#1  
قديم 06-14-2013, 06:17 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,147
ورقة النفعية في الخطاب الليبرالي المعاصر


النفعية في الخطاب الليبرالي المعاصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ

(رمضان الغنام)
---------


النفعية في أبسط صورها تعني إقبال الأفراد والمجتمعات على فكرة ما بغض النظر عن المحتوى الثقافي والأخلاقي والعقائدي لهذه الفكرة، فالشرط الأهم خلال عملية التزاوج بين الفرد والفكرة هو إشباع الرغبة وحصول المنفعة.

فالنفعية أو المنفعة مذهب فلسفي غرائزي، وهي منتج فكري متأخر من مفرزات عصر التنوير الأوروبي، وهي كغالب الفلسفات الغربية لا هدف لها سوى حصول الرغبات مهما ساءت الوسائل، فالغاية دائما ما تبرر قبح الوسيلة عند النفعيين ومنظريهم، وحصول اللذة والنشوة هو المعيار للحكم على الأشياء ومدى جديتها وجدواها.

وتبدأ أولى ملامح النفعية في الفكر الليبرالي منذ النشأة والتأسيس، حيث يرى كثير من المتخصصين أن الفكر الليبرالي قد استفاد كثيرا من الفلسفات التي سبقته، وأن فلسفته ما هي إلا مزيج من أفكار الشيوعية والعلمانية والنفعية وغيرها من الفلسفات والمذاهب الغربية السابقة عليها، والتي عجزت عن تحقيق رغبات الرجل الغربي وحاجاته في العصر الحاضر.

لذلك فالليبرالية تعد ذروة سنام الفكر الغربي (الأمريكي)، وآخر ما أنتجه العقل الغربي من أفكار وفلسفات، وليس وراء ذلك– فيما يبدو- جديد، إلا إعادة القديم وترتيب أفكاره بحيث يتناسب مع روح العصر، وحاجات رجل العصر، التي فاقت حاجات سلفه في القرون الفائتة.

ويعد نيكولو ميكيافلي مؤسس مدرسة التحليل والتنظير السياسي الواقعي هو الرائد الأول الذي أثْرَتْ كتاباته وأفكاره وأثَّرَتْ في الفكر الليبرالي- فيما بعد فيما يخص جنوح الليبراليين لفكرة المنفعة- وهو صاحب المقولة الأشهر في عالم السياسة "الغاية تبرر الوسيلة"، وهو من قادته هذه الفكرة إلى إتْبَاعِها بسلسلة من المقولات ذات الطابع النفعي المحض، كقوله: "إن الدين ضروري للحكومة، لا لخدمة الفضيلة، ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس"، وهو القائل: "من واجب الأمير أحياناً أن يساند ديناً ما، ولو كان يعتقد بفساده".

ويعد هذا الملمح الديني أحد أبرز الملامح النفعية التي عمل مكيافيلي على تأصيلها والتأكيد عليها في كتاباته، وكتابه "الأمير" على وجه الخصوص، الذي وضع فيه خلاصة فكرة، وحصيلة ما جمعه من تجارب وخبرات في عالم السياسة وأصول الحكم، وهو الأمر الذي أفادت منه معظم الدول الأوربية الحديثة فيما بعد، وكان التطبيق الأبرز لأفكار مكيافيلي ممثلا في الفلسفة الليبرالية الأمريكية.

فلو افترضنا أن الأساس الذي قامت عليه الفلسفة الليبرالية هو التوق إلى حرية الفرد، وإزاحة كافة الحواجز أمام تحقيق الرغبات والاحتياجات، فإن مبدأ النفعية المكيافيلي يعد الأساس الثاني والأهم في منظومة الأفكار لدي منظري الفكر الليبرالي الحديث في أمريكا.

جاء مبدأ النفعية ليمثل طوق نجاة لإمبريالية أمريكا الرأسمالية، حيث أسفرت سنوات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي المتزعم لمعسكر الشيوعية والدولة الأمريكية الشابة صاحبة مبدأ الرأسمالية عن سقوط المعسكر السوفيتي بفلسفاته وأفكاره وآرائه، وفي مقابل ذلك ظل المعسكر الرأسمالي الذي تتزعمه أمريكا صامدا، وفي حالة توهج وتتطور.

ويُرجع كثيرٌ من المتابعين للشأن الأمريكي والدارسين لفلسفاته صمودَ المعسكر الليبرالي الرأسمالي إلى استيعابه للأفكار البرجماتية النفعية، وبثها في كافة مناحي الحياة، حيث عمد منظرو الفكر النفعي أمثال جون دوي، ووليم جيمس، وهربت ماركوز وغيرهم إلى التسويق لهذه الفلسفة، وتقديمها على أنها أعلى منتج حضاري يمكن الوصول إليه، والتوصل من خلاله إلى إشباع كل رغبة، وأية رغبة يحلم بها العقل الأمريكي، وعرف مذهب هؤلاء بالذرائعية أو البرجماتية، حيث يؤمن منظروه بأن صدق قضية ما هو في كونها مفيدة، بغض النظر عن مدى فساد أو صلاح المحتوى القيمي لهذه القضية.

تلك كانت إطلالة سريعة على علاقة الفكر البرجماتي بالفكر الليبرالي عند منظري الفلسفتين والداعين لهما، وقد تبين خلال هذا العرض مدى الارتباط الوثيق بين الفكر الليبرالي وبين الفلسفة البرجماتية، ما أدى فيما بعد إلى نشوء ليبرالية جديدة مشبعة بروح البرجماتية، حيث سعى منظرو الفكر الليبرالي كعادتهم إلى ترقيع الفكرة الليبرالية ومحاولة إصلاحها بالأفكار النفعية لتوافق روح العصر وتناسب تغيراته المختلفة.

وفي محيطنا العربي والإسلامي سعى الليبراليون العرب إلى الاستفادة من الفكرة النفعية ومحاولة إعمالها في مناح شتى في خطابهم الجديد، فاستفادوا من هذا الأمر في خطابهم الديني والسياسي والشعبي وغير ذلك، وحاولوا الحصول على مكاسب بأساليب رخيصة، وفق مبدأهم النفعي المنادي بالوصول إلى الغايات بغض النظر عن ماهية الوسيلة.

سعت الليبرالية منذ أن حطت رحالها في الأوساط العربية والإسلامية حتى اليوم إلى التوجه نحو صنفين من المتلقين، تمثل الصنف الأول في طبقة المثقفين، باعتبارهم أرضية خصبة لنمو الفكر الليبرالي التحرري، لما لهم من خلفية تغريبية، ساهم النظام التعليمي والسياسي والإعلامي في تشكيلها وتحديد أطرها ومعالمها منذ زمن بعيد، حتى أصبحت أرضا ذلولا لتقبل هذا الفكر.

أما الصنف الثاني من المتلقين، الذي حرصت الليبرالية على ضمه واجتذابه، فتمثل في الطبقة الفقيرة ماديا وتعليميا وأخلاقيا من طبقات المجتمع المسلم، وبدا هذا الأمر ظاهرا بقوة في الفترة الأخيرة، بعدما فشلت الليبرالية في أوساط النخب في تصدير أفكارها إلى غيرهم من طبقات المجتمع.

فسعى الليبراليون ببرجماتية صارخة إلى دعم كل قيمة أو تقليد أو عرف بمعزل عن الدين، لنزع أية قداسة للدين من قلوب الناس، فحولوا المروءة والصدق والبر في خطابهم إلى قيم شعبية لا دينية، ترتبط بالتراث الشعبي العربي، لا بتعاليم الإسلام وأخلاقياته وآدابه، ومن جانب آخر أخذوا في دعم الأعراف المنفلتة والقيم الجاهلية، والفنون والآداب الشعبية التي تتصادم مع الشريعة، لتتلون المشاهد السياسية والثقافية والاجتماعية بدخان النفعية، مستغلين في ذلك جهل هذه الطبقة، وعوزها المادي والروحي.

ولم يفت قادة التيار النفعي من الليبراليين العبث بملف العصبيات والعرقيات، وإحياء النعرات القديمة الداعية إلى تمجيد العرق أو العرف أو اللهجة، حيث كان لهذا الملف النصيب الأوفر من الأجندة الليبرالية.

وبرغم فهم الليبراليين للطبيعة الإسلامية، التي تساوي بين المسلمين في كل شيء باختلاف الأجناس والألوان والألسن، إلا أن دعاتهم باتوا يجتهدون بكل ما أوتوا من حيل في نزع هذا المفهوم من المنظومة الإسلامية، وتأجيج الصراع القائم على العصبيات؛ لأهدافهم السياسية، ولأجل قناعاتهم الفكرية الداعين إليها.

وكان الخطاب الديني ولازال مطية كثير من الليبراليين، فالليبرالي يعي جيدا حاجة الناس إلى الدين ومدى الارتباط بين المجتمع العربي على وجه الخصوص وقيم الدين الذي يعتنقه أفراده، بغض النظر عن ماهية هذا الدين.

لذا سعى الليبراليون العرب منذ البداية إلى إعلان مواقفهم المُحْتَرِمة للدين– بحسب زعمهم- فلم يقعوا فيما وقع فيه أصحاب التيار العلماني بمعاداتهم الصريحة للدين، وإعلانهم الحرب على كل مقدس.

غير أن الليبراليين لم يعلنوا عن شكل هذا الدين الذي يحترموه ويقدروه، وتركوا الأمر في عمومية وهلامية، فأصبحنا نشاهد رموزا منهم يرتادون الكنائس والمساجد، ولو تطلب الأمر غير ذلك لفعلوا، المهم أن تسير منظومتهم دون أن تُعرقَل من هنا أو هناك.

وفيما يخص مسألة النقد- أعني نقد الدين- والحديث عن تجديد الخطاب الديني لم نر ليبراليا يوجه وجهه شطر الكنيسة بنقد أو نصح أو تنبيه، بل كانت كافة الانتقادات تتوجه للمسجد ولإمام المسجد ولمرتادي المسجد، ليظهر لنا أنه لا خلاف بين التوجه الليبرالي، وبين ترانيم الكنيسة وتراتيلها، وإنما الخلاف كله منصب على منظومة القيم الإسلامية، شريعة وعقيدة وعرفا.

ولهذا برزت البدعة الليبرالية المسماة بـ"تجديد الخطاب الديني"، وهي فكرة جاءت في الأساس لتمييع قضية الدين، والعبث بنصوص الكتاب والسنة، عن طريق الفهم التغريبي لها، حتى يتسنى لرعاة تلك البدعة فرض ثقافتهم، وإحلال قيمهم محل القيم الإسلامية.

والملاحظ أن الهجوم الليبرالي (الناعم) لم يَطُلْ سوى التيارات العاملة في حقل السياسة، فبات الهجوم على تيارات الإسلام السياسي، ممثلا في الإخوان والسلفيين والجماعة الإسلامية..الخ، أمرا حياتيا، لا ينفك عنه كل من يصلح أن يُطلق عليه مُسمي ليبرالي، مع الاحتفاظ بقدر من الاتفاق بين أصحاب هذا الفكر وبين القيادات الدينية المُسيَّسة وبعض الصوفيين والشيعة، حيث اتسمت العلاقة بينهم بالهدوء النسبي.

غير أن الخطاب السياسي كان أكثر فجاجة ونفعية لدى الليبراليين العرب، وظهرت هذه النفعية في مشاهد كثيرة في الفترة الأخيرة، من ذلك الموقف من الانتخابات حيث أخذ الإعلام الليبرالي في المراهنة على وعي الشارع العربي، وأفرد لذلك الصفحات والبرامج، فلما كانت الغلبة للإسلاميين، أخذ نفس الإعلام في الحديث عن جهل العامة وسذاجتهم، ونسى الليبراليون غزلهم العفيف وغير العفيف بأصوات الناخبين، وبدأت لكْنَة جديدة تظهر، وهي أن الديمقراطية لا تعني الاحتكام للصندوق وحده، لاسيما في المجتمعات حديثة التحرر من أنظمة الفساد والاستبداد، وأنه لا يصح بأي حال من الأحوال أن تُقَاد النخب من قبل أغلبية جاهلة.

وإذا رأيتهم وهم يُنظِّرون لمبادئ الحرية والمساواة، ثم رأيت واقعهم العملي وكيف يَنظُرون إلى خصومهم تملكك العجب، فخصومهم بحسب فهمهم- لاسيما إن كانوا من الإسلاميين- متطرفون، إقصائيون، معادون لحرية الرأي والتعبير، لتفاجئ في نهاية الأمر أنهم هم الإقصائيون والمتطرفون والمعتدون على حريات الآخرين، فهم برغم مناداتهم بحرية الرأي والتعبير والمعتقد، إلا أنهم لا يسمحون لأحد بمخالفتهم، وكأن حرية الرأي حكرا عليهم، محرمة على ما سواهم.

وفي سبيل ذلك كل شيء مباح للوصول إلى غاياتهم، ولو كان الطريق إلى ذلك انقلابا على رأي عجلهم المقدس، المسمى بالأغلبية- بحسب المبدأ الليبرالي- ولو أدى هذا التغيير إلى الفوضى وإرهاب الناس وإراقة الدماء، فطالما كنت ليبراليا، فأنت حر، وإن أفسدت وأضررت بالآخرين، وإن اقترفت المحرمات واعتديت على المقدسات.

وبصفة عامة، وبعد هذا السرد نستطيع القول: أنه لا حرمة عند الليبرالي لمبدأ أو لدين أو لخُلق، فالكل عنده وسائل وليس غايات، وعليه فيمكن التضحية بما شاء من تلك الوسائل وقتما شاء، بشرط تحقق الغاية وحصول المنفعة والمصلحة من وراء ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{مركز التأصيل للدراسات والبحوث}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الليبرالي, المعاصر, الخطاب, النفعية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع النفعية في الخطاب الليبرالي المعاصر
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ماذا يريد الليبرالي ؟! عبدالناصر محمود مواقع التواصل الاجتماعي 0 04-07-2016 07:22 AM
قصة الإسلام الليبرالي عبدالناصر محمود بحوث ودراسات منوعة 0 04-20-2015 07:08 AM
خطر المشروع الليبرالي عبدالناصر محمود بحوث ودراسات منوعة 0 01-03-2015 08:38 AM
فقه الأولويات في الخطاب السلفي المعاصر بعد الثورة عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 12-21-2013 09:04 AM
الخطاب القومي في الشعر المعاصر Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 11-20-2012 01:32 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:58 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59