#1  
قديم 05-23-2019, 12:23 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي بحث بعنوان الاختلاف في العمل الإسلامي الأسباب والآثار







الاختلاف في العمل الإسلامي
الأسباب والآثار




- العمل الإسلامي بين الاختلاف والافتراق.
- أسباب الافتراق.
- آثار الافتراق.
- نماذج تاريخية ومعاصرة لمآسي الافتراق.


أ. د. ناصر بن سليمان العمر

أولاً: العمل الإسلامي بين الاختلاف والافتراق
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فلا يخفى على كل مسلم بصير ما تعيشه أمة الإسلام من شتات وفرقة، واختلافات أوجبت عداوة وشقاقاً، إذ تجاذبت أهلها الأهواء، وتشعبت بهم البدع، وتفرقت بهم السبل، فلا عجب أن تراهم بين خصومة مذهبية، وحزبية فكرية، وتبعية غربية أو شرقية.. والنتيجة صوّرها قول المولى عز وجل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وإذا كان المسلمون اليوم يلتمّسون الخروج من هذا المأزق فلا سبيل إلاّ بالاعتصام بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، مجتمعين غير متفرقين، متعاضدين غير مختلفين.
ويكون ذلك بتوحيد الهدف والغاية، مع حسن النية وسلامة القصد، قال ابن القيم رحمه الله: "ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه؛ لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله؛ لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحداً والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة؛ لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة، فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة، وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة"( ).
والاختلاف موضوع الحديث هو: "نقيض الاتفاق. جاء في اللسان ما مفاده: اختلف الأمران لم يتفقا. وكل ما لم يتساو فقد اختلف. والخلاف: المضادة، وخالفه إلى الشيء عصاه إليه، أو قصده بعد أن نهاه عنه. ويستعمل الاختلاف عند الفقهاء بمعناه اللغوي وكذلك الخلاف"، وبعض الفقهاء فرَّق بين الاختلاف والخلاف باصطلاحات خاصة، أما "(الافتراق) (والتفرق) (والفرقة) فبمعنى أن يكون كل مجموعة من الناس وحدهم. ففي القاموس: الفريق القطيع من الغنم، والفريقة قطعة من الغنم تتفرق عنها فتذهب تحت الليل عن جماعتها. فهذه الألفاظ أخص من الاختلاف".
فليس كل اختلاف افتراقاً، وكل افتراق اختلاف، وليس شرطاً أن يكونا مذمومين على ما سيأتي بيانه وإن كان الغالب ذم أهل الفرقة والاختلاف.
أقسام الاختلاف
الاختلاف ينقسم إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة وفيما يلي أهمها:
انقسام الاختلاف باعتبار مدح أصحابه وذمهم:
قال ابن القيم في الصواعق:"الاختلاف في كتاب الله نوعان:
أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين، وهم الذين اختلفوا بالتأويل، وهم الذين نهانا الله سبحانه عن التشبه بهم في قوله: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) [سورة آل عمران:105]، وهم الذين تسودُّ وجوههم يوم القيامة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) [سورة البقرة:176]، فجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد، وهذا النوع هو الذي وصف الله أهله بالبغي، وهو الذي يوجب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البين، ويوقع التحزُّب والتباين.
والنوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمود ومذموم، فمن أصاب الحق فهو محمود، ومن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذم موضوع عنه، وهو محمود في اجتهاده معفوٌّ عن خطئه، وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذموم.
ومن هذا النوع المنقسم قوله تعالى: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) [سورة البقرة:253]، وقال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) [سورة الشورى:10].
والاختلاف المذموم كثيراً ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق فلا يقرُّ له خصمه به، بل يجحده إياه بغياً ومنافسة، فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه، وهذا شأن جميع المختلفين بخلاف أهل الحق فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به، فيأخذون حق جميع الطوائف ويردون باطلهم، فهؤلاء الذين قال الله فيهم: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [سورة البقرة:213]، فأخبر سبحانه أنه هدى عباده لما اختلف فيه المختلفون.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق، بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان ولو كان مع من يبغضه ويعاديه ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه فهو ممن هدى لما اختلف فيه من الحق، فهذا أعلم الناس، وأهداهم سبيلاً، وأقومهم قيلاً، وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمة وهدى، يقرُّ بعضهم بعضاً عليه ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناظر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم، بالتناظر والتشاور وإعمالهم الرأي وإجالتهم الفكر في الأسباب الموصلة إلى درك الصواب فيأتي كل منهم بما قدحه زناد فكره وأدركته قوة بصيرته، فإذا قوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة، وعُرضت على الحاكم الذي لا يجور وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتجرد الناظر عن التعصب والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقلَّ أن يخفى عليه الصواب من تلك الأقوال، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه، فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه، ومراتب القرب والبعد متفاوتة، وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة، ولا افتراقاً في الكلمة، ولا تبديداً للشمل؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع، كالجد مع الإخوة، وعتق أم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي الخلية والبرية والبتة، وفي بعض مسائل الربا، وفي بعض نواقص الوضوء وموجبات الغسل، وبعض مسائل الفرائض وغيرها، فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كانوا كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغناً، ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم، بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له، ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه، فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر، وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق"( ).
وهذا النوع من الاختلاف بهذا المسلك الذي ذكره يراه بعض أهل العلم ــ كالشاطبي رحمه الله ــ يرجع في الحقيقة إلى وفاق: "فإن الاختلاف في بعض المسائل الفقهية راجع إما إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإما إلى خفاء بعض الأدلة، أو إلى عدم الاطلاع على الدليل. وهذا الثاني ليس في الحقيقة خلافاً، إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله، فلذا يُنْقَض لأجله قضاء القاضي. أما الأول فإن تردده بين الطرفين تحرٍ لقصد الشارع المبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده. وقد توافقوا في هذين القصدين توافقاً لو ظهر معه لكل واحد منهما خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه. وسواء قلنا بالتخطئة أو بالتصويب،إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيبا أيضاً. فالإصابة على قول المصوِّبة إضافية. فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار. فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون. ومن هنا يظهر وجه التحابِّ والتآلف بين المختلفين في مسائل الاجتهاد; لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فلم يصيروا شيعاً، ولا تفرقوا فرقاً"( ).
فلو نظرت هذا النوع من الاختلاف الذي حمده الشاطبي وابن القيم وغيرهم من أهل العلم وجدت الحمد منصباً على اتفاق المختلفين في مراعاتهم قصد الشارع، وطلبهم لمراده، واتباعهم الدليل الذي ظهر منهم، ومن هذه الجهة جاء مدح مثل هؤلاء المختلفين.
ويتبع للتقسيم الذي سبق "نوع آخر من الاختلاف:
وهو وفاق في الحقيقة، وهو اختلاف في الاختيار والأولى، بعد الاتفاق على جواز الجميع، كالاختلاف في أنواع الأذان، والإقامة، وصفات التشهد، والاستفتاح، وأنواع النسك الذي يحرم به قاصد الحج والعمرة، وأنواع صلاة الخوف، والأفضل من القنوت أو تركه، ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها، ونحو ذلك، فهذا وإن كان صورته صورة اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة"( ).
انقسام الاختلاف باعتبار المسائل المختلف فيها:
(1) اختلاف صوري:
ومن قبيله اختلاف التفاوت، كالذي يكون في الكلام، فيكون بعضه بليغاً وبعضه دون ذلك، ومنه كذلك اختلاف التلاؤم الذي يكون في الكلام، ومن قبيله كذلك اختلاف التنوع وهو "أن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. مثال ذلك تفسير قوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت، والمقتصد في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. وقيل: السابق المحسن بالصدقة، والمقتصد بالبيع، والظالم بأكل الربا. واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة، وفي الاستحباب أخرى: فالأول مثل أن يجب على قومٍ الجهادُ، وعلى قومٍ الصدقةُ، وعلى قومٍ تعليمُ العلم. وهذا يقع في فروض الأعيان كما مُثِّل. وفي فروض الكفايات، ولها تنوع يخصها، وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره، فقد تتعين في وقت، أو مكان، وعلى شخص أو طائفة، كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء. قال ابن تيمية: وكذلك كل تنوع في الواجبات يقع مثله في المستحبات. قد نظر الشاطبي في المسألة، وحصر الخلاف غير الحقيقي في عشرة أنواع. منها ما تقدم من الاختلاف في العبارة، ومنها أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد، ومنها اختلاف أقوال الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد، والرجوع عما أفتى به أولاً، ومنها أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، بأن يكون كل من العملين جائزاً، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره، بل على إجازته والإقرار بصحته، فهذا ليس في الحقيقة باختلاف، فإن المرويات على الصحة لا خلاف فيها، إذ الكل متواتر. وهذه الأنواع السابقة تقع في تفسير القرآن، وفي اختلافهم في شرح السنة، وكذلك في فتاوى الأئمة وكلامهم في مسائل العلم. وهي أنواع ــ وإن سميت خلافاً ــ إلا أنها ترجع إلى الوفاق"( ).
(2) اختلاف تضاد (حقيقي): وهو قسمان سائغ وغير سائغ، ولعله تأتي الإشارة إليهما( ).
انقسام الاختلاف باعتبار ما يوجبه:
(1) اختلاف يقتضي عداوة وشقاقاً كالاختلاف في الأصول.
(2) اختلاف لا يقتضي عداوة وشقاقاً، كالاختلاف في الفروع باجتهاد سائغ.
انقسام الاختلاف باعتبار أثره:
(1) اختلاف مؤثر في الأحكام والأعمال المترتبة.
(2) اختلاف نظري ذهني لا ينبني عليه شيء في أرض الواقع، وهو من قبيل اختلاف السفسطائية هل البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة! قال شيخ الإسلام: "وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فإن الله نصب على الحق فيه دليلاً، فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفى البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، وفى مقدار سفينة نوح وما كان خشبها، وفى اسم الغلام الذي قتله الخضر، ونحو ذلك. فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم كاسم صاحب موسى أنه الخضر فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن اسحق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة"( ). وقال: "وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعدتهم، وعصا موسى من أيِّ الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً.)"( ).
والأصل ذم الخلاف وتجنبه، مادام اختلافاً حقيقياً قد يسبب فرقة ويوقع في تعارض، وهذا ما دلت عليه نصوص الوحيين؛ ففي السنة جاء النهي عن "الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء، كخطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سومه، وبيعه على بيعه، وسؤال المرأة طلاق ضرتها، وقال إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما سداً لذريعة الفتنة والفرقة، ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة؛ سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن"( ).
وأدلة القرآن كثيرة ومنها:
قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقال سبحانه: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
وقال عزوجل: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ).
بل عمل الخير إذا قصد به التمييز والتفريق بين المؤمنين كان لأصحابه نصيب من الذم، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
وقال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ).
فالاختلاف مادام اختلاف تعارض ينقض بعضه بعضاً شر لا يسلم منه إلاّ من كان معه الصواب، فإذا توزع الصواب بين المختلفين كان معهم من الخير والبعد عن الذم بمقدار ما معهم من الحق، ومع ذلك قد يعذر فيه المجتهد المخطئ بل يثاب لإرادته الخير وقصده.
وهو مع ذلك سنة كونية وقدر واقع لا محالة بمشيئة الله الكونية (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
والقدر الكوني إن كان شراً فيجب أن يسعى الإنسان للخروج منه وعدم الوقوع فيه، كالكفر فهو قدر كوني حكم الله بوجوده كوناً، ومُطالَبٌ كل إنسان أن يجتنبه وكذلك المعاصي، وكل ذلك مقدَّر شاء الله وقوعه كوناً بناء على علمه باختيار الإنسان، فالله عز وجل وهب خلقه مشيئة واختياراً خاضعة لمشيئة الله مع علمه باختيارهم وكتابته له وتقدير كونه منهم.
فالخلاف قد يكون قدراً لا يستسلم له العبد بل يقاومه بالقدر، فإن لم يُزِلْه خفَّفَ من آثاره وخرج بأقل أضراره.
فإذا تقرر ذلك الأصل نأتي للحكم التكليفي للاختلاف بحسب أنواعه:
"أمور الدين التي يمكن أن يقع فيها الخلاف إما أصول الدين أو فروعه، وكل منهما إما أن يثبت بالأدلة القاطعة أو لا. فهي أربعة أنواع:
النوع الأول: أصول الدين التي تثبت بالأدلة القاطعة، كوجود الله تعالى ووحدانيته، وملائكته وكتبه، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والبعث بعد الموت ونحو ذلك. فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف, من أصاب الحق فيها فهو مصيب، ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني: بعض مسائل أصول الدين، مثل مسألة رؤية الله في الآخرة، وخلق القرآن، وخروج الموحدين من النار، وما يشابه ذلك، فقيل يكفر المخالف، ومن القائلين بذلك الشافعي. فمن أصحابه من حمله على ظاهره. ومنهم من حمله على كفران النعم. وشرط عدم التكفير أن يكون المخالف مصدقاً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والتكذيب المكفِّر أن ينفي وجود ما أخبر به الرسول ويزعم أن ما قاله كذب محض أراد به صرف الناس عن شيء يريده، كذا قال الغزالي.
النوع الثالث: [الأمور( )] المعلومة من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس، وحرمة الزنا، فهذا ليس موضعاً للخلاف. ومن خالف فيه فقد كفر.
النوع الرابع: الفروع الاجتهادية التي قد تخفى أدلتها. فهذه الخلاف فيها واقع في الأمة. ويعذر المخالف فيها ؛لخفاء الأدلة أو تعارضها، أو الاختلاف في ثبوتها. وهذا النوع هو المراد في كلام الفقهاء إذا قالوا: في المسألة خلاف. وهو موضوع هذا البحث على أنه الخلاف المعتد به في الأمور الفقهية. فأما إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطلع عليه المجتهد فخالفه، فإنه معذور بعد بذل الجهد، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذاً بالدليل الصحيح الذي تبيَّن أنه لم يطلع عليه. فهذا النوع لا يصح اعتماده خلافا في المسائل الشرعية، لأنه اجتهاد لم يصادف محلا، وإنما يعد في مسائل الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة"( ).
عمل أهل العلم على الخروج من الخلاف
لكون الاختلاف شراً وبلاء؛ راعى كثير من أهل العلم الخروج من الخلاف في تعليل كثير من الأحكام، ومن ذلك قول بعض فقهاء الحنابلة بكراهة الطهارة بالماء المتغير بمجاورة أو بملح مائي مع أنه طهور، ولكنهم يعللون بمخالفة غيرهم لهم فيما اختاروا، فاستحبوا الخروج من الخلاف بكراهة استعمال ذلك الماء( ).
ومنه كذلك قول بعض فقهاء الأحناف بالندب للإشهاد على الرجعة خروجاً من الخلاف( ).
ومنه قول بعض فقهاء المالكية بطواف القدوم بنية الركنية خروجاً من الخلاف( ).
ومنه قول الشافعية باستحباب عدم القصر لسفر أقل من مسيرة ثلاثة أيام للخروج من الخلاف( ).
ويكاد يطبق أرباب المذاهب الأربعة على التعليل بالخروج من الخلاف في اختياراتهم الفقهية.
ولكنهم وضعوا لذلك ضوابط من أهمها ما قرره العز بن عبد السلام حيث يقول: "والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد عن الصواب فلا نظر إليه، ولا التفات عليه، إذ كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلاً شرعاً"( ) ثم قال: "وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذرا ًمن كون الصواب مع الخصم، والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات, كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات".
فالخلاف إذا كان له حظٌّ من النَّظر، والأدلَّة تحتمله، فالمحققون يكرهون ويستحبون لأجل الخروج منه؛ لا لأنَّ فيه خلافاً بل هو من باب "دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك"، ويتأكد هذا، بل قد يتعين حتى مع الخلاف الضعيف، إن خشي تَرتُّب مفسدة أعظم على الخلاف.
أما إذا كان الخلاف لا حَظَّ له من النَّظر فلا يُمكن أن نعلِّلَ به المسائل ونأخذ منه حكماً.
فليس كلُّ خلافٍ جاء مُعتَبراً إلا خلافٌ له حظٌّ من النَّظر
ولأنَّ الأحكام لا تثبت إلاّ بدليل، ومراعاة الخلاف غير المعتبر لا تصلح دليلاً شرعياً، فيقال: هذا مكروه، أو غير مكروه بناء عليه، إلاّ إن خشي ترتب مفسدة أعظم جراء الفرقة فتقدر حينها الأمور بقدرها، وذلك لأمر خارج عن مجرد الخلاف غير المعتبر، مع العمل على إعادة الحق إلى نصابه وإقرار المصيب على صوابه.




هل الاختلاف رحمة؟
رُويت في ذلك أحاديث لا تثبت مثل حديث أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم( )، وحديث اختلاف أمتي رحمة( ).
ولعدم ثبوت نص تباينت أقوال السلف في المسألة فأثر:"عن عمر بن عبد العزيز قوله: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا ; لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.
وعن يحيى بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا.
وقال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع ــ لا مطلق الاختلاف ــ من آثار الرحمة فإن اختلافهم توسعة للناس. قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر.
وهذه القاعدة ليست متفقاً عليها، فقد روى ابن وهب عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه قال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد.
وقال المزني صاحب الشافعي: ذمَّ الله الاختلاف وأمر بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة.
وتوسط ابن تيمية بين الاتجاهين، فرأى أن الاختلاف قد يكون رحمة، وقد يكون عذاباً.
قال: النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفْضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم. والحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون خفاؤه على المكلف - لما في ظهوره من الشدة عليه - من رحمة الله به، فيكون من باب (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم). وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالاً لا شيء عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم. فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة. والرخصة رحمة. وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد"( ).
حكم الاختلاف في العمل الإسلامي
إذا كان الاختلاف من قبيل التنوع كأن يتخصص كل فريق أو جماعة في عمل، فهو اختلاف مطلوب، أما إذا كان الاختلاف اختلاف تحزب وتعصب يمنع التعاون والتعاضد وسماع النصيحة من الآخر فهو اختلاف مذموم.
والذي ينبغي هو أن يكون اختلاف المسلمين في العمل الإسلامي من القبيل الأول، ولاسيما مع كثير من الشعارات المرفوعة، فالهدف الأسمى واحد، ومجالات العمل متنوعة، والساحة تحتاج الجميع.
ولكن الواقع من الناحية العملية: وجود التناحر والتحزبات والعصبيات التي تشبه عصبيات عصور التعصب المذهبي، ولئن سأل بعض المقلدة المتعصبة قديماً عن حكم صلاة الحنفي خلف المالكي أو العكس، فإن بعض جهلة الحزبيين اليوم يسألون عن حكم الصلاة خلف بعض إخوتهم المسلمين!
وكما أن أهل العلم ذمُّوا التعصب للمذهب وأنكروه فإن علينا أن نذم التعصب للجماعات أو الأفراد وننكره، وكما أن الذم لا يتوجه للمذاهب المعتبرة وأئمتها عند أهل التحقيق؛ فإن الذم قد لا يتوجه إلى الجماعات ورؤوسها طالما كانت ملتزمة بالسنة في الجملة، وإن خرج بعض رجالاتها عن ركب السنة باجتهادات شخصية لم تؤثر على دعوة الجماعة كحال بعض رجالات المذاهب الفقهية المتبوعة.
وقد يتوجه الذم إلى الجماعة جملة وتفصيلاً إن كان التحزب والتقوقع أساساً من أسسها، أو كان من أسسها القول بمذاهب شاذة أو اجتهادات غير سائغة عند أهل العلم.

ثانياً: أسباب الافتراق
الأسباب كثيرة ويمكن أن نقسمها إلى خمسة عوامل رئيسية تندرج تحتها أنواع عدة، وبعض هذه الخمسة يتعلق ببعض ولكن أفردته لأهميته، وهذه العوامل هي:
أولاً: تفاوت الناس في الطبائع والميول وتفاضلهم في العقول
قال ابن القيم رحمه الله: "ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم.."( ).
ولعل أثر تباين الطبائع والمدارك جليٌ في كثير من أشكال الاختلاف الواقع، فانظر إلى اختلاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن أسرى بدر تجد كل واحد منهما نزع إلى ما يقارب طبعه، فأبو بكر الرقيق الشفيق مال إلى المنِّ أو الفداء، وعمر القوي الشديد جنح إلى الإثخان، وهو الذي جاء به القرآن.
فطبيعة الخلقة والظروف الاجتماعية والبيئية الخاصة بالشخص أو العامة في المجتمع كلها تؤثر على نمط التفكير فيجنح كل طرف إلى ما لا يجنح إليه الآخر.
وفي بعض الأحيان يتطلب الحكم موازنة بين أمور تحتاج إلى قوة العقل وحضوره، والناس متفاوتون في ذلك، ولا يعني هذا أن الأكمل عقلاً هوالأرجح اختياراً، أو هو الذي ينحو نحو الصواب دائماً، وذلك لما يرد على الأفراد من أحوال وأوقات يتعكر فيها المزاج مع ازدحام الأشغال، أو يذهل فيها المرء لمؤثرات أثرت عليه دون الآخر، سواء كانت هذه المؤثرات منبعثة من البيئة الخارجية أو عوامل نفسية خاصة بالشخص، فيؤدي ذلك لأن يخطئ الصواب وإن كان هو الأرجح عقلاً والأحضر ذهناً من حيث الجملة. ولعل من ذلك قصة عمر ــ على أن في ثبوتها مقالاً( ) ــ مع المرأة في الميراث يوم قال أصابت امرأة وأخطأ عمر.
وربما تفاضل الناس في إدراك الصواب واختلفوا لتباين عقولهم ونفوسهم ضعفاً وقوة في جوانب مختلفة، فبعض الناس قد يحسن النظر في مسائل لاتساع معارفهم وتمرين عقولهم عليها، ولا يحسنون الخوض في مسائل أخرى، وكم من إنسان تكلم في غير ما يحسن فأضحك الناس، وشواهد هذا كثيرة.
ولهذا ذكر الأستاذ محمود الزحيلي أن أسباب الخلاف تنحصر في سبعة وذكر أولها:
الاختلاف في الأمور الجبلّية: إذ إن الأئمة والعلماء يتفاوتون في ملكاتهم وطبائعم وعقولهم، وهذا أمر طبعي ينتج عنه في بعض الأحايين اختلاف الأحكام المستنبطة من الأدلة الشرعية.
ولعله قدم هذا لما له من أثر على البقية.
ومن هذا القبيل الاختلاف في الحكم بسبب النسيان:
كما نسي عمر قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)، ونسي قوله: (وآتيتم إحداهن قنطاراً) في القصة التي تروى مع المرأة، ونسي فتوى النبي له ولعمار بالتيمم للجنابة في السفر.
وكذلك ما روي أن علياً ذكَّر الزبير يوم الجمل شيئا عهده إليهما رسول الله فذكره فانصرف عن القتال. قلت فيكون الناسي معذوراً بفتواه.
ومنه كذلك عندما همَّ عمر رضي الله عنه أن يأخذ عيينة ابن حصن فذكّره الحُر بن قيس بقول الله عز وجل: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فأمسك.
ثانياً: من أسباب الاختلاف تفاوت الناس في العلم والمعرفة
فأصل حدوث الاختلاف والتفرق في الأمة هو الجهل بالدين ولهذا قال الشاطبي رحمه الله: "الاختلاف في القواعد الكلية لا يقع بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها، والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني"( ).
ولهذا روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلا يوماً فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما وسأله، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين: إنما نزل القرآن علينا فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤن القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان ذلك اختلفوا( ).
قال الإمام الشاطبي معلقاً: وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قُصد بها، فلم يتعد ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجهاً، فذهب كل إنسان مذهباً لا يذهب إليه الآخر.
فإذا وسد الأمر إلى غير أهله، وتصدر للتدريس والفتيا كل من وجد من نفسه زيادة فهم وفضل ذكاء وذهن، مع أنه لم يأخذ العلم عن أهل التخصص والصناعة، إذا كان ذلك كذلك وقع الافتراق والاختلاف.
وقد عدَّ أهل العلم من البلايا "أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ولم يبلغ تلك الدرجة فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً.. فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها، وعليه نبه الحديث الصحيح: ((لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))"( ).
وأمثال هؤلاء أبكوا قديماً ربيعة الرأي، قال الإمام مالك ــ رحمه الله ــ: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. وقال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق( ).
وإذا كان هذا في عصور التابعين والأئمة المرضيين فماذا نقول في زمن الغربة بعد أن أصبح مجاهيل الإنترنت مشايخ يؤخذ عنهم العلم في كثير من الساحات، ويفتون في المدلهمات، والله المستعان.
ثم من أهم أسباب الاختلاف بسبب تباين العلوم والمعارف الاختلاف في العلم بنصوص الوحيين أو دلالتهما وهو ثلاثة أنواع( ):
أحدها عدم اعتقاده أن النبي قاله أو لم يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
الثاني عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الثلاثة تتفرع عنها أسباب عدة ولعل في النماذج السابقة شيئاً من البيان ويمكن أن نجملها فيما يلي:
(1) قد يكون النص لم يبلغ بعض المخالفين فعمل بظاهر آية أو حديث آخر، فمن لم يبلغه النص لم يكلف أن يكون عالماً به، بل يكتفي المخالف أحيانا بظاهر آية، أو بحديث، أو بموجب قياس، أو بموجب استصحاب( )، قال شيخ الإسلام:"وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ لم تكن لأحد من الأمة"( )، ومن أمثلة ذلك:
أولاً: حكم أبي بكر الصديق ــ رضي الله عنه ــ في الجدة بأنها لا ترث مطلقاً، فعن قبيصة بن ذؤيب قال:"جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال: فقال: لها ما لك في كتاب الله شيء، وما لك في سنة رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ شيء، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فأعطاها السدس فقال أبو بكر هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر"( ).
ثانياً: خفاء سنة الاستئذان على عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ، فعن أبي سعيد الخدري قال:"كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ((إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع))، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمنكم أحد سمعه من النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال ذلك"( )، فهذه سنة قد خفيت على عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ مع سعة علمه وفقهه في دين الله ــ تعالى ــ وليس في هذا مذمة لعمر ــ رضي الله عنه ــ فإن الله ــ تعالى ــ يقول: (وفوق كل ذي علم عليم)( )، فمهما بلغ الإنسان من العلم فلا شك أنه لن ينتهي، ولهذا قالوا:"العلم إن أعطيته كلك أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك فاتك كله".
ثالثاً: خفاء الحكم على كثير من الصحابة في نزول الطاعون ببلد، فعن عبد الله بن عباس ــ رضي الله عنهما ــ: "أن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ولا نرى أن تُقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف ــ وكان متغيباً في بعض حاجته ــ فقال: إن عندي في هذا علماً، سمعت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ يقول: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه))، قال: فحمد الله عمر ثم انصرف"( ).
رابعاً: أن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ كان يفتي في بداية أمره بمنع الحائض من أن تنفر قبل أن تطوف طواف الوداع، ثم بلغه إذن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ في ذلك فرجع عن قوله( ).
خامساً: أن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ كان يرى أن المرأة لا ترث من دية زوجها، فحدِّث بأمر النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ بتوريث المرأة من دية زوجها، فلم يكن منه ــ رضي الله عنه ــ إلا أن ترك رأيه وصار إلى السنة( ).
فهذه أمثلة من خفاء بعض النصوص الشرعية على بعض الناس، والذين هم أفضل هذه الأمة على الإطلاق، ولا يقولن قائل: كيف يختلف الصحابة وقد جُمعت عندهم السنة، ودُوِّنت الدواوين؟ فإن "هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار حديث رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ في دواوين معينة، ثم لو فُرض انحصار حديث رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها "( ).
ومن هذا القبيل أيضاً:
أن يكون النص قد بلغ المخالف، لكنه منسوخ، بنص آخر ولم يعلم المخالف بالناسخ( ).
ومن أمثلة ذلك: أن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أخذ بصفة التطبيق في الركوع مع أنها منسوخة، فعن علقمة، والأسود بن يزيد أنهما دخلا على عبد الله، فقال: أصلى من خلفكم( )؟ قالا: نعم، فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: هكذا فعل رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم"( )، وهذه الصفة منسوخة بدليل حديث سعد بن أبي وقاص، فعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال:"صليت إلى جنب أبي، فلما ركعت شبكت أصابعي وجعلتهما بين ركبتي، فضرب يدي، فلما صلى قال: قد كنا نفعل هذا ثم أمرنا أن نرفع إلى الركب"( ).
ومن أمثلته كذلك اللبس الذي حصل أول الأمر في ربا النسا، ونكاح المتعة وغيرهما مما استقر الإجماع عليه بعد.
(2) أن يكون النص قد بلغه ولكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه مجهول أو سيء الحفظ أو متهم، ولا يعلم أن له طرقاً أخرى، ولهذا علَّق كثير من الأئمة العمل بموجب الحديث على صحته فكثيراً ما يقول الإمام: قولي فيه كيت وكيت، وقد روي فيه حديث بخلافه فإن صح فهو قولي.
اعتقاد ضعف النص باجتهاد خالفه فيه غيره، كتضعيفه لراو وثَّقه غيره، ومن ذلك أن بعض الأئمة كان لا يرى قبول حديث أصله غير حجازي (شامي أو بصري..)، وبعضهم رأى هذا الرأي ثم رجع، ومما أثر في ذلك كلمة الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله إذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شامياً كان أو عراقياً. ولعل من ذلك مخالفة الأحناف لغيرهم في القهقهة فالإمام أبو حنيفة أخذ بحديث القهقهة في الصلاة، وجعل القهقهة من نواقض الوضوء، ومن مبطلات الصلاة( )، مع أن الحديث الذي استدل به ضعيف عند الأئمة، لكن عذره في ذلك ظنه أن الحديث صالح للاحتجاج به، وهذا ليس فيه مذمة له ــ رحمه الله ــ بل هو في العلم والفضل من هو، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن، وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر( ) مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس( )، لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما"( ).
(3) اشتراط بعضهم في قبول النص شروطاً يخالفه فيها غيره، كاشتراط بعضهم كون الراوي فقيهاً إذا روى ما يخالف القياس، واشتراط بعضهم ظهور الحديث وانتشاره إذا كان فيما تعم به البلوى، وربما وقع الاختلاف في بعض قواعد علوم الآلة ومنها المصطلح، ومن ذلك توثيق ابن حبان لمن لم يعرف بجرح، في مقابل طريقة ابن حزم في الرمي بالجهالة، وكتشدد أبي حاتم في نقد الرجال، وتساهل الحاكم في توثيقهم، واشتراط بعضهم للصحة اللقيا واكتفاء آخرين بالمعاصرة، وغير ذلك.
(4) أن ينسى البعض حديثاً أو آية كما ذهل عمر رضي الله عنه عن قول الله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) لمّا مات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
(5) عدم معرفة دلالة لفظ النص: ومن الركائز الأساسية في هذا: العلم باللغة العربية، قال الشاطبي رحمه الله: "الله عز وجل أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه، بمعنى أنه جارٍ في ألفاظه وأساليبه على لغة لسان العرب، قال الله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً).. وكان المنزَّل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد، وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذين بعث فيهم عرباً أيضاً، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم.. وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلاّ من الطريق الذي نزل عليه، وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها"( )، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلاّ لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس"( )، وقال السيوطي معلقاً بعد أن ذكره: "أشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية وغير ذلك من البدع وأن سببها الجهل بالعربية والبلاغة الموضوعة فيها من المعاني والبيان والبديع"، ومما يؤكد هذا أن عمرو بن عبيد( ) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء التميمي( ) يناظره في وجوب عذاب الفاسق، فقال يا أبا عمرو: هل يخلف الله وعده؟ فقال: لن يخلف الله وعده، فقال عمرو: فقد قال، وذكر آية وعيد، فقال أبو عمر: من العجمة أتيت، الوعد غير الإيعاد ثم أنشد:
وإني وإن أوعدتــــه أو وعدتــــه لمخلف إيعادي منجز له وعدي( )
ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: "إنما أهلكتهم العجمة، يتأولونه على غير تأويله"( ). ولو نظرت في كثير من أهل البدع التي فرقت المسلمين لوجدت أصولاً لا تنم عن أصالة في اللسان العربي، فغيلان الدمشقي، أول من تكلم في القدر وقال بخلق القرآن، كان مولى لآل عثمان بن عفان، والجعد بن درهم كان مولى لبني الحكم، وجهم بن صفوان كان مولى لبني راسب، وعمرو بن عبيد مولى لبني تميم، وواصل بن عطاء مولى لبني مخزوم أو لبني ضبة على خلاف في النسبة.
ولعل من أظهر عوامل الاختلاف بسبب عدم فهم دلالة النصوص عاملين:
الأول إما لكون اللفظ غريباً، نحو لفظ المزابنة والمحاقلة والمنابذة، ومن هذا القبيل اختلافهم في تفسير لا طلاق ولا عتاق في إغلاق. ففسره كثير من الحجازيين بالإكراه وفسره كثير من العراقيين بالغضب، ومنهم من فسره بجمع الطلاق في كلمة واحدة باعتبار أنه مأخوذ من غلق باب الطلاق جملة.
أو لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين حمله على معناه عند الإطلاق (الحقيقة) أو حمله على معناه عند التقييد (مجاز) كاختلافهم في القرء ومعناه.
(6) معرفة دلالة اللفظ وموضوعه، ولكن لا يتفطن لدخول هذا الفرد المعيَّن تحت اللفظ، إما لعدم تصوره لذلك الفرد، أو لعدم حضوره بباله، أو لاعتقاده أنه مختص بما يخرجه عن اللفظ العام.
(7) عدم اعتقاد وجود دلالة في لفظ النص على الحكم المتنازع عليه، وهذا له أربع حالات:
- أن لا يعرف مدلول اللفظ في عرف، الشارع فيحمله على خلاف مدلوله في العرف الشرعي.
- أن يكون له في عرف الشارع معنيان، فيحمله على أحدهما ويحمله المخالف على الآخر.
- أن يفهم من العام خاصاً أو من الخاص عاماً، أو من المطلق مقيداً أو من المقيد مطلقاً.
- أن ينفي دلالة اللفظ مع أن اللفظ تارة يكون مصيباً في الدلالة وتارة يكون مخطئاً، فمن نفى دلالة قول الله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) على حِلِّ أكل ذي المخلب والناب أصاب، ومن نفى دلالة العام على ما عدا محل التخصيص غلط ومن نفى دلالته على ماعدا محل السبب غلط.
(8) اعتقاد أن دلالة النص عارضها ما هو مساوٍ لها فيجب التوقف، أو عارضها ما هو أقوى فيجب تقديمه، ولهذا أقسام متعددة( ). ومن أمثلة ذلك:
أولاً: لما حدث ابن عباس عائشةَ بحديث عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنهم ــ أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه))( )، أنكرت ذلك وقالت:"إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، يرحم الله عمر، لا والله ما قاله رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ قط إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا ًوإن الله لهو (أضحك وأبكى)( )، (ولا تزر وازرة وزر أخرى)( )"( )، فأنكرت عائشة ــ رضي الله عنها ــ تحديث النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ بمثل هذا الحديث ظناً منها أنه يخالف مقتضى القرآن الكريم، ومن ثم اختلف العلماء أيضا في معنى هذا الحديث على أقوال، ليس هذا موضع بسطها( ).
ثانياً: اختلاف العلماء في الجمع بين قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن)( )، وبين قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن)( )، فالآية الأولى تحرم على المسلمين نكاح المشركات، والآية الثانية تحلل نكاح الكتابيات، وقد اختلف العلماء في نكاح الكتابيات، فالجمهور على جوازه، استنادا لآية المائدة، وقال بعض العلماء لا يجوز نكاح الكتابيات استنادا لآية البقرة، ظناً منهم أن آية المائدة معارضة بآية أصرح منها وهي آية البقرة( ).
ثالثاً: اختلاف العلماء في الجمع بين قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) إلى قوله: (وأن تجمعوا بين الأختين)( )، وبين قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)( )، فالآية الأولى بعمومها تحرم الجمع بين الأختين مطلقاً، بعقد نكاح أو بملك يمين، والآية الثانية استثنت ما ملكت اليمين مطلقاً، ولهذا اختلف العلماء، فمنهم من حمل الآية الأولى على غير المملوكتين، فأجاز الجمع بين الأختين بملك اليمين، ومنهم من رأى أن الآية الأولى ناسخة للثانية، فمنع الجمع بينهما بملك اليمين، فالفريق الثاني رأى أن الآية الثانية معارضة بآية أقوى منها من حيث الدلالة فجعلها منسوخة( ).
ومن أغرب ما نقل في هذا المقام، أن الإمام مالكاً قال:"لا أعلم أحداً أجاز شهادة العبد"( )، هذا مع قول أنس ــ رضي الله عنه ــ:"لا أعلم أحداً ردَّ شهادة العبد"( )، فإذا نظر المجتهد إلى أحد هذين النقلين ظن أن المسألة من مسائل الإجماع، ثم بنى على ذلك أحكاما كثيرة( ).

ثالثاً: ومن أسباب الاختلاف فساد الطوية وسوء النية
ومن هذا القبيل عدة أمور من أهمها ما يلي:
أولاً: البغي.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ــ وهو صاحب تجربة واسعة مع المخالفين ــ: "وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة، علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها؛ وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن، محنة أحمد و غيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: (ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا)"( ).
والبغي ينجم عن أمور من أهمها:
الأهواء والشهوات:
الأهواء والشهوات تدفع إلى ظلم الغير في سبيل تحصيل الشهوة فيقع الخلاف وينشأ الافتراق "فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم ــ مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة ــ فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع "الذات" في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق ابتداء!.. ومن ثم جاء هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
الشبهات:
قد تدفع نحو البغي الشبهات والتأولات الفاسدة، ومن أظهر ذلك ما سجله التاريخ من تأولات الحجاج بن يوسف الثقفي والتي دفعته للولوغ في الدماء، وحجته حفظ هيبة السلطان وتوطيد أركان دولة الإسلام.
ثانياً: الغرور بالنفس.
فالغرور بالنفس يولد الإعجاب بالرأي، والكبر على الخلق، فيصر الإنسان على رأيه، ولو كان خطأ، ويستخف بأقوال الآخرين، ولو كانت صواباً، فالصواب ما قاله، والخطأ ما قاله غيره، ولو ارعوى قليلاً واتهم نفسه، وعلم أنها أمارة بالسوء، لدفع كثيراً من الخلاف والشقاق، ولكان له أسوة بنبينا ــ صلى الله عليه وسلم ــ الذي قال الله تعالى له: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)( )، وإذا كانت صفة التواضع ولين الجانب من أوائل صفات المؤمنين، فإنها في حق من انتصب للعلم والدعوة والفتوى والتعليم أوجب وأكثر ضرورة وإلحاحاً( ).
ثالثاً: سوء الظن بالآخرين.
فهو ينظر لجميع الناس بالمنظار الأسود، فأفهامهم سقيمة، ومقاصدهم سيئة، وأعمالهم خاطئة، ومواقفهم مريبة، كلما سمع من إنسان خيراً كذبه، أو أوَّله، وكلما ذُكر أحد بفضل طعنه وجرحه، اشتغل بالحكم على النيات والمقاصد، فضلاً عن الأعمال والظواهر، والمصادرة للآخر قبل معرفة رأيه، أو سماع حجته( )، ثم هو لا يتوقف عند هذا الحد، بل لسانه طليق في أعراض إخوانه، بسبهم، واتهامهم، وتجريحهم، وتتبع عثراتهم، فإن تَورَّع عن الكلام في أعراض غيره من الفضلاء، سلك طريق الجرح بالإشارة، أو الحركة، بما يكون أخبث وأكثر إقذاعاً، مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير، والتضجر( ). "وأنت ترى هؤلاء الجراح القصاب، كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحاً) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان!"( ).
رابعاً: حب الظهور بالجدل والمماراة
ويكون دافع ذلك في الغالب هوى مطاعاً، وقد يكون قلة الفقه أوالفراغ وترك الاشتغال بما ينفع.
وقد روى الإمام أحمد( ) وغيره عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ: (ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون))).
قال الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله: "الخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة. لو كانت فضلاً لسبق إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر. وقال الهق تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن)( )، ولم يأمره بالجدل، ولو شاء لأنزل حججاً، وقال له: قل كذا وكذا"( ).
وقال ابن قتيبة رحمه الله يصف الحال في أيام السلف عليهم الرحمة والرضوان: "كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع وفيما قد انقرض.. وصار الغرض فيه إخراج لطيفة، وغوصاً على غريبة، ورداً على متقدم..
وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق، قادهم الهوى بزمام الردى.."( ).
فلما وقع الناس في الجدل تفرقت بهم الأهواء، قال عمرو بن قيس( ): قلت للحكم بن عتبة( ): ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات( ).
وقد روي عن أبي قلابة ــ وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون( ).
قال معن بن عيسى: "انصرف مالك بن أنس رضي الله عنه يوماً من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله! اسمع مني شيئاً أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأيي.
قال: فإن غلبتني؟
قال: إن غلبتك اتبعني.
قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟
قال: نتبعه!
فقال مالك رحمه الله: يا عبد الله بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين".
وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه( )!
وإذا كان الجدل والمراء والخصومة في الدين مذمومة على كل حال فإنها تتأكد في حق المقلدة والجهال.
ويتأكد ترك المراء والجدل في كل ما لا طائل من ورائه كملح العلوم والنوادر، وما لا يثمر عملاً غير السفسطة والتلاسن.
تنبيه: هذا السبب من أعظم أسباب الاختلاف المذموم، بل لا يكاد ينجم عنه اختلاف يحمد، ولعله عامل رئيس في إذكاء نار الفرقة والفتنة بين المسلمين، ولاسيما أن التنظير العلمي مستقر عند كثيرين ولكن على الرغم من ذلك يقع الافتراق لوقوع الخلل في هذا الجانب، والله المستعان.

رابعاً: ومن عوامل الاختلاف والتفرق: التعصب
سواء كان سياسياً أو مذهبياً أو حزبياً أو لأفراد ورموز، وسواء كان لفرط حب أو فرط بغض.
إن التعصب ران يطغى على القلب والعقل فيحجبهما، ومهما عرضت على المتعصب من الحجج والبراهين فلن يراها.
يقول الماوردي رحمه الله: "ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلاً يناظر في مجلس حفل وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة فكان جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة، وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه. فأمسك عنه المستدل تعجباً، ولأن شيخه كان محتشماً. وقد حضرت طائفة يرون فيه مثل ما رأى هذا الجاهل, ثم أقبل المستدل عليَّ وقال لي: والله لقد أفحمني بجهله وصار سائر الناس المبرئين من هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب, ومستعيذ بالله من جهل مغرب"( ).
وما أقبح هذا الجهل يوم يسري إلى طوائف تعدُّ نفسها في عداد العاملين للإسلام الذائدين عن حياضه، ويزداد هذا القبح يوم يزعم أصحابها أنهم أهل الفكر المستنير والعقول غير المنغلقة! ويتضاعف القبح يوم ينتسبون إلى السلف أو السنة، والسلف والسنة من هذا التعصب المقيت براء.
يقول الإمام العلم ابن تيمية ممتدحاً الأئمة الأعلام: "فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة في الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق أو الفرائض أو غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة. ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين. كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة. وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم. ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين, وبقدر الآخرين، فيكون جاهلاً ظالماً، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم. قال تعالى: (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ليعذب الله المنافقين والمنافقات) إلى آخر السورة. وهذا أبو يوسف ومحمد، أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى، لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظمان لإمامهما. لا يقال فيهما مذبذبان؛ بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة في خلافه فيقول بها، ولا يقال له مذبذب؛ فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان. فإذا تبين له من العلم ما كان خافياً عليه اتبعه، وليس هذا مذبذباً؛ بل هذا مهتد زاده الله هدى. وقد قال تعالى: (وقل رب زدني علماً). فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له"( ).
وأما أمراض الحزبية الضيقة التي تحصر الأخوة الإسلامية في حدود الانتماء والولاء ولو في الظاهر فكأنما كانت لها جذور منذ زمن ابن تيمية رحمه الله حيث أشار إليها بقوله: "وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والأعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان"( ).

خامساً: عوامل خارجية قادت إلى تفاقم الاختلاف
وتتلخص في الحضارات والديانات التي ناصبت الإسلام العداء في القديم أو الحديث، وحتى لا يتشعب الحديث أتناول بالبيان الأثر النصراني فأقول:
لقد جاء الإسلام فألف بين أشتات العرب، بل ألف بين أهل الخير من العالمين، فبلال رضي الله عنه حبشي، وصهيب رومي، وسلمان فارسي، ومحمد بن إسماعيل شيخ المحدثين بخاري، وصلاح الدين الأيوبي بطل الحروب الصليبية كردي، ومحمد بن إسحاق أول من دوَّن السيرة النبوية فارسي، والطبري شيخ المؤرخين والمفسرين تركي، وإذا نظرت في سير تراجم أعلام الإسلام ومبدعيه وجدتهم من أقطار الأرض وأطرافها.
ومع ائتلاف هذه الخبرات المتنوعة وانسجامها ازدهرت حضارة الإسلام وقويت شوكة أهله.
وكان لهذا الائتلاف أثر في صدِّ الغزو الصليبي عن بلاد المسلمين على مر التاريخ، وباسترجاع سير أولئك الذين وقفوا في وجه المد الصليبي تتضح هذه الحقيقة بجلاء ولعل أشهر نموذج هو صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله.
وقد أدرك أعداء الإسلام من النصارى واليهود هذه الحقيقة، فكانت الخطوة الأولى التي قاموا بها من أجل السيطرة على بلاد الإسلام وجعلها تابعة ذليلة هي العمل على تفكيك وحدتهم كما أشار قساوسة النصارى ورهبانهم.
ومن بعض أقوالهم في ذلك ما يلي( ):
"(1) يقول القس سيمون:
إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد التملص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية.
(2) ويقول المبشر لورنس براون:
إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين، فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير.
ويكمل حديثه:
يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
(3) ويقول أرنولد توينبى في كتابه الإسلام والغرب والمستقبل:
إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ.
(4) وقد فرح غابرائيل هانوتو وزير خارجية فرنسا حينما انحل رباط تونس الشديد بالبلاد الإسلامية، وتفلتت روابطه مع مكة، ومع ماضيه الإسلامي، حين فرض عليه الفرنسيون فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية.
(5) من أخطر ما نذكره من أخبار حول هذه النقطة هو ما يلي:
في سنة 1907 عقد مؤتمر أوربي كبير، ضم أضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوربيين برئاسة وزير خارجية بريطانيا الذي قال في خطاب الافتتاح:
إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء، والواجب يقضى علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا.
واستمر المؤتمر شهراً من الدراسة والنقاش.
واستعرض المؤتمرون الأخطار الخارجية التي يمكن أن تقضى على الحضارة الغربية الآفلة، فوجدوا أن المسلمين هم أعظم خطر يهدد أوربا.
فقرر المؤتمرون وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها لمنع إيجاد أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط، لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوربا.
وأخيراً قرروا إنشاء قومية غربية معادية للعرب والمسلمين شرقي قناة السويس، ليبقى العرب متفرقين.
وبذا أرست بريطانيا أسس التعاون والتحالف مع الصهيونية العالمية التي كانت تدعو إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين".
وقد ترجم المنصرون وأتباعهم تلك التصورات إلى حركات ونعرات عنصرية أو قومية نجحت في التأليب على دولة الخلافة الإسلامية وفي تفكيك عرى الأخوة بين المؤمنين.
وإذا تأملت رواد حركة القومية العربية وجدت "كثرة كبيرة من رجال الرعيل الأول في هذه الحركة وفي هذا البعث من مسيحيي لبنان، مثل البستاني واليازجي والشدياق وأديب إسحاق ونقاش وشمّيل وتقلا ومشاقة وزيدان ونمر وصروف. وأغلبهم ممن اتصلوا بالإرساليات الإنجيلية الأمريكية التي بدأت تتوارد على بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لنشر مذهبهم البروتستنتي. وأكثرهم في الوقت نفسه قد رموا بالماسونية، فإبراهيم اليازجي (1847 – 1906م) وأبوه ناصيف اليازجي (1800 – 1871م) كانا على صلة حسنة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية، وكانا يترددان على مطبعتهم في بيروت التي كان يشرف عليها وقتذاك الدكتور فانديك. وقد علم اليازجي الكبير في مدارسهم، وأعان ابنه في ترجمتهم التوراة إلى العربية، ثم قدم بعد ذلك إلى مصر ومات بها، واحتفلت المحافل الماسونية في القاهرة والإسكندرية بتأبينه، وهو صاحب قصيدتين مشهورتين في استنهاض همم العرب ودعوتهم إلى إحياء أمجاد آبائهم، ورفض التجبر والاستبداد، وفيهما دعا قومه من العرب إلى الثورة على الأتراك، وختم قصيدته مهدداً الترك بقوله:

صبراً هيـــا أمة الترك التي ظلمت دهراً فعمــا قليلٍ تُرفع الحجبُ
لنطلبن بحد السيف مـــــــــــــأربنا فلن يخيب لنـــــــا في جنـبه أَرَبُ
ونتركن علوج الترك تندب مـــا قد قدمته أيــــاديهــــــا فتنتـحبُ
ومن يعش يـرَ و الأيــــام مقبلة يلوح للمرء في أحداثها العجبُ

ومن مؤسسي هذه الدعوة أيضاً بطرس البستاني (1819 – 1883م)، وقد كان أيضاً على صلة بدعاة المذهب الإنجيلي والبروتستانت من الأمريكان، وتولى منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت. وأعان الدكتور سمث المبشر الأمريكي ثم الدكتور فانديك من بعده في الترجمة البروتستانتية للتوراة التي تمت في سنة 1864م، ثم طبعت في أمريكا سنة 1866م. وأعان الدكتور فانديك أيضاً في إنشاء مدرسة عبية الأمريكية، وهي مدرسة عليا ترجع أهميتها إلى أنها كانت تقوم بتدريس العلوم الحديثة من جغرافيا وطبيعة وكيمياء ورياضة باللغة العربية. وقد وضعت لذلك كتباً خاصة قامت بطبعها، فشاركت بذلك في حركة الإحياء العربية.. ومن الذين شاركوا في هذه الدعوة أيضاً من مسيحيي لبنان فارس الشدياق (1801 – 1887م)، الذي تسمى بعد إسلامه.. بأحمد، واتبع المذهب الإنجيلي على يد المرسلين الأمريكان، فتولوا حمايته من بطش رجال الإكليروس الذين حبسوا أخاه، وعذبوه حتى مات في سجنهم بسبب تغييره مذهبه. حضر على نفقتهم إلى مصر في أيام محمد علي، ثم طوف كثيراً بين دول أوروبا والأستانة وتونس ومصر. ووصف كثيراً من هذه الأسفار في صحيفته (الجوائب) التي أصدرها سنة 1277هـ. وقد استدعته جمعية ترجمة التوراة البروتستانتية في لندن سنة 1848م فأعان في ترجمتها إلى العربية. وله كتب كثيرة تغلب عليها النزعة اللغوية أهمها (سر الليال في القلب والإبدال) و(الساق على الساق فيما هو الفارياق) و(الجاسوس على القاموس). وله مع ذلك شعر كثير في مدح سلاطين آل عثمان وباي تونس، وهو صاحب المقامات التي نالت في زمانها شهرة كبيرة، والمعروفة باسم (مجمع البحرين).
ومن دعائم هذه الدعوة أيضاً سليم تقلا مؤسس صحيفة (الأهرام) المصرية (1849 – 1892م). تلقى علومه في مدرسة عبية التي أنشأها المبشر الأمريكي الدكتور فانديك أحد مؤسسي الجامعة الأمريكية، التي بدأت سنة 1866م باسم (الكلية السورية الإنجيلية).
ومنهم جرجي زيدان (1861 – 1914م) كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان. وكان يدعى إلى احتفالات الخريجين بكليتهم، ثم التحق بالجامعة الأمريكية سنة 1881م لدراسة الطب، وغادرها دون أن يتم دراسته في العام التالي. وهو صاحب المباحث المعروفة في اللغة العربية وآدابها. ومؤلف سلسلة من القصص التاريخية العربية.. ومنذ ذلك الوقت نشأت التفرقة بين العروبة والإسلام على يد هذه الطائفة من المفكرين والكتاب من نصارى الشام"( ).
ولما أضحت دعوة دعاة القومية بهذه المثابة هاجم الشاعر العراقي معروف الرصافي دعاة الجامعة العربية حين عقدوا مؤتمرهم في باريس سنة 1913م بعد أن كان مؤيداً لهم بشد أزر دعوتهم بشعره، وذلك في قصيدته (ما هكذا) التي بدأها بقوله:

أصبحت أوسعهم لومـــاً وتثريبــاً لما امتطوا غارب الإفراط مركوبــاً
وفيها يقول:
إني لأُبصـر في (بيروت) قَـــــائِبَةً للشَّرِ موشِكةً أنْ تخُرِج القُــوبَا( )
لو كـان في غير (بـــاريزٍ) تـــألُّبَهم مــا كنت أحسبهم قومــاً مناكيبـــا
لكن (بـــاريزَ) مازالت مطامِعُـهــا ترنو إلى الشـــام تصعيداً وتصويبا
ولم تـزل كلَّ يوم في سياستهـــــــا تلقي العراقيلَ فيهــا والعراقيبــــــا
هل يأمن القوم أن يحتل ساحتهم جيش يَدكُّ من الشــام الأهاضيبا

وما قاله تحقق فما انتهت الحرب العالمية الأولى إلاّ والشام وغيرها من بلاد الإسلام موزعة بحسب القسمة التي تنبأ بها شكيب أرسلان في خطابه الموجه إلى الشريف حسين حين بلغه عزمه على غزو سوريا مع جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. فأرسل ينهاه عن المضي فيما هو فيه من دعوة زعماء السوريين للخروج على الدولة العثمانية، والالتحاق بالجيش الحسيني العربي، ويحذره عاقبة هذه الغارات التي يضرب فيها العرب بالعرب، فيقول له فيما يقول: "أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير، حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سورية، واليهود على فلسطين؟" ثم يخاطب القائمين بالدعوة قائلاً: "قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية، الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ تاراتها: ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟
يقولوا لنا: ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم، ونقر بفضلهم، لأننا عرب نحب كل من أحب العرب، ونبغض كل من أبغض العرب، ولا نبالي بالقيل والقال أمام الحقائق"( ).
وحتى لا نستغرق في الاستطراد نرجع فنؤكد على التأثير النصراني في تفرقة المسلمين، وننبه إلى أنه لم يكن وليد العصر الحديث ولكنه اشتد ونجح في القرون الأخيرة فآتى أكله وثماره المريرة، ولا يعني ذلك بحال عدم وجود محاولات قديمة من النصارى لتفريق صف المسلمين بل كانت لهم صولات وجولات كان لها أثرها الفعال في شق صف أمة الإسلام.
فـ "المراجع القديمة تثبت لنا أن القدرية أخذوا أقوالهم في القدر عن النصرانية، وتذكر لنا اسمين ارتبط بهما شيوع ذلك الاتجاه ونقله إلى المسلمين، وهما معبد الجهني وغيلان الدمشقي، قال ابن قتيبة رحمه الله عن غيلان: كان قبطياً قدرياً، لم يتكلم أحد في القدر قبله، ودعا إليه معبد الجهني"( ).
ونحواً مما ذكره ابن قتيبة نقل عن الأوزاعي وابن نباتة والمقريزي وغيرهم.
فأثر النصارى في اختلاف المسلمين قديم، وأما أثر اليهود فهو أظهر وأخطر في القديم والحديث، ولعله لا يتسع المقام لبسطه، وقد ركزت على الأثر النصراني لخفائه عن البعض.


ثالثاً: آثار الافتراق المذموم
لن يتناول الحديث آثار الافتراق المحمود والذي مضت الإشارة إليه، فالغالب أن آثاره حميدة، ومنها التنوع في أساليب عرض الخير، وتعدد التخصصات الدعوية والإسلامية، وغير ذلك.
ولكني سأتناول الآثار السلبية للافتراق المذموم، ولن أطيل في تفصيلها خاصة وأن الواقع يحكيها ويلقي دروساً مفصلة فيها ويشرحها شرحاً مسهباً، ولعل من أهمها ما يلي:
أولاً: الضعف والعجز:
والنتيجة الطبيعية لذلك تخلف النصر وفشل الأمة وعجزها، قال الله تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين).
قال ابن سعدي: "(وَلاَ تَنَازَعُوا) تنازعاً يوجب تشتت القلوب وتفرقها، (فَتَفْشَلُوا ) أي: تجبنوا (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله"( ).
وفي الآية السابقة "عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو. والاتصال بالله بالذكر. والطاعة لله والرسول. وتجنب النزاع والشقاق. والصبر على تكاليف المعركة. والحذر من البطر والرئاء والبغي.."( ).
وقد علم العقلاء بأن الاجتماع سبب قوة ومنعة..

كونوا جميعاً يا بنَيَّ إذا اعترى خطب و لا تتفرقوا أفرادا
تأبى الرمـاح إذا اجتمعن تكسراً و إذا افترقن تكسرت آحــــادا

ثانياً: هلاك الأمة:
صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه))( ).
قال في تحفة الأحوذي: "واختلافهم عطف على الكثرة لا على السؤال لأن نفس الاختلاف موجب للهلاك بغير الكثرة"( ).
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم، وقال أبو الدرداء وأنس وواثلة بن الأسقع: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في شيء من الدين فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، قال ثم انتهرنا، قال يا أمة محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار، ثم قال أبهذا أمرتم؟ أو ليس عن هذا نهيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا)). وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا: ((جلسنا مجلساً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه أشد اغتباطاً، فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر فلما رأيناهم اعتزلناهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الحجرة يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً يُعرف في وجهه الغضب حتى وقف عليهم وقال: يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم))، قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي ابن عبد الله والحميدي وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقال أحمد بن صالح: أجمع آل عبد الله على أنها صحيفة عبد الله"( ).
ثالثاً: العقوبات المعنوية:
روى البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال إني خرجت لأخبركم بليلة القدر وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت))( ) الحديث.
قال النووي: "وفيه أن المخاصمة والمنازعة مذمومة وأنها سبب للعقوبة المعنوية"( )، وقال ابن حجر: "قوله (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة مشتق من التلاحي بكسرها وهو التنازع والمخاصمة.. قال القاضي عياض: فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان"( ).
رابعاً: الجهل بالحق والبعد عنه:
فإذا رأى طالب الحق أن أهله مختلفون فيه على أقوال عديدة، وكل طرف منهم شط فيما اختار، التبس الأمر عليه وربما نفر من الحق وأهله جراء اختلافهم.
ونتيجة هذا أن يعيش أهل الحق غربة بين الناس:
وأي اغتراب فوق غربتنــــا التي لها أضحت الأعداء فينا تَحَكَّمُ

رابعاً: نماذج تاريخية ومعاصرة لمآسي الافتراق

نموذج من الماضي: افتراق الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً يوم الجمل:
ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية فصل في أعيان من قتل يوم الجمل من السادة النجباء من الصحابة من الفريقين رضي الله عنهم أجمعين، وقال فيه: "وقد قدَّمنا أن عدة القتلى نحو من عشرة آلاف، وأما الجرحى فلا يحصون كثرة ‏"( ).
منهم المبشر بالجنة طلحة بن عبيد الله، وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، وعمار بن يسار رضي الله عنهم أجمعين.
ومما نجم عنها غرس بذرة الرفض وفي مقابلها بدعة النصب، وكذلك خروج الخوارج الذين عانت أمة الإسلام من بغيهم قرون عدداً، ولا يزالون يتجددون حيناً بعد حين.
هذا مع أن قصد المختلفين ومرادهم هو تحصيل الخير، يصوِّر ذلك ابن كثير فيما نقل حيث يقول: "وقد طاف علي بين القتلى فجعل كلما مر برجل يعرفه ترحم عليه ويقول‏:‏ يعز علي أن أرى قريشاً صرعى‏.‏
وقد مرَّ على ما ذكر على طلحة بن عبيد الله وهو مقتول، فقال‏:‏ لهفي عليك يا أبا محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت كما قال الشاعر‏:‏

فتىً كان يُدنيه الغِنى من صديقه إذا مــــا هو استغنى ويُبعده الفقرُ

وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً، ثم صلى على القتلى من الفريقين، وخص قريشاً بصلاة من بينهم، ثم جمع ما وجد لأصحاب عائشة في المعسكر، وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة، فمن عرف شيئاً هو لأهلهم فليأخذه، إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان‏.‏
وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف، خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء، رحمهم الله، ورضي عن الصحابة منهم‏"( ).‏
وقال: "وقد رُوِي من غير وجهٍ عن علي رضي الله عنه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله: (ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخواناً على سُرُرٍ متقابلين)"( ).

نموذج من الحاضر: افتراق المسلمين في أفغانستان والعراق:
هل كان من المتصور ظهور الأمريكان في أفغانستان والعراق لولا افتراق المسلمين، واستعانتهم ببعضهم في ضرب بعض؟
وهل كان بإمكانهم البقاء محتلين غاصبين لو لا افتراق المسلمين؟
أترك الجواب للحاضرين مذكِّراً بقول رب العالمين:
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ).

هذا ما تيسر جمعه في عجالة، أسأل الله أن ينفع به، وأن يرزقنا وإياكم العلم والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.





المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
دراسة، بحث، الإسلام


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع بحث بعنوان الاختلاف في العمل الإسلامي الأسباب والآثار
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بحث بعنوان الاختلاف بين المتعاقدين في الوديعة والوكالة Eng.Jordan دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 5 05-18-2019 11:21 PM
مرجع بعنوان محاولة لحصر بعض معايير التمويل الإسلامي للمشروعات Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 02-21-2016 02:09 PM
مقدمة بحث بعنوان التطوير التنظيمي وإعادة التنظيم وأثره على جودة العمل Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 04-24-2013 09:43 AM
عرض تقدمي بعنوان المنهج الإسلامي في القيادة وإدارة التغيير Eng.Jordan عروض تقدمية 0 03-17-2013 02:45 PM
هجرة رؤوس الأموال إلى الخارج الأسباب، والآثار، ووسائل العلاج Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 01-08-2012 06:05 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:45 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59