصر محمود أخبار الكيان الصهيوني 0 09-16-2014 07:55 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:26 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59