#1  
قديم 04-04-2012, 02:04 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي التورق مفهومه وممارساته والآثار الاقتصادية المترتبة على ترويجه من خلال بنوك إسلامية


إعداد
الدكتور عبد الرحمن يسرى أحمد
أستاذ الاقتصاد ، جامعة الإسكندرية
مصر
بســم الله والحمد لله ، والصلاة والســلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد
بدأت ممارسات التورق تحت مظلة اسلامية لدى بعض البنوك منذ 1421 هجرى فى المملكة العربية السعودية، وذلك تحت مسميات عديدة ظاهرها فيه اليسر والخير والبركة( مثل تورق التيسير والتورق المبارك وتورق الخير وغير ذلك) ، وتبعتها بعد ذلك بنوك أخرى فى البحرين والكويت وقطر والامارات العربية. ويمكن تعريف التورق المصرفى بأنه "قيام عميل يطلب سيولة نقدية بت**** البنك فى بيع سلعة له فى السوق الحاضر بعد أن اشتراها منه بثمن آجل". أو بعبارة أخرى ( تحمل نفس المعنى) التورق المصرفى هو "قيام البنك بعملية بيع بالوكالة فى سوق حاضر لسلعة سبق أن باعها للعميل بثمن آجل تحقيقاً لطلب هذا العميل على النقود.
والورِق في اللغة (بكسر الراء والاسكان) هي الدراهم من الفضة، والتورق طلب الورق أي الدراهم.وحيث كانت دراهم الفضة نقوداً رائجة فيما مضى من قرون فإن المعنى المعاصر للتورق هو "طلب النقود" (النقد الرائج ، أياً كان نوع العملة) . وإذا استخدمنا المصطلحات الاقتصادية الحديثة يمكن القول أن "التورق هو بيع مخصوص يقصد به "طلب السيولة" .
ووفقاً لهذا المعنى العام للتورق قد يكون لدي الشخص سلعة أو أصل من الأصول ربما اقتناه لنفسه أو اشتراه لغرض التجارة فيعمل على بيع مالديه لكى يحصل على نقود ، لأن هذه اكثر سيولة . فالتورق بيع ولكن لابد من تمييزه عن البيع بمعناه المعروف من الناحيتين الاقتصادية البحتة والشرعية. فمن الناحية الاقتصادية علينا أن نميز التورق على أنه "بيع مخصوص لتحقيق سيولة نقدية مقصودة". وقد يكون من وراء ذلك "اضطرار" بسبب ضرورة سداد دين حل أجله ولايمكن تأجيله وقد يكون لدواعى السفر أو الهجرة أو للإنفاق على علاج أو زواج أو غير ذلك . وقد يكون وراء تعجُل الحصول على النقود بطريق التورق خطة اعدها المتورق لاستخدام السيولة التى يحصل عليها فيما هو أكثر نفعاً له ، ومن ثم فإن من المحتمل أن يقوم المتورق ببيع سلعة أو أصل من الأصول يملكه ، سواء كان معداً للتجارة أو كان للقنية، وذلك لكى يحصل على نقود يستثمرها أو يستخدمها فى صفقة يتوقع منها ربحاً آجلاً أو عاجلاً . وهكذا فإن لفظة التورق تجعل "بيع التورق" بيعاً من نوع خاص يختلف عن البيع بمعناه العام المعروف الذى يتأنى فيه البائع حتى يتخير أفضل سعر لسلعته أوقد يرضى فيه ببيع سلعته بالأجل لإن ذلك أفضل له.
وفى المصادر الفقهية استخدم مصطلح "التورق" ليعنى طلب السيولة النقدية بطريق شراء وبيع لسلعة ، فالمتورق لايملك شيئاً يبيعه حتى يحصل على نقود يريدها فيشترى بالنسيئة ويبيعها فى السوق فيتحقق له مايريد. فلا بأس أن يشترى سلعة بمائة دولار مثلاً ليبيعها بخمسين لأنه فى حاجة عاجلة لهذه الخمسين . وفى الفروع لابن مفلح - (ج 6 / ص 467) قال فى التَّوَرُّقُ " وَلَوْ احْتَاجَ إلَى نَقْدٍ فَاشْتَرَى مَا يُسَاوِي مِائَةً بِمِائَتَيْنِ فَلابَأْسَ" ثم قال " يُكْرَهُ ، وَحَرَّمَهُ شَيْخُنَا" .
وهناك تداخل واضح بين مفهوم كل من "التورق" و"العينة" فى معاجم اللغة والمصادر الفقهية. فى"كشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 9 / ص 19) : " ( الْعِينَةِ ) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ إلَى أَجَلٍ يَأْخُذُ بَدَلَهَا عَيْنًا أَيْ نَقْدًا حَاضِرًا. وفى المزهر - (ج 1 / ص 116) العَيْنُ: اسمٌ من أسماء الذهب، ويقال للفضة الوَرِق، والعَيْن: النَّقد" . إذاً فالعينة لاتختلف عن التورق فى أنها تُقصد لتحقيق السيولة النقدية.
وكما هو الحال فى التورق ، فإن تعريف العينة فى مصادر الفقه أو اللغة لايجعلها أيضاً بالضرورة محرمة. فالعينة (بكسر العين المهملة) هي السلف، ويقال: باعه بعينة: أي نسيئة ، وبيع النسيئة جائز بلا كراهية إذا تم بشروطه الشرعية . وفى الشرح الكبير لابن قدامة - (ج 4 / ص 46) " البيع بنسيئة مباح اتفاقا ولا يُكره الا أن لا يكون له تجارة غيره" . وجاء فى الفروع لابن مفلح - (ج 6 / ص 467) "وَكَرِهَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يَبِيعَ الرَّجُلُ إلاَّ نَسِيئَةً، مَعَ جَوَازِهِ".
وكذلك مثل التورق هنالك من أجاز بيع العينة من الفقهاء بشروط على أنها بيع بالأجل لايتبعه شراء لنفس السلعة ممن باعها بينما هو الدائن للمتعين الذى أراد النقود . أما غير ذلك فالعينة حرام .وتأكيداً لهذا المعنى نقتطف من "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" (ج 6 / ص 467) ، مانصه : "الْعِينَةُ بِالْكَسْرِ وَفَسَّرَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ مَتَاعَهُ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِثَمَنٍ حَالٍّ لِيَسْلَمَ بِهِ مِنْ الرِّبَا وَقِيلَ لِهَذَا الْبَيْعِ عِينَةٌ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ إلَى أَجَلٍ يَأْخُذُ بَدَلَهَا عَيْنًا أَيْ نَقْدًا حَاضِرًا وَذَلِكَ حَرَامٌ إذَا اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ فَأَجَازَهَا الشَّافِعِيُّ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ سَالِمًا مِنْ الْمُفْسِدَاتِ وَمَنَعَهَا بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَكَانَ يَقُولُ هِيَ أُخْتٌ لَلرِّبَا فَلَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ بَائِعِهَا فِي الْمَجْلِس فَهِيَ عِينَةٌ أَيْضًا لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ ".
وفى مايؤكد التداخل فى المعانى بين العينة والتورق ماجاء فى الفتاوى الكبرى- (ج 9/ ص 35 ) :"قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْعِينَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ السَّلَفُ ، وَالسَّلَفُ يَعُمُّ تَعْجِيلَ الثَّمَنِ وَتَعْجِيلَ الْمُثَمَّنِ ، وَهُوَ الْغَالِبُ هُنَا. يُقَالُ : اعْتَانَ الرَّجُلُ وَتَعَيَّنَ إذَا اشْتَرَى الشَّيْءَ بِنَسِيئَةٍ ، كَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَيْنِ وَهُوَ الْمُعَجَّلُ ، وَصِيغَتْ عَلَى فِعْلِهِ ، لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ .وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَذْلَ الْعَيْنِ الْمُعَجَّلَةِ لِلرِّبْحِ ، وَأَخْذَهَا لِلْحَاجَةِ.
كَمَا قَالُوا فِي نَحْوِ ذَلِكَ : التَّوَرُّقُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَرِقَ .قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ : أَنَا أَظُنُّ أَنَّ الْعِينَةَ إنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ حَاجَةِ الرَّجُلِ إلَى الْعَيْنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَيَشْتَرِي السِّلْعَةَ وَيَبِيعُهَا بِالْعَيْنِ الَّذِي احْتَاجَ إلَيْهِ وَلَيْسَتْ بِهِ إلَى السِّلْعَةِ حَاجَةٌ وَتُطْلَقُ الْعِينَةُ عَلَى نَفْسِ السِّلْعَةِ الْمُعْتَانَةِ .
إن هذا التداخل فى المعانى بين التورق والعينة بسبب رغبة الشخص فى كل منهما الحصول على السيولة النقدية ، واضطراره فى كل منهما الى بيعتين احداهما بالنسيئة ومن ثم ترتب المديونية على ذلك ، هو ما يجعل البحث فى حقيقة التورق ضرورياً .ويؤكد هذه الضرورة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ِقَوْلِهِ " إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَتَبِعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ وَظَهَرَ عَلَيْكُمْ عَدُوُّكُمْ ". وهذا حديث خطير يدين بيع العينة فعلينا أن نضعه نصب أعيننا ونحن نبحث "التورق" المصرفى لنرى هل يحمل معنى العينة التى ذكرها الحديث ؟؟
وفى فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 15 / ص 233) جاء فى مسألة التورق هي "أن يشتري سلعة بثمن مؤجل؛ ليبيعها في السوق على غير الدائن، وينتفع بثمنها، وإذا حل الأجل سدد لصاحبها ثمنها الذي اشتراها به مؤجلًا، والبيع بالتقسيط جائز، ولا يلتفت إلى القول بعدم جوازه؛ لشذوذه، وعدم الدليل عليه، أما مسألة التورق فمحل خلاف، والصحيح جوازها".وممن وقع على الفتوى عبد العزيز آل الشيخ وعبد العزيز بن عبد الله بن باز وآخرون. ولاينبغى أن تؤخذ هذه الفتوي على أنها تجيز التورق المصرفى الذى تمارسه بعض البنوك فى عصرنا تحت مظلة الاسلام . صحيح أن الفتوى تضمنت عبارة "أن يشتري سلعة بثمن مؤجل؛ ليبيعها في السوق على غير الدائن" ، وهذا فيصل هام فى الحكم على شرعية التورق من عدمه، ولكن لهذا التورق المصرفى مواصفات أخرى يجب أن ينتبه اليها وتؤخذ فى الحسبان.
إن السؤال الخطير التى يفرض نفسه علينا حقاً هو لماذا الآن ، فى عصر جديد شهد مولد ونمو مصرفية اسلامية ، قام البعض من العاملين فى حقلها بابتكار منتج جديد تحت مسمى "التورق" ؟ رغم علمهم بتشابك أو تداخل مفهومه وممارساته فى المصادر الفقهية مع "العِينة" التى كُرهت فى شكلها العام وحُرِّمَت تماماً فى حالات؟ هل هى رغبة فى تنمية نشاط مصرفى تحت مظلة اسلامية بأى وسائل ممكنة عملياً؟ و لكن إلى أى مدى يبقى هذا النشاط المصرفى اسلامياً إن كان هناك شك فى شرعية هذه الوسائل أو أقوال بعدم شرعيتها؟ ومن جهة أخرى لماذا لم تُفَعَّل وسائل تمويل اسلامية أخرى خالية من الشبهات من جهة ، ويمكن أن تؤدى من جهة أخرى الى تنميةأفضل للمصرفية الاسلامية ولاقتصادات الدول الاسلامية ؟ أم أن التورق المصرفى ابتكر اساساً لتحقيق الربح والتوسع فى النشاط المصرفى أياً كان وأن انتقاء مصطلح "التورق" من بطون امهات كتب الفقه الاسلامى لمنتج مصرفى جديد كان مقصوداً فيعتقد عامة العملاء فى شرعيته ؟ وهل من وراء ذلك إلا أن يتسع نشاط البنوك الممارسة لهذا المنتج على حساب أهداف المصرفية الاسلامية؟
في المعنى التقليدي للتورق ويتضمن بيعتين احداهما بالنسيئة وذلك لتحقيق سيولة نقدية :
سوف نعرض فيما يلى حالات من التورق التقليدى وجميعها متداخلة مع بيوع العينة وسوف تعيننا هذه الحالات فى الحكم بعد ذلك على "التورق المصرفى المنظم" الذى ظهر أخيراً :
* شخص يريد مبلغاً من النقود عاجلاً ولم يجد من يقرضه قرضاً حسناً ولايريد أن يقترض بربا حتى لايقع فى الحرام فالتجأ الى شراء سلعة بالأجل فأصبح بذلك مديناً بثمنها المؤجل ثم باعها حالاً ليحصل على النقود التى يريدها. وبيع الأجل (النسيئة) فى حد ذاته لابأس به طالما تم بشروطه الشرعية كما أن من المعروف أن الثمن الآجل (غالباً) أكبر من الثمن الحاضر. لكن الأمر الهام هو : كيف سيجرى التورق ؟ هل يبيع المتورق السلعة التى اشتراها بالأجل إلى نفس البائع الذى باعها له ؟ أم لشخص آخر ؟
* هاتان حالتان مختلفتان:
* الحالة الأولى : ذهب جمهور الفقهاء الى أن قيام الشخص ببيع السلعة إلى نفس بائعها الأول هو بيع العِينة الذى ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى فيه مذلة للمسلمين . فالمتورق هنا أصلاً يريد سيولة نقدية ولم يكن يستطيع أن يحصل عليها إلا بربا (وهذا يدل على ضياع المروءة بين المسلمين وتغلب الأثرة وحب المال على نفوسهم) فاعتقد أنه إذا اشترى سلعة بالنسيئة من شخص ما ثم باعها له نفسه بيعاً حاضراً بثمن أقل فقد حصل على بغيته من النقود دون الوقوع فى مصيبة الربا . والمتورق خاطئ والبائع الذى باعه بالأجل ثم اشترى منه نفس السلعة وفقاً للثمن الحاضر خاطئ حيث تمخضت العملية عن حصول المتورق من البائع على مقدار من النقود حالاً مقابل دين أصبح فى ذمته يفوق هذا المقدار ، ومقدار الزيادة هو الفرق بين الثمنين الحاضر والآجل .ولايختلف هذا عن القرض الربوى ، بالرغم من أنه تم بتوسيط بيعتين كلتاهما حلال! والقول فى بعض مصادر الفقه (الفروع لابن مفلح : ج 6 / ص 467) "وَلَوْ احْتَاجَ إلَى نَقْدٍ فَاشْتَرَى مَا يُسَاوِي مِائَةً بِمِائَتَيْنِ فَلا بَأْسَ" لايشمل هذه الحالة قطعاً.
* الحالة الثانية أن يقوم المشترى بالأجل ببيع السلعة فى السوق الى شخص آخر وهو بمثابة "طرف ثالث" فى عملية التورق هذه . وفى هذه الحالة ثمة تفرقة ضروررية بين وضعين :
(1-الوضع الأول) أن يكون للطرف الثالث علاقة ببائع السلعة الأول ( وكالة أو شراكة فى التجارة) ، وقد يتم البيع له بصفة مباشرة من المتورق ، أو بواسطة طرف رابع (بطريق الوكالة) . وأياً كان التصرف ؛ تم البيع مباشرة الى الطرف الثالث أو تم له البيع بوساطة **** أو أكثر فإن المتورق أصبح مديناً بالثمن الآجل للسلعة للبائع الأول وقد تسلم حالاً مقداراً أقل من النقود هو الثمن الحاضر للسلعة ، من خلال وسطاء لهذا البائع . هذا الوضع فى الحالة الثانية لايختلف فى جوهره عن الحالة الأولى (السابقة) ، فهو بيع عِينة مذموم، سواء كان الطرف الثالث شريكاً للبائع الأول فى تجارته أو****اً عنه فى البيع والشراء ، أو قام المتورق بالبيع لهذا الطرف الثالث بواسطة **** له .
وقد يدعى البعض أن التحايل الذى تضمن نية عدم الوقوع فى الربا أفضل من مباشرة الربا صراحة . وربما كان هذا صحيحاً فى حالات فردية اضطرارية ، ولانقول إلا "ربما" لأن الله عز وجل وحده هو العليم بالنوايا (قل إن تخفوا مافى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله : آل عمران ؛29) . أما إذا ذاعت ممارسات التورق وانتشرت فإن مساوئ هذا التحايل على الربا فى التورق ستكون أكبر من مساوئ التعامل بالربا مباشرة. ذلك لأن الناس الذين يتحايلون يظنون أنهم بعيدون عن الحرام فيتمادون فى ممارسات ربوية مدمرة فتتفاقم البلوى بينما أن الآثار الاقتصادية والاجتماعية المدمرة للربا واقعة فى الحالتين لامحالة ، جاهر الناس بالربا أو أخفوه وراء ستار البيع ( قال عز من قائل "يمحق الله الربا" من الآية 276 البقرة) . وأثم بيع التورق هذا لايختلف عن أثم الربا في رأينا ، فهو أكل مال بالباطل . ولقد عالج الفقهاء هذه الحالة للتورق تحت مسمى بيع العينة. والأثم فى هذه المعاملة يقع مؤكداً على البائع الأول حيث يعلم أن البيعتين الأولى والثانية تحققتا لصالحه وأنه ترتب عليهما معاً دين فى ذمة المتورق يفوق ماتسلمه من نقود حالاً. أما بالنسبة للمتورق الذى تحايل للحصول على مقدار من النقود مقابل دين فى ذمته يفوق هذا المقدار فأثم الربا واقع فى حقه إذا علم بأن الطرف الثالث الذى اشترى منه السلعة بثمن حاضر إنما كان ****اً أو شريكاً لمن اشترى منه هو السلعة أولاً بثمن آجل . أما إن لم يكن يعلم بحقيقة الأمر فهو لم يقع فى الربا عمداً فذنبه أهون أوهو غير مذنب أو والله أعلم (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً ؛ مسند أحمد- (ج 44/ ص 439) ورجال أحمد رجال الصحيح وأخرجه الطبرانى فى الكبير ؛ المنذرى ، الترغيب والترهيب - كتاب البيوع ، ج 4 / 2711) .
وجاء في (الشرح الكبير لابن قدامة - ج 4 / ص 46-45) أنه " روي عن أحمد أنه قال فإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة فقال أحمد في رواية حرب لا يجوز إلا أن تتغير السلعة لان ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فهي كمسألة العينة، فان اشتراها بسلعة أخرى أو بأقل من ثمنها أو بمثله نسيئة جاز لما ذكرنا في مسألة العينة، وان اشتراها بنقد آخر بأكثر من ثمنها فهو كمسألة العينة ،على ما ذكرنا من الخلاف، قال شيخنا ويحتمل أن يكون له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه إذ لم يكن ذلك عن مواطأة ولا حيلة بل وقع اتفاقا من غير قصد لان الاصل حل البيع وانما حرم في مسألة العينة للاثر الوارد فيه وليس هذا في معناه لان التوسل بذلك أكثر فلا يلحق به ما دونه". قال " وفي كل موضع قلنا لا يجوز له ان يشتري لا يجوز ذلك ل****ه لانه قائم مقامه ويجوز لغيره من الناس سواء كان أباه أو ابنه أو غيرهما لانه غير البائع اشترى بنسيئة أشبه الاجنبي"
(2 – الوضع الثانى) أن يبيع المتورق فى السوق لطرف ثالث لاعلاقة له ( من مشاركة أو وكالة) اطلاقاً بالبائع الأول الذى باعه السلعة نسيئة . فإذا تم البيع فى السوق بصفة مباشرة، أو بوكالة من قبل المتورق ، زالت شبهة بيع العينة المذموم فى حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . فيحصل المتورق على النقود التى يريدها حالاً مقابل السلعة التى باعها للطرف الثالث.وهذه حالة لاتتضمن أى تصرف مخل بالبيع الذى أحله الله عز وجل طالما استوفيت شروط البيع الصحيح فى البيعة الأولى التى تمت بالنسيئة والثانية التى تمت فى السوق بالسعر الجارى . والتورق تم هنا بطريق الاستدانة حيث المتورق يظل مديناً للبائع الأول بالثمن الآجل للسلعة الى أن يسدده. إلا أن هناك اسباب وجيهة لكراهية هذه المعاملة من المنظور الاجتماعى والأخلاقى الاسلامى. ذلك لأنه إذا كان من يريد التورق فى حاجة ماسة للنقود بسبب ظروف اضطرارية قاهرة فكيف لم يجد عوناً فى أموال الزكاة أو يجد قرضاً حسناً من أخوانه ؟ ، اين خلق الاسلام والمسلمين ؟ وفى هذا المعنى نقتطف من مسند أبي يعلى الموصلي (ج 11 / ص 415) " حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا إسماعيل ابن علية ، عن ليث ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : قال ابن عمر : أتى علينا زمان وما نرى أن أحدنا أحق بالدنانير والدراهم من أخيه المسلم، حتى كان هاهنا بأخرة (أي في الزمن المتأخر) ، فأصبح الدنانير والدراهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا ضن الناس بالدراهم والدنانير وتبايعوا بالعِينة واتبعوا أذناب البقر(انشغلوا بالحرث والمقصود المبالغة فى الانشغال) ، وتركوا الجهاد ، بعث الله عليهم ذلاً ، ثم لا ينزعه عنهم ، حتى يراجعوا دينهم"
أقوال الفقهاء في بيعتين إحداهما آجلة للحصول على سيولة نقدية:
ورد فى امهات كتب الفقه منذ زمن بعيد هذه الحالات التى عرضناها ، ووجدنا فى بعضها أن التورق أو العِينة (أياً كان المصطلح المستخدم للحصول على سيولة نقدية بطريق بيعتين احداهما آجلة) جائز فى حالات و غير جائز وحرام فى حالات.
فى حاشية رد المحتار (ج 5 / ص 405) يقول " اختلف المشايخ في تفسير العِينة التي ورد النهي عنها". فقال بعضهم فى تفسيرها: "أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ويستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض في الاقراض طمعا في فضل لا يناله بالقرض فيقول لا أقرضك ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشر درهما وقيمته في السوق عشرة ليبيعه في السوق بعشرة فيرضى به المستقرض فيبيعه كذلك، فيحصل لرب الثوب درهمان وللمشتري قرض عشرة".
وفى نفس المصدر (حاشية رد المحتار : ج 5 / ص 461) قال :" فيأتي إلى تاجر فيطلب منه القرض ويطلب التاجر منه الربح ويخاف من الربا فيبيعه التاجر ثوبا يساوي عشرة مثلا بخمسة عشر نسيئة فيبيعه هو في السوق بعشرة فيحل له العشرة ويجب عليه للبائع خمسة عشر إلى أجل". أضاف: "أو يقرضه خمسة عشر درهما ثم يبيعه المقرض ثوبا يساوي عشرة بخمسة عشر فيأخذ الدراهم التي أقرضه على أنها ثمن الثوب فيبقى عليه الخمسة عشر قرضا". وذكر أيضاً من صور العينة : "أن يعود الثوب إليه كما إذا اشتراه التاجر في الصورة الاولى من المشتري الثاني ودفع الثمن إليه ليدفعه إلى المشتري الاول، وإنما لم يشتره من المشتري الاول تحرزا عن شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن". وبالرغم من هذه الممارسات التى تبدو فى ظاهرها جائزة شرعا أضاف "وقال محمد: هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم اخترعه أكلة الربا، وقد ذمهم رسول الله (ص) فقال: إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظهر عليكم عدوكم أي اشتغلتم بالحرث عن الجهاد. وفي رواية " سلط عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لكم". "ثم قال في الفتح ما حاصله: إن الذي يقع في قلبي أنه إن فعلت صورة يعود فيها إلى البائع جميع ما أخرجه أو بعضه كعود الثوب إليه في الصورة المارة وكعود الخمسة في صورة إقراض الخمسة عشر فيكره: يعني تحريما فإن لم يعد كما إذا باعه المديون في السوق فلا كراهة فيه، بل خلاف الاولى، فإن الاجل قابله قسط من الثمن والقرض غير واجب عليه دائما بل هو مندوب، وما لم ترجع إليه العين التي خرجت منه لا يسمى بيع العينة لان من العين المسترجعة لا العين مطلقا، وإلا فكل بيع بيع العينة".
وفى تحفة المحتاج في شرح المنهاج- (ج 17 / ص 185) قال يكره "َكُلِّ بَيْعٍ اُخْتُلِفَ فِي حِلِّهِ كَالْحِيَلِ الْمُخْرِجَةِ عَنْ الرِّبَا" وذكر ضمن ذلك بيع العينة ، ثم أتى بتعريفها(ج 17 / ص 186 ) وهو " أَنْ يَبِيعَهُ عَيْنًا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ مُؤَجَّلٍ وَيُسَلِّمُهَا ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ أَيْ بِنَقْدٍ يَسِيرٍ لِيَبْقَى الْكَثِيرُ فِي ذِمَّتِهِ وَنَحْوُهُ ". وهذه هى الحالة التى على تحريمها جمهور الفقهاء.
ثالثاً : التورق الذى تمارسه بعض المصارف بشكل منظم تحت مسميات اسلامية
هناك مايشبه نموذج عام للتورق ( وهو ليس بالوحيد) الذى تمارسه بعض البنوك تحت المظلة الاسلامية ، نعرضه فيما يلى:
• يقوم البنك بشراء كمية من سلعة (أو سلع ) لحسابه لغرض برنامج التورق الذى يعلن عنه ( وقد يقوم البنك بعملية الشراء بناء على طلب العملاء) . والمعروف أن عمليات الشراء تتم عن طريق وكلاء للبنك ومن السوق الدولية ( وأغلب السلع التى يشتريها البنك من المعادن والتى لاتشمل الذهب أو الفضة واشهر اسواقها فى لندن : London ****l Market) وبعد الشراء تبقى كمية السلعة في المخازن الدولية مع شهادة تخزين تحررها الشركة البائعة للبنك بما يفيد امتلاكه للسلعة ومكان تخزين ورقم صنفها وكميتها ومواصفاتها.
• يعلن البنك عن استعداده لتلبية طلب العملاء الذين يرغبون فى التورق أى "الحصول على سيولة نقدية" عن طريق بيعه لهم "بالأجل" من كمية السلعة (السلع) الموجودة فى مخازنه ، أو التى يشتريها لهم بناء على أمرهم لنفس الغرض.
• تتحدد العلاقة بين البنك والمستورق من خلال اتفاقية " شروط وأحكام البيع بالتقسيط " ، والتى تعتمد على احكام عقد المرابحة للآمر بالشراء أو عقد البيع الآجل.
• يقوم البنك بتحرى حالة العميل المالية و التأكد من مقدرته الوفائية حيث يترتب على بيع الأجل التى يلازم عملية التورق بالضرورة دين فى ذمة العميل.
• يحرر العميل المستورق طلب شراء لكمية من السلعة من خلال أنموذج يعده البنك سلفا ، وتتحدد هذه الكمية فى شكل متناسب مع مقدار النقود الذى يطلبه.
• يقبل العميل المستورق ، و يعلم مقدماً بأن السعر الآجل الذى يبيع به البنك السلعة له أكبر من السعر الذى سوف يحصل عليه من اعادة بيع هذه السلعة لحسابه ، وأن البنك هو الذى سوف يتولى عملية اعادة البيع هذه فى السوق الحاضر بموجب عقد وكالة ، ( بعد شراء العميل وقبضه للسلعة).
• سواء تم البيع للعميل بعقد مرابحة أو بعقد بيع آجل فانه يتم حساب ثمن السلعة على اساس التكلفة الفعلية ( سعر السوق الذى اشترى به البنك السلعة) مضافاً اليه هامش ربح البنك ( الذى يسترشد فيه بسعر الفائدة السائد) ويصبح العميل مديناً للبنك بهذا الثمن يسدده على اقساط يتفق على قيمة الواحد منها ومدة السداد.
• المفروض شرعاً أن يعاين العميل (المشترى) السلعة بعد شرائها من البنك وقبل اعادة بيعها لصالحه ، إلا أن واقع الممارسات المصرفية للتورق يتمثل فى قيام العميل بت**** البنك فى قبض السلعة له ويصبح هذا حائزاً فعلياً لها بالقبض الحكمى.
• يتوسط البنك للعميل المستورق فى بيع نفس كمية السلعة التى باعها له وذلك بطريق الوكالة فى السوق الحاضر ، أى بالسعر الجارى . ويتحمل العميل التقلبات المحتملة فى الاسعارعند بيع سلعته. والغالب أو المعتاد فى الممارسات العملية أن يتم عملية البيع عن طريق وكلاء للبنك يكلفهم بذلك ،ولقد تمت عمليات تورق كثيرة بطريق وكلاء فى الخارج من خلال سوق لندن للمعادن .
• يتسلم العميل من البنك النقود التى تحصلت من البيع ، وذلك عن طريق ايداع البنك لهذه النقود فى حسابه الخاص . ويتحمل العميل المصروفات الادارية للوكالة التى لزمت لاتمام العملية
• يسدد العميل بعد ذلك دينه للبنك الذى ترتب على عملية التورق ، وذلك وفقاً لشروط اتفاقية البيع بالتقسيط (حسبما تم الاتفاق بالنسبة لمقدار القسط ولفترة السداد)
المناقشة والتحليل:
لا يتفق التورق المصرفى مع التورق التقليدى الذى تناوله معظم فقهاء المسلمين قديماً إلا فى معناه العام والذى يعنى قصد تحقيق سيولة نقدية لشخص محتاج اليها بطريق بيع سلعة اشتراها بالأجل . ولقد اُجيز التورق التقليدى فى حالة واحدة وهى عدم اعادة بيع السلعة بثمن أقل لمن اشتريت منه ،
وكُرِهَ فى حالات خُشى فيها أن يكون ذريعة الى الربا بطريق التواطؤ أو التحايل وحُرِّمَ فى حالات أخرى لم يختلف فيها البتة عن العينة المذمومة التى يستفيد فيها بائع السلعة بالأجل من بيع مشتريها مرة ثانية بثمن أقل فيصبح فيها البيع الذى أحله الله وسيلة لأكل الربا . لذلك فإن الحرص على ديننا وعلى سمعة و مستقبل المصرفية الاسلامية يحتم علينا أن نتبين حقيقة مايجرى الآن فى عدد من البنوك تحت المظلة الاسلامية تحت مسمى التورق.
إن بحث حالة التورق المصرفى تشير الى أن :
1- وجه الاتفاق القائم بين التورق التقليدى والتورق المصرفى لايزيد عن المعنى العام للتورق وهو أنه طلب لسيولة نقدية يتحقق من خلال شراء الشخص سلعة بالنسيئة ثم بيعها حالاً ، مما يعنى ثبوت دين فى ذمته مقابل النقود التى يحصل عليها. أما تفاصيل واجراءات العملية فمختلفة تماما وهى التى تلزم الآن للحكم على التورق المصرفى كما كانت تلزم فى ما مضى للحكم على التورق أو العينة .
2- فى حالة التورق التقليدى يمكن أن تنتهى علاقة بائع السلعة الأول (البائع بالأجل وهو الدائن) بالمتورق بثبوت دين فى ذمته فقط ، إذا قام هذا المتورق ببيع السلعة حاضراً فى السوق لشخص آخرلاعلاقة له بالبائع الأول ودون أى تدخل منه ، لافى مساعدة ولاوساطة . وهذا مما ينفى شبهة الربا عن التورق فى هذه الحالة خصوصاً . أما فى التورق المصرفى المعاصر فإن علاقة بائع السلعة بالنسيئة وهو البنك ، تستمر مع مشتريها ، وهو العميل المتورق حتى يعيد بيع السلعة التى باعها له فى السوق (بشكل مباشر أو بوكالة) بثمن حاضر. وهذه الحالة تقارن فى شكلها الظاهر من حيث اجراءاتها بحالات التورق التقليدى التى قام فيها البائع بالأجل بمساعدة مشترى السلعة لبيعها فى السوق)غالباً بثمن أقل) . وهذه الحالة كُرِهَّت عند من رأوا فيها ذريعة قد تؤدى الى الربا . فلماذا يتدخل أو يتوسط البائع بالنسيئة لإعادة بيعها فى السوق ؟ هل له مصلحة فى هذه البيعة الثانية ؟ إذاً فهناك ذريعة للعينة المذمومة لابد من سد بابها حتى لايصبح التورق مجرد شكل ظاهر يختفى وراءه حصول المشترى بالأجل على مبلغ من النقود يثبت فى ذمته كدين "بزيادة" مقابل النسيئة لصالح البائع الأول . بل أن البعض من أهل العلم ذهب الى التأكيد بأن هذه الحالة ليس فيها سوى الربا المحض . ففى كتاب المصنف لعبد الرزاق بن همام الصنعاني ( ص٢٩٥ ، الجزء الثامن، باب الرجل يعين الرجل هل يشتريها منه أو يبيعها لنفسه - ص ٢٩٤) : " حدثنا سعد بن السائب بن يسار قال : أخبرني عبد الملك بن أبي عاصم أن أخته قالت له: إني أريد أن تشتري متاعاً عِينة فاطلبه لي، قال : قلت: فإن عندي طعاماً ، فبعتها طعاماً بذهب إلى أجل واستوفَته، فقالت : انظر لي من يبتاعه مني، قلت : أنا أبيعه لك، قال : فبعته لها، فوقع في نفسي من ذلك شئ، فسألت سعيد بن المسيب فقال : انظر أن لا تكون أنت صاحبه ؟ قال : قلت: فإني صاحبه، قال : فذاك الربا محضاً، فخذ رأس مالك واردد إليها الفضل".
3- إن البنك يجرى عملية التورق "كمُنْتَج مصرفى" من الألف الى الياء ؛ فهو يقوم بالترويج للتورق بالإعلان عنه وبيان ميزاته(؟) من حيث توفير السيولة النقدية للعملاء ، ويقبل طلبات العملاء المستورقين ويدرس حالاتهم المالية ومقدراتهم الوفائية ، ويقوم البنك بقبض السلعة المباعة بالوكالة عن المتورق وإعادة بيعها أيضاً بالوكالة عنه ، مقابل دفع المتورق للمصروفات اللازمة . وهذا التنظيم والجمع الشامل لاجراءات التورق لم يحدث من قبل ، ولم يرد مايشابهه من بعيد أوقريب فى ممارسات التورق التقليدى أو العينة . إن البنك مؤسسة استجدت لم تكن موجودة على هذا النحو قديماً ونشاطها ، ومعروف أن ربح البنك مترتب عل بيعه "خدمات مصرفية" ، ومعروف أن بيع الخدمة لايختلف عن بيع السلعة من حيث االنشاط الذى يستهدف الكسب (قديماً أو حديثاً). لذلك لايصح أن يفهم أن البنك يقدم خدمات للمتورقين من خلال عمليات شراء وبيع ووكالة الى آخر ذلك بدون مقابل سوى مايترتب علي هذه الخدمات من مصروفات. لا ليس هكذا ، بل أن هذه وظيفة مصرفية مرتبطة بمنتج يعرضه البنك ، ويتطلب استمرار هذه الوظيفة الخدمية من الجهة المصرفية المحضة (لانتكلم عن حلها أو حرمتها) تحقيق ربح منها . ونقصد بهذا البيان أن عمليتى بيع سلع بالنسيئة ثم اعادة بيعها فى الاسواق مرتبطتان ولاتنفكان عن بيع الخدمة المصرفية الخاصة بهما. فالتورق المصرفى منتج يحتاج اخراجه لهذا التكامل بين بيع السلعة والخدمة . لذلك نقول أن التورق المصرفى يشمل بيعتان لاتتمان إلا بثالثة : بيع السلعة بالنسيئة ثم إعادة بيع السلعة فى السوق الحاضر، ولاتتم هاتان إلا ببيع الخدمة المصرفية. وإنه لمن قبيل التضليل حقاً أن يقال بأن البنك مجرد وسيط فى البيعة الثانية للسلعة ولامنفعة له فيه وأنه لاعلاقة لهذه البيعة الثانية بالأولى سوى اتمام عملية التورق لصالح العميل. إن تنظيم التورق المصرفى على النحو المذكور يؤكد استفادة البنك من البيعتين الأولى والثانية لنفس السلعة وذلك بواسطة بيع الخدمة المصرفية التى لاتنفك عن أى منهما . ولاشئ يقارن ذلك أو يفوقه فى بيع العينة المذموم الذى عرف فى قرون مضت. والحقيقة أن التورق المصرفى يتم فى اطار "بيع مصرفى متكامل" ولا يترتب عليه إلا دين يثبت فى ذمة المتورق، دين فيه زيادة بسبب الأجل. وحيث الأمر كذلك تثبت قضية القرض يجر نفعاً وهى الأساس فى الربا . وفى المبسوط - (ج 16 / ص 369 ) " َذُكِرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ : أَقْرِضْنِي فَيَقُولُ : لا حَتَّى أَبِيعَكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إثْبَاتَ كَرَاهَةِ الْعِينَةِ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ لِيَبِيعَهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِعَشَرَةٍ فَيَحْصُلَ لِلْمُقْرِضِ زِيَادَةٌ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً ". إن الاختلاف فقط بين ماقاله الشَّعْبِيِّ فيما مضى من الزمان وماهو حادث الآن لايتعدى اختلاف فى الألفاظ ، فالمتورق يأتى البنك وليس فى قصده سوى طلب السيولة النقدية وهو قابل ومستعد مسبقاً ان تتحقق هذه بطريق المديونية للبنك وبجميع الاجراءات التى يطلبها منه البنك دون أن يعنيه أى شئ من تفاصيلها حتى يتحقق له مايريد ! وفى الواقع فإن هذا القرض الذى يحصل عليه المتورق لايختلف فى شروطه عن أى قرض يمكن الحصول عليه من بنك ربوى. ذلك لأنه بينما يحصل المتورق على نقود تساوى بالتقريب سعر السوق للسلعة التى بيعت له بالأجل فإن سعر الأجل هذا يتم تحديده (وفقاً لعقد بيع المرابحة للآمر بالشراء أوعقد البيع الآجل) بسعر السوق مضافاً اليه مايسمى بربح البنك والذى يتساوى مع سعر الفائدة !
4- عملية التورق المصرفى تشمل بطبيعة تنظيمها عدة شروط ؛ فيها شرط شراء المتورق السلعة من البنك بثمن وقبوله بيعها له بثمن أقل ( وما هو المبرر الشرعى لهذا القيد فى الثمن ؟ علماً بأن احتمالات تساوى الثمن الآجل مع الثمن الحاضر أو الجارى أو حتى انخفاضه عنه قائمة فى السوق) وفيه شرط ت**** المشترى (المتورق) البنك فى اعادة بيع السلعة ، وفيه اشتراط عدم فسخ الوكالة ( خالد بن على المشيقح؛ التورق المصرفى عن طريق بيع المعادن : موقع الانترنت
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/attach...8&d=1092969928 )
هذه شروط وإن ادعى البعض أنها ليست بشروط لأنها غير مكتوبة فى العقود ، فهى تقوم عملياً وفعلياً مقام الشروط التى لاتتم العملية إلا بها. إذاً فثمة دليل من السنة النبوية أن التورق المصرفى بوصفه الفعلى لايمكن أن يتم إلا فى اطار ماحرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لايحل سلف وبيع ، ولاشرطان فى بيع" ( أخرجه الأمام أحمد و أبو داود فى البيوع :باب الرجل يبيع ماليس عنده والترمذى فى البيوع وقال حسن صحيح - باب كراهة بيع ماليس عندك) . فالتورق المصرفى هذا الذى لاينفك أصلاً عن بيع وشروط يترتب عليها دين فى ذمة المتورق.
5- المتورقون مشاركون فى تهمة الربا حيث لايبالون إلا بالنقود التى تتحصل لهم وتودع فى حساباتهم فى النهاية من وراء عمليات شراء ثم بيع ووكالة . هم لايكترثون أى سلعة يشترون أو من أى نوعية أو كيف تتم عملية البيع لما حازوه بالشراء الأول. فالمتورق يشترى سلعة موجودة فى مخزن بشهادة تخزين ولايراها ولايقبضها إلا قبضاً حكمياً ولايبيعها إلا بت**** للبنك الذى بدوره يوظف وكلاء فى ذلك. كل هذا يفتح الباب واسعاً لمعاملات قائمة على الأوراق فقط مما يشجع المعاملات الصورية فى اسواق السلع . وكل هذا يؤكد أولاً وآخراً أن المستورق بطريق البنوك لايبغى سوى قرضأ ، لايختلف عن القرض بفائدة سوى أنه أكثر تكلفة لأنه معقد بالمستندات التى تحاول اخفاء حقيقته الربوية ( أو لايعلم هؤلاء "إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)" آل عمران) . لقد اساءت البنوك الممارسة للتورق الفتوى الخاصة بشرعية القبض الحكمى للسلع كما اساءت استخدام عقد الوكالة ، والمتورقون على علم بهذا فليس لهم عذر.
6- فى التورق التقليدى فيما مضى ، حتى مع وجود شبهة الربا فى حالات أو جريمة الربا فى حالات أخرى لم نقرأ أن أحداً من البائعين بالنسيئة الدائنين طالب المتورق المتعسر بزيادة أخرى إذا تأخر فى سداد دينه الثابت فى ذمته . فالمدين إن أعسر وجب انظاره حتى يتيسر (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ :البقرة280)، أما فى التورق المصرفى فإنه إذا تأخر العميل المتورق فى سداد بعض اقساط دينه المستحق لايتوانى البنك (وهو البائع الدائن) فى فرض غرامة تأخير اضافية عليه (مثلما هو الحال فى بيع المرابحةعند تعذر السداد) . هذه الغرامة التى تجعل الربا الأول يرتقى الى مرتبة الربا المضاعف (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، البقرة 130) تُبرر بحجج مختلفة غير مستساغة شرعاً منها أنها تنفق على أوجه الخير ولاتدخل فى حسابات البنك (وكيف تنفق فى أوجه الخير؟ وفى الحديث عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"ً ؛ مسلم والترمذي والدارمي وأحمد وآخرون : المقاصد الحسنة - (ج 1 / ص 65 )
7- إن التورق المصرفى ليس اطلاقاً بالسبيل المحمود للحصول على السيولة النقدية سواء كانت هذه لغرض استهلاكى أو انتاجى. ولاجدال أن الطلب على النقود له مبرراته الاقتصادية ، ولكن حينما تطلب النقود بطريق التورق فمسألة مختلفة خاصة حيث تكون شبهة الربا قوية أو مؤكدة. فما هى مبررات الطلب على السيولة النقدية من جهة المستورق ؟ هل هى مبررات اقتصادية رشيدة من الجهة الاسلامية ؟؟... وفى مجال الترويج للتورق المصرفى تجد اعلانات مثل: "تحقق لك هذه الصيغة الرائدة إمكانية الحصول على سيولة نقدية بسرعة فائقة ، لتقضي بها حاجاتك المعيشية ، بالطريقة التي تفضلها " (تورق التيسير) و "أحصل في حسابك على السيولة النقدية التي تحتاجها ، وأنعم براحة البال مع تمويل التورق المبارك " ونجد كذلك " يمكنك من الحصول على السيولة النقدية، لتلبية احتياجاتك ، مهما كانت"( مال) . وهذه الاعلانات أو ما يماثلها إذا اخذت بحذافيرها لاتؤيد ولاتدعم قضية الرشد فى الانفاق بالمفهوم الاقتصادى الاسلامى (لاحظ ماتحته خط من العبارات ،ولايحتاج الأمر لمزيد من الكلام خاصة عبارة لتلبية احتياجاتك مهما كانت !) .... ولتحليل طلب المتورق عل النقود نقول :
• إذا كان الشخص يتورق ليقضى ضرورات معيشية لنفسه أو لأهله (راجع المفهوم الشرعى للضرورات الخمس عند الامامين الغزالى والشاطبى ) فإن له عذراً فى ذلك. ولكن هل استنفد كل الطرق لكى يحصل على مايواجه به ضرورات حياته من أقارب أواصحاب أو جيران له؟ ألم يجد من يبيع له سلعة بالأجل ثم يتركه ليبيعها فى السوق دون وساطة فيحقق اقصى مصلحة ممكنة لنفسه دون التعرض لتهمة الربا؟ ولابد أن تكون المروءة قد ذهبت من المسلمين حتى يلتجأ الى التورق المصرفى بالذات ، أى هذا الذى يتم عن طريق بنك ويعلم أنه يتحايل من خلاله ليحصل على قرض ربوى فى النهاية؟
• إذا كان الشخص يتورق لغير ضرورة أوحاجة اساسية لمعيشته أو لمن يعول فإن التورق هنا من قبيل السفه فى التصرفات وليس فقط من قبيل المعصية . ذلك أن الدَيْن فيه أصلاً مذلة لمن يطلبه ويبقى فى عنق المرء وإن مات شهيداً ،إلا أن يسدده أو يُسدد عنه. فما بالك بالربا على دَين كان بامكانه الاستغناء عنه أصلاً؟ وفى صحيح البخاري - (ج 8 / ص 79) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ
• إذا كان الشخص ذو خبرة فى التجارة ويريد التورق لأجل نشاطه فلماذا لا يحقق السيولة النقدية المطلوبة بطريق عقد سلم ؟ فيحصل به على النقود التى يريد مقابل الالتزام بتسليم صفقة سلعية بعد فترة زمنية يتفق عليها؟ أليس هذا بعقد شرعى يغنيه عن تورق يوقعه فى مديونية مذمومة وغير محمودة العاقبة اقتصادياً ؟
• إذا كان المتورق يستهدف مبلغاً كبيراً من النقود يستثمره فى مشروع جديد أو لأجل التوسع فى مشروع قائم فإنه يسلك بالتورق المصرفى طريقاً لاتُحمد عاقبته لا من الجهة الشرعية ، كما سبق البيان، ولا من الجهة الاقتصادية حيث ترتفع مخاطرته. فإذا قلنا أن هذا المستثمر ذو خبرة وكفاءة فى مجال الاستثمار فسوف يجد بنكاً اسلامياً يمول نشاطه بوسائل عديدة مثل المشاركة المتناقصة أو المضاربة ، أوغير ذلك. أما إن لم يكن هذا الشخص كفؤاً للقيام بالنشاط الاستثمارى فمخاطرته ضخمة بالتورق الذى يتيح له الحصول على التمويل بطريق المديونية. ولنا فى هذا المجال أن نقارن بين التورق المصرفى والتمويل بالفائدة الذى فى مجالات النشاط الانتاجى حيث تجتمع مخاطرة الربح أو الخسارة مع مخاطرة الدين (مع ما تقرر من زيادة ربوية). فالمتورق قد لايتمكن من الوفاء بدينه فى وقته أو اطلاقاً فى حالة عدم تحقق ربح أو وقوع الخسارة ، فما هو الفرق ؟
• بعض البنوك الاسلامية التى لاتُقِر هيئتها الشرعية التورق المصرفى تسمح به استثناء إذا كان المتورق يقصد بالسيولة التى يحصل عليها انهاء ديون عليه أومتعلقات فى ذمته تجاه بنوك ربوية ويريد فتح صفحة جديدة فى معاملات (مصرفية) اسلامية. ويقول المدافعون عن هذا الاستثناء أن المستورق فى هذه الحالة يبغى التوبة ! ونريد أن نعرف متى اصبحت البنوك الاسلامية هى التى تقبل التوبة عن العباد؟ وماذا إذا عاد المتورق الى ماكان عليه ثم تاب مرة أخرى ؟ هل تقبل توبة المتورق وإن عاد وإن عاد ؟ فإذا فعلت فلافرق بينها وبين تلك البنوك التى أجازت التورق وتمارسه . وإن قالت التوبة مرة واحدة فقط تكون قد أخلت بمفهومها ! والحقيقة أن هذه الاستثناء بهذه الحجة يعوزه المنطق الشرعى ، خاصة أنه إذا تأكد أن التورق المصرفى ربوي بصفته ( كما تقرر هيئة الرقابة الشرعية فى هذه البنوك) فانه لايجوز استخدامه فى تصفية معاملات ربوية وإلا فلماذا لانعالج الزنا بالزنا والسرقة بالسرقة مرة واحدة على سبيل الاستثناء ؟ أنه منطق أعوج.
8- إن التورق المصرفى "منتج ردئ" Inferior Product سواء من الناحية الوضعية أو من الناحية الاسلامية. ولشرح هذا لابد من أن نتناول حالتين : بنك تقليدى لايبالى بالشريعة الاسلامية وبنك يعمل وفقاً لقواعد الشريعة الاسلامية ويسترشد بمقاصدها ، ويستهدف التوسع فى الأجل الطويل على هذه الأسس . فإذا كان الأول فإن ذوى الخبرة المصرفية التقليدية سيقولون لنا إن التورق المصرفى سبيل سخيف ومعقد لتحقيق السيولة النقدية للعملاء أو الربح للبنك ، هناك ماهو أبسط من التورق وأكفأ منه من الجهة المصرفية المحضة ، هناك القروض أوالسلفيات والتسهيلات الائتمانية بأشكالها المختلفة وهناك قواعد معروفة للتعاملات فيها على أساس نظام الفائدة الربوى والضمانات . أما إذا كان البنك يدعى التمسك بالقواعد الشرعية الاسلامية فى المعاملات فلابد من أن يعرف أن التعامل فى منتج " سيئ السمعة" كما يسميه معبد الجارحى (مقال بعنوان التورق المنظم ) لن يؤدى إلا لفقدان الثقة في الهوية الاسلامية لهذا البنك. فإذا حدث هذا فقد البنك أعز مايملك ! وفقد بالتالى معظم اصحاب الحسابات الاستثمارية الذين وثقوا فى شرعية نشاطه ، فلم هذه المخاطرة الكبرى التى قد تمتد آثارها و تلحق خسارتها بالبنوك الاسلامية عموماً؟.( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ :الانفال (25). والحقيقة أن التورق المصرفى كما يمارس ليس مجرد منتج سئ السمعة بل هو "منتج ردئ" لأن تكلفته المباشرة مرتفعة بالنسبة للسيولة النقدية المستهدفة من وراءه ولأن تكلفة الفرصة البديلة له باهظة من الناحية الاسلامية حيث توجد بدائل اسلامية أفضل بكثير لاستثمار الموارد المالية المصرفية المتاحة ؟ ألم تثبت التجربة المصرفية الاسلامية أن الاعتماد على عقود المشاركة المتناقصة والاجارة والاستصناع والسلم أمكن من توظيف الموارد التمويلية بطرق خالية من الربا فى قطاعات انتاجية عديدة ؟ (خاصة فى التجربة المصرفية الاسلامية الخليجية العربية) اليس فى الابحاث مايؤكد امكانية زيادة الاعتماد على هذه العقود وكذلك احياء المضاربة فى مجالات التوظيف الانتاجى للموارد التمويلية النشاط وذلك لخدمة قضية التنمية الاقتصادية فى العالم الاسلامى؟ (عبد الرحمن يسرى“ Islamic Banking Modes of Finance : Proposals for Further Evolution”, in Munawar Iqbal and Rodney Wilson (editors) Islamic Perspectives on Wealth Creation, Edinburgh University Press, 2005. ) لماذا يُستحدث منتج مصرفى جديد يلعب دوراً مضاداً لهذه العقود؟ لماذا يتغير مسار القضية المصرفية الاسلامية وبدلاً من استخدام النقود لخدمة الانتاج تصبح مهمة البنوك تسليف النقود لغرض النقود وتصبح قضية الديون مرة أخرى هى القضية الاساس ! ويقول معبد الجارحى (التورق المنظم : ص 27) " أنه عند حدوث الإعسار المؤقت، ومع شيوع التورق المؤسسي، قد يجد المدين نفسه مرغما على أن يتورق لسداد دينه، وسيرغمه البنك على ذلك، لأنه سوف يجد في ذلك فرصة لزيادة أرباحه. وبالتالي تزيد قيمة الدين مقابل زيادة الأجل. وقد يتكرر التورق عدة مرات، ويتزايد الدين في كل مرة". لاشك أن الترويج لمنتج مثل التورق لدى بنوك اتخذت لنفسها الصفة الاسلامية مسألة تخرج عن نطاق الكفاءة المصرفية لهذه البنوك تماماً . أن هذا المنتج الردئ ورواجه يقلب قضية المصرفية الاسلامية رأساً على عقب إذا أخذنا هذه القضية جدياً . فبدلاً من تنمية النشاط المصرفى بعقود ترتبط مباشرة بتنمية النشاط الانتاجى للمجتمع مثل المضاربة والمشاركة والاستصناع والسلم والاجارة سنجد اهتماماً بمنتج مثل التورق يشبع الطلب على النقود ، ثم لاندرى لأى شئ أو لأى هدف تطلب هذه النقود تماماً مثل البنوك التقليدية ؟ ( وقد بينا فى أسطر سابقة أن معظم الطلب على السيولة النقدية بطريق التورق لايعد رشيداً من الجهة الاسلامية). إن مسؤولية البنوك الاسلامية كما يدافع عنها الحريصون عليها من رجال الفقه والاقتصاد ليست مجرد تحقيق أعلى معدلات لتوظيف الموارد المالية المتاحة ولاهى تحقيق أقصى أرباح ممكنة وانما هى تحقيق أعلى معدلات لتوظيف الموارد المالية بوسائل لايُشَك البتة فى شرعيتها لأجل خدمة الاهداف الاقتصادية الحقيقية للأمة الاسلامية . والحقيقة إن الاعتماد غير المتوازن للبنوك التى اتخذت لنفسها الصفة الاسلامية على منتج مثل بيع المرابحة للآمر بالشراء هو الذى سول لبعض هذه البنوك أن تبتكر منتجاً مثل التورق والذى يعد امتداداً غير صحى لهذا البيع. والمرابحة للآمر بالشراء هو بيع كما نعلم قائم على النسيئة والمديونية المترتبة عليها فى ذمة العملاء. ولقد كان عليه ولازال مآخذ عديدة من جهة غايته والتزامه الحق باهداف المصرفية الإسلامية. وبينما كان المفروض أن نقلل من بيع المرابحة وننمى عمليات توظيف الموارد بعقود أخرى تقوم على اسس المشاركة فى الربح والخسارة خرجنا من هذا البيع الى ماهو أسوأ حيث هناك بيعة ثانية يتحول بها الدين المترتب على النسيئة الى نقود بدلاً من سلعة فى يد المدين! أليست هذه خيبة أو نكسة فى عمل مصرفى يدعى التمسك بالشريعة الاسلامية ؟ أبدلاً من أن نصحح ماهو محل انتقاد نبنى عليه مايخالف بل ويعاكس أهداف المصرفية الاسلامية؟ هل تريد البنوك التى بلغت المرابحات للآمر بالشراء فيها الى 80% أو 90% من اعمالها أن تكمل ال 100% بمعاملات تورق؟ أم تريد أن تقلل تدريجياً من نسبة المرابحات والديون القائمة على بيع سلع بالأجل وتزيد تدريجياً من عمليات التورق ومن ثم "الديون النقدية" كى تصبح فى النهاية نسخة (مشوهة) من البنوك التقليدية التى هذه هى تجارتها الاصيلة . وماذا ننتظر بعد هذا إلا توسع فى تجارة الديون تحت مسمى المصرفية الاسلامية ؟ فهل هذا يعقل ؟
انتهى والحمد لله رب العالمين
عبد الرحمن يسرى أحمد
استاذ الاقتصاد ، جامعة الاسكندرية
صفر 1430 هجرى – فبراير 2009
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مفهومه, المترتبة, الاقتصادية, ترويجه, جمال, دراسات ، بحوث, إسلامية, والآثار


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع التورق مفهومه وممارساته والآثار الاقتصادية المترتبة على ترويجه من خلال بنوك إسلامية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
التورق المصرفي بين المجيزين والمانعين Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 02-21-2016 02:41 PM
بيع التورق عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 1 06-11-2015 04:08 AM
الافتراق: مفهومه، أسبابه عبدالناصر محمود دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 11-27-2014 09:01 AM
الآثار المترتبة على تغيير السياسات المحاسبية Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 11-01-2012 06:34 PM
التنصير مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 04-19-2012 08:49 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:25 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59