العودة   > >

مقالات وتحليلات مختارة مقالات ..تقارير صحفية .. تحليلات وآراء ، مقابلات صحفية منقولة من مختلف المصادر

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #1  
قديم 08-24-2023, 08:40 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي المؤامرة، رواية على حالها

المؤامرة، رواية على حالها


لَطالما ارتبطت الدّسائس أو المكائد الروائيّة ارتباطاً وثيقاً بنظريّات المؤامرة، والتي هي في جوهرها أفعال خياليّة. لكنّ هذه السّرديات، التي غالباً ما تُؤلَّف بحُجّة فهم العالم من حولنا، يمكن أن يكون لها تأثيرات حقيقية على حياتنا، مع عواقب مأساوية أحياناً، كما يُبيّن ذلك بيتر نايت.

بيتر نايت

أستاذ الأدب والحضارة الأمريكية بجامعة مانشستر في المملكة المتحدة، وأستاذ زائر بجامعة لايدن في هولندا. وهو مؤلّف "ثقافة المؤامرة" Conspiracy Culture 2000 و"اغتيال جون كندي" The Kennedy Assassination 2007، كما ألّف بالاشتراك مع مايكل باتر "دليل روتليدج في نظريات المؤامرة" Routledge Handbook of Conspiracy Theories 2020

لَطالما افتُتِن الكتّاب بالعلوم الباطنية والجمعيّات السرّية والمؤامرات بداية من "باخوسيّات" يوريبيدس ووصولا إلى "شفرة دافنشي" لدان براون. وتعرّف المؤامرة النّاجحة على أنّها تلك التي لا تترك وراءها أثراً. ونظرية المؤامرة هي عمل خياليّ يفترض وجود فريق سرّيّ يحرّك الخيوط من وراء الكواليس، ومصدر إلهامٍ لروايات تهدف إلى تعليل أحداثٍ أو إضفاء معنًى عليها بإدراجها ضمن مؤامرة عالمية واسعة النّطاق حتى لا تبقى تلك الأحداث وليدة الصّدفة وحدها ولا معنى لها.

ولئن كان الهدف الوحيد من وراء روايات الخيال تسلية القراء، فإنّ لبعضها تبعاتٍ مُذهلة أو غير منتظرة على العالم الحقيقيّ. فالاستيلاء على مبنى الكونغرس الأمريكي (الكابيتول) في واشنطن في 6 يناير 2021 بدا وكأنّه محاكاةٌ لـ "دفاتر تيرنر"، وهي رواية صادرة عام 1978، تغوص في عالم المؤامرة، وتتخيّل انتفاضة مروّعة يقوم بها العنصريّون المنادون بتفوّق البيض. وقد كان لهذه الرّواية المناهضة للحكومة تأثيرها على تيموثي ماكفاي، الذي فجّر، في 1995، مبنىً فيديرالياً في أوكلاهوما سيتي أسفر عن مقتل 168 شخصاً.

وثيقة مزوّرة أودت إلى نتائج مأساوية
بالرّغم من أنّ نظريات المؤامرة الموضوعة حول "المتنوّرين" Illuminati تعود إلى تسعينيّات القرن الثامن عشر، فإنّ عددا من أغرب الرّوايات المتداولة على الإنترنت حالياً في هذا الشّأن مستوحاة، عن غير قصد، من ثلاثيّة "المتنوّرون" Illuminatus 1975، وهي رواية هذيانيّة من صنف الثّقافة المضادّة، كتبها كلّ من روبرت شيا وروبرت أنتون ويلسون، وهما محرّران في مجلة "بلاي بوي". وقد أثار انتباههما العدد الهائل من الرّسائل الواردة على المجلّة والتي تتحدّث عن جميع أنواع نظريّات المؤامرة التي لا يصدّقها العقل، فألّفا كتاباً تخيّلا فيه أنّ "كلّ هؤلاء المهووسين هم على حقّ، وأنّ المؤامرات التي يتحدّثون عنها موجودة بالفعل".

ولعلّ "بروتوكولات حكماء صهيون" يقدّم النموذج الأمثل لنصّ من جنس المؤامرة، ملفّق تماما رغم أنّه اعتُبر أصليا. فهذه الوثيقة المزوّرة نُشرت لأوّل مرّة في روسيا سنة 1903، وقُدّمت باعتبارها مَحضَر اجتماعاتٍ سرّية لحكماءَ يهودٍ يخطّطون للسّيطرة على العالم. ومع أنّه تمّ الاعتراف بها على أنّها مزيّفة في عام 1921، فإنّ ذلك لم يمنع من أن تصبح أحد مسوّغات المحرقة التي نفّذها النازيّون.

ولا يزال هذا النصّ مُتداولاً في العديد من البلدان حتّى يومنا هذا ويشكّل الأساس الذي تستند إليه العديد من نظريّات المؤامرة المعاصرة الموجّهة ضدّ "النُّخَب" و"أنصار العولمة" و"رجال المال"، وهي كلمات مشفّرة غالباً ما يُشار بها إلى اليهود. وقد أظهرت بعض الدّراسات أنّ أجزاء من الوثيقة المذكورة اقتُبست من رواية غامضة من القرن التاسع عشر، عنوانها "بياريتز" Biarritz، نشرها في 1868 الكاتب الألماني المعادي للسامية هيرمان غودش، في حين أُخذت عناصر أخرى من "حوار في جهنّم بين مكيافيلي ومونتسكيو"، وهو كتيّب ساخر فرنسيّ نشره موريس جولي عام 1864، يهاجم فيه نظام نابليون الثالث. هكذا قُدّمت "بروتوكولات حكماء صهيون" على أنّها عمل أصلي رغم أنّها مؤامرة متخيَّلة انتحلت أعمالاً خيالية، فكان لها تلك العواقب المأساوية التي نعلمها جميعاً.

خُطط مكيافيلية وجمعيات سرّية
تتميّز الأعمال الخيالية، بما فيها المزوّرة مثل "بروتوكولات حكماء صهيون"، عن الأجناس الأخرى التي غالباً ما تظهر فيها نظريات المؤامرة (مقالات استقصائية، نصوص سجالية ساخرة، أفلام وثائقية، إلخ)، بقدرتها على تصوّر اجتماعات تآمرية مزعومة داخل غرف يلفّها الدخان. ومع أنّ الأدب كان مهتمّاً منذ عهود بعيدة بموضوع المؤامرة والجمعيات السرّية، إلّا أنه وجب انتظار القرن التاسع عشر لتصبح المؤامرة عنصرا مركزيا في العقدة الروائيّة.

هكذا شهدت ألمانيا في القرن التاسع عشر ظهور الرواية التي تتناول الجمعيّات السريّة Geheimbundroman، في حين كان الكتّاب البريطانيّون ينظرون بمزيج من الافتتان والنّفور إلى شبح الجمعيات السرية الماسونية، الإيطالية والإيرلندية، التي تتآمر على الحكومة.

وسوف تكتسب الرواية البوليسية ورواية الإثارة (التريلر) شواهد الشهرة والاعتراف بهما في منعطف القرن العشرين. وهما نوعان ينهلان من شبهة وجود حقيقة عميقة تحجبها أو تؤشّر إليها بعض تفاصيل غامضة تظهر على السّطح.

التماهي مع البطل
هذا، ولا تقتصر الأعمال الخيالية في موضوع المؤامرة على إبراز الآليّات الداخلية للمؤامرة فحسب، بل غالباً ما تشجّع القارئ على التّماهي مع شخصية معينة، عادةً ما تكون شخصيّة المحقّق السرّي ذي الفضائل البطوليّة والباحث، لوحده، عن الحقيقة. ففي الرّوايات البوليسية وروايات الإثارة المتعلّقة بالمؤامرة توجد في الواقع قصّتان متعارضتان، ترسم إحداهما مسار المحقّق، وتشكّل الثانية الحكاية التي تحبس الأنفاس وتتسارع فيها الأحداث، بداية من اكتشاف الكذبة إلى الكشف النهائيّ عن المؤامرة وإعادة الأمور إلى نصابها، بعد طول انتظار.

بيد أنّه في هذا النّوع من الرّوايات، بقدر ما يكتشف المحقّق مزيدا من الحقائق عن المؤامرة المتخيّلة، تزداد هذه الأخيرة تشعّبا، ويكتشف القارئ أنّ ما كان يُعتقد أنّها الحقيقة ليست، في الواقع، سوى مجرّد تعقّب لأثر زائف وضعه المتآمرون المكيافيليّون. وتَتأَتَّى المتعة من قراءة رواية المؤامرة، في جانب كبير منها، من السّعي إلى إماطة اللثام عن السرّ واكتشاف الحقيقة مع الرّغبة، في الآن ذاته، في عدم معرفة نهاية القصّة.

لقد أصبح اهتمام الأدب بالارتياب والتّأويل، والذي تعود أصوله إلى كتّاب القرن التّاسع عشر من أمثال إدغار آلان بو، وهنري جيمس، دعامة أساسية في الكتابة الحداثية في القرن العشرين. وقد وجب انتظار ما بعد الحرب العالمية الثانية لتشهد رواية المؤامرة أوج ازدهارها في الولايات المتحدة حيث صارت المؤامرة تيمة مركزيّة في أعمال عدد من أكبر كتّاب ما بعد الحرب، لا سيّما ويليام س. بوروز، ودون ديليلو، وجوزيف هيلر، وكان كيساي، وتوماس بينشون.

"البارانويا الخلّاقة"
عادة ما يعمد هؤلاء الكتّاب إلى ابتداع سيناريوهات تعود باستمرار، يشعر فيها البطل (الذي غالباً ما يكون رجلاً أبيض) أنّ حريته وهويّته وسلطته – وحتى سلامته الجسدية – مهدَّدة بالوقوع تحت سيطرة قوى غامضة. ولفهم ما يحدث بالفعل، تتبنّى هذه الروايات نمطاً يسمّيه بينشون "البارانويا الخلّاقة" أو "ذهان الملاحقة الخلّاق" حيث تُقدّم نظرية المؤامرة كطريقة لفهم الأنظمة المبهمة (أو غير المشخصنة) في عصر سلطة الدولة ورأسمالية الشركات ووسائط الإعلام الجماهيريّة والتي لم تعد فيه المؤامرة دسيسة أجنبية تهدف إلى التسلّل إلى الأمّة، بل تهديدا أكثر غموضاً ومكْراً يأتي من الداخل.

في ظلّ هذه الظروف، ليس مستغرباً أن يطرح العديد من هذه الأعمال السّؤال التالي: كيف لنا أن نعلم ما نعتقد أنّنا نعرفه؟ فقد انتقلنا من سرديات تصوغ مؤامرات ودسائس إلى سرديات تعكس احتمال وجود فعليّ لمثل هذه المؤامرات. وهذه الرّوايات الأحدث عهداً غالباً ما تنتهي بنهايات غامضة وغير مؤكّدة، حيث يتساءل المحقّق السريّ الهاوي دائماً عمّا إذا لم تكن الخيوط التي يتقفّى أثرها مجرّد خُدَعٍ أو تمويهاتٍ.

ولئن كان الأدب الحديث يدعو إلى نوع من القراءة البارانوئيّة، إذ يشجّع القارئ على اكتشاف معانٍ خفيّة وتلميحات مقنَّعة، فإنّ أدب ما بعد الحداثة يدعو إلى قراءة "ميتا-بارانوئية"، أي نوعٍ من التأمّل والاستبطان في أسئلةِ متعلّقة بالشكّ الراديكالي. فكما توحي به روايات المؤامرة التي وضعها بعض كتّاب الخيال العلميّ من أمثال فيليب ك. ديك، أو أفلام مثل "ماتريكس"، فإنّ ما نعتقد أنّه الواقع قد يكون مجرّد بناء مخادع مندرج في مؤامرة مكيافيلية. والحصيلة هي أن لا تثقْ بأحد كما تنصح بذلك سلسلة X-Files التلفزيونية.

هذا، وإنّ اهتمام أدب المؤامرة ما بعد الحداثيّ بلا يقينيّة المعرفة يتناغم مع النمط السّائد في النقد الأدبيّ والثقافيّ في العقود الأخيرة، ويتغدّى مما يسمّيه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور "تأويليّة الشكّ (أو الارتياب)" herméneutique de la suspicion. فتقاليد النقد بدأت مع ماركس ونيتشه وفرويد عندما سعوا إلى الكشف عن القوى الاقتصادية والأخلاقية والنفسية الخفيّة التي تحكم السلوك البشريّ وتطوُّر التاريخ.

حقيقة الشيء لا تكمن في ظاهره
هذا النّمط من التّأويل يبدأ بالفرضية القائلة بأنّه توجد حقيقة عميقة مخفيّة وراء المظاهر الخدّاعة التي تجعل من مهمّة النّاقد الكشف عنها. كذلك هو الأمر بالنسبة لنظريات المؤامرة التي تنطلق من فرضية أنْ حقيقة الشيء لا تكمن في ظاهره، وأن لا شيء يحدث بالصّدفة، وكلّ شيء متّصل بسواه. وغالباً ما تكون نظريّات المؤامرة مصحوبة بأوهام خطيرة ساهم أدب المؤامرة في اجتراحها أحياناً.

بيد أنّ روايات المؤامرة تقدّم أفضل ما لديها عندما تستكشف على نحو خلّاق الحدود الضّبابية الفاصلة بين التأويل المبرّر والسليم والتأويل البارانوئيّ المُفرط. آنئذ تُجبر هذه الروايات القارئ على التّفكير في طبيعة الاختيار الحرّ خاصّة في ظلّ اقتصاد عالميّ ما فتئ يزداد تعقيداً، وتضعه في مواجهة خيار مستحيل بين عالم قائم على الصّدفة الخالصة، ولا معنى لأيّ شيء فيه، وعالمِ تآمرٍ كليّ يخضع فيه كلّ شيء إلى التّخطيط المسبق. فعندما يُوضع القارئ في موقع المحقّق السرّي، يمكن لأدب المؤامرة أن يساعده على فهم عوامل الجذب والإغراء في التّفكير التآمريّ، مع إتاحة فرصة للتّفكير العميق، في ذات الآن، في القضايا التي تطرحها المؤامرة بصفتها وسيلة لإضفاء معنى ما على العالم المحيط بنا.





اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع المؤامرة، رواية على حالها
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
نظرية المؤامرة Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 10-04-2016 12:17 PM
إذا قربت ساعة يالها ذكريات أخبار ومختارات أدبية 0 01-25-2013 07:14 PM
المؤامرة على رمضان ! تراتيل شذرات إسلامية 5 07-08-2012 11:51 PM
نواقض (نظرية المؤامرة) : وقوع المؤامرة Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 03-29-2012 08:50 PM
بعض مؤثرات رواية "الجريمة والعقاب" لدوستيفسكي في رواية نجيب محفوظ "اللص والكلاب" Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 02-03-2012 02:37 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:04 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59