#1  
قديم 05-02-2017, 02:18 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي أفق نفوذ السعودية على العلاقات بين مصر والسودان





إسلام أبو العز

باحث متخصص في شئون الشرق الأوسط


قلما وجدت علاقة بين بلدين في الشرق الأوسط تحظى بخصوصية تاريخية وجغرافية وأثنية مثل العلاقة بين مصر والسودان، فخلافاً للسياسة وتعقيداتها على مدار القرن الماضي لا يوجد في الجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا ما يقسم مصر والسودان إلى دولتين تتصارعان على محيط حيوي، اللهم إلا ترسبات مورثة ثقافية وأثنية تقارب العنصرية والعنصرية المضادة يتم توظيفها سياسياً في إذكاء الخلافات بين البلدين في السنوات الأخيرة.

ينطلق هذا التقدير من واقع أن العلاقات بين مصر والسودان ارتهنت في العاميين الماضيين بمدى جودة أو سوء علاقات مصر الخارجية وتحديداً مع السعودية، فاختصار مشهدي التصعيد والتهدئة بين الخرطوم والقاهرة تكرر أكثر من مرة على مدار الفترة الماضية انطلاقاً من الرياض؛ فبدء مؤشر الخلافات بين البلدين في التصاعد بعد تحسن جذري في العلاقات السودانية السعودية منذ مطلع 2015، وما لبث تصاعد هذا المؤشر طبقاً لمدى الخلاف بين الرياض والقاهرة، الذي تجلى في زيارات واتفاقات متبادلة بين الخرطوم والرياض، كانت قمتها المناورة العسكرية الأخيرة المسماة بـ”الدرع الأزرق”، التي اعتبرها الكثير من المراقبين بأنها تحمل رسالة موجهة إلى القاهرة، التي سعت عشية لقاء الملك سلمان بن عبد العزيز بالرئيس عبد الفتاح السيسي في قمة البحر الميت لتهدئة الأوضاع مع السودان وضبط الخطاب الإعلامي قبل توجه الأخير إلى المملكة الأسبوع الماضي.

والسؤال البديهي هنا ما النقاط الخلافية بين مصر و السودان؟ وإلى أي مدى تنحصر العلاقات الثنائية بين القاهرة والخرطوم في كونها علاقات ثنائية غير متعلقة بطرف ثالث يتدخل سلباً أو إيجاباً في العلاقة بين البلدين التي تكمن خصوصيتها بعيداً عن عامل الجغرافيا والتاريخ أنها لم تكن تخرج عن إطار ثنائي لحل المشكلات مهما كانت معقدة وحساسة – مثل تورط الخرطوم في محاولة اغتيال مبارك في أثيوبيا 1995- وأصبحت الأن رهن طرف ثالث يوظف النقاط الخلافية بين البلدين في إطار من الشد والجذب وفق معاييره ومصالحه الخاصة وليست مصلحة البلدين.

ملخص تنفيذي
الأمر السابق تصاعد بشكل كبير بعد 2011، بدافع من التغيرات التي اجتاحت المنطقة وحالة السيولة الإقليمية التي انبثق عنها تغيرات في خارطة التحالفات والصراعات على نحو مستمر حتى الأن، فمثلاً انتقلت الخرطوم برشاقة وفي وقت قصير من التعاون مع إيران حتى أوائل 2015 إلى النقيض والالتحاق بالموقف السعودي وتبعاته الإقليمية خاصة في حرب اليمن، ونظير هذا وفرت الرياض دعماً للخرطوم في سعيها لحسم النقاط الخلافية بينها وبين القاهرة خاصة وأن الخرطوم سعت إلى حسم خلافاتها مع القاهرة أثر حالة الانكماش التي حدثت في مصر عقب 2011 وكذلك حالة السيولة الإقليمية التي قد توفر دعماً عربياً للخرطوم في خلافها مع مصر، سواء في عهد حكومة الإخوان واستغلالاً للروابط الأيدولوجية بين الجماعة والنظام السوداني، وعلاقة كل من أنقرة والدوحة بهذا، أو عن طريق السعودية التي أتاحت لها الخرطوم فرصة ذهبية لتوظيف الأخيرة في الضغط على مصر منذ 2015 وتصاعد الخلافات بين القاهرة والرياض، نظير تخلي الخرطوم عن علاقاتها مع إيران ودعم الرياض في حرب اليمن، وفي نفس الوقت شكلت السعودية ظهير عربي قوي وعامل ضاغط على القاهرة في إطار محاولات الخرطوم لكسر محددات العلاقة التاريخية مع مصر ونقلها من صورة الملحق والتابع وتسيد الشمال على الجنوب إلى نوع من الندية وإمكانية أن يكون هناك “خلاف” بين مصر والسودان سواء في شأن ثنائي أو في شأن عربي أو أفريقي على عكس ما كان يحدث منذ تسعينيات القرن الماضي وهو إلحاق موقف السودان بالموقف المصري في مختلف الملفات والأصعدة.

محددات العلاقة والخلافات بين مصر والسودان
بالنسبة لمحددات العلاقة بين مصر والسودان والمشكلات المتعلقة بها ومسار تطورها حتى الأن، فيمكن تقسيمها كالتالي:
خلافات مزمنة: متعلقة بترسيم الحدود وتحديداً خلاف حلايب وشلاتين، وعلاقات مصر المميزة مع جنوب السودان، واستقبال القاهرة لرموز من المعارضة السودانية والأنظمة السابقة.
خلافات مستجدة طارئة: سد النهضة واصطفاف السودان للمرة الأولى بجانب دولة أخرى غير مصر في شأن متعلق بمياه النيل، وسماح الخرطوم لعناصر جماعة الإخوان بالإقامة في السودان.

كل من النوعين يتم توظيفهما حالياً بنسب متفاوتة مع خطاب إعلامي منفلت متهافت – مثل أهرامات كوش أقدم من أهرامات الجيزة، الصورة الذهنية للسوداني في المخيلة الفنية والثقافية والتراثية المصرية وبالعكس- يجد رواج وانتعاش في أوقات تأزم علاقة مصر الخارجية سواء مع قطر أو تركيا ومؤخراً السعودية.
وكدلالة على السابق، فإنه بالنظر إلى مسار العلاقات المصرية السودانية والأزمة الأخيرة على مدار العاميين الماضيين، نجد أن الرئيس السوداني عمر البشير لم يترك مناسبة إعلامية إلا وشدد فيها على عزمه استخدام كل الطرق السلمية وغير السلمية لاسترداد ما يسميه في أدبياته “حق السودان في حلايب والشلاتين”، واحتلالهم من جانب مصر. البشير ونظامه ليس جديد عليه أن يطرح هذه المسألة كل حين وأخر على مدار العقديين الماضيين أو يزيد كاتكاء على هذه المسألة ناجم بالأساس عن توتر في العلاقات على المستوى الثنائي بين الخرطوم والقاهرة، الذي كان في القلب منه مسألة ترسيم الحدود وما نجم عنها من توتر أمني إبان تسعينات القرن الماضي الذي كانت ذروته محاولة اغتيال الرئيس الأسبق، حسني مبارك، في أديس أبابا 1995 بتدبير من الخرطوم، وما تبع ذلك من تثبيت عسكري للحدود مع السودان وتمركز دائم للقوات المصرية في حلايب والشلاتين التي كان بها عناصر من الجيش السوداني تم سحبهم رسمياً عام 2000، وبالإضافة إلى هذا شكلت قضية جنوب السودان والموقف المصري الرسمي منها مبرراً لأن يعود نظام البشير في 2004 إلى سيرته الأولى فيما يتعلق بحلايب والشلاتين، ليبقى الموقف تجاه هذه المسألة رهن مؤشر العلاقات الثنائية المباشرة بين القاهرة والخرطوم، أو بالحد الأقصى ما يتعلق بقضايا التماس بين البلدين مثل جنوب السودان ومياه النيل، وإن ظلت دائماً في إطار “النزاع الحدودي” الذي لم يصل إلى التلويح باستخدام القوة العسكرية من أجل حسمه من جانب أي من الطرفين، أي أن مسألة حلايب والشلاتين لم يطرح حلها على مستوى ثنائي بين القاهرة والخرطوم إلا عن طريق طرق ودية وتفاوضية أقصاها تدخل هيئات أممية للتحكيم، لكن تصريحات البشير المتكررة في الشهور الماضية مثل “كل السبل متاحة لإعادة حلايب والشلاتين” أو “إن لم تعود حلايب والشلاتين بالطرق السلمية فإننا لدينا كلام آخر”، وربط ذلك بدعم سعودي له في هذه المسألة بداية من الوساطة وحتى تأييد “حق السودان في أراضيها”، وتدعيم ذلك عسكرياً عبر المناورات المشتركة بين الرياض والخرطوم قرب الحدود المصرية، يدل على متغير جديد في الخطاب السائد بين القاهرة والخرطوم بما في ذلك الخلافات فيما بينهم.

المتغير السعودي
إلا أن هناك متغيرا جديدا في العاميين الماضيين، صُدرت على أثره مسألة حلايب والشلاتين من زاوية “عربية”، أتى تدويرها على أثر عودة العلاقات السعودية-السودانية إلى مساحات التعاون بعد قطيعة استمرت لنحو ثلاث سنوات، سبقها تقليص السعودية لاستثماراتها ومساعداتها للسودان، وذلك على أثر فتح البشير لقنوات تعاون اقتصادي وثقافي إيرانية في بلاده على خلفية موقف السعودية المتجاهل لدعم البشير إبان أزمة استدعائه للمحاكمة الدولية في 2009، وصدور قرار اعتقال دولي بحقه. هذه القطيعة بلغت ذروتها في 2013 عندما منعت المملكة عبور طائرة البشير لأجوائها في طريقة إلى إيران، وقتها قلصت السعودية وجودها الدبلوماسي في السودان إلى حد إغلاق سفارتها عملياً اللهم إلا خدمة تأشيرات الحج.
هذا التأزم غير المسبوق في تاريخ العلاقات بين نظام البشير والمملكة انتهى في ساعات قليلة هي عمر اجتماع البشير مع محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي في مارس 2015، الذي كان على وشك بدء معركته في اليمن، ويحتاج إلى حشد عربي وإقليمي لعاصفة الحزم، طبقاً لرؤية استراتيجية شُرع في تنفيذها منذ تولي الملك سلمان والتغيرات التي حدثت في البيت السعودي الحاكم، والتي كانت انعكاساتها الخارجية تتلخص في إنهاء كل الخلافات الثانوية بين المملكة ودول المنطقة من أجل صراعها الرئيسي مع إيران، وهذا تطلب بالنسبة للحالة السودانية أن تسعى المملكة وبسرعة في تعويض الخرطوم بما يزيد عن حاجتها لطهران، في النواحي المادية والسياسية بهدف إنهاء العلاقات بين الأخيرة ونظام البشير بشكل حاسم وسريع، ما تم فعلاً، كذلك ضم السودان لتحالف الحزم ومشاركة قوات سودانية في المعارك البرية في اليمن، وأخيراً أن تسعى الرياض لخلق ورقة ضغط مستقبلية عن طريق السودان وأثيوبيا في منطقة جنوب البحر الأحمر، أو شمالاً تجاه مصر، حيث تتباين الرؤى بين القاهرة والرياض منذ بداية 2015 فيما يخص السياسات الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالاستدارة السعودية الإيجابية تجاه جماعة الإخوان وتركيا وقطر، وكذلك التباين بين العاصمتين فيما يخص سيناريوهات حل الأزمة السورية.
وهنا يكون السؤال البديهي، هل تحريك مسألة حلايب والشلاتين حالياً وبهذه اللهجة التصعيدية مطلب أصيل للبشير أم يستهدف أمور أخرى وبشكل غير مباشر وبه استقواء بموقف سعودي داعم للطرف الأول؟ الإجابة هنا ترتبط بعدة نقاط تحاول توضيح مسألة العلاقات السعودية – السودانية منذ بداية 2015، كذلك المصرية السودانية، وأيضاً المصرية السعودية؛ فبالنسبة للأولى ليس من الظاهر أن عودة العلاقات الإيجابية بين الخرطوم والرياض كان من بينها تعهد الأخيرة بدعم مطلب البشير في حلايب والشلاتين، ناهيك عن أن المسألة برمتها لم تمثل للبشير في العقديين الماضيين سوى مهرب للأمام من أزمات نظامه الدائمة وأخرها انفصال الجنوب وأزمة دارفور، أو محرك لتحسين موقف على مستوى العلاقات بين الخرطوم والقاهرة يستهدف دعم الأخيرة أو حلحلة موقف متصلب ما على مستوى علاقة البلدين بكافة أوجهها – كثيراً ما تراجع نظام البشير عن المطالبة بحلايب والشلاتين في سنوات شهدت ازدهار العلاقات بين القاهرة والخرطوم، أخرها كان سحب القوات السودانية في 2000 وكذلك سحب طلب السودان المقدم لمجلس الأمن في 2002- أو ما يتعدى ذلك لقضايا مثل مياه النيل وأزمات السدود وأخرها سد النهضة في أثيوبيا، وبالتالي غير منطقي حسب سيرورة العلاقات السودانية المصرية أن تتطور مسألة حلايب والشلاتين إلى التلويح باستخدام القوة من جانب البشير دون عامل خارجي، مثلما حدث في 2004 بإيعاز وأموال قطرية، أو لاعتبارات أيدلوجية مثلما حدث إبان حكم محمد مرسي الذي صرح البشير وهو بجواره في زيارة للسودان قبل الإطاحة به بثلاثة أشهر أن “حلايب أرض سودانية”، وسط صمت الأخير وتحديقه في اللاشيء!

التفسير السابق يستنتج بمتابعة مسار التلاقي بين الخرطوم والرياض منذ 2015، وهو -اختصاراً- أن الأخيرة لجأت إلى استحداث أوراق ضغط خارجية ضد القاهرة وتحريك ملفات قديمة كحلايب والشلاتين، أو حتى سد النهضة ودعم مالي عن طريق بنوك المملكة له ولسدود ومشروعات أخرى في السودان، لربط موقف الأخيرة بموقفها في المنطقة عموم، ولحسم الخلافات المستجدة بينهم وأخرها تسويف تنفيذ اتفاقية ترسيم الحدود بعد ردة الفعل الشعبية داخل مصر على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة، وهو الأمر الذي دونه لن تحقق الرياض مسعاها في إبقاء القاهرة في خانة التابع للسياسات السعودية الخارجية، لا الشريك كما كان الحال إبان عهد مبارك، وفيما يخص السودان، سواء كان مطلب البشير أصيل فيما يتعلق بحلايب والشلاتين وطلب دعم السعودية مقابل المشاركة في عاصفة الحزم وإنهاء علاقاته مع إيران، أو كانت تقف السعودية وراء ذلك، فأن الصورة في المجمل وبالمحصلة تقول أن الرياض تضع أصابعها في المجال الاستراتيجي المصري جنوباً، بشكل سلبي – وليس إيجابي كما كانت تفعل الرياض قبل عقديين بالضغط بأموالها لصالح القاهرة – وذلك على أثر تبدل البوصلة السياسية الخارجية للمملكة وتفضيلها للتعاون مع المحور الإخواني – وحتى إسرائيل- بسبب تغير أولوياتها وتنحية الخلافات الثانوية لحساب صراع تراه رئيسي، حتى وإن كان هذا على حساب مصر، التي تعد نفسها حتى اللحظة حليفة للمملكة ولا خلاف بينهم في السياسة الخارجية ولا على مستوى ثنائي يصل إلى إصرار الرياض للإضرار بالأمن القومي المصري باستخدام نظام البشير كشوكه في خاصرة مصر الجنوبية.
بالإضافة لذلك، فإن زيارة البشير وتصريحاته في الرياض التي قللت من شأن تخوفات القاهرة تجاه مشروع سد النهضة، وكذا تصريحاته المضادة لإيران، تجددت تسريبات خاصة بعلاقة القاهرة والسودان وعامل الرياض كمؤثر عليها سلباً وإيجاباً، ما يشي بأن البشير يلتقط خيط التوتر المصري السعودي لمنافسة القاهرة في توفير ما تريده السعودية في أفريقيا؛ فبالإضافة إلى اتساق الخرطوم مع موقف أديس أبابا، وحذوها مؤخراً لصالح الأخيرة، فإن البشير ضرب بتصريحاته الأخيرة المتعلقة بموقف القاهرة من سد النهضة على وتر الدور السعودي المتنامي في نفس الملف، والمنقلب منذ العام الماضي ضد مصلحة “الحليف المصري”، وكأن البشير يريد بذلك ترقية دور نظامه من مجرد عامل إزعاج وتوتر تستفيد منه السعودية للضغط على مصر، مثلما حدث العام الماضي في دعم المملكة للخرطوم في إحياء مطالب الأخيرة بسودانية مثلث حلايب، إلى لاعب مساعد في تنفيذ سياسات المملكة في أفريقيا عموماً ودول حوض النيل خصوصاً، التي تهدف إلى تواجد ونفوذ وإدارة غير مباشرة بالتعاون مع إسرائيل لملفات هذه الدول عامة وملف سد النهضة بشكل خاص.
هنا لا يمكن الجزم بأن زيارة البشير الأخيرة للسعودية كانت محصورة فقط في شأن ثنائي بين البلدين، ولا حتى “مواجهة الخطر الإيراني في أفريقيا” بتعبير البشير، ولكن بوضع لمسات أخيرة على تموضع السودان في أي تصعيد وشيك بين مصر والسعودية وتفعيل دور الخرطوم بشكل بتجاوز مجرد الضغط والإزعاج للقاهرة، إلى توحيد موقف البلدين ضد القاهرة في ملف النهضة بشكل خاص، ودور السودان الوظيفي في مفاعيل التحالف السعودي- الإسرائيلي بشقه الأفريقي.

السودان والتحول الاستراتيجي في البحر الأحمر
شكل البحر الأحمر مؤخراً مرآة للصراعات الإقليمية سواء التنافسية أو التوسعية على حساب انكماش قوة بعض من دول المنطقة في السنوات الأخيرة، وبين هذا وذاك وظفت الخرطوم تحت حكم البشير موهبتها في اللعب على حافة الصراعات الإقليمية للاستفادة من أطرافها بأقصى ما يمكن، فجدد البشير ولائه البادئ منذ أوائل 2015 للمملكة بعدما خلع مره وإلى الأبد علاقات اعتبرها “اضطرارية واستثنائية” مع إيران، ولكن تصريحاته إبان زيارته الأخيرة للسعودية قبل شهرين تأتي بعنوان رئيسي وهو التعاون مع الرياض ضد الخصم المعتاد، مع عنوان جانبي ممثل في اتفاق بين الأخيرة وبلاده على مواصلة الضغط على القاهرة في أكثر من ملف وقضية.
على هذا الأساس انتقل البشير بسلاسة من مربع التحالف مع إيران لمربع خدمة المملكة، ضارباً على وتر التخوفات والأهداف السعودية في أفريقيا والمنطقة بشكل عام وعلى رأسها مواجهة إيران، فتصريحاته إبان زيارته الأخيرة تحدثت بدون مواربة عن “الخطر الإيراني” و”الدور الإيراني في أفريقيا”، وإلى أخر المسميات والتوصيفات التي تطرب الإعلام السعودي وكذا الساسة، وربما أيضاً كطلب لمغفرة سعودية بعد الدور الذي لعبته الرياض وتل أبيب في إسقاط العقوبات الأميركية على الخرطوم في أواخر ساعات عهد أوباما، ما قد يتراءى للبعض أنها “برجماتية” سليمة من زاوية أن علاقة الخرطوم مع طهران لم تساعد – إن لم تصعب- مسألة العقوبات الدولية والأميركية ضد البشير ونظامه، على عكس العلاقة مع الرياض التي لها منافع كثيرة لهذا النظام وأخرها إسقاط العقوبات الأميركية، ولكن هذه النظرة ينبغي أن تتوازى معها فكرة أن بقاء هذا النظام وأشخاصه ومصالحهم الضيقة لم يرى ضرراً في التفريط بالقمع والمجازر والتنازل عن نصف بلده – جنوب السودان- وربما أيضاً نصف ما تبقى – دارفور وكردفان- من أجل الاستمرار في السلطة.
وبخلاف ملفي حلايب وسد النهضة، وكيفية التلاقي بين الخرطوم والرياض على الاستثمار في هذين الملفين ضمن حزمة من التفاهمات والاستفادة الناتجة عن تقارب بين البلدين منذ بداية العام قبل الماضي، الذي فيما بدا حتى الأن يأتي على حساب الدور المصري في أفريقيا والبحر الأحمر، أو بالحد الأدنى عرقلته، ويتجاوز التوافق السعودي- السوداني مسألة الاستفادة المتبادلة والضغط المشترك على مصر، ليصل في تبلوره سياسياً واقتصادياً وعسكرياً إلى فكرة وجود ارتكاز سعودي في أفريقيا والبحر الأحمر دوافعه ومحدداته كالتالي:
سعودة البحر الأحمر أي يكون شبه بحيرة خالصة للسعودية سواء من حيث الحيازة على شواطئه الغربية والسيطرة على الممرات البحرية من تيران وصنافير إلى جزر باب المندب اليمنية، ما يتجانس مع السابق من زاوية تملك أوراق قوة جيوسياسية تمكن المملكة من مسايرة القوى الدولية والإقليمية وضمان قدرة المبادرة والمبادأة.
تواجد في أفريقيا كنفوذ في إطار السابق ووجود عمق حيوي سعودي سواء عن طريق التأثير غير المباشر في أكثر من جهة وملف (دور السعودية في القمة الأخيرة للاتحاد الأفريقي وعودة المغرب له وتأثير الرياض على الجزائر في هذا السياق، تطوير علاقاتها بدول حوض النيل وعلى رأسها أثيوبيا والسودان.
• تقدم السعودية في عهد بن سلمان كقوة إقليمية فاعلة تستند على مرتكزات جيوستراتيجية لا تعتمد فقط على الظهير المصري والمال السياسي والاصطفاف الطائفي بل توظيفهم كل ذلك على أرضية صلبة تتيح لها الاضطلاع بدور الدولة المهيمنة عربياً وإسلامياً في المنطقة، وتفاعل هذا الدور مع مختلف القوى الدولية والإقليمية سلباً وإيجاباً خاصة في ظل سياسات الانكماش الأميركي ورفع الغطاء السياسي التقليدي عن دول إقليمية مثل السعودية.
• الدافع الأهم، الذي يقف خلف معظم السياسات السعودية الخارجية، هو الصراع مع إيران ومحاولة الحد من تنامي علاقات ونفوذ إيران في القارة السمراء.
• تلاقي السعودية مع الحليف الإقليمي الأهم، إسرائيل، في معظم السابق خاصة في مسألة التواجد في أفريقيا وحوض النيل، التي تعد الرياض لاحقة على تل أبيب في هذا المضمار وتعتبر الأخيرة نموذج ينبغي الاحتذاء به من حيث استخدام النفوذ وتوظيفه في مختلف الأوجه.
هذه الدوافع والمحددات تتقاطع مع المجال الحيوي لمصر، الذي كان بمثابة الظهير الجيوستراتيجي للمملكة والضامن له العلاقات الوثيقة بين القاهرة والرياض، وبالتالي فإن سعي الأخيرة في ظل التأزم الحالي في علاقات البلدين خلق هامش لأن تحاول السعودية تعويض هذا الظهير الجيوستراتيجي المصري عن طريق السودان، سواء كخيار بديل أو كمناورة سياسية الغرض منها الضغط على القاهرة.
وطبقاً لهذا فإن السودان مؤخراً وفرت للسعودية تواجد مستمر على السواحل الغربية للبحر الأحمر عنوانه التعاون العسكري المستجد بين البلدين، وعلاقة هذا الأمر بالصراع بين الرياض وطهران التي كانت حتى قبل سنوات قليلة تحل محل الرياض في الخرطوم، وعلاقة السابق كله بالخلافات بين مصر والسعودية، وانعكاس ذلك على العلاقات بين السودان ومصر، والتحالف بين السعودية وإسرائيل وتعزيزه استراتيجياً بخلق حدود بينهما عبر ترسيم جديد للحدود – تيران وصنافير– تتشارك المملكة من خلاله مع الكيان الصهيوني منطقة نفوذ يبدأ من إيلات شمالاً وينتهي بباب المندب جنوباً.
التسوية السابقة في مجملها بخلاف كونها تفريط في قوة مصر الجيوستراتيجية، فإن الأمر يتجاوز هذا إلى تفريط في أصل ثابت للدولة المصرية منذ ألاف السنين متمثل في نفوذ مصر على شرق البحر الأحمر، ليحل محله تسليم بوجود هيمنة سعودية على البحر الأحمر من جنوبه في اليمن وشمالاً حتى مضايق تيران ومنفذ وحيد لخليج العقبة تخلت عنه القاهرة للرياض وسعي دؤوب من الرياض لتعزيز تواجدها في شرقه جنوب السواحل المصرية عبر تعاونها العسكري مع الخرطوم، ما يعني من زاوية الجغرافية السياسية والاستراتيجية حال تحققه بشكل كامل أنه تم ربط مصر جغرافياً بمحيط السعودية الحيوي، وأصبحت مصر مجرد حديقة خلفية للمملكة ونفوذها في محيطها الحيوي على حدودها الغربية، في السياق نفسه، نجد أن حيازة الجزيرتين من جانب السعودية وما يمثله من موقع استراتيجي مؤثر يجعل السعودية أكثر قرباً إلى إسرائيل من أي وقت مضى، فمعنى أن تحوز السعودية جزيرتين يقعا ضمن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، فإن المملكة أضحت طرفاً في المعاهدة بشكل فعلي وإن كان غير رسمي، ما سيكون له أثر بالغ ودلالة ذات تأثير على مستقبل العلاقات السعودية – الإسرائيلية التي تشهد تطورا كبيرا في الآونة الأخيرة.
الخلاصة
سيكون من المدهش لاعتبارات سياسية وجغرافية وتاريخية أن يظل مؤشر العلاقات المصرية السودانية في المستقبل المنظور مرتبط بالسعودية وعلاقاتها وخلافاتها مع مصر، وأن يتطور الأمر لدى كل من السعودية والسودان من مجرد تقاطع مصالح قد يضر بالمصلحة المصرية إلى واقع استراتيجي مستمر عنوانه تهميش القاهرة في أفريقيا والبحر الأحمر من بوابة التطور الجاري مؤخراً في العلاقات السعودية السودانية.
وعلى مستوى ثنائي، فإن كل من القاهرة والخرطوم لديهم أولويات متعارضة في ملفات هامة على رأسها ملف سد النهضة، الذي عملت الرياض على تطويعه كورقة ضغط على القاهرة عن ريق علاقاتها مع كل من الخرطوم وأديس أبابا، وكذا النفاذ إلى أفريقيا بمعزل عن القاهرة، وهو الأمر الذي إذا استمر على المدى المنظور سينتقل من مجرد مناورة سياسية آنية إلى سياسات مستدامة تنتهجها الرياض، ما يعني توسيع الخلاف مع السودان إلى حد غير مسبوق لا يقف عند حد التراشق الإعلامي حول حلايب والشلاتين وغيرها من الملفات العالقة بين الخرطوم والقاهرة، ولكن سينسحب إلى معادلة صفرية متعلقة بمياه النيل والحدود الجنوبية لمصر ومجالها الحيوي في البحر الأحمر.

حلحلة هذا المشهد المعقد بين مصر والسودان وتلافي تعقيده أكثر في المستقبل يكمن في إعادة تقييم العلاقات بين البلدين على أسس المصالح المشتركة التي تفرضها الجغرافيا، لا من خلال الخلاف البادئ منذ 2011 وتطور بالمتغير السعودي إلى أفق الصدام؛ ففي هذه الحالة يتطلب الأمر التدقيق في أسباب الخلافات بين القاهرة والخرطوم على المستوى الثنائي والعمل على حلها بمعزل عن استثمارها وتوظيفها في الصراعات الإقليمية، ولكن هذا الأمر يقف عائقاً في سبيل تنفيذه سهولة التطلع إلى اقتراح أوراق ضغط متبادلة بين البلدين عن طريق أطراف إقليمية كالسعودية لحصد مكاسب مؤقتة، وبالتالي فإن تسليم حل الخلافات بين مصر والسودان لطرف ثالث وتعويل البلدين حالياً على الرياض كدافع لتصاعد الخلافات أو دافع لحلها يفتح الباب لمزيد من “أطراف ثالثة” ستمثل فاعلا رئيسيا وحاسما في مؤشر العلاقات بين القاهرة والخرطوم، وهو بمقياس يتجاوز الخلافات بين الدولتين على مستوى إقليمي وربما دولي في ظل متغيرات جيوستراتيجية بالبحر الأحمر، يصبح مرشحاً للتصاعد في الأزمة الراهنة إلى حدود غير مسبوقة وبوتيرة أسرع إذا ما استمرت رؤية البلدين لأسباب الخلافات بينهما على أنها ناتجة عن خطاب إعلامي منفلت ينبغي ضبطه بالتوافق بينهما!

المراجع:
  • في سوريا والسودان وإثيوبيا..بماذا تقايض السعودية الأمن القومي المصري؟، البديل، 25-10-2015.
  • لمن توجه الرياض والخرطوم رسائلهما العسكرية؟، الأخبار اللبنانية، 29-3-2017.
  • عودة مصر إلى أفريقيا: طريق معبّد بألغام سعوديّة!، الأخبار اللبنانية، 28-1-2017.
  • بضوء أخضر سعودي.. البشير يصعد ضد مصر ويهددها بمجلس الأمن، البديل، 6-2-2017.
  • «عصا» البشير والانقلابات الخاسرة: من كتف إيران إلى كنف السعودية، الأخبار اللبنانية، 4-11-2015.
  • تراشق إعلامي بين مصر والسودان بعد زيارة الشيخة موزا لأهرامات مرَوي، بي بي سي عربي، 23-3-2017.
  • وزيرا خارجية مصر والسودان يبحثان في الخرطوم تهدئة التوتر بين البلدين، بي بي سي عربي، 20-4-2017
  • تحركات مصرية على خطوط التماس السعودية السودانية، العربي الجديد، 11-4-2017.
  • مصر والسودان.. هذا الخلاف يأتيكم برعاية السعودية والإمارات، ميديا360، 8-4-2017.
  • أمير قطر يزور إثيوبيا.. والسودان يؤكد حق أديس أبابا بمشروع النهضة، روسيا اليوم، 7-4-2017.
  • قضية حلايب ستشهد تقدما في الأيام المقبلة.. والقاهرة: شكري وغندور بحثا سد “النهضة” والإعلام، سي إن إن 20-4-2017.
  • بعد مشاركة الخرطوم في «عاصفة الحزم».. السعودية تمول 3 سدود بالسودان، البديل، 5-11-2015.

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
السعودية, العلاقات, والسودان, نفوذ


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع أفق نفوذ السعودية على العلاقات بين مصر والسودان
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اختتام أول مناورات جوية بين السعودية والسودان عبدالناصر محمود أخبار منوعة 0 04-11-2017 07:08 AM
الملك سلمان يؤكد على ضرورة توثيق العلاقات السعودية الإندونيسية عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 03-02-2017 08:24 AM
تقرير أمريكي يناقش مستقبل العلاقات بين السعودية وأمريكا Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 08-21-2016 02:48 PM
توقيع 4 اتفاقيات بين السعودية والسودان عبدالناصر محمود أخبار اقتصادية 0 11-04-2015 07:23 AM
العلاقات السعودية المصرية تاريخية ولا يعكر صفوها متربص تراتيل أخبار عربية وعالمية 0 05-06-2012 12:05 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:23 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59